سادسا شرح الأبيات من 127 إلى 140 من مظاهر التوحيد الجزء الأول .شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 127 إلى 140 على مدونة عبدالله المسافر باللهسادسا شرح الأبيات من 127 إلى البيت 140 من مظاهر التوحيد "وحدة الوجود" الجزء الأول
(127) وها أنا ذا أخفي وأظهر تارة ..... لرمز الهوى ، ما السرّ عندي ذائع
(128) وإيّاك أعني فاسمعي جارتي ، فما ..... يصرّح إلّا جاهل أو مخادع
(129) ولكنني آتيك بالبدر أبلجا ..... وأخفيه أخرى ، كي تصان الودائع
(130) خذ الأمر بالإيمان من فوق أوجه ..... ونازع إذا نفس أتتك تنازع
(131) فللمرء في التّنزيل أوفى أدلّة ..... ولكنّ قلبي بالحقائق والع
(132) وفي السّنّة الزّهراء كلّ عبارة ..... بها من إشارات الغرام وقائع
(133) فإن كنت ممّن ما له يد مأخذ ..... سوى بصريح للتّشكّك قانع
(134) سأنشي روايات إلى الحقّ أسندت ..... وأضرب أمثالا لما أنا واضع
(135) وأوضح بالمعقول سرّ حقيقة ..... لمن هو ذو قلب إلى الحقّ راجع
(136) تجلّى حبيبي في مرائي جماله ..... ففي كل مرأى للحبيب طلائع
(137) فلمّا تبدّى حسنه متنوّعا ..... تسمّى بأسماء فهنّ مطالع
(138) فأبرز منه فيه آثار وصفه ..... فذلكم الآثار ما هو صانع
(139) فأوصافه والاسم والأثر الذي ..... هو الكون ، عين الذات واللّه جامع
(140) فما ثمّ من شيء سوى الله في الورى ..... ولا ثمّ مسموع ولا ثمّ سامع
شرح الأبيات :-
( 127 ) وها أنا ذا أخفي وأظهر تارة ..... لرمز الهوى ، ما السرّ عندي ذائع
المفردات :
لرمز الهوى : الرمز في لغة المتصوفين هو المعنى الباطن المخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به إلا أهله [ الطوسي ، اللمع ، ص 422 ] .
السر : يطلق المتصوفون لفظ السر على ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وربه من الأحوال ، والسر لا يذاع بل يرمز إليه بالإشارات .
[ الكمشخانوي ، جامع الأصول ، ص 193 . الهجويري ، كشف المحجوب ، ص 629 ].
المعنى :
لا تظن ، أيها الطالب ، أنني سأصرح لك بالعبارة عن أسرار الشريعة كلها ، فما أنا ممن يذيع الأسرار . . .
ولكنني أبدي لك تارة حال العابد العاشق ، وأخفيه عنك طورا ، حتى يفهم العاشق منكم إشاراتي ، وتخفى رموزها على اللاهي .
( 128 ) وإيّاك أعني فاسمعي جارتي ، فما ..... يصرّح إلّا جاهل أو مخادع
المفردات :
يصرح : يكشف الأسرار صراحة ، ويستخدم المتصوفة “ التصريح “ في مقابل “ التلويح “ بالأسرار .
المعنى :
وأنت أيها الطالب للمقام المحمدي ، أنت مقصودي بالخطاب مهما ورّيت برمز أو بإشارة ، فاسمع وافهم عني . . .
وإنني لن أصوغ لك الأسرار عبارة صريحة . فما يصرّح بالأسرار إلا جاهل غفل عن كون الأسرار لا تحتملها الكلمات ، أو مخادع يصرّح بالأسرار حتى يقال عنه إنه صاحب سر ، ويشار إليه بالعرفان والولاية .
( 129 ) ولكنني آتيك بالبدر أبلجا ..... وأخفيه أخرى ، كي تصان الودائع
المفردات :
أبلجا : واضحا ، ظاهرا ، بيّنا . تصان : تحفظ .
المعنى :
يقول الجيلي ؛ هذه الأسرار سأوضحها لك تارة فتظهر بدرا غير منقوص ، وأخفيها تارة أخرى صونا لها لأنها ودائع لا تعطى إلا لأهلها .
( 130 ) خذ الأمر بالإيمان من فوق أوجه ..... ونازع إذا نفس أتتك تنازع
المفردات :
من فوق أوجه : من فوق وجهات النظر العقلية المتعددة . فللعقل أوجه كثيرة وسبل متعددة . نازع : خاصم النفس ، وحاربها .
المعنى :
يخاطب الجيلي طالب الأسرار ، قائلا ؛ خذ أيها الطالب هذه الأسرار التي أوضحتها لك بالإيمان من فوق وجهات النظر العقلية المتعددة .
فالإيمان يعلو بوحدته على تعددية السبل العقلية . . . سلّم لمضمون الإيمان ، ولكن إذا ما بدأت النفس بتقديم الحجج فنازعها وجاذبها حجة بحجة ، دفاعا عن إيمانك .
(131 ) فللمرء في التّنزيل أوفى أدلّة ..... ولكنّ قلبي بالحقائق والع
المفردات :
التنزيل : القرآن . أدلة : ج . دليل : وهو الحجة العقلية المنطقية .
بالحقائق : ج . حقيقة . والحقائق في لغة المتصوفين هي المعاني القائمة بالقلوب ، وهي منح من اللّه عزّ وجلّ تنكشف من الغيوب ،
ونجد معناها في قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم لحارث :
“ كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا . . . الحديث “ [ الكمشخانوي ، جامع الأصول . ص 38 ] .
المعنى :
يقول الجيلي مخاطبا الطالب للمقام المحمدي ؛ إن لم يسلّم قلبك للإيمان من فوق أوجه العقل ، فارجع إلى القرآن الكريم تجد فيه أدلة كافية على ما أطلب منك الإيمان به تسليما ،
ولكن قلبي أنا - أي الجيلي - مولع بالحقائق ، مسلّم لا يريد ولا يطلب دليلا ، لأنه لا ترضيه درجة اليقين الموجودة في الدليل العقلي .
والجيلي هنا تولّع قلبه بالحقائق ، ولكنه بدل أن يطلب الدليل العقليّ عليها ينتظر أن يمنّ اللّه عليه فتنكشف له هذه الحقائق من الغيوب ، وتتنزّل سكينة على قلبه .
والجيلي وإن كان لا يريد الدليل العقلي على الحقائق ، فهو يريد أن يتحقّق قلبه بمعاني هذه الحقائق .
( 132 ) وفي السّنّة الزّهراء كلّ عبارة ..... بها من إشارات الغرام وقائع
المفردات :
عبارة : تفصيل وبيان . إشارات : رموز وتوريات . وعند الصوفية هناك مواضيع تحتمل أن يعبّر عنها في جمل واضحة مفصّلة ، ومواضيع لا تحتملها الجمل ، ولا تقبل معانيها التفصيل لذلك يشيرون إليها إشارة . وعلى اللبيب أن يلتقطها .
وقائع : ج . وقعة ، وهي المرة من السقوط والوقوع ، والمقصود هنا أن السنة النبوية يقع فيها الكثير من إشارات الغرام .
المعنى :
يقول الجيلي مخاطبا الطالب للمقام المحمدي ، إن لم يسلّم قلبك للإيمان ، فارجع إلى القرآن الكريم ففيه أدلة كافية ، وارجع إلى السنّة النبوية الزهراء الواضحة ، ففيها كل بيان وتفصيل ؛ وستجد في تفصيلاتها إشارات للعبّاد العشّاق الذين تولّعت قلوبهم بالمعاني والحقائق .
( 133 ) فإن كنت ممّن ما له يد مأخذ ..... سوى بصريح للتّشكّك قاطع
المفردات :
ما له يد مأخذ : لا يقدر على الأخذ بالإشارات . بصريح للتشكك قاطع : لا يقطع تشكّكه إلا صريح العبارة . . .
المعنى :
فإن كنت أيها الطالب ، ممن لا يقدر على الأخذ بالإشارات ، ولا يقطع تشكّكه إلا صريح العبارة .
( 134 ) سأنشي روايات إلى الحقّ أسندت ..... وأضرب أمثالا لما أنا واضع
المفردات :
أُسندتُ : نسبت . لما أنا واضع : لما أنا منشىء من الكلام ، لما أقول .
المعنى :
يخاطب الجيلي طالب الحق ، قائلا ؛ إن كنت أيها الطالب ممن لا يفهم الإشارات ويكتفي بها ، فسأورد لك روايات أسندت إلى الحق عزّ وجلّ خاطبنا بها في القرآن والأحاديث القدسية .
وسأضرب لك الأمثال على أقوالي هذه .
ونلاحظ أن الجيلي سيبدأ في الأبيات اللاحقة ببيان وبتفصيل علاقة الحق بالخلق ، نقلا وعقلا وتمثيلا .
( 135 ) وأوضح بالمعقول سرّ حقيقة ..... لمن هو ذو قلب إلى الحقّ راجع
المفردات :
راجع : إن الانقلاب من الدنيا إلى الحق عزّ وجلّ هو في الواقع رجوع ، فالإنسان يرجع إلى الحق من الخلق ومن نفسه ، والغفلة عارضة .
المعنى :
يتابع الجيلي خطابه مع طالب الحق ، فيقول ؛ سأوضح لك ، أيّها الطالب ، بالأدلة العقليّة أسرار الحقائق .
فإن كنت صاحب قلب يطلب الرجوع إلى الحق ، فإنك ستقتنع بها وتحصّلها .
( 136 ) جلّى حبيبي في مرائي جماله ..... ففي كل مرأى للحبيب طلائع
المفردات :
تجلى : ظهر . وتجلّي الحق في المرائي يكون للخواص من الصوفية.
يقول القشيري [ الرسالة 1 / 243 ] : “ وأما الخواص فهم بين طيش وعيش ، لأنهم إذا تجلّى لهم طاشوا ، وإذا ستر عليهم ردّوا إلى الحظ فعاشوا “ . وإذا تجلى الحق عزّ وجلّ للإنسان في المرائي فإنه يشهده في كل مرأى .
مرائي : ج . مرأى ، وهو المنظر المرئي . طلائع : ج . طلعة وهي هنا تعني الظهور.
المعنى :
يقول الجيلي ؛ ظهر حبيبي في مرائي المخلوقات ، فلا ينظر ناظر إلى مشهد إلا ويرى نور جمال الحق طالعا فيه .
فالحق عزّ وجلّ إذا تجلّى لإنسان في مرائي المخلوقات ، وأشهده جماله في كل صورة ومرأى ، أنطقه “ بوحدة الشهود “ . ووحدة الشهود هي أن يشهد الإنسان الحق عزّ وجلّ في كل موجود ، ولا يرى لغيره وجودا . . .
ينظر إلى المخلوقات ولا يرى بعين قلبه إلا اللّه عزّ وجلّ ، لأنه تعالى لا يخلو منه مكان أو إنسان أو زمان .
وسيفصّل الجيلي في الأبيات اللاحقة ، كيف أن الوجود بأسره تحوّل إلى مظهر والظاهر فيه هو الحق عزّ وجلّ .
( 137 ) فلمّا تبدّى حسنه متنوّعا ..... تسمّى بأسماء فهنّ مطالع
المفردات :
تبدّى : ظهر . مطالع : ج . مطلع وهو موضع الطلوع ، وهنا هو ما نطلع منه إلى المعنى الواحد من هذه المناظر الجميلة المتعددة .
يقول الكمشخانوي [ جامع الأصول ، ص 55 ] : “ المطلع وهو مقام شهود الحق في كل شيء ، متجليا بصفاته التي ذلك الشيء مظهرها “ .
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : “ إن لكل آية ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا “ ، باختصار ، يمكن تعريف مطلع الشيء بأنه وجه الحق فيه [ را . المعجم الصوفي . للشارحة ].
المعنى :
تبدّى جمال الواحد متنوعا في حسن المظاهر الجميلة ؛ فأطلقنا على هذه المظاهر المتعددة أسماء جمال ، ولكنها أسماء فقط نطلع منها إلى المسمى الواحد ، إلى الجمال الأوحد .
فالجيلي ينظر إلى كل جميل على أنه مظهر للجمال الإلهي ، وبالتالي مدخل يرجعه إلى الواحد الجميل .
( 138 ) فأبرز منه فيه آثار وصفه ..... فذلكم الآثار ما هو صانع
المفردات :
فأبرز منه فيه : فاظهر الحق منه في الكون . الآثار : أتى الجيلي بالآثار هنا معرّفة للتأكيد على هويتها ، فهي ليست كأي أثر آخر بل هي آثار صنعته تعالى .
ما هو صانع : لما هو صانع ، حذفت اللام للضرورة الشعرية .
المعنى :
أبرز الحقّ عزّ وجلّ في الكائنات آثار صفاته العلية . . . ويا من تنكر تجلّيه في الكائنات ، أنظر حولك هل تجد سوى آثار صنعته تعالى؟! .
( 139 ) فأوصافه والاسم والأثر الذي ..... هو الكون ، عين الذات ، واللّه جامع
المفردات :
واللّه جامع : المقصود هنا هو مرتبة الألوهية الجامعة لوجهي الحق والخلق .
المعنى :
إن الأوصاف الإلهية والأسماء ، والكون الذي هو آثار الأوصاف والأسماء ، كل ذلك هو عين الذات ، فلا تعدّد ولا تعديد .
ومرتبة الألوهية تجمع الذات والأوصاف والأسماء والآثار .
ويرى الجيلي أن اسم “ اللّه “ هو اسم علم للذات الإلهية من جهة ، وهو من جهة ثانية اسم ترجع إليه الأسماء والصفات الإلهية كلها مع آثارها .
( 140 ) فما ثمّ من شيء سوى اللّه في الورى ..... ولا ثمّ مسموع ولا ثمّ سامع
المعنى :
الجيلي هنا ، وبعد أن أنطقه جمال الحق المتجلي في مرائي المخلوقات بوحدة الشهود ، يقرر أنه لا وجود حقيقي لشيء في الوجود ، وإن الموجودات كلها فانية وحقيقة ذاتها الفناء ، لأنها لا تقوم بنفسها بل تقوم بقيوم السماوات والأرض .
ويقرر أيضا أنه ما من شيء في الوجود ، وما ثمة إلّا اللّه عزّ وجلّ ، فالحق تعالى هو الظاهر في كل شيء من الأشياء .
وينبغي هنا أن نسارع إلى التأكيد بأنه عند القائلين بوحدة الشهود فاللّه عزّ وجلّ وإن كان موجودا في كل شيء فهو ليس موجودا في شيء من الأشياء على التحديد ، وعين الكفران باللّه تحديده عزّ وجلّ بشيء بعينه دون شيء .
تماما كما نؤكد عقلا ونقلا بأن اللّه عزّ وجلّ في كل مكان ، دون أن نحدّه تعالى بمكان دون مكان .
.