تاسعا شرح الأبيات من 449 إلى 494 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الخامس .شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 449 إلى 494 على مدونة عبدالله المسافر باللهتاسعا الأبيات من ( 449 ) إلى ( 494 ) الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء الخامس
(449) وغيّبت عن تلك المشاهد كلّها ..... وعنّي وعن غيبوبتي أنا زامع
(450) فلا أنا إن حدّثت يوما مخاطب ، ..... وإن أسمعوني القول ما أنا سامع
(451) ولا أنا إن كلّمتهم متكلّم ..... ولا أنا إن هم نازعوني منازع
(452) فلمّا فنى منّي وجود هويّتي ..... وباع البقا بالموت من هو بائع
(453) خبتني فكانت فيّ عنّي نيابة ..... أجل عوضا ، بل عين ما أنا واقع
(454) فكنت أنا هي وهي كانت أنا وما ..... لها في وجود مفرد من ينازع
(455) بقيت بها فيها ولا تاء بيننا ..... وحالي بها ماض كذا ومضارع
(456) ولكن رفعت النّفس فارتفع الحجا ..... ونبّهت من نومي فما أنا هاجع
(457) وشاهدتني حقّا بعين حقيقتي ..... فلي في جبين الحسن تلك الطلائع
(458) جلوت جمالي فاجتليت مراءتي..... ليطبع فيها للكمال مطابع
(459) فأوصافها وصفي ، وذاتي ذاتها ..... وأخلاقها لي في الجمال مطالع
(460) واسمي حقّا اسمها ، واسم ذاتها ..... لي اسم ولي تلك النّعوت توابع
(461) فشمسي في أفق الألوهة مشرق ..... وبدري في شرق الرّبوبة طالع
(462) ونفسي بالتّحقيق يا صاح نفسها ..... وليس لتوحيدي من الشّرك رادع
(463) فمن نظرتها عينه فهو ناظري ، ..... وتبصرها عين إليّ تطالع
(464) ويمدحها بالشّكر من هو مادحي..... ويثني بحمدي من لها الحمد رافع
(465) ويعبدني بالذّات عابدها ، كما ..... لها خضعت أحشاء من لي خاضع
(466) تجيب إذا نوديت باسمي ، وإنّني ..... مجيب إذا ناديتها ، لك فازع
(467) وقد محيت أوصافنا في ذواتنا ..... كما فنيت عنّي نعوت ضرائع
(468) فأفنيتها حتّى فنيت ولم ..... ولكنّني بالوهم كنت أطالع
(469) كذا الخلق فافهم ، إنّه متوهّم ..... وهذا فقشر كي يضلّ مخادع
(470) وها هي ما كانت سوى مخزن ولي..... هناك من الحسن البديع بدائع
(471) فلمّا قبضت الإرث من مخزن الهوى ..... تناقض عن جدرانه ، فهو واقع
(472) فكانت كعنقا مغرب وصفت وما ..... حوت غير ذاك الوصف منها البقائع
(473) هي الذّات طاحت إن عرفت إشارتي ..... نجوت وإلّا فالجهالة خادع
(474) وهاك حديث المنحنى غير أنّه ..... على الورد من قشر الكمام قمائع
(475) غزال لها عينان بالسّحر كحّلا ..... فواحدة فقعا وأخرى فواقع
(476) كثوب له طول ولكنّ لونه ..... حكى ورق الرّيحان اخضر يانع
(477) فما الطّول إلا الثوب واللون عينه ..... إذ الحكم للمحكوم في الأمر تابع
(478) وما الثّوب طولا لا ، ولا الّلون ذاته ..... وما ثمّ إلا الثّوب تلك المجامع
(479) زرعت لك المعنى بلفظي فاجن ما ..... منحتك من أثمار ما أنا زارع
(480) فإنّي لمّا أن تبدّت هويّتي ..... خفيت ، وإن تغرب فإنّي طالع
(481) وليست سواي لا ولست بغيرها..... ومن بيننا تاء المخاطب ضائع
(482) فإنّي إيّاها بغير تأوّل ..... كما أنّها إيّاي ، والحقّ واسع
(483) فكلّ عجيب من جمالي مشاهد..... وكلّ غريب من كمالي شائع
(484) وكلّ الورى طرّا مظاهر طلعتي ..... مراء بها من حسن وجهي لامع
(485) ظهرت بأوصاف البريّة كلّها ..... أجل في الكلّ نوري ساطع
(486) تخلّقت بالتّحقيق في كلّ صورة ، ..... ففي كلّ شيء من جمالي لوامع
(487) وما الكوّن في التّمثال إلا كدحية ..... تصوّر روحي فيه شكل مخادع
(488) فصفني بأوصاف الأنام جميعها..... فإنّي لذيّاك المحاسن جامع
(489) وعن كلّ تشبيه فإنّي منزّه ، ..... وفي كلّ تنزيه فإنّي مضارع
(490) وجسمي للأرواح روح مدبّر..... وفي ذرّة منه الأنام جوامع
(491) ولو لم يكن في الحسن منّي لطيفة ..... لما كانت الأجفان فيّ تطالع
(492) ولولا لذاتي في الكمال محاسن ..... تلوح لما مالت إليها الطّبائع
(493) فهيكل شخصي كلّ فرد بسيطه ..... لجوهر أنواع المحاسن جامع
(494) إنّي على تنزيه ربّي لقائل..... بأوصافه عنّي فحقّي صادع
شرح الأبيات :-
( 449 ) وغيّبت عن تلك المشاهد كلّها ..... وعنّي وعن غيبوبتي أنا زامع
المفردات :
وغيبت : وذهبت عن الإحساس . المشاهد : جمع مشهد ، وهو ما يشاهد السالك في عالم الحس من معان معقولة وروحانية .
أنا زامع : أنا غائب ، ذاهل .
المعنى :
يخبرنا الجيلي عن شهوده وذهوله في مواطن الشهود ، يقول ؛ وغبت عن مشاهدة فنائي وجمعي . . . حتى أنني عني وعن غيبوبتي أنا غائب ، ذاهل.
( 450 )فلا أنا إن حدّثت يوما مخاطب ، ..... وإن أسمعوني القول ما أنا سامع
المفردات :
فلا أنا إن حدثت يوما مخاطب : إن حدثت الناس يوما ، فلست أنا الذي أخاطبهم .
ما أنا سامع : لا أسمعهم .
المعنى :
يخبرنا الجيلي هنا أنه حاضر لمحبوبه فقط ، وظاهره يتعامل مع الناس بما يناسب ، فيقول ؛ إن حدّثت الناس فلست أنا الذي يتكلم معهم ويخاطبهم ، ولو اسمعوني القول لا أسمعهم .
وهذا الفصل بين البدن والقلب ، بحيث ينتسب البدن إلى عالم الناس ، وينتسب القلب إلى المحبوب وتسكن الأنا فيه ، مألوف لدى عشاق الصوفية .
وهذه سيدة العشق رابعة تقول : فالجسم مني للجليس مؤانس ، وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي ...
فالعاشق وإن غاب وجدا في مشاهدة معشوقه ، فإن بدنه يستمر في تأدية وظيفته الحياتية والاجتماعية.
( 451 )ولا أنا إن كلّمتهم متكلّم ..... ولا أنا إن هم نازعوني منازع
المفردات :
ولا أنا إن كلمتهم متكلم : حتى لو كلمت الناس فلست أنا المتكلم .
نازعوني : خاصموني . منازع : مخاصم .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل حضوره للّه ، وأن الأنا التي تخصه لا تشعر بحضور الناس وإن كانت تتعامل معهم ، يقول ؛ حتى لو كلمت الناس ، فالناظر يراني أكلمهم ، ولكنني غائب عن كوني متكلما .....
وكذلك فإن خاصموني أو جادلوني ، فقد يراني الناظر أجادلهم وأنازعهم ، ولكنني غائب عن كوني مجادلا لهم ومنازعا .
( 452 ) فلمّا فنى منّي وجود هويّتي ..... وباع البقا بالموت من هو بائع
المفردات :
فلما فنى مني وجود هويتي : إشارة إلى فناء الهوية .
وباع البقا بالموت : وكان الموت هو ثمن البقاء ، بمعنى اشترى الجيلي البقاء باللّه ودفع موته ثمنا لذلك .
المعنى :
يقول الجيلي ؛ ولما فنيت هويتي ، اشتريت بقائي باللّه ، ودفعت موتي ثمنا لهذا البقاء .
ونلاحظ هنا أن العبد بعد فنائه سيترقى في مراتب البقاء ، وبقاء العبد هو بقاء مظهري يتلقى تجليات الحق تعالى ، تجليات الأفعال والأسماء والصفات ؛ وهذا ما سيفصّله الجيلي في الأبيات اللاحقة حيث نرى العبد في قمة فنائه وذهاب هويته قد أصبح محلا للتجليات الإلهية ، ففارق بذلك مرتبته الكونية وتحقق بمرتبته القدسية ...
( 453 ) خبتني فكانت فيّ عنّي نيابة ..... أجل عوضا ، بل عين ما أنا واقع
المفردات :
خبتني : خبّأتني ، أي سترتني وأخفتني . فكانت فيّ عني نيابة : كانت الحضرة الإلهية قائمة فيّ ، نائبة عني . أجل عوضا : بدلا مني . بل عين ما أنا واقع : بل عين الأنا التي تخصني ، عين ذاتي .
المعنى :
أخفت الحضرة الإلهية الجيلي وسترته ، وتجلّت نيابة عنه ، عوضا وبدلا منه . . . بل تجلّت به وكانت عين ذاته .
يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل ج 1 / ص 37 ] ، باب تجلي الأسماء : “ فإذا
تجلى الحقّ لعبده من حيث اسمه اللّه ، فني العبد عن نفسه ، وكان اللّه عوضا عنه له فيه ، فخلّص هيكله من رقّ الحدثان ، وفكّ قيده من قيد الأكوان ، فهو أحديّ الذات وأحديّ الصفات ، لا يعرف الآباء والأمهات .
فمن ذكر اللّه فقد ذكره ، ومن نظر اللّه فقد نظره ، وحينئذ أنشد لسان حاله بغريب عجيب مقاله : خبتني فكانت فيّ عني نيابة ( . . . ) واسمي حقا اسمها واسم ذاتها ( . . . ) “ ويورد الجيلي في هذا النص من كتابه الإنسان الكامل الأبيات كاملة من رقم 453 إلى رقم 460 .
( 454 ) فكنت أنا هي ، وهي كانت أنا وما ..... لها من وجود مفرد من ينازع
المفردات :
هي : الإشارة إلى الحضرة الإلهية .
المعنى :
يفصّل الجيلي هنا معنى بقاء العبد باللّه ، ويبين كينونة الإنسان الفاني حين يتجلى عليه الحق تعالى باسمه اللّه . وهي كينونة خاصة ، يبقى فيها العبد باللّه بعد فناء أنيته وهويته .
فالعبد هنا فان ، وهو في فنائه يذهب ، ولا يبقى إلا الحق ؛ لذلك يقول الجيلي : “ أنا هي “ ، لأن “ الأنا “ لا وجود لها بل فنيت في “ هي “ ؛ و “ هي “ أي الحضرة ، هي التي تقوم نيابة عن العبد الفاني ؛ لذلك يقول : “ وهي كانت أنا “ . . . .
باختصار ، حين يتجلى الحق على عبد فالفناء للعبد والبقاء للحق عزّ وجلّ ، وليس له تعالى من ذات العبد منازعا ينازعه الوجود .
( 455 ) بقيت بها فيها ولا تاء بيننا ..... وحالي بها ماض كذا ومضارع
المفردات :
بها : بالحضرة الإلهية . فيها : في الحضرة الإلهية . ولا تاء بيننا : ارتفع من بيننا الخطاب ، فلا يخاطب أحدنا الآخر مناديا إياه ب “ يا “ ، أو يستخدم ضمير المخاطب وهو التاء فيقول أكلت وشربت . . .
وحالي بها ماض كذا ومضارع : وحالي الحاضر هو كما كان في الماضي وكما سيبقى في المستقبل ، إنه هو هو .
المعنى :
يخبرنا الجيلي عن بقائه بعد الفناء ، يقول ؛ بقيت بعد فنائي بإبقاء الحق لي ، بقيت بالصفات الإلهية ، مستهلكا في حضرة الحق لا وجود لي خارجها . .
ولكنه بقاء لا تعبّر عنه أثنينيّة المخاطِب والمخاطَب . . [ورد في اللمع للطوسي ص 461 ،463 ] من شطحات أبي يزيد : “ لا يبلغ المتحابان حقيقة المحبة حتى يقول الواحد للآخر : يا أنا .
ويقول أبو يزيد : ألبسني أنانيتك حتى إذا رآني خلقك قالوا : رأيناك ، فتكون أنت ذاك ، ولا أكون أنا هناك “ . . ..
ويعلق الطوسي بقوله ؛ "هذا وأشباه ذلك يصف فناء الصوفي ، وفناءه عن فنائه ، وقيام الحق عن نفسه بالوحدانية ، وكل ذلك في حديث قرب النوافل " .
( 456 ) ولكن رفعت النّفس فارتفع الحجا ..... ونبّهت من نومي فما أنا هاجع
المفردات :
رفعت النفس : أزلت النفس ورفعت حكمها . الحجا : العقل . فما أنا هاجع : لن أهجع ، فما أنا غافل .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل فنائه ، ويعلّمنا هنا من تجربته الشخصية أن نفوسنا البشرية هي حجاب يحجبنا بالهوى عن رؤية الحق ، وأنها أيضا تستخدم العقل وحججه ليزين الباطل بوهم الصواب ،
فيقول ؛ “ ولكن رفعت النفس فارتفع الحجا “ بمعنى أنه حين قهر نفسه ورفع أحكامها ولم يبق لها حكما ينفذ في الحياة ، وجد أن حكم العقل قد ارتفع معها .
والسبب الذي جعل الجيلي يربط بين النفس وبين الحجج العقلية هو أنه حين تكون النفس أمارة بالسوء فإنها تستخدم العقل وحججه لإنفاذ أهوائها .
والعقل في مقدوره أن يقارب بحجة منطقية بين مطالب النفس وبين مذاهب الشريعة . باختصار ، إن العقل في استطاعته أن يشرّع الهوى ، ويبرّر الأحقاد .
ولكن عندما تطمئن النفس وتسكن إلى الحق لا تأمر بهوى ، لذلك تنتفي أهمية المجادلة العقلية ، وتتجلى الشريعة ساطعة لا ينازعها عقل ولا نفس .
وحين تتجلى الشريعة ساطعة فكأنما الجيلي كان نائما وانتبه ، والناس - على ما ورد في الحديث الشريف - نيام إذا ماتوا انتبهوا .
والجيلي هنا يخبرنا أنه بعد موت نفسه وموت مطالبها انتبه من غفلته وحضر مع اللّه عزّ وجلّ ، وأنه بعد هذا الانتباه والحضور لن يغفل ثانية أبدا .
( 457 ) وشاهدتني حقّا بعين حقيقتي ..... فلي في جبين الحسن تلك الطلائع
المفردات :
شاهدتني : شاهدت نفسي . حقا : إنني حق . بعين حقيقتي : في حقيقة وجودي . الطلائع : جمع طلعة .
المعنى :
يتابع الجيلي مسيرته في الفناء ، ويخبرنا عما يجد بقوله ؛ حين فنيت عن نفسي وانتبهت من غفلتي ، فارقت رتبتي الكونية وحصّلت بقائي باللّه ورتبتي القدسية ، عندها شاهدت نفسي على حقيقتها ، وعلمت أن جوهر وجودي هو : حق .
ونقول إن كان المحاسبي يرى أن العقل هو جوهر الإنسان ، ويرى الصوفية عامة أن جوهر الإنسان إرادة ، فإن الجيلي يرى أن الحق هو جوهر الإنسان . يقول في الإنسان الكامل [ 1 / 70 ] : “ والحق عند العارفين [ هو ] حقيقة ذواتهم “ .
نتساءل ماذا يقصد الجيلي بقوله : “ إن الحق هو جوهر الإنسان الكامل “ .
هل يريد أن يقول إن الإنسان في تدرجه إلى الكمال يقارب الاتحاد باللّه وتنتفي إثينيّة الخالق والمخلوق ، أو أن الإنسان عند وصوله إلى الكمال يصير هو اللّه ؟!
كلا ، لأن هذا التفكير ينافي العقل ، على حد تعبير الإمام الغزالي ؛ وتتلخص رؤية الجيلي بأن الإنسان بعد أن يتجلى له اللّه عزّ وجلّ ، يسحقه ويمحقه ثم يمحوه ويفنيه عن نفسه وعن كل شيء ، ولا يتركه الحق عزّ وجلّ مغيّبا في فنائه مستغرقا في العدم ، بل يقيم فيه لطيفة إلهية ، وهذا ما نسميه بمقام “ البقاء باللّه “ .
وهذه اللطيفة الإلهية التي تقوم في العبد نيابة عن وجوده السابق قد تكون ذاتية وقد تكون صفاتية ، وعليها تقع كل التجليات الإلهية ، من تجليات أسمائية أو صفاتية أو فعلية ...
وإن كانت اللطيفة الإلهية المقامة في العبد الفاني ذاتية ، يصبح الهيكل الإنسانيّ لهذا العبد هو الفرد الكامل والغوث الجامع ، وعليه يدور أمر الوجود ، وهو الخليفة لا يحجب عنه شيء ويفعل ما يشاء بقدرته تعالى : [ راجع الإنسان الكامل ، ج 1 / ص 44 ] .
( 458 ) جلوت جمالي فاجتليت مراءتي ..... ليطبع فيها للكمال مطابع
المفردات :
جلوت : أظهرت ، والجلوة ضد الخلوة . فاجتليت مراءتي : صقلت مراءتي وهيّأتها .
مطابع : جمع مطبع بمعنى نقش .
المعنى :
وبعد أن شاهد الجيلي حقيقة وجوده ورأى أنه لطيفة إلهية قائمة بإقامة اللّه لها ، وإنه ليس سوى مرآة تظهر عليها الكمالات الإلهية ، صقل هذه المرآة وجلاها حتى تظهر فيها نقوش الكمال على أكمل صورة وأتمها .
والإنسان الكامل ، أي الفاني عن نفسه والباقي بالحق ، هو مرآة الاسم اللّه ، الجامع للأسماء والصفات . [ راجع الإنسان الكامل ، 1 / 16 ] .
( 459 ) فأوصافها وصفي ، وذاتي ذاتها ..... وأخلاقها لي في الجمال مطالع
المفردات :
فأوصافها : أي أوصاف الحضرة الإلهية . مطالع : جمع مطلع ، موضع الطلوع .
المعنى :
وحين نقشت الكمالات الإلهية على مرآة الجيلي تجلى التوحيد ساحقا كل شريك ، فما ثمة وصف في الوجود ولا ثمة ذات في الكائنات تدّعي البقاء أمام تجلّي الحق تعالى . فأوصاف الحضرة تسحق أوصاف العبد وتظهر على مرآته ، وذاته تفنى فلا يبقى إلا ذات الحضرة المتجلي ، ويظهر العبد بأخلاقها في كل حسن مرئي .
لذلك قال الجيلي فأوصافها وصفي ، وذاتي ذاتها ، وأخلاقها لي في الجمال مطالع .
( 460 ) واسمي حقّا اسمها ، واسم ذاتها ..... لي اسم ، ولي تلك النّعوت توابع
المفردات :
واسمي حقا اسمها : أي ما يدل عليّ يدل على الحضرة ، لأن الاسم هو الدلالة على المسمى . واسم ذاتها : الدلالة على ذاتها .
المعنى :
يرى الجيلي أنّ اللّه سبحانه خلق الإنسان على صورته تعالى ، حيا عليما قادرا مريدا سميعا بصيرا متكلما ، وحلّاه بأوصافه وسمّاه بأسمائه ، فهو تعالى الحي والإنسان هو الحي وهكذا ....
فانضاف إلى الإنسان جميع ما للحق ، ثم تفرد الحق بالكبرياء والعزة ، وانفرد الإنسان بالذل والعجز [ راجع الإنسان الكامل ج1 - ص 9 - 51 ].
وتجدر هنا الإشارة إلى أنه ما كل إنسان يتمتع بالصورة التي يؤكد الصوفية على إبرازها والتحقق بها ، وذلك لأن الإنسان بعد خلقه في أحسن تقويم قد تطرأ عليه علل كونية تحط به من على تكوينه إلى حضيض حيوانيته ، كما أنه قد يرقى بالسلوك إلى رتبة قدسيته ويتحقق بكونه صورة الكمالات ومرآتها .
( 461) فشمسي في أفق الألوهة مشرق ..... وبدري في شرق الرّبوبة طالع
المفردات :
الألوهة : الألوهية هو اسم للمرتبة الجامعة لحقائق جميع الموجودات بما فيها الأضداد ، والتي تعطي كل ذي حق حقه من مراتب الوجود ، ولا يكون ذلك إلا لذات واجب الوجود تعالى وتقدس [ راجع الإنسان الكامل ، ج1 23]..
مشرق : ظاهر ، والشروق إشارة إلى الظهور كما أن الغروب هو إشارة إلى البطون .
الربوبة : الربوبية هو اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلبها الموجودات ، فدخل تحتها الاسم العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد وغير ذلك ، لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه ، والربّ لغة هو المصلح المدبّر ، لذلك بالربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات [ راجع الإنسان الكامل ج1 :29 ] .
المعنى :
يقول الجيلي ؛ إنه بعد فنائه ، أشرقت شمسه وطلع بدره .
وأشرقت شمسه بمعنى : أنه ظهر في أفق صفة الألوهة ، ونتج عن ذلك أنه أعطى كل ذي حق حقه من ذاته ...
وطلع بدره بمعنى : أنه ظهر متصفا بصفات الربوبية ، ونتج عن ذلك أنه ينظر إلى الخلق بعين الرحمة والتواصل .
( 462 ) ونفسي بالتّحقيق يا صاح نفسها ..... وليس لتوحيدي من الشّرك رادع
المعنى :
يؤكد الجيلي هنا على المعنى الذي بدأه منذ البيت رقم ( 453 ) ، وهو فناؤه عن نفسه وبقاؤه بالحق ، هذا البقاء الذي تجلى على صورة توحيد خلّص شهود الجيلي من كل ظل أو شبهة يمكن أن تجرح نقاء التوحيد ، فلا نفس ولا صفة ولا اسم ولا رسم ولا أي شيء يقوم في الجيلي ويمنعه أو يردعه عن التوحيد التام الكامل ....
ولنستمع إليه يقول في المعنى نفسه [ الإنسان الكامل ، 1 / 53 ] : “ وكن أنت بلا أنت ولا أنت ، بل يكون اللّه هو المدبّر لك كيفما شاء ، أعني كما تقضيه أوصافه والأسماء .
فأرم بهذا القشر الساتر ، وكل اللباب الزاهر ، وافهم حقيقة وجهّت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين “ .
( 463 ) فمن نظرتها عينه فهو ناظري ..... وتبصرها عين إليّ تطالع
المعنى :
يقول الجيلي : “ فمن نظرتها عينه فهو ناظري “ ، بمعنى أن من ينظر إلى الحضرة يره ...
ومن جهة ثانية : “ تبصرها عين إليّ تطالع “ أي من ينظر إلى الجيلي ير الحضرة . فالإنسان هنا امّحت صفاته الشخصية ليصبح مرآة تظهر عليها الكمالات الإلهية ، لذلك إحدى صفات الولي كما ورد في الخبر أن تذكّر رؤيته باللّه .
( 464 ) ويمدحها بالشّكر من هو مادحي ..... ويثني بحمدي من لها الحمد رافع
المفردات :
ويثني بحمدي : يقول الجيلي في الإنسان الكامل [ ج 2 / 83 ] :
“ حقيقة الثناء أن تتصف بما وصفته به من الاسم أو الصفة التي أثنيت عليه وحمدته بها “ ؛ بكلام آخر ، يعني أن يثني عبد على ربّه هو أن يتصف بما أثنى عليه به من صفة أو اسم ، فإن أراد مثلا أن يحمد اللّه عزّ وجلّ باسمه الكريم فحقيقة حمده هي أن يتصف بالكرم وهكذا..
المعنى :
يرى الجيلي إن من يمدحه ويثني عليه فهو في حقيقة الأمر يمدح الحضرة الإلهية ويثني عليها ...
ومن يرفع الحمد إلى الحضرة فهو في الوقت نفسه يحمد الجيلي ....
والواقع أن المدح والثناء من جهة والشكر والحمد من جهة ثانية معان متقاربة ، إلا أن المدح والثناء تستوجبهما صفات الممدوح نفسه ، لذلك لا نحصي ثناء على اللّه عزّ وجلّ لأننا لا نحصي جميل صفاته ، فالثناء على اللّه أو على الإنسان سببه الصفات الذاتية التي يتحلى بها المثنى عليه السلام .
أما الحمد والشكر فتستوجبهما نعم اللّه عزّ وجلّ ، نشكر ونحمد عند المنع والعطاء . باختصار ، وعلى الأغلب ، المدح والثناء يرتبطان بصفات الممدوح ، والشكر والحمد يرتبطان بما يصل من المشكور والمحمود من نعم.
( 465 )ويعبدني بالذّات عابدها كما ..... لها خضعت أحشاء من لي خاضع
المعنى :
قراءة أولى :
يقول الجيلي : “ ويعبدني بالذات عابدها “ ، أي كل من عبد اللّه فكأنما عبده .
وهذه الجملة التي يستوقفنا الشطح الظاهر في ألفاظها ، وتتحفّز أعماقنا من تجرّوء مخلوق على قول هكذا عبارة ، نتوقف عندها لنرى لماذا قالها الجيلي ، ولنتكهن ماذا قصد بها ؟ .
نبدأ بأن نقول إن المؤمن منا كلما تدفّق إيمانه وغمر مشاعره كلّها ، فإنه عندما يجد أمامه إنسانا يمجّد اللّه يشعر بالإعزاز كأنما هو الذي يتمجّد ، وعندما يجد أمامه إنسانا ينكر اللّه عزّ وجلّ يشعر بالعداء كأنّما هو الذي ينكر .
فالمؤمن يشعر بالتوحّد الشعوري مع ما يؤمن به ، ويصبح لديه كل ثناء على ما يؤمن به كأنما هو ثناء عليه ، والعكس صحيح . . .
ولكن مهما كانت مشاعرنا تجاه هذا العابد للّه ، تبقى هذه العبارة شطحا غير مقبول ، ونحن هنا لن يأخذنا الشطح كذلك وننكر قصيدة الجيلي كلّها ، لأننا وجدنا فيها بعض عبارات شطحت عن حدّ العقل الشرعي ؛ بل نتمتّع ونستفيد من كل الأمور التعليمية التي أوردها في قصيدته ، ونقف عند شطحاته ، ولنا أن نتشدّد بها أو نتسامح كما يتناسب مع مزاجنا العقلي ؛ والجواهريّ الجيّد هو الذي عندما يجد كنزا لا يرمي به كلّه ويتلف جواهره بحجة أنه وجد فيه حصاة أو وجد فيه حجرا ينكره ، بل يأخذ ما يعرف من الجواهر ويترك جانبا ما لا يعلم منها ، لا يتعامل به . . .
وهكذا نحن مع شطحات الصوفية نأخذ جواهر أقوالهم ، نستفيد من لآلىء تجاربهم ، نشحذ الهمم من تأجج عاطفتهم الدينية ، ونتوقف عندما نجهل ؛ فعندما يتعارض ما نعلم من الشرع مع ما نجهل من أقوالهم ، نأخذ ما نعلم ، وما يتفق مع الشرع ، ونترك ما نجهل .
وقد لا نعترض عليهم تسمّحا ، ولكن لا بأس علينا إن لم تتحمل مشاعرنا هذا التسمّح ، واعترضنا .
فالشرع أولى بالفهم - لديهم ولدينا من غريب أقوالهم .....
نسلّم لهم أقوالهم وغريب شطحاتهم ، ولكن ننبه إلى أنه يكفر كلّ من يرددها على وجه التقليد ، فلا يجوز مطلقا أن نقلّد على عدم معرفة بالوجه الشرعي فيما يتعارض ظاهره مع الشرع الواضح .
والجيلي نفسه يقول في هذه القصيدة البيت ( رقم 271 ) “ وسلّم له - أي للشيخ - مهما تراه ولم يكن على غير مشروع ، فثم مخادع “ أي نسلم لهم أفعالهم وأقوالهم لأننا ربما نخدع عن قصدهم بظاهر قولهم ، وغاية ما نستطيعه هو أن نسلّم لهم ، دون أن نقلّدهم .
قراءة ثانية :
لعل الجيلي عندما قال : “ ويعبدني بالذات عابدها “ ، أراد المعنى اللغوي للعبادة وهو الخضوع ، فيكون مراده : “ ويخضع لي بالذات من يخضع لها [ الألوهة ] “ .
ويؤكد الشطر الثاني هذه القراءة ، لأنه جاء متمما لفعل الخضوع.
( 466 )تجيب إذا نوديت باسمي ، وإنّني ..... مجيب إذا ناديتها لك فازع
المفردات :
لك فازع : فزع إليه بمعنى لجأ ، وفازع هنا بمعنى مسارع .
المعنى :
قول الجيلي : “ تجيب إذا نوديت باسمي“، معناه أنه إذا ناداه أحد باسمه وقال مثلا : يا جيلي.
فالحضرة هي التي تجيب ، وهنا إشارة إلى فناء العبد ليس مجرد الفناء الشعوري بل “ فناء الاسم “ ؛ أي يفنى من الإنسان اسم العبد حين يتجلى عليه تعالى بالأسماء الإلهية ...
وقوله : “ وإنني مجيب إذا ناديتها لك فازع “ ، معناه وإذا نادى القارئ أو السامع الحضرة ، فالجيلي يسارع إليه مجيبا ؛ وهنا إشارة إلى ترقّي العبد من مقام “ فناء اسمه “ إلى مقام “ البقاء بعد الفناء “ .
هذه المعاني نفسها نجدها في كتابه [ الإنسان الكامل ج 1 / ص 16 وص 35 ].
يقول في ص 16 : “ واعلم أن الحق سبحانه وتعالى جعل هذا الاسم أي الاسم "اللّه" مرآة للإنسان ، فإذا نظر بوجهه فيها علم حقيقة كان اللّه ولا شيء معه ،
وكشف له حينئذ أن سمعه هو سمع الحق ، وبصره هو بصر الحق ، وكلامه هو كلام الحق ...
وقدرته هي قدرة اللّه تعالى ، كل ذلك بطريق الأصالة .
ويعلم حينئذ أن جميع ذلك إنما كان منسوبا إليه بطريق العارية والمجاز وهي للّه بطريق الملك والتحقيق .
قال اللّه تعالى :وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ[ الصافات : 96 ] ..
ومن حصل له هذا الشهود أي من يشهد نفسه في مرآة الاسم “ اللّه “كان مجيبا لمن دعا اللّه ، فهو إذا مظهر لاسمه اللّه .
ثم إذا ترقّى وصفا من كدر العدم إلى العلم بوجود الواجب ، وزكّاه اللّه بظهور القدم من خبث الحدث ، صار مرآة لاسمه اللّه ؛ ومن حصل له هذا المشهد أي من صار مرآة لاسمه “ اللّه “ كان اللّه مجيبا لمن دعاه ، يغضب اللّه لغضبه ويرضى لرضاه. “ .
وأقول ، إننا نحاول أن نتصوّر بعقولنا ، كيف يحصّل الإنسان مشهدا يشهد فيه نفسه في مرآة الاسم “ اللّه “ ، ثم لا يزال يترقّى ويتصفّى من العدم والحدث ، حتى يحصّل مشهدا يصبح فيه هو مرآة للاسم “ اللّه “ ...
أقول ، إن عقولنا تتعب ، وتكاد لا تستطيع إن تتصوّر هذه المراتب ؛ لذلك نتوقف في تصوراتنا عند حدود المتاح العقلي ، ونسلّم فيما تبقّى .
نسلّم بأنّ اللّه عزّ وجلّ فتح للإنسان آفاق كمال لم يفتحها لمخلوق غيره ؛ خلقه بيديه ، نفخ فيه من روحه ، كلّمه تكليما ، أرسل إليه رسله ، أنزل له موائد من السماء ، اختار منه سلالة أنبياء اصطفاهم وصفّاهم وطهّرهم وفضّلهم على بقية خلقه من الجنس البشري .
ونسلّم كذلك بأنّه على قدم كلّ نبي توجد جماعة تتبعت الأثر حتى وصلت إلى دائرة القربى...
اقتربت من النبي وقاربته دون أن تحصّل النبوة أبدا ، بل بقيت تترقّى في مراتب الولاية ، وتتنعّم بما ينعكس عليها من كمالات أنبيّائها ، وتتكرم بعلامات القرب الإلهي من علم وتصريف ، ونحن ننتظر في عالم غربتنا ويعدنا ، علّها ترجع إلينا من هاتيك الأماكن بقبس ينير معالم الطريق .
( 467 ) وقد محيت أوصافنا في ذواتنا ..... كما فنيت عنّي نعوت ضرائع
المفردات :
ضرائع : جمع ضارع أي مشابه .
المعنى :
عندما قال الجيلي هنا ؛ “ وقد محيت أوصافنا في ذواتنا “ فهو يشير بذلك إلى محو الصفة في الذات .
والصفة كما يعرّفها الجيلي ، هي ما يوصّل إلى فهمنا حالة الموصوف ، وأنها هي التي تقرّبه من عقلنا ، وتوضّحه في فكرنا .
ويرى الجيلي أن الصفة أساسا هي مجهولة ، وغير متناهية ؛ فمثلا الإنسان إنما يدرك منه ذاته أما ما فيه من صفات كالشجاعة والكرم والعلم مثلا فإنها لا تدرك بشهود ، وإنما تبرز لنا وتظهر شيئا فشيئا ، وعلى قدر محدد .
إننا لا نرى الكرم في الكريم ولكن إذا ظهر كرمه مثلا في موقف معين ، وشوهد أثر هذه الصفة عليه ، حكم له بها وقيل عنه كريم ، وهكذا فالصفة لا ترى ولا تشاهد ولا تدرك ، وهي غير متناهية ؛ ولا نعلم منها إلا آثارها الظاهرة في الوجود .
فالصفة في واقع الأمر كامنة في الذات تظهر آثارها في المناسبات ، ونعلم منها على قدر ظهورها .
وهنا عندما قال الجيلي : “ وقد محيت أوصافنا في ذواتنا “ فهو يعلمنا بأنه وصل إلى التحقق بالحقيقة وغابت صفاته في ذاته .
بمعنى آخر ، لقد وصل إلى مقام فناء الصفات، وأن صفاته كلّها من شجاعة وكرم وغيرهما...
قد غابت في ذاته ، ومحيت آثارها فلم يعد يظهر عنه أي أثر لصفة من صفاته . . .
أما الشطر الثاني من البيت وهو قوله : “ كما فنيت عني نعوت ضرائع “ ، فيعني أن نعوته كذلك ضارعت صفاته في الفناء وشابهتها ، ففنيت وغابت ، واختفت آثارها في الوجود . . .
ونقول إنّ الصفة والنعت تتشابه معانيها من حيث اللغة ، أما إذا دققنا في الحس اللغوي للمفرد نجد أن الصفة تنبع من الذات وتلتصق بها ، أما النعت فهو وصف يطلقه الغير على الذات لأنه يراه منه .
فإنسان صفته الكرم هو كريم ، وإنسان ننعته بالكرم وقد لا تكون صفته الكرم البتة . . .
فالنعت هو وصف يطلق من خارج على ذات لاحتمال اتّصافها به . . . باختصار النعت هو الوصف بصفة ، ويؤكد ذلك قوله تعالى :سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ[ الصافات : 180 ] .
فالوصف إذا نعت من خارج يحتمل الصواب والخطأ . والصفة تنبع من داخل وتظهر آثارها للرائي وهي تشابه الاسم في دلالتها على الموصوف أو على المسمّى . والجيلي هنا عندما قال بفناء الصفات أتى بحرف الجر “ في “ ، وعندما قال بفناء النعوت أتى بحرف الجر “ عن “ ، فالصفة لنشوئها من الذات تعود وتفنى “ في الذات “ ، والنعت لنشأته من الغير ، أي من الرائي والمشاهد ، يعود ويرتد إلى الغير ويفنى “ عن الذات “ ، فلا تعرف به .
( 468 ) فأفنيتها حتّى فنيت ، ولم تكن ..... ولكنّني بالوهم كنت أطالع
المفردات :
فأفنيتها : أي فأفنيت عرفاني بها ، أي أفنيت ما أعرفه عن الحضرة الإلهية .
ولم تكن : أي ولم تكن هذه المعرفة موجودة حقيقة . أطالع : انظر .
المعنى :
يتابع الجيلي وصف فناء صفاته ، فيقول ؛ إنه أفنى كل ما يعرفه عن الحضرة الإلهية ، وذلك لأن كل معرفة هي نظرية ، وهو لا يريد الاهتداء إلى اللّه تعالى بطريق النظر . . .
أفنى الجيلي النظريات كلها ، وأفنى ما يعرفه عن الحضرة كله ، وأفنى التصورات التي كانت تتنزّل بالحضرة الإلهية من الغيب المطلق إلى التمثيل أو التشبيه ،
أفنى كل ما يعرفه وكل ما يراه من آثار الحضرة في الكائنات . . .
وبعد أن أفنى كل ما يعرفه عن الحضرة ، وجد أنه قد فني عن ذاته وعن معرفة ذاته .
لأن من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ومن فنيت عنه معرفته بربه فني عن معرفه نفسه .
ويكمل الجيلي الكلام على معرفة الحق تعالى فيقول ، وهذه المعرفة باللّه لم توجد عندنا في الحقيقة أبدا بل كانت دائما من نتاج تصوراتنا وعقولنا ، واللّه عزّ وجلّ بخلافها لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، ولا تحده تصوراتنا ولا تسعه معرفتنا .
ويرى الجيلي أن الوهم هو الذي كان يصور لنا أن معرفتنا هذه باللّه هي حقيقة الوجود الإلهي.
باختصار ، إن كل معلوماتنا عن اللّه عزّ وجلّ ، وكل معرفتنا به تعالى ، ما هي إلا تصورات عقلية ، يزين لنا الوهم أنها حقيقة ، واللّه عزّ وجلّ بخلاف كل ذلك .
( 469 ) كذا الخلق فافهم ، إنّه متوهّم ، ..... وهذا فقشر ، كي يضلّ مخادع
المفردات :
متوهم : موجود في الوهم ، له وجود وهمي غير حقيقي . مخادع : مخدوع .
المعنى :
ولا يكتفي الجيلي بجعل معرفتنا باللّه وهما إنسانيا ، بل ها هو ينظر إلى الخلق كله على أنه وهم ، ويقول ؛ “ كذا الخلق فافهم ، إنه متوهم “ ، أي وحقيقة المخلوقات أيضا هي وهم ، فافهمها أيها القارئ وأيها السامع ، ولا تدع الأوهام والظواهر تحجبك .
فالمخلوقات لم تستقل أبدا بوجود حقيقي ، وهل أتى عليها يوم من الدهر ونعمت فيه بوجود ذاتي غير معار . . .
فالمخلوقات إذن - كما يرى الجيلي - ليس لها من الوجود إلا الوهم ، ووهم الوجود هذا هو كالقشر الذي وضع قصدا على الحقيقة الواقعة ، ليضلّل المخدوع فلا يعلم بأن الموجودات لم توجد أبدا ، ولم تتمتع بالوجود الحقيقي أبدا
.
يتبع