تاسعا شرح الأبيات من 357 إلى 402 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الثالث .شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 357 إلى 402 على مدونة عبدالله المسافر بالله
تاسعا الأبيات من ( 357 ) إلى ( 402 ) الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الثالث
(357) ولي في هواها هتكة وتبدّد ..... على أنّه لي من نواها مصارع
(358) جعلت افتقاري في الغرام وسيلتي..... ويا ضعف مشفوع له الفقر شافع
(359) وجئت إليها راغبا ، لا مثوبة ..... ولكن لها منّي إليها أسارع
(360) سكنت الفلا مستوحشا من أنيسها ..... ومستأنسا بالوحش وهي رواتع
(361) أنوح فيشجيني حمام سواجع..... وأبكي فيحكيني غمام هوامع
(362) ولي ، إن عوى ذئب على فقد إلفه ..... زفير ، له في الخافقين صدائع
(363) وإن غرّدت قمريّة فوق أيكة ..... تجاوب قمريّا على البان ساجع
(364) فإنّ لأنّاتي وتأويه لوعتي..... بتلك الفيافي في الظّلام تراجع
(365) وبي من مريض الجفن سقم مبرّح ..... ولي في عصيّ القلب دمع مطاوع
(366) نحلت من الآلام حتّى كأنّني ..... مقدّر مفروض ، وما هو واقع
(367) فلو نقط الخطّاط حرفا كهيكلي ..... على سطح لوح ما رآه مطالع
(368) فجسمي وأسقامي محال وواجب ..... ودمعي وخدّي أحمر وفواقع
(369) أسائل من لاقيت والدّمع سائل ..... عن الجزع “والسّكّان والقلب جازع
(370) تحارب صبري والكرى فتفانيا..... وسالم قلبي الحزن فهو مبايع
(371) وقد قيّدت بالنّجم أهداب مقلتي ..... كما أطلقت عن قيدهنّ المدامع
(372) وأسقط قدري في الهوى شنعة الهوى ..... وعندي أنّ العزّ تلك الشّنائع
(373) وكم مرّ بي من كنت أرفع قدره ..... كأنّي له من بعد ذلك واضع
(374) وينكف أن ألقاه بي متطّيرا ..... وما هو إن حيّيته لي سامع
(375) فما لي في الأحياء ما عشت صاحب ..... وما لي حقّا لو أموت مشايع
(376) وما لي إن حدّثتهم من مجاوب ..... ولا إن دهاني الخطب فيهم مدافع
(377) كأن لم أكن في الحيّ أرفع أهله ..... مكانا وقدري في المكانة مانع
(378) ذللت إلى أن خلت أنّي لم أزل ..... أذلّهم قدرا ، فها أنا خاضع
(379) وأحسب أنّ الأرض تنكف أن ترى ..... ولي في ثراها مذهب ومشارع
(380) رعى اللّه إخوانا رعين مودّتي..... فهنّ لقلبي ، حيث كان توابع
(381) نعم وسقى وجدا مدى الدهر مؤنسي ..... فكم لك يا وجدي عليّ صنائع
(382) ويا زفراتي فاصعدي وتنفّسي ..... فقد هبطت من جفن عيني المدامع
(383) ويا كبدي في الحبّ ذوبي صبابة ..... ويا كمدي دم ، إنّني لك تابع
(384) ويا جسدي هل فيك من رمق ، فما..... أراك سوى بالوهم عندي مطالع
(385) ويا مهجتي والرّسم منك فدارس..... ويا طلل الأحشاء فجعك صادع
(386) ويا جفني المقروح قد فني الدّما ..... ويا قلبي المجروح هل أنت فازع
(387) ويا ذاتي المعدوم هل لك بعثة..... ويا صبري الموهوم هل أنت راجع
(388) ويا خفقان القلب زدني كآبة ..... ويا نار وجدي قد ، جفتني الأضالع
(389) ويا نفسي الحرّاء موتي تلهّفا ..... فما لك في دين المحبّة شافع
(390) ويا روحي المتعوب صبرا على البلا..... ويا عقلي المسلوب هل أنت والع
(391) ويا ما بقي في الوهم منّي وجوده ..... عدمتك شيئا وقعه متمانع
(392) ويا سقمي زدني أسى وتبدّدا..... فليس لضري غير سقمي نافع
(393) ويا عاذلي كرّر ، فإنّي وإنّ أكنّ ..... إلى العذل لا أصغي فللذّكر سامع
(394) ويا قاضيا في الحبّ يقضى بعدله ..... تحكّم بجور إنّني لك طائع
(395) جعلت وجودي فانيا في بقائها..... ألا فاقض ما تقضي ، فما أنا جازع
(396) وحقّقت أنّي في وجودي قائم ..... بها ، ووجودي مكرة ومخادع
(397) فمن مصر أرضي قد خرجت لمدين ..... لعلّ شعيب القلب فيه صدائع
(398) فلاقيت بنتي عادتي وطبيعتي..... تذودان أغنامي ومائي نابع
(399) فسقّيت من الماء اليقين غنائمي ..... ومن رعي زهر العلم هنّ شوابع
(400) وجاءت على استحياء ذاتي بربّها ..... بتوحيدها ، إحداهما وتسارع
(401) فلمّا تزوّجت الحقيقة صنتها ..... وأمهرها مني الحماة الشرائع
(402) صعدت معالي طور قلبي مناجيا ..... لربّي حتّى إن بدت لي لوامع
شرح الأبيات :-
( 357 ) ولي في هواها هتكة وتبدّد ..... على أنّه لي من نواها مصارع
المفردات :
هتكة وتبدد : تمزّق وتشتّت ، وهنا إشارة إلى الفناء الصوفي . من نواها : من هجرها . مصارع : جمع مصرع ، أي مقتل .
المعنى :
يخبرنا الجيلي أن حبّه للحضرة الإلهية يمزّق صحوه ، ويشتت رصانته ، ويفني حضوره ، فيهيم وجدا ويغيب عن شهود ذاته وعن الإحساس بها . . . ولكن ، وإن كان الحب يمزّقه ويبدده ، فإنه لا غنى له عنه ، لأن البعد يقتله ويصرعه .
( 358 ) جعلت افتقاري في الغرام وسيلتي ..... فيا ضعف مشفوع له الفقر شافع
المفردات :
وسيلتي : وسيلتي إليها وشافعي لديها . فيا ضعف : وما أضعف ، ومن أضعف من ...
المعنى :
يقول الجيلي مغنيا ضعفه ، توسلت وتشفعت في غرامي بافتقاري إليها . . . ومن أضعف من إنسان يشفع له الفقر ، ويتشفع بالفقر ؟!
( 359 ) وجئت إليها راغبا لا مثوبة ..... ولكن لها منّي إليها أسارع
المفردات :
راغبا : طالبا لها بالذات . لا مثوبة : لا رغبة بثواب ، بمعنى : لم أطلبك يا رب طمعا .
المعنى :
يوضح الجيلي أنه طلب الحضرة الإلهية لذاتها لا لثواب ، وكأنه هنا يرجع أقوال السيدة رابعة : “ ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، ولكنك أهل للعبادة فعبدتك “ ...
وقولها أيضا : “ أحبّك حبّين : حب الهوى ، وحبا لأنك أهل لذاك “ . . .
ويضيف الجيلي هنا بأن طلبه للحضرة الإلهية هو طلب عفويّ ، تسارع إليه أعماقه ، دون قصد أو تعمّل ، دون رياضة أو مجاهدة ...
أعماق عاشقة أخرجها الحب عن ذاتها إلى محبوبها .
( 360 ) سكنت الفلا مستوحشا من أنيسها ..... ومستأنسا بالوحش وهي رواتع
المفردات :
الفلا : الفلاة ، الصحراء . من أنيسها : من أنيس الدنيا ، أي من ناس الدنيا . بالوحش : جماعة الوحوش . رواتع : ترتع في الفلاة .
المعنى :
يغنّي الجيلي وحشته بين الناس ، وأنسه في خلوة الفلاة ، يقول ؛ سكنت البراري والصحارى مستوحشا من ناس الدنيا ، ومستأنسا بوحش الفلاة الذي يرتع من حولي .
( 361 ) أنوح فيشجيني حمام سواجع ..... وأبكي فيحكيني غمام هوامع
المفردات :
فيشجيني : فيواسيني . حمام سواجع : سجع الحمام . فيحكيني : فيقلدني .
غمام هوامع : سحاب ممطر .
المعنى :
يفصّل الجيلي أنسه في الفلاة بالطير والمطر ، يقول ؛ أنوح ويعلو صوت بكائي فيواسيني سجع الحمام . . . وأبكي ، تنهمر دموعي فيقلدني سحاب ممطر .....
وهكذا في الفلاة ينوح الجيلي فينوح لنوحه الحمام ، ويبكي فيبكي لبكائه السحاب . . . وهذا هو الأنس الحقيقي ، فالأعماق لا تسكن وتأنس إلى من يشاركها المكان بل إلى من يشاركها الهمّ والأشجان .
( 362 ) ولي إن عوى ذئب على فقد إلفه ..... زفير ، له في الخافقين صدائع
المفردات :
في الخافقين : في الآفاق . صدائع : ترجيع وصدى قوي .
المعنى :
يكمّل الجيلي تصوير استئناسه بجماعة الوحوش ، فيقول ؛ إن سمعت عواء ذئب على فقد إليفه تذكّرت غرامي ، فتنهدت بزفير دوّى في الآفاق صداه ورجعه .
( 363 ) وإن غرّدت قمريّة فوق أيكة ..... تجاوب قمريا على الآيك ساجع
المفردات :
قمرية : طائر يشبه الحمام القمر الأبيض . أيكة : نوع من الشجر .
البان : شجر يسمو ويطول .
المعنى :
وإن تجاوب قمري وقمرية في السجع والتغريد ....
( 364 ) فإنّ لأنّاتي وتأويه لوعتي ..... بتلك الفيافي في الظّلام تراجع
المفردات :
لأناتي : جمع أنّة ، والأنّة والأنين بمعنى واحد . تراجع : صدى .
المعنى :
إن تجاوب قمري وقمرية في السجع والتغريد ، يرجّع صدى تغريدهما في تلك الفيافي صوت أنين الجيلي وتأوهاته .
( 365 ) وبي من مريض الجفن سقم مبرّح .... ولي في عصيّ القلب دمع مطاوع
المفردات :
من مريض الجفن : إنني أشبه مريض الجفن بمرضه الشديد ، والصورة ليعبر الجيلي بها عن أوجاع أجفانه . دمع مطاوع : والدمع يطاوع باستمرار على الرغم من أوجاع أجفاني .
المعنى :
ومن كثرة البكاء حلّت بأجفان الجيلي آلام مبرحة فأشبه مريض الجفن . . . ومحبوبه عصيّ القلب لا يطاوع ، ولا يطاوعه إلا دمعه ، فها هو لا يزال ينهمر باستمرار على الرغم من أوجاع أجفانه .
( 366 ) نحلت من الآلام حتّى كأنّني ..... مقدّر مفروض ، وما هو واقع
المفردات :
نحلت : أصبحت نحيل الجسم . كأنني مقدر مفروض : كأنني لشدة نحولي فارقت عالم الواقع الملموس وأصبحت كالأمور المفروضة أو المقدرة .
المعنى :
ولكثرة ما يلاقي . الجيلي من آلام الوجدان نحل جسمه ، ولشدة نحوله يشعر كأنه فارق عالم الأمور الواقعة الملموسة ، وأصبح ينتسب إلى عالم الأمور المقدّرة أو المفروضة .
( 367 ) فلو نقط الخطّاط حرفا كهيكلي ..... على سطح لوح ، ما رآه مطالع
المفردات :
حرفا كهيكلي : حرفا حجمه بحجم جسمي . ما رآه مطالع : لا يراه الناظر لضآلته ونحوله .
المعنى :
ولشدة نحول الجيلي من الغرام ، يقول إنه ، لو حاول خطاط أن ينقط حرفا بحجم هيكله على سطح لوح ، لما رأى ناظر هذا الحرف لصغره وضآلته . . .
فكأن بدن الجيلي صار أصغر من نقطة .
( 368 ) فجسمي وأسقامي ، محال وواجب ..... ودمعي وخدّي : أحمر وفواقع
المفردات :
ودمعي أحمر : بمعنى أبكي دما . وخدي فواقع : أي وخدي أصفر فاقع .
المعنى :
يتابع الجيلي وصف آثار الغرام على بدنه ، بدن شديد النحول لا يفارقه وجع الغرام . .
وقد أشبه بدنه المحال - وهو الذي يستحيل أن يوجد - لشدة نحوله ، وقارب الواجب - وهو الذي يجب وجوده - في دوام أوجاعه .
( 369 ) أسائل من لاقيت والدّمع سائل ..... عن الجزع والسّكّان والقلب جازع
المفردات :
أسائل : أسأل . الجزع : منحنى الوادي ، وهنا بمعن أسأل عن المكان . جازع : خائف ، قلق ، غير صابر .
المعنى :
يسأل الجيلي كل من يلتقي به ودمعه جار على خدّيه ، يسأل بالحال لا بالكلام ، عن المكان والسكان . . . وقلبه قلق جازع من الإجابة . . . ولا يخفى الجناس الوارد في هذا البيت بين “ أسائل “ بمعنى استفهم و “ سائل “ بمعنى جار . . .
وبين “ الجزع “ بمعنى المكان ، و “ الجازع “ بمعنى الخائف القلق.
( 370 ) تحارب صبري والكرى فتفانيا ، ..... وسالم قلبي الحزن فهو مبايع
المفردات :
تحارب صبري والكرى : هي حرب بين صبري والنوم . فتفانيا : لم يغلب أحدهما الآخر ، فكان أن أفنى كل منهما الآخر في هذه المحاربة . فهو مبايع : بايع قلبي الحزن ، والحزن من أحوال الصوفية .
المعنى :
قامت حرب بين صبر الجيلي في الحب وبين نومه ، فلم يغلب أحدهما الآخر ، بل أفنى أحدهما الآخر . . . وبعد فناء النوم والصبر ، سالم قلبه الحزن وهادنه وبايعه .
( 371 ) وقد قيّدت بالنّجم أهداب مقلتي ..... كما أطلقت عن قيدهنّ المدامع
المفردات :
لقد قيدت بالنجم أهداب مقلتي : صورة رائعة وجديدة أتى بها الجيلي .
فهو هنا لا ينام أبدا ، إذ كيف بإمكانه أن يطبق أجفانه وها هي أهدابه مقيدة مشدودة بقيود إلى فوق ، إلى النجوم ؟! المدامع : مكامن الدمع .
المعنى :
يقول الجيلي إنه لا ينام أبدا ، ليس لأن القلق والأرق وصورة المحبوب يسهرانه ، بل لأن أهدابه المقيدة إلى أعلى ، إلى النجوم ، تمنعه من أن يطبق أجفانه .....
وكما قيّد أهدابه ليمنع أجفانه من الانطباق ، كذلك أطلق مدامعه لتذرف الدمع دون قيد أو حدود . . .
أهداب مقيدة بالنجم إذن عينان مفتّحتان ، ومدامع مطلقة أي ودموع لا تتوقف .
( 372 ) وأسقط قدري في الهوى شنعة الهوى ..... وعندي أنّ العزّ تلك الشّنائع
المفردات :
شنعة الهوى : كل مظاهر الذل والهوان والخلاعة .
المعنى :
بعد وصف آلامه ، يبدأ الجيلي ببيان ذلّه وهوانه على الناس ، فيخبرنا أن كل مظاهر الهوى من ذل وهوان ودموع ونحول وخلاعة هي شنعة الهوى في نظر الآخرين ، وإنه هو كعاشق تجلّت فيه كل هذه الشنائع فأسقطت قدره عند الناس . . .
أما عنده ، فالعز الحقيقي هو في ظهور هذه الشنائع عليه .
وهنا الفرق بين العارفين والعشاق من الصوفيين .
فالعارف يتجلى بمظهر الصاحي الساكن المتمكّن المقتدر ، الظاهر على حال عشقه ، وبالتالي فهو في رفعة وعزّ في أعين الآخرين ، على حين أن العاشق يتجلّى بمظهر محروم لا يوصل ، عطشان لا يروى ، ملهوف لا يغاث ، أطاش عرفانه لبّه ؛ وكثيرا ما يعبّر بدن العاشق عن هيجان وجدانه فيدور ويتمايل كالسكران أو المجنون ، وبالتالي فهو في ضعة وذل في أعين الآخرين .
( 373 ) وكم مرّ بي من كنت أرفع قدره ..... كأنّي له من بعد ذلك واضع
المفردات :
وكم مرّ بي : أي الآن بعد اتصافي بشنائع الهوى عند الآخرين . من كنت أرفع قدره : من كان يتقرّب مني ليرفع قدره بين الناس ...
المعنى :
يتأسف الجيلي على سطحية العلاقات الإنسانية ، فأكثر الناس تعاشر لمصلحة وغرض ، وقليل منهم هو الذي يبحث في ذات الآخر عن إنسان ليقيم معه علاقة ذاتية حقيقية تسقط فيها كل الصفات والأوصاف والمصالح والأغراض ،
فيقول ؛ كان بعض الناس يتقرب مني ، لا لذاتي ، بل لأن قيمتي ومكانتي ترفع قدر المعاشرين لي والمقربين مني ؛ وكم من إنسان يمرّ بي الآن وبعد أن أسقطت شنائع الهوى قدري ، يتحاشاني مبتعدا عني كأني سأحط من قدره ، من بعد ما كنت لقدره رافعا .
( 374 ) وينكف أن ألقاه ، بي متطيّرا ..... وما هو إن حيّيته لي سامع
المفردات :
وينكف أن ألقاه : يتجنب لقائي . متطيرا : متشائما . لي سامع : لا يسمع تحيتي ، يتجاهل سماع تحيتي .
المعنى :
يكمّل الجيلي الترنّم بأسفه على العلاقات السطحية وغير المتجّذرة في كينونة الناس ، فيقول ؛ بعد أن أسقط قدري في الهوى شنعة الهوى ، كأن بعض الناس يتجنّب لقائي تشاؤما وتطيّرا ....
وإن ألقيت على بعضهم تحية فإنه لا يسمع تحيتي . . .
وهنا نكتة شرعية لطيفة أتى بها الجيلي ، فهذا الصاحب لا يشيح بوجهه عن الجيلي رافضا ردّ التحية ، لأنه بذلك يأثم شرعا ، فالتحية والسلام حق المسلم على المسلم شرعا .
لذلك هذا الصاحب يتصرف بشكل يمكّنه من ألا يسمع تحيّة الجيلي ، حتى لا يضطر إلى ردّها.
( 375 ) فما لي في الأحياء ما عشت صاحب ..... وما لي حقّا لو أموت مشايع
المفردات :
مشايع : من يشيعني إلى القبر .
المعنى :
يتابع الجيلي وصف معاشريه وسطحية رؤيتهم له ، يقول ؛ وها أنا أعيش عيشة المنبوذين لا صاحب لي من بين الأحياء وأنا حي ، وإن أمت لا أجد لي مشايعا يشيّعني إلى مثواي الأخير .
( 376 ) وما لي إن حدّثتهم من مجاوب ..... ولا إن دهاني الخطب فيهم مدافع
المفردات :
إن دهاني الخطب : إن أصابتني مصيبة.
المعنى :
يكمل وصف ما صارت إليه حمية معاشريه ، إن حدّثهم لن يجاويه أحد . . . وإن أصابته مصيبة لن يجد بينهم من يدافع عنه .
( 377 ) كأن لم أكن في الحيّ أرفع أهله ..... مكانا وقدري في المكانة مانع
المفردات :
مكانا : مكانة وقدرا . وقدري في المكانة مانع : قدري عظيم المنعة ، ويحمي أهل الحي جميعا .
المعنى :
ويذكّر الجيلي الناس - من صحبه ومعارفه - بقيمته السالفة ومكانته ،
يقول ؛ لقد نسي الناس رفعة مكانتي وقدري السابق ، فكأني لم أكن بينهم فيما سلف أرفع أهل الحي قدرا ومكانة . . . حتى أن مكانتي كانت هي المنعة لأهل الحي جميعا .
( 378 ) ذللت إلى أن خلت أنّي لم أزل ..... أذلّهم قدرا ، فها أنا خاضع
المفردات :
أذلهم : أذل أهل الحي . فها أنا خاضع : راض بهذا الذل .
المعنى :
يصف الجيلي ما صار إليه من ذلة ، وأنه لا يريد تغيير مشاعر المحيطين به ، وذلك لأن الإنسان منا إن شعر بأن من يحبّه فإنما يحبّه لمصلحة ، فلن يحرص على متابعة هذه المحبة أو هذه الصحبة . يقول ؛ بعد أن كنت أرفع أهل الحيّ مكانة وقدرا ذللت حتى أظن أنني أصبحت أذلّهم قدرا . . . وها أنا راض بهذا الذلّ ، لا أشكو ولا أتذمر ولا أحاول تغييرا.
( 379 ) وأحسب أنّ الأرض تنكف أن ترى .... ولي في ثراها مذهب ومشارع
المفردات :
تنكف : ترفض وتستحي . في ثراها : على أرضها ، على ترابها .
مذهب ومشارع : ذهاب وإياب وطرقات .
المعنى :
وأخال أن الأرض نفسها ترفض وتستحي من أن يراها مخلوق ، وهي تسمح لعاشق مثلي ذليل بأن يسير عليها ، وله فيها ذهاب وإياب وطرقات.
( 380 ) رعى اللّه إخوانا رعين مودّتي ..... فهنّ لقلبي ، حيث كان ، توابع
المفردات :
إخوانا : الأخوة في اللّه مقولة صوفية ، وهي درجة متقدمة من الصحبة وقد افتنّ المتصوفون في استنباط حقوقها . حيث كان : أي أينما حلّ في ذل أو رفعة .
توابع : تابعين ، متبعين .
المعنى :
يسأل الجيلي هنا ربّه أن يرعى إخوانا صدقوا في صحبتهم له ورعوا مودته ، وظلوا أوفياء لعهد الأخوة والصحبة ، فتتبعوا قلبه أينما حل سواء أكان في ذل أو في رفعة .
( 381 ) نعم وسقى وجدا مدى الدهر مؤنسي ..... فكم لك يا وجدي عليّ صنائع
المفردات :
وسقى وجدا : الجيلي هنا يطلب السقاية لوجده . مدى الدهر مؤنسي : هذا الوجد هو مؤنسي مدى الدهر . صنائع : ج . صنيع ، وهو الجميل والمعروف .
المعنى :
بعد أن طلب الجيلي في البيت السابق الرعاية لإخوانه الحقيقين ، يطلب هنا السقاية لوجده الذي هو مؤنسه مدى الدهر ،
وفي الدعاء يؤثر القول : رعيا وسقيا . . . ويرى الجيلي أن للوجد عليه صنائع وأفضال كثيرة لأنه كان السبب في كل ما وصل إليه.
( 382 ) ويا زفراتي فاصعدي وتنفّسي ..... فقد هبطت من جفن عيني المدامع
المفردات :
فاصعدي : فانطلقي . وتنفّسي : تحرري . المدامع : مكامن الدمع .
المعنى :
يصف الجيلي حاله في البكاء الذي لا ينقطع ، يقول ؛ يا زفراتي انطلقي ، تنفّسي وتحرّري . . . فدموعي لم تزل تهبط ، حتى هبطت مدامعي نفسها من جفني عيني ..
( 383 ) ويا كبدي في الحبّ ذوبي صبابة ..... ويا كمدي دم إنّني لك تابع
المفردات :
ويا كمدي دم : يطلب دوام كمده وحزنه . إنني لك تابع : إن وجودي تابع لوجودك.
المعنى :
يطلب الجيلي من كبده أن يذوب حبّا وعشقا ، ويطلب من حزنه وكمده أن يدوم ؛ وذلك لأنه يرى بأن وجوده مرتبط بوجود حزنه .
فالحزن هو الذي جعل منه ذاك الإنسان الموجود والرفيع القدر والمنزلة عند اللّه ، ومتى ذهب حزنه ذهب هو ومكانته .
( 384 ) ويا جسدي هل فيك من رمق فما ..... أراك سوى بالوهم عندي مطالع
المفردات :
من رمق : من بقية حياة . بالوهم : بالقوة الوهمية في الإنسان ، بالتوهم .
المعنى :
بدأت الحياة تنسحب من أطراف جسد الجيلي حتى أنه ليسائل جسده :
هل فيك من رمق وبقية حياة ؟ . .
ولكن لا ، إن هذا الرمق الذي يطالعه في بدنه ما هو إلا وهم ومظهر وخيال . وقد استخدم الجيلي هنا لفظ “ الجسد “ ، الذي يوحي ببدن ميت إذا تتبعنا إيحاءات المفرد القرآني ، بدلا عن لفظ البدن أو الجسم ، ليدلّ ويؤكد على بداية مفارقة الحياة لبدنه.
( 385 ) ويا مهجتي والرّسم منك فدارس ..... ويا طلل الأحشاء فجعك صادع
المفردات :
والرسم منك : وأثرك ، وصورتك . فدارس : فذاهب . ويا طلل الأحشاء : والأحشاء أطلال . فجعك : فجيعتي فيك . صادع : ظاهر .
المعنى :
يلتفت الجيلي إلى فؤاده وأعماقه مناديا ؛ يا فؤادي ها قد تصدّعت وذهب رسمك ، ويا أحشائي ها قد تداعيت طللا مفجوعا .
( 386 ) ويا جفنيّ المقروح قد فني الدّما ..... ويا قلبي المجروح هل أنت فازع
المفردات :
قد فني الدما : قد نفذت الدماء .
المعنى :
يقول الجيلي إنه ظل يذرف الدمع حتى نفذت دموعه فذرف الدماء .
والآن فنيت دماؤه فلم تعد لتجري في مدامعه ، ولم تعد لتتساقط من جفنه المقروح . . . ويسأل قلبه المجروح هل يفزع ويرتدّ عن حبه بما رأى من تصدّع وأطلال ودماء .
( 387 ) ويا ذاتي المعدوم هل لك بعثة ..... ويا صبري الموهوم هل أنت راجع
المفردات :
هل لك بعثة : أي من العدم .
المعنى :
يخاطب الجيلي ذاته وصبره ، يستنجدهما العودة إلى الحضور والفاعلية ، ليشدّا أزره في الحب ، فيقول ؛ وأنت يا ذاتي التي أفناها وأعدمها العشق هل تبعثين من العدم ؟! وأنت يا صبر ، إن كان عن المحبوب صبر ، هل ترجع ولو بالوهم لتطفىء يأس الحرمان ؟!.
( 388 ) ويا خفقان القلب زدني كآبة ..... ويا نار وجدي قد ، جفتني الأضالع
المفردات :
قد : فعل أمر من أوقد بمعنى زد اشتعالا .
المعنى :
إن الكآبة التي تجتاح نفس العاشق ترتبط بخفقان قلبه ، فكلما ازداد خفقان قلبه وحنينه لمحبوبه ازدادت كآبته وانقباض صدره .
والجيلي هنا يغري قلبه بالخفقان حنينا لتزداد كآبته . . . ولا يكتفي بذلك بل يطلب أيضا من نار الوجد أن “ تولع “ الحنين في الأضلاع وتزيده اشتعالا .
( 389 ) ويا نفسي الحرّاء موتي تلهّفا ..... فما لك في دين المحبّة شافع
المفردات :
دين المحبة : إشارة إلى قول ابن عربي : “ أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني “ . وقصيدة الجيلي بكاملها تبين مناهج محبي اللّه عزّ وجلّ في عباداتهم ومجاهداتهم .
المعنى :
يخاطب الجيلي نفسه لا ليطمئنها على الحياة رغم لهفتها ونارها بل العكس ليعدها بالموت ، يقول ؛ ويا نفسي المحرورة الملهوفة موتي ، فلن تجدي لك شافعا ؛ لأن دين المحبة يشرّع قتل المحب .
( 390 ) ويا روحي المتعوب صبرا على البلا .... ويا عقلي المسلوب هل أنت قالع
المفردات :
على البلا : البلاء هو الالآم التي تصيب الأبدان والأرواح ليمتحن اللّه بها قلوب عباده للتقوى [ أنظر شروحات البيت رقم 22 ] .
المعنى :
يتابع الجيلي مطالبة تكويناته الشخصية بالمزيد من السير في عشق المحبوب ، فيقول لروحه ولعقله ؛ ويا روحي مهما أتعبك البلاء فصبرا . . .
ويا عقلي ، مهما سلبك العشق وأذهبك ، لا تتوقف عن الولع والصبابة .
( 391 ) ويا ما بقي في الوهم منّي وجوده ..... عدمتك شيئا وقعه متمانع
المفردات :
عدمتك : دعاء بمعنى ، أفقدني اللّه إياك . وقعه : وقوعه ، وحصوله .
متمانع : ممتنع الوجود .
المعنى :
ينادي الجيلي هنا ما تبقّى من وجوده ، بل ما بقي في الوهم من وجوده . . . ويطلب أن يزول هذا الوجود الباقي الموهوم ، لأنه وجود ممتنع الحصول . . . فالجيلي يطلب هنا فناء وجوده الفردي ، ليبقى موجودا بوجود الواحد الأحد ، الباقي بعد فناء خلقه .
( 392 ) ويا سقمي زدني أسى وتبدّدا ..... فليس لضري غير سقمي نافع
المفردات :
لضري : لما أعانيه من الضرر .
المعنى :
يطلب الجيلي من الأسقام أن تزيد في تبدّده وفنائه ، لأنه لا أنفع لفناء الوجود الإنساني من منازلة الأسقام والآلام .
.
يتبع