تاسعا شرح الأبيات من 495 إلى 535 الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء السادس .شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 495 إلى 535 على مدونة عبدالله المسافر باللهتاسعا الأبيات من ( 495 ) إلى ( 535 ) الجيلي يروي سيرته الروحية الجزء السادس
(495) أنا الحقّ والتحقيق جامع خلقه ..... أنا الذّات والوصف الذي هو تابع
(496) فأحوي بذاتي ما علمت حقيقة ..... ونوري فيما قد أضاء ، فلامع
(497) ويسمع تسبيح الصّوامت مسمعي ..... وإنّي لأسرار الصّدور أطالع
(498) وأعلم ما قد كان في زمن مضى ..... وحالا ، وأدري ما أراه مضارع
(499) ولو خطرت في أسود اللّيل نملة ..... على صخرة صمّا فإنّي مطالع
(500) أعدّ الثّرى رملا مثاقيل ذرّه ..... وأحصي عديد القطر وهو هوامع
(501) وأحكم موج البحر وسط خفيّها..... عيارا ومقدارا كما هو واقع
(502) وأنظر تحقيقا بعيني محقّقا ..... قصور جنان الخلد وهي قلائع
(503) وأتقن علما بالإحاطة جملة ..... لأوراق أشجار هناك أيانع
(504) وكلّ طباق في الجحيم عرفتها ..... وأعرف أهليها ، ومن ثمّ واقع
(505) وأنواع تعذيب هناك علمتها ..... وأهوالها طرّا ، وهنّ فظائع
(506) وأملاكها حقّا عرفت ، ولم يكن ..... عليّ بخاف ما له أنا صانع
(507) وكلّ عذاب ثمّ ذقت ولم أبل..... أأخشى وإني للمقامين جامع
(508) وكلّ نعيم إنّني لمنعّم به ..... وهو لي ملك ، وما ثمّ رادع “
(509) وكلّ عظيم في البريّة إنّه ..... كقطرة ماء من بحاري دافع
(510) وكلّ حكيم كان أو هو كائن ..... فمن نوري الوضّاح في الخلق لامع
(511) وكلّ عزيز بالتّجبّر قاهر ..... ببطش اقتداري للبريّة قامع
(512) وكلّ هدى في العالمين فإنّه ..... هداي ، وما لي في الوجود منازع
(513) أصوّر مهما شئت من عدم ، كما ..... أقدّر مهما شئت ، فهو مطاوع
(514) وأفني إذا شئت الأنام بلمحة..... وأحيي بلفظ من حوته البلاقع
(515) وأجمع ذرّات الجسوم من الثّرى ..... وأنشي كما كانت ، وإنّي بادع
(516) وفي البحر لو نادى باسمي حوتها ..... أجبت وإنّي للمناجين سامع
(517) وفي البرّ لو هبّت رياح على الثّرى ..... أحيط وأحصي ما حوته البقائع
(518) وخلف معالي قاف لو يستغيث بي ..... مغاث فإنّي ثمّ للضّرّ دافع
(519) وأقلب أعيان الجبال ، فلو أقل ..... لها : ذهبا كوني ، فهنّ فواقع
(520) وأجري إذا شئت السفائن في الثرّى ..... وفي البحر لو أبغي المطيّ سارع
(521) وإنّ الطّباق السّبع تحت قوائمي ..... ورجلي على الكرسيّ ثمّة رافع
(522) وبيتي سقف العرش حاشاي ليس لي .... مكان ومن فيضي خلقن المواضع
(523) وأجري على لوح المقادير ما أشا ..... وبالقلم الأعلى فكفّي بارع
(524) فسدرة أوج المنتهى لي موطن..... وغاية غايات الكمال مشارع
(525) فكلّ معاش الخلق تجريه راحتي ..... لراحتهم جودا ، ولست أصانع
(526) وفي كلّ جزء من تراكيب هيكلي ..... لوسعي ، فالكرسيّ والعرش ضائع
(527) فلا فلك إلّا وتجريه قدرتي ..... ولا ملك إلّا لحكمي طائع
(528) وأمحو الذي باللّوح قد كان ثابتا ..... وأثبت إذا وقعت ثمّ وقائع
(529) وإنّي على هذا ، عن الكلّ فارغ ..... وليس به لي همّة وتنازع
(530) ووصفي حقّا فوق ما قد وصفته ..... وحاشاي من حصر ومالي قاطع
(531) وإنّي علي مقدار فهمك واصف..... وإلا فلي من بعد ذاك بدائع
(532) وثمّ أمور ليس يمكن كشفها ..... بها قلّدتني عقدهنّ الشرائع
(533) قفوت بها آثار أحمد تابعا ..... فأعجب لمتبوع وما هو تابع
(534) نبيّ له فوق المكانة رتبة ..... ومن عينه للنّاهلين منابع
(535)عليه سلام اللّه منّي وإنّما ..... سلامي على نفسي النّفيسة واقع
شرح الأبيات :-
( 495 ) أنا الحقّ والتحقيق جامع خلقه ..... أنا الذّات والوصف الّذي هو تابع
المعنى :
يكرر الجيلي هنا مقولة الحلاج “ أنا الحق “ ، هذه المقولة التي تسببت بهجوم العدوّ وبحرج الصديق . ونحن في صدد إعداد بحث عن الحلّاج وكلمته المشهورة “ أنا الحق “، ولنا في تفسيرها أقوال دافعة لكل شك وريبة ، لذلك لن نستبق الأمور هنا ونفصّل معاني مقولة “ أنا الحق “ .
بل نكتفي بأن نقول : إن الصوفي عندما يقول " أنا الحق " ، فهو يكون قد وصل إلى مقام "أنا الحق ".
ومقام “ أنا الحق “ لا يعني أبدا أن الإنسان أصبح هو اللّه ، بل كلمة "حق" هنا تعني الثبات .
فالعبد يظل يتقلب في أطوار المقامات حتى يصل إلى مقام لا ينتقل عنه ويثبت فيه ، فإذا وصل إلى هذا الثبات عبّر عنه بقوله : أنا الحق ، أي أنا الثابت الذي لا يتغير ، والذي لا يلحقه - بعد الآن - باطل من أي وجه من وجوهه .
فالجيلي هنا أصبح حقا ثابتا في تحققه بجميع حقائق المخلوقات .
وأصبح له ذات وهوية عندما تحلّى بالأوصاف الإلهية ، وهويته هي ذات ثابتة لا تتغير ، ويلحقها كل هذه الأوصاف التي يذكرها في الأبيات السابقة واللاحقة .
( 496 ) فأحوي بذاتي ما علمت حقيقة ..... ونوري فيما قد أضاء ، فلامع
المعنى :
ينتقل الجيلي الآن من تفصيل مقام العبد الذي تجلّت فيه صفة الحياة ودوره ، إلى القول بأنه بعد صفة الحياة قد تجلّت فيه صفة العلم ، ويقول عن هذا المقام في [ الإنسان الكامل ج 1 / ص 38 ] : “ ومنهم من تجلّى اللّه عليه بالصفة العلمية ، وذلك أنه لما تجلى عليه بالصفة الحياتية السارية في جميع الموجودات ذاق هذا العبد بقوة أحدية تلك الحياة جميع ما هي عليه الممكنات ، فحينئذ تجلّت الذات عليه بالصفة العلمية فعلم العوالم بأجمعها على ما هي عليه من تفاريعها من المبدأ إلى المعاد ، وعلم كل شيء كيف كان وكيف هو كائن وكيف يكون ، وعلم ما لم يكن ولم لا يكون ...
كل ذلك علما أصليا حكميا كشفيا ذوقيا من ذاته ، لسريانه في المعلومات ...
وهذا الكلام لا يفهمه الغرباء ولا يذوقه إلا الأمناء الأدباء “ ...
وهكذا يعلمنا الجيلي في هذا البيت ، أن الذات الإلهية تجلّت عليه بالصفة العلمية بعد الصفة الحياتية ، فيقول : “ فأحوي بذاتي ما علمت حقيقة “ ، أي وذاتي تحوي كل معلوماتي ، أي كل ما هو كائن ...
ويقول في الشطر الثاني ، “ ونوري فيما قد أضاء فلامع “ ، أي ونوري هو الذي يلمع في كل شيء مضيء .
( 497 ) ويسمع تسبيح الصّوامت مسمعي ..... وإنّي لأسرار الصّدور أطالع
المفردات :
الصوامت : ما هو صامت في حكم العادة والناس كالجمادات والنباتات الخ . . . مسمعي : أداة سمعي .
المعنى :
يشير الجيلي في هذا البيت إلى تجلي الذات الإلهية عليه بصفة السمع ، ويقول عن هذا المقام في [ الإنسان الكامل ج 1 ص 39 ] : “ ومنهم من تجلّى اللّه عليه بصفة السمع ، فيسمع نطق الجمادات والنباتات والحيوانات وكلام الملائكة واختلاف اللغات ، وكان البعيد عنه كالقريب ...
وفي هذا التجلي سمعت [ أي الجيلي ] علم الرحمانية من الرحمن فتعلمت قراءة القرآن “ . . . وهنا يؤكد الجيلي على هذا التجلي وتحصيله فيه ، فيقول : “ ويسمع تسبيح الصوامت مسمعي “ ، أي أن مسمعي يسمع تسبيح كل ما هو صامت في عرف الناس ، فأسمع تسبيح الشجر والحجر والحيوانات .
ونقول لا نستغرب شرعا أن تسبح هذه الصوامت اللّه عزّ وجلّ ، لأن هذا منصوص عليه في القرآن الكريم بقوله عزّ وجلّ :وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[ الإسراء : 44].
ونستأنس هنا بنص للجيلي يشير فيه إلى تسبيح كل شيء في الوجود ، فيقول :
“ . . . كل شيء في الوجود يسبّح الحق من حيث كل اسم ؛ فتسبيح الموجودات للّه من حيث اسمه الحي هو عين وجودها بحياته ؛ وتسبيحها له من حيث اسمه العليم هو دخولها تحت علمه ؛ وقولها له “ يا عالم “ ، هي كونها أعطته العلم من نفسها بأن حكم عليها أنها كذا وكذا ؛ وتسبيحها له من حيث اسمه القدير هو دخولها تحت قدرته ؛ وتسبيحها له من حيث اسمه المريد هو تخصيصها بإرادته على ما هي عليه ؛ وتسبيحها له من حيث اسمه السميع هو إسماعها له إياه كلامها وهو ما تستحقه حقائقها بطريق الحال ، لكنها فيما بينها وبين اللّه بطريق المقال ؛ وتسبيحها له من حيث اسمه البصير هي تعينها تحت بصره بما تستحقه ؛ وتسبيحها له من حيث اسمه المتكلم هي كونها موجودة عن كلمته ؛ وقس على ذلك باقي الأسماء “ .
وهكذا كل مخلوق جامد صامت يسبّح ، وتسبيحه هو عين تكوينه وانفعاله للاسم الإلهي ، وهو ما يسميه الجيلي التسبيح بلسان الحال ، ولكن لسان الحال هذا هو لسان مقال فيما بين المسبّح الصامت وبين اللّه ، يسمعه من كشف اللّه عنه . . .
أما قول الجيلي في الشطر الثاني ، “ وإني لأسرار الصدور أطالع “ فهذا يعني أنّ اللّه عزّ وجلّ كشف له عما تخفي الصدور ، وذلك لأن من كان الحق عزّ وجلّ سمعه فهو يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما تخفي الصدور .
( 498 ) وأعلم ما قد كان في زمن مضى ..... وحالا ، وأدري ما أراه مضارع
المعنى :
يقول الجيلي ؛ “ وأعلم ما قد كان في زمن مضى حالا “ ، أي وأعلم الماضي وأعلم الحاضر . ويقول ؛ “ وأدري ما أراه مضارع “ ، أي وأرى المستقبل ، ولا يكفي أنني أراه بل أدريه .
ونقف هنا عند قوله “ وأدري ما أراه “ في المستقبل ، لنقول إنّ الإنسان قد يكشف له في رؤيا أو في منام عما سيحدث في المستقبل ، ولكن الرؤية هنا حيث أنها لم تقع بعد فهي معرّضة للتبديل ومعرّضة للتفسير والتأويل ، لذلك أتى الجيلي بعبارة “ وأدري ما أراه “ ، ليخبرنا بأنه يعلم تأويل ما يرى في المستقبل .
( 499 ) ولو خطرت في أسود الليل نملة ..... على صخرة صمّا فإنّي مطالع
المفردات :
صخرة صما : الصماء من الصخور هي الممتلئة القاسية الصلبة ، وذلك لأن كل أجوف فهو رنان وكل ممتلئ فهو أصم لا يرجّع صوتا .
المعنى :
ينتقل الجيلي هنا من تجلي صفة العلم والسمع إلى تجلي صفة البصر ؛
فيقول : “ ولو خطرت في أسود الليل نملة “ ، أي لو مشت نملة سوداء في ليلة ظلماء ، وقد استخدم الجيلي في هذا الشطر كل ما يشعرنا بتمام الظلام والسكون ، فالنملة صغيرة تكاد لا ترى ، ولونها الأسود يضيع في سواد الليل ، وهذه النملة لا تمشي بل تخطر ، أي لا تكاد تلامس الأرض ، لأن فعل خطر هو فعل أدق وأرهف من فعل مشى وهو يستخدم للأطياف وقياسا للأجسام ....
فيكون معنى هذا البيت على ما يريد الجيلي : أنه لو مشت نملة سوداء ، مشيا لطيفا دون حس ، وفي ليلة شديدة السواد ، وعلى صخرة صماء لا ترجّع صوتا ، فإنه يراها .
( 500 ) أعدّ الثّرى رملا مثاقيل ذرّه ..... وأحصي عديد القطر وهو هوامع
المفردات :
مثاقيل : جمع مثقال . القطر : ج . قطرة . هوامع : هامع ، هابط .
المعنى :
يتابع الجيلي تصوير عطاء ربّه ، ويحدثنا بنعمته تعالى عليه فهو الآن وقد تجلت عليه الذات بصفة البصر ، ولا يخفى علاقة السمع والبصر بالعلم ، يقول :
“ أعد الثرى رملا مثاقيل ذرة “ ، أي وأستطيع أن أعدّ حبات رمل الأرض كلها ، وليس فقط أعدّ حبات الرمل بل أعلم مثقال ذرات الرمل هذه ووزنها . . .
ويتابع بقوله في الشطر الثاني : “ وأحصي عديد القطر وهو هوامع “ ، أي وأستطيع أن أعد قطرات الماء الموجودة في المطر وهو نازل هابط . وقوله “ وهو هوامع “ أي وهو هابط ، ليبين لنا أن علمه هذا ليس مبنيا على الملاحظة والاختبار بل على الكشف والشهود .
فالجيلي لم يعدّ قطرات الماء قطرة قطرة بل أعطاه اللّه تعالى ذلك بطريق الكشف وأشهده إياه عيانا ، لذلك يستطيع معرفة عدد حبات المطر ، والمطر في حركة لم يتوقف حتى يعدّه . . .
( 501 ) وأحكم موج البحر وسط خفيّها ..... عيارا ومقدارا ، كما هو واقع
المفردات :
وسط خفيها : وسط لججها .
المعنى :
يتابع الجيلي ، فيقول ؛ “ وأحكم موج البحر وسط خفيها عيارا ومقدارا “ ، أي وإنني أعلم بإحكام عيار ومقدار موج البحر ، والبحر مائج وسط لججه .
وقوله “ كما هو واقع “ ، أي وتكون هذه الأمواج على ما هي عليه في الواقع .
( 502 ) وأنظر تحقيقا بعيني محقّقا ..... قصور جنان الخلد وهي قلائع
المفردات :
قلائع : ج . قلعة ، بمعنى الممتنع والبعيد العالي .
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّي صفة البصر في العبد ، فيقول : “ وانظر تحقيقا بعيني “ ، أي وأنظر بعيني حقيقة .
ويكمل بقوله ؛ “ محققا قصور جنان الخلد ، وهي قلائع “ ، أي أتحقق من قصور الجنان ، وهي على ما هي عليه من الامتناع والبعد والعلو .
فيكون المعنى العام ، أن الجيلي - وقد تجلى اللّه عليه بصفة البصر - ينظر بعينيه حقيقة ليتحقق من قصور الجنة ، فيراها على الرغم من أنها كالقلعة المنيعة التي لا يعلمها أحد .
( 503 ) وأتقن علما بالإحاطة جملة ..... لأوراق أشجار هناك أيانع
المفردات :
هناك : أي في جنان الخلد .
المعنى :
يتابع الجيلي وصف تجلّي صفة البصر على ذاته ، فيخبرنا ؛ بأنه يعلم إحاطة وجملة عدد أوراق شجر الجنة .
( 504 ) وكلّ طباق في الجحيم عرفتها ..... وأعرف أهليها ، ومن ثمّ واقع
المفردات :
طباق : جمع طبقة . وأعرف أهلها : وأعرف أهل النار . ومن ثم واقع : من سيقع في النار.
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّي صفة البصر ، فيقول ؛ وعرفت طبقات النار كلها ودركاتها وعرفت أهلها كذلك . كما إنني عرفت من هو الذي سيقع في النار من أهلها .
وقول الجيلي هنا : “ ومن ثمّ واقع “ ، فيه إشارة إلى التبديل .
وقد ورد في الصحاح أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : “ إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثم علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع ، برزقه وأجله وشقي أو سعيد .
فو اللّه إن أحدكم - أو الرجل - يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع - أو ذراع - فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها “ . وقال رجل يسأل رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم : أيعرف أهل الجنة من أهل النار ؟
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : نعم . قال الرجل : فلم يعمل العاملون ؟
قال صلّى اللّه عليه وسلم : كل يعمل لما خلق له .
وفي حديث صحيح آخر عن الإمام علي رضي اللّه عنه قال :
“ كنا جلوسا مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم ومعه عود ينكت في الأرض . وقال : ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة . فقال رجل من القوم : ألا نتكل يا رسول اللّه ؟
قال صلّى اللّه عليه وسلم : لا ، اعملوا ، فكل ميسر “ ، ويفهم من كلامه صلّى اللّه عليه وسلم فائدة العمل ودوره في إمكانية التبديل ، وأن اللّه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت . .
( 505 ) وأنواع تعذيب هناك علمتها ..... وأهوالها طرّا ، وهنّ فظائع
المفردات :
هناك : أي في طباق الجحيم . وأهوالها : جمع هول ، وهو الأمر الفظيع .
طرا : جميعا . فظائع : جمع فظيعة وهي الأمر العظيم المفزع .
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّي صفة البصر ، فيقول : “ وأنواع تعذيب هناك علمتها “ ، أي وعلمت أنواع التعذيب الموجودة في طباق الجحيم . ويقول : “ وأهوالها طرا “ ، أي وعلمت أهوال الجحيم جميعها .
وقوله “ وهن فظائع “ ، أي وأؤكد لكم من معرفتي هذه ، أن أنواع التعذيب التي في طباق الجحيم والأهوال الموجودة هناك هي فظيعة ، وهذا الإخبار فيه الكثير من التعليم والترشيد .
( 506 ) وأملاكها حقّا عرفت ، ولم يكن ..... عليّ بخاف ما له أنا صانع
المفردات :
أملاكها : جمع ملك ، وهنا يقصد الملائكة المكلّفة بالعذاب في الجحيم .
المعنى :
يتابع الجيلي فوائد تجلّي صفة البصر ، فيقول : “ وأملاكها حقا عرفت “ ، أي وعرفت ملائكة الجحيم كلها .
ويكمل بقوله ؛ “ ولم يكن عليّ بخاف ماله أنا صانع “ ، أي وكيف يخفى عليّ الجحيم ودركاته وهو من صنعي .
ونقول هنا في تفسير كلام الجيلي ، إن الإنسان هو الذي ينزل نفسه في طباق الجحيم بذنوبه ، فالإنسان هو صانع جحيمه بما أتى من ذنوب قلبية وقالبية .
وننبّه إلى الفرق بين الجنة والجحيم ، فالجنة قد يهبها اللّه عزّ وجلّ منة منه وفضلا ودون سبب محدد إلى عبد من عباده ، ولكن اللّه عزّ وجلّ لا يرمي بعبد من عباده في النار دون ذنب ودون سبب .
فالجنة قد تكون فضلا من اللّه ولكن الجحيم دائما هو بأعمال الإنسان ، لأن اللّه سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد .
فاللّه عزّ وجلّ إن شاء غفر لعبده ذنوبه وأدخله الجنة ورقاه في مراتبها ، وإن شاء حاسب عبده بذنوبه وأذاقه أهوال جحيمه .
( 507 ) وكلّ عذاب ثمّ ذقت ولم أبل ..... أأخشى ، وإني للمقامين جامع
المفردات :
ولم أُبَل : أي ولم أبال .
المعنى :
يقول الجيلي ؛ “ وكل عذاب ثم ذقت ولم أبل “ ، أي ذقت كل أنواع العذاب ولم أبال بما أذوق من العذاب .
وذلك لأنني لا أخاف العذاب إذ كيف أخاف “ وإني للمقامين جامع “ ، أي وأنا أجمع المقامين ، مقام الجنة ومقام النار ...
وهنا يشير الجيلي إلى أن المؤمن لا يخاف من عذاب النار لأنه مبشّر بالجنة .
فكل مؤمن مآله إلى الجنة لذلك حين يرد النار ، وما من إنسان إلا ويردها كل بحسب أعماله ، فهو لا يخاف .
وبما أن كل مؤمن هو مبشر بالجنة فهو حكما جامع للمقامين ، لمقام النار عند مروره فيها في البداية ، ولمقام الجنة حين إقامته فيها أبد الآباد ...
لذلك الجيلي هنا لم يخف ، ولم يبال بالعذاب عند وروده الجحيم ، لأنه يعلم خاتمته في الجنة ، وأن هذا العذاب سينقلب إلى نعيم مقيم .
( 508 ) وكلّ نعيم إنّني لمنعّم ..... به ، وهو لي ملك ، وما ثمّ رادع
المفردات :
رادع : مانع .
المعنى :
يتابع الجيلي وصف رؤيته للجنان ، فيقول ؛ “ وكل نعيم إنني لمنعم به “ ، أي وبعد أن ذقت الجحيم ، تنعّمت بكل نعيم .
وهذا النعيم الذي أتنعم به هو ملكي لا يشاركني فيه أحد ولا يزول .
كما أنه لا يقوم مانع من ذاتي ، أو من خارج ، يمنعني من التنعّم بملكي . . . وهكذا نعيم أهل الجنة ، يتنعمون دون أي رادع في ملكهم .
( 509 ) وكلّ عظيم في البريّة إنّه ..... كقطرة ماء من بحاري دافع
المعنى :
يتابع الجيلي وصف تجلّي الصفات الإلهية على ذات العبد ، فبعد صفة الحياة والعلم والسمع والبصر يصل إلى تجلي القدرة ،
فيقول : “ وكل عظيم في البرية “ ، أي كل عظيم تراه عيناك من البشر . . “ كقطرة ماء من بحاري دافع “ ، أي فهذا العظيم الذي تراه وتكبّر عظمته ، فإن عظمته هي كنقطة ماء دفعتها بحاري . . .
وما على القارئ إلا أن يتأمل المسافة التي بين نقطة الماء وبين البحر ، إنها هي عين المسافة التي بين عظمة كل عظيم وبين عظمة الجيلي [ المجلى لصفة القدرة ] .
( 510 ) وكلّ حكيم كان ، أو هو كائن ..... فمن نوري الوضّاح في الخلق لامع
المفردات :
الوضاح : الظاهر الجلي . لامع : يلمع .
المعنى :
يقول الجيلي ؛ “ وكل حكيم كان ، أو هو كائن “ ، أي وكل حكيم من البشر موجود الآن ، أو سيوجد . . “ فمن نوري الوضاح في الخلق لامع “ ، أي فهذا الحكيم يلمع في الخلق بسبب نوري الظاهر فيه ...
وإذا تأملنا العلاقة بين الحكمة وبين النور ، فربّ نجد الجواب في أن الحكمة لا ينالها الإنسان بالكسب ، بل هي وهب إلهي يؤتى للإنسان ، وكل وهب فهو نوراني “ ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . . . “ .
( 511 ) وكلّ عزيز بالتّجبّر قاهر ..... ببطش اقتداري للبريّة قامع
المعنى :
يتابع الجيلي بيان تجلي صفة القدرة ، فيقول ؛ وكل عزيز تراه في الكون
يقهر الناس بتجبره ، فهو في الواقع يقمع الناس ويقهرهم ببطش اقتداري أنا ، وليس ببطش اقتداره هو ، فلا قدرة له إلا قدرتي .
( 512 ) وكلّ هدى في العالمين فإنّه ..... هداي ، وما لي في الوجود منازع
المعنى :
يتابع الجيلي وصف تجلّي صفة القدرة عليه ، فيقول ؛ وكل هدى يهدى بداعية في الناس فإنه من هداي ، وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى :إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ[ آل عمران : 73 ] . . .
ويقول في الشطر الثاني ؛ “ ومالي في الوجود منازع “ ، أي إنني أفعل ما أريد في الوجود ، لا ينازع فعلي أحد .
( 513 ) أصوّر مهما شئت من عدم ، كما ..... أقدّر مهما شئت ، فهو مطاوع
المفردات :
فهو مطاوع : أي العدم مطاوع .
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّي صفة القدرة الإلهية على ذات الإنسان ، فيقول وهو في هذا التجلي ؛ “ أصور مهما شئت من عدم “ ، أي أخلق من العدم ما أشاء ، فقدرتي توجد المعدوم وتصوره . . .
ويتابع بقوله ؛ “ كما أقدّر مهما شئت ، فهو مطاوع “ ، أي أن قدرتي تسع المقدّر كذلك وليس فقط الموجود ، فأقدّر من العدم ما أشاء بعد أن أصور منه ما أشاء ، والعدم يطاوعني في تصوير الموجودات وتقديرها كما أشاء .
والجدير بالذكر هنا ، أن الجيلي يرى أن القدرة هي قوة ذاتية لا تكون إلا اللّه عزّ وجلّ ، وشأنها أن تبرز الموجودات من العدم إلى الوجود ، وهذه القدرة الإلهية هي عين القدرة الموجودة في الكائنات ، ولكن في نسبتها إلى الخلق تسمى قدرة حادثة وفي نسبتها إلى الحق تعالى تسمى قدرة قديمة .
والقدرة في نسبتها إلى الإنسان عاجزة عن الإختراعات من العدم ، أي عاجزة عن إيجاد المعدوم . . .
فالإنسان حين يتجلى اللّه عليه بصفة القدرة ينتفي عنه العجز وتتكون الأشياء بقدرته ، ومن هذا التجلي تصرفات أهل الهمم ، ومنه أيضا عالم الخيال وما يتصور فيه من غرائب وعجائب ، ومنه أيضا المشي على الماء والطيران في الهواء إلى غير ذلك من الخوارق ....
( 514 ) وأفني إذا شئت الأنام بلمحة ..... وأحيي بلفظ من حوته البلاقع
المفردات :
البلاقع : جمع بلقع ، والبلقع أو البلقعة هي الأرض القفر التي لا شيء بها .
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّيات صفة القدرة ، يقول ؛ “ وأفني إذا شئت الأنام بلمحة “ ، أي إذا شئت ففي قدرتي أن أفني الناس كلهم بلمحة واحدة ، وذلك لأنّ قدرتي هي من آثار تجليات القدرة الإلهية ، واللّه عزّ وجلّ أمره كلمح البصر ، قال تعالى :وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ[ القمر : 50 ] . . .
ويتابع الجيلي بقوله ؛ “ وأحيي بلفظ من حوته البلاقع “ ، أي ليس في مقدوري فقط أن أفني الناس كلهم لو أشاء ، بل في قدرتي كذلك أن أحيي بلفظ ، والمقصود به هنا لفظ “ كن “ ، من حوته الأرض وكان مدفونا بها ، بكلام آخر إنه يحيى الميت بلفظ كن . . . فالعبد إذا تجلّى اللّه عليه بصفة القدرة يقول للشيء كن فيكون .
( 515 ) وأجمع ذرّات الجسوم من الثّرى ..... وأنشي كما كانت ، وإنّي بادع
المفردات :
الجسوم : جمع جسم . بادع : مبدع ، خالق .
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّيات صفة القدرة ، فيقول ؛ “ واجمع ذرات الجسوم من الثرى “ ، أي وبعد موت الناس وفنائهم وتبعثر ذرات جسومهم في الأرض فإنني أجمع ذرات جسومهم بعد تبعثرها . . .
ويقول ، “ وأنشىء كما كانت “ ، أي وانشىء هذه الجسوم كما كانت أول مرة . . . وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى :قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ[ يس : 78 و79 ] .
وينهي الجيلي هذا البيت بقوله ؛ “ وإني بادع “ ، أي وإني قادر على أنواع الإبداع والخلق .
( 516 ) وفي البحر لو نادى باسمي حوتها ..... أجبت ، وإنّي للمناجين سامع
المعنى :
يتابع الجيلي تجلّيات صفة القدرة ، ويتداخل معها من الصفات السابقة صفة السمع ، يقول ؛ “ وفي البحر لو نادى باسمي حوتها أجبت “ ، أي في البحر لو نادى باسمي من هو في بطن الحوت لأجبته . . .
و “ حوتها “ هنا هي بدل اشتمال تعني من كان في بطن الحوت ، وهو وارد في اللغة ، قال تعالى :وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ[ يوسف : 82].
بمعنى إسأل أهل القرية . . . قوله “ وإني للمناجين سامع “ معناه ، لا يستطيع الناس
أن يسروا نجواهم عني فإني أسمع السر والنجوى .....
( 517 ) وفي البرّ لو هبّت رياح على الثّرى ..... أحيط وأحصي ما حوته البقائع
المفردات :
البقائع : جمع بقعة وبقاع . والبقيع من الأرض هو المكان المتسع ولا يسمى بقيعا إلا وفيه شجر .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل تجلّيات الصفات على ذاته ، فيقول ؛ “ وفي البر لو هبت رياح على الثرى “ ، أي كما في البحر كذلك في البر ، لو سارت الريح على رمال الأرض ، فإنني أحيط بما حوته الأرض وأحصي كل شيء عددا.
( 518 )وخلف معالي قاف لو يستغيث بي ..... مغاث فإني ثمّ للضّرّ دافع
المفردات :
معالي قاف : أعالي جبل قاف، وجبل قاف هو في الرمز الصوفي يمثل الامتناع والبعد فكل بعيد ممتنع هو خلف جبل قاف . مغاث : مستغيث.
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل تجلي صفة القدرة ، وقوله : “ وخلف معالي قاف لو يستغيث بي مغاث “ ، معناه أنه لو قام جبل قاف على علوه بيني وبين إنسان ، وهذا الإنسان استغاث بي ، لسمعته.
وقوله : “ فإني ثم للضر دافع “ ، معناه وإن هذا المستغيث رغم وجوده خارج الأرض ، وبينه وبين سكانها يرتفع جبل قاف ، واستغاث بي ، فليس فقط في قدرتي أن أسمعه ، بل وأدفع عنه الضر ، والأذى الذي يستجير منه . . .
ونقول ، هذا مع العلم بأنه لا يكشف الضر إلا اللّه عزّ وجلّ لقوله تعالى :وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ[ يونس : 107 ] ،
ولكن هذا العبد الذي يسمع المستغيث ويكشف الضر ، فهو العبد الذي فني عن نقائصه البشرية وبقي بروحه القدسية في مراتب قرب الولاية ، يسمع بالحق ويرى بالحق ويبطش بالحق ويكشف الضر بالحق ، فالقدرة للّه عزّ وجلّ لا يشارك فيها ، يعطيها لمن يشاء من عبيده ، وسبحان من يعطي من يشاء من عبيده بغير حساب ...
( 519 ) وأقلب أعيان الجبال فلو أقل ..... لها : ذهبا كوني ، فهنّ فواقع
المفردات :
أعيان الجبال : جمع عين الجبل ، وعين الجبل هو مادته أي التراب .
فهن فواقع : أي تصبح ذهبا أصفر فاقعا .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل تجلّيات صفة القدرة ، ويقول : إن في قدرته أن يقلب تراب الجبال ذهبا ، فلو قال لتراب الجبال : كن ذاهبا ، فإنه يكون ، وفي ذلك إشارة إلى كلمة التكوين “ كن “ .
وليس هذا بمستبعد أي ليس بمستبعد أن يقلب اللّه عزّ وجلّ تراب الجبال ذهبا لمن يريد من خلقه ، وهو تعالى قد أرسل جبريل إلى نبيه صلّى اللّه عليه وسلم يسأله أن يجعل له جبل أحد ذهبا . . .
ويجدر أن ننبه هنا إلى كل أدوات الشرط التي يستخدمها الجيلي ، كما في قوله في الأبيات السابقة “ لو نادى باسمي حوتها “ “ لو هبت رياح على الثرى “ ، “ لو يستغيث بي مغاث “ ، “
فلو أقول لها : ذهبا كوني “ وقوله في البيت اللاحق “ إذا شئت “ ، “ لو أبغي “ . . . فأدوات الشرط هذه تلمح إلى ما أعطى الحق عزّ وجلّ الجيلي من القدرة ، كما تبين أنه لم يفعل بقدرته شيئا ، وذلك لأنه لا يشاء إلا ما يشاء اللّه عزّ وجلّ .
( 520 ) وأجري إذا شئت السفائن في الثّرى .... وفي البحر لو أبغي المطيّ تسارع
المفردات :
في الثرى : في التراب . المطي : ما يركب ويمتطى من الدواب .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل تجلّيات صفة القدرة وما يمنحه العبد من آثارها ، فيقول هنا : “ وأجري ، إذا شئت ، السفائن في الثرى “ ، أي ولو أشاء لسيّرت السفن على التراب ، وفي ذلك تأكيد على قدرة تمكّن السفن ، التي لا تجري إلا على الماء ، من الجريان على التراب . .
وقوله : “ وفي البحر ، لو أبغي ، المطيّ تسارع “ ، معناه ، وكما أسيّر السفن في التراب كذلك لو أريد لجعلت الدواب تسارع في البحر .
[ قارن مع “ أرض الحقيقة “ في فتوحات ابن العربي ، ج 1 / ص126 ،ص - 130 ] .
.
يتبع