أسرار الحروف والحروف المقطعة في القرآن
كاظم محمد علي شكر
هذا العلم الشهير بعلوم التصوف والأسرار محيي الدين بن عربي أسهب في الحديث عن أسرار الحروف في كتابه الفتوحات المكية وذلك في المجلد الأول في الصفحات من (ص 51- ص 91) ، وقد قسّم بحثه إلى فصلين : الأول في معرفة الحروف ومراتبها والحركات وهي الحروف الصغار وما لها من الأسماء الإلهية، وقد لخصها شعرا بما يلي :
إن الحروف أئمة الألفاظ شهدت بذلك ألسن الحفاظ
دارت بها الأفلاك في ملكوته بين النيام الخرس والايقاظ
ألحظنها الأسماء في مكنونه فبدت تعز لذلك الألحاظ
وتقول لو لا فيض جودي ما بدت عند الكلام حقائق الألفاظ
وقال : اعلم - أيدنا اللّه وإياك - أنه لما كان الوجود مطلقا من غير تقييد يتضمن المكلف وهو الحق تعالى والمكلفين وهم العالم والحروف جامعة لما ذكرنا، أردنا أن نبيّن مقام المكلف من هذه الحروف من المكلفين من وجه دقيق محقق لا يتبدل عند أهل الكشف إذا وقفوا عليه .. إلخ.
ثم فصل القول في هذا الفصل وقد أعرضنا عنه لطوله وخروجه عن منهجية كتابنا، ثم ذكر مراتب الحروف، وقال : اعلم وفقنا اللّه وإياك أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا، وعالم الحروف أفصح العالم لسانا وأوضحه بيانا وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف في العرف ... ثم فصل القول في ماهية كل حرف اعتبارا من الألف ولغاية الياء.
وفي الفصل الثاني فصل القول في معرفة الحركات التي تتميز بها الكلمات وهي الحروف الصغار، ولخصها شعرا فقال :
حركات الحروف ست ومنها أظهر اللّه مثلها الكلمات
هي رفع وثم نصب وخفض حركات للأحرف المعربات
وهي فتح وثم ضم وكسر حركات للأحرف الثابتات
وأصول الكلام حذف فموت أو سكون يكون عن حركات
هذه حالة العوالم فانظر لحياة غريبة في موات
وقال : اعلم أيدنا اللّه وإياك بروح منه إنا كنا شرطنا أن نتكلم في الحركات في فصل الحروف لم أطلق عليها الحروف الصغار؟ ثم أنه رأينا أنه لا فائدة في امتزاج عالم الحركات بعالم الحروف إلا بعد نظام الحروف وضم بعضها إلى بعض، فتكون كلمة عند ذلك في الكلم وانتظامها ينظر إلى قوله تعالى في خلقنا : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } [الحجر : 29] وهو ورود الحركات على هذه الحروف بعد تسويتها فتقوم نشأة أخرى تسمى كلمة كما يسمى الشخص الواحد منا إنسانا فهكذا انتشأ عالم الكلمات وألفاظ من عالم الحروف، فالحروف للكلمات مواد كالماء والتراب والنار والهواء لإقامة نشأة أجسامنا، ثم نفخ الروح فيه الأمريّ فكان إنسانا .. إلخ.
وهكذا راح يفصل القول في هذا الفصل إلى أن جاء إلى آخره وقد أعرضنا عنه لطوله وعدم مطابقته منهج كتابنا هذا.
إن المنهج الذي سلكه محيي الدين بن عربي في أسرار الحروف يختلف عن المنهج الذي اتبعه الأنطاكي فبعض الأسرار عند ابن عربي هي غيرها عند الأنطاكي، ولكن كل منهما يتفق مع الآخر على الروحانية في الحروف وأنها ذوات وخلق من خلق اللّه تعالى، وأن الإحاطة بأسرارها جميعا مستحيلة، وما لدى العلماء منها إلا القليل، فسبحان الذي صور كل شيء وأتقن صنعه.
هذا ولا نريد أن نلاحق علماء الحروف وندون ما قالوه وما ظهر وبان لهم من أسرارها، لأن ذلك ضرب من المستحيل ، وخارج عن نطاق البحث والقدرة، وما وقفنا عنده كان للدلالة على احتضان الحروف لعلوم الأسرار التي يستحيل على البشرية معرفتها إلا بالقدر الذي شاء اللّه تعالى أن يهبه إلى أنبيائه وأوصياء أنبيائه ورسله، والأئمة والعلماء المقربين منه، والحمد للّه رب العالمين.
ومن هنا قد نجد عند علماء أسرار الحروف من العلم ما لا نجده عند غيرهم لأنها من العلوم الإلهية الموهوبة ربانيا بالدرجة الأولى أو المعطاة بإجازة من علمائها إلى من يخلفهم في حمل تلكم الأسرار بالدرجة الثانية، واللّه أعلم.