مقدمة المترجم والمحقق المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
مقدمة المترجم والمحقق على مدونة عبدالله المسافر بالله
مقدمة المترجم المثنوي المعنوي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
مقدمة المترجم والمحقق ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
الكتاب الرابع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة [ المترجم ]
الإنسان ذلك العالم الكبيرأتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوي العالم الأكبروأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر( بيتان منسوبان إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) .
1 - يعتبر الإنسان بمعناه « الأشمل الأعم » ثم بما اصطلح علي تسميته « بالإنسان الكامل » القاسم المشترك الأعظم في كل أعمال المتصوفة المسلمين ، فهو في تساميه وضعفه ، وعلوه وسقوطه ، وانصرافه إلى الملأ الأعلى وانصرافه عنه ، وطهره ودنسه الميدان الرحب الواسع الذي تدور حوله التجربة الصوفية ، يكون في بعض الأحيان الأكثر حضورا ، فالمعبود دائم ، لكن تجلي العبادة لا يكون إلا بوجود العابد ، وتبدو العلاقة في بعض الأحيان علاقة ذات خصوصية بحيث يكاد يحس الإنسان أنه مخلوق الهي أو شبة الهي ، ويفني عن ذاته تماما فينطق كما نطق أبو اليزيد البسطامي « سبحانى ما أعظم شاني » وينطق « ما في الجبة إلا الله « 1 » » .
..............................................................
( 1 ) انظر تفسير مولانا لهذه الشطحيات في الأبيات 2102 - 2145 من الكتاب الذي بين أيدينا .
« 4 »
والواقع أن هذا الحضور الدائم لله في الإنسان هو الذي يعطي الجدلية الصوفية في بعض الأحيان بعض الغرابة والذي أوقعها كما سنري - في تناقضات عديدة مع كثير من المشارب والنحل الإسلامية الأخرى ، وجعلها تجربة شديدة الخصوصية بمصطلحاتها ومادتها .
ولعلنا نغفل كثيرا من جوانب الفكر الصوفي إذا قلنا أن هذا الفكر ينشغل فحسب بهذه العلاقة بين الإنسان والله أو المخلوق والخالق بشكل انتزاعي وأنه لا يأبه بحياة الإنسان في جحيم الأرض ويشغله بقضية فوق طاقته تستنزف منه الجهد والطاقة وتصرفه عن تنمية نفسه « وبلده » وتلقي به في أمور غريبة لا تفضي إلى نتيجة ولا تؤدي إلى ثمرة ، والذي ينظر هذه النظرة إنما ينظر إلى الفكر الصوفي أو بمعني أصح إلي التصرف في عصور ضعفة وانحطاطه « وقد أصابه ما أصاب الإسلام ككل من سوء فهم وانحدار فكري وتحميل لفهم الآخرين أو لتفهيم الآخرين لنا أصولنا الثقافية » ، فإن أساس التربية الصوفية ، وتشكيل الشخصية وتنميتها وصقلها وتقويتها على أسس سليمة قائمة على جعل هذا الإنسان الغارق في الطين ، المخلوق من الحمأ المسنون ، إنسانا أعلى كاملا جديرا بالنفخة الإلهية التي نفخت في آدم وورثها هو وأصبح مسؤولا عنها . . كل التربية الصوفية والأخلاق الصوفية تجعل جل همها محو آثار هذا الطين وتجلية الروح « النفخة الإلهية » ورد الإنسان إلى أصله « مخلوقا إلهيا » لا هو بالمتدني ولا بالوضيع ولا بالجبان ولا بالهلوع ولا جاعلا الطين منتهي همه ومبلغ علمه مع ما يمكن أن يصل إليه هذا الاهتمام « بالطين » وإعطاء الظهر تماما للنفخة الإلهية من أن يتحول « الإنسان » ذلك المخلوق الإلهي إلي دابة هملاء أو سبع ضار « 1 » . وما يؤدي إليه هذا
..............................................................
( 1 ) أنظر الكتاب الذي بين أيدينا الأبيات 1454 - 1490 .
« 5 »
الاهتمام المتزايد بتربية « الطين » وجمع « القمامة » أي تحويل هذا العالم الذي نعيش فيه إلى غابة بكل ما في الغابة من مساوى ، بل وأسوأ ، لأن التكاثر هنا والتطاحن موجه بعقل جزئي لا يرى أبعد من مواطئ القدم ، فلا يكون هناك سوى « الجسد » ومطالبه فإذا شبع انطلق إلى الشذوذ في الفكر والمسلك وجر المجتمع من بعده إلى حمأة من الرذيلة لا نهاية لها « 2 » .
ليس ميدان الفكر الصوفي إذن كما يقال هو الغيبيات - فهكذا أفهمنا - فإن المخلوق الذي فيه نفخة من الإله ، وكان مقره الجنة ، ثم نزل إلى الأرض منفاه وغربته ، لابد وأن يعمل من أجل أن يكون جديرا بالعودة إلى أصله . . .
ومن ثم فالفكر الصوفي - وبخاصة في تجليه عند جلال الدين - هو فكر سيادة الإنسان الذي لا بد وأن يرتفع عن التناقض الشديد الذي يعذبه ويبسط ظلا من الحيرة والصراع عليه طوال حياته ، ذلك التناقض الذي عبر عنه مجد الدين سنائي بقوله :
ماذا أفعل بالروح وأنا من الطين .
وماذا أفعل بالجسد وأنا من عليين . « 3 » وعبر عنه حافظ بقوله :
لا أدري من يوجد بداخلي أنا المعذب فأنا صامت وهو في صراخ وعويل . « 4 » بل وعبر عنه قبلهما الصوفي العظيم أبو سعيد بن أبي الخير ( المتوفي سنة 440 ه - ) بقوله . . . « أحيانا أكون كالملاك ملازما للعبودية وأحيانا كالحيوان أحيا على الطعام
..............................................................
( 2 ) أنظر الكتاب الثالث الأبيات 2660 - 2700 وشروحها حيث يقدم بيانا عن أنهيار الحضارات .
( 3 ) سنائى ديوان ص 385 .
( 4 ) جامع نسخ حافظ غ 82 ص 63
« 6 »
والنوم وأحيانا كالوحوش أمزق . . . سبحان الله ما هذا التفرق وهذه الحيرة » وعبر عنه الصوفي العظيم نجم الدين كبرى ( المتوفي شهيدا في غزوة المغول 618 ) بقوله « في داخلي شيطان ، لا يخفى على . . وقطع رأسه ليس أمرا سهلا . . لقنته الإيمان ألف مرة .
ولم يدخل في الإسلام » هذه الحيرة التي يعبر عنها مولانا جلال الدين الرومي أجمل تعبير وأروعه وخاصة في ديوانه الأكبر « ديوان شمس الدين التبريزي » :
أنا الشيخ . . . أنا الشاب . . . أنا السهم . . . أنا القوس . .
أنا الدولة الخالدة : ألست أنا أنا . . . بل أنا أنا .
أنا سروة في بستان . . أنا روح في بدن . . . أنا نطقه في الفم . .
ألست أنا أنا . . بل أنا أنا أنا في دهشة من هذه الواقعة . . أنا في وعيي . . وفي غير وعيي أنا ناطق صامت . . أنا نوح مسكت من ذلك اللون . . لماذا أنا بلا لون وأي تشبث لي بتلك الجدائل أنا الرئيس ، أنا الإقبال معا .
أنا الملك ، أنا العرش معا .
أنا المحنة والإقبال ، أنا الداء والدواء أنا الدم واللبن ، أنا الطفل وأنا الشيخ أنا التابع والأمير ، أنا هذا وأنا ذاك أنا « شمس » ناثر السكر وأنا مدينة تبريز
« 7 »
أنا الساقي وأنا الثمل . . . أنا المشهور المغمور « 1 » لا أنا بالثمل . . ولا أنا بالمفيق ولا أنا بالنائم ولا باليقظ ولا أنا مع الحبيب . . ولا أنا بدونه . . ولا أنا بالمحزون ، ولا أنا بالمسرور . . .
ولو أني أستريح لحظة . . فإن نفسي لا تستريح بل أني أستريح . . إن لم أسترح لحظة .
. . . .
هناك جذبات في روحي من يجذبني أنا أعلمه أريد أن أستريح لحظة . . لكن هذا ليس في الإمكان .
إنه يصيبني بالجنون في كل يوم .
ثم يخرجني منه مرة ثانية فأنأ ألعوبة في يده ، ومن لعبه هذا أنا في حيرة أنا كأس يدار به أنا كأس يصب الدم أنا خمر يغلي حينا ، وأحيانا يضحي بي ثمل « 2 » في هذا الجهاد الأكبر « جهاد النفس » يرى المفكر الصوفي أو المرشد الصوفي أو الجامع بينهما مثل مولانا جلال
..............................................................
( 1 ) عن خط سوم ناصر الدين صاحب الزماني - تهران 1351 - ص ص 404 - 406
( 2 ) عن صاحب الأماني 406 - 408
« 8 »
الدين أن مسئوليته الأولي تجاه البشر أن يأخذ بأيديهم في هذه المعركة ويوصلهم إلى بر الأمان ، ففي مثل هذه المعركة التي تجري داخل الدم ، ولا تهدأ ، ولا هدنة فيها ، يقف العدو « النفس - الشيطان - الهوى - مغريات الدنيا - الهوس » - بالمرصاد ومن ثم لا بد للمقاتل من مرشد ومن أستاذ ( التدقيق على لزوم المرشد يتردد كثيرا في كل أجزاء المثنوي « 1 » ) وهذه سمة مهمة جدا من سمات عرفان مولانا جلال الدين : أنه مضاد تماما لتصوف الزهد والانسحاب أنه إن شئنا الدقة : تصوف الصراع والمواجهة والقتال ، ومن هنا تشيع روح « الحنو » علي البشر والنظر بعين الإشفاق بل وأحيانا الفهم إلى ألوان ضعفهم . .
فهي لازمة جدا في المعركة . . فلا معنى لعفة بلا إغراء . . ولا معنى لأي ارتفاع عن مغريات الدنيا إلا إذا كانت هذه المغريات موجودة بالفعل . . عرفان مولانا جلال الدين إذن عرفان ينزل إلى خضم الحياة . . ينازلها ويصارعها ويقف أمامها وجها لوجه :
- وعندما لا يكون عدو فالجهاد محال ، وإن لم تكن شهوة لا يكون هناك امتثال .
- ولا يكون صبر عندما لا يكون لديك ميل ، وعندما لا يوجد خصم ما الحاجة إلى قيامك بالاحتيال .
- انتبه ولا تجعل نفسك خصيا . . ولا تصر راهبا ، ذلك أن العفة رهينة بوجود الشهوة .
- ولا يمكن النهي عن الهوى إن لم يوجد هوى ، ولا يمكن القيام بالغزو ضد الموتى .
..............................................................
( 1 ) أنظر : الأبيات 1774 - 1777 من الكتاب الثالث .
« 9 »
- لقد قال « انفقوا » إذن فاكسبوا أولا . . ذلك أنه لا نفقه دون أن يسبقها دخل .
- وكذلك عندما قال اصبروا ، ينبغي أن تكون هناك رغبة حتى تشيح عنها بالوجه « 1 » .
ليس صراع الإنسان إذن في مقابل الأهواء ، وسعيه الحثيث نحو العودة إلى أصلة قائما على تجاهل هذه الرغبات والأهواء ، أو نفيها ، بل على مقاومتها مقاومة شديدة ، فالهروب هنا ليس يجدى ، وكيف يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه ، ومن شيطان يجري منه مجرى الدم يقول مولانا :
فلأهرب . . ما دام فيّ عرق ينبض .
ومتى يكون الهرب من الذات أمرا يسيرا .
فلا هو أمن في الهند ولا أمن في ختن .
ذلك الذي يكون خصمة نفسه التي بين جنبيه « 2 » .
الهدف إذن من كل التجربة الصوفية عند مولانا هو « سيادة الإنسان » أن يكون بالفعل سيدا على الأكوان كما خلق في الأصل . . ليس الإنسان إذن كما يقول الخيام . . ذرة تراب توحدت بالأرض . . أو قطرة ماء وامتزجت بالمحيط . .
ومجيئه إلي العالم مجئ ذبابة . . ظهرت ثم اختفت . . لا . . فماذا يكون الإنسان إذن كما عبر عنه مولانا جلال اللدين ؟ ! عليه أولا أن يعرف أصله وخلقه فهذه المعرفة هي الخطوة الأولى في معركته نحو التسامي إلى الأعلى .
2 - أ - يقول الحكماء إن الإنسان هو العالم الصغير ، وأن العالم هو الإنسان الكبير . . لكن مولانا جلال الدين جاء وعكس الآية ، ذلك أنه لا يمكن أن يوجد هناك في الخليقة ما هو أعظم من الإنسان :
..............................................................
( 1 ) مثنوى ، الكتاب الخامس ، الأبيات : 575 - 581 .
( 2 ) عن صاحب الزماني 416 .
« 10 »
- إذن فأنت في الصورة العالم الأصغر ، وأنت في المعني العالم الأكبر .
- وفي الظاهر يكون ذلك الغصن أصلا للثمرة ، لكن الفرع في الحقيقة من أجل الثمرة .
- فإن لم يكن الميل إلى الثمر والأمل فيه ، متى كان البستاني يغرس جذور الشجر ؟
- ومن ثم فإن ذلك الشجر على سبيل المعنى ولد من الثمر ، وإن كان الثمر قد ولد منه على سبيل الصورة « 1 » الإنسان إذن هو : أول الفكر وآخر العمل ، هو المقصود من خلقة الكون ذلك المفتقر إلى المعونة والعون ( في تعبير لسنائي الغزذوي ) وليست المقصودة بالعظمة والعمق تلك البضعة المحدودة من العظام أو ذلك الوجود الإنساني بل هو تلك العوالم المضمرة « أو بتعبير في شعر منسوب للإمام علي رضي الله عنه مطوبة » .
الحذر أيها المؤمنون فإن هذا العرق ( أي عرق الفلسفة والغرور ) كامن فيكم كما أن بكم عوالم كثيرة لا تحد « 2 » .
نعم : في تلك البضعة من العظام التي يسعها متر من الأرض عوالم وبحار وقارات . . يعايش المرء نفسه سنوات طويلة دون أن يستطيع مواجهتها . . . ويوما بعد يوم . . قد تدفعه الحياة أو الحب أو البغض أو ما إلى ذلك إلى اكتشاف تلك النفس ذات الطبقات ( أو ذات السبعين طبقة بتعبير لمولانا ) أو بتعبير آخر :
أصمت وانظر إلى أعماق البحار لقد جعل الحق البحر مسخرا للإنسان .
فكل ما في الكون على عظمته مسخر للإنسانوَسَخَّرَ لَكُمْ. . .ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع أبيات 521 - 524 .
( 2 ) الكتاب الأول بيت . 328 .
« 11 »
نعم يستطيع الإنسان كلما تعمق في أمر ما أن يجعل لنفسه عوالم جديدة من هذا الموضوع . . ليس تسخير العالم بمعناه المادي هنا بل تسخير العالم معناه أنه يخلق عوالم متشابهة داخل ذاته وداخل وعيه « 1 » . وبالعودة إلى قصة بهلول في الكتاب الثالث ( أبيات 1886 - 1888 ) :
- قال بهلول لأحد الدراويش . . كيف أنت أيها الدرويش ، اجعلني واقفا على أحوالك .
- فأجاب : كيف يكون من تسير الدنيا وأمورها دوما وفق هواه ؟
- تتدفق السيول والأنهار وفق مراده ، وتصير الكواكب على النسق الذي يريدها أن تكون عليه .
- والحياة والموت حراس له ، يسيران وفق مراده حيا بحي .
( ب ) وليس هذه العظمة موجودة في الإنسان في حد ذاته ، بل لأنه خليفة الله في الأرض ، إنه ممثل للوجود الإلهى على الأرض :
إن الدنيا هي نفس ذلك الشخص والباقون كلهم أتباع وطفيليون أيها الأخ « 2 » . ويتكرر عند مولانا تعبير يا ابن الخليفة ( انظر على سبيل المثال لا الحصر الكتاب الثالث ابن العظيم الأبيات 3652 وما بعدها ) :
- ويا أبناء الخليفة اعدلوا ، واحزموا أمركم من أجل اليوم الموعود .
- وجروا ذلك العدو الذي انتقم من أبيكم نحو السجن من عليين .
- أن ذلك الحسود اختطف من أمنا وأبينا التاج والزينة بسرعة وحذق « 3 » نعم جرعة الحسن الإلهى هي التي جعلت من الإنسان ذلك الخليفة :
..............................................................
( 1 ) جعفري - تفسير ونقد وتحليل مثنوي ج - 2 ص 664 طبعه 11 شتاء 1366 ه - . ش
( 2 ) من دفتر 1 نسخة جعفري ج - 2 / 355 وليست موجودة في بقية النسخ .
( 3 ) الكتاب الثالث أبيات 2849 - 2851
« 12 »
- لقد سكبت جرعة من هذا الكاس خفية على أرض التراب من كأس الكرام .
- وعلى الوجه والجدائل دليل من جرعته ، والملوك يلعقون التراب من جرائها .
- إن جرعة الحسن في هذا التراب الجميل ، هي التي تقبلها أنت ليل نهار بمائة قلب .
- والجرعة الممتزجة بالتراب إن كانت تصنع أمثال المجنون ، ماذا تفعل بك إن كانت صافية ( دون تراب ) ؟ ! - وكل امرئ ممزق الثياب ( وجدا أو ولها ) أمام قطعة من المدر ، فإن هذا المدر تجرع جرعة من الحسن .
- فجرعة على القمر والشمس والحمل ، وجرعة على العرش والكرسي وزحل .
- اتسميها جرعة ويا للعجب أو كيمياء ؟ ! فمن تأثيرها يوجد العديد من البهاء « 1 » الإنسان إذن هو الجزء من الكل . . وكل جزء طالب لكله ، لا يتم كماله إلا به والفراق عنه هو الموت ، وهو الذل ، لا يغرنك أنه يتحرك . . فحتي العضو المقطوع يتحرك حركة بسيطة ولفترة قليلة ثم لا يلبث أن يهمد :
- ذلك لأن الانتقال من العز إلى الذل ، كأنه قطع عضو من البدن .
- والعضو الذي يقطع من البدن يموت ، إنه يتحرك قليلا بعد بتره لكن ليس لفترة طويلة .
- وكل من شرب من كأس « ألست » في العام الفائت ، فإنه يحس هذا العام بالألم والخمار .
- وذلك الذي يكون في الأصل منسوبا إلي الحظيرة ، متي يكون لديه الحرص على السلطة « 2 » . لقد عزلت من العرش وليست معرفتك بأنك عزلت عن العرش هي الدافع للفخار بما مضى ، بل عد أولا إلى العرش
..............................................................
( 1 ) الكتاب الخامس الأبيات 372 - 379 .
( 2 ) الكتاب الخامس أبيات 827 - 831 .
« 13 »
ثم تفاخر آنذاك .
ج - ) كل ما هو موجود في العالم موجود في الإنسان ، وليس كل ما هو موجود في الإنسان موجود في العالم ، والفكرة لشمس الدين التبريزي :
« لا أقول لك صر إلها . . أنا لا أنطق كفرا . . انك آخر العناصر للنباتات والحيوانات والجمادات ولطافة جو الفلك ، فهي موجود داخل الإنسان ، وكل ما هو داخل الإنسان ، لا يوجد فيها . . أن هذه هي حقيقة العالم الأكبر . . . فما أعجبه من إنسان ذلك الذي يساوى الأقاليم السبعة وكل الوجود » ( عن صاحب الزماني ص 492 ) والتفصيل موجود عند ناصر خسرو القبادياني ( المتوفي 481 ) .
« ومن ثم نقول إن الشمس في العالم الكبير بمنزلة القلب من العالم الصغير أي الإنسان ، والقمر من العالم الكبير بمنزلة المخ من العالم الصغير ، والكواكب الخمسة السيارة من العالم الكبير الذي يسميه الحكماء الإنسان الكبير بمنزلة الحواس الخمسة من الإنسان الذي يسمونه العالم الصغير ، تقابل البصر والسمع والشم والتذوق واللمس عند الإنسان . . .
وقال حكماء الدين : إن تركيب الإنسان عالم صغير ، وقالوا : إن تركيب العالم الصغير في هذا العالم على مثال فهرس من كتاب كبير فكل ما يكون في هذا الكتاب ربما ظهر أثر منه في الفهرس ، وليس من اطلاع على كليات الأشياء إلا بالاستدلال من جزئياتها ، ولا يستطيع استنباط الاستدلالات العقلية إلا المتعلقين بالحبل الإلهي والمتمكنين علي مقعد الصدق والمتثبتين بمرصد الحق « 1 » . وتستمر الصورة بتفصيلات تصل في بعض الأحيان تجعل من شعر الإنسان مساويا للنبات وعظامه مساوية للجبال وهلم جرا .
..............................................................
( 1 ) جامع الحكمتين ناصر خسرو الترجمة العربية لإبراهيم الدسوقي شتا - دار نشر الثقافة بالقاهرة 1974 ص 177 وما بعدها .
« 14 »
وقد ورد هذا عند محمود الشبسترى في كلشن راز :
- كل ما يظهر في الحشر ، يبدو عليك عند النزع .
- فجسدك كالأرض ورأسك بمثابة السماء ، وحواسك الأنجم والشمس بمثابة الروح .
- والعظام كالجبل فهي شديدة ، ونبأتك هو الشعر وأطرافك هي الشجرة .
- وجسدك عند الموت من الندامة ، يتزلزل كالأرض يوم القيامة .
- ويضطرب الدماغ وتظلم الروح ، وتنطفئ حواسك وكأنها الأنجم .
- وتلتف معا الساق بالساق ، وكل أليف ينفصل عن أليفه .
- وعندما تنفصل الروح عن الجسد كلية ، تصبح أرضك قاعا صفصفا لا تري فيها عوجا ولا أمتا .
- والخلق دائما في خلق جديده ، وحتى وإن عاشوا العمر المديد « 1 » .
وبالطبع فإن ما يميز الإنسان هو هذه الروح الإلهية التي يعبر عنها بتعبيرات عديدة : فهي الروح وهي السر وهي القلب « الذي هو بين إصبعين من أصابع الرحمن » وهو موضع سر الله ، وموضع نظره ، وموضع حلوله . . وحركة الكون جبر وحركة الإنسان اختيار ( عن الجبر والاختيار انظر مقدمة الكتاب الخامس ) والإنسان هو المكلف بالأمانة . . كل هذه رؤوس موضوعات استفاض فيها مفكرو الصوفية وتناولها مولانا جلال الدين في أكثر من موضوع من موسوعتيه : المثنوي المعنوي والديوان الكبير أو ديوان شمس الدين التبريزي ، وكل قيمة الإنسان الحقيقة في هذه الروح :
..............................................................
( 1 ) عن رحلة الإنسان من الجنين إلي الجنان لقطب الدين عنقا الترجمة العربية لإبراهيم الدسوقي شتا ص 351 القاهرة دار الثقافة 1978 .
« 15 »
- ما أكثر تلك القنوات المختفية المتصلة هكذا بأرواحكم أيها الغافلون .
- ويا من استمددت من السماوات والأرضين المواد حتى صار جسدك سمينا .
- سرقت جسدك من أجزاء العالم . . وأخذته درجة درجة من هذا وذاك .
- فهل تطمئن أن ما أخذته بالمجان ، لن يسترده منك هذا وذاك ؟
- إن المتاع المسروق لا ثبات له ، لكنه يأتي باللص إلي المشنقة .
- أنها عارية فقلل تمسكك بها ، فإن كل ما أخذته ينبغي عليك أن تؤديه .
- اللهم إلا تلك النفخة التي جاءت من الوهاب ، فكن روحا فكل ما عداها عبث لا طائل من ورائه « 1 » .
الإنسان إذن ليس بجسده ولا بصورته ، ويقدم المثنوي نماذج مضحكة عن الادعاء ، وعن آفات الاغترار بالمظهر ، وعن المرشدين الكاذبين ومحترفي النفاج والادعاء وأروع ما تتجلى سخريته العميقة عند تناول هذه النماذج ويدق دائما علي أن وراء الظاهر باطنا ينبغي أن يطلب وحقيقة ينبغي أن يتحري عنها المرء :
- فالصورة كأنها اللباس وكأنها العصا ، وليس إلا بالعقل والروح تتحرك الصور « 2 » .
- فالإنسان في صورته فرع من فروع هذا الكون ، لكن فاعلم أنه بصفته أصل هذه الدنيا .
- إن ظاهره تؤدي به بعوضة إلي الدوار حول نفسه ، لكن باطنه محيط بالعوالم السبعة « 3 » ويقول في موضع آخر :
..............................................................
( 1 ) الكتاب السادس : الأبيات 3591 وما بعدها وهناك أبيات زائدة من نسخة جعفري 14 / 346 .
( 2 ) . 4 / 3727 .
( 3 ) كتاب 4 / أبيات 3766 - 3767 .
« 16 »
- إننا نشعر بألوان من الحب نحو هذا التراب ، لقد خلق في حال من أحوال الرضا .
- أحيانا نخلق منه مثل هذا الملك ، وأحيانا نجعل منه والها أمام الملك العظيم .
- وهناك مئات الآلاف من العشاق والمعشوقين ، هم منه في صراخ ونفير وسعي وبحث .
- إننا نعطي هذه الفضيلة للتراب ، لكي نجعله عطاء لمن لازاد لهم .
- ذلك لأن هذا التراب ذو ظاهر أغير ، لكن في الباطن ذو صفات نورانية .
- وقد اشتبك ظاهره مع باطنه في جدال ، فباطنه كالجوهر وظاهره كالحجر .
- يقول ظاهره : ها نحن فحسب ولا شي آخر ، فيقول باطنه انظر جيدا قدامك ووراءك .
- ظاهره منكر قائل إن الباطن لا شي قط ، فيقول باطنه انتظر حتى تبدي لك الأيام .
- إن ظاهره في عراك مع باطنه ، فلا شك أن الذي ينتصر منهما من له قدرة علي الصبر « 1 » .
فالإنسان إذا انتبه إلى باطنه ورحل دائما إليه ، وتتبعه وراقبه فإن شيئا من هذا الكون كله لن يصيبه بالدهشة ولن يحيره .
- والإنسان كالجبل فكيف يصير مفتونا ، وكيف يصير الجبل مندهشا من أجل حية ؟
- فالآدمي المسكين لم يعرف نفسه ، بدأ من الزيادة وأخذ في النقصان .
- وباع الإنسان نفسه رخيصة ، كان « أطلس » فخاط نفسه علي خرقة .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع من مثنوي مولانا جلال الدين الأبيات 1002 وما بعده .
« 17 »
- ومئات الآلاف من الحيات والجبال حائرة فيه فكيف صار هو مندهشا محبا للحيات ؟ « 1 » د ) كل ما يحيق بالإنسان إذن من هذا التنزل ، من جهله بقيمته وبذاته وبنفسه ، إن من يترك النفخة الإلهية لا يبقي له سوي الطين ، ومن يترك الماء العذب لا يجد أمامه سوي الماء المالح ، إنه مجرد كلب يجري خلف جيفة الدنيا ولا يشبع منها ، فإن كف عنها فترة لا يجد أمامه إلا مهاجمة خلق الله وإيذاءهم ، يستطيع الإنسان أن يختار لنفسه وأن يجد الجماعة التي ينتمي إليها ويكون جديرا بها .
- وكل نبات يلزمه حوض « خاص في هذا البستان » كل هذا النبات فوما أو قبار .
- وكل واحد من جنسه في حوضه الخاص به ، يشرب الطل من أجل أن ينمو وينضج .
- فإن كنت في حوض الزعفران فكن زعفران ولا تختلط بالآخرين .
- واشرب الماء أيها الزعفران حتى تنضج ، وتبلغ مرحلة أن تكون زعفران في تلك الحلوي .
- ولا تمدن فمك في حوض اللفت ، حتى لا يصير هو شريكا لك في الطبع والمذهب .
- لقد وضعت في حوض ووضع هو في حوض آخر ، وذلك لأن « أرض الله واسعة » .
- ففي ذلك البحر والصحراء والجبال ، تتقطع الأوهام وينقطع الخيال .
..............................................................
( 1 ) الكتاب الثالث من مثنوي مولانا جلال الدين الأبيات 999 - 1002 .
« 18 »
- والماء الساكن الذي تكون حركته من الداخل ، أكثر عذوبة ونضارة من المياه الجارية « 1 » .
الزم إذن نفسك ، تتبعها فيما تنزع إليه ، وانظر إلي نفسك من تكون : أأنت موسي أو فرعون فموسي وفرعون في داخلك كلها نقد لحالك أنت ، وإن كان مولانا يتحدث عن موسي وفرعون فإنما يتحدث عن الناس أنفسهم الموجودين في كل قرن :
- لقد صار ذكر موسي قيدا علي الخواطر ، فكم من قائل : ما لنا نحن وهذه الحكايات القديمة ؟
- إن ذكر موسي هنا مجرد دريئة ومجاب ، لكن ليكن لك منه وفرعون في وجودك ، وينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في داخلك .
- وهناك نتاج من موسي حتى القيامة ، وليس نورا آخر وإن تغير السراج .
- فهذا المشكاة وهذه الفتيلة من نوع آخر ، لكن نورها لم يتغير لأنه من تلك الناحية .
- وإذا نظرت في الزجاجة فإنك تضل ، ففي الزجاجة توجد الأعداد وتوجد الإثنينية .
- وإذا نظرت إلي النور تنجو من الإثنينية وإعداد الجسد المتناهي المحدود « 2 » .
أن الإنسان يستطيع أن يحدد موقفه في أي صف يكون أن تميز بحس « الرؤية » - ليست الرؤية التي يتميز بها كل مخلوق
..............................................................
( 1 ) الكتاب الرابع من مثنوي جلال الدين الأبيات 1083 - 1092 .
( 2 ) مثنوي مولا جلال الدين ج - 3 الأبيات 1252 – 1258
« 19 »
حي ، لكنها الرؤية الخاصة بالإنسان ، وليست رؤية هذه القطعة من الشحم ، لكنها رؤية تلك العين الموجودة في القلب ، وإلا فإن النملة التي تركز بصرها علي الحبة إنما تصرف هذا النظر عن البيدر كله :
- إن النملة تكون مرتعدة « شوقا » إلي الحبة ، بحيث تعمي عن البيادر العظيمة .
- إنها تجر هذه الحبة بحرص وخوف ، بحيث لا تري ذلك البيدر الكريم العطاء .
- ويقول صاحب البيدر : - هيايا من عماك صارت الأشياء معدومة .
- إن مبلغ رؤيتك من بيادرنا ، هو تلك الحبة إلي تعلقت فيها بروحك .
- ويا من أنت كالذرة في صورتك انظر إلي عطارد ، إنك نملة عرجاء ، فاذهب وأنظر إلي سليمان .
- إنك لست هذا الجسم ، إنه ما رأيته ، وتنجو من الجسم إن رأيت الروح .
- إن الإنسان هو الرؤية ، والباقي لحم وجلد ، وهو نفس ذلك الشئ الذي تراه عيناه .
- إن دنا واحدا ليغرق من القطر ، لو أن عين هذا الدن مفتوحة صوب البحر .
- وعندما تكون روح الدن متصلة بالبحر ، فإن ذلك الدن يزري بجيحون « 1 » .
الإنسان إذن بقدر ( رؤيته ) وفي موضع آخر يقول مولانا جلال الدين :
..............................................................
( 1 ) . 6 / 811 - 819 .
« 20 »
- أنك مجرد هذا الفكر . . . وما تبقي منك عظام وعروق .
هذه الرؤية ، وهذا الفكر ( المتصل بالأصل ) وبالبحر الكلي ، والعلم الذي هو ينجي الإنسان من كل أنواع الفرقة ، والخيال والوهم ، يجعله مجموعا متمركزا ليس موزعا علي مائة هوي ، محققا لذاته ولوجوده ، جديرا حقا بكونه إنسانا ، عارفا بطريقه ، ثابتا راسخا متمكنا ، ولا يكون مثل القشة التي تتقاذفها كل ريح .
- أن ذلك العقل يحمل كل صباح الدرس اليومي من اللوح المحفوظ وكأنه الملك .
- فانظر من العدم إلي كتابات بلا بنان ، ومن علمها تحير أرباب الشهوات .
- فصار كل إنسان مقلوبا مضحكا بالنسبة لخيال ، صار طلعة من اشتهاته لكنز ما .
- فمن خيال . . صار أحدهم ممتلئا بالعظمة ، متجها إلي مناجم الجبال .
- ومن خيال اتجه آخر بجهده المرير إلي البحر من أجل الدر . .
- ولأن تلك الخيالات كلها غير مؤتلفة ، فإنها عندما ظهرت صارت مختلفة .
- وعندما خبئت قبلة الروح عن الأنظار ، فإن كل جماعة اتجهت إلي ناحية ما « 1 » .
والحل هو التسليم والتوبة : التسليم لله ، ثم التسليم للمرشد بحيث يكون كالميت بين يدي الغسال ، ولا بد من الطلب ، فمن لج ولج ، ولزوم الباب كفيل بفتحه ، وإن لم تفكر فتأمل :
- فبدون برق القلب روشحات العينين ، كيف كانت تسكن نار التهديد والغضب ؟ .
..............................................................
( 1 ) . 5 / 317 - 325 .
« 21 »
- وكيف كانت تنمو خضرة ذوق الوصال ، أم كيف كانت تجيش العيون بالماء الزلال ؟
- وكيف كانت حديقة الورود تبوح بسرها للبستان ، أم كيف كان البنفسج يرتبط بالعهد مع الياسمين ؟
- وكيف كان شجر السنار يبسط أيديه في الدعاء ؟ ! أم كيف كانت أية شجرة تعلو برأسها في الهواء ؟ ! - وكيف كانت الراعم ذات الأكمام الحافلة بالنثار تنفض أكمامها أيام الربيع ؟ ! .
- ومتي كانت خدود الأقاحي تشتعل بلون الدماء ؟ ومتي كان الورد يبرز العسجد من أكياسه ؟
- ومتي كان البلبل يأتي ويشم عبير الورد ؟ ، ومتي كانت الفاختة تهتف « كوكو » كأنها تقول : أين ؟ ! أين ؟ ! .
- ومتي كان اللقلق يهتف بروحه « لك لك » وماذا تعني لك ؟ أنها تعني : لك الملك أيها المستعان .
- وكيف تظهر الأرض أسرار الضمير ؟ وكيف يغدو البستان منيرا كالسماء ؟
- ومن أين قد جاءوا بهاتيك الحلل ؟ إنها كلها من كريم رحيم .
- فهذا اللطائف كلها علامة للشاهد ، أنها آثار القدم ( يقتفيها ) الرجل العابد .
- وليس يسعد بالأثر إلا من رأي المليك ، أما من لم يره فليس له انتبهاه إلي ذلك .
- فروح ذلك الإنسان الذي في ساعة « ألست » رأي ربه ، وغدا ذاهلا ،
« 22 »
- هو الذي يعرف رائحة الخمر ، لأنه قد احتسي الخمر ، ومن لم يكن قد احتساها فإنه لا يعرف شذاها .
- ذلك لأن الحكمة مثل الناقة الضالة ، لكنها كالحادي ، دالة الملوك « 1 » .
وهكذا ففي كل أعمال الصوفية نلتقي بها التناقض البين الواضح للعيان بشأن الإنسان : فالإنسان هو كل شي وهو لا شئ .
1 - هناك من أمثال الحلاج وأبي اليزيد ، شطحوا عند الحديث عن هو يتهم في مقابل الإله وكانوا أكثر جرأة من الآخرين ، أحيانا جري علي لسان كل منهما ما يدل علي ضعفه اللانهائي وانعدام قيمته تماما أما الخالق :
لا حركة ولا فكر ولا إرادة : نعم من منطلق النفس يكون الإنسان لا شئ ، أما من منطلق الروح فهو العالم الأكبر وهكذا يبدو الأمر عند مولانا جلال الدين تماما « 2 » .
2 - جوهر الإنسان إذن إلهي علي الدوام وعند مولانا جلال الدين « لا تذل الإنسان » ولأن تحقيق الوجود الإلهي ليس ميسرا علي هذه الأرض ، وتحقيق جزء قليل من هذا الوجود الإلهي علي الأرض ، يحمل الإنسان إلي آفاق عظمي ، وكان هذا منطلق الصوفية إلي بلورة مفاهيم الإنسان الكامل بالمعنى الأعم ، والإنسان الكامل المتمثل في خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، ثم الولاية بمعناها العام وبمعناها الخاص .
أ ) والإنسان الكامل هو قمة تجلي الشخصية الإنسانية وقيامها بذاتها واستغنائها عمن سواها ، وهو ما عبر عنه مولانا جلال الدين بفكرة
..............................................................
( 1 ) كتاب 2 الأبيات / 1655 - 1673 .
( 2 ) خليفة عبد الحكم : عرفان مولوي 122 - 123
« 23 »
الجدول الذي ينبع من الداخل ، ثم ثناها بصفاء هذا الجدول بحيث تنعكس فيه صور كل الأشياء ، هنالك تكون الكرامة الحقيقية « 1 » .
وعلي كل حال نستطيع أن نجد عند كل الصوفية أصحاب المؤلفات إلماعات إلي هذه الموضوعات ، فقد كان الغرض الحقيقي من التصوف والعرفان كما ذكرت آنفا هو تربية الإنسان المثالي : الإنسان الأعلي بالتعبير المعاصر وإن لم تتبلور بشكل مستقل في صورة نظرية للتربية أو نضج الشخصية الإنسانية . . . بل في الأغلب الأعم ينظر إليها من وجهة النظر القائلة بأن الإنسان ليس منبت الصلة بشكل كامل عن الله سبحانه وتعالي وعند شمس الدين التبريزي ومن بعده جلال الدين الرومي تتخذ هذه الفكرة جانبا عمليا وتعليميا . وكلاهما لم يستخدم مصطلح الإنسان الكامل بل استخدما مصطلحات من قبيل : الكمل ، العظماء ، الخواص ، خواص
..............................................................
( 1 ) من نافلة القول أن نذكر أن فكرة الإنسان ، الكامل أو الإنسان الإلهي موجودة في التصوف الإسلامي منذ الحلاج وأبي اليزيد ، ولقد استخدم أبو اليزيد مصطلح « الكامل التمام » للتعبير عن الإنسان الذي بلغ حد تكامل الشخصية ، ولعل ابن عربي ( المتوفي 638 هـ - ) هو أول من أستخدم مصطلح الإنسان الكامل للتعبير عن كمال النضج الإنساني في الفصل الأول من كتابه « فصوص الحكم » ويبدو أن عزيز الدين النسفي المتوفي سنة 700 هـ - هو صاحب أول مؤلف في الإسلام يحمل عنوان الإنسان الكامل وبعد النسفي ألف عبد الكريم الجيلاني ( المتوفي سنة 811 ) كتابه المشهور باللغة العربية الإنسان الكامل . ( عن خط سوم صاحب الزماني 576 - 578 - وعند سنائي الغزنوي المتوفي سنة 435 هـ - توجد الماعات إلي شخصية الإنسان المتوازن الإلهي بل أن تناوله للرسول صلى الله عليه وسلم يوحي بأنه كان يعتبره الإنسان الكامل وهي فكرة عزيت فيما بعد إلي صوفية متأخرين جدا :
انظر : حديقة الحقيقة وشريعة الطريقة الترجمة العربية لإبراهيم الدسوقي شتا ( دار الأمين 1995 )
« 24 »
الله . . ولهذا دلالة علي أن الإنسان الكامل في هذا المفهوم لم يكن شخصا واحدا ، بل من الممكن علي من يتعرض للكيمياء الإلهية أو كيمياء التبديل ( المرشد ) أن يتحول من نحاس إلي ذهب ، كما كانت صنعة الكيمياء القديمة تهدف إلي تحويل النحاس إلي ذهب . وصورة الإنسان الكامل عند شمس الدين التبريزي ذات أبعاد تبلغ أربعة عشر بعدا استقاها ناصر الدين صاحب الزماني من كتابه الصغير العميق ، المقالات « انظر : خط سوم 574 - 626 » وهي تمثل أيضا في فكر جلال الدين الرومي تأثيرا لا بأس به وهي :
الفكر « أو عند مولانا جلال الدين التدبر في العاقبة والنظر إلي نهاية الأمور قبل بداياتها » والمثنوي حافل بالأمثلة والحكايات الكثيرة حول هذا الموضوع . ثم الرؤية والنظر والبصيرة وعند مولانا جلال الدين يتكرر كثيرا مثال الأعمي الذي ينبغي عليه أن يستعين بأحد يقوده فإن لم يوجد فعصا فإن لم يوجد فليسر بحبطة وحذر شديدين . . وثمة بصيرة داخلية وبصيرة خارجية . . . فالبصيرة هنا وسيلة للمعرفة في مواجهة الإدراك الحسي والتجربة والنقل والاستدلال العقلي ، ويواظب مولانا دائما علي توصية المريد بأن يسأل الله البصيرة النافذة التي ترينا الأشياء « كما هي » . .
والبصيرة في مرحلة من مراحلها المتقدمة تؤدي إلي الشهود ثم إلي انكشاف الباطن . . وهنا يمكن للفراسة أن تقوم بدورها أما البعد الثالث من أبعاد الشخصية المتكاملة الوعي بالزمان بأبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل وعدم الإفراط أو التفريط في بعد عن هذه الأبعاد الثلاثة ، فمن الماضي البصيرة ، والتزود للحاضر ، والأمل في المستقبل أو الرجاء الذي بدونه يصبح الطريق أشد وعورة وأكثر صعوبة ، فإن
.
يتبع