06 - فصّ حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقيّة .كتاب شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة
شرح فصوص الحكم الشيخ صائن الدين علي ابن محمد التركة على متن فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الفص الإسحاقي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم06 - فصّ حكمة حقّيّة في كلمة إسحاقيّة الجزء الأول
لا ريب أنّ أوّل ما يترتّب على الجمعيّة الوجوديّة ويتولَّد من كلَّية الحقائق الثبوتيّة التي تحقّق بها إبراهيم هو الصورة العكسيّة المثاليّة التي إذا اعتبرت مطابقتها للواقع تسمّى حقّا ، ولذلك اختصّت الحكمة الحقيّة بالكلمة الإسحاقيّة .
وأيضا ما تفرّد به الكلمة عن الاسم - هو الخصوصيّة التي بصورتها الجمعيّة تفرّد الاسم وامتاز عن المسمّى .
ومن التلويحات البيّنة هاهنا هو أن بيّنات ما تفرّد به الكلمة هذه تدل على أنّها صاحب التحقّق بتلك الصورة المثاليّة المترتّبة على تحقّق القلب بكمالاته الخاصة به ، أعني الحقائق الثبوتيّة التي تحقّق بها إبراهيم ، فإنّ تلك الصور المثاليّة المترتّبة على الكمال القلبي لها مظاهر في الخارج ، وذلك هو الصور الحرفيّة التي إنّما تتحقّق خارجا في المشعرين الشاعرين - أعني السمع والبصر - والمتحقّق بالأوّل منهما هو إسحاق ، لدلالة بيّنات ما تفرّد به كلمته على السمع .
وقد وقفت على أنّ تلك الصورة منها هو المختصّ بالنبوّة ، فطرف صورتها الإجماليّة أولا هو الذي تحقّق به هذا النبيّ . وأمّا طرف تفصيلها وتبيّنها ثانيا هو الذي تحقّق به أخوه إسماعيل ، وكأنك وقفت على وجه تلويحه فلا تحتاج إلى تبيينه .
والذي يدلّ على استشعار المصنّف هذا التلويح كشفا هو المصرع الثاني من البيت الذي صدّر به الفصّ والبيت الذي ختم القطعة المصدّر بها .
(فداء نبيّ ذبح ذبح لقربان ) « الفداء » و « الفداء » : حفظ الإنسان عن النائبة بما تبذله عنه.
"" إضافة الجامع : ما سطره الشيخ بنفسه على أن الاعتقاد يكون الذبيح إسماعيل عليه السّلام ظاهر مما أورده الشيخ ابن العربي نفسه في كتابه الإسفار عن نتيجة الأسفار ( ص 37 ، سفر الهداية ) : " ولما ابتلي بذبح ما سأله من ربه وتحقق نسبة الابتلاء ، وصار بحكم الواقعة ، فكأنه قد ذبح - وإن كان حيّا - بشّر بإسحاق عليه السّلام من غير سؤال ، فجمع له بين الفداء وبين البدل مع بقاء المبدل منه. ""
والنبيّ لكونه أكمل بني نوعه صورة ومعنى وأتمّهم ظهورا وإظهارا ، وأعمّهم أوضاعا وآثارا - لا يكون فداه من الأموال إلَّا ما يكون ذا أثر وفعل ظاهر ، كما للحيوانات ، وذلك إنّما يكون بالذبح للقربان ، فإنّ أرواح المذبوح يقرّب المذبوح له ويمدّه في إظهار الآثار - كما سيجيء الكلام عليه في الفصّ الموسوي إن شاء الله تعالى - وبيّن أنّه إذا كان المطلوب من القربان إمداد المذبوح المتقرّب به بضرب من الامتزاج والاتّحاد للمتقرّب له بظهور آثاره فيه ، فكيف ينوب الإنسان شيء في ذلك - أي في إظهار الآثار .
( وأين ثؤاج الكبش من نوس إنسان ) النوس : التذبذب ، وهو كناية عن النطق لتذبذب الصوت به في المخارج .
( وعظَّمه الله العظيم ) في قوله : " وَفَدَيْناه ُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ " [ 37 / 107 ] على حقارة آثاره
( عناية بنا ) فإنّه ما يصلح لأن يتقرّب به الإنسان ذلك التقرّب يكون عظيما ( أو به ) كما سيجيء بيانه ، ( لا أدر ) حذف الياء منه اكتفاء بالكسرة - على ما في قوله تعالى : " وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ " [ 89 / 4 ] .
( من أيّ ميزان ) فإنّ هاهنا ميزانين : أحدهما العلوّ الشرفيّ ، والآخر الكمال الجمعيّ ، فإذا اعتبر الأوّل منهما كان التعظيم الذي للكبش بنفسه لا للمفدى به وإذا اعتبر الثاني كان التعظيم المشار إليه باعتبار المفدى به كما سيجيء بيانه .
( ولا شكّ أنّ البدن أعظم قيمة .... وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان )
فيه تعريض بما ذهب إليه أهل الظاهر من استحباب غلوّ القيمة في القرابين .
( فيا ليت شعري كيف ناب بذاته .... شخيص كبيش عن خليفة رحمان )
ووجه تقريب هذا الكلام هاهنا أنّ إسحاق لما كان صورة سرّ إبراهيم ، الذي هو أوّل من تحقّق بالهويّة الجمعيّة والوحدة الذاتيّة التي انطوى فيها أمر التقابل والتغاير ، واقتضى ظهور كلّ من المتقابلين في عين الآخر كما نبّهت عليه كذلك سائر ما يترتّب عليه في أفعاله ، من رؤياه القربان وفدائه فإنّ الكمال في ذلك قد ظهر في مقابله أيضا - أعني الجماد الذي هو أنقص ما في الوجود - لعدم خروج ما في قوّة القابليّة فيه من الصفات الوجوديّة - كالحياة والعلم وما يتبعهما - فهذه الحكمة حاكمة بعلوّ الجماد وكماله ، بناء على الأصل الممهّد من ظهور كلّ من المتقابلين في عين الآخر .
"" إضافة المحقق : قال القاشاني : فإن كل ما انقاد لأمر اللَّه مطلقا ولم يظهر بالأنانية أصلا - كالجماد - كان أعلى رتبة من الموجودات ، لوجوده باللَّه وانقياده لأمره مطلقا وعدم ظهوره بنفسه وأنانيته .أهـ. ""
ثمّ إنّ الحيوان كلَّما كان أقرب إلى الجماد كان أعلى و أكمل ، وليس فيه ما يقرب إليه قرب الكبش ، فلذلك صار فداء.
وإلى ذلك أشار بقوله :( ألم تدر أن الأمر فيه مرتّب .... وفاء لإرباح ونقص لخسران )
أي الأمر في الفداء مرتّب ، فإنّ منه ما له كمال ووفاء بمقتضى القابليّة الأولى ، فيترتّب عليه الربح في الوجود بصونه عن الانغماس في القيود الكونيّة وبقائه على شرفه الأصلي ومنه ما له نقص بمقتضى القابليّة المذكورة ، فيترتّب عليه الخسران ، بتراكم الحجب الكونيّة على وجوده ، وتلاشي أحكام القدس فيه وذلك لأنّ مقتضى تلك القابليّة إنّما هو الإطلاق الحقيقي الذي لا يشوبه أمر من القيود ، ولا يغشيه حجاب من الأكوان - نسبة كانت أو صفة أو فعلا - فعلوّ المراتب في التنزّلات الإمكانيّة بقدر عروّها عن تلك الحجب .
( فلا خلق أعلى من جماد ) لعروّ ماهيّته عن انتساب فعل إليه لنفسه .
( وبعده نبات ) - لعروّه عن انتساب حسّ وفعل اختياري إليه ، ( على قدر يكون ) ذلك النبات عليه ( وأوزان ) يستقرّ مزاجه في ميزان الاعتدال إليه ، فإنّ عرض النبات ممتدّ من الجماد إلى الحيوان - كما سبق القول فيه - .
( وذو الحسّ بعد النبت والكل عارف ..... بخلَّاقه كشفا وإيضاح برهان )
ضرورة امتناع تخلَّف لوازم الوجود وبيّنات خواصّه عنه في مراتب تنزّلاته ، بما اعتورت عليها من الحجب الإمكانيّة والغواشي الخارجيّة الهيولانيّة ، فالبرهان له مجرّد إيضاح الأمر هاهنا للمسترشد الخبير لا أن يوصله إليه ولذلك قلَّما يهتدي أحد منهم به إليه.
ولا يذهب على المتفطَّن هاهنا أنّه كلَّما كان أعلى فهو أعرف - على ما توهّمه البعض .
"" يشير المؤلف لما قاله بعض الشارحين – كالقاشاني ومؤيد الدين الجندي قال: " وأعلى المخلوقات في هذا الكشف والمعرفة المعدن والجماد.أهـ ""
فإنّ العلوّ والشرف بحسب القرب للإطلاق الذاتي وقدسها ، وأمّا العرفان فبحسب التنزّل في المراتب ، واستجماع خصوصيّاتها ، فكلَّما كان أنزل ، فهو أكمل وأعرف ، كما أنّه كلَّما كان أعلى ، كان أقدس وأشرف ، وقد سلف لك في الفصّ الآدمي ما يفيد زيادة تحقيق لهذا الكلام .
(وأمّا المسمّى آدما فمقيّد بعقل وفكر ) إن كان من أهل النظر وعلومه الاستدلاليّة .
( أو قلادة إيمان ) إن كان من أرباب العقائد التقليديّة ، فإنّ الإنسان له في الارتقاء إلى مدارج كماله الشهودي ثلاث مراتب : برهان وإيمان وإحسان .
لأنّ المعارف اليقينيّة المستحصلة له إمّا أن يكون عقدا أو انشراحا وعلما .
والأوّل هو الإيمان ،
والثاني إمّا أن يكون وراء أستار الأسباب والآثار وهو البرهان ، أو يكون منكشفا ، منزّها عمّا يطلق عليه الغطاء أو الحجاب وهو الإحسان ، وهذا منزل اولي التحقيق .
كما قال :( بذا قال سهل والمحقّق مثلنا .... لأنّا وإيّاهم بمنزل إحسان )
( فمن شهد الأمر الذي قد شهدته ) من الإجمال الذاتي وتفاصيل تعيّناتها وتنوّعاتها ، ومقتضيات الكلّ من الإظهار والإخفاء بحسب أحكام المواطن ، ومدارك المعاصرين ذوي العناد أو أهل الاسترشاد .
( يقول بقولي في خفاء ) للغمر من المعاندين الغافلين.( وإعلان ) للمسترشدين المتفطَّنين. "الغمر = الجاهل"
( ولا تلتفت قولا يخالف قولنا ) أي لا تسمع قول القاصرين عن فهم المراد من كلام الحقّ ، والواقفين عند شواطئ ذلك البحر الزخّار ، القانعين من لآليه ودرره ، المبطونة فيه بطنا بعد بطن ، بما يعلو ظاهر سطوحه المحسوسة من الحثالات والزبد فالعاقل ينبغي أن لا يلتفت إليهم سماعا ولا خطابا ، فإنّ الخطاب معهم ببثّ ذلك الدرر لديهم هو عين إضاعتها عزّت عن ذلك.
" الحثالة : ثفل الشيء. ما يسقط من قشر الشعير أو الأرز ونحوه. الزبد : ما يعلو الماء البحر او النهر ونحوه من الرغوة ."
كما قال :( ولا تبذر السمراء في أرض عميان) "ولا تبذر الحنطة السمراء - أي القول الحق الذي يغذي الباطن والروح - في أرض استعداد العميان ، الذين لا يبصرون الحق في الأشياء ولا يشاهدونه في المظاهر.أهـ القيصري "
( هم الصمّ والبكم الذين أتى بهم ..... لأسماعنا المعصوم في نصّ قرآن )
لما سبق غير مرّة أن القصص القرآنيّة حكايات ألسنة أحوال الاستعدادات المتخالفة للعباد ، وهي التي لم يزل يتكلَّم الزمان بأفواههم في كلّ عصر ما هي أساطير الأوّلين ، كما هو زعم البعض من الجهلة المنكرين لبيّنات آياته .
رؤيا إبراهيم عليه السّلام وتعبيره
( واعلم - أيّدنا الله وإيّاك ) بميامن الوراثة الختميّة وقرابتها ، تأييدا يتبيّن به دقائق المراد من الكلام على عرف التخاطب الذي مع الكمّل.
(أنّ إبراهيم الخليل عليه السّلام قال لابنه : " إِنِّي أَرى في الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ " [ 37 / 102 ] والمنام حضرة الخيال ) وهي مجبولة على محاكاة ما في أحد الجانبين المحاذيين لها .
أعني الشهادة والغيب بتمثّل الصور المناسبة له فيها ، مناسبة الأشباه أو الأضداد ، فلا بد من الانتقال والعبور من الصور المثاليّة الخياليّة برابطة تلك المناسبة والشبه إلى ما هو في الواقع من الصور العينيّة فلا بد من التعبير وأمّا إبراهيم (فلم يعبّرها ،وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام) .
ووجه المناسبة هاهنا هو أنّ إبراهيم أوّل من تحقّق بالحضرة الجمعيّة الوجوديّة ، التي هي ظاهر القابليّة الأولى الذاتيّة ، كما أنّ الكبش صورة تلك القابليّة التي ظهرت في المرتبة الحيوانيّة - ولذلك تراه في مصدريّة الأفعال الاختياريّة هو الغاية في القبول إذعانا واستسلاما .
ثمّ لمّا كان الابن صورة سرّ الأب، على ما ورد : « الولد سرّ أبيه » .
تصوّر الكبش في الحسّ المشترك عند ظهوره من طرف الغيب والبطون للخيال بصورة ابن إبراهيم ، لقوّة المناسبة المذكورة وكمال الاستيناس به .
(فصدّق إبراهيم الرؤيا) أي أخذ تلك الصورة المرئيّة صادقة مطابقة لما في الأمر نفسه مما وجب عليه.
سرّ رؤيا إبراهيم عليه السّلام
وهاهنا تلويح حكميّ له كثير دخل في تحقيقه، ومنه يعلم لميّة تصديقه وما يترتّب عليه من التفدية : وهو أنّ البعد بين المتقابلين - الذين بهما يتقوّم أمر التعاكس والتماثل - كلَّما كان أكثر ، كانت مطابقة العكس لأصله أشدّ وذلك لأنّ المشاركة - ولو في صفة من الصفات أو جهة من الجهات - تستلزم عدم ظهور العكس بكماله ، لتخلَّفه عن الأصل في تلك الصفة ، وانحرافه عنه بها ، ولذلك ترى المرايا ما ترى الصورة ما لم تكن في الجهة التي في غاية البعد - وهي القطر - وإذا انحرف عنها ما أرت الصورة كما هي ومن هاهنا أيضا ترى عكس العكس عين الأصل ، لأنّه أنهى ما يتباعد به عن الأصل .
ثمّ إنّ إبراهيم لما وصل من القرب إلى ما وصل، ما تمكَّنت مرآة خياله عن إراءة العكس كاملا، لزوال البعد والقطريّة فيه، وكمال القرب والخلَّة، وإذ قد كان ميلانه إلى طرف علوّ قربه الخلَّية، جاوز في أمر القربان أيضا إلى ما هو أعلى من فداء المال وذبح ذوي الحياة منه حتّى توهّم ذبح الابن وفدائه - وهو أوثق العلائق رابطة وأحكمها وثاقا - ولذلك ما اختصّت به ذوو العقول فقط، بل عمّت الحيوانات العجم تلك العلاقة .
فظهر أنّ وثاقة علاقة الابن النسبيّ وهميّة فلذلك لما رأى إبراهيم في رؤياه الذبح العظيم صوّر الوهم ذلك العظيم بابنه إذ ليس عنده أعظم منه.
(ففداه ربّه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم ، الذي هو تعبير رؤياه عند الله - وهو لا يشعر) لغلبة أمر القربة فيه واستيلاء سلطان الخلَّية عليه.
تعبير ما في حضرة الخيال
(فالتجلَّي الصوريّ في حضرة الخيال محتاج إلى علم آخر يدرك به ما أراد الله تعالى بتلك الصورة) ، وهو ممّا يختصّ بنيله أولو النهاية ، ممن غلب في مواطن معرفته ومواقف نبوّته وبعثته ، علم الصور وأحكام تجلَّياتها ، ولم يحتجب بكمال قربته وجمعيّته عن أحكام التفرقة والتفصيل.
فلا بدّ وأن يكون صاحب حظَّ من الختم مّا بحسب الصورة فقط كيوسف على ما نبّهت عليه في تحقيق ترتيب الكتاب وبيان الحصر أو بحسب الصورة والمعنى ، كالحضرة الجمعيّة الختميّة وإلى ذلك أشار بقوله :
تعبير أبي بكر لرؤيا الرجل
( ألا ترى كيف قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي بكر في تعبيره الرؤيا : « أصبت بعضا ، وأخطأت بعضا » . فسأله أبو بكر أن يعرّفه ما أصاب فيه وما أخطأ ، فلم يفعل صلَّى الله عليه وسلَّم ) ، فإنّه قد روي بالأسانيد الصحيحة أنّ رجلا أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال : « إنّي رأيت ظلَّة ينطف منها السمن والعسل ، وأرى الناس يتكففون في أيديهم ، فالمستكثر والمستقلّ ، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك - يا رسول الله - أخذت به فعلوت ، ثمّ أخذ به رجل فعلا ، ثمّ أخذ به رجل آخر فعلا ، ثمّ أخذ به رجل آخر فانقطع به ثمّ وصل له فعلا " . البخاري و مسلم و أحمد و الترمذي.
فقال أبو بكر : أي رسول الله - بأبي أنت - والله لتدعني فلاعبّرها ؟
فقال : « اعبرها » .
فقال : « أمّا الظلَّة : فظلَّة الإسلام . وأمّا ما ينطف من السمن والعسل :
فهو القرآن - لينه وحلاوته - وأمّا المستكثر والمستقلّ : فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه . وأمّا السبب الواصل من السماء إلى الأرض : فهو الحقّ الذي أنت عليه ، تأخذ به فيعليك الله ، ثمّ يأخذ به بعدك رجل آخر فيعلو به ، ثمّ يأخذ به رجل آخر بعده فيعلو به ، ثمّ يأخذ به رجل آخر فيقطع به ، ثمّ يوصل له فيعلو . أي - رسول الله - لتحدّثني أصبت ، أم أخطأت ؟ » .
فقال : « أصبت بعضا وأخطأت بعضا » .
قال : « أقسمت - بأبي أنت يا رسول الله - لتحدّثني ما الذي أخطأت » ؟
فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : « لا تقسم » - قطعا لمادة توقّعه فإنّه من الخصائص التي لا دخل لأحد فيها .
تأويل تلك الرؤيا
والذي باح لسان الوقت بالإفصاح عنه في تأويله: أنّ السبب الواصل هو الرابطة الموصلة للعبد، أعني التزام التمسّك بعروة العبادة.
وأمّا الرجال الأربعة الواصلون : فهم الخاتمان بوارثيهما ، فإنّ وارث خاتم الولاية عقود عرى العبادة منه واهية ، ينقطع كثيرا ، ولكن يوصله ،على ما صرّح به صاحب المحبوب .
وممّا يدلّ على أنّهم هم الأربعة، قوله تعالى: " إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ " [ 3 / 33 ] .
ولكن إنّما يفهم ذلك بعد الوقوف على لسان أهله .
ثمّ إنّه ظهر من هذا أنّ ممّا أخطأ فيه المؤوّل هو إبقاؤه الرجل على صورته المرئيّة ، وما عبّرها من الشخص الصوريّ الكوني الكامل من بني نوعه ، إلى الشخص الكماليّ الوجوديّ الكامل منهم فإنّه هو الرجل حقيقة على ما عرفت .
معنى التعبير
( وقال الله تعالى لإبراهيم عليه السّلام حين ناداه " أَنْ يا إِبْراهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا " ) [ 37 / 105 ] ،أي أخذت صورتها المرئيّة مطابقة للواقع.
( وما قال له : « صدقت في الرؤيا أنّه ابنك » ) أي وفّيت حقّها من قولهم : « صدق في القتال » إذا وفّى حقّه وفعل على ما يجب ، وعليه قوله تعالى: "رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله ".
أي حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم وما وفّى حقّ الرؤيا ( لأنّه ما عبرها بل أخذ بظاهر ما رأى والرؤيا يطلب التعبير ،ولذلك قال العزيز : "إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ" ) [12 / 43] .
( ومعنى التعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر ) هو منتهى ما قصد من الصورة - تقول : « عبرت الرؤيا » : إذا ذكرت آخرها وعاقبة أمرها .
كما تقول :"عبرت النهر" إذا قطعته حتّى تبلغ آخر عرضه وهو عبره ونحوه : "أوّلت الرؤيا " إذا ذكرت مآلها .
رؤيا ملك مصر وتعبير يوسف عليه السّلام لها وقد ورد في الآثار إنّه لمّا دنى فرج يوسف رأى ملك مصر - الريّان بن الوليد - رؤيا عجيبة هالت : رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر مالس ، وسبع بقرات عجاف ، فابتلعت العجاف السمان ، ورأى سبع سنبلات خضر ، قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات ، قد استحصدت وأدركت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها فاستعبرها ، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها ، حتى استعبر يوسف فأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب ، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة .
( فكانت البقر ) في تأويل يوسف ( سنين في المحل والخضب ) وبيانه أنّ البقر في جنس الحيوانات هو المخصوص بالجعامة وتناول ساير النباتات حلوها ومرّها وشرب المياه كلَّها صافيها وكدرها .
كما أن السنة هي التي تسع الأمور كلَّها مرغوبها ومكروهها .
وتأتي بالحوادث حسنها وسيّئها وأيضا المعتبر في أمر التعبير هو عبارة الرائي كما لا يخفى على الفطن الخبير .
وقد عبّر الملك عن رؤياه بـ « بقرات » و « سنبلات » ، فاستشعر يوسف
من الأوّل بالاشتقاق الكبير على ما هو المعوّل عليه عند الأكابر « آتي قريب »
ومن الثاني « سنة بلاء » ثمّ إنّ البلاء مشترك بين الخير والشرّ ، و « الخضر » فيه حرفان من الخير ، مع ظهور ضاد « الضوء » بها ، و « اليابس » هو « البايس » وهذا إنّما يفهمه من له ذوق إدراك التلويحات .
معنى تصديق إبراهيم عليه السّلام الرؤيا مع عدم ذبح الولد
ثمّ إنّ إبراهيم ما صدّق في هذه الرؤيا ، لأنّ الصورة المرئيّة مأولة بالكبش وهو الذي ذبح .
( فلو صدّق في الرؤيا لذبح ابنه وإنّما صدّق الرؤيا في أنّ ذلك ) المرئي ( عين ولده ، وما كان عند الله إلَّا الذبح العظيم ) يعني الكبش ( في صورة ولده ) .
وذلك ليس فداء لإسحاق وصورته في الخارج ، ( ففداء لما وقع في ذهن إبراهيم ما هو فداء في نفس الأمر عند الله).
وذلك أنّ قهرمان منزلته الرفيعة وقربته القريبة لما اقتضى القربان ، وأظهر الله تلك الصورة من غيب قلبه وبطونه إلى مجالي مشاعره وقواه ، تيقّن بفداء ما هو الأعزّ عنده والأحبّ لديه .
( فصوّر الحسّ الذبح ، وصوّر الخيال ابن إبراهيم فلو رأى الكبش في الخيال لعبّره بابنه أو بأمر آخر ) يكون أعزّ عنده منه كما سبق بيانه.
( ثمّ قال : "هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ " [ 37 / 106 ] أي الاختيار المبين - أي الظاهر ، يعني الاختبار في العلم ) الذي يتبيّن به الأسرار الخفيّة .
وهو أنّه ( هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير ، أم لا ؟ ) وليس الاختبار في علوّ الهمّة وكمال الإيثار ، ليكون ذبح الابن فيه منجحا .
وملخّص الكلام هاهنا : أنّ للحقّ في إفاضة عوارف اللطائف وتوشيح الكلمة الإبراهيميّة نوعين من الإمداد في جهتين منها : أحدهما ما يتعلَّق بتربية الظاهر منه ، من إعلاء أعلام نبوّته وإظهار أمر رسالته ، وما ينضاف إلى ذلك من علوم الصور - مثاليّة كانت أو عينيّة - وأحكامها .
والآخر ما يتعلَّق بالباطن ، من تكميل مكانة ولايته والارتقاء في مراقي قربته وزلفته ، وما يستتبعه من التبتّل إلى الله بالكليّة ، متحقّقا بالتجرّد والإيثار ، وترك التعرّض والاختيار ، بما يلزمه من المعارف الذوقيّة واللطائف المستلذّة الشوقيّة .
ثمّ إنّ إبراهيم لتسلَّط قهرمان الجهة الثانية في حقيقته وكمال استلذاذه به واستغراقه فيه « 1 » ، أخذ في رؤيته تلك الرؤيا ما يقتضيه ذلك الموطن الذوقي وعلم الصور وأحكامها ممّا يتعلَّق بالجهة الأولى - والاختبار المبين إشارة إليه .
فهو لسلطان أمر القربة والخلَّة عليه ذهل عن ذلك ، وما كان جاهلا به ( لأنّه يعلم أنّ موطن الخيال يطلب التعبير ، فغفل فما وفّى الموطن حقّه وصدّق الرؤيا لهذا السبب ) .
( كما فعل تقي بن مخلد الإمام صاحب المسند) «هو الحافظ بقي بن مخلد ابن يزيد 200هـ. سير أعلام النبلاء ومعجم الأدباء وتذكرة الحفاظ والأعلام للزركلي » - وذلك من سراية حكم ولاية الأنبياء المرسلين في ولاية الأولياء المحمّديين - ( سمع في الخبر الذي ثبت عنده أنّه عليه السّلام قال : « من رآني في النوم فقد رآني في اليقظة » ) .
وذلك لختم صورته وتمام إحاطته فيها (« فإنّ الشيطان لا يتمثّل على صورتي ») لكونه محاطا فيها - ولذلك تراه عارض آدم وقابله ، وأسلم على يده وأذعن له .
( فرآه تقيّ بن مخلد ، وسقاه النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الرؤيا لبنا ، فصدّق تقيّ بن مخلد رؤياه فاستقاء ، فقاء لبنا ولو عبّر رؤياه لكان ذلك اللبن علما ) لأنّه أوّل ما يظهر بصورة الحياة ويغتذي به الحيوان ، فيصير حيّا كما أنّ العلم أوّل ما يتعيّن به الذات فيظهر به عالما ولأنّه أكرم ثمرة أثمرها شجرة النشأة الجسمانيّة الإنسانيّة ، كما أنّ العلم أكرم ثمرة أثمرها شجرتها الروحانيّة الجسدانيّة .
وأيضا في لفظه تلويح بيّن على تأويله ذلك ، بما فيه من لام « العلم » و « التفصيل » والباء والنون المشعرين بالإبانة والظهور حيثما اجتمعا .
( فحرّمه الله علما كثيرا على قدر ما شرب ) لما قاء به .
رؤيا رسول الله صلَّى الله عليه وآله
(ألا ترى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لما اتي في المنام بقدح لبن قال : « فشربته حتّى خرج الريّ من أظافيري ، ثمّ أعطيت فضلي عمر » . قيل : « ما أوّلته يا رسول الله » ؟
قال : « العلم » ، وما تركه لبنا على صورة ما رآه ، لعلمه بموطن الرؤيا وما يقتضي من التعبير ) . مسلم و الترمذي
واعلم أنّ في تعبيره الرؤيا بهذه العبارة إشارة لطيفة إلى أنّ العلم الذي رؤي العطشان ، هو الذي خرج من أظافير أصابع يدي قدرته ، ووضعه الشعائر المستدعية للإشعار من ظواهر الصور المتكثرة الكونيّة التي تعلم وترقى عند النظر والافتكار .
ففيه تلويح إلى الصور الكتابية من تلك الكونيات بخصوصها أنّها هي منابع ذلك العلم ، وأنّ فضلها قد اختصّ به عمر .
أي له عمر وبقاء بعده هذا لمن له قوّة التدبّر في الإشارات الختميّة .
من رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله في المنام
ثمّ إنّ صورة محمّد عليه السّلام على ما علم من الحديث على خلاف هذا المقتضى في الرؤيا ، لأنّه لا يقبل التعبير ، فلا بدّ من بيانه بما ينبئ عن وجه اختصاصه بين الصور بذلك ، وعن معقوليّة أمره وتمام كيفيّته .
فقوله : ( وقد علم أنّ صورة النبي عليه السّلام - التي شاهدها الحس - أنّها مدفونة في المدينة ، وأنّ صورة روحه ولطيفته ما شاهدها أحد من أحد ، ولا من نفسه - كلّ روح بهذه المثابة فيتجسّد له روح النبيّ عليه السّلام في المنام بصورة جسده ، كما مات عليه ، لا يخرم منه شيئا ، فهو محمّد عليه السّلام المرئي من حيث روحه ، في صورة جسدية تشبه المدفونة ، لا يمكن لشيطان أن يتصوّر بصورة جسده عليه السّلام ، عصمة من الله في حقّ الرائي ).
فإنّه هو مظهر الهداية التامّة ، والخاتم لإبانة طريق الحق على الخاصّة والعامّة فلو لم يكن الرائي لصورته معصوما وأمكن الشيطان أن يتصوّره بتلك الصورة ما يتمّ له شيء من ذلك .
(ولهذا من رآه بهذه الصورة يأخذ عنه جميع ما يأمر به أو ينهاه أو يخبره ، كما كان يأخذ عنه في الحياة الدنيا من الأحكام ، على حسب ما يكون منه اللفظ الدالّ عليه - من نصّ أو ظاهر أو مجمل أو ما كان ) .
فعلم أنّ صورته المرئيّة عليه السّلام خارجة عن مقتضى الرؤيا من التعبير ، ( فإنّ أعطاه شيئا فإنّ ذلك الشيء هو الذي يدخله التعبير ، فإن خرج في الحسّ كما كان في الخيال ) لما في حقيقة الرائي من المقابلة والصفا كما علم ( فتلك رؤيا لا تعبير لها ) ، وهذا إنّما يوجد قليلا ، ( وبهذا القدر عليه اعتمد إبراهيم الخليل وتقي بن مخلد ) .
تعبير رؤيا الحق تعالى في المنام
( ولمّا كان للرؤيا هذان الوجهان ، وعلَّمنا الله - فيما فعله بإبراهيم وما قال له الأدب - لما يعطيه مقام النبوّة ) .
على جلالة قدرها من الابتلاء والاختبار في الرؤيا أهلها ، وعدم تقريرهم الصورة المرئيّة بحالها ( علمنا في رؤيتنا الحقّ تعالى ) جواب لمّا ( في صورة يردّها الدليل العقلي ) لا الأدلَّة مطلقا.
لأنّ العقل موطن التمييز بين الحق والباطل ، ومحلّ تسطير تصوّر الأشياء بما هي عليه - فإذا كانت الصورة التي رئي الحقّ عليها مما يردّها العقل لا بدّ و ( أن يعبّر تلك الصورة بالحقّ المشروع ) فإنّ « الشرع » هو العرش الذي استقرّ عليه الحقّ بصورته العينيّة وشاكلته المرضيّة ، فما لم يكن عليه لا ينسب إليه تعالى كما في الأسماء ، فإنّها ما لم يطلق الشرع عليه ما لنا أن ننسب إليه .
وتلك الصورة التي ردّها العقل ويجعلها مفتقرة إلى التعبير ( إمّا في حقّ حال الرائي ) بحسب مناسبته لتلك الصورة المردودة عقلا ( أو المكان الذي رآه فيه ) - كما روي أنّ بعض الصالحين في بلاد الغرب رأى الحقّ تعالى في المنام في دهليز بيته ، فلم يلتفت إليه ، فلطمه في وجهه فلمّا استيقظ قلق قلقا شديدا فأخبر الشيخ رحمه الله بما رأى وفعل ، فلمّا رأى الشيخ ما به من القلق العظيم .
قال له : « أين رأيته » ؟
قال : « في بيت لي قد اشتريته » .
قال الشيخ : « ذلك الموضع مغصوب ، وهو حقّ للحقّ المشروع ، اشتريته ولم تراع حاله ، ولم تف بحقّ الشرع فيه فاستدركه » فتفحّص الرجل عن ذلك .
فإذا هو من وقف المسجد وقد بيع بغصب ولم يعلم الرجل ولم يلتفت إلى أمره .
ولعلّ الشيخ من صلاح الرائي وشدّة قلقه علم أنّه ليس من قبل الرائي .(أو هما معا ).
( وإن لم يردّها الدليل العقلي أبقيناها على ما رأيناها كما ترى الحقّ في الآخرة سواء) فإنّه كثيرا ما يتجلَّى فيها بصور ينكرها أرباب العقول وذوو العقائد على ما ورد في الحديث.
فلئن قيل : « إنّ الصورة المرئيّة من الخاتم لا تحتاج إلى التعبير ، لأنّ الشيطان لا يتمثّل به فكيف تكون الصور المرئيّة من الحق تعالى مفتقرة إليه والشيطان يتمثّل به » ؟ !
قلنا : إنّ الخاتم للنبوّة هو الغاية في إظهار الصورة المبعوث لتمام أمرها ، فلا يمكن أن يتطرّق إليه من الخفاء شيء أصلا ، ولا يقدر الشيطان الذي هو قهرمان أمر الإخفاء والإلباس أن يحوم حول حماه الأحمى قطعا وإلَّا لا يكون خاتما للنبوّة .
وأمّا الحقّ ، فكما أنّ له صورة الظهور ، فله صورة الخفاء أيضا ، والكلّ منه ، وإليه ، وإلى هذه النكتة المستشعرة منه أشار بقوله نظما :
(فللواحد الرحمن في كل موطن) صوريّا كان أو معنويا، عينيّا أو مثاليّا، خياليّا أو جسمانياًّ
(من الصور ما يخفى) كالقبائح والقاذورات المردودة للعقول والشرايع ( وما هو ظاهر )
كالمحاسن والمنزّهات، وذلك لأنّ التعيّنات والاعتبارات الفارقة على أيّ وجه كانت لا دخل لها في الحقيقة الحقّة ، فهو المطلق المنزّه عن الكلّ في الكلّ ، فمن أثبت الحقّ للكلّ على أنّه هو المنزّه عنه فيه ، فهو صادق وإلَّا فكاذب .
ولذلك قال : (فإن قلت هذا الحقّ قد تك صادقا ). وذلك إذا كان القائل ممن يرى كثرة الصور ممحوّة في الوحدة الحقيقيّة التي للحق. (وإن قلت: أمر آخر. (أي الحقّ أمر آخر أنت عابر).
أي عابر لتلك الصورة، بمعنى التعبير كما سبق في النثر بيانه أو عابر عن الحقّ ، ففيه إيهام المعنيين ، والثاني أوفق لسياق النظم .
( وما حكمه في موطن دون موطن )لأنّه المطلق الشامل( ولكنّه بالحقّ للخلق سافر ).
أي ظاهر الخلق بحسب المناسبات لهم ، ومدارج التنزّلات إليهم بالحقّ ، وإن كان ذلك في صورة الباطل ، كما قال شيخ الشيخ المؤلف أبو مدين رضي الله عنه كذلك نظما :
لا تنكر الباطل في طوره .... فإنّه بعض ظهوراته
وأعطه منه بمقداره .... حتى توفّي حقّ إثباته
فالحقّ قد يظهر في صورة .... ينكرها الجاهل في ذاته
ولأنّ ظهور الحقّ للمحجوبين من الخلق ، إنّما يمكن في رقائق المناسبات لهم ، ومدارج التنزلات إليهم ، تراه
( إذا ما تجلَّى للعيون تردّه ..... عقول ببرهان عليه تثابر )
لأنّ الصور الكونيّة والمواد الهيولانيّة التي بها يظهر الحقّ للعيون ، قد نزّه العقول بالبراهين القاطعة جناب الحقّ عنها .
( ويقبل في مجلى العقول ) وذلك لأنّ هذا المجلى من شأنه أن يجرّد ما فيه عن الغواشي الغريبة واللواحق الهيولانيّة الخارجة مطلقا ، بل وعمّا يلحقه فيه أيضا من خصوصيّات المجلى ، وذلك الذي هو مقبول الفلاسفة وذوي العقول
( وفي الذي ... يسمّى خيالا )
لما في الصور المختصّة به من التجرّد عن المواد الهيولانيّة والتنزّه عن اللواحق الجسمانيّة ما ليس لغيرها من الصور .
على ما هو مقبول أرباب الخلوات الرسميّة والرياضات العاديّة ، من الأنوار الشعشعانيّة والإشراقات الخالصة عن الشوائب الهيولانيّة .
( والصحيح النواظر ) بالنصب ، عطفا على « خيالا » والنظر حينئذ بمعنى الفكر وبالرفع على أن يكون جملة حاليّة ، والنظر حينئذ بمعنى البصر .
ثمّ إنّ الكلام لما انساق إلى طرف سعة الحقّ ومجال ظهوره في سائر المواطن والمجالي ، وبروزه بكسرة الكلّ خفاء وظهورا ، أخذ في تبيين ذلك قائلا: ( يقول أبو يزيد "البسطامي" في هذا المقام : « لو أنّ العرش وما حواه مائة ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما
أحسّ بها » ) أي ما وجد لها حسّا ، وهذا غاية ما أمكن من السعة في مرتبة الأجسام ، لأنّه قد جمع غاية البعدين المتّصل والمنفصل في المظروف وفي الظرف وقد خصّ من بين عموم زواياه زاوية واحدة .
ولذلك قال : ( وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام ) لا مطلقا .
ولما كان وسع القلب وإحاطة رتبته غير مختصّ بما في الأجسام وغيرها ، من المراتب ومدارج التنزّلات ، بل ولا اختصاص له أصلا بالعوالم والتعيّنات الاستجلائيّة فإنّه المجلى الجامع بين الجلائيّ والاستجلائيّ .
أشار إليه بقوله : ( بل أقول : لو أنّ ما لا يتناهى وجوده ) لأنّ جزئيّات العوالم والتعيّنات الاستجلائيّة إذا أريد أن يعبّر بلفظ صادق عليها ومفهوم يحمل عليها جملة ، فهو ذلك لا غير ، والذي قام البرهان العقلي على انتهائه هو البعد الجسماني القائم بالموجود ، لا وجوده .
فإنّ وجودات الأكوان والحوادث غير متناهية ، ولهذه الدقيقة صرّح بـ « الوجود » .
وإنّما قال : ( يقدّر انتهاء وجوده ) لأنّ التقدير أنّه محاط للقلب .
فعلم أنّ انتهاء القلب أيضا تقديريّ فرضيّ، وإذ قد علم أنّ سعة القلب أكثر حياطة من التعيّنات الاستجلائيّة وأفسح فضاء منها.
ضمّ إلى ذلك: (مع العين الموجدة له ، في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ بذلك في علمه). أي ما ظهر له حسّ وخبر تحت حكمه الشامل وأمره المحيط الكامل - أعني العلم.
(فإنّه قد ثبت أنّ القلب وسع الحقّ ) - بما روي : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن » .
( ومع ذلك ما اتّصف بالريّ ) فإنه لو ارتوى قنع به وانقطع عنده الطلب والسعي فعلم أنّه ليس مما يملؤه (فلو امتلأ ارتوى).
.
يتبع