مقدمة المترجم والمحقق المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
مقدمة المترجم والمحقق على مدونة عبدالله المسافر باللهمقدمة المترجم المثنوي المعنوي الجزء الخامس ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
مقدمة المترجم والمحقق ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
الكتاب الخامس
مقدمة المترجم
الإرادة الإلهية والحرية الإنسانية
لن أخوض في تاريخ هذه المشكلة وفي أصولها من القرآن والسنة عامدا ، إذ يكفي للقاريء الذي يريد أن يلم بهذه التفصيلات أن يفتح كتابا من كتب علم الكلام الإسلامي ليجد فيه بغيته من التفصيلات حول المشكلة التي قتلت بحثا في علم الكلام : مشكلة الجبر والاختيار .
ولا يوجد مفكر عرفاني دق على مشكلة الحرية الإنسانية في مقابل الإرادة الإلهية مثل مولانا جلال الدين ، فمبحث الحرية عند مولانا جلال الدين الرومي من المباحث الجديرة بأن تجلى وحدها وتفرد لها الأبحاث .
وتتميز آراؤه في هذا المجال بالشمول والعرض الحيوي الذي يتقصى جوانب الموضوع ويقدم التعبير عن الفكرة في أكثر من مستوى ، كما كان يحرص على تقديم أمثال هذه القضايا في صورة حوار بين معتنقي وجهات نظر مختلفة حول نفس الموضوع أو نفس الفكرة ، وكان هذا التناول في حد ذاته ينقل القضية من مجرد قضية كلامية جافة وجامدة إلى قضية حية ، فلا شك أن القضايا تظل حية ما دامت تشغل أذهان الناس وتثير الحوار بينهم ، فإذا كفت أذهان الناس عن الانشغال بها ، وكفت ألسنتهم عن التحاور حولها ، انقلبت إلى قضايا كتب يناقشها الصفوة في مجالسهم الخاصة .
فضلا عن أن مولانا عندما كان يختار الشخصيات التي تناقش قضية ما ، كان يختار معارض وجهة النظر التي يتبناها هو نفسه من نفس درجة مؤيدها ومستواه وذلك من ناحية الثقافة والقدرة على الجدل . وربما لم تأخذ قضية كلامية أخرى من مولانا جلال الدين كل هذا الاهتمام الذي أخذته منه قضية
“ 4 “
الجبر والاختيار أو قضية الحرية الإنسانية ، وكأن مولانا كان يستشرف بنظرته المستقبلية النفاذة أن هذه القضية سوف تكون من قضايا المواجهة بين الشرق والغرب ، وأن الغربي عندما سيتسلط على المسلم سوف يقدمه كشخصية مستكينة إلى الجبر ، قشة في مهب الريح ، معدوم الحركة والإرادة في مواجهة قوة عاتية عمياء ، كما أن وقتا سوف يأتي يتهم فيه الفكر الإسلامي بأن قضية الحرية لم تطرح فيه أساسا .
ولا يكاد كتاب واحد من كتب المثنوي الستة يخلو من حديث عن مشكلة الجبر والاختيار ، حديثا لا يتصل بأبعادها الكلامية فحسب ، بل يتناولها كعادة مولانا عند تناوله لكل مشكلاته أبعادها الحياتية المعاشة ، فكأن مولانا في طرحه لقضية الجبر والاختيار يطرح في الأصل قضية الحرية على النحو التالي :
1 - ينطلق مولانا جلال الدين في تناوله لقضية الجبر والاختيار من أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الكائنات كلها ، منح الإنسان وحده من بينها منحة الحرية ، فالحرية بالنسبة له عطية إلهية . ولم يكن جلال الدين الرومي أول من وضح هذه الفكرة ، إذ وردت من قبله عند كل الصوفية ، فالفكرة تكاد تكون موجودة بنصها عند سنائي الغزنوي الذي قال :
- إن الإنسان مختار بين العقل والهوى ، وهذا هو تفسير آية " كرمنا " .
- فلا تذل الإنسان ، ولا تشعره بالهوان ، فهو في الغيب ، صار جوهرا من بين الناشئين في العيب .
- ومن بين العباد الذين وراء الحجاب ، إختارك أنت الاختيار .
- إلا أنك عن طريق الغضب والاحتيال ، تصبح وحشا ، أو تصبح دابة . “ 1 “
..............................................................
( 1 ) سنائي الغزنوي : حديقة الحقيقة وشريعة الطريقة - الترجمة العربية لكاتب هذه السطور
- الأبيات 5461 - 5464 وشروحها - القاهرة - دار الأمين للطباعة والنشر - 1995
“ 5 “
فكأن الصوفية كانوا يجمعون بين الاختيار والكرامة التي منحها الله للإنسان ، وأن مما يترتب على هذا التكريم الإلهي ألا يتعرض الإنسان للمهانة والإذلال من إنسان ، أو تسلب منه هذه الحرية التي منحها له الله تعالى . لخص سنائي وجهة نظره في عدة أبيات . لكن جلال الدين كعادته في الاستفاضة وكشف نقاط جديدة في القضايا التي تناولها الصوفية من قبله ، ينطلق إلى آفاق أبعد وأوسع ، فالاختيار عنده هو ملح العبادة ، فما فائدة عبادة يكون الإنسان مجبرا عليها وتكون قدرا عليه :
- والاختيار هو ملح العبادة ، وإلا فالفلك وحده يدور بالرغم منه .
- فإن دورانه لا طمعا في ثواب ولا خوفا من عقاب ، والاختيار فضلٌ عند الحساب . “ 1 “ بل بقدر جهد الإنسان تكون رحمة الله به :
- إن هذا الجهد والدعاء بقدر الهمة ، وليس للإنسان إلا ما سعى . “ 2 “ ويطيب لمولانا جلال الدين أن يبين دائما أن أول من قال بالجبر هو إبليس اللعين ، وأن أول من قال بالاختيار هو آدم عليه السّلام :
- وتعلم من أبيك يا وضاء الجبين ، إذ قال قبل الآن " ربنا ظلمنا أنفسنا " .
- فلا هو تعلل ، ولا هو احتال ، كما أنه لم يرفع لواء المكر والحيلة .
- ثم إن إبليس هو الذي بدأ الجدل قائلا : لقد كنت أحمر الوجه " عزة " وجعلتني أصفره " ذلا " .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 3 / 3287 - 3288
( 2 ) مثنوي : 4 / 2912
“ 6 “
- فاللون منك وأنت الذي قمت بصباغتي ، وأنت إذن أس جرمي وآفتي وجرحي .
- فانتبه ، وأقرأرَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي، حتى لا تتحول إلى جبري ، وحتى تقلل من طوافك بالإلتواء .
- فحتام تقفز على شجرة الجبر ، وحتام تلقي باختيارك جانبا .
- مثل إبليس وذرياته ، فهو مع الله - جل وعلا - في حرب وجدال ؟
- وكيف يكون إكراه وجبر وأنت بسعادة بالغة ، لا زلت تشمر رداءك في العصيان ؟
- فهل يمكن أن يمضي أحد سعيدا هكذا فيما هو مجبر عليه ؟ ! وهل يمكن أن ينغمس أحدٌ راقصا في الضلال ؟
- وكنت تقاتل بقوة عشرين رجل في ذلك الأمر ، بينما كان الآخرون يقومون بنصحك .
- وكنت تجادل قائلا : هذا هو الصواب ، وهذا هو الطريق الحق فحسب ، فمن الذي يعيب علي ، إلا ذلك الذي لا يساوي شيئا .
- ومتى يقول الشخص الذي يكون مكرها مثل هذا ؟ وكيف يقاتل هكذا الذي لا يملك طريقه ؟
- إن لك الاختيار في كل ما طلبته نفسك ، وكل ما أراده عقلك ، فأنت مضطر فيه ! ! “ 1 “
2 - ويرى مولانا جلال الدين أن الإنسان نفسه يحس في داخله بأنه مختار ، والدليل على هذا تردده بين أمرين ، وهذا الإحساس يسميه مولانا الإدراك الوجداني :
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 4 / 1389 – 1401
“ 7 “
- يكون هناك إدراك وجداني بدلا من الحس ، وكلاهما يجريان في جدول واحد يا عماه .
- وبهذا يلطف الأمر والنهي والتكليف ، وما يجري ، وما يقال .
- وقول : ترى ماذا أفعل غدا ؟ أأفعل هذا الأمر أو ذاك الأمر ، هو دليلٌ على الاختيار أيها الوسيم الحسن .
- وذلك الندم الذي يعتريك أنك أكلت من ذلك " الطعام " السيء ، قد صرت مهتديا إليه من جراء إختيارك أيضا .
- وكل القرآن أمر ونهي ووعيد ، فمن ذا الذي رأى حجرا من المرمر قد وجه إليه أمر ؟
- ولا يوجد عاقل أو عاملٌ قط يغضب على حجر أو مدر ، أو يحقد عليه .
- قائلا لهما : لقد قلت لكم : افعلوا هذا أو افعلوا ذاك ، فكيف لم تقوموا بفعله أيها الأموات العجزة ؟ !
- ومتى يحكم العقل على الحجر أو على الخشب ، ومتى ينشب الإنسان مخالبه في صورة مخلب ؟ !
- أو أن يقول : أيها الغلام مقيد اليد والقدم ، هيا خذ الرمح وتعال صوب الوغى ! !
- والخالق الذي يخلق الكواكب والأفلاك ، كيف يقوم بأمر أو نهي يدل على جهل ؟ !
- لقد محوت احتمال العجز عن الحق ، ثم اعتبرته - جل وعلا - جاهلا ذاهلا سفيها . ! !
- والعجز لا يكون من القادر وإن نسبته إليه ، فإن الجهل يكون أقبح من العجز . “ 1 “
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 5 / 3022 - 3033
“ 8 “
أثمة عجز وجهل ، ثم يكون أمر ونهي ؟ كيف يمكن أن يكون ذلك متأتيا من العدالة الإلهية ؟ وكيف تجيز على الخالق تعالى ما تستنكف نسبته إلى بشر ممن خلق ؟ ! - والعدل قسام وجدير بالقسمة وقابل لها ، وهذا هو العجب ، فلا جبر ولا ظلم .
- فإن كان ثم جبر ، متى كنت نادما ؟ ، وإن كان ظلم ، متى كان حافظا ؟ “ 1 “ ويعود مولانا إلى هذه النقطة كثيرا يتناولها من جوانب متعددة ، فقد كان يرى أن شعور الندم والحياء من الحق والتضرع إليه والتوبة والإنابة هي الدليل الأكبر على أن الإنسان مختار في فعله ، ويقدم تفصيلا وافيا لها في الأبيات التالية :
- وأعد من القرآن تفسير البيت ، في قوله تعالى :وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ.
- فإن أطلقنا السهم فليس هذا منا ، فنحن القوس والرامي هو الله .
- وهذا ليس جبرا ، لكنه معنى الجبارية ، والجبارية تعن عند ذكر العجز والمسكنة .
- وصراخنا ونواحنا دليل على الاضطرار ، وخجلنا صار دليلا على الاختيار .
- وإذا لم يكن اختيار ، فما هذا الخجل وما هذا الأسف وهذا الندم ؟
- ولماذا يعاقب الأساتذة تلاميذهم ؟ ، ولماذا يكون تحويل الخواطر عن تدابيرها ؟
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 4 / 1643 - 1644
“ 9 “
- وإذا قلت أنه آنذاك يكون غافلا عن جبره ، وأن قمر الحقيقة يكون مختفيا خلف سحابه ، - فإن لي على هذا الاعتراض جوابا حسنا ، إن استمعت إليه ، تترك الكفر وتدخل في الدين .
- فالحسرة والضراعة تكون عند المرض ، وأوان المرض كله يقظة .
- وأنت عندما تسقط مريضا ، تقوم بالاستغفار عن جرمك .
- ويبدو في داخلك قبح الذنب ، وتنوي قائلا : سوف أرجع إلى الطريق القويم .
- وتأخذ على نفسك العهود والمواثيق وتقول : لا يكون لي اختيار في الأمور من بعد إلا الطاعة .
- ومن ثم صار من المؤكد أن مرضك يهبك الوعي واليقظة .
- فاعلم هذا الأصل إذن يا باحثا عن الأصول ، إن كل من أحس بالألم ، ظفر برائحة " تقوده إليه " .
- وكل من هو أكثر يقظة ، يكون أكثر ألما ، وكل من هو أكثر وعيا ، يكون أكثر شحوبا .
- فإذا كنت منتبها إلى جبره ، فما ضراعتك ؟ ، وأين رؤيتك لغل الجبارية الحديدي ؟
- وكيف يفرح المقيد بالغل الحديدي ؟ وكيف يزاول نزيل السجن الحرية ؟
- وإن كنت ترى أن قدمك قد قيدت ، وأن عسكر الملك قد وقفوا على رأسك ،
- لا تزاول إذن مع العاجزين ما يفعله العسكر ، فليس هذا من طبع العاجز أو من شيمه .
“ 10 “
- فإذا كنت لا ترى جبره ، لا تتحدث عنه ، وإن كنت تراه ، فأين دليل الرؤية ؟
- وفي كل أمر تكون ميالا إليه ، لا تفتأ ترى قدرتك عيانا ، - وما لا ميل لك فيه أو رغبة ، تجعل نفسك جبريا ، وتقول أنه من الله .
- فالأنبياء جبريون في أمور الدنيا ، والكفار جبريون في أمور العقبى .
- وللأنبياء اختيار في أمور العقبى ، وللجهال احتيار في أمور الدنيا . “ 1 “
ويكرر مولانا نفس هذا المثال في الكتاب الذي بين أيدينا :
- لقد قمت بحرفة ما طوعا واختيارا قائلا : إن لي اختياري وفكرى ،
- وإلا كيف اخترت هذه الحرفة من بين الحرف يا عينا من الأعيان ؟ !
- وعندما تأتي نوبة النفس والهوى ، يكون عندك اختيار بقدر ما يكون من عشرين رجل .
- وعندما يبخسك رفيقك مقدار حبة ، فإن اختيار العراك قد تفتح في روحك .
- وعندما تأتي نوبة شكر النعم ، فلا اختيار لك ، وتكون أقل من حجر .
- ويقينا إن الجحيم سوف يعتذر لك قائلا : أعذرني في حرقي إياك هكذا . “ 2 “
ويفسر مولانا هذا الندم تفسيرا منطقيا آخر ، إن هذا الندم هو الآخر قضاء مثل العمل الأول الذي كان قضاءً بدوره ، وأن هناك أمورا تتدخل في اختيارك ، وأمورا أخرى تتدخل في ندمك على هذا الاختيار ، والأمر هنا يشبه موقفا آخر اتخذه مولانا جلال الدين قد يكون قدريا فيه ، وإن كانت
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 1 / 619 - 642
( 2 ) مثنوى : 5 / 3069 - 3074
“ 11 “
النظرة النفاذة في هذه الأبيات توحي بأن " الاختيار اختيار الله والقضاء قضاء الله " :
- والأمر الذي تندم عليه في نهايته لو كان هذا حاله من البداية ، متى كنت تسرع في أثره ؟
- ومن ثم فقد أخفاه في البداية عن أرواحنا ، حتى نقوم بهذا الأمر كما قضي علينا " أن نقوم به " .
- وعندما نفذ حكم القضاء ، فتحت العين لكي يحدث الندم .
- وهذا الندم قضاءٌ آخر ، فاترك الندم إذن ، وكن عابدا للحق .
- وإن تتعود على الندم ، تصير من هذا الندم أكثر ندما .
- فيمضي نصف عمرك في التشتت والاضطراب ، ويمضي نصفه الآخر في الندم .
- فاترك هذا النمط من الفكر والندم ، وابحث عن حال أفضل ورفيق أفضل وعمل أفضل .
- وإن لم يكن في يدك عملٌ أفضل ، لفوت أي شيء إذن يكون ندمك ؟
- وإن عرفت طريقا طيبا فاسلكه واعبد الله ، وإن كنت لا تعرف ، فكيف تعرف أن هذا " الذي أنت فيه " سئ ؟
- إنك لا تعرف الشر ما لم تعرف الخير ، إن الشيء يمكن رؤيته بضده أيها الفتى .
- وما دمت عاجزا عن التفكير في ترك هذا الندم ، فأنت آنذاك عاجز عن ترك ارتكاب المعصية .
“ 12 “
- وإذا كنت عاجزا ، فمم يكون الندم ؟ ابحث ثانية جذب من كان ذلك العجز . “ 1 “
هكذا تطور مولانا جلال الدين ببيانه المقنع ليصل إلى النقطة التي يدق عليها :
هب أن الأمور قضاءً ، فلماذا الندم ؟ وإذا كنت عاجزا وكانت المعصية مفروضة عليك ، فلماذا إذن الندم عليها ؟ وهل يندم المرتعش الذي تهتز يداه من مرض مثلما يندم الذي يهز يديه عمدا وقصدا ؟ “ 2 “
3 - وفي هذا المجال من الممكن أن تقسم كل مظاهر الخليقة إلى قسمين : ما هو قابل للتغير ، وما ليس قابلا للتغير ، والإنسان في تعامله مع ما ليس قابلا للتغير مجبور ، لكنه مختار في الأمور التي تقبل التغيير ، بل ومطالب بتغييرها إلى الأفضل .
وعندما يسوق مولانا حوارا بين الأنبياء الذين يقولون أن الإنسان مختار والكفار الذين يقولون أن كفرهم قدر مقدور ، ويضربون الأمثال بأن الحجر يظل حجرا والقديم يظل قديما والماء على صفاته منذ الأزل والطين أيضا على صفاته ، وكل شيء قد خلق هكذا كقدر مقدور لا يقبل التحول :
- قال الأنبياء : أجل ، لقد خلق الله صفاتٍ لا يمكن تحويلها أو تبديلها .
- كما خلق - جل شأنه - صفات عارضة ، بحيث يصير المبغوض محبوبا
- فإن قلت للحجر كن ذهبا فهذا عبث ، أما أن تقول للنحاس كن ذهبا ، فهناك سبيل .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 4 / 1336 - 1347
( 2 ) مثنوى : 1 / 1506 – 1509
“ 13 “
- وإن قلت للرمل كن زهرا فهو عاجز ، أما أن تقول للتراب : كن زهرا ، فهذا جائز . “ 1 “ فالأنبياء وإن اعترفوا بأن كل شيء ليس قابلا للتغيير والتبديل ، إلا أنهم قالوا بأن الأمراض الموجودة في النفس البشرية قابلة للعلاج ، والواقع أن الصوفية جميعا كانوا من أنصار الاختيار ، لأنه لو كان ثم جبر ، لما كان هناك طريق أو سلوك أصلا ، وهذا ما يسميه همائي بالفرق بين جبر العوام وجبر الخواص ، ففي الطريق ، وأثناء السير والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى يظل السالك مشغولا بالجبر أو الاختيار ، لكنه عندما يصل إلى المعية والفناء ، حيث تفنى تعيناته ويستهلك في المطلق ، لا يبقى له اختيار ، بل يكون وجوده هو عين وجود الحق ، كقطرة لحقت ببحرها ، وهذا هو جبر الخواص “ 2 “ :
- وكل من كان حائرا مستغرقا في تردده ، همس الحق في أذنه بلغز من الألغاز .
- وذلك حتى يجعله سجينا بين ظنين ، قائلا : ترى أأفعل ما همس لي به أو أقوم بعكسه ؟
- ومن الحق أيضا يرجح أحد الظنين ، ومن كنف لطفه ، يختار واحدا من الاثنين .
- وإذا لم تكن تريد أن يظل لب الروح في هذا التردد ، فقلل من ضغطك على هذه القطنة في أذن الروح .
- حتى تفهم كل ألغازه ، وحتى تدرك المعميات والواضحات .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 3 / 2911 - 2914
( 2 ) جلال الدين همائي : مولوى نامه 1 / 98 - 99
“ 14 “
- فتصبح الأذن موضعا لوحي الحق ، وما هو الوحي ؟ إنه الجدير بالقول عن طريق الحس الخفي .
- فعين الروح وأذنها غير هذه الحواس الظاهرة ، وعين العقل وأذن الظن يفتقر ان إليه .
- ولفظ الجبر جعل العشق مني نافد الصبر ، ومن ليس بعاشق سجين في نطاق الجبر .
- إنها معية مع الحق وليست جبرا ، إنها تجل للقمر ، وليست سحابا .
- وإن كان هذا جبرا فليس جبر العامة ، وليس جبر تلك الأمارة تابعة هواها
- وهم يعرفون حقيقة الجبر يا بني ، فقد فتح الله أبصار قلوبهم .
- ولقد صار الغيب والآتي ظاهرين لهم ، وصار ذكر الماضي هباءٌ عندهم .
- واختيارهم وجبرهم من نوع آخر ، فالقطرات في الأصداف تتحول إلى درر .
- وهي خارج الصدف مجرد قطرات صغيرة أو كبيرة ، لكنها في الصدف درر صغيرة وكبيرة .
- وهؤلاء القوم يتصفون بطبع نافجة الغزال ، ظاهرهم دم ، والمسك في بواطنهم .
- ولا تتساءل : إنه من الواضح أن هذه المادة دم ، فكيف تصبح مسكا عندما تصل إلى النافجة ؟
- ولا تقل : لقد كان نحاسا ، وإن إختفى ظاهره ، وإلا فكيف يتحول في قلب الأكسير إلى جوهر ؟
“ 15 “
- فالاختيار والجبر كانا فيك مجرد خيال ، وعندما انتقلا إليهم ، تحولا إلى نور لذي الجلال . “ 1 “ والإنسان الذي لا يدرك الاختيار يكون في عدم إدراكه لهذا الاختيار أقل من حيوان :
- ولو أن جمالا قام بضرب جمل ، فإن ذلك الجمل يهاجم الجمال الضارب
- ولا ينصب غضب الجمل على العصا التي ضربته ، إذن فقد فهم البعير شيئا عن الاختيار .
- وهذا الكلب إن رميته بحجر ، فإنه ينثني عليك أنت بالهجوم .
- وإن أبدى بعض الغضب على الحجر ، فلأنك بعيد ، ولا تنالك يداه .
- وإذا كان عقل الحيوان قد فهم الاختيار ، فلا تقل هذا القول يا عقل الإنسان ، واخجل .
- إن هذا شديد الوضوح ، لكن طمعا في السحور ، يغمض ذلك الآكل عينيه عن النور .
- ولما كان كل ميله منصبا على تناول الطعام ، فإنه يتجه إلى الظلام قائلا :
لم يطلع النهار .
- وإذا كان الحرص يخفي الشمس ، فأي عجب أن يعطي ظهره للبرهان ؟ ! “ 2 “
4 - ويجد الجبر مصداقيته ما دام متوافقا مع القوانين الإلهية ، وهناك اختيار فردى وليس الأمر قدرا مقدورا ، وصورة الشريعة أي كلياتها لا تتغير لكن محتواها حر وقابل للتغيير ، وفي هذه المصالحة بين الشريعة والاختيار نلتقي
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 1 / 1466 - 1484
( 2 ) مثنوى : 5 / 3050 – 3057
“ 16 “
بأكثر التصورات في فلسفة إقناعا ومنطقية . فالدين وهو الجوهر الأصلي لتصور الشرع أبدي ولا يتغير ، وطبيعته دائما ما هي على نسق واحد ، ومن هنا فهي بلغة العرفان " خارجة عن حدود الزمان والمكان " وبلغة علم الأديان " مقدرة وجبرية " ، ومن هنا فإن البنية التحررية للشخصية تكون في حاجة إلى نسقية معنوية وعلمية وعلية معنوية ، ولقد كتب قلم التقدير مرة واحدة وإلى الأبد أن لكل عمل جزاء خاصا به ، فإن إخترت طريقا معوجا ، فإن القانون الأزلي الذي لا يرحم للقضاء سوف يأخذك إلى طريق الخطا ، والحق والباطل كلاهما مطيع لهذا القانون ، فإن قلم التقدير لا تحركه إرادة مستبدة ، فمن المقدر أن يكون للخير والشر نتائجهما التي لابد منها ، الميزان الإلهي يزن الذرة ، والكتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها . “ 1 “ ويتجلى هذا المعنى في تفسير مولانا جلال الدين للحديث النبوي
[ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، رفعت الأقلام وطويت الصحف ]
ويضيف مولانا :
جف القلم ألا تستوى الطاعة والمعصية ، لا تستوى الأمانة والسرقة ، جف القلم ألا يستوى الشكر والكفران ، جف القلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين :
- وهكذا أيضا تأويل قد جف القلم ، إنها من أجل التحريض على الشغل الأهم .
- إذن فقد كتب القلم إن لكل فعل ما يليق به من تأثير وجزاء .
- تسير معوجا ، يأتيك الإعوجاج ، جف " بهذا " القلم ، وإن أتيت بالصدق والاستقامة ، تتولد لك السعادة .
..............................................................
( 1 ) خليفة عبد الحكم : عرفان مولوى - ترجمة أحمد محمدي وأحمد مير علائي - تهران 1352 ص 101 وص 102
“ 17 “
- وإن ارتكبت الظلم فأنت مدبرٌ سئ الحظ ، جف القلم بهذا ، وإن عدلت فأنت ذو نصيب من هذا " العدل " ، جف القلم .
- وعندما يسرق أحد ، فقد ضاعت يده ، جف القلم ، ومن يشرب الخمر فقد ثمل ، جف القلم . “ 1 “ ثم يعود مولانا إلى الفكرة في موضع آخر :
- إن هذه الأحزان هي فعلك لحظة بلحظة ، هذا هو معنى جف القلم .
- فلن تجد لسنتنا تبديلا من الرشد ، فالخير يجازى بالخير ، والشر بالشر .
- بل الشر للشر ، جف القلم ، والوفاء للوفاء ، جف القلم . “ 2 “
الحق والباطل إذن كلاهما مطيع لقانون ، وحكم التقدير لا يجري كيفما أُتفق ، والاختيار موجود وكامن وفي حاجة إلى من يحركه ، داعي الخير أو داعي الشر :
- وهناك اختيار كامن في باطنك ، ما لم ير مثيلا ليوسف ، لا يقوم بجرح اليد .
- كان الاختيار وكان الداعي موجودا في النفس ، ورأى وجهه ففتح الجناح والقوادم .
- والكلب قد نام وضاع منه اختياره ، وعندما رأى السقط ، بصبص بذنبه .
- والحصان يصهل عندما يرى الشعير ، والقطة تموء عندما يتحرك اللحم - فإن الرؤية تحريك لهذا الاختيار ، كالنفخ يثير من النار الشرار .
- ومن هذا فقد تحرك اختيارك ، عندما صار إبليس رسول غرام ، وأتاك برسالة من محبوبك .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 5 / 3131 - 3135
( 2 ) مثنوى : 5 / 3182 - 3183
“ 18 “
- وعندما يُعرض الشيء المشتهى على امريء ما ، فإن الاختيار النائم يتمطى ، وتتفتح أعطافه .
- ثم إن ملائكة الخير برغم أنف الشيطان ، تعرض هي الأخرى " ما لديها " وتقيم ضجة في القلب .
- حتى يتحرك اختيار الحق لديك ، فقبل العرض تكون هاتان الخصلتان نائمتين داخلك .
- إذن فالملاك والشيطان كلاهما عارض " عليك " ، وذلك من أجل أن تتحرك عروق الاختيار فيك . “ 1 “ الإنسان إذن ليس مترددا بين مستحيلين ، بل إن كل واحد منهما ممكن ، ومعروض ، بل ومعروف العاقبة ، تأمل الإنسان بينهما ، تلك اللحظة الفاصلة قبل الاختيار ، قدرته على شيء وعدم قدرته على شيء ، وهو في هذه الفجوة ، هذا هو خير دليل على الاختيار ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وإن قلت أن اختيارك للشر قضاء ، فإن هذا لن يعفيك من المسؤولية والعقاب ، فالله تعالى أمر بأن يعاقب الشرير :
- قال لص للشرطي : أيها العظيم ، إن ما ارتكبته ، كان من حكم الإله .
- قال الشرطي : وما أفعله أنا من عقاب ، هو حكم الله أيضا يا نور عيني . “ 2 “
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 5 / 2975 - 2984
( 2 ) مثنوى : 5 / 3058 – 3059
“ 19 “
وهكذا ، فإن أكل أحدهم ثمرة من شجرة على أساس أن " عبد الله يأكل من حديقة الله " ، فإن حبل الله أيضا موجود ليوثق به ، وعصا الله موجودة ليضرب بها ، جبرك في الشر من الممكن أن يُقابل بجبر في العقاب “ 1 “ هذا هو منطق العدالة الإلهية .
5 - ولكن : هل يعني الاختيار هنا أنه اختيار على إرادة الله ؟ وهذا يعني أن الله يريد وأن الإنسان يريد ، وما دام الإنسان مختارا فإن له بالفعل إرادة مستقلة ؟ بالتأكيد لا يستطيع مسلم فضلا عن صوفي وعارف أن يجيب على هذا السؤال بالإيجاب . وخروجا من هذا التناقض يجيب مولانا بأن اختيار البشر جزءٌ من اختيار الخالق ، وهو اختيار أصغر أمام الاختيار الأكبر ، ويفسر هذا ببيانه العظيم قائلا :
- إن اختياره هو الذي اختار كل أنواع الاختيار ، واختياره كالفارس " مخفي " في الغبار .
- وإن اختياره هو الذي يقوم باختيارنا ، ومن ثم صار الأمر مستندا على الاختيار .
- والتسلط على صورة بلا اختيار ، موجود عند كل مخلوق عند قدرته عليها .
- حتى ليُجر الصيد دون اختيار من هذا الصيد ، وحتى يسحب أحدهم زيدا جارا إياه من أذنيه .
- لكن صنع الصمد " يستطيع " بدون آلة قط ، أن يجعل اختياره وهقا له .
- فإن اختياره يقيد زيدا ، ويصيده الحق دون كلب أو فخ .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 5 / 3077 - 3084
“ 20 “
- والنجار يكون مسلطا على الخشب ، وذلك المصور يكون حاكما على الجمال الذي صوره .
- كما أم الحداد قيم على الحديد ، والبناء مسيطر على آلة عمله .
- والعجيب أن كل هذه الاختيارات ، تسجد أمام اختياره هو كالعبيد .
- وقدرتك على الجمادات في صراعك " مع الحياة " ، متى نفت الجمادية عن أي منها .
- ومن ثم فقدرته على المخلوقات المميزة ، لا تقوم بنفي الاختيار عنها .
- فداوم على القول بأنها مشيئة الله على وجه الكمال ، فليس فيها نسبة الجبر والضلال . “ 1 “ لكن إياك - استنادا على هذا القول - أن تقول إن كفري مشيته ، إنه من مشيئته ، وهو أيضا من مشيئتك ، فلا كفر بلا مشيئة :
- وما دمت قد قلت : إن كفري مشيئته ، إعلم أن مشيئتك أيضا موجودة - ذلك أن كفرك لا يكون دون مشيئة منك ، إن الكفر بلا مشيئة منك قول متناقض .
- فالأمر للعاجز قبيحٌ وذميم ، والغضب " عليه " أقبح ، وبخاصة عندما يكون من الرب الرحيم .
- إن الثور الذي لا يقبل النير يتعرض للضرب ، لكن ثورا قط لم يُحقر ، لأنه لم يطر .
- وإن لم يكن الثور معذورا في فضول الفعل والقول ، فمن أي شيء يكون صاحب الثور الوقح معذورا . “ 2 “
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 5 / 3087 - 3099
( 2 ) مثنوى : 3100 - 3103
“ 21 “
نعم : قد يتدخل اختيار الله سبحانه وتعالى ، فينقض ما اختار العبد ، وهو المعروف " بفسخ العزائم ونقضها من أجل إعلام الإنسان أنه هو المالك والقاهر " يقول مولانا تحت هذا العنوان :
- إن العزائم والمقاصد في الحوادث ، تصح لك بين الحين والآخر .
- حتى يلوى قلبك طمعا ، ثم يحطم قلبك مرة أخرى .
- ذلك أنه إذا جعلك بلا مراد كلية ، لصرت قانط القلب ، فمتى غرست غرس الأمل ؟
- فهو وإن كان ينقش الأمل في قلب كل إنسان ، فمتى كان قهره يبدو عليه من انتفاء هذا الأمل ؟
- لقد صار العشاق من صدهم عن مرادهم عارفين بمولاهم .
- وصارت الخيبة دليلا إلى الجنة ، فاستمع إلى " حفت الجنة " يا حسن الجبلة .
- وكل مراداتك كسيرة القدم ، ومن ثم يلزمك شخصٌ موفق الخطى .
- ومن ثم صار هؤلاء الصادقون كسيرين ، لكن أين هو انكسار العاشقين .
- وإن العقلاء كسيرون له اضطرارا ، لكن العشاق كسيرون له بمائة اختيار . “ 1 “ وهكذا عندما يصل مولانا جلال الدين إلى نقطة الصعوبة في القضية ، يقدم حله المعهود : العشق ، عندما تكون عاشقا ، لن تقول إرادتي وإرادته ، بل سوف تذوب الإرادات كلها ، إن صار لك ثم إقتران بالنور الإلهي ، فلا جبر ولا اختيار ، بل ذوبان تام في كل ما اختاره الله :
- وجاهد حتى تجد جرعة من كأس الحق ، فتكون آنذاك متجردا عن ذاتك بلا اختيار .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 3 / 4465 – 4473
“ 22 “
- وعندما تصبح تلك الخمر هي اختيارك الكلي ، تكون معذورا على الإطلاق ، كالثمل .
- وكل ما تدقه يكون مدقوقا بتلك الخمر ، وكل ما تكنسه ، يكون مكنوسا بها .
- ومتى يفعل ذلك الثمل إلا العدل والصواب ، لقد شرب من كأس الحق الشراب . “ 1 “
اختيار البشر في هذه الحالة موجود ، لكن كظل لما اختاره الله [ ومن أشرف على حسن اختيار الله ، لم يتمن إلا ما اختار الله له ] في قول منسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما . “ 2 “
وهذا يتفق مع نظرية جلال الدين الرومي الشاملة التي تعتبر كل الموجودات ظلا لشمس الحقيقة الكبرى ، والمقصود بالطبع أن الإرادة الإلهية عندما تغلب ، لا يكون هناك اختيار لمخلوق ، ومن ثم تتكرر عند مولانا دائما عبارة " إن جاء القضا ، ضاق الفضا " :
- وعندما يحم القضاء ، تضيق هذه الدنيا ، ومن القضاء تصير الحلوى ألما للفم .
- لقد قيل : إذا جاء القضاء ضاق الفضا ، تحجب الأبصار إذ يأتي القضاء .
- وعندما يحم القضاء ، تعمى الأبصار ، بحيث لا ترى العين كحل العين .
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 5 / 3105 - 3108
( 2 ) الهجويرى : كشف المحجوب - الترجمة العرية بمشاركة كاتب هذه السطور - ص 211
“ 23 “
- إن مكر ذلك الفارس أنه أثار الغبار ، وذلك الغبار هو الذي أبعدك عن الاستغاثة .
- فامض نحو الفارس ، ولا تمض نحو الغبار ، وإلا أطبق عليك مكر هذا الفارس . “ 1 “
يريد مولانا أن يقول : حذار أن تتبجح وتترك الضراعة ، وأن تظن أنك مسلط على مصيرك ، وأن يرديك هذا الظن فتنصرف عن العبودية والتضرع والعبادة :
- وأمام النور المستقر ، ماذا يكون في حد ذاته ، كر اختيار أبي البشر وفره ؟
- وموضع السمع فيه قطعتان من العظام ، وموضع إدراكه قطرتان من الدم ، أي القلب .
- وقطعة من اللحم أداة للحديث عنده ، وقطعة من الشحم هي موضع بصره .
- إنه مجرد دودة صغيرة مليئة بالأقذار ، لكنه ملأ الدنيا بالضجيج والصخب . “ 2 “ والمقصود بالطبع أن تكريم الإنسان بالاختيار ، لا ينبغي أن يكون سببا في تجبره وادعائه ، وأن يدعي أنه " خلف شغاف القلب محبوب معتز برأيه " “ 3 “ هذا الاختيار اختيار غير كامل ، يعبر عنه مولانا بأنه اختيار ذو شقين ، أي بين طريقين من الشك والخوف والهول والتردد الذي يعذب البشر في أعمالهم
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 3 / 380 - 384
( 2 ) مثنوى : 5 / 1852 - 1855
( 3 ) جلال الدين همائي : مولوى نامه - 1 / 90
“ 24 “
وأفعالهم ، ومن ثم يجد المرء نفسه - بالرغم من الكرامة التي أعطيت له - متضرعا إلى الخالق أن ينجيه من شر هذا الاختيار ، هي مسؤولية الحرية التي لا تزال تعذب الحر ، لكن المناجي هنا يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يصطفي روحه ويجعلها له ، ويسقيها من دن الغيب شرابا ينقلها إلى قدرية الجنون والسكر الإلهي “ 1 “ :
- ومن أكون أنا ؟ إن هذا الفلك ذا المئات من أنواع الحشمة والجلال ، قد صرخ أكثر من هذا الحقير من جراء الاختيار .
- قائلا : أيها الإله الكريم الحليم ، ارحمني من هذا الاختيار ذي الشقين .
- إن الجذب إلى طريق واحد هو الطريق المستقيم ، أفضل من طريقي التردد أيها الكريم .
- ومهما كنت أنت المقصود من هذين الطريقين ، لكن انتزاع الروح جاء من الإثنينية .
- وليكن لي أي هذين الطريقين بعزمك أنت ، لكن القتال فيك لم يكن قط كاللهو .
- واستمع إلى بيانها من القرآن الكريم ، في الآية الكريمةأَشْفَقْنَ مِنْها.
- وهذا التردد في القلب كأنه جمر الوغى ، أي الأمرين بالنسبة لي أفضل ، يا ترى . “ 2 “
..............................................................
( 1 ) المصدر السابق : ص 91
( 2 ) مثنوى : 6 / 202 – 208
“ 25 “
وحتى في هذه الحالة ، تظل العظمة الإلهية منوطة بكون الإنسان مختارا ليس مجبرا هذا كما تقاس العظمة الحقيقية لأي حاكم بأنه يحكم شعبا من الأحرار لا شعبا من العبيد ، فأية مزية حقيقية للحكم والسلطة على مخلوقات كقطع الشطرنج . وهذا أمر شديد الوضوح ، . والاختيار على مراحل ، وهو ظاهرة ليس لها وجود عيني كالأجسام في الخارج ، ظاهرة - والرأي لمحمد تقي جعفري صاحب التفسير الكبير لمثنوي جلال الدين - “ 1 “
ذات حالتين : الحالة الأولى وهي القوة الموجودة قبل اختيار العمل والقيام به ، وفي هذه الحالة لا يتنافى الاختيار ولا يصطدم بأي اختيار آخر ، ما دام لم يدخل في حيز العمل بعد ، وهناك تتنافس مئات الأنواع من الاختيارات ما دامت كلها لم تنتقل إلى حيز العمل أو تنتقل من القوة إلى الفعل أو من الفكرة إلى التنفيذ هذه الحالة تشغل حيزا من الوجود لا يمكن لفكرة أخرى أن تشغله ، ومن البديهي أن النقيضين لا يجتمعان ، ومن ثم فإن كون الله سبحانه وتعالى مختارا مطلقا فوق اختيارات الإنسان ، لا يتنافى مع اختيار الإنسان ، لأن الاختيار الإلهى ليس حقيقة عينية تتصادم مع حقائق عينية أخرى ، وهذا يشبه تماما قولنا أن وجود الله وإحاطته بكل الوجود لا يتنافى مع كون الإنسان موجودا ، بل إن اختيار الله سبحانه وتعالى يستلزم وجود اختيار آخر لكي يجرى مشيئته عليه ، وهو ما عبر عنه مولانا بأن قدرة الإنسان على الجماد لا تنفي جمادية الجماد “ 2 “ وهو ما سبق أن ذكرناه ، ليس هذا
..............................................................
( 1 ) محمد تقي جعفري : تفسير ونقد وتحليل مثنوى جلال الدين محمد مولوى - ج 12 - ص 407 - 409 - تهران - اسلامي - 1363 ه . ش .
( 2 ) المصدر السابق : ص 408
“ 26 “
فحسب ، بل إن منتهى الاختيار أن يمحى هذا الاختيار الجزئي الإنساني في الاختيار الكلي الإلهي :
- قال داود عليه السّلام : لقد كنت مغلوبا لك ، ثملا بك ، كانت يداى مقيدتين بيدك .
- أليس كل مغلوب للمليك مرحوما ؟ وأليس المغلوب كالمعدوم ؟
- قال سبحانه وتعالى : أين ذلك المعدوم المغلوب ؟ أيقنوا أنه ليس معدوما إلا بشكل نسبي .
- إن مثل هذا المعدوم الذي غاب عن وعيه ، هو أفضل الموجودات وأعظمها .
- إنه فان في صفات الحق ، وفي الحقيقة فإن البقاء له في هذا الفناء .
- وكل الأرواح في تدبيره ، وكل الأشباح في مرمى سهمه .
- إن من هو مغلوب في لطفنا ، ليس مضطرا " مجبورا " ، بل هو مختار بالولاء والمحبة .
- ومنتهى الاختيار يصبح لمن يكون اختياره مفتقدا هنا .
- وليست هناك لذة عند المختار ، إن لم يصر له محو الأنية في نهاية الأمر . “ 1 “
وكما أن " جف القلم " لا تعني استسلاما ، بل تعني أن هناك ثوابت في الحساب الإلهي ، فإن القول الآخر
[ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ]
لا يعني أن يترك الإنسان نفسه مثل قشة في مهب الريح ، فالمشيئة مشيئته تعني أن الرضا رضاه سبحانه وتعالى والغضب غضبه ، فالزم طاعته ، ولا تطلب رضا الآخرين ، واطلب رضاه :
..............................................................
( 1 ) مثنوى : 4 / 395 - 404
.
أبيات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الخامس ترجمة د. إبراهيم الدسوقي شتا
* * *
الهوامش والشروح المجمعة فى المثنوي المعنوي الجزء الخامس د. أبراهيم الدسوقي شتا
* * *