ثامنا شرح الأبيات من 235 إلى 281 وصايا وحكم صوفية للجيلي الجزء الثاني .شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 235 إلى 281 على مدونة عبدالله المسافر باللهالقسم الأول
ثامنا الأبيات من ( 235 ) إلى ( 281 ) وصايا وحكم صوفية الجزء الثاني
(235) وإن شبّ نار النّفس يوما ملالها..... فصبّ سحابا بالتصبّر هامع
(236) وإن خاطبتك النّفس يوما برجعة ..... فشنّف لها كأسا من السّمّ ناقع
(237) فعاقب وركّبها على متن بازل ..... بما هو فيما هالها متدافع
(238) وجرّد لها من غمد عزمك صارما ..... يبتّ التّواني ، للعلائق قاطع
(239) وألبس سرابيل الخلاعة خالعا ..... ثياب الغنى ، تخلع عليك خلائع
(240) وقم ، وأقم حربا على النّفس حاذرا ..... فما موتها للآمنين مخادع
(241) ودع عنك آمالا ، فكم من مؤمّل ..... لشؤم هوى آماله العمر ضائع
(242) وحاسب على الخطرات قلبك حافظا ..... له عن حديث النّفس ، فهو شنائع
(243) وأضبط لها الإحساس فيه مراقبا ..... فإنّ لنفس الحسّ في النّفس طابع
(244) ووردك في صبح الهوى ومسائه ..... أسى وعيون بالدّموع دوامع
(245) وقاطع لمن واصلت أيام غفلة ، ..... فما واصل العذّال إلا مقاطع
(246) وجانب جناب الأجنبيّ لو أنّه..... لقرب انتساب في المنام مضاجع
(247) فللنّفس من جلّاسها كلّ نسبة ، ..... ومن خلّة للقلب تلك الطّبائع
(248) ولا تنهمك في القول أو في استماعه ..... ولو أنّ فيه من بلاغ مصاقع
(249) فكلّ حديث قيل أو سنقوله ..... عن العين ، في التّحقيق للعين رادع
(250) فسرّ الهوى عن قائليه محجّب ..... فكيف وسمّاع الحديث توابع
(251) حديث الهوى سرّ وفي السرّ لم يزل ..... وما القيل للعشّاق والقال نافع
(252) ورمز الهوى : كنز ، ومدفنه الحشا ..... وإيّاك ، فالتّصريح عنه موانع
(253) وإنّي ، لمن في الحبّ يهدي بهديه ..... بأنّك لا تهدي من أحببت، قانع
(254) ودع عنك دعوى القول في نكتة الهوى ..... فراحلة الألفاظ في السّير ضالع
(255) ومن دون هذا الاستماع مهالك ..... وما كلّ أذن فيه تلك المسامع
(256) وسر في الهوى بالروح واصغ إلى الهوى ..... لتسمع منه سرّ ما أنت سامع
(257) وشمّر ولذ بالأولياء فإنّهم ..... لهم من كتاب اللّه تلك الوقائع
(258) هم الذّخر للملهوف والكنز للرّجا..... ومنهم ينال الصّبّ ما هو طامع
(259) بهم يهتدي للعين من ضلّ في العمى ..... بهم تجذب العشّاق والربع شاسع
(260) هم السّؤل والمطلوب والقصد والمنى ..... للصّبّ في الحبّ نافع
(261) هم الناس فالزم إن عرفت طريقهم..... ففيهم لضرّ العالمين منافع
(262) وإن جهلوا ، فانظر بحسن عقيدة ..... إلى كلّ من تلقاه بالفقر صادع
(263) وحافظ مواثيق الإرادة قائما ..... بشرع الهوى ، إن أنت في الحبّ شارع
(264) وداوم على شرطين : ذكر أحبّة ..... وتسليك نفس بالخلاف تسارع
(265) ولا تهملن ذكر الأحبّة لمحة..... وداوم خلاف النّفس فهي تتابع
(266) وقم واستقم في الحبّ لا تخش ضلّة ..... فميل الفتى عمّا يحاول رادع
(267) فإن ساعد المقدور أو ساقك القضا ..... إلى شيخ حقّ في الحقيقة بارع
(268) فقم في رضاه واتّبع لمراده ..... ودع كلّ ما من قبل كنت تصانع
(269) وكن عنده كالميت عند مغسّل ، ..... يقلّبه ما شاء ، وهو طاوع
(270) ولا تعترض فيما جهلت من أمره..... عليه ، فإنّ الاعتراض تنازع
(271) وسلّم له مهما تراه ولم يكن ..... على غير مشروع ، فثمّ مخادع
(272) ففي قصّة الخضر الكريم كفاية ..... بقتل غلام والكليم يدافع
(273) فلمّا أضاء الصّبح عن ليل سره ..... وسلّ حساما للمحاجج قاطع
(274) أقام له العذر الكليم وإنّه ..... كذلك علم القوم فيه بدائع
(275) وواظب شهود العلم فيك ، فإنّه..... هو الحقّ ، والأنوار فيك سواطع
(276) ورقّ مقام القلب من نجم ربّه ..... إلى قمر الرّحمن إذ هو طالع
(277) إلى شمس تحقيق الألوهة رافعا ..... إلى ذاته للقدر إن أنت رافع
(278) فللّه خلف الاسم والوصف مظهر ..... وعنه عيون العالمين هواجع
(279) فليس يرى الرّحمن إلا بعينه ..... وذلك حكم في الحقيقة واقع
(280) وإيّاك لا تستبعد الأمر ، إنّه ..... قريب على من فيه للحق تابع
(281) وها أنذا أنبيك عن سبل الهدى ..... وأفصح عمّا قد حوته المشارع
شرح الأبيات :-
( 235 ) وإن شبّ نار النّفس يوما ملالها ..... فصبّ سحابا بالتصبّر هامع
المفردات :
إن شبّ نار النفس يوما ملالها : إن أشعل الملال نار النفس . بالتصبر هامع : يمطر صبرا وتصبرا .
المعنى :
يتابع الجيلي نصائحه السلوكية ، يقول ؛ وإن أشعل الملل يوما نار نفسك ، فسارع إلى صبّ سحب التصبّر عليها .
( 236 ) وإن خاطبتك النّفس يوما برجعة ..... فشنّف لها كأسا من السّمّ ناقع
المفردات :
فشنف : زيّن . ناقع : قاتل .
المعنى :
يتابع الجيلي تشجيعه للسالك ، فيقول ؛ إن طلبت منك نفسك يوما أن ترجع عن مجاهداتك ، وعن خوض نيران العشق الإلهي ؛ فحضّر لها كأسا من السم القاتل ، وزيّنه لها حتى تشربه .
( 237 ) فعاقب ، وركّبها على متن بازل ..... بما هو فيما هالها متدافع
المفردات :
فعاقب : عاقب النفس . بازل : بعير سبقت الإشارة إليه [ را جع شروحات البيت رقم 120 ] .
بما هو فيما هالها متدافع : يدفعها فيما يخيفها .
المعنى :
يعلم الجيلي السالك أن يقسو على نفسه فيقول ؛ عاقب نفسك إن طالبتك بالرجوع عن العشق ، وركبها على ظهر بعير يدفعها ، ويرمي بها في كل أمر يخيفها .
( 238 ) وجرّد لها من غمد عزمك صارما ..... يبتّ التّواني ، للعلائق قاطع
المفردات :
غمد : بيت السيف . صارما : أي سيفا صارما . يبتّ التواني : يقطع التكاسل والتّباطؤ . للعلائق قاطع : يقطع علائق النفس بالدنيا .
المعنى :
يتابع الجيلي نصائحه في المجاهدات ، يقول ؛ جرّد سيف عزيمتك ، واقطع به كل كسل وتخلّف ، واقطع كذلك عن نفسك بسيف العزيمة كل ما يربطها بهذه الدنيا .
( 239 ) وألبس سرابيل الخلاعة خالعا ..... ثياب الغنى ، تخلع عليك خلائع
المفردات :
وألبس : ألبس نفسك . سرابيل : ثياب . الخلاعة : هنا بمعنى الفقر .
تخلع عليك خلائع : خلائع ؛ ج . خلعة وهي الحلة . والجملة تعبير بمعنى توهب لك عطايا ومنح .
المعنى :
يتابع الجيلي تعليم السالك أصول المجاهدات فيقول ؛ والبس ثياب الذل والفقر واخلع ثياب الغنى والاستغناء ، توهب لك من الغنيّ العزيز عطايا ومنح .
أما رمز الخلعة فقد يشير إلى الخلعة التي خلعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على كعب بن زهير ، حتى أضحت مطلبا صوفيا ورمزا للعطاء النبوي .
وها هو الإمام البوصيري قد لبس ثياب الذل كما ذكر في قصيدته المسماة بالبردة ، فخلع عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في منامه بردة ، كانت برأة له من كل مرض .
كما قد يقبل رمز “ الخلائع “ الإشارة إلى الصفات الإلهية التي تظهر على العبد المتجرد عن صفة نفسه ، لكأنها أثواب وحلل .
( 240 ) وقم ، وأقم حربا على النّفس ، حاذرا ..... فما موتها للآمنين مخادع
المفردات :
وقم . . . حاذرا : أي احذر . فما موتها : موت النفس .
للآمنين : للمطمئنين وهم الذين قطعوا مرحلة الحرب مع النفس ووصلوا إلى الأمان منها .
مخادع : مضل ، فالآمن من لا يخدع بموت النفس .
المعنى :
يتابع الجيلي تعليمه السلوكي ، ويحذّر السالك من النفس ، فيقول ؛ حارب النفس وقم على حربها ، واحذرها كل الحذر . . . ولا تظن يوما أن النفس ستموت ، نعم قد تهدأ شهواتها وقد تسكن اهواؤها وقد تتقطّع حبائلها ، ولكن داوم على حذرك ، وكن كالآمنين الذين لا يخدعون بموت النفس مهما شبّهت عليهم موتها !
( 241 ) ودع عنك آمالا ، فكم من مؤمّل ..... لشؤم هوى آماله العمر ضائع المفردات :
ودع عنك آمالا : لا تأمل خيرا من النفس . لشؤم هوى آماله العمر ضائع : أضاع عمره في أمل مشؤوم .
المعنى :
يتابع الجيلي تحذير السالك من النفس ، يقول ؛ لا تأمل خيرا من النفس ، فهي لا تأمر إلا بالسوء ، لذلك خالفها في كل أوامرها . . . وكم أضلّت النفس مجاهديها ، فزيّنت لهم آمالا توافق أهواءهم ، فأضاعوا العمر في أمل مشؤوم .
( 242 ) وحاسب على الخطرات قلبك حافظا ..... له عن حديث النّفس فهو شنائع
المفردات :
وحاسب على الخطرات قلبك : حاسب قلبك على خطراته ، وراقب كل ما يخطر فيه ، والمحاسبة هي من أصول السلوك عند الصوفية .
حافظا له عن حديث النفس : احفظ قلبك من كل ما تحدّث به النفس .
فهو شنائع : ج . شنيعة ، والمراد هنا أن حديث النفس هو شنيع يؤذي القلب .
المعنى :
يعلّم الجيلي السالك أصول المحاسبة ، فيقول ؛ حاسب قلبك على كل ما يخطر فيه ، واحفظه من النفس كي لا تحدّثه أبدا بأي أمر ، لأن النفس لا تحدث إلا بشنيعة تؤذي القلب .
( 243 ) وأضبط لها الإحساس فيه مراقبا ..... فإنّ لنفس الحسّ في النّفس طابع
المفردات :
واضبط لها : للنفس . الإحساس فيه : في القلب .
مراقبا : المراقبة من أصول السلوك عند الصوفية . لنفس الحس : للإحساس .
طابع : طباعة ، ونقش ، وأثر .
المعنى :
بعد أن نبّه الجيلي السالك في البيت السابق إلى أن خطرات القلب مصدرها حديث النفس ، يعلمه هنا كيف يطهّر نفسه وينقّيها فلا تحدّث القلب إلا بما يرضي اللّه عزّ وجلّ ،
فيقول : إن النفس معرضة لأنواع أحاسيس مصدرها العالم الخارجي ، كل إحساس تحسه النفس يطبعها بطابعه ، لذلك على السالك إن أراد تنقية نفسه ألا يدعها تحس إلا ضمن حدود يراقبها ويرضاها .
فإذا ضبط السالك أحاسيس نفسه الواردة عليه من العالم الخارجي ، فإنه يضبط في الوقت نفسه كل ما يطبع فيها ، وإذا ضبط كل ما يطبع فيها فقد نقّاها وطهّرها وأمن من أن تحدّث قلبه بسوء . . .
فالعالم الخارجي إذن عند الجيلي هو مصدر أحاسيس النفس ، وأحاسيس النفس هي مصدر حديثها للقلب ، ومن أراد أن يحفظ قلبه من حديث النفس ، عليه أن يضبط للنفس أحاسيسها تجاه العالم الخارجي .
( 244 ) ووردك في صبح الهوى ومسائه ، ..... أسى وعيون بالدّموع دوامع
المفردات :
ووِردُك : الورد عند الصوفيين جمعها أوراد ، وهو دعاء أو مجموعة أدعية يمارسونها بصفة منتظمة ، إما في الوقت كأوراد الليل والنهار وأوراد ليلة الجمعة ، وإما في العدد بأن يكرر السالك مثلا صيغة ذكر أو دعاء بعدد مخصوص .
المعنى :
ينصح الجيلي السالك هنا بأن ينقل ورده من لسان القول إلى لسان الحال ، يقول ؛ وليكن وردك في الصبح والمساء . . . هو ورد كل عاشق للجمال الإلهي . . . هو أسى وشوق وعيون تشكو بالدمع ما ضاقت عنه الحروف والكلمات
( 245 ) وقاطع لمن واصلت أيام غفلة ، ..... فما واصل العذّال إلا مقاطع
المفردات :
وقاطع : اترك . لمن واصلت : لمن عاشرت . أيام غفلة : أيام غفلتك وبعدك عن الحق . العذال : عذال الحق . مقاطع : مقاطع للحق عزّ وجلّ
المعنى :
يبدأ الجيلي بتنبيه السالك إلى أهمية الصحبة ، فيقول ؛ إترك كل من صاحبت ، وكل من عاشرت أيام غفلتك وبعدك عن الحق عزّ وجلّ .
لأن المقاطع للحق فقط هو الذي يعاشر الغافل عن الحق .
( 246 ) وجانب جناب الأجنبيّ لو أنّه ..... لقرب انتساب في المنام مضاجع
المفردات :
الأجنبي : الغريب ، والمراد هنا كل من ليس من أهل اللّه .
لو أنه لقرب انتساب في المنام مضاجع : حتى لو كان قريبا في النسب منك ، بل لو كان ضجيعك في المنام .
المعنى :
يتابع الجيلي كلامه في الصحبة ، فيقول للسالك منبها ؛ كل من لم يكن من أهل اللّه لا تعاشره ، حتى لو كان قريب النسب منك ، بل حتى لو كان ضجيعك في المنام ، أي زوجك .
( 247 ) فللنّفس من جلّاسها كلّ نسبة ، ..... ومن خلّة للقلب تلك الطّبائع
المفردات :
جلاسها : ج . جليس ، وهو العشير . كل نسبة : انتساب وتأثير ، بمعنى أن النفس تنتسب وتتأثر بطباع العشير . ومن خلة : من صحبة . الطبائع : ج . طبيعة .
المعنى :
يتابع الجيلي تنبيهه للسالك على الصحبة ، فيقول ؛ لا تعاشر الأجنبي الذي ليس من أهل اللّه ومحبيه ، لأن النفس تتأثر بطباع العشير ، ولأن القلب يتطبع في الصحبة بطباع الخليل . . . وما الخلة ، إلا تخلل كل واحد من المتخاللين بصفات خليله .
( 248 ) ولا تنهمك في القول أو في استماعه ..... ولو أنّ فيه من بلاغ مصاقع
المفردات :
مصاقع : ج . مصقع وهو الخطيب البليغ .
المعنى :
الجيلي رجل عمل ومجاهدة شأنه شأن كل صوفي ، لذلك ينبه السالك من الانشغال بالأقوال ، فيقول ؛ لا تنشغل بالأقوال ، تقولها أو تسمعها ، مهما سمت في مراتب البلاغة .
( 249 ) فكلّ حديث قيل أو سنقوله ..... عن العين ، في التّحقيق للعين رادع
المفردات :
عن العين : المقصود هنا عن الذات الإلهية . للعين رادع : يردع عن الوصول إلى العين ، فكل قول هو حجاب على الذات .
المعنى :
يكمل الجيلي تحذير السالك من الأقوال والتنظيرات ، فيقول ؛ لا تنشغل بالأقوال لأن كل حديث قيل أو سيقال عن اللّه عزّ وجلّ هو في الواقع حجاب عليه .
واللّه عزّ وجلّ بخلاف كل مقالاتنا الإنسانية .
( 250 ) فسرّ الهوى عن قائليه محجّب ..... فكيف وسمّاع الحديث توابع
المفردات :
توابع : ج . تابع ، بمعنى تابعون .
المعنى :
يتابع الجيلي تعليمه للسالك ، وينصحه بأن يجرب العشق ولا يقف مع وصف العشاق له ، لأنه سر يذاق ويعاش ولا تدرك حقيقته ، يقول ؛ كيف تستمع إلى حديث عاشق ، وهذا العاشق الذي يحدثك هو نفسه غائب عن سر عشقه . . . فسرّ العشق محجّب حتى على العشاق أنفسهم . . . وإذا استمعت إلى أحاديث العشق تكون تابعا . . . تابعا لأقوال عاشق غابت عنه أسرار العشق .
( 251 ) حديث الهوى سرّ وفي السرّ لم يزل ..... وما القيل للعشّاق والقال نافع
المفردات :
وفي السر لم يزل : باق في السر .
المعنى :
يكمل الجيلي كلامه في تجربة العشق فيقول للسالك ؛ إن العشق هو سر ، وسيظل غليل الأسرار ، وما عليك إلا أن تتذوقه ، لأن القيل والقال فيه لا ينفع
( 252 ) ورمز الهوى : كنز ، ومدفنه الحشا ..... وإيّاك ، فالتّصريح عنه موانع
المفردات :
ورمز الهوى كنز : إن الهوى إذا صورناه رمزا قلنا : إنه كنز . موانع : ج . مانع ، يمنع من الوصول إلى المراد .
المعنى :
إذا أردنا أن نتكلم بلغة الرمز نقول : إن العشق هو كنز ومدفنه في الحشا .
لذلك يبيّن الجيلي للسالك مغبّة التصريح فيقول له ؛ إن العشق يحبّ التلميح والإسرار فحافظ عليه مخبوءا في طيّات حروف لم تقل ، وفي شغاف وجدان فتّته الكتمان . . . وإياك أن تخرج العشق من دائرة الأسرار وتحدّه بألفاظ ، وتصرح عنه بصور وعبارات ، لأن كل تصريح في العشق يمنعك من الوصول إلى معشوقك .
( 253 ) وإنّي لمن في الحبّ يهدي بهديه ..... بأنّك لا تهدي من أحببت قانع
المفردات :
لمن في الحب يهدي بهديه : لمن يحاول أن يهدي النفس إلى الحب الإلهي . بأنك لا تهدي من أحببت : بأن أنبهه إلى قوله تعالى :إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ القصص : 56 ] . قانع : مقتنع .
المعنى :
يحاول البعض أن يدعو الناس إلى الحب الإلهي ، ولكن غاب عنهم أن العشق لا يوقد ناره إنسان في قلب إنسان ، وإن اللّه وحده عزّ وجلّ هو الذي يجعل محبّته نارا دائمة الإشتعال في قلب عبده . . . والجيلي هنا يكتفي بأن يذكّر الدعاة إلى العشق الإلهي بقوله تعالى :إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ[ القصص : 56].
( 254 ) ودع عنك دعوى القول في نكتة الهوى .... فراحلة الألفاظ في السّير ضالع
المفردات :
دعوى القول : الإدّعاء بالأقوال. فراحلة الألفاظ : الكلام. في السير ضالع : جاد في السير لا يتوقف ، والمراد هنا يرحل ويزول ولا يثبت .
المعنى :
إن العشق فعل وتفاعل وليس مجرد أقوال وادعاءات ، لذلك ينصح الجيلي السالك بأن يترك الإدعاءات والكلام ، فيقول ؛ دع عنك الأقوال ، لأن الكلام يرحل ولا يثبت أمام هجمات البلاء .
( 255 ) ومن دون هذا الاستماع مهالك ..... وما كلّ أذن فيه تلك المسامع
المفردات :
هذا الاستماع : أي الاستماع إلى الهوى .
المعنى :
إن الفهم من أنغام العشق عزيز ، لذلك ينبّه الجيلي السالك على صعوبته ، فيقول ؛ ولا تظن أن استماعك إلى أسرار العشق الإلهي سهل وهيّن ، بل دون ذلك مصاعب ومهالك . . .
ثم من ناحية ثانية ، ليست كل أذن مهيّأة ومؤهلة لإلتقاط هذه النغمات .
( 256 ) وسر في الهوى بالروح واصغ إلى الهوى ...لتسمع منه سرّ ما أنت سامع
المفردات :
بالروح : أي سر بروحك في الهوى ولا تهتم بالأقوال وسماعها .
واصغ إلى الهوى : واصغ إلى واردات الهوى .
المعنى :
يتابع الجيلي نصائحه في أصول العشق الإلهي فيقول للسالك ؛ إترك كل الأقوال ، وسر بروحك في العشق ، ولا تنصت إلّا إلى أنغام العشق الإلهي ، لتسمع منها أسرار العشق .
( 257 ) وشمّر ولذ بالأولياء فإنّهم ..... لهم من كتاب اللّه تلك الوقائع
المفردات :
شمر : استعد للمجاهدة . ولذ بالأولياء : الجأ إليهم ؛ والأولياء ج .
ولي ؛ والولي أو ولي اللّه هو موضوع شغل الفكر الصوفي منذ البدايات ، وعرّف كل متصوف مفهوم الولاية بحسب رؤيته ونظامه الصوفي .
لذلك تتنوع هذه التعريفات ، فالولي أحيانا هو العارف ، أو المقرّب ، أو المجاب الدعوة ، أو الفاني في التوحيد ، أو الواصل الموصّل ، أو صاحب التصريف والكرامة وهكذا . .
المعنى :
يبدأ الجيلي الآن بإفهام السالك معنى الولاية ومكانة الولي ودوره في حياة السالكين ، فيقول ؛ استعدّ للمجاهدة إذا أردت الاستماع إلى نغمات الهوى ، والجأ إلى الأولياء ، لأن اللّه عزّ وجلّ أعطاهم “ علما من الكتاب “ فيه لهم وقائع وتصريف . . .
ونفهم كلام الجيلي هنا على ضوء قول آصف بن برخيا لسليمان عليه السّلام :أَنَا آتِيكَ بِهِ "أي بالعرش" قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.
وآصف هو الذي وصفه اللّه عزّ وجلّ بأنّه :عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ[ النمل : 40 ] . .
( 258 ) هم الذّخر للملهوف والكنز للرّجا ، ..... ومنهم ينال الصّبّ ما هو طامع
المفردات :
الكنز للرجا : أي هم كنز الرجاء . الصب : العاشق [ راجع “صبابة " شروحات البيت رقم 4 ] . ما هو طامع : ما يطمع فيه .
المعنى :
إن الأولياء هم نجدة الملهوف ، وفيهم خبّأ اللّه تعالى الرجاء وكنزه . . . ومنهم ينال كل صبّ عاشق مطلبه .
( 259 ) بهم يهتدي للعين من ضلّ في العمى ..... بهم تجذب العشّاق والربع شاسع
المفردات :
بهم : بالأولياء . للعين : للحق . بهم تجذب العشاق : هم مركز جاذبية لعشاق الحضرة الإلهية ، وقد أوضح الجيلي بذلك دور الأولياء ، فبهم يجذب العشّاق إلى اللّه عزّ وجلّ ، وليس إلى مركز ذواتهم .
المعنى :
يتابع الجيلي تعليم السالك معنى الولاية ودور الأولياء في حياة الجماعة الدينية ، يقول ؛ إن ضلّ سالك طريقه إلى اللّه ، وقطعته بحار الحيرة فالولي هو الذي يقوّم له مساره . . .
وكلام الجيلي هنا لا يناقض كلامه السابق الذي أكّد فيه أنه ليس في استطاعة إنسان أن يهدي إنسانا آخر إلى الحب الإلهي ، لأن الهداية التي يتعرّض لها هنا تنحصر في تصحيح مسار ، فهي هداية طريق ، ولا تحقق نقلة من الكفر إلى الإيمان أو من عدم الحب إلى الحب .
فالولي إذن هو الذي يصحح مسار السالكين . . . ثم إن للأولياء دورا آخر ، ففي هذه الدنيا الشاسعة التي تترامى بشرا وحجرا ، يبرز الولي كمركز جاذبية يجذب العشّاق الإلهيين . ولذلك نجد حول الأولياء تجمّعات من الأشخاص الذين يحبّون اللّه ويطلبونه .
وهذا طبيعي جدا لأن الولي يذكر اللّه عزّ وجلّ وذكر اللّه لا يفارقه لحظة ، والعاشق ينجذب ليعيش حول من يذّكّره بمحبوبه . . وفي الحديث الشريف أن الولي هو الذي تذّكّر رؤيته باللّه.
( 260 ) هم السّؤل والمطلوب والقصد والمنى ..... واسمهم للصّبّ في الحبّ نافع
المفردات :
السؤل : ما يسأل . واسمهم : أي وذكر اسمهم ينفع العاشق .
المعنى :
يتابع الجيلي إفهام السالك أهمية الأولياء في حياة المؤمن السالك العاشق ، يقول ؛ الأولياء في هذه الدنيا هم كل من يسأل ويطلب ويقصد ويتمنى . . .
بل أكثر من ذلك ، إن غابوا فذكر اسمهم فقط ينفع العاشق في حبّه ، لأن ذكرهم يوقظ الهمم ويحيى موات العادات .
( 261 ) هم الناس فالزم إن عرفت طريقهم ..... ففيهم لضرّ العالمين منافع
المفردات :
هم الناس : الأولياء على درجات مراتبهم هم فقط الناس . فالزم طريقهم : اتبعه .
المعنى :
يتابع الجيلي تعليمه في الأولياء والولاية ، فيرى أن الأولياء هم فقط الذين استحقوا اسم الناس في هذه الدنيا . ويقول للسالك ؛ فإن وفّقت إلى معرفتهم فلازمهم بالخدمة والصحبة . لأن الأولياء هم وحدهم النافعون حين يتنزّل القضاء بضر على العالمين . .
( 262 ) وإن جهلوا ، فانظر بحسن عقيدة ..... إلى كلّ من تلقاه بالفقر صادع
المفردات :
وإن جهلوا : وإن لم تعرف الأولياء ، وكانوا مجهولين لديك . بحسن عقيدة : حسّن اعتقادك . صادع : ظاهر .
المعنى :
يخاطب الجيلي السالك ناصحا ، وإن لم يسعفك الحظ بلقاء الأولياء ومعرفتهم ، فحسّن اعتقادك بكل من تراه ظاهرا بالزهد والصلاح .
( 263 ) وحافظ مواثيق الإرادة قائما ..... بشرع الهوى ، إن أنت في الحبّ شارع
المفردات :
مواثيق : ج . ميثاق وهو العهد ، وهنا الإشارة إلى العهد الذي يأخذه الشيخ المربي على مريده ، أو إلى العهد الذي يقطعه العبد على نفسه . بشرع الهوى : بما تمليه شريعة الهوى ، من حفظ القلب عن غير المحبوب ، ودوام ذكره ، والتفاني في طلبه . . . . شارع : بادىء .
المعنى :
يتابع الجيلي إرشاده السلوكي ، فيعلّم السالك كيف يجنّد كل طاقاته الإنسانية ليصل إلى مطلوبه . يقول ؛ حين طلبت الحقّ عزّ وجلّ تعهّدت إرادتك بمجاهدات
ورياضات ، فحافظ على هذه المواثيق . ثم أكثر من ذلك ، علّم نفسك وجاهدها وروّضها على شرع الهوى ، لأنك بذلك تضمن وفاءها بعهودها . والسبب أن وفاء العاشق بعهوده أيسر من وفاء الصالح المجاهد الملتزم .
( 264 ) وداوم على شرطين : ذكر أحبّة ..... وتسليك نفس بالخلاف تسارع
المعنى :
يحدد الجيلي للسالك شرطي الطريق الصوفي في حال فقدان المربي ، وهذان الشرطان يبينان كيف أن الجيلي يدمج طريقين كان التصوف قبله يفصلهما ، وهما : طريق المجاهدة وطريق العشق . يقول للسالك ؛ إن لم تجد وليا يربّيك فداوم على شرطين ، أولهما أن تذكر اللّه عزّ وجلّ ذكر عاشق واله ، وثانيهما أن تجاهد نفسك وتسلّكها في دروب المشاق ، لأن طبيعتها المسارعة إلى المخالفة والأمر بالسوء إذا غفلت عن مجاهدتها لحظة .
( 265 ) ولا تهملن ذكر الأحبّة لمحة ..... وداوم خلاف النّفس فهي تتابع
المفردات :
ذكر الأحبة : ذكر اللّه عزّ وجلّ . وداوم خلاف النفس : تابع مخالفة نفسك .
فهي تتابع : أي أن النفس تتابع في الأمر بالسوء والحضّ عليه .
المعنى :
يؤكد الجيلي هنا معنى البيت السابق ، وينصح السالك بأن يداوم على ذكر اللّه عزّ وجلّ في كل الأوقات ، وبأن لا يغفل لمحة عن نفسه لأنها تتابع مسيرتها في الأمر بالسوء والحض عليه .
.
يتبع