الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي -بالشين والذال المعجمتين،
وشاذلة قريةٌ من إفريقية- الضرير، الزاهد، نزيلُ إسكندرية،
وشيخ الطائفة الشاذلية، وكان كبيرَ المقدار، عالي المنار، له عباراتٌ فيها رموز،
فوَّقَ ابنُ تيمية سهمَه إليه، فردَّه عليه.
وصحب الشيخ نجمَ الدين الأصفهاني، وابن مَشيش وغيرهما.
وحجَّ مرَّاتٍ، ومات بصحراء عَيْذاب قاصدًا الحجَّ،
فدُفن هناك في ذي القعدة سنة ست وخمسين وست مئة.
وقد أفرده سيدي الشيخُ تاجُ الدين بن عطاء الله هو وتلميذه أبا العباس بالترجمة،
وها أنا أذكر لك ملخَّصَ ما ذكره فيها، فأقول وبالله التوفيق:
قد ترجم رضى الله عنه في كتاب «لطائف المنن»
سيدي الشيخ أبا الحسن رضى الله عنه، بأنَّه قطبُ الزمان،
والحاملُ في وقته لواء أهل العيان، حجَّةُ الصوفية، علمُ المهتدين،
زين العارفين، أستاذُ الأكابر، زمزم الأسرار، ومعدنُ الأنوار،
القطب الغوث الجامع أبو الحسن علي الشاذلي رضى الله عنه،
لم يدخل طريق القوم حتى كان يعدُّ للمناظرة في العلوم الظاهرة،
وشهدَ له الشيخ أبو عبد الله بن النعمان بالقطبانية.
جاء رضى الله عنه في هذه الطريقة بالعجب العُجاب،
وكان الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضى الله عنه
يقول: ما رأيتُ أَعرفَ بالله من الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه.
ومن كلامه رضى الله عنه: عليك بالاستغفار، وإنْ لم يكن هناك ذنب،
واعتبر باستغفار النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد البشارة واليقين
بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر
، هذا في معصوم لم يقترف ذنبًا قط وتقدَّسَ عن ذلك،
فما ظنُّك بمن لا يخلو عن العيب والذنب في وقت من الأوقات؟
وكان رضى الله عنه يقول: إذا عارضَ كشفُكَ الكتابَ والسنَّةَ فتمسَّكْ بالكتاب والسنة،
ودعِ الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمنَ لي العصمة بالكتاب والسنة،
ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة.
وكان رضى الله عنه يقول: لقيتُ الخَضِرَ عليه السلام في صحراء عَيْذابِ
فقال لي: يا أبا الحسن، أصحبك الله اللطيف الجميل، وكان لك صاحبًا في المقام والرحيل.
وكان رضى الله عنه يقول: إذا جاذبتكَ هواتفُ الحقِّ،
فإيَّاكَ أن تستشهدَ بالمحسوسات على الحقائق الغيبيات، وتردَّه فتكون من الجاهلين،
واحذر أن تدخل في شيء من ذلك بالعقل.
وكان رضى الله عنه يقول: إذا عرضَ لك عارضٌ يصدُّكَ عن الله فاثبتْ،
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[الأنفال: 45].
وكان يقول: كلُّ علمٍ تسبق إليك فيه الخواطر، وتميلُ إليه النَّفسُ،
وتلتذُّ به الطبيعة فارمِ به، وإن كان حقًّا، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله،
واقتدِ به، وبالخلفاء والصحابة، والتابعين من بعده،
وبالأئمة الهداة المبرَّئين عن الهوى ومتابعته تسلمْ من الشكوك،
والظنون، والأوهام، والدَّعاوى الكاذبة المُضلَّة عن الهدى وحقائقه،
وماذا عليك أن تكون عبد الله ولا علم ولا عمل، وحسبُكَ من العلم العلم بالوحدانية،
ومن العملِ محبَّة ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الصحابة،
واعتقاد الحقِّ للجماعة. قال رجلٌ: متى الساعة يا رسول الله:
قال: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»
قال: لا شيء، إلا أني أُحبُّ الله ورسوله. فقال: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».
وكان يقول: إذا كثرَت عليك الخواطرُ والوساوس، فقل: سبحان
الملك الخلاّق ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾
[إبراهيم: 19، 20].
وكان يقول: لا تجِدُ الرُّوحَ والمدد، ويصحُّ لك مقام الرِّجال،
حتى لا يبقى في قلبك تعلُّقٌ بعلمك ولا جدِّك ولا اجتهادك،
وتيأسَ من الكلِّ، دون الله تعالى.
وكان رضى الله عنه يقول:
من أحصن الحصون من وقوع البلاء على المعاصي الاستغفارُ،
قال الله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
[الأنفال: 33].
وكان يقول: إذا ثقل الذِّكرُ على لسانك، وكثرَ اللغو في مقالك،
وانبسطت الجوارح في شهواتك، وانسدَّ بابُ الفكرة في مصالحك،
فاعلم أن ذلك من عظيم أوزارك، أو لكمون إرادة النِّفاق في قلبك،
وليس لك طريق إلا طريق الإصلاح،
والاعتصام بالله، والإخلاص في دين الله تعالى، ألم تسمع قوله تعالى:
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾
[النساء: 146]
ولم يقل من المؤمنين، فتأمَّلْ هذا الأمر إن كنت فقيهًا!
وكان رضى الله عنه يقول: ارجعُ عن منازعة ربِّك تكن موحِّدًا،
واعملْ بأركانِ الشرع تكن سنيًّا، واجمع بينهما تكن محققًا.
وكان يقول: قيل لي: يا عليُّ، ما على وجه الأرض مجلسٌ
في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام،
وما على وجه الأرض مجلسٌ في علم الحديث
أبهى من مجلس الشيخ عبد العظيم المُنذري،
وما على وجه الأرض مجلسٌ في علم الحقائق أبهى من مجلسك.
وكان يقول: من أحبَّ ألا يُعصى الله تعالى في مملكته
فقد أحبَّ ألا تظهر مغفرتُه ورحمته،
وألا يكونَ لنبيه صلى الله عليه وسلم شفاعة.
وكان يقول: لا تَشمُّ رائحةَ الولاية وأنت غيرُ زاهدٍ في الدنيا وأهلِها.
وكان رضى الله عنه يقول: أسبابُ القبضِ ثلاثةٌ:
ذنبٌ أحدثْتَه، أو دنيا ذهبتْ عنك، أو شخص يؤذيك في نفسك أو عرضك،
فإن كنتَ أذنبتَ فاستغفر، وإن كنتَ ذهبتْ عنك الدُّنيا فارجع إلى ربِّك،
وإن ظُلِمتَ فاصبر واحتمل، هذا دواؤك،
وإن لم يُطلعْكَ الله تعالى على سببِ القبض
فاسكن تحت جريان الأقدار؛ فإنها سحابةٌ سائرة.
وكان رضى الله عنه يقول: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
فقلت: يا رسول الله، ما حقيقةُ المتابعة؟
فقال: رؤيةُ المتبوع عند كلِّ شيءٍ، مع كلِّ شيءٍ، في كلِّ شيءٍ.
وكان يقول: الشيخ من دلَّكَ على الراحة، لا من دلَّكَ على التعب.
وكان يقول: من دعا إلى الله تعالى بغيرِ ما دعا به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بدْعي.
وكان يقول: من آداب المجالس للأكابر التخلّي عن الأضداد،
والميل والمحبة والتخصيص لهم، وترك التجسس على عقائدهم.
وكان يقول: إذا جالستَ العلماء فلا تحدِّثْهم إلا بالعلوم المنقولة،
والروايات الصحيحة، إمَّا أن تُفيدهم، وإما أن تستفيد منهم، وذلك غايةُ الرِّبح منهم،
وإذا جالست العُبَّاد والزهَّاد فاجلسْ معهم على بساط الزهد والعبادة،
وحلَّ لهم ما استمرؤوه،
وسهِّل عليهم ما استوعروه، وذوّقهم من المعرفة ما لم يذوقوه،
وإذا جالست الصدِّيقين ففارقْ ما تَعلمُ تظفرْ بالعلم المكنون.
وكان يقول: إذا انتصر الفقير لنفسه وأجاب عنها، فهو والتراب سواء.
وكان يقول: إذا لم يُواظبِ الفقير
على حضور الصلوات الخمس في الجماعات، فلا تعبأنَّ به.
وكان يقول: من غلبَ عليه شهودُ الإرادة،
تفسَّختْ عزائمُه؛ لسرعة المراد وكثرته،
واختلاف أنواعه، وأَيُّ وقفة تسعه حتى يحلَّ، أو يعقد، أو يعزم،
أو ينوي شيئًا من أموره مع تعدد إرادته، واضمحلال صفاته،
أين أنت من نور مَنْ نظر واتَّسعَ نظره بنور ربِّه،
ولم يشغله المنظورُ إليه عمَّن نظر به،
فقال: «مَا مِنْ شَىْءٍ كان ويكون إِلاَّ وَقَدْ رَأَيْتُهُ...» الحديث.
وكان رضى الله عنه يقول:
إذا استحسنتَ شيئًا من أحوالك الباطنة أو الظاهرة،
وخفت زواله، فقل: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.
وكان يقول: ورد المحقّقين إسقاطُ الهوى، ومحبَّةُ المولى.
أَبَتِ المحبَّةُ أن تستعمل محبًّا لغير محبوبه.
وفي رواية أخرى: وِردُ المحقّقين ردّ النفَس بالحقِّ عن الباطل في عموم الأوقات.
وكان يقول: لا يتمُّ للعالم سلوكُ طريق القوم إلا بصحبة أخٍ صالحٍ، أو شيخٍ ناصح.
وكان يقول: لا تؤخِّرْ طاعات وقت لوقت آخر؛
فتعاقب بفواتها أو بفوات غيرها أو مثلها جزاءً لما ضيعت من ذلك الوقت،
فإنَّ لكلِّ وقتٍ سهمًا، فحقُّ العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية،
وأما تأخيرُ عمر رضى الله عنه الوتر
إلى آخر الليل فتلك عادةُ جاريةٌ، وسنَّةُ ثابتة
ألزمه الله تعالى إياها مع المحافظة عليها،
وأنَّى لك بها مع الميل إلى الراحات، والرُّكون مع الشهوات،
والغفلةِ عن المشاهدات، هيهات هيهات هيهات.
وكان رضى الله عنه يقول:
من أراد عزَّ الداريْن فليدخلْ في مذهبنا يومين.
فقال له قائل: كيف لي بذلك؟ قال: فرِّق الأصنام عن قلبك، وأرحْ من الدنيا بدَنَك،
ثم كن كيف شئت، فإن الله لا يعذِّبُ العبدَ على مدِّ رجليه
مع استصحاب التواضع للاستراحة من التعب،
وإنَّما يُعذّبه على تعب يصحبه التكبر.
وكان يقول: ليس هذا الطريق بالرهبانية، ولا بأكل الشعير والنخالة،
وإنَّما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية،
قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾
[السجدة: 24].
وكان يقول: من لم يزدَدْ بعلمه وعمله افتقارًا لربّه وتواضعًا لخلقه فهو هالك.
وكان يقول: سبحان من قطعَ كثيرًا من أهل الصلاح عن مصلحتهم
كما قطع المفسدين عن موجدهم.
وكان يقول: الزم جماعة المؤمنين، وإن كانوا عصاةً فاسقين،
وأقم عليهم الحدود، واهجرهم رحمةً بهم، لا تعززًا عليهم، ولا تقريعًا لهم.
وكان يقول: كُلْ من طعام فسقة المسلمين، ولا تأكلْ من طعام رهبان المشركين،
وانظر إلى الحجرِ الأسود، فإنه ما اسودّ إلا من مسِّ أيدي المشركين دون المسلمين.
وكان رضى الله عنه يقول: سمعتُ هاتفًا يقول: كم تُدندنُ مع من يُدندن،
وأنا السميع القريب، وتعريفي يُغنيك عن علم الأولين والآخرين،
ما عدا علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم النبيين عليهم الصلاة والسلام.
وقيل له مرةً: مَنْ شيخُك؟ فقال:
كنت أَنتسبُ إلى الشيخ عبد السلام ابن مشيش،
وأنا الآن لا أنتسب إلى أحدٍ، بل أعومُ في عشرة أبحرٍ:
محمد، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وجبريل، وميكائيل،
وعزرائيل، وإسرافيل، والروح الأكبر.
قال الشيخ أبو العباس المرسي:
ومات الشيخُ عبد السلام بن مشيش رضى الله عنه مقتولًا،
قتله ابن أبي الطواجن ببلاد المغرب.
وكان يقول: من علم اليقين بالله تعالى وبما لك عند الله تعالى
أن تتعاطى من الخلق ما لا تصغر به عند الحقَّ تعالى
مما تكرهُهُ النفوسُ الغوية كحمل متاعك من السوق، وجمع الحطب للطعام،
وجعله على رأسك، والمشي مع زوجتك إلى السوق في حاجة من حوائجها،
وركوبك خلفها على الحمار، وغيره،
وأمَّا ما تصغر به في أعين الخلق ممَّا للشرع عليه اعتراض
فليس من علم اليقين فلا ينبغي لك ارتكابه.
وكان يقول: إن كنتَ مؤمنًا مُوقنًا فاتَّخذِ الكلَّ عدوًّا، كما قال إبراهيم عليه السلام:
﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 77].
وكان يقول: الصادقُ المُوقن لو كذَّبه أهلُ الأرض لم يزدد بذلك إلا تمكينًا.
وكان يقول: لا تُعطى الكراماتُ مَن طلبها وحدَّثَ بها نفسه،
ولا من استعملَ نفسَه في طلبها، وإنَّما يُعطاها من لا يَرى نفسه ولا عمله،
وهو مشغولٌ بمحابِّ الله تعالى، ناظرٌ لفضل الله، آيسٌ من نفسه وعمله،
وقد تظهر الكرامةُ على من استقام في ظاهره،
وإن كانت هَناتُ النفسِ في باطنه، كما وقع للعابد الذي عَبَد الله في الجزيرة خمس مئة عام،
فقيل: ادخل الجنة برحمتي. فقال: بل بعملي.
وكان يقول: ما ثمَّ كرامةٌ أعظمُ من كرامة الإيمان، ومُتابعةِ السنة،
فمن أُعطيهما، وجعلَ يشتاقُ إلى غيرهما فهو عبدٌ مفترٍ كذاب،
أو ذو خطأ في العلم بالصواب، كمن أُكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب.
وكان يقول: كلُّ كرامةٍ لا يصحبها الرِّضا من الله، وعن الله، والمحبَّة لله،
ومن الله، فصاحبها مُستدرَجٌ مغرور، أو ناقصٌ هالك مثبور.
وكان رضى الله عنه يقول: للقطب خمسَ عشرة كرامة، فمن ادَّعاها أو شيئًا منها
فليبرز: أن يمدَّ بمدد الرحمة والعصمة والخلافة والنيابة،
ومدد حملة العرش العظيم، ويُكشف له عن حقيقة الذات، وإحاطة الصفات،
ويُكرم بكرامة الحكم والفصل بين الوجودين، وانفصال الأول عن الأول،
وما اتَّصل عنه إلى منتهاه، وما ثبت فيه، وحكم ما قبل وحكمٍ ما بعد،
وحكم من لا قبل له ولا بعد،
وعلم البدء، وهو العلم المحيط بكلِّ علمٍ وبكلِّ معلومٍ
بدءًا من السر الأول إلى منتهاه، ثم يعود إليه.
وكان يقول: سمعت هاتفًا يقول:
إن أردتَ كرامتي فعليك بطاعتي، وبالإعراض عن معصيتي.
وكان يقول: كأنّي واقفٌ بين يدي الله عزّ وجلّ،
فقال: لا تأمن مكري في شيء، وإن أمَّنتك؛ فإن علمي لا يُحيط به محيط، وهكذا درجوا.
وكان يقول: لا تركن إلى علم ولا مدد، وكن بالله،
واحذر أن تنشرَ علمَك ليصدقَك الناس، وانشر علمك ليصدّقك الله تعالى.
وكان يقول: العلومُ على القلوب كالدراهم والدنانير في الأيدي،
إن شاء الله تعالى نفعك بها، وإن شاء ضرَّك.
وكان يقول: قرأتُ ليلةً قوله تعالى:
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾
[الجاثية: 18، 19]
فنمت، فرأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يقول: أنا ممن يَعلَمُ، ولا أُغني عنك من الله شيئًا.
وكان رضى الله عنه يقول: من أقبلَ على الخلقِ الإقبالَ الكلّيَّ
قبلَ بلوغِ درجات الكمال سقطَ من عين الله تعالى، فاحذروا هذا الدَّاءَ العظيم،
فقدَ تعلَّقَ به خلَقٌ كثير، وقنعوا بالشهوة وتقبيلِ اليد،
فاعتصموا بالله يهدكم إلى الطريق المستقيم.
وكان يقول: من الشهوة الخفية للولي إرادتُهُ النُّصرة على من ظلمه،
وقال تعالى للمعصوم الأكبر:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]؛
أي فإن الله تعالى قد لا يشاء إهلاكهم.
وكان يقول: إذا أردت الوصول إلى الطريق التي لا لوم فيها،
فليكن الفرقُ في لسانك موجودًا،
والجمعُ في سرِّك مشهودًا.
وكان يقول: كلُّ اسم تستدعي به نعمةً، أو تستكفي به نقمةً فهو حجابٌ عن الذات،
وعن التوحيد بالصفّات، وهذا لأهل المراتب والمقامات،
وأمَّا عوامُّ المؤمنين فهم عن ذلك معزولون، وإلى حدودهم يرجعون،
ومن أجورهم من الله لا يُبخسون.
وكان رضى الله عنه يقول: لو علم نوحٌ عليه الصلاة والسلام
أنَّ في أصلاب قومه من يأتي يوحِّدُ الله عزّ وجلّ ما دعا عليهم،
ولكان قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِى؛ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلٌّ منهما على علمٍ وبينة من الله تعالى.
وكان يقول: لا أجرَ لمن أخذ الأجر والرشا على الصلاة والصيام،
وتنعَّمَ بمطامح تلك الأبصار عند إطراق الرءوس والاشتغال بالأذكار،
وجنايةُ هؤلاء بالإضافات ورؤية الطاعات أكثرُ من جنايتهم بالمعاصي وكثرة المخالفات،
وحسبُهم ما يظهر عليهم من الطاعات وإجابة الدعوات والمسارعة إلى الخيرات،
ومن أَبغضِ الخلقِ إلى الله تعالى مَنْ تملَّقَ إليه في الأسحار بالطاعات؛
ليطلب مسرَّته بذلك، قال تعالى:
﴿ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ﴾ [الزمر: 2، 3].
وكان يقول: العارفُ بالله تعالى لا تنغِّصُهُ حظوظ النفس؛ لأنه بالله تعالى
فيما يأخذ وفيما يتركُ، إلا إن كانت الحظوظ معاصي.
وكان يقول: إذا أهانَ الله عبدًا كشف له حظوظ نفسه، وسترَ عنه عيوبَ دينه،
فهو يتقلَّبُ في شهواته حتَّى يهلكَ ولا يشعر.
وكان يقول: إذا تركَ العارفُ الذِّكر على وجه الغفلة نَفَسًا أو نفسين،
قيَّضَ اللهُ تعالى له شيطانًا فهو له قَرين، وأمَّا غيرُ العارف فيسامح بمثل ذلك،
ولا يُؤخذ إلا في مثل درجة أو درجتين، أو زمنٍ أو زمنين،
أو ساعةٍ أو ساعتين على حسب المراتب.
وكان يقول: من الأولياء من يَسكرُ من شهود الكأس،
ولم يذق بعدُ شيئًا، فما ظنُّكَ بعد ذوق الشرابِ وبعد الري؟
واعلم أنَّ الري قلَّ من يفهم المُراد به، فإنه مزجُ الأوصاف بالأوصاف،
والأخلاقِ بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت،
والأفعال بالأفعال، وأمَّا الشربُ فهو سُقيا القلب والأوصال والعروق من هذا الشراب حتَّى يسكَر،
وأمَّا الكأس فهو معرفةُ الحقِّ التي يُعرف بها من ذلك الشراب الطهور
المخلص الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين، فتارةً يشهدُ الشارب تلك الكأسَ صورية،
وتارةً يشهدها معنويةً، وتارة يشهدها علميةً، فالصورية حظُّ الأبدان والأنفس،
والمعنوية حظُّ القلوب والعقول، والعلمية حظُّ الأرواح والأسرار، فيا له من شراب ما أعذبه!
فطوبى لمن شربَ منه ودام، وأطال في معنى ذلك.
وكان يقول: إياك والوقوعَ في المعصية المرَّة بعد المرة؛
فإنَّ مَنْ تعدى حدود الله فهو الظالم، والظالم لا يكون إمامًا، ومن ترك المعاصي،
وصبرَ على ما ابتلاه الله، وأيقنَ بوعد الله ووعيده فهو الإمامُ، وإن قلَّتْ أتباعُه.
وكان رضى الله عنه يقول: مريدٌ واحدٌ يصلح أن يكون محلًا لوضع أسرارك
خيرٌ من ألف مريد لا يكونون محلًا لوضع أسرارك.
وكان يقول: إنَّنا لننظرُ إلى الله تعالى ببصائر الإيمان والإيقان،
فأغنانا بذلك عن الدليل والبرهان، وصرنا نستدلُّ به تعالى على الخلق،
هل في الوجود شيءٌ سوى الملك المعبود الحقّ؟ فلا نراه،
وإن كان ولا بدّ من رؤيتهم فتراهم كالهباء في الهواء، إن مسستهم لم تجد شيئًا.
وكان يقول: إذا امتلأ القلب بأنوار الله تعالى،
عميت بصيرتُهُ عن المناقص والمذام المقيدة في عباده المؤمنين.
وكان يقول: ذهب العمى، وجاء البصر. بمعنى فانظر إلى الله تعالى،
فهو لك مأوى، فإن تنظر فبه، أو تسمع فمنه، وإن تنطق فعنه،
وإن تكن فعنده، وإن لم تكن فلا شيء غيره.
وكان يقول: البصيرةُ كالبصر أدنى شيء يقع فيها يعطِّلُ النظر،
وإن لم ينته الأمر إلى العمى، فالخطرةُ من صفات الشرِّ تشوّشُ نظرَ البصيرة،
وتكدّر الفكر والإرادة، وتذهب بالخير رأسًا، والعمل به يذهبُ بصاحبه عن سهم من الإسلام،
فإن استمرَّ على الشرِّ تفلَّتَ منه الإسلام سهمًا سهمًا،
فإذا انتهى إلى الوقيعة في العلماء والصالحين،
وموالاة الظالمين حبًّا للجاه والمنزلة عندهم فقد تفلَّتَ منه الإسلام كلُّه،
ولا يغرَّنَّكَ ما توسم به ظاهرًا، فإنه لا روح له، فإنَّ روحَ الإسلام حبُّ الله ورسوله،
وحبُّ الآخرة والصالحين من عباده.
وكان يقول: نظرُ الله عزَّ وجلَّ لا يمتدُّ منه شيءٌ إلا خلقه، ولا يقفُ في نظره،
ولا ينعطف عن منظوره، جلَّ نظرُ ربِّنا عن القصور والنفوذ، والتجاوز والحدود.
وكان رضى الله عنه يقول: أركزُ الأشياء في الصفات ركزها قبل وجودها،
ثم انظر هل ترى للعين أينًا، أو ترى للكون كانا، أو ترى للأمر شأنًا،
وكذلك بعد وجودها.
وكان يقول: من ادَّعى فتحَ عين قلبه وهو يتصنَّعُ بطاعة الله تعالى،
أو يطمعُ فيما في أيدي خلق الله فهو كاذب.
وكان يقول: التصوفُ تدريبُ النفس على العبودية، وردُّها لأحكام الربوبية.
وكان يقول: الصوفي يرى وجودَه كالهباء في الهواء،
غير موجود ولا معدوم حسبما هو عليه في علم الله.
وسئل رضى الله عنه عن الحقائق. فقال:
الحقائق هي المعاني القائمة في القلوب، وما اتَّضح لها، وانكشف لها من الغيوب،
وهي منحٌ من الله تعالى وكرامات، وبها وصلوا إلى البرِّ والطاعات،
ودليلُها قوله للحارث: «كيف أصبحت؟»
قال: «أصبحت مؤمنًا حقًّا...» الحديث.
وكان رضى الله عنه يقول: من تحقَّق الوجود فني عن كلِّ موجود،
ومن كان بالوجود ثبت له كلُّ موجود.
وكان يقول: أثبت أفعال العباد بإثبات الله تعالى، ولا يضرُّك ذلك،
وإنَّما يضرُّكَ الإثباتُ بهم ومنهم.
وكان يقول: أبى المحققون أن يشهدوا غير الله تعالى؛
لما حقَّقَهم به من شهود القيومية، وإحاطة الديمومية.
وكان يقول: حقيقةُ زوال الهوى من القلب
حبُّ لقاء الله تعالى في كلِّ نَفَسٍ من غير اختيار حالةٍ يكون المرء عليها.
وكان يقول: حقيقةُ القرب الغيبةُ بالقرب عن القرب لعظمِ القربة.
وكان يقول: لن يصلَ العبدُ إلى الله وبقي معه شهوةٌ من شهواته، ولا مشيئةٌ من مشيئاته.
وكان يقول: الأولياءُ يغنون عن كلِّ شيء بالله تعالى،
وليس لهم معه تدبيرٌ ولا اختيار، والعلماء يدبّرون، ويختارون،
وينظرون، ويقتبسون، وهم مع عقولهم وأوصالهم دائمون.
والصالحون وإن كانت أجسادُهم معرسةً ففي أسرارهم الكزازة
والمنازعة، ولا يصلح شرحُ أحوالهم إلا لوليٍّ في نهايته،
فحسبك ما ظهر من صلاحهم، واكتفِ به عن شرح ما بطن من أحوالهم.
وكان رضى الله عنه يقول: لا تختر من أمرٍ شيئًا واختر ألا تختار،
وفرَّ من ذلك المختار فرارَك من كلِّ شيء إلى الله تعالى:
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]،
وكلُّ مختارات الشرع وترتيباته فهي مختارُ الله،
ليس لك منه شيء، ولا بدَّ لك منه، اسمع وأطع، وهذا موضع الفقه الرباني،
والعلم الإلهي، وهي أرضٌ لعلم الحقيقة المأخوذة عن الله تعالى لمن استوى، فافهم.
وكان يقول: كلُّ ورعٍ لا يُثمر لك العلم والنور، فلا تعدَّ له أجرًا،
وكل سيئةٍ يعقبها الخوف والهرب إلى الله فلا تعدَّ لها وزرًا.
وكان يقول: لا ترقى قبل أن يُرقى بك، فتزل قدمُك.
وكان يقول: أشقى الناس من يعترض على مولاه، وأركس
في تدبير دنياه، ونسي المبدأ والمنتهى والعمل لأخراه.
وكان يقول: مراكز النفس أربعة: مركزٌ للشهوة في المخالفات،
ومركزٌ للشهوة في الطاعات، ومركزٌ في الميل إلى الراحات،
ومركز في العجز عن أداء المفروضات:
﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾
[التوبة: 5].
وكان يقول: إن من أعظم القربات عند الله تعالى مفارقةُ النفس بقطع إرادتها،
وطلب الخلاص منها بترك ما تهوى لما يُرجى من حياتها.
وكان يقول: إن من أشقى الناس من يحبُّ أن يعاملَهُ الناسُ بكلِّ ما يريد،
وهو لا يجدُ من نفسه بعضَ ما يُريد، وطالبْ نفسك بإكرامك لهم،
ولا تطالبهم بإكرامهم لك، ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ [النساء: 84].
وكان يقول: قد يئستُ من منفعة نفسي لنفسي،
فكيف لا أيأسُ من منفعةِ غيري لنفسي؟ ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي؟!