تاسعا شرح الأبيات من 403 إلى 448 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الرابع .شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 403 إلى 448 على مدونة عبدالله المسافر بالله
تاسعا الأبيات من ( 403 ) إلى ( 448 ) الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الرابع
(403) وخلّفت أهلي ، وهي نفسي تركتها ..... وجئت إلى النّور الّذي هو ساطع
(404) فناداني التّوحيد : نعليك دعهما ..... فها أنا ذا للرّوح والجسم خالع
(405) وكلّمني التّحقيق من شجر الحشا ..... بأنّي بالوادي المقدّس راتع
(406) فسرت بعقلي من فناء وجوده..... إلى مجمع البحرين ، والعقل تابع
(407) هناك نسيت الحوت وهو أنيّتي ..... فسبّح في بحر الحقيقة شارع
(408)على أثري ارتدّيت حتّى لقيت من ..... هو الأصل ، إذ نقش أنا وهو طابع
(409) فلمّا تعارفنا ولم تبق نكرة ..... طلبت اتّباعا كي يفوز متابع
(410) فأغرق في بحر الإله سفينتي ..... وخرّ غلام الشّرك إذ هو خادع
(411) وجاز بلاد اللّه قرية غربة..... وفيها لقلبي منحنى وأجارع
(412) أردنا إضافات ، أبوا أن يضيّفوا ..... لتسدل في وجه البدور براقع
(413) هناك جدار الشّرع خضري أقامه ..... لئلّا ترى بالعين تلك الشّرائع
(414) فإن فهمت أحشاك ما قلت مجملا ، ..... وإلّا فبالتّفصيل ما أنا صادع
(415) رأيت قيامي راجعا نحو ربّه ..... فقهقرت منّي للحبيب مراجع
(416) فعاينت أنّي كنت في العلم ثابتا..... وللحقّ علم الحقّ في الحكم تابع
(417) وبالعلم فالمعلوم أيضا فملحق ..... وليس لهذا الحكم في العقل رادع
(418) فحينئذ حقّقت أنّي نفحة..... من الطّيب ، طيب اللّه في الخلق ضائع
(419) وما النّشر غير المسك فافهم إشارتي..... بعيشك ، فالتّصريح للسّر ذائع
(420) فشاهدت ليلى في مرآة قيسها ..... وعاينت بشرا في بثينة ساطع
(421) ولا حظت في فعلي قضاء مرادها..... وأبصرت صنعي أنّها هي صانع
(422) تحرّكني مستورة بأنيّتي ..... وما سترها إلّا لما فيّ مانع
(423) وسلّمت نفسي حيث أسلمني القضا..... وما لي مع فعل الحبيب تنازع
(424) فطورا تراني في المساجد عاكفا ..... وأنّي طورا في الكنائس راتع
(425) أراني كآلالات وهو محرّكي ..... أنا قلم والاقتدار أصابع
(426) ولست بجبري ولكن مشاهد ..... فعال مريد ما له من يدافع
(427) فآونة يقضى عليّ بطاعة ..... وحينا بما عنه نهتنا الشّرائع
(428) لذاك تراني كنت أترك أمره ..... وآتي الذي ينهاه والجفن دامع
(429) ولي نكتة غرّا ، هنا سأقولها..... وحقّ لها أن ترعويها المسامع
(430) هي الفرق ما بين الوليّ وفاسق ..... تنبّه له ، فالسر فيه فظائع
(431) وما هو إلّا أنّه قبل وقعه ..... يخبّر قلبي بالّذي هو واقع
(432) فأجني الّذي يقضيه فيّ مرادها ..... وعيني له قبل الفعال تطالع
(433) وكنت أرى منها الإرادة قبل ما ..... أرى الفعل منّي ، والأسير مطاوع
(434) فآتي الّذي تهواه منّي ، ومهجتي ..... لذلك في نار حوتها الأضالع
(435) وإن كنت في حكم الشّريعة عاصيا ..... فإنّي في حكم الحقيقة طائع
(436) وكم ركبت نفسي من الهول مركبا ..... فيا درّها للّه كيف تصادع
(437) وكانت إذا قد هال أمر وعاينت ..... إرادة من تهوى ، أتته تسارع
(438) وكم جرّدوا للحرب فاستسلمت لها..... إرادته ، حتّى ازدرتها الوقائع
(439) وكم داسها نعل على أمّ رأسها ..... فلما تولّت ، أقبلت “وهي خاضع
(440) وكم كان صدري للنّبال عريضة..... وعرضي لسهم الطّاعنين مواقع
(441) وكم كنت أيضا للمراد مجرّدا ..... من الغمد سيفا للدّما وهو ناشع
(442) وكمّ هجت نارا للوغى بين عترتي..... وبيني وبين الغير والأمر شائع
(443) وكم قبّلت رجلي فم فضربتها ..... به عامدا إضرارها ومقاطع
(444) وكلّ الّذي آتيه ، آتيه ناظرا ..... لمثبته في اللوح ، إنّي تابع
(445) ولمّا مضى ليلي وولّت نجومه ..... وأشرق شمسي في الألوهة ساطع
(446) سلبت إرادتي وحولي وقوّتي ..... وكلّ وجودي والحيا والمجامع
(447) فنيت بها عنّي فما لي أنيّة ..... هويّة ليلى للأنيّات قامع
(448) وكنت كما إن لم أكن وهو أنّه..... كما لم يزل ، فرد وللكلّ جامع
شرح الأبيات :-
( 403 ) وخلّفت أهلي وهي نفسي تركتها ..... وجئت إلى النّور الّذي هو ساطع
المفردات :
وخلّفت أهلي : تركتهم ورائي . وفي ذلك إشارة إلى موسى عليه السّلام قال تعالى :قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ[ القصص : 29 ] .
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً[ طه : 10 ] .
وهي نفسي : الأهل هم رمز النفس ، فالجيلي هنا يترك نفسه قبل أن يندفع إلى النور الذي هو ساطع
المعنى :
لما صعد الجيلي طور قلبه وبدت له لوامع النور الإلهي ، ترك نفسه [ رمز الأهل ] واندفع بكليته للنور الذي هو ساطع .
( 404 ) فناداني التّوحيد نعليك دعهما ..... فها أنا ذا للرّوح والجسم خالع
المفردات :
نعليك : النعلان هنا كناية عن الروح والجسم ، ويقابلهما في قصة موسى عليه السّلام قوله تعالى :فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى ..... إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً[ طه : 11 و 12 ] . خالع : تارك .
المعنى :
إن توحيد اللّه عند الجيلي يفرض عليه ويناديه أن يترك روحه وجسمه [ رمز النعلين ] ، وذلك حتى يصبح موحّدا حقيقيا .
فالموحد هو الذي يخلع عنه وجود روحه ووجود جسمه ليصبح وجودا صرفا للّه .
بعد أن ترك الجيلي نفسه في البيت السابق وسارع إلى النور الساطع ، إذا بنداء التوحيد يدعوه إلى خلع روحه وجسمه أيضا ، فيسارع الجيلي إلى تركهما حتى يدخل الوادي المقدس مبرّأ عن النفس والروح والجسم .
( 405 ) وكلّمني التّحقيق من شجر الحشا ..... بأنّي بالوادي المقدّس راتع
المفردات :
وكلمني التحقيق : التحقيق إشارة إلى تحقق الجيلي بالتوحيد ، حيث أصبح موحدا للّه تاركا لنفسه ولبدنه ولروحه . . .
ويقابله في قصة موسى قوله تعالى :وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً[ النساء : 164 ] .
من شجر الحشا : الشجر موجود في الآفاق ، والحشا هو الأعماق . ففي عطفهما يكون تكليم التحقيق للجيلي إما من داخل الحشا أي من جانب الروح ، وإما أن الحشا شجر أمام ناظريّ الجيلي . . .
ويقابل شجر الحشا شجرة موسى في قوله تعالى :فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [ القصص : 30].
المعنى :
بعد أن تحقق الجيلي بالتوحيد وأصبح موحّدا مخلّصا من شوائب النفس والروح والجسم ، كلّمه التحقيق من جانب الروح وعرّفه بأنّه الآن في الوادي المقدس يتنعم .....
واد تقدّس أن تدوسه “ أنا “ ، سواء تمثلت في نفس أو في روح أو في بدن .
( 406 ) فسرت بعقلي من فناء وجوده ..... إلى مجمع البحرين والعقل تابع
المفردات :
إلى مجمع البحرين : مجمع البحرين إشارة إلى بحري العلوم الكشفية والعلوم الكسبية أو العلم العقلي والعلم اللدني . . . والترميز من قصة موسى عليه السّلام ،
يقول تعالى :وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً[ الكهف : 60 ]
والعقل تابع : المعرفة العقلية تابعة للمعرفة اللدنية .
المعنى :
بعد أن وحّد الجيلي ربّه وترك للتوحيد نفسا وروحا وجسما ، سار بعقله من فناء العلوم العقلية إلى مجمع بحريّ العلوم العقلية والعلوم الكشفية . . .
والعقل في الواقع هو تابع يتتبّع استدلالاته المنطقية في البداية ، وحين تتضح له وتتكشف معاني العلوم اللدنية لا يملك لها إلا اتباعا ، كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام ،
ففي البداية تتبّع موسى عليه السلام استدلالات تفكيره العقلي ، وحين كشف له الخضر عليه السّلام عن أسرار هذه المظاهر ، سكت العقل واتّبع .
( 407 ) هناك نسيت الحوت وهو أنيّتي ..... فسبّح في بحر الحقيقة شارع
المفردات :
الحوت : الحوت في قصة موسى وفتاه هو بقية سمكة كانت طعامهما . أنيتي : وجودي المحسوس العيني . فسبح : من السباحة ، والإشارة هنا إلى قصة موسى عليه السّلام، التي وردت في قوله تعالى :فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً[الكهف : 61].
المعنى :
وكما كان نسيان الحوت عند مجمع البحرين علامة لموسى فرجع إلى حيث التقى بالخضر . كذلك كان نسيان الأنية [ رمز الحوت ] للجيلي عند مجمع بحري العلوم الكشفية الذوقية والعلوم الكسبية العقلية هو علامة ليرجع إلى مجمع البحرين الذي هو مكان اللقاء الموعود .
( 408 ) على أثري ارتدّيت حتّى لقيت من ..... هو الأصل إذ نقش أنا وهو طابع
المفردات :
على أثري ارتديت : رجع الجيلي إلى حيث نسي أنيته في مجمع البحرين ، والترميز من قصة موسى عليه السّلام التي وردت في قوله تعالى :قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ..... قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً[ الكهف : 63 و 64 ] .
حتى لقيت من هو الأصل : إشارة إلى لقاء الجيلي بالإنسان الكامل أي النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، والذي على صورته الصفاتية والخلقية ينتقش كل كامل كالجيلي وغيره . والاستفهام من قصة موسى عند لقائه الخضر
قال تعالى :فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [ الكهف : 65 ]
المعنى :
بعد أن نسي الجيلي أنيّته عند مجمع البحرين ، وكان هذا النسيان هو علامة اللقاء الموعود ، رجع إلى مجمع البحرين إلى حيث نسي الأنية.
وهناك لقي الجيلي من هو أصل وجوده الروحي الكامل وأصل الوجود الديني لكل مسلم .
وهو الأصل الذي على صورته الصفاتية والخلقية طبع الجيلي وكل كامل في الإسلام . . .
هذا الأصل هو الكامل الأول ، الكامل بالذات الممد بالكمال الصفاتي لكل تابع ، وهو النبي صاحب الشريعة صلّى اللّه عليه وسلم
( 409 ) فلمّا تعارفنا ولم تبق نكرة ..... طلبت اتّباعا كي يفوز متابع
المفردات :
طلبت اتباعا : طلب الجيلي اتباع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ويقابله طلب موسى متابعة الخضر :قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً[ الكهف : 66 ] .
كي يفوز متابع : تأكيد على أن العلم الإلهي ينال بالإتّباع والتعليم وليس بالإستنباط العقلي .
المعنى :
فلما توضحت المراتب وتميز المتبوع من التابع ، طلب الجيلي اتباع النبي صلّى اللّه عليه وسلم . . .
وذلك أن الإنسان لا يفوز بالعلم اللدني إلا بالاتباع النبوي لأنه علم لا يستنبط بالتفكير العقلي والإستدلال والاستقراء بل هو رزق إلهي يقسمه اللّه عزّ وجلّ للعبد المتقي ،وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[ البقرة : 282 ] .
والتقوى اتباع نبوي ، فالبشر لا يعلمون مراد اللّه عزّ وجلّ منهم إلا بإعلام النبي لهم ، ولا يصلون إلى رضى الحق عزّ وجلّ ومحبته إلا باتباع النبي صلّى اللّه عليه وسلم .قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ[ آل عمران : 31]..
( 410 ) فأغرق في بحر الإله سفينتي ..... وخرّ غلام الشّرك إذ هو خادع
المفردات :
فأغرق في بحر الإله سفينتي : فأغرق النبي صلّى اللّه عليه وسلم - الأصل الطابع - في بحر الإله سفينة الجيلي . والمرجعية الرمزية هي قصة موسى وخرق الخضر للسفينة .
قال تعالى :فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. [ الكهف : 71 ] .
وخرّ غلام الشرك : الإشارة إلى قتل الخضر للغلام :فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً[ الكهف : 74].
المعنى :
فأغرق النبي صلّى اللّه عليه وسلم في بحر الإله سفينة الجيلي ، وهذا الفعل الرمزي هو تعليم للجيلي بألا يطلب السلامة في بحر الحب الإلهي هذا من ناحية .
ومن ناحية ثانية إن خرق السفينة هو رمز لخرق الأسباب وبالتالي تعليم للجيلي بألّا يتوكل على الأسباب فقط ، بل يداخل بين المشيئة الإلهية والأسباب البشرية .
أما غلام الشرك فهو إشارة إلى الوجود الإنساني ؛ فعندما يسلّم الإنسان وجوده للإرادة الإلهية يكون بذلك قد قتل غلام الشرك في أعماقه ، ولم يبق فيه وجود يشارك اللّه وينازعه الإرادة والمشيئة .
وفي كل الأحوال يظن الإنسان - وهو مخدوع - بأن في الوجود إرادتين ومشيئتين ، ويغيب عن معنى قوله تعالى :وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ[ الإنسان : 30 ].
( 411 )وجاز بلاد اللّه قرية غربة ..... وفيها لقلبي منحنى وأجارع
المفردات :
وجاز بلاد اللّه قربة غربة : الإشارة إلى قصة موسى والخضر الواردة في قوله تعالى :فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ[ أي الخضر عليه السّلام ] [ الكهف : 77 ] .
المعنى :
بعد أن قطع الجيلي حبل الأسباب ، وقتل في أعماقه غلام الشرك بدأت مسيرته في بلاد اللّه .
( 412 ) أردنا إضافات ، أبوا أن يضيّفوا ..... لتسدل في وجه البدور براقع
المفردات :
أبوا : أبى أهل القرية .
المعنى :
بعد أن جاز الجيلي بلاد اللّه بصحبة النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، أتيا قرية واستطعما أهلها فأبى أهل القرية أن يضيفوا الجيلي . . . حدث رمزي يجد تفسيره في أن الحقائق لا تقال ، تعلم ولا تقال .
فما من متحقق وأصل يضيّف سالكا ويطعمه من أقوال الحقيقة . . . وهكذا تظل بدور الحقائق مستترة في الوجدان تتكشف للبيان من خلف ستور الألفاظ الشرعية .
( 413 ) هناك جدار الشّرع خضري أقامه ..... لئلّا ترى بالعين تلك الشّرائع
المفردات :
جدار الشرع خضري أقامه : إقامة جدار الشرع على كنوز الشريعة يقابله إقامة الخضر عليه السّلام للجدار . خضري : خضر الجيلي هو النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فكأنه يريد أن يقول : نبيي .
المعنى :
كما أن الكنز الذي أقام عليه الخضر الجدار كان يخص قصارا أراد اللّه عزّ وجلّ أن يبلغا أشدّهما قبل ظهوره .
كذلك فإن الشرائع كنوز لن يستطيع الإنسان الاستفادة منها وصيانتها إلا إذا بلغ أشدّه .
لذلك ، فالنبي صلّى اللّه عليه وسلم أقام جدار الشرع على كنوز الشريعة ، حتى يبلغ الإنسان العابد العامل أشدّه ويتنعّم بكنوز الشريعة ...
وكثيرا ما دافع الصوفية عن مقولة أن العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ، وإن كانت في البداية تكليفا وعبئا ومشقة ، إلا أن الإنسان إذا بلغ أشدّه في العبادات ، تمتّع بها وسقط عنه الإحساس بأنها عبء وتكليف ومشقة وأصبحت لديه قرّة عين وتنّعم ونعيم .
( 414 ) فإن فهمت أحشاك ما قلت مجملا ، ..... وإلّا فبالتّفصيل ما أنا صادع
المفردات :
مجملا : الإجمال ، هو جمع المعاني المتعددة في قول واحد ، جمعا يكون أقرب إلى الرموز والإشارات منه إلى البيان . ما أنا صادع : ما أنا قائل .
المعنى :
هنا أنهى الجيلي رموزه الموسوية : لقاؤه بشعيب ، تدريبه وإعداده ، ثم تقريبه وتكليمه ، ثم لقاؤه بالخضر وتكشف العلم اللدني ...
لذلك يطلب من القارئ أن يفتح مغاليق الألفاظ ، ولا يطمع من الجيلي بالتفصيل والتصريح في القول .
( 415 ) رأيت قيامي راجعا نحو ربّه ..... فقهقرت منّي للحبيب مراجع
المفردات :
قيامي : وجودي ، الموجود القائم . فقهقرت مراجع : رجعت القهقرى .
المعنى :
بعد التحضير والتكوين ، والتقريب ، والتكليم ، والتفهيم ، والتعليم ، يتقدم الجيلي ليعلم مقامه في مراتب الوجود ويشاهده ، فيرى ويشهد أن وجوده وقيامه يعود إلى الحق عزّ وجلّ ...
فيتراجع عن وجوده ، ويتقهقر أمام الوجود الإلهي القاهر الذي يفني خلقه .
( 416 ) فعاينت أنّي كنت في العلم ثابتا ..... وللحقّ ، علم الحقّ في الحكم ، تابع
المفردات :
فعاينت : رأيت بالعين . في العلم : في العلم الإلهي . ثابتا : حكم الوجود الإنساني في العلم الإلهي هو الثبوت ، وهو نوع من وجود ماهوي في مقابل وجودنا العيني الملموس في العالم . وللحق ، علم الحق في الحكم ، تابع : أي أن علم الحق يتبع الحق عزّ وجلّ في الحكم .
وهنا يخالف الجيلي جزئيا موقف ابن العربي الذي يرى أن العلم يتبع المعلوم .
المعنى :
حين شهد الجيلي أن وجوده يرجع إلى الحق ، عاين أنّه ماهية ومعنى ثابت في العلم الإلهي . وبما أن الإنسان صفته الثبوت في العلم الإلهي فهو لا يملك ذاته ملكية ذاتية ، بل يعود بوجوده إلى اللّه ، لأن العلم يتبع العالم .
( 417 ) وبالعلم فالمعلوم أيضا فملحق ، ..... وليس لهذا الحكم في العقل رادع
المفردات :
فالمعلوم أيضا فملحق : المعلوم يلحق أيضا العلم ، أي أن المعلوم يظهر في العالم على الحال التي كان عليها ثابتا في العلم الإلهي .
في العقل رادع : ما يمنعه العقل .
المعنى :
بعد أن شاهد الجيلي تبعيّة العلم الإلهي للّه ، يرى هنا أن المعلوم ملحق بالعلم . . . وليس هناك من مانع عقلي يمنع الجيلي من اعتقاد هذا الشهود الذي ملخصه : إن المعلوم - وهو هنا المخلوق - يتبع العلم الإلهي ، والعلم الإلهي بدوره يتبع الحق فكل شيء إذن للحق تابع .
( 418 ) فحينئذ حقّقت أنّي نفحة ..... من الطّيب ، طيب اللّه في الخلق ضائع
المفردات :
فحينئذ : حين عاينت ثبوتي في العلم الإلهي وتبعيّتي في الظهور لهذا العلم . ضائع : منتشر .
المعنى :
حين عاين الجيلي ثبوته في العلم الإلهي، وتحقق أنه في ظهوره تابع لهذا الثبوت، تأكد لديه أنه نفحة من الطيب الإلهي المنتشر في المخلوقات.
( 419 ) وما النّشر غير المسك فافهم إشارتي ..... بعيشك ، فالتّصريح للسّر ذائع
المفردات :
النشر : رائحة المسك . بعيشك : قسم بمعنى أحلّفك بعيشك . للسر ذائع : يذيع السر .
المعنى :
يخاطب الجيلي السامع بقوله ؛ وهل رائحة المسك غير المسك ؟ ! افهم أيها السامع إشاراتي هذه ، فإنها من الأسرار . وأنا لن أصرح لك بالقول ، لأن التصريح يذيع الأسرار .
( 420 ) فشاهدت ليلى في مرآة قيسها ..... وعاينت بشرا في بثينة ساطع
المفردات :
ليلى ، بثينة : رمز المحبوبة المعشوقة لقيس ، بشر : رمز المحب العاشق . ساطع : ظاهر .
المعنى :
وحين تحقق الجيلي من أن رائحة المسك ليست غير المسك ، شاهد المحبوب في مرآة المحبّ ، وعاين المحبّ ظاهرا في المحبوب .
( 421 ) ولا حظت في فعلي قضاء مرادها ..... وأبصرت صنعي أنّها هي صانع
المفردات :
في فعلي : في جميع أفعالي . قضاء مرادها : إني أنفذ الإرادة الإلهية . أنها هي صانع : إن الحق هو الصانع الحقيقي والفاعل الحقيقي من خلف حجاب الكائنات .
المعنى :
ولاحظ الجيلي أنه في جميع أفعاله إنما هو ينفذ مراد الإرادة الإلهية . . . وأبصر أن الحقّ تعالى هو الصانع وهو الفاعل الحقيقي من خلف حجاب فعل الكائنات .
( 422 ) تحرّكني مستورة بأنيّتي ..... وما سترها إلّا لما فيّ مانع
المفردات :
تحركني : أي الإرادة الإلهية . مستورة بأنيتي : من خلف حجاب وجودي الملموس . مانع : أي ما يمنع الإرادة الإلهية من الظهور للعيان .
المعنى :
ويرى الجيلي أن الإرادة الإلهية هي التي تحركه من خلف حجاب وجوده الملموس ....
وما انحجابها عن الظهور للعيان إلا لأشياء - أو لأمور - به منعتها من الظهور وحجبتها .
( 423 ) فسلّمت نفسي حيث أسلمني القضا ..... وما لي مع فعل الحبيب تنازع
المفردات :
تنازع : لا أنازع أفعال الحق ، أي لا فعل لي .
المعنى :
يتابع الجيلي كلامه في وحدة الإرادة في الكون ، فيقول ؛ سلمت نفسي للقضاء الإلهي ليقضي فيّ بما يشاء . . . فأنا لا أنازع الحبيب أفعاله ، وليس لي فعل مع فعل اللّه تعالى .
( 424 ) فطورا تراني في المساجد عاكفا ..... وأنّي طورا في الكنائس راتع
المفردات :
المساجد : يرمز الجيلي هنا بالمساجد إلى أماكن العبادة الشرعية الإسلامية ، فالمسجد رمز الطاعة والعبادة والعمل للآخرة .
الكنائس : يرمز الجيلي هنا بالكنائس : إما إلى أماكن عبادة المسيحيين الشرعية ، وإنه على الرغم من أنه لا يحق للمسلم مشاركتهم عباداتهم الشرعية ، إلا أنه كلّما ذكر اللّه أمامه ، وإن كان الذاكر واحدا من أهل الكتاب ، فإنه يتنّعم بذكر اللّه.
وإما يرمز الجيلي بالكنائس هنا إلى التنعّم بالملاهي والرتع في الدنيا .
المعنى :
يقول الجيلي إنه طورا يعتكف في المساجد يتعبد اللّه عزّ وجلّ ، وطورا يتنعم في الكنائس بذكر اللّه عزّ وجلّ ، لأن المذكور واحد وإن تعددت اللغات .
أو لعله يقصد أنه يتنعم في الكنائس بحمد اللّه عزّ وجلّ على نعمة الإسلام وسلامة العقيدة .
وهنا يلامس الجيلي قضية هامة ، فالمسلم لا يستطيع أن يتعبد اللّه عزّ وجلّ إلا بشريعة محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، إلا أنه كمؤمن باللّه عزّ وجلّ وبكتبه وبرسله ، يمكن أن يتنّعم بذكره تعالى كلّما ذكره الذاكرون على اختلاف شرائعهم الإلهية المنزلة ، وعلى تنوّع أماكن وجودهم ، أي يتنعّم المؤمن بذكر اللّه عزّ وجلّ أيّا كان الذاكر وأينما كان الذكر.
( 425 )أراني كآلالات وهو محرّكي ..... أنا قلم والاقتدار الأصابع
المفردات :
وهو : أي الحق عزّ وجلّ . الاقتدار : القدرة الإلهية .
المعنى :
يخبرنا الجيلي بأنه للحبيب ، يفعل به ما يشاء ، ويجعله حيث يشاء ، حتى صار يرى نفسه كآلة يحركها الحق عزّ وجلّ ، أو كقلم ولكنه ممسوك بأصابع القدرة الإلهية تكتب به ما تشاء .
( 426 ) ولست بجبري ولكن مشاهد ..... فعال مريد ما له من يدافع
المفردات :
ولست بجبري : لا أعتقد كما يعتقد اتباع الفرقة الجبرية الذين يقولون بأن الإنسان مجبر في كل أفعاله ولا قدرة له أصلا ، والذين يتهمهم الصوفية بأنهم بذلك يحملون الإرادة الإلهية عبء ووزر أفعالهم الإنسانية .
مشاهد فعال مريد : أطلعني الحق عزّ وجلّ وأشهدني مراد إرادته قبل وقوع هذا المراد في عالم الظاهر والشهادة .
ما له من يدافع : أفعاله عزّ وجلّ لا يدفعها دافع ولا يمنعها مانع ، قال تعالى :إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[ يس : 82 ] .
المعنى :
ينبهنا الجيلي إلى أنه لا يحب أن يتبادر إلى ذهننا من كلامه أنه من أتباع الفرقة الجبرية ، بل هو صاحب إرادة ويتمتع بإرادة ، إلا أنه كشف عن عين بصيرته فشاهد أن أفعال المريد عزّ وجلّ نافذة في الخلق جميعا لا يمنعها مانع ، فسكن أمام هذا الشهود واستسلم لإرادة المريد عزّ وجلّ.
( 427 ) فآونة يقضى عليّ بطاعة ..... وحينا بما عنه نهتنا الشّرائع
المفردات :
يقضي عليّ : يلمّح الجيلي هنا إلى أن طاعة اللّه عزّ وجلّ ومعصيته إنما هما بقضاء إلهي .
المعنى :
فأحيانا يقضي اللّه عزّ وجلّ على الجيلي بالموافقة والطاعة ، وحينا يكون قضاؤه تعالى المعصية والمخالفة …
والجدير بالإنتباه هنا أن الجيلي لا يربط المعصية بالإرادة الإلهية ، فاللّه عزّ وجلّ لا يريد معصية عبده ولكن قد يقضي عليه بمعصية . . .
والقضاء بلاء وامتحان إلهي للعبد ، وعلى العبد أن يعرف كيف يتحمل البلاء على ضوء الشريعة الإلهية ، فيشكر في النعم والطاعة ويستغفر في المحن والمعصية ، حتى يبدّل اللّه عزّ وجلّ الحال إلى أحسن الحال .
( 428 ) لذاك تراني كنت أترك أمره ..... وآتي الذي ينهاه والجفن دامع
المفردات :
أترك أمره : التكليفي ، أي الأوامر الشرعية . وآتي الذي ينهاه : أي النواهي الشرعية ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أقطاب الصوفية أمثال الجيلي ينظرون أحيانا إلى المباحات على أنها ذنوب وسيئات وكثيرا ما يرددون هذه المقولة الصوفية : “ حسنات الأبرار سيئات المقربين “ .
المعنى :
وحين كان يبتلي الحق عزّ وجلّ الجيلي ويقضي عليه بمعصية ( كأن يتخلف مثلا عن وقت صلاة أو غيرها ) ، كان يترك الطاعة ويأتي المعصية وجفنه يدمع .
وهذه الدموع هي علامة على أن قلب الجيلي لا يستهتر بالذنب بل هو حزين لأن الحق عزّ وجلّ جعله محلا للذنب ، وعلامة أيضا على أن قلب الجيلي لا يلتفت إلى الذنب متلذذا به بل العكس يلتفت من ظلمة الذنب إلى الغفار يطلب المغفرة والعفو ويطلب تبديل الحال .
( 429 ) ولي نكتة غرّا ، هنا سأقولها ..... وحقّ لها أن ترعويها المسامع
المفردات :
نكتة غرا : إشارة غراء . وحق لها : يحق لها وتستحق . ترعويها : ارعوى عن القبيح بمعنى انزجر عنه وتركه ، وحيث أن المعنى هنا لا ينسجم مع الانزجار والترك فلعل الجيلي قد نحت لفظا من كلمتين دمجهما معا ، وهاتان الكلمتان هما الفعلان : “ رعى “ و “ وعى “ ، فأصبحت ترعويها بمعنى : ترعاها وتعيها .
المعنى :
عندما تكلم الجيلي عن الذنب الذي يصيب الولي يقول للقارئ ؛ وأريد هنا أن أنبهك إلى قضية أو إلى إشارة وعليك أن ترعاها وتعيها.
( 430 )هي الفرق ما بين الوليّ وفاسق ..... تنبّه له ، فالأمر فيه بدائع
المفردات :
هي الفرق : هذه النكتة أو هذه الإشارة هي التي تفرّق . وفاسق : يجد الجيلي أن الفسق معناه الفساد ، فيقال فسقت البيضة إذا فسدت ولم تصلح للتفريح . بدائع : معان مبتدعة ومبتكرة .
المعنى :
يكمل الجيلي هنا حديثه مع القارئ ، وبعد أن قال له في البيت السابق أريد أن أنبهك إلى قضية هامة وعليك أن تعيها ، يقول له هنا ؛ إن هذه القضية الهامة هي التي تفرّق بين إنسان هو ولي من أولياء اللّه وبين آخر هو فاسق من الفسّاق .
فتنبّه إلى هذه الإشارة لأنني سآتيك بمعان مبتكرة مبتدعة لم ينبّه عليها قبلي إنسان . وهذه الإشارة سيفصّلها الجيلي في الأبيات اللاحقة .
ونستأنس هنا بما قاله في كتابه الإنسان الكامل عن الموضوع نفسه ، لنقول ؛ إنّ الجيلي يؤكد على ظاهر الفعل في الإنسان ولا يقبل أبدا أن يحتجّ الفاعل للمعصية بأنه مسلوب الحول والقوة والإرادة .
بل يقول صراحة إنه لو أتى إنسان فعلا يخالف الأمر والنهي الإلهي ومهما كانت رتبة هذا الإنسان ، فليس لنا أن ننظر في صدقه مع اللّه أو كذبه على الناس ، بل يلزم علينا أن نقيم عليه الحد إن افترض فعله إقامة الحد . وطبعا إقامة الحد على العاصي لا تتنافى مع تسليمنا بصدقه إن كان صادقا ، ولكن اعتقادنا بصدقه لا يسقط عنه الحد [ راجع الإنسان الكامل ج 1 / ص43 ،ص 35].
.
يتبع