قصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
كاتب الموضوع
رسالة
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: قصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:03 pm
المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
"أولئك الذين هدى الله, فبهداهم اقتده". يقول العبد الفقير إلى مولاه الغني به عما سواه أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني لطف الله به وحباه: الحمد لله بجميع المحامد الأصلية القديمة والفرعية, فهو المحمود, وهو الحامد, لاختصاصه بنهاية الأحدية, الغني الكريم, الماجد القديم, الأزلي بلا بداية ولا أولية, الفرد الصمد, الواحد الباقي بلا نهاية ولا آخرية.
نحمده تعالى ونشكره على ما خوله وأولاه من أياديه الأبدية. ونستعينه سبحانه ونستنصره على سلوك طريق حضرته القدسية. ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له, المنزه عن الشريك والغيرية, المقدس عن الحلول والاتحاد وثبوت السوية. ونشهد أن سيدنا ومولانا محمداً رسوله ومصطفاه, المختص بالنزاهة الأصلية, من غير معاناة تخلية ولا تحلية, صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه وعترته وأحزابه, المنزهين عن الأخلاق الدنية, الموصوفين بمحاسن الأخلاق السنية.
أما بعد كل شيء وقبله: فأعظم الوسائل إلى الله سلوك طريق الأدب والتربية, وأقرب ما يوصل العبد إلى مولاه صحبة العارفين ذوي الهمم العالية والتربية النبوية, والتأدب بين يدي المشايخ: أهل النزاهة والتصفية, على اختلاف مقاماتهم وأحوالهم من: عبّاد, وزهاد, وفقراء, وصوفية, والبحث عن سيرهم وأحوالهم, والتأدب بآدابهم المرضية, والتحقق بأخلاقهم وشيمهم الزكية, وأجل من بحث عن سننهم الدارسة ومآثرهم السنية, الفقيه الصوفي ابن البنا السرقسطي في "مباحث الأصلية",
فلله دره, لقد حرر فيه المعنى, وبين فيه المبنى, فبلغ فيه غاية القصد والمنى, بلفظ مختصر بديع, ونظم سلس رائق رفيع, بين فيه أصول الطريق, وأظهر فيه معالم التحقيق, فأردت بعون الله أن أضع عليه شرحا متوسطا, ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل. يبين المعنى, ويحقق المبنى, حملني عليه أمر شيخنا العارف الواصل المحقق الكامل سيدي محمد بن احمد البوزيدي الحسيني, فأجبت رغبته, وأسعفت طلبته, عسى أن ينتفع به الخاص والعام, فيكون معراجا وسلما لارتقاء درجة المعرفة على التمام, وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب, وحسبي الله ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, وسميته "الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية" نسأل الله تعالى أن يفتح على من كتبه أو طالعه أو حصله أو سمعه أو اعتقده أو اتعظ بما فيه, فتحاً مبيناً, ظاهراً وباطناً, بمنه وكرمه وبجاه سيد الخلق سيدنا ومولانا محمد نبيه وحبه آمين.
وهذا أوان الشروع في المقصود, مستمداً من بحر الكرم والجود, صاحب المقام المحمود. والحوض المورود. واللواء المعقود, سيدنا ومولانا محمد المرسل إلى كل موجود. منبع العلوم والأنوار, ومفتاح خزائن المواهب والأسرار. فإن من جودك الدنيا وضرتها ..... ومن علومك علم اللوح والقلم فما فتح على العارفين من المواهب والأسرار, إلا رشحات من رشحات النبي المختار, إذ منه انشقت الأسرار, وانفلقت الأنوار, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأبرار. وبعد هذا, صاحب الكتاب هو: الشيخ الفقيه الصالح الناصح أبو العباس احمد بن محمد بن يوسف التجيبي, المعروف بابن البنا "السرقسطي" بضم القاف: نسبة إلى سرقسط, بلدة بتخوم الجزيرة, كان أصل نسبه منها, ثم تقرر بفاس, وبها توفي, قال الشيخ زروق رحمه الله: لم أقف على تاريخ وفاته, غير أن الظن الغالب أنه قريب العهد, قال: ولم يكن مشهورا بالعلم, مع ما له فيه من القدم الراسخ الذي دل عليه كتابه, فعد من عجائب مدينة فاس, إذ كان من عامتها وألف, كابن أبي زرعة صاحب التاريخ. كذا ذكر لي بعض عدول بلدنا عن صاحب له عدل. قلت: وكم من عارف كبير بقي تحت أستار الخمول, حتى لقي الله تعالى, بل كلما عظم قدر العارف عند الله, خفي أمره على الناس, لأن الكنوز لا تكون إلا مدفونة, فإن ظهرت نهبت وتشتت أمرها وذهب سرها, وابن البنا هذا غير صاحب الحساب, فانه ابن البنا الصوفي, توفي بمراكش سنة إحدى وعشرين من القرن الثامن, كما ذكره صاحب "الجذوة". ثم ابتدأ صاحب الكتاب كتابه ببسم الله تبركا وامتثالًا, فقال:
متن المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطي
453 بيتا
مدخل بسم الإله في الأمور أبدا ..... إذ هو غاية لها ومبدا الحمد لله ولي الحمد ..... هدى إلى الحق ونهج الرشد ثم صلاة الله والسلام ..... على النبي ما انجلا الظلام يا سائلا عن سنن الفقير ..... سألت ما عز عن التحرير إن الذي سألت عنه مات ..... وصار بعد أعظما رفات فطمست أعلامه تحقيقاً ..... فلم تجد بعد لها طريقاً إلا رسوماً ربما لم تعفُ ..... وذاك ما نتبعه ونقفُ وهبْكَ أن تظفر بالأوطان ..... ما السر والمعنى سوى القُُطّان وهذه مسألة معتاصة ..... لم يجد الحبر لها خلاصة لأنها مسألة غريبة ..... حقيقة الجواب عنها ريبة
وقلَّ ما تلقى لها مساعدا ..... بل منكراً أو ناقداً أو جاحداً وإذ تهديت إلى الصواب ..... ولم يكن بد من الجواب فهو على الجملة والتفصيل ..... منحصر في خمسة فصول أولها في أصله, والثاني ..... في فضله على مدى الأزمان وثالث الفصول في أحكامه ..... وحين يستوي على أقدامه والرابع الرد على من رده ..... وليس يدري شأنه وقصده وخامس يعمل كيف صيرا ..... حتى غدا بين الأنام منكرا وبعد ما فصلته فصولا ..... وعاد بتّ حبلها موصولا سميتها المباحث الأصلية ..... عن جملة الطريقة الصوفية فحيّ يا رب امرءاً حياها ..... وزكه يوماً متى زكاها
الفصل الأول: في أصله "التصوف"
الطريقة بحث عن تحقيق الحقيقة
واعلم بأن هذه الطريقة ..... بحث عن التحقيق للحقيقة
2- حقيقة الإنسان وأنموذجها الرباني وهذه حقيقة الإنسان ..... حيث لها أنموذج رباني ووضعه في الكتب لا يجوز ..... بل هو كنز في النهى مكنوز إياك أن تطمع أن تحوزه ..... من دفتر أو شعر أو أرجوزة وإنما تعرف منه وصفا ..... لست تراه، وهو ليس يخفى وها أنا أشرح منه البعض.....بقدر ما تفهمه فلترض فهذه الحقيقة النفسية..... موصولة بالحضرة القدسية وإنما يعوقها الموضوع..... ومن هنا يبتدأ الطلوع لم يتصل بالعالم الروحاني ..... من عمره على الفضول عاني ليس يرى من المعاني دان ..... من قلبه في عالم الأبدان
3 - المجاهدة وخرق العادة فلم تزل كل نفوس الأحيا ..... علّامة درّاكة للأشيا وإنما تعوقها الأبدان ..... والأنفس النزغ والشيطان فكل من أذاقهم جهاده ..... أظهر للقاعد خرق العادة وهي من النفوس في كمون ..... كما يكون الحب في الغصون حتى إذا أرعدت الرعود ..... وانسكب الغيث ولان العود وجال في أغصانها الرياح ..... فعندها يرتقب اللقاح فعندما أزهرت الأغصان ..... واعتدل الربيع والزمان يكون إذ ذاك أوان العقد ..... وانتظم الأغصان نظم عقد حتى إذا أينع للعيان ..... وأمنت جوائح الزمان باكرها زارعها والغارس ..... يقطفها, والغير منها آيس فأي من مر بها مساء ..... وأبصر الظلال والأفياء ونزه الأبصار والعيونا ..... حيث رأى الأنهار والعيونا واشتم منها الروح والريحانا ..... وظل في بهجتها حيرانا فقال: نحن إذاً سواء ..... فعندها يجمعنا المساء
4- سلعة الله غالية حتى إذا هجمه الظلام ..... واحتوشته الوحش والهوام ولم يجد للفوز من أسباب ..... أقام حيران أمام الباب فقيل من بالباب؟ قال: طارق ..... فقيل كلا, لا, ولكن سارق فقال: مهلًا صاحب الجنات ..... لحائر قد ضل في الفلاة فقال: هلا كنت ذا بستان؟ ..... فقال: كنت قاعداً ووان فقال: يا قوم ألا تشرون؟..... قالوا: جهلت ثمن المثمون فهذه فواكه المعارف ..... لم تشر بالتالد أو بالطارف ما نالها ذو العين والفلوس ..... وإنما تباع بالنفوس وقيل: ليست هذه المقاصر ..... مأوى لكل قاعد وقاصر وقيل: ليست هذه البحائر ..... لحائر ضل فظل حائر فافهم فتحت هذه العبارة ..... إشارة وأيما إشارة
5- أصل التصوف من جهة دليل الشرع ولنرجع الآن لباقي الفصل ..... إذ في تمامه ثبوت الأصل فقادة الصوفي أهل الصفة ..... في زمن الرسول فاعلم وصفه وهم ضياف الله والإسلام ..... وجلساء سيد الأنام كانوا على التجريد عاملين ..... وعن سوى الرحمن معرضين تخلقوا بخلق النبي ..... يدعون بالغداة والعشي قد فهموا مقتضيات الشرع ..... فصيروا الفرق لعين الجمع قد خرجوا لله عما اكتسبوا ..... فكل صوفي إليهم ينسب إذن فشأن القوم ليس محدثا ..... بل كان أحوى فوجدناه غثا فاسلك طريق القوم تلق يمنه ..... إذ الكتاب قيده والسنة
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:04 pm
المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الثاني: في فضله
1 - شرف علم التصوف وفضيلته 2 - حجة من يرجح الصوفية على غيرهم حجة من يرجح الصوفية ..... على سواهم حجة قوية هم اتبع الناس لخير الناس ..... من سائر الأنام والأناس تبعه العالم في الأقوال ..... والعابد الناسك في الأفعال وفيهما الصوفي في السباق ..... لكنه قد زاد بالأخلاق ثم بشيئين تقوم الحجة ..... وأنهم قطعا على المحجة مذاهب الناس على اختلاف ..... ومذهب القوم على ائتلاف وما أتوا فيه بخرق العادة ..... إذ لم تكن لمن سواهم عادة قد رفضوا الآثام والعيوب ..... وطهروا الأبدان والقلوب وبلغوا حقيقة الإيمان ..... وانتهجوا مناهج الإحسان وعلموا مراتب الوجود ..... كالأم والوالد والمولود واستشعروا شيئا سوى الأبدان ..... يدعونه بالعالم الروحاني ثم أمام العالم المعقول ..... معارف تلغز في المنقول وعلموا أن لهم تمكينا ..... يرقى بهم مرقى المكاشفينا ثم رأوا أن دون ذاك مانع ..... كدفتر نيط عليه طابع فالقوم حين علموا بذاكا ..... وميزوا القطاع والأشراكا سلوا من العزم لهم قواضب ..... فأنبت كل قاطع وحاجب فاحتزموا للطعن والنزال ..... وابتدروا ميادين القتال واعلموا أن ليس شيء قاطع ..... كبدن كاس وبطن سابغ ونظروا الحجاب في البواطن ..... فوجدوه في النفوس كامن فعملوا على جهاد النفس ..... حتى أزالوا ما بها من لبس
3- اختلاف الصوفية في المجاهدة والقوم في هذا على فريقين ..... وحكمهم فيه على ضربين ففرقة طريقهم مبنية ..... على العقائد وحسن النية قالوا: فالنفس كالمرآة ..... ينطبع الماضي بها والآت وإنما يعوقها أشياء ..... ترك المحاذاة أو الصداء قالوا: وإن العين قد تغور * ** وإنما يخرجها الحفير وأجمعوا أن علاج الأصل..... أقرب للبرء معا والنيل فما إليه أبدا نشير ..... هو علاج النفس والتطهير
4- استمرار هذه الطريقة إلى انقراض الدنيا وهذه طريقة الإشراق ..... كانت وتبقى ما الوجود باقي وفرقة قالت بأن العلما ..... من خارج بالاكتساب اسما وشرطوا العلوم في اصطلاحه ..... إذ لا غنى للباب عن مفتاحه فليس للطامع فيه مطمع ..... ما لم تكن فيه علوم أربع وهي علوم: الذات, والصفات ..... والفقه, والحديث, والحالات وهذه طريقة البرهان .... وهي لكل حازم يقظان
5- وصف الصوفي وحاله وشأنه ونسبوا الصوفي للكمال ..... وضربوا معناه في المثال فهو كالهواء في العلو ..... ثم كمثل الأرض في الدنو ثم كمثل النار في الضياء ..... ثم كمثل الماء في الإرواء فهو إذا للكائنات حاصر ..... إذ صار في معناه كالعناصر وفضله أشهر من أن يجهلا ..... وقد ذكرنا منه نزراً مجملا وفي بيان أصله دليل ..... يعلم منه الشان والتفضيل
الفصل الثالث: في أحكامه
في حكم الشيخ وما يترتب عليه
وإنما القوم مسافرون ..... لحضرة الحق وظاعنون فافتقروا فيه إلى دليل ..... ذي بصر بالسير والمقيل قد سلك الطريق ثم عاد ..... ليخبر القوم بما استفاد وجاب منها الوهد والآكاما ..... وراض منها الرمل والرغاما وجال فيها رائحا وغاديا ..... وسار كل فدفد وواديا وعلم المخوف والمأمونا ..... وعرف الأنهار والعيونا قد قطع البيداء والمفاوز ..... وارتاد كل حابس وحاجز وحل في منازل المناهل ..... وكل شرب كان فيه ناهل فعندما قام بهذا الخطب ..... قالوا جميعا: أنت شيخ الركب وأحدقوا من حوله يمشون ..... وكلهم إليه يوزعون فرتب القوم على مراتب ..... ما بين ماش: راجل وراكب وحيث كلت نجب الأبدان ..... قال: أحدهما يا حادي الأظعان فمن هنا يلقب القوّالا ..... حاد لأجل حدوه الرجالا والسفر المذكور بالقلوب ..... والشيخ في منزلة الطبيب يعلم منها الغث والسمينا ..... ويدرك الصلب معاً واللينا ويعلم البسيط والمركبا ..... وما بدا منها عليه واختبا والطبع والمزاج والتركيبا ..... والكون والتحليل والترطيبا قد أحكم التشريح والمفاصل ..... وصار علم الطب فيه حاصل وكان عشابا وصيدلاني ..... قدحا وكحّالا ومارستاني أمهر في الأعراض والأخلاط ..... من أسقلا جالينوس أو بقراط فعندما صح له التحصيل ..... يممه السقيم والعليل فكان يبريهم من الأمراض ..... والساخط القلب يعود راض وليس هذا طب جالينوس ..... وإنما يختص بالنفوس فهكذا الشيوخ قدما كانوا ..... يا حسرتي إذ سلفوا وبانوا
2- في حكم الاجتماع فكان إذ ذاك اجتماع القوم ..... له بعلم عمل عن علم ولم يكن ذلك عن رويّة ..... بل يحضر القوم على السوية ولم يكن أيضا لدى العشاء ..... إذ فيه نهي وهو للإغفاء وافتقروا فيه للائتلاف ..... ليعلم المستوفي حال الوافي لا خير فيمن لم يكن ألوفا ..... ولم يكن لغيره مألوفا ومن يكن يصحب غير جنسه ..... فجاهل والله قدر نفسه أفضل للمرء جلوس وحده ..... ولا يكن جليس سوء عنده قد يرتجي الشفاء للسقيم ..... مهما يكن ملازم الحكيم ومن ينازع فاطرح نزاعه ..... فالدين مبني على الجماعة
3- في حكم اللباس وقد أباحوا سائر الأثواب ..... وتركها أقرب للصواب إذ في لباس حلها الحساب ..... أيضا, وفي حرامها العقاب والقوم ما اختاروا المرقعات ..... إلا لأوصاف وسوف تأت أولها فيها اطراح الكبر ..... ومنعها للبرد ثم الحر وخفة التكليف, ثم فيها ..... قلة طمع الطامعين فيها وذلة النفس وتطويل العمر ..... والصبر ثم الاقتدا بعمر ألا ترى لابسها كالخاشع ..... فهي إذن اقرب للتواضع
4- في حكم الأكل الأكل فيه تركه مشروط ..... إلا اضطرارا قدر ما يحوط وإن يكن فحسن وإلا ..... فتركه عند الجميع أولى وأدب القوم لدى الطعام ..... جم فمنه ترك الاهتمام وقلة الذكر له إن غاب ..... لكونه عندهم حجاب بل أنزلوه منزل الدواء ..... عند العليل بغية الشفاء ولم يكن همهم بجمعه ..... وكسبه وفضله ومنعه ولا استقلوه ولا عابوه ..... ولا يكن قصدا فيطلبوه والقوم لم يدخروا طعاما ..... بل تركوا الحلال والحراما إلا يسيرا قدر ما تيسرا ..... إذ الحلال المحض قد تعذرا وجنبوا طعام أهل الظلم ..... والبغي والفساد خوف الإثم بل أكلوا مما استبان حله ..... غير الذي لا يعرفون أصله ويكرهون الأكل مرتين ..... في اليوم والمرة في اليومين وفضلوا الجمع على الإفراد ..... فيه لأجل كثرة الأيادي ولم يلقم بعضهم لبعض ..... ولم يجل بصره بل يغضي ولم يروا فيه بالانتظار ..... فيذهب الوقت بلا تذكار وكرهوا البطنة للإخوان ..... فالبطن كالوعاء للشيطان وأمروا فيه بفتح الباب ..... وأكلوا بالقصد والآداب وفتحوا الباب لكل سار ..... وأكلوا بالرفق والإيثار وللطريق ظاهر وباطن ..... تعرف منه صحة البواطن
5- في آداب الاجتماع ظاهره الآداب والأخلاق ..... مع كل خلق ما له خلاق باطنه منازل الأحوال ..... مع المقامات لذي الجلال والأدب الظاهر للعيان ..... دلالة الباطن في الإنسان وهو أيضا للفقير سند ..... وللغني زينة وسؤدد فالقوم بالآداب حقا سادوا ..... منه استفاد القوم ما استفادوا إذ نصحوا الأحداث والأصاغر ..... وحفظوا السادات والأكابر واجتنبوا ما يؤلم القلوب ..... وابتدروا الواجب والمندوب وخدموا الشيوخ والإخوانا ..... وبذلوا النفوس والأبدانا وأنصتوا عند المذاكرات ..... واحترموا الماضي معا والآت وسألوا الشيوخ عما جهلوا ..... ووقفوا من دون ما لم يصلوا وعملوا بكل ما قد علموا ..... وآثروا واغتفروا واحتشموا واحتكموا بالعدل والإنصاف ..... فوردوا كل معين صاف وبعضهم كان لبعض عونا ..... يلقى لديه دعة وأمنا ينصره في الحق حيث كانا ..... فإن أساء قارضه إحسانا وليس حط الرأس من آدابه ..... بل الصواب كان في اجتنابه بل هو مبني على القصاص ..... لمن أراد حسبه الخلاص وليس في قيام الاستغفار ..... أصل صحيح واصطلاح جار والقصد من هذا الطريق الأدب ..... في كل حال منه: هذا المذهب
6- في حكم السماع وللأنام في السماع خوض ..... لكن لهذا الحزب فيه روض قال العراقيون بالتحريم ..... قال الحجازيون بالتسليم وإن للشيوخ فيه فنّا ..... إذ جعلوه للطريق ركنا وإنما أبيح للزهاد ..... وندبه إلى الشيوخ باد وهو على العوام كالحرام ..... عند الشيوخ الجلة الأعلام وفيه كان ميلق الأحوال ..... كيما يبين سافل وعال وهو صراط عندهم محدود ..... يعبره الواجد والفقيد فعابر يحله عليين ..... وآخر يحطه في سجين وهو سرور ساعة يزول ..... نعم, وسم ساعة قتول وهو قياس العقل نقاش القلوب ..... إذ ينزل الحال به ثم يؤوب وآثاره في عرصات القلب ..... كالوبل في الغصن القويم الرطب ولا يجوز عنده التكلم ..... ولا التلاهي, لا, ولا التبسم ويمنع الأحداث من حضوره ..... وإن يكن ذاك فمن ظهوره والرقص فيه دون هجم الحال ..... ليس على طريقة الرجال وإن يكن يقوى على السكون ..... فانه أسلم للظنون وليس يحتاج إلى السماع ..... إلا أخو الضعف القصير الباع والزعقات فيه والتمزيق ..... ضعف, وهز الرأس والتصفيق ولم يكن لأجله اجتماع ..... ولا لدى غيبته انصداع ولم يكن فيه مرأسنونا ..... ولا طنابر ومسمعونا وليس أيضا كان فيه طار ..... ولا مزاهر ولا تنقار والشمع والفرش والتكالف ..... أحلف ما كانت يمين حالف وأمروا فيه بغلق الباب ..... وإنما ذاك للاجتناب وليس للقائل ما يقول ..... في الشعر إذ سمعه الرسول وإنما كان السماع قدما ..... قصد المريد الشيخ يشكو السقما وجاء هذا, ثم جاء هذا ..... حتى استقلوا عنده أفذاذا فبث كلٌ ما به قد جاء ..... فعرضوا من دائهم دواء فعندما نشطت النفوس ..... وزال عنها كسل وبوس وطابت القلوب بالأسرار ..... واستعملت نتائج الأفكار ترنم الحادي ببيت شعر ..... فاكتنفته غامضات الفكر كل له مما استفاد شرب ..... هذا له قشر وهذا لب فإن تمادى وأتم الشعرا ..... أبدوا من الشرح عليه سفرا فهكذا كان سماع الناس ..... فهل ترى به كذا من باس وكرهوا الخلع على المساعدة ..... لأن فيه كلفة المعاندة ومن يكن يخلع عند الحال ..... فلا يجوز رده بحال إذ كان كل عائد في هديه ..... كالكلب ظل عائدا في قيئه وحكمه في أفضل الأحكام ..... رأي العراق ليس رأي الشام وحكموا الوارد في الخروق ..... للأنس والخبرة بالطريق والسقط مردود بلا خلاف ..... وقدر هذا في السماع كاف
7- الحكمة في سفرهم والمقصود به مذهبهم في جولة البلدان ..... زيارة الشيوخ والإخوان ثم اقتباس العلم والآثار ..... أو رد ظلم أو للاعتبار أو للخمول أو لنفي الجاه ..... أو للرسول أو لبيت الله ولم تكن أسفارهم تنزها ..... لكن لله بها التوجها ولم تكن أيضا بلا استئذان ..... للشيخ والآباء والإخوان ولم يكن ذلك للفتوح ..... أو لامرئ مبتذل ممدوح فحيث ما حلوا بلدا فبالحرا ..... أن يقصدوا الشيخ وبعد الفقرا وإن للقوم هنا آدابا ..... إذا جعلوا كلامهم جوابا فإن تعاطى الشيخ منهم قولا ..... قولوا, وإلا فالسكوت أولى واجب على أولى الإقامة ..... تفقد الوارد بالكرامة وهو يزور القوم في الحرام ..... وإنما ذاك للاحترام ويبدءوا الوارد بالسلام ..... وبالطعام ثم بالإكرام وكلموه بعدها تكليما ..... تأسيا بفعل إبراهيما وكرهوا سؤال هذا الوارد ..... إلا عن الشيخ أو التلامد وكرهوا تضييعه أوراده ..... كيف, وقد جاء إلى الزيادة ومن يسافر في هوى النفوس ..... فإنما يؤمر بالجلوس
8- في حكم السؤال وأسبابه حكم السؤال عندهم مشروع..... طورا, وطورا عندهم ممنوع وما على السائل من تأويل ..... لأجل قهر النفس والتذليل فمن أولي الأذواق والأحوال ..... من كان راض النفس بالسؤال قالوا: ولا خير إذن في العبد ..... ما لم يكن قد ذاق طعم الرد ومنعوا السؤال للتكاثر ** بل حكموا عليه بالتهاجر والقوم لما يسألوا إلحافا ..... ولا تكاثرا ولا جزافا بل ذاك كان منهم اضطرارا ..... فيسألون القوت والإفطارا وأدب الصوفي عند المسألة ..... أن يدخل السوق إليه يسأله لسانه يشير نحو الخلق ..... وقلبه معلق بالحق وكرهوا سؤاله لنفسه ..... ثم أباحوه لأهل جنسه ولم يعدوه من السؤال ..... لكن من العون على الأعمال إذ كان خير الخلق في أترابه ..... يسأل أحيانا إلى أصحابه ولا تصف بصحة السؤال ..... من يؤثر الأخذ على الإبذال والشغل دون الكسب بالعبادة ..... محض التوكل, ورأي السادة ثم السؤال آخر المكاسب ..... وهو بشرط الاضطرار واجب
9- في حكم التربية وتدريج المريد فإن أتى القوم أخو فتون ..... وقال: يا قوم أتقبلون؟ تقبلوه صادقا أو كاذبا ..... إذ كان محتوما عليهم واجبا وحذروه من ركوب الإثم ..... وأمروه باقتباس العلم وأمروه بلزوم الطاعة ..... والماء والقبلة والجماعة وقرروا فيه شروط التوبة ..... وأمروه بلزوم الصحبة ثم أمدوه بعلم الظاهر ..... حتى استقامت عنده السرائر حتى إذا أنقاد مع الإفادة ..... وكاد أن يصلح للإرادة إذا للمريد عندهم حدود ..... لأجلها قيل له مريد فعندها رد إلى الأوراد ..... كالصمت والصوم مع السهاد وعاملوه بالمعاملات ..... إذا علموا مختلف العلات ولم يحيلوه على الحقيقة ..... إذ لم يكن مستوفي الطريقة لكن أحالوه على الأعمال ..... لأجل ما فيها من النوال إذ الطريق إلى العلم ثم العمل ..... ثم هبات بعدها تؤمل حتى إذا أحكم علم الظاهر ..... وأبصروا القبول فيه ظاهر ألقوا إليه من صفات النفس ..... ما كان فيها قبل ذا من لبس وهي إذا أنكرتها فلتعرف ..... إحدى وتسعين, وقيل نيف فجرعوها كؤوس المنون ..... وهي تنادي: كيف تقتلوني فعندما مالت إلى الزوال ..... أدخل في خلوة الاعتزال وقيل: قل على الدوام: الله ..... وأحذر كطرف العين أن تنساه ووكل الشيخ به خديما ..... يلقى إليه القول والتعليما وقيل: إن تكتم من الأحوال ..... شيئا سلكت سبل الضلال فليس عند القوم باللبيب ..... من لم يصف شكواه للطبيب فلم يزل مستعملا للذكر ..... فيصمت اللسان وهو يجري وقدر ما تجوهر اللسان ..... بالاسم يستثبته الجنان ثم جرى معناه في الفؤاد ..... جري الغذا في جملة الأجساد فعندها حاذي مرآة القلب ..... لوح الغيوب وهو غير مخب فأدرك المعلوم والمجهولا ..... حيث اقتضى لتركها قبولا حتى إذا جاء بطور القلب ..... خوطب إذ ذاك بكل خطب فقيل لو عرفتني بكوني ..... قيل: إذن فاخلع نعال الكون ثم فنى عن رؤية العوالم ..... ولم ير في الكون غير العالم ثم انتهى لفلك الحقيقة ..... فقيل: هذا غاية الطريقة ثم أمتحى في غيبة الشهود ..... فأطلق القول: أنا معبودي حتى إذا رد عليه منه ..... أثبت فرقا حيث لم يكنه فرد نحو عالم التحويل ..... وعبروا عن ذاك بالنزول ورده بالحق نحو الخلق ..... كي ما يؤدي واجبات الرق فكلم الناس بكل رمز ..... وألغز التعبير أي لغز وعندما أسلكه المسالك ..... أقامه شيخنا لكل سالك فهذه أحوال ذي الأحوال ..... تدرك بالأفعال لا الأقوال فكذا كان طريق القوم ..... ولم يزل يخصم كل خصم وهي إذا ما حققت موارث ..... عن خير مبعوث وخير وارث وهكذا الشيخ على التحقيق ..... إذا كان مثل سالك الطريق فمن يكن بهذه الأوصاف ..... شيخا وتلميذا فعن إنصاف فهذه لوازم الأحكام ..... جئنا بها تترى على نظام وما ذكرنا فهو كالقليل ..... إذا اختصرنا خشية التطويل
الفصل الرابع - في الرد على من رده
الرابع في الرد على من رده ..... وليس يدري شأنه وقصده هذا الطريق من أجل الطرق ..... فافهم هديت واقتده بنطق إن العلوم كلها المعلومة ..... فنونها في هذه متهومة إذ العلوم في مقام البحث ..... وإن هذا في مقام الإرث وأنكروه ملأ عوام ..... لم يفهموا مقصوده فهاموا وكل من أنكر منه شيئا ..... فإنما ذاك لسبع أشيا لجهله بنفسه الشريفة ..... وكونها في أرضها خليفة وجهله بالعالم المعقول ..... وشغله بظاهر النقول وسهوه عن عمل القلوب ..... والخوض في المكروه والمندوب والجهل بالحلال والحرام ..... والميل عن مواهب الإلهام واعلم بان عصبة الجهال ..... بهائم في صورة الرجال ومن أباح النفس ما تهواه ..... فإنما معبوده هواه تالله ما يجمل باللبيب ..... جهل البعيد منه والقريب كيف يرى في جملة السباق ..... من حظه مع الحظوظ باق متى يجد جواهر المعاني ..... من قلبه على الدوام عاني لم يتصل بالعالم الروحاني ..... من عمره على الفضول حاني ليس يرى مع المعاني دان ..... من قلبه في عالم الأبدان مهما ترقى مادة الموضوع ..... يأخذ نجم الدرك في الطلوع يا حسرتي إذا لا مجد راكب ..... يصحبنا في هذه المراكب يا معشر الأخوان هل من سائل ..... أخبره عن هذه المسائل وأسفا يا فتية الوصول ..... على انصرام حبلها الموصول لو أبصر الشخص اللبيب العاقل ..... لم يعتقل عن هذه المعاقل يا صاحب العقل الحصيف الوافر ..... إياك أن تصدمك الحوافر لقد غدا الكون لديك سافر ..... إن لم تكن فيه كما المسافر يا موثقا في موثق المماليك ..... تزهو أراك اليوم زهو المالك يا من أعاتبه على الدوام ..... حتام أجفان الدوا دوام كم أنت ذو وسائد عراض ..... لاه عن الجوهر بالأعراض؟ مهما تعديت عن الأجسام ..... أبصرت نور الحق ذا ابتسام مهما ارتقيت عن قبيل الحس ..... أدركت في نفسك معنى النفس يا من على القشر غدا يحوم ..... حتى عن اللب متى تصوم؟ يا من إذا قيل له تعال ..... لمنهج التحقيق قال: لا لا يا جاهلا من داره سكناها ..... وهو يؤدي أبدا كراها أتدري من أنت؟ وكيف تدري ..... وأنت قد عزلت والي الفكر يا سابقا في موكب الإبداع ..... ولاحقا في جيش الاختراع اعقل فأنت نسخة الوجود ..... لله ما أعلاك من موجود أليس فيك العرش والكرسي ..... والعالم العلوي والسفلي ما الكون إلا رجل كبير ..... وأنت كون مثله صغير فأنت لست من قبيل الأرض ..... حتى إذا رميت فيها تمضي فاحتل على النفس فرب حيلة ..... أنفع في النصرة من قبيلة يا منكر المعقول والمعاني ..... ما الصنع في أمثلة القرآن بعداً أرى فيك عن الإشارة ..... هل تنكرنْ رواية العبارة يا جاهلا أقصي الكمال وقفا ..... على عقول وهمها لا يخفى أول أطوارك منذ أول ..... الحس والتمييز والتخيل والعقل والذكر معا والفكر ..... هيهات, بل وراء ذلك طور ما ناله الجمهور والوراد ..... وإنما يناله الأفراد منفعلا يدعى ومستفاد ..... وعقل تخصيص لمن أراد وحيث فيه ينتهي الولي ..... فمن هناك يبتدي النبي وفيه تجلى جمل المعارف ..... فمن رآها قيل له عارف فهذه ميادين الأبطال ..... ليست لكل جبان بطال هل يصلح الميدان للجبان ..... أو يكمل الزرع بلا إبان ما أنكر الناس لما لم يعرفوا ..... ما أهجر الولاف لما لم يألفوا؟ أليس قد جبلت العقول ..... على الذي جاء به التنزيل هل ظاهر الشرع مع الحقيقة ..... إلا كأصل الفرع في الحديقة والشرع جار وصحيح العقل ..... كحذوك النعل معا بالنعل ما مثل المعقول والمنقول ..... إلا كدر زاخر مجهول حتى إذا أخرجه الغواص ..... لم يكن للدر إذن خلاص وإنما خلاصه في الكشف ..... عن الغطاء حيث لا يستخف فالصدف الظاهر ثم الدر ..... معقوله والجهل ذاك البحر وإنما المعقول في شكل الحروف ..... كما يكون الدر في جوف الصدوف هل ظاهر الشرع وعلم الباطن ..... إلا كجسم فيه روح ساكن لو عمل الناس على الإنصاف ..... لم تر بين الناس من خلاف واعلم رعاك الله من صديق ..... أن الورى حادوا عن التحقيق إذ جهلوا النفس والقلوبا ..... وطلبوا ما لم يكن مطلوبا واشتغلوا بعالم الأبدان ..... فالكل ناء منهم ودان وأنكروا ما جهلوا وزعموا ..... أن ليس بعد الجسم شيء يفهم وكفّروا وزندقوا وبدّعوا ..... إذا دعاهم اللبيب الأورع كلٌ يرى أنْ ليس فوق فهمه ..... فهمٌ ولا علم وراء علمه محتجبا عن رؤية المراتب ..... علّ يسمى عالما وطالب هيهات هذا كله تقصير ..... يأنفه الحاذق والنحرير فمن يرد موارد المواهب ..... فكيف يرضى هذه الغياهب فالعلم ما يلفي إليه حد ..... بل ظاهر يخفي, وخاف يبدو والعلم لو كانت له نهاية ..... يوقف عند حدها أو غاية من كان أذكى مرسل وأسمى ..... قيل له: قل رب زدني علما فعش بما لديك ما حييت ..... وجنب التعنيف والتعنيت والكل قد يعجبه الكلام ..... فالزم هدي نفسك والسلام
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:04 pm
المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الخامس: في فقراء العصر ومتشبهي الوقت
إذا علمت كيف كان الحال ..... في الشيخ والتلميذ ثم حالوا فاعلم بأن أهل هذا العصر ..... قد شغلوا بمحدثات الأمر إذ أحدثوا بينهم اصطلاحا ..... لم أر للدين به صلاحا وصنفوا بينهم أحكاما ..... أكثرها كانت لها حراما وانتهجوا مناهج منكوسة ..... وارتكبوا طريقة معكوسة فهذه طريقةٌ قد درست ..... وشجر أغصانها قد يبست كانت إذن مواردا شريفة ..... فاستبدلت مذاهبا سخيفة قد أسست على صحيح العقل ..... وأسها الآن بمحض الجهل يدعي الذي يمشي عليها سالك ..... وسالكوها اليوم حزب هالك بها عاش القوم بخير عيشه ..... فصيرت بعدهم معيشة وكانت تضاهي الكوكب المنيرا ..... والآن أضحت حائطا قصيرا إذا صار لا يعلم منها إلا ..... أكلا ورقصا وغنى وسؤلا وكانت على الإنصاف والنصيحة ..... فهي على الإسراف والفضيحة تعرف بالخلق والإيثار ..... والآن بالحقد, والإقتار وكانت أجل غبطة وخطه ..... والآن فهي بدعة وخلطة كانت على مجرد الصيام ..... والآن في مجرد الطعام في السماع كان غلق الباب ..... والآن عند جفن جواب وقولنا الشيوخ والإخوان ..... هم الذين سلفوا وبانوا ماتوا ولما يتركوا من وارث ..... إذ هؤلاء القوم كالبراغث فكل ما اليوم عليه الناس ..... من مدعين الفقر فيه باس إذ نقضوا الأصول والأركانا ..... وصيروه في الورى مهانا وهدموا بنيانه المشيدا ..... وصيروه مخملا ومخمدا ونثروا الفروع والأصولا ..... وجعلوا معلومها مجهولا واحتسبوا فيها بغير حسبة ..... صيروها ضحكة ولعبة وجعلوها للغني مغرما ..... وللفقير نهبة ومغنما وافتضحوا واصطلحوا لديها ..... فصار ما كان لها عليها حق لمن كان عليهم منكرا ..... إذ كل ما يبصر منهم منكرا لو علموا ما جهلوا ما صاروا ..... حيث انتهوا ترمقهم أبصار لو لم يكن بعض لبعض عاكس ..... ما لقبوا بعصبة الكساكس عار لمن لم يرض العلوما ..... ويعلم الموجود والمعدوما ولم يكن في بدءه فقيها ..... وسائر الأحكام ما يدريها والحد والأصول واللسان ..... والذكر والحديث والبرهانا ولم يكن أحكم علم الحال ..... ولا دري مقاصد الرجال ولم ينزه صفة المعبود ..... ولا دري مراتب الوجود والنفس والعقل معا والروحا ..... ويدري منه صدره المشروحا وعلم سر النسخ والمنسوخ ..... أن يتعاطى رتبة الشيوخ يا عجبا من جاهل مبداه ..... في رتبة الكون ومنتهاه وكيف يهدي وهو لم يهدى ..... لقد عدى ظلما وقد تعدى من لم ينل مراتب الإرادة ..... كيف يوطي للهدى سجادة كيف يدل طرق الأسفار ..... من لم يزل في جحره كالفار أتكتفي بالوصف في المسير ..... فالوصف لا يغني عن الخبير أليس هذا كله محال ..... لم يستقم لشخص منه حال يا قاصدا علم الطريق السالف ..... لا تقتدي بهذه الطوائف ما منهم من علم المقصود ..... منه ولا الوارد والمورود لم يعرفوا حقيقة الطريقة ..... فالقوم جهال على الحقيقة فاحذرهم خشية يفتنوكا ..... واترك سبيلا لم يزل متروكا فإن غدا الأمر عليك مشكلا ..... وشئت أن تعلمه مفصلا فسوف ألقي لك قول الحاذق ..... يفصل بين المدعي والصادق قول الفقير: إنني فقير ..... فللظهور أبدا يشير وبسطه وليس غير عارف ..... سخافة ليست من المعارف وقبضه وليس ذا إرادة ..... فهو على غير طريق السادة وأخذه مما بأيدي الناس ..... دون اضطرار فهو ذو إفلاس ولبسه ما كان ذا اشتهار ..... فسره عار عن الأسرار وأكله من سائر المآكل ..... دون انتهاء فهو غير واصل وسمعه مواقع الألحان ..... بغير موت النفس فهو عان وحبه السماع لا محالة ..... بقية فيه من البطالة ورقصه فيه بغير وارد ..... يسلبه عنه فقير وارد وأخذه الخلع بغير الخلع ..... بعد عن الحق بعين الجمع وحطه الرأس بغير جرم ..... على أخيه غير فعل القوم وقد ذكرنا حكم الاستغفار ..... أعني القيام ليس عرفا جاري وميله للعرب والأعاجم ..... علة نفس, وهو فيه آثم سفره إن لم يكن إليه ..... منه فلا حقيقة لديه وإن أشار للمرام الأول ..... وجهل العقل فعنه فأعدل أو قال بالظهور والحلول ..... فبدعة يقدح في الأصول وقوله: أنا الذي أهواه ..... قبل الفنا عنه فما أقصاه أو يدعي في علمه اللدني ..... بلا تقى, فذاك غير سني وحكمه إن كان فوق الحال ..... فذاك مقطوع عن الرجال أو قال أنا الشيخ فأتبعوني ..... بغير علم فهو ذو جنون أو قال صوفي أنا, ولما ..... يدر حدود النفس فهو أعمى وحبه القوم بلا اتباع ..... ليس له فيه من انتفاع وفعله ما في عموم الشرع ..... يمنعه النص ففعل بدعي وإن تشيخ بغير إذن ..... من شيخه باء بكل غبن فهذه وشبهها موانع ..... وهي على الطريق كالقواطع هل هي إلا علل في الفقر ..... جالدها كل جليد صقر حتى إذا جدلها صريعة ..... لم يتوقع بعدها وقيعة يا صاح لا يفتنك الزمان ..... فها لديك الشرح والبيان فالحق لا يعرف بالرجال ..... والعين لا تصلح بالمحال والحق في كل الأمور أولى ..... لو رآه الباطل لاضمحلا وإذا علمت سنن الأقوام ..... إذن فهاك القوس والمرامي هذا هو الطريق فاقصد جله ..... فقد جمعنا لك منه جمله وقد ذكرنا كل ما اشترطنا ..... وها على آخره أتينا وفقنا الله إلى التوفيق ..... وقادنا لقادة التحقيق وبعد هذا فصلاة الله ..... تترى على الهادي العظيم الجاه ما غردت ورقاء في الأغصان ..... وحن مشتاق إلى الأوطان الحمد لله الذي ختمنا ..... بحمده كما به بدأنا بسم الإله في الأمور أبدا ..... إذ هو غاية لها ومبدا
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:05 pm
المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
قلت: ما زالت أكابر الكتاب والمصنفين يبتدؤون في أول كتبهم ببسم الله, اقتداء بالكتاب العزيز, فان الصحابة أجمعت على افتتاح المصحف ببسم الله الرحمن الرحيم, على اختلاف بينهم في كونها آية أو غير آية, فذهب بعض الصحابة إلى أنها آية, وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه ومن تبعه حتى أفتى ببطلان صلاة من تركها, وذهب آخرون إلى أنها غير آية, وبه أخذ مالك ومن تبعه, واحتج الشافعي بان الصحابة من شدة تحفظهم وتحريهم لا يدخلون في المصحف إلا ما هو منه, واحتج مالك بقول كثير من الصحابة ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فكان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين, ولم بسم الله الرحمن الرحيم, والخلاف مذكور في كتب الفقه. بسم الإله في الأمور أبدا ..... إذ هو غاية لها ومبدا وكان الإمام المازري يقرؤها سراً, خروجاً من الخلاف, وفي الحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" وفي رواية "فهو أبتر" وفي رواية "فهو أجذم" وحاصلها انه مقطوع البركة ممحوق من كل خير, غير كامل حساً أو معنى, وفي رواية "بذكر الله" فيعم البسملة وغيرها, وبها جرى العمل, وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن يحيي سعيداً ويموت شهيداً فليقل عند ابتداء كل شيء بسم الله", وقوله "في الأمور" يتعلق بقوله أبداً بمعنى أشرع و"أل" عوض عن المضاف, أي أشرع في أموري كلها مستعينا بالله إذا قلنا الاسم عين المسمى أو مقحم, أو أشرع في الأمور التي أحاولها متبركاً بسم الله, ولا شك أن من استعان بالله كان معاناً في جميع أموره, ومن لم يستعن به كان مخذولا في كل أموره, ولله در القائل: إذا لم يعنك الله فيما تريده ..... فليس لمخلوق إليه سبيل وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ..... ضللت, ولو أن السماك دليل ومن تبرك باسم الله كانت البركة مصحوبة معه, فلا يلحقه نقص ولا خلل, وقوله "إذ هو غاية لها ومبدا" تعليل لافتتاحه باسم الله, أي إنما أبتدئ في أموري بالله لأنه مظهرها أولا, ومبطنها ثانياً, فظهورها منه, وانتهاؤها إليه, ومبدؤها منه وغايتها إليه, وإنما قدم الغاية مع تأخرها في الفعل, للوزن, ولما اختلفت روايات الحديث المتقدم, فبعضها "لا يبدأ فيه ببسم الله" وفي بعضها "لا يبتدأ فيه بالحمد لله", وفي بعضها زيادة, "ولا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم", جمع الشيخ بينها فبدأ بالرواية الثانية فقال: الحمد لله ولي الحمد ..... هدى إلى الحق ونهج الرشد الحمد في اللغة هو: الوصف بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل, سواء تعلق بالفضائل, وهي الأوصاف اللازمة, أو بالفواضل, وهي الأوصاف المتعدية والأفعال السنية, ولا بد أن يكون الباعث عليه أمراً اختيارياً, وإلا كان مدحاً, فالحمد يكون على الأوصاف الاختيارية أو ما في معناها, كالعلم والكرم والشجاعة, سواء كان بالاختيار أو غيره, والمدح يكون على الأوصاف اللازمة, كحسن الخد ورشاقة القد, سواء كان باللازمة أو غيرها, والحاصل "أن السبب الحامل على الحمد لا يكون إلا اختيارياً, والسبب الحامل على المدح لا يكون إلا لازماً. وأما الحمد في العرف, فهو: فعل يشعر بتعظيم المنعم, كان باللسان أو بالأركان, أو بالجنان, فمورد الحمد في اللغة خاص, وهو اللسان, لأن الثناء لا يكون إلا باللسان, ومتعلقه عام, وهو النعمة وغيرها, ومورد الحمد في العرف عام, وهو اللسان وغيره, ومتعلقه خاص, وهو صدور النعمة من المحمود. وأما الشكر في اللغة فهو: فعل ينبئ بتعظيم المنعم, فهو مرادف للحمد العرفي لغة. وأما الشكر في العرف, فهو: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من: السمع, والبصر, وغيرها إلى ما خلق لأجله, فهو أخص من الجميع. والكلام على الحمد والشكر يطول, فلنقتصر على ما ذكرنا, إذ ليس للفقير حاجة إلا في معرفة الشكر, وأحسن ما قيل فيه قول إمام الطائفة: "أن لا يعصى الله بنعمه" وإذا لم يعص بنعمه فقد صرفها في طاعته, وقوله "ولي الحمد" أن متوليه وفاعله, فهو الذي تولى حمد نفسه بنفسه, إذ هو الغني بذاته عن أن يحتاج إلى من يحمده, بل هو الحامد والمحمود, إذ لا فاعل سواه, وقيل "وليه" مستحقة, وقوله "هدى إلى الحق" أي هوي خلقه إلى معرفة الحق من الباطل, قال تعالى: "فذلكم الله ربكم الحق, فماذا بعد الحق إلا الضلال". فكما تولى حمد نفسه بنفسه, تولى هداية عباده إلى معرفته. أو تقول: كما حمد نفسه بنفسه, عرّف نفسه بنفسه, ولذلك حذف مفعول "هدى" ليدل على العموم, فيصدق بالشريعة والحقيقة, أي هدى خلقه إلى الحق على صدقه بالشريعة, أو هدى مظاهره وأنواره إلى الحق على صدقه بالحقيقة, وهذا كقول الششتري: أنتم دللتم عليكم منكم ولكم..... ديمومة عبّرت عن غامض الأزل
والنهج والمنهاج, هو: الطريق الموصل إلى الحق, والرشد هو: مصادفة الحق والصواب, لأن الرشد بالضم, والرشد بالفتح هو الصواب, والصواب هو مصادفة عين الحق, وكأنه قال: هدى خلقه إلى معرفته والى الطريق الموصلة إليه, فقوم هداهم إلى معرفته من غير سلوك طريق, وهم المجاذيب, سواء رجعوا للسلوك أم لا, وهم الذين أشار إليهم بقوله "هدى إلى الحق" أي هداهم إلى معرفة الحق, وقوم هداهم إلى طريق معرفته, ثم عرفهم به, وهم أهل السلوك أوّلًا, ثم الجذب ثانياً, وهم المشار إليهم بقوله: "ونهج الرشد" أي هداهم إلى طريق الصواب, ثم فتح في وجوههم الباب, فبلغوا منية الألباب, والله أعلم بالحق والصواب.
ثم أشار إلى الرواية الثالثة في الحديث, وهي: الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء, فقال: ثم صلاة الله والسلام ..... على النبي ما انجلا الظلام قلت: الصلاة من الله على حبيبه, هي: محبته وعطفه عليه, وتقريبه واجتباؤه إليه, والسلام هو طيب تحية وإكرام, وتمام إحسان وإنعام.
والناس في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم يصلون على صورته البشرية, وهم أهل الدليل والبرهان, فهم يشخصونها في قلوبهم في حال الصلاة عليه, فإذا أكثروا من الصلاة بالحضور ثبتت الصورة الكريمة في قلوبهم, فيرونه في المنام كثيراً, وربما تتشكل روحه الكريمة على صورة جسده الطيب, فيرونه يقظة.
وقسم يصلون على روحه النورانية, وهم أهل الشهود من السائرين, فهم يصلون على نوره الفائض من الجبروت, فيشاهدونه في غالب أوقاتهم على قدر حضورهم وشهودهم.
وقسم يصلون على نوره الأصلي, الذي هو نور الأنوار, وهم أهل الرسوخ والتمكين من أهل الشهود والعيان, وهؤلاء لا يغيب عنهم النبي صلى الله تعالى طرفة عين, ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: "لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين" إشارة إلى رسوخه وتمكنه في الحضرة, ورجوعه إلى البقاء بشهود الواسطة, وهؤلاء أفكارهم تجول في الملكوت, وأرواحهم متصلة بالجبروت, فقد اجتمع فيهم ما افترق في غيرهم, كما قال عليه الصلاة والسلام: "كل الصيد في جوف الفرا" و"الفرا" هو حمار الوحش, وهو أسمن الصيد, فمن ظفر به فكأنما ظفر بالصيد كله, وكما قال الشاعر: وليس على الله بمستنكر ..... أن يجمع العالم في واحد
وقوله: "ما انجلا الظلام" ""ما"" ظرفية, أي مدة انجلاء الظلام حساً ومعنى, وانجلاؤه إما بظهور النور الحسي على الظلمة الحسية, وهذا مستمر إلى يوم القيامة, وإما بظهور نور الهداية على ظلمة الغواية, أو نور اليقظة على ظلمة الغفلة, أو نور شموس العرفان على ظلمة الأكوان, أو نور الترقي في المواهب والأسرار على ما قبله من المقامات والأنوار, وهذا الأخير لا ينقطع أبدا, وكلام الناظم محتمل, والله تعالى أعلم.
ثم شرع في المقصود فقال: يا سائلا عن سنن الفقير ..... سألت ما عز عن التحرير قلت: السنن بالضم جمع سنة, وهي الطريقة, والسنن بالفتح مفرد, بمعنى الطريق, ويصحان هنا, والفقير في الاصطلاح هو: المتوجه إلى الحق على بساط الصدق.
وقال سهل رضي الله عنه: الفقير الذي لا يملك ولا يملك, ولا يرى غير الوقت الذي هو فيه, وقال السهروردي: الفقر أساس التصوف, وبه قوامه, وقال غيره: الفقر صفة مهجورة تنفر منه الطباع وتفر منه النفوس, وهو من الأسباب التي تجلس العبد بين يدي الله على بساط الصفا.
واختلف: هل الفقير أبلغ من الصوفي, لأن الفقير من لم تبق فيه بقية, بخلاف الصوفي, أو الصوفي أبلغ, لأن الصوفي من صفت أحواله ولم يبق فيه كدر أصلا, بخلاف الفقير.
والتحقيق أن الفقير هو: المتوجه إلى الله بأنوار التوجه, والصوفي له أنوار المواجهة, فالصوفي أبلغ من الفقير, لأن الصوفي واصل, والفقير راحل, الصوفي صفت له الغزول, والفقير بين الطّلوع والنزول, الصوفي لا يرى في الدارين غير الله, ولا يشهد مع الحق سواه, قد سخر له كل شيء, ولم يسخر هو لشيء, يأخذ النصيب من كل شيء, ولم يأخذ منه النصيب شيئاً, إلى غير ذلك مما اشتمل عليه من الأوصاف الكاملة, بخلاف الفقير, فهو في طريق المجاهدة, فنهاية الفقير بداية الصوفي, والله تعالى أعلم.
وقيل: هما شيء واحد, وهو ظاهر المصنف في مواضع من هذا الكتاب, وسنن الفقير هي: طرقه التي يسلكها, وآدابه التي يتأدب بها,وعلى نسخة فتح السين يكون المعنى: يا سائلاً عن طريق الفقير التي يسلكها حتى يصل إلى ربه, ونسخة الضم أحسن, ويكون أشار بالسنن إلى شروط الفقير وآدابه, لأنها من طرقه التي يسلكها ويمر عليها.
وآدابه خمسة: خلع العذار, والذل والانكسار, والبذل والإيثار, وصحبة العارفين الأبرار, وبذل المجهود في الطاعة والأذكار. أما القصد الصحيح فهو: أن يكون مراده بالدخول في صحبة الشيخ: تحقيق العبودية, والقيام بوظائف الربوبية دون كرامات ولا تحصيل مقامات, ولا إدراك درجات, ولا طلب حظوظ نفسانية. وأما الصدق فالمراد به هنا التصديق بسر الخصوصية عند من يصحبه, وهو أساس الطريق, فمن لا صدق له لا سير له, ولو بقي في حوز الشيخ ألف عام, فالصدق هو: معرفة السر, فكل واحد يعرف من سر الشيخ على قدر صدقه فيه، وهو أيضاً الثمن الذي ينفق به الفقير على روحه وقلبه وسره, فمن لا صدق له في الشيخ لا ينفق في سره شيئاً, وإليه أشار الشيخ الشرقي رضي الله عنه بقوله: من لا صدق ما عند باش ينفق ..... من لا حقق ما جاب أمارا يا بابا
وأما الآداب فهي مفتاح الباب, فمن لا آداب له لا دخول له, ومن أساء الآداب مع الأحباب طرد إلى الباب, ثم إلى سياسة الدواب. وقد كان بعض الأولياء يأمر من يريد الدخول معه بصحبة أهل المخزن حتى يتأدب, وسيأتي الكلام على الآداب في محله إن شاء الله, فمن لم يتأدب مع الشيوخ والإخوان لا تزيده صحبتهم إلا الحرمان.
وأما الأحوال الزكية فهي أن تكون موافقة للشريعة, بحيث لا يؤذي أحداً من الناس, فالفقير الذي ليست له أحوال, لا يبلغ مقامات الرجال أو السير إلى حضرة القدوس إلا بمخالفة النفوس, ولولا ميادين النفوس "أي محاربتها" ما تحقق سير السائرين, فالمراد بالأحوال ههنا هي خرق عوائد النفس؛ وتخريب ظاهرها بتعاطي ما يسقط جاهها وعزها من الأمور المباحة, وهذه هي الأحوال المرضية الصافية, وأما الأحوال التي تخالف الشريعة, وهي الأحوال الظلمانية, فلا يتنور صاحبها, بل لا تزيده إلا ظلمة, فكما لا يصح دفن الزرع في الأرض الرديئة, كذلك لا يجوز الخمول بحالة غير مرضية، فالأحوال الصافية هي التي لا ضرر فيها لأحد, ولا تخالف أمر الشريعة.
وأما قصة لص الحمام, فهي حال غالبة عليه, لا يقاس عليها. وأما حفظ الحرمة فتصدق بحرمة الشيخ حاضرًا, أو غائبًا, حيًا أو ميتًا, فلا يجلس في موضع يذكر فيه بسوء أو ينتقص منه, ويصدق بحرمة الإخوان, فيتحمل أذاهم, ويصبر على جفاهم, ويعظم كبيرهم, ويرحم صغيرهم, فمن كسره الإخوان لا يجبره الشيخ, ومن كسره الشيخ قد يجبره الإخوان, ويصدق بحرمة جميع المسلمين, وخصوصًا العلماء والصالحين, فلحومهم سموم.
وقد قالوا: أركان التصوف مجموعة في أربعة أشياء, وهي: كف الأذى, وحمل الجفا, وشهود الصفا, ورمي الدنيا بالقفا. وأما حسن الخدمة, فتصدق أيضًا بخدمة الشيخ, وخدمة الإخوان, وفي الحديث "سيد القوم خادمهم" وتصدق بخدمة الحق, وهي المقصود الأعظم. وأما رفع الهمة فهو: أن لا يكون قصده طلب الدنيا والآخرة, بل يكون قصده معرفة مولاه, كما تقدم في القصد الصحيح, وربما يغني عنه. وأما نفوذ العزيمة فمعناه: أن تكون عزيمته دوام السير إلى تحقيق الوصول إلى معرفة مولاه, لا قصد التبرك والحرمة, وإذا عزم على شيء أنفذه. وأما خلع العذار, فهو خلع الأوصاف المذمومة وإبدالها بالأوصاف المحمودة, وقيل: هو خلع لباس العز والاشتهار, وإبداله بلباس الذل والانكسار. وقيل: هو خلع الرجل من نعل الكونين, فيرجع إلى رفع الهمة. والعذار في اللغة هو: ما يزين به وجه الفرس, ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "الفقر أزين بالعبد من العذار الجيد على خد الفرس" ذكره التجيبي. وأما الذل والانكسار فهو الخضوع لله, ولا يتحقق إلا بالخضوع لعباد الله, فلا يتحقق ذل الفقير حتى يظهر بين أبناء جنسه. والحاصل: أنه لا بد من الذل: قلبًا وقالبًا, كما قال ابن الفارض: تذلل لمن نهوى فليس الهوى سهل ..... إذا رضي المحبوب: صح لك الوصل وقال آخر: وما رميت الدخول عليه حتى ..... حللت محلة العبد الذليل وأغضيت الجفون على قذاها ..... وصنت النفس عن قال وقيل وأما البذل والإيثار فمرجعه إلى سخاوة النفس, وهو شرط في الفقير, فقد قالوا: "من أقبح القبيح, صوفي شحيح" وعلامة خروج الدنيا من القلب: بذلها عند الوجد, والصبر عنها عند الفقر.
والزهد عند المحققين: إذا وجدوا آثروا, وإذا فقدوا شكروا. وأما صحبة العارفين فهي من الأمور المؤكدة, وذكرها مع الشروط أليق, "فالمرء على دين خليله", وفي الحكم: لا تصحب من لا ينهضك حاله, ولا يدلك على الله مقاله, وليست طريق السلوك بطريق العزلة, بل هي طريق الصحبة والاجتماع والاستماع والاتباع "فالجمع رحمة والفرقة عذاب" وفي الحديث: "يد الله مع الجماعة". أي الدالين على الله أو ما يقرب إلى الله. وأما بذل المجهود في تعمير الأوقات في الطاعات والأذكار, فهذا هو المقصود من الطريق, والأهم عند أهل التحقيق, فكل ساعة تأتي على الفقير لا يذكر الله فيها كانت عليه حسرة في الدنيا والآخرة, فأوقات الفقير دائرة بين ذكر, أو مذاكرة, أو فكرة: أو نظرة.
أو تقول: الفقير ليس له فكرة ولا هدرة, إلا في الحضرة, أو ما يصول للحضرة, وما سوى هذا بطالة وفترة, وبالله التوفيق, وقوله: "سألت ما عزّ", أي غلب وامتنع تحريره, أي فتحه واستخراج المقصود منه, وإنما امتنع تحريره لما دخله من التخليط الذي ألحقه به أهل التوسم في هذه الأزمنة, مع خفاء مراده ومداركه, لأن هذا العلم ليس هو لقلقة اللسان. وإنما هو أذواق ووجدان؛فمن سألت تحريره بعبارة اللسان فقد سأل عن شيء عزيز الإتيان, ممنوع البيان, وسيأتي الكلام عليه عند قوله: "إياك أن تطمع أن تحوزه من دفتر أو شعر أو أرجوزة" ثم بين وجه عزته, فقال: إن الذي سألت عنه مات ..... وصار بعد أعظما رفات فطمست أعلامه تحقيقاً ..... فلم تجد بعد لها طريقاً
يعني أن الطريق الذي سأل عنه السائل مات بموت أهله, واندرس خبره, وصار كأنه شخص مات ورمم, وصار عظاماً ورفاتاً, وفي الحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا, فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". ولا فرق بين العلم الظاهر والباطن في كونه يذهب بذهاب أهله.
وقوله "فطمست أعلامه" أي ما يدل عليه ويوصل إلى تحصيله, فأعلام الشيء ما دل على وجوده, ومنه سمى الكون عالماً, لدلالته على صانعه, فكأن علم التصوف قد طمست طرقه الموصلة إلى تحقيقه, فلم تبق له طريق توصل إليه, وهذا معنى قوله "فلم تجد بعد" أي بعد طمس أعلامه "لها" أي لتلك الأعلام والآثار التي توصل إليه "طريقاً" لتسلكها حتى تبلغك إلى تحقيق ما سألت عنه.
ومضمن كلامه: أن الصوفية المحققين السالكين على منهاج المتقدمين قد قلوا جداً, حتى كأن علومهم ماتت وبليت, وصارت رميما, وطرقهم قد طمست, وأذواقهم قد اندرست, ولم يبق على منهاجهم إلا القليل, ومثل ما قاله الناظم قاله من قبله, ففي كل عصر يقول أهله: قد ذهب التصوف, وذهب أهله, لما يرون ما انكب عليه الجاهلون وما استجلبه المدعون.
قال الجنيد رضي الله عنه: علمنا هذا الذي نتكلم فيه قد طوى بساطه منذ عشرين سنة, وإنما نتكلم في حواشيه. وكان أيضاً يقول: قد كنت أجالس قوما سنين يتحاورون في علوم لا أفهمها ولا أدري ما هي, وما بليت بالإنكار قط, كنت أتقبلها وأحبها من غير أن أعرفها. وكان أيضاً يقول: كنا نتجارى مع إخواننا قديماً في علوم كثيرة ما نعرفها في وقتنا هذا, ولا سألني عنها أحد, وهذا باب كأنه أغلق وردم.
وقال في "قوت القلوب": قال بعض علمائنا: أنا أعرف المتقدمين سبعين علماً كانوا يتحاورونها ويتعارفونها في هذا العلم, لم يبق منها اليوم علم واحد, قال: وأعرف في زماننا هذا علوماً كثيرة من: الأباطيل, والغرور, والدعاوي, قد ظهرت وسميت علوماً, ثم قال: وكان إمامنا سهل يقول: بعد سنة ثلاثمائة لا يحل أن يتكلم بعلمنا هذا. يعني لقلة أهله, لأنه يحدث قوم يستمعون الخلف ويتزينون بالكلام, تكون مواجيدهم, لباسهم, ومعبودهم بطونهم, وحليتهم كلامهم. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي الله عنه في صدر رسالته: "اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم, ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم, وفي معناه قيل: لا والذي حجت قريش بيته ..... مستقبلين الركن من بطحائها ما أبصرت عيني خيام قبيلة ..... إلا بكيت أحبتي بفنائها أما الخيام فإنها كخيامهم ..... وترى نساء الحي غير نسائها
قال ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه: "قال هذا في زمانه حيث أدرك من تزيا بزي القوم وخالفهم في باطنه, وأما اليوم فلا خيام ولا نساء, ثم قال الأستاذ رحمه الله: حصلت الفترة في الطريقة؟ لا, بل قد اندرست الطريقة بالحقيقة, مضت الشيوخ الذي كان لهم اهتداء, وظل الشباب الذين لا لهم بسمتهم وسيرتهم اقتداء, زال الورع وطوى بساطه, وقوي الطمع واشتد رباطه, وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة. فعدوا قلة المبالاة أوثق ذريعة, رفضوا التمييز بين الحلال والحرام, ودانوا بترك الاحترام, وطرح الاحتشام, واستخفوا بأداء العبادة, واستهانوا بالصوم والصلاة, وركضوا في ميادين الغفلات, وركنوا إلى اتباع الشهوات, وقلة المبالاة", إلى آخر كلامه. كذلك قال أبو مدين في رائيته رضي الله عنه: واعلم بأن طريق القوم دارسة ..... وحال من يدعيها اليوم كيف ترى؟!
وكذلك قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه, من تونس إلى وادنون, لا تجد من يتكلم في هذا العلم, إلا رجلا أو رجلين, كناية عن قلة وجود المحققين, ولا يدل هذا على انقطاعهم, ففي كل زمان رجال يرحم الله بهم عباده. فالعدد المعلوم لا ينقطع حتى ينقطع الدين.
قال في لطائف المنن: ""سئل بعض العارفين عن أولياء العدد: أينقصون في زمن؟ فقال: لو نقص منهم واحداً ما أرست السماء قطرها, ولا أبرزت الأرض نباتها.
وفساد الوقت: لا يكون بذهاب أعدادهم؛ ولا بنقص أمدادهم, ولكن إذا فسد الوقت كان مراد الله وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم, فإذا كان أهل الزمان معرضين عن الله عز وجل, مؤثرين لما سوى الله, لا تنجع "أي لا تنجح" فيهم الموعظة, ولا تميلهم إلى الله التذكرة, لم يكونوا أهلًا لظهور أولياء الله فيهم.
ولذلك قالوا: أولياء الله عرائس, ولا يرى العرائس المجرمون, ثم قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت شحاً مطاعاً, وهوى متبعاً, ودنيا مؤثرة, وإعجاب كل ذي رأي برأيه: فعليك بخويصة نفسك": فسمعوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, فآثروا الخفاء, بل آثره الله لهم, مع أنه لا بد أن يكون منهم في الوقت أئمة ظاهرون قائمون بالحجة, سالكون المحجة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق, لا يضرهم من ناوأهم إلى قيام الساعة".
وقال قال علي كرم الله وجهه في مخاطبته لكميل بن زياد: "اللهم لا تخل الأرض من قائم لك بحجتك, أولئك الأقلون عددا, الأعظمون عند الله قدراً, قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى؛ أولئك خلفاء الله في عباده وبلاده.. آه. آه. واشوقاه إلى رؤيتهم".
وروى الإمام الرباني محمد بن علي الترمذي, يرفعه إلى ابن عمر رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره". وروى أيضا يرفعه إلى أبي الدرداء: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي أولها وآخرها, وفي وسطها الكدر".
قلت: وقد ظهرت هذه الطائفة:""أعني الصوفية المحققين, في زماننا هذا وانتشرت معي والحمد لله انتشارا كثيراً منذ قدم شيخ شيخنا مع شيخه إلى "بني زروال" ففاض بحرهما, ثم انتشرت في البلاد, فلا تجد مدينة ولا قبيلة إلا وفيها عارفون وأولياء محققون, إلا قليلًا ممن بعد منهم, فقد جددا الطريقة بعد دروسها وأشرقت على يديهما شموس الحقيقة بعد خمودها, وكثر اللهج بذكر الله وانقلب كل العباد إلى الله, فجزاهما الله عن المسلمين خيراً, فقد صدق الله بهذه الطائفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:""خير أمتي أولها وآخرها"".
وفي حديث آخر: "مثل أمتي مثل حديقة قد قام عليها صاحبها, فاجتاب راكيها وهيأ مسالكها, وحلق سعفها, فأطعمته عاماً فوجاً, ثم عاما فوجاً, فلعل آخرها طعما يكون أجودها قنوانا, وأطولها شمراخا, والذي بعثني بالحق ليجدن ابن مرين من أمتي خلفا من حوارييه".
قلت: قال شيخ شيوخنا المجذوب: على من تقوم الساعة, وذكر سيدي علي: في كتابه أن رجلًا سأل سيدي العربي بن عبد الله فقال له: يا سيدي طريقكم هذه لا نعرفها؛ فأي طريق هي؟! فقال له: يا ولدي طريقنا هذه هي التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: الزهد في الدنيا, والانقطاع إلى الله, وعليها تقوم الساعة. فتحقق أنها هي التي يجد عيسى بن مريم منها خلفاً من حوارييه, والله أعلم. ثم بين الشيخ ما بقي من طريق القوم بعد اندراسها فقال: إلا رسوماً ربما لم تعفُ ..... وذاك ما نتبعه ونقفُ وهبْكَ أن تظفر بالأوطان ..... ما السر والمعنى سوى القُطّان قلت: الرسوم والحدود هي أمارات وعلامات تدل على حقائق الأشياء, ومعانيها, وعفا المكان: اندرس وتعطل, وعفا الشيء: ذهب, وقد يطلق على الزيادة والكثرة, كقوله تعالى: "حتى عفوا". ومعنى "نقف": نتبع و"هب" هنا بمعنى: اجعل وقدر, فهي للتعبير, والأوطان: محل السكنى, و"القطان" بضم القاف جمع قاطن, بمعنى ساكن, والمعنى: إن علم التصوف ومعانيه وأذواقه قد ذهب بذهاب أهله, واندرس وخفي, وما بقي إلا رسوم وعلامات في كتبهم تدل على سيرهم وأخلاقهم, فربما لم تعف ولم تذهب. وهذه الرسوم التي لم تعف هي ما كانوا عليه من المجاهدة والمكابدة والمشاهدة, وما اتصفوا به من محاسن الأخلاق ومكارم الشيم, وما شاهدوه من الكرامات والخوارق, وما نطقوا به من جواهر الحكم, وما استخرجته أفكارهم من يواقيت العلوم ومخازن الفهوم, فهذه الأمور قد دونت في الكتب, فلما ماتوا بقيت في أيدي الناس, فهي التي يتبعها الناس ويسلكون على طريقها. وليس السر في مشاهدة سيرهم ومحاسنهم, ولا في سماع كلامهم وعلومهم, وإنما السر ما كان في بواطنهم,وما اشتملت عليه قلوبهم وأسرارهم, فلا يؤخذ إلا منهم في حال حياتهم, فلو كان التصوف يؤخذ من الكتب لاختص به أرباب الأموال والعلماء أهل الظاهر, ولكن التصوف إنما هو أذواق, لا يؤخذ إلا من أهل الأذواق "وهبك" أي صير نفسك وقدرها أنها ظفرت بالأوطان؛ وهي محاسنهم ومآثرهم التي كانوا عليها وسكنوا فيها, ثم رحلوا عنها وتركوها: ما السر والمعنى إلا في صحبتهم والأخذ عنهم واقتباس النور الذي كان في باطنهم. وقد ذهب ذلك بذهابهم, إلا من أسعده الله بلقاء من أخذ ذلك منهم في حياتهم, وهذا قد ظفر بالأوطان والسكان. ولا تخلو الأرض من هذا النوع كما تقدم بخلاف من طمع أن يأخذ ذلك من كتبهم؛ فإنه ظفر بالأوطان وفاته صحبة السكان. وما زالت العامة تقول: "السر في السكان" أي دون المسكن؛ وقال الشاعر: أمر على الديار ديار ليلى ..... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ..... ولكن حب من سكن الديارا وقال آخر: فما المنازل لولا أن تحل بها ..... وما الديار؟ وما الأطلال والخيم؟! لولاك ما شاقني ربع ولا طلل ..... ولا سعت بي إلى نحو الحمى قدم وقال آخر: وإنما يتنافس بالأوطان من لا عشق عنده في السكان, أو لم يظفر بصحبة القطان. لا يتأنس بكتب القوم ويقنع بذلك إلا من لم يذق شيئاً من أذواقهم, ولا نهض للالتحاق بهم, والله تعالى أعلم. ثم ذكر استصعاب ما سئل عنه من سنن الفقير لغرابتها في زمنه, فقال: وهذه مسألة معتاصة ..... لم يجد الحبر لها خلاصة لأنها مسألة غريبة ..... حقيقة الجواب عنها ريبة وقلَّ ما تلقى لها مساعدا ..... بل منكراً أو ناقداً أو جاحداً
قلت: الاعتياص من العصيان. واعتاص الشيء: إذا عصى ولم ينقد, والحبر بكسر الحاء وفتحها هو: العالم النحرير, وخلاصة الشيء تخليصه وتحريره, والريبة والريب هو: الشك, يعني أن هذه المسألة وهي طريق الصوفية الذوقية مسألة معتاصة. أي عويصة التحرير يصعب تخليصها على العالم النحرير, لأنه إن عبر عنها بعبارة اللسان فاته الذوق والوجدان وإن أشار إليها بالتلويح لا يفهمها أهل التصريح, فصعب أمرها على كل حال, إلا على من أسعده الله بصحبة الرجال أهل الهمة والتربية والحال. فيعبرون عنها بالمقال, ثم ينهضون إليها بالذوق والحال. وأما من لم يصحب الرجال, فلا يطمع أن ينالها بالمقال؛ لأنها مسألة غريبة وأهلها غرباء, فلا يأوي الغريب إلا إلى الغريب ولا يفهم حال الغريب إلا مثله. وإذا كانت مسألة غريبة فتحقق الجواب عنها ريبة, أي فيه شك وريبة لمن عبر عنها من غير ذوق ولا وجدان, وأيضاً حقيقتها بعيدة عن مدارك العقول القياسية والنقول العلمية. ولله در ابن الفارض حيث يقول: ولا تك ممن طيشته طروسه ..... بحيث استقلت عقله واستقرت فثم وراء النقل علم يدق عن ..... مدارك غايات العقول السليمة تلقيته مني؛ وعني أخذته ..... ونفسي كانت من عطائي ممدتي
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:06 pm
المقدمة والقصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "إن من العلم كهيئة المكنون, لا يعلمه إلا العلماء بالله, فإذا نطقوا به, لا ينكره إلا أهل الغرة بالله". قال بعضهم هي أسرار الله يبديها إلى أمناء أوليائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة, وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها إلا الخواص. فإذا سمعها العوام أنكروها. ومن جهل شيئاً عاداه, ومن يكن ذا فم مريض ..... يجد مرارة الماء الزلال ويرحم الله البوصيري حيث يقول: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ..... وينكر الفم طعم الماء من سقم وقال مشايخ الطريقة: المنكر كالعنين: ينكر شهوة الجماع, والمزكوم: ينكر رائحة المسك الأذفر, والمحموم: ينكر حلاوة السكر. وفي مثلهم قال الشاعر: وكم عائب ليلى ولم ير وجهها ..... فقال له الحرمان: حسبك ما فاتا وأيضا هذه المسألة إذا نظرت إليها من حيث العلم والتحقيق احتاجت إلى وجوب البحث والتدقيق, وإذا نظرت إليها من حيث الحال, وجدتها مبنية على التسليم والتصديق, فإن أخذت بالأول ظهر لك من وجوه الإنكار ما لا خفاء فيه, مع ابتنائه على أصل لا تعرفه, وإن نظرت إلى الآخر ظهر لك من موجبات التسليم ما يقتضي لك عدم الكلام بالكلية, فلا وجه لاستخلاص الخلاصة إلا بمعرفة مبدأ الأمور ومنتهاها, وقد ذكر منه جملة فيما يأتي.
وأما كونها مسألة غريبة فإنها غير مألوفة للنفوس ولا متداولة بين الناس, ولا معروفة الحقيقة في الجملة, فلذلك اعتقدها المعتقد من غير معرفة أصل, وأقبل المنتسب إليها على أي وجه كان, وانتقدها المنتقد وشانها ولم يعرف ما انتقد وشان, فادعاها من ليس من أهلها. وأدخل عليها ما ليس من شأنها: كل ذلك بسبب الجهل بها والحرص على الانتساب إليها, وعظمت في النفوس لما تقرر من جلالتها, والله تعالى أعلم. "قاله الشيخ زروق رضي الله عنه".
وإنما كان الجواب عنها ريبة لأن المقام قد يعبر عنه المستشرف عليه والواصل إليه, ولا يفرق بينهما إلا ذو بصيرة, فهذه المسألة قد يعبر عنها من وصل إليها وذاقها, وقد يعبر عنها من استشرف عليها بالعلم, فلا يخلو الجواب من ريبة, هل صدر من صاحب ذوق وصاحب حال؟ لكن كلام العارف لا يخفى على أهل الفن أبداً, ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجته. فما قاله الناظم ليس على عمومه, فقد يتحقق الجواب عنها من العارفين, ولا ريبة فيه, ولا شبهة والله تعالى أعلم. ولما كان من كتم العلم مذموماً وبلجام من النار ملجوماً خاف الشيخ أن ينخرط في سلك من كتم علماً, فأجاب السائل بما هو في ذوقه حاصل, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, ولذلك قال: وإذ تهديت إلى الصواب ..... ولم يكن بد من الجواب فهو على الجملة والتفصيل ..... منحصر في خمسة فصول قلت: تهديت إلى كذا واهتديت إليه واحد, ومعناه: سلكت الطريق إلى الوصول إليه, ومنه قوله تعالى: "أمَّن لا يهدي" على قراءة ورش, ""والصواب"": الحق البين. والبد: الفرار والهروب, ويقال: لا بد أن تفعل: أي لا فرار لك ولا هروب من الفعل, أو لا محالة منه "قاله في القاموس" بمعناه: و""الجملة"": ما كان مجموعاًً, و""التفصيل"": ما كان مفرقاً, و"الفصول": جمع فصل. وهو القطعة من الكلام, وهو في كلام الناظم بدل من خمسة بالتنوين لا مضاف, لإخلاله بالوزن.
يقول رحمه الله: وأنت أيها السائل حين اهتديت إلى الصواب بتوجهك إلى طلب الوصول إلى رب الأرباب فسألت عن تبيين الطريق والوصول إلى عين التحقيق, لزمني أن أجيبك, ولم يكن لي بد ولا مهرب من الجواب, لأن الله تعالى اخذ على العلماء أن لا يكتموا العلم, فقال تعالى: "أن الذين يكتمون ما أنزلنا" الآية وقال تعالى: "لتبيننه للناس ولا تكتمونه" ولقوله عليه الصلاة والسلام:
"من سئل عن علم نافع فكتمه ألجمه الله بلجام من النار, وهذا لمن كتمه مع توفر الشروط, وهو استحقاق ذلك وأهليته, فإن لم تتوفر الشروط فلا يجب إظهاره, لا سيما علم السر, وقد اختلف المشايخ: هل لا يبذل علمهم إلا لأهله, وهو مذهب أبي الحسن النوري, أو يبذل لأهله ولغير أهله, والعلم أحمى جانباً من أن يصل إلى غير أهله, وهذا مذهب إمام الطائفة أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه, إذ قيل له: كم تنادى على الله بين يدي العامة؟ فقال: له: لكنني أنادي على العامة بين يدي الله تعالى.
قلت: وفي كلامه رضي الله عنه إلغاز وتستر, ومعناه: لكنني أنادي على عامة من حضرني من مظاهر الحق بين يدي الله.
قلت: وممن سلك مذهب الجنيد: شيخ أشياخنا سيدي علي العمراني رضي الله عنه, حتى كان يسمى في زمانه: المبذر. ولذلك تجد أهل فاس كثيراً منهم يخوض في علم الحقيقة من غير عمل ولا ذوق, وأخذ الجمهور بمذهب أبي الحسن النوري, فكانوا لا يتكلمون في الحقيقة وعلم السر إلا مع أهله, في موضع خال, وربما سدوا الأبواب: غيرة منهم على سر الربوبية أن يبتذل وينادي عليه بلسان الاشتهار, وفي الحكم "عبارتهم إما لفيضان وجد, أو قصد هداية مريد, فالأول معذور لغلبة وجده, والثاني مأمور لهدايته من هو أهله". والله تعالى أعلم. ثم ذكر برنامج الكتاب, وأنه محصور في خمسة فصول, فبينها بقوله: أولها في أصله, والثاني ..... في فضله على مدى الأزمان وثالث الفصول في أحكامه ..... وحين يستوي على أقدامه والرابع الرد على من رده ..... وليس يدري شأنه وقصده وخامس يعمل كيف صيرا ..... حتى غدا بين الأنام منكرا
قلت: أصل الشيء: قاعدته وأساسه التي يبني عليها, ومدى الشيء: غايته ونهايته. يقول رحمه الله: قد ذكرت في هذا الكتاب من مبادئ علم التصوف أربعة أمور, وهي موضوعه, وواضعه, وفضيلته, وفائدته. أما الموضوع والواضع فيؤخذان من ذكر أصله. وأما فضيلته وثمرته فتؤخذ من ذكر فضله, فإن فضيلة الشيء لا تكمل إلا بحصول ثمرته, وبقي من المبادئ ستة مجموعها عشرة, وهي جارية في كل فن من فنون العلم, فالحذاق من أهل العلم يقدمون ذكرها قبل الشروع في ذلك الفن, وقد نظمها بعضهم, فقال: الحد والموضوع, ثم الواضع ..... والاسم الاستمداد حكم الشارع
تصور المسائل, الفضيلة ..... ونسبة, فائدة جليلة حق على طالب علم أن يحيط ..... بفهم ذي العشرة, ميزها ينيط يعلمها قبل الشروع في الطلب ..... لكي يكون مبصراً بما طلب
وقد ذكرتها بتمامها في أول شرحنا على الحكم فلينظره من أرادها, والمراد بالأحكام ما يلزم المريد من الآداب في معاملته وتصرفاته, وقد حصرها في تسعة على ما يأتي إن شاء الله. وقوله: "وحين يستوي على أقدامه", معناه: أنه ذكر في ذلك الفصل أحكام التصوف, وآدابه من أوله إلى نهايته؛ فإذا عرف ذلك فقد علم التصوف, "ونهض على أقدامه", كناية عن معرفته. وقوله: "وخامس إلى آخره" يعني أنه ذكر في الفصل الخامس: كيف تغير التصوف حتى صار منكراً بين الناس بعد أن كان معروفاً مشهوراً. وباقي الكلام واضح, والله تعالى أعلم. ثم ذكر تسمية الكتاب, لأنها من مقدماته, ومن الأمور المهمة, فقال: وبعد ما فصلته فصولا ..... وعاد بتّ حبلها موصولا سميتها المباحث الأصلية ..... عن جملة الطريقة الصوفية قلت: "والبت" بالمثناة: القطع وفي الحديث: إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى". أي المنقطع, وهو هنا استعارة لتفرق المسائل قبل جمعها في هذا الكتاب, ويؤخذ منه أن تسمية الكتاب مؤخرة عن كمال التأليف, أو يكون جمعها في ذهنه وعزم على تأليفها, و"المباحث" جمع مبحث, وهو: ما يبحث عنه أو فيه, فهو اسم مكان, لأن كاتبه جعله محلًا للبحث والتفتيش عن أحوال الصوفية وسيرهم.
يقول رحمه الله؛ وبعد ما فصلت هذا الكتاب فصولًا خمسة, وصار حبل تلك الفصول بعد قطعه موصولًا, بحيث نظمت جواهره في سلك عقده, فصارت جواهره فصوله, ويواقيت تراجمه موصولة في سلك واحد, سميته حينئذ "المباحث الأصلية" لأنها تبحث عن أصول الطريقة وتحقق مبناها, وهذه الطريقة هي: طريقة الصوفية, وهي: الموضوعة لكيفية تهذيب القلوب وتصفيتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل, لتتهيأ بذلك لمعرفة الحق تعالى المعرفة الحقيقية, التي هي معرفة العيان بطريق الذوق والوجدان. واختلف في اشتقاق التصوف على أقوال كثيرة أحسنها: أنه من الصفا, لأن مداره على التصفية, واليه أشار بعضهم بقوله: تخالف الناس في الصوفي واختلفوا ..... وكلهم قال قولا غير معروف ولست أمنح هذا الاسم غير فتى.... صافي فصوفي حتى سمي الصوفى قال أبو حمزة البغدادي: علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغني ويذل بعد العز, ويخفى بعد الشهرة, وعلامة الصوفي الكذاب: أن يستغني بعد الفقر, ويعز بعد الذل, ويشتهر بعد الخفاء.
وقال بعضهم: لا بد للصوفي أن يتحقق بمعاني حروفه, فالصاد صفاؤه, والواو وفاؤه, والياء يقينه, وكذلك الفقير يتحقق بمعاني حروفه, فالفاء فناؤه, والقاف قربه, والياء يقينه, والراء رحمته ورأفته, وبالله التوفيق. ثم دعا لمن قرأ كتابه أو طالعه, أو شرحه, أو اعتقد كماله فقال: فحيّ يا رب امرءاً حياها ..... وزكه يوماً متى زكاها قلت: "التحية" في الأصل دعاء بطول الحياة, كانت العرب إذا لقوا كبيراً قالوا: أطال الله حياتك وأبقاك الله, أو أطال عمرك؛ ثم انتقل إلى السلام, وهو تحية أهل الإسلام, وهو أيضاً تحية أهل الجنة, والتزكية: التطهير, أو التنمية والترفيع. يقول رحمه الله: "اللهم حيي" أي سلم امرءاً حيا كتابنا بالقبول والتعظيم والترفيع, وطهره من دنس الذنوب ودرن العيوب وغبش الحس وغين الأغيار وظلمة الأكوان, بتجدد ذلك التطهير متى ما زكى كتابنا بقوله أو العمل بما فيه أو الثناء عليه, أو البحث عن معانيه. وقد كان الشيخ التباع يربي أصحابه بهذا الكتاب. وكان الغزواني يربي أصحابه بالشريشية, يعني "الرائية". ولكن المباحث أفيد لأهل القلوب "والله تعالى أعلم". ثم شرع في المقصود فقال رحمه الله:
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الأول في أصل التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:06 pm
الفصل الأول في أصل التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الأول في أصل التصوف
الطريقة بحث عن تحقيق الحقيقة قلت: ذكر أصله من جهتين: من جهة الذوق والوجدان, ومن جهة دليل الشرع والبرهان, حتى لا يجد المنكر له مقالًا, ولا الطاعن فيه مساغاً, وقدم الأول فقال: واعلم بأن هذه الطريقة ..... بحث عن التحقيق للحقيقة قلت: "البحث" هو التفتيش: يقال: بحث عن كذا: فحص عنه, وبحث في الأرض أخرج ترابها, والتحقيق: إدراك الشيء من أصله, والحقيقة: ذات الشيء وأصله, وحقيقة الإنسان: ماهيته ومادته. وأما في اصطلاح الصوفية فهي: كشف رداء الصون عن مظهر الكون, فيفنى من لم يكن, ويبقى من لم يزل, وهي عندهم نتيجة التصفية التي هي الطريقة؛ والطريقة: نتيجة الشريعة. فالشريعة هي: إصلاح الجوارح الظاهرة, وهي تدفع إلى الطريقة التي هي إصلاح السرائر الباطنة, وهي أيضاً تدفع إلى الحقيقة التي هي كشف الحجاب ومشاهدة الأحباب من داخل الحجاب, فالشريعة أن تعبده, والطريقة أن تقصده, والحقيقة أن تشهده. يقول رضي الله عنه: واعلم بأن هذه الطريقة التي سألت عنها: وهي: طريقة الصوفية هي بحث وتفتيش عن تحقيق الحقيقة وإدراكها: ذوقاً وحالًا, واللام في "الحقيقة" لام التعدية, كقوله هذا تحقيق لهذا, أي تحقيقه في الحقيقة, وها أنا أقدم لك مقدمة يسهل بها فهم ما يذكره الناظم في هذا الأصل, فنقول وبالله التوفيق, ومن الله الإمداد والتسديد. اعلم أن الحق جل جلاله واحد في ملكه, لا شريك معه ولا ضد له ولا ند له, كان ولا شيء معه, وهو الآن على ما كان عليه, كان في أزل أزليته لطيفاً خفياً, حكيماً قديراً لطيفاً لا يدرك, خفياً لا يعرف, قائماً بذاته, متصفا بمعاني أسمائه وصفاته, فأراد سبحانه أن يعرف بذاته, وأن يظهر أثر أسمائه وصفاته, فأظهر قبضة من نوره اللطيف, فتكثفت بقدرته ليتهيأ بها التعريف, ثم تنوعت على عدد أسمائه وصفاته, فلما ظهرت تلك القبضة النورية تجلى فيها باسمه الباطن, فبطنت في ظهورها, وكمنت في مظاهرها, فالأشياء كلها مظاهر للحق, لكن لا بد للحسناء من نقاب, وللشمس من سحاب, فنسجت تلك الخمرة اللطيفة الأزلية بقدرتها رداء, واكتست بحكمتها إزاراً, فقالت: "العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قصمته". ثم اختلفت تلك الحكمة في نسجها وغزلها, فمنها ما رق غزله ولطف نسجه, فكان فيه النور قريباً من الظهور, ومنها ما غلظ غزله وكثف نسجه, فخفي النور لأجل غلظ الستور, ثم إن الذي رق غزله ولطف نسجه منه ما هو نور محض, وهم الملائكة, ومنه ما هو نور وظلمة, وغلب عليه النور, وهم بنو آدم. ومنه ما هو نور وظلمة وغلب عليه ظهور الظلمة, وهي الجمادات وما لا يعقل من الحيوانات, ونعني بالنور المعنى, وبالظلمة الحس, فالكون كله باطنه نور وظاهره ظلمة, باطنه قدرة وظاهره حكمة, باطنه لطيف, وظاهره كثيف, واليه أشار صاحب العينية بقوله: وما الكون في التمثال إلا كثلجة ..... وأنت لها الماء الذي هو نابع ثم أن الحق سبحانه وتعالى خص مظهر هذا الآدمي بخصائص لم تكن لغيره. منها: أن جعل روحه اللطيفة النورانية في قلب كثيف, ليتأتى له من غاية التصريف. ومنها: أن جعل ذلك القالب في أحسن تقويم, وأبدع فيه من بدائع حكمته وعجائب صنعته ما يليق بقدرة السميع العليم. ومنها: أنه جعله حاكماً على المظاهر كلها, مالكاً لها بأسرها, خليفة عن الله فيها, ثم فتح له من فنون العلوم ومخازن الفهوم ما لم يفتحه على غيره مما هو معلوم, وقال تعالى: "إني جاعلٌ في الأرض خليفةً" وقال في تلك الخليقة: "وعلم آدم الأسماء كلها". ومنها أن أعطاه سبحانه وتعالى سبعاً من الصفات تشبه صفات المعاني الأزلية, إلا أنها ضعفت بإحاطة القهرية, وهي: القدرة, والإرادة؛ والعلم, والحياة, والسمع, والبصر, والكلام, فحصل هل بهذا أنموذج وشبه بالصمدانية الربانية. ومنها: أنه سبحانه وتعالى جعله نسخة الوجود, يحاكي بصورته كل موجود, فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه, والى بعض هذه المعاني أشار بقوله:
حقيقة الإنسان وأنموذجها الرباني وهذه حقيقة الإنسان ..... حيث لها أنموذج رباني قلت: حقيقة الإنسان هي روحانية, وهي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية, ثم احتجبت ببشرية كثيفة ناسوتية, فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية, وظهر بإظهار الربوبية في مظاهر العبودية. والأنموذج, قال في القاموس: والنموذج بالفتح: الشبه, والهمز: لحن, وفي نسخ الناظم كلها بالهمز, فانظره مع ما قال في القاموس, وفي بعض النسخ "إذا كان في المندرج الرباني" وسيأتي معناه, فالنموذج هو الشبه, وهذا الشبه الذي حازه الإنسان دون غيره هو اتصافه بشبه أوصاف الحق سبحانه, حيث جعل الله فيه: قدرة, وإرادة وعلماً وحياة, وسمعاً, وبصراً, وكلاماً, وجعله نسخة من الوجود بأسره, وخليفة عن الله في حكمه: يتصرف في الأشياء باختياره في ظاهر أمره, ولذلك ورد في الحديث: "إن الله خلق آدم على صورته". وفي رواية على "صورة الرحمن" ومعناه خلق آدم وأعطاه من الصفات ما يشبه صفات الرحمن, وهي صفات المعاني والمعنوية, وخصه أيضاً فجعله خزانة لسائر أسمائه, ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً, كلها كامنة في سره, ثم يظهر على ظاهره ما سبق له في علم الغيب, فالبعض يظهر عليه اسمه الكريم, والبعض اسمه الرحيم والبعض اسمه الحليم والبعض اسمه المنتقم, والبعض اسمه: المتكبر, والبعض اسمه: القهار, والبعض اسمه: القابض, والبعض اسمه: الباسط, وقد يتعاقب عليه أسماء كثيرة في وقت واحد, وإذا فني عن حسه وغاب عن نفسه ظهرت عليه أنوار الألوهية, فينطق بالأنانية غلبة ووجداً, وبهذا قتل الحلاج. وقد ورد التغريب في التخلق بأخلاق الرحمن, قال صلى الله عليه وسلم: "تخلقوا بأخلاق الرحمن". ورغب في الصيام لما به من شبه الصمدانية, وقد رغب أيضاً في التقرب إليه سبحانه حتى يكون سمعه وبصره ويده ورجله, ومعناه تغيبه عن صفة الحدوث بشهود أنور القدم وفي ذلك يتحقق له هذا الأنموذج الصمداني. وفي الحكم: "وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به, وإلا فجل ربنا أن يتصل بشيء أو يتصل به شيء" وسيأتي الكلام إن شاء الله على هذا المعنى عند قول الشيخ: متى ارتقيت عن قبيل الحس ..... أدركت في نفسك معنى النفس يا من على القشر غدا يحوم ..... حتى عن اللب: متى تصوم؟ إلى آخر الأبيات, وعلى النسخة الثانية "فالمندرج الرباني" هو: السر المكنون الذي برزت منه الروح, ونفخت في هذا الجسم, وهي الخمرة الصافية, أي هذه حقيقة الإنسان حين كان في جملة السر الرباني المندرج في الخمرة الأزلية, وفي بعض أدعية الشاذلي: "وأدرج أسمائي تحت أسمائك, وصفاتي تحت صفاتك, وأفعالي تحت أفعالك": درج السلامة وإسقاط الملامة, والله تعالى أعلم. ثم بين أن حقيقة الإنسان وسره سر من أسرار الله, لا يجوز أن يوضع في الكتب على وجه التصريح, وإنما يذكر على وجه الإشارة والتلويح, وعلمنا كله إشارة فقال: ووضعه في الكتب لا يجوز ..... بل هو كنز في النهى مكنوز إياك أن تطمع أن تحوزه ..... من دفتر أو شعر أو أرجوزة قلت: النهى جمع نهية, وهو اسم للعقل, والدفتر: اسم للكتاب, وقال في القاموس: الدفتر, وقد تكسر الدال: جماعة الصحف المضمومة, والجمع. دفاتر, والشعر: كلام موزون, والأرجوزة بمعنى القصيدة. وهي ذات أبيات. يقول رضي الله عنه وضع هذا السر وهو النموذج الرباني الذي اختص به الإنسان في الكتب لا يجوز إذا كان ذلك على وجه التصريح, وإنما منع وضعه في الكتب لأمرين: أحدهما أن العبارة لا تقوم بهو لأن علم الإشارة مهما صار عبارة خفي, وقد يؤدي التعبير عنه لتكفير القائل وتبديعه وتفسيقه, وربما أدى لتلفه, كما قال بعضهم: فمن فهم الإشارة فليصنها ..... وإلّا سوف يقتل بالسنان كحلاج المحبة إذا تبدت ..... له شمس الحقيقة بالتداني وقال علي زين العابدين رضي الله عنه: يا رب جوهر علم لو أبوح به ..... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي ..... يرون أقبح ما يأتونه حسنا وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: وفي السر أسرار دقاق لطيفة ..... تراق دمانا جهرة لو بها بحنا الأمر الثاني: أن وضع ذلك في الكتب يؤدي لابتذاله وإظهاره, مع عدم استيفاء المراد منه, فيكون قطعاً للمريد عن التحقق به, وموجباً لوجود الحيرة فيه, ولا يفهمه في الحقيقة إلا من اطلع عليه وعرف معناه, كحال الطرب في السماع, لا يتأثر به إلا من عنده ذوق وخمرة, ثم ذكر أن هذا السر كنز مدفون في صدف مكنون, لا يمسه إلا المطهرون. بقوله: "بل هو كنز مكنوز", أي مدفون"في النهى". أي العقول الكاملة والقلوب الصافية, ومن كمالها وحريتها كتمها للأسرار, كما قال بعضهم: ""قلوب الأحرار قبور الأسرار"" وقال آخر: لا يكتم السر إلا من به ثقة ..... فالسر عند خيار الناس مكتوم وقال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه: ادفن سرك ودكّو ..... في الأرض سبعين قامة وخل الخلايق يشكّوا ..... إلى يوم القيامة ثم حذرك من أن تطمع أن تحوز هذا السر من كتب القوم, أو من أشعارهم أو من قصائدهم, لأنه أذواق, لا يؤخذ من الأوراق، وإنما يؤخذ من صحبة أهل الأذواق, بل لا تزيده مطالعة الأوراق إلى تفتيراً وتعطيلاً. علم الأذواق لا يؤخذ من الأوراق, قالوا: وحقائق المعارف منطبعة في الأرواح من يوم الميثاق, فلذلك قامت بها الحجة فيما لا يزال, فوصول العبد إلى ما عنده منها بواسطة أمداد التجلي, لا لأمر زائد على ذلك. قال بعض المشايخ: إياك وطلب الدليل من خارج, فتفتقر إلى المعارج, واطلب. وقال في الحكم: ""نور مستودع في القلوب, مدده النور الوارد من خزائن الغيوب"". وقال في موضع آخر: ""أشهدك من قبل أن استشهدك, فنطقت بإلهيته الظواهر, وتحققت بأحديته القلوب والسرائر, وما هو إلا كما قال الحق سبحانه في شأن الإخلاص ""هو سر من أسراري أودعته قلب من أحببته من عبادي, لا يضطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده"" وكذلك سر الربوبية الذي أودعه الله في الإنسان, لا يعلم حقيقته على الكمال إلا هو سبحانه, وإذا كان كذلك فالتعليم والتعلم لا يفيده, وإنما يفيده التعرض لنفحات الحق بشواهد الصدق: قولاً وعملاً وحالاً, ""من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم"" وكان علمه من ربه لقلبه, وهو أتم العلوم وأجلها, فافهم واطلب الشيء منك إليك "مني عليّ دارت كئوسي"". وقال بعضهم: علمنا لا يؤخذ بالقياس, ولا بالفهم وقوة الذكاء والاقتباس, بل هو نكتة من الحق, يكشف من القلب قناعه, ونور منه ينبسط في عوالم الحقيقة شعاعه, حتى يصير الغيب في معد العيان, ولا يفتقر المشكل لشيء من البيان, بل لو كشف الغطاء ما ازداد صاحبه يقيناً, وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام:: "لم يفتكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام, ولكن بشيء وقر في صدره".ومع هذا فالشيء الموقور في صدره معلوم الأصل, الذي هو التحقيق في اليقين, والإيمان إلى حد المواجهة والعيان, قاله الشيخ زروق رضي الله عنه. ثم بين قدر ما يعرفه الإنسان من السر بالوصف فقال: وإنما تعرف منه وصفا ..... لست تراه، وهو ليس يخفى قلت: لما نفي معرفة النموذج الرباني الذي خص به الإنسان من الكتب, ذكر هنا مقدار ما تعرفه بالنعت من الكتب, فقال: وإنما تعرف من ذلك النموذج, وهو سر الربوبية المندرج في الخمرة الأزلية؛ وصفاً ظاهراً, يقال باللسان ولا يرى بالعيان, لأنه إنما يدرك بالبصيرة, فإن كنت من أهل البصيرة أدركته بالذوق والوجدان, وإن لم تكن من أهل البصيرة, فحط رأسك لأهل البصيرة حتى تذوق ما ذاقوا أو تموت, فالمعرفة التي تكتسبها من الدفاتر أو الأشعار أو الأراجيز لذلك الوصف لست تراها بعينك, فإذا قال لك الشاعر مثلاً: * ألا كل ما خلا الله باطل. *أو ما في الكون غيركم. لا تعرف ذلك ولا تدركه بعقلك؛ مع كونه ظاهر لا يخفى, لكن لا يدركه إلا أهل الأذواق, أهل البصائر النافذة، لا أهل العقول المقيدة بالخيالات الوهمية، فإن هذا أمر خارج عن مدارك العقول, ولا يحيط بكنهه العلم المنقول. قوله: ""لست تراه وهو ليس يخفى"" ؛ أي لست يراه ببصرك الحسي, لما كساه من رداء العزة وحجاب الحكمة, وهو: ليس يخفى على أهل البصيرة النافذة, فلست تراه لأنه باطن؛ وهو ليس يخفى لأنه ظاهر. فاسمه الباطن يقتضي أن لا تدركه الأبصار؛ واسمه الظاهر يقتضي انطواء ما سواه من الأغيار، وانفراده بالوجود وظهور الأنوار, وفي ذلك قال بعض العارفين: لقد ظهرت فلا تخفى على أحد ..... إلا على أكمه لا يبصر القمرا لكن بطنت بما ظهرت محتجباً ..... وكيف يعرف من بالعزة استترا وفي الحكم: ""أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر"" فاسمه الباطن يقتضي ظهور الأشياء ليكون باطناً بالنسبة إلى ظهورها. واسمه الظاهر: يقتضي بطون الأشياء وانطوائها؛ إذ لا ظاهر سواه لما يقتضيه الحصر الذي في الآية الكريمة. وهذا من عجائب الربوبية التي بهرت العقول, وحيرت الأذهان, بحيث صار ظاهراً في حال بطونه, باطناً في حال ظهوره,ظاهراً باعتبار قدرته باطناً باعتبار حكمته. والله تعالى أعلم. ثم ذكر المصنف أنه شرح لك من ذلك الوصف البعض بقدر ما يفهمه عقلك, فقال: وها أنا أشرح منه البعض..... بقدر ما تفهمه فلترضى أي تنبه لما أقول لك بعد. فأنا أشرح لك بعض ذلك السر بقدر ما تفهمه ويدركه عقلك فلتقنع بذلك ولترض به, إذ لا يمكن شرح الكل، لأنه من السر المكنون الذي لا يحيط به إلّا علام الغيوب, وأيضاً إذا عبرت لك عن كنه السر تعرضت للهلاك, وقد قال تعالى: ""ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً"" ثم ذكر ذلك البعض الذي وعد به, فقال: فهذه الحقيقة النفسية ..... موصولة بالحضرة القدسية وإنما يعوقها الموضوع ..... ومن هنا يبتدأ الطلوع قلت: المراد بالحقيقة النفسية هو: الروح اللطيفة السارية في الأشباح الكثيفة القائمة بها، والحضرة القدسية هي العظيمة الأزلية القديمة اللطيفة الخفية المعبر عنها بعالم الجبروت, وهي التي فسرها ابن الفارض في خمريته حيث قال رضي الله عنه وأرضاه: يقولون لي صفها فأنت بوصفها.....خبير: أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء, ولطف ولا هوى.....ونور ولا نار, وروح ولا جسم تقدم كل الكائنات حديثها..... قديماً, ولا شكل هناك ولا رسم وقامت بها الأشياء ثم لحكمة..... بها احتجبت عن كل من لا له فهم فالأشياء التي قامت بالخمرة الأزلية هي: الموضوعات التي تكثفت وظهرت, فقد وضعها الله أواني حاملة للمعاني؛ ومنها أشباح بني آدم، فإنها موضوعات للسر الرباني, الذي هو الروح, والروح بني آدم، فإنها موضوعات للسر الرباني, الذي هو الروح, والروح متصلة بتلك الخمرة الأزلية، وإنما يعوقها ويمنعها من اللحوق بأصلها, هذا الموضوع الذي وضعه الله لها وأسكنها فيه, فهو كثيف, وهي لطيفة، فمن غلبت كثافته على لطافته؛ أو تقول: بشريته على روحانيته, بقي دائماً مسجوناً بمحيطاته, محصورا ًفي هيكل ذاته ومن غلبت لطافته على كثافته،أو تقول: روحانيته على بشريته اتصلت روحه بالحضرة القدسية, ورجعت إلى أصلها, فلم يحجبها عن أصلها أرض ولا سماء, ولا عرش ولا كرسي حتى قال بعضهم: ""العرش والكرسي مندقان في ترسي"" وقال آخر: ""لو أن العرش في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به"". وفي الحكم العطائية: ""الكائن في الكون ولم تفتح له ميادين الغيوب, مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته"" مفهومه إذا فتحت له ميادين الغيوب لم يحصره هيكل ولا كون, بل يترقى إلى فضاء الشهود,وتتصل روحه بالملك المعبود, اتصالاً يعرفه أهل الأذواق, وينكره أهل الأوراق؛ وقد ضرب عز الدين ابن عبد السلام مثلًا ربما يزيل ذلك الإشكال؛ ويوضح لك المثال إن لم تذق ما ذاقت الرجال. قال في "حل رموزه وفتح كنوزه" فاعلم أن القلب غيب؛ والرب غيب, فاطلع الغيب على الغيب؛ فكان اطلاعه نزولًا لا حلولًا؛ واعلم أن لطيفة ذلك: أن القلب خلق كامل الوصف؛ فله وجهان: ظاهر وباطن؛ فظاهره ترابي أرضى؛ مظلم طبيعي جثماني, وباطنه سماوي علوي, نوراني روحاني, فكثافة ظاهره لمباشرة القوى الطبيعة البشرية, ولطافة باطنه لمواجهة الملكوتيات العلمية الربانية الروحانية, فعلى قدر مواجهته لها ومقابلته إياها انعكست عليه أشعة أنوارها, وتجلت لأسراره بأسرارها "فشاهدها بالأنوار التي فاضت عليه؛ وأدركها بالأسرار التي أبدتها إليه, وهذا معنى العكس والمقابلة؛ فهو يشهد جمالية محبوبة في مرآة قلبه من غير حصر ولا تحيز, ولا حلول, ولا انفصال ولا اتصال؛ فهو في المثال كمرآة لها وجها: ظاهرها كثيف مظلم, وباطنها لطيف مضيء, فلو قابلها من الكائنات ما قابلها من صغير أو كبير أرته ممثلًا فيها مع صغر جرمها وكبر المرئي فيها, ولو كان جملًا أو جبلًا أرته بكل أجزائه فيها من غير حلول فيها, ولا اتصال بها, ولا تحيز في شيء منها, فكذلك الحق سبحانه وتعالى: إذا تجلى على قلب عبده المؤمن يشاهده بعين قلبه, ويجتليه ببصر بصيرته من غير حلول ولا تحيز, ولا اتصال ولا انفصال. وأوضح من هذا المثال ما أشرحه في هذه الأبيات: ولما تجلى من أحب تكرما ..... وأشهدني ذاك الجناب المعظما تعرف لي حتى تيقنت أنني .... أراه بعيني جهرة, لا توهما وفي كل حال أجتيله ولم يزل ..... على طور قلبي حيث كنت مكلما وما هو في وصلي بمتصل ولا ..... بمنفصل عني, وحاشاه منهما وما قدر مثلي أن يحيط بمثله ..... وأين الثرى من طلعة البدر, إنما أشاهده في صفو سرى فأجتلي ..... كمالًا: تعالى عزه أن يقسما كما أن بدر التم يظهر وجهه ..... بصفو غدير, وهو في أفق السما
واعلم أن هذه الخصوصية إنما هي لابن آدم دون الملك, وإنما كان كذلك لما ذكرنا أن الآدمي مخلوق من العالمين: اللطيف والكثيف, فينزل القلب فيه بمنزلة المرآة في لطفها وكثافتها, فلذلك انطبع فيها ما يقابلها من المرئيات, ولا كذلك الملك, فانه مخلوق من لطيف فقط, وهو كله نور يشف ظاهره وباطنه, فهو كالزجاجة الشفافة, نورها خارق, فلا يتمثل فيها ما يقابلها لعدم التكثيف الذي يعكس ما يقابلها إليها, فهذا سر العكس والمقابلة, انتهى كلامه رضي الله عنه. ومن هنا يبتدأ الطلوع, وحاصله: أن الآدمي كالمرآة التي من خلفها الطلاء وهو الدهن الذي يجعل فيه, والملائكة كالمرآة التي لا طلاء خلفها, لكن الملائكة فيهم الخواص والعوام وفيهم العارفون وغيرهم, والله تعالى أعلم. وقوله: "من هنا يبتدأ الطلوع": الإشارة تعود إلى الموضوع الذي جعله الله محلًا للروح ومستقراً لها في هذا العالم السفلي, أي ومن هذا المحل السفلي الذي تقررت فيه الروح يبتدأ طلوعها وعروجها إلى محلها الأصلي, الذي هو عالم الملكوت أو الجبروت, وطلوعها بقدر تخليها عن هذا الموطن وغيبتها عنه, فبقدر ما تغيب عن موضوعها تفارقه, وتعرج عنه إلى أصلها, وبقدر ما تتعلق به وترتهن معه تستقر فيه وتسجن في هكيله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "أيها الشائق إلى سبيل نجاته, التائق إلى حضرة حياته, أقلل النظر إلى ظاهرك إن أردت فتح باطنك لأسرار ملكوت ربك". وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى: "عبدي إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها, فإن أدعيتها سلبتك الولاية, ولم أسلبك صفاتي, يا عبدي أنت صفتي, فارجع إلي أرجع إليك, يا عبدي فيك للعلوم باب مفتاحه أنا, وفيك للجهل باب مفتاحه أنت, فاقصد أي البابين شئت, يا عبدي قربي منك بقدر بعدك عن نفسك, وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك, فقد عرفتك الطريق, فاترك نفسك تصل إلي في خطوة واحدة, يا عبدي كل ما جمعك علي فهو مني, وكل ما فرقك عني فهو منك, فجاهد نفسك تصل إلي, وإني لغني عن العالمين, ثم قال: "يا عبدي إن منحتني نفسك رددتها إليك راضية مرضية, وإن تركتها عندك فهو أعظم بلية فهي أعدى الأعادي إليك, فجاهدها تعد بالفوائد إليك". وكان شيخنا رضي الله عنه يقول: إن شئتم أن أقسم لكم: أنه لا يدخل عالم الملكوت من في قلبه علاقة. وقال الششتري رضي الله عنه: ليس يدرك وصالي كل من فيه بقيا. وقد أوضح الناظم هذا, يعني فيما يأتي حيث قال: لم يتصل بالعالم الروحاني ..... من عمره على الفضول عاني ليس يرى من المعاني دان ..... من قلبه في عالم الأبدان والبيت الآخر: تفسير لما ذكره هنا بقوله: "ومن هنا يبتدأ الطلوع" ويأتي زيادة بيان وتوضيح عند شرحها إن شاء الله, والله تعالى أعلم. ثم بين كيف كان اتصال الروح بالحضرة فقال:
المجاهدة وخرق العادة
فلم تزل كل نفوس الأحيا ..... علّامة درّاكة للأشيا وإنما تعوقها الأبدان ..... والأنفس النزغ والشيطان فكل من أذاقهم جهاده ..... أظهر للقاعد خرق العادة النزغ هو: النخس والتحريك, نزغه الشيطان: أي نخسه وحركه, والأنفس النزغ هي: التي تحرك صاحبها للمعاصي والشهوات. والنفس والعقل والقلب والروح والسر: شيء واحد عند محققي الصوفية, وما ثم إلا اللطيفة الربانية حين اشتبكت بهذا البدن وسجنت في هذا الهيكل: اختلفت تسميتها باعتبار تطورها وترقيها, فما دامت مظلمة بالشهوات والمعاصي سميت نفسًا, فإذا انزجرت وانعقلت عن المعاصي سميت عقلاً, فإذا سكنت إلى الطاعة لكنها تتقلب في التدبير والاختيار والاهتمام بأمر البدن سميت قلبًا, فإذا اطمأنت بالله وسكنت إليه, وفتحت بصيرتها بشهود نور أصلها سميت روحًا. فإذا تصفت من الحس وصارت معنى محضًا سميت سرًا, وهذا كان أصلها سرًا من أسرار الله, قال تعالى: "قل الروح من أمر ربي" أي سر من أسراره, فكانت في الأصل علامة لما كان وما يكون, دراكة دقائق الأشياء على ما هي عليه, ولما أدخلها الحق في هذا الهيكل الكثيف إظهارًا لحكمته, وإعلامًا بعظمة قدرته, وإشعارًا بقهريته انحجبت عن أصلها وغاب عنها ذلك العلم والإدراك ونسيت معاهدها ومعالمها اشتغالًا بتدبير هذا الهيكل الطيني, فهو يميل بها إلى أصله, ويخلد بها إلى أرض الشهوات التي نشأ بالحكمة منها, وهي تتعشق إلى أصلها وتحن إلى وكرها, فإذا طارت ورفرفت إلى وكرها وجدت قفص البدن محيطاً بها, فربما شطحت ورقصت من وراء أردية العز والكبرياء. وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: يحركنا ذكر الأحاديث عنكم ..... ولولا هواكم في الحشا ما تحركنا فقل للذي ينهى عن الوجد أهله ..... إذا لم تذق معنا شراب الهوى دعنا إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقا ..... نعم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى أما تنظر الطير المقفص يا فتى ..... إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى يفرج بالتغريد ما بفؤاده ..... فيطرب أرباب العقول إذا غنى ويرقص في الأقفاص شوقا إلى اللقا ..... فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى كذلك أرواح المحبين يا فتى ..... تهزهزها الأشواق للعالم الأسنى أنلزمها بالصبر وهي مشوقة ..... وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى إلى آخر كلامه. ثم أعلم أن تطورات الروح من: النفس, والعقل, والقلب, والروح, والسر: كل طور له حد ينتهي إليه في العلم والإدراك, أما النفس فحد علمها وإدراكها زينة ظاهر الكون اغترارا بمتعة ظاهره, وغفلة عن عبرة باطنه, واشتغالًا بحظوظها وهواها, وأما العقل فحد علمه وإدراكه افتقار الصنعة إلى صانعها, فهو يقرر الصنعة ويردها إلى صانعها, معقولاً عن غير ذلك, وأما القلب فحد علمه وإدراكه التوجه إلى خالقه بترك الأغيار وطلب الأنوار فقد انطلق من العقال وشد طلب مولاه الرِّحالَ. وأما الروح؛ فحد علمها وإدراكها مواجهة أنوار الملكوت, طالبة أسرار الجبروت, قد استراحت من تعب السير, لكنها لم تتمكن من السر, وأما السر فحد إدراكه أسرار الجبروت, قد نفذت البصيرة من الوقوف مع أنوار الملكوت, وهذا منتهى السير قال تعالى: "وأنًَّ إلى ربّك المنتهى". وفي هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لو عاينت عيناك يوم تزلزلت ..... أرض النفوس ودكت الأجيال لرأيت شمس الحق يسطع نورها ..... يوم التزلزل, والرجال رجال قال: "والأرض": أرض النفوس, "والجبال" جبال العقل. أي لو غبت عن نفسك ولم تقف مع عقلك لرأيت أنوار ربك. قوله: وإنما تعوقها الأبدان أي يمنعها من الرجوع إلى أصلها فتكون علامة دراكة للأشياء كما كانت في أصلها, الأبدان التي هي كالأقفاص لها حصراً, وكالقمص والأردية لها ستراً, وإنما منعها البدن من الرجوع إلى أصلها, لأنه ظلماني طيني صلصالي لا يميل بطبعه إلا لأصله من الشهوات الجسمانية, مأكلًا ومشرباً وملبساً, وكلما تعمق في ذلك تكثفت بشريته, وقويت دائرة حسه, فعظم حجاب الروح, وتوغلت في هذا القفص, وكذلك النفس النزاعة المحركة إلى الحظوظ الذميمة, كحب العلو والجاه والمدح والثناء, وحب الدنيا والنساء وغير ذلك مما يستتبع هذا من: الكبر, والحسد والبغض والغضب والقلق, والحقد, وخوف الفقر, وهم الرزق, وحب الأغنياء: طمعاً وحرصاً, واحتقار الفقراء, وغير ذلك من عيوبها, فهي التي حجبت الروح ومنعتها من العروج إلى وطنها, ولدواء هذه الأمراض وضع علم التصوف, وكذلك الشيطان بوسوسته ونزغه وتزيينه, لأنه حسود فيزين لها الكفر, ثم المعاصي, ثم التثبط عن الطاعات ثم إدخال الرياء فيها, ثم العجب, إذا تخلصت من هذه العوائق رجعت إلى أصلها من علم الحقائق, والى ذلك أشار بقوله: فكل من أذاقهم جهاده ..... أظهر للقاعد خرق العادة فجهاد البدن بقطع مراده, من: تقليل الطعام, والشراب, واللباس والمنام فلا يأكل ولا يشرب إلا ليتقوى على طاعة الله؛ ولا يلبس إلا ما يحفظ به البدن, لأنه معرفة سر الله ولا ينام إلا ما يرد به العقل والنشاط لطاعة الله, وكذلك لا ينقل قدميه إلى حيث يرجو ثواب الله ولا يجلس إلا حيث يأمن غالباً من معصية الله, ولا يصحب إلا من يستعين به على طاعة الله, ولا يتبع إلا من يتحقق وصلته بالله, فيكون في كل حال عاملًا لله, بالله, وجهاد النفس بقطع مألوفاتها, ويخرق عوائدها بتحميلها ما تكره, وإبعادها مما تحب, وأعظمها ثلاث: حب الجاه, وحب الدنيا, وحب النساء, وجهاد الشيطان بالاشتغال بالله والغيبة عنه, فعداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقاً قال تعالى: "إنَّ الشيطان لكم عدوُّ فاتخذوه عدوُّا". يعني, وأنا لكم حبيب فاتخذوني حبيباً أكفكم عداوة عدوكم. وبقي من العوائق: الناس, فإنهم أكبر العوائق وأقبح القواطع لمن وقف معهم واشتغل بمقابلتهم, وأما من غاب عن حسهم وغرق فيهم, فقد صاروا له عوناً على الترقي إلى معرفة خالقهم, وإلى هذا المعنى أشار شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه بقوله: الخلق نوار وأنا رعيت فيهم ..... هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم وقال في الحكم: إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكناً إليهم, أراد أن يزعجك عن كل شيء, حتى لا تكون ساكناً إلى شيء, وقال في شأن الشيطان والنفس "إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك, فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده, إنما جعله لك عدواً ليحوشك به إليه, وحرك عليك النفس ليديم إقبالك عليه". فتحصل أن هذه العوائق الأربعة, إنما هي عوائق لمن وقف معها وحجب بها, وأما من لم يقف معها, فإنما هي في حقه معونات وموصلات, حركتهم إلى الله, ودفعتهم إلى حضرته وبها ثبتت خصوصيتهم وتحقق سيرهم, لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين, فسبحان من جمع بين الضدين, شيء واحد حبيب من وجه عدو من وجه, وفي الحقيقة ما ثم إلا الحبيب أوقف على بابه حراساً ليظهر الصادق في محبته من الكاذب فيها, والله عليم حكيم. وقوله: "أظهر للقاعد خرق العادة" يعني أن من نهض إلى مجاهدة هذه الثلاث أو الأربع قد يكرمه الله بظهور الكرامات وخرق العادات, إما حسية أو معنوية, فيظهر عليه بحسب كل مقام خارق يليق به على قدر حاله, فمن مجاهدة البدن تظهر الكرامات الحسية, إما من جهة العبادة الحسية كحلاوة الطاعات ولذيذ المناجاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غض بصره لله رزقه عبادة يجد لذتها" وإما من جهة خرق العادة الحسية كالمشي على الماء, والطيران في الهواء, وطي الأرض, وتسخير السباع, وجلب الطعام والماء من الغيب, وغير ذلك. ومن مجاهدة النفس: تظهر الكرامات المعنوية, من: فهم العلوم, واتساع الفهوم, وتحقيق اليقين, وشهود رب العالمين, وتسخير النفوس, وقهرها, وظهور الجلالة والمهابة إلى الخلق, لحديث: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء". وقوله عليه الصلاة والسلام: "من خاف من الله خافه كل شيء". الحديث, ونحو ذلك. ومن مجاهدة النفس والشيطان تظهر الكرامات الحقيقة بالكفاية, والهداية, والحفظ من الضلال والغواية, لقوله تعالى: "إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان" وقوله: "ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكّلون". ثم بين أهل هذه الخوارق, فقال: وهي من النفوس في كمون ..... كما يكون الحب في الغصون قلت: الكمون هو: الخفاء والتستر, والضمير في "وهي" يعود على ما تضمنه قوله "خرق العادة" من العلوم والإدراكات والخوارق والكرامات, يعني: أن العلوم والإدراكات والاقتدار على خرق العادات, هي كامنة خفية في النفوس, أي الأرواح, لأن الأرواح أصلها قبضة من نور الجبروت, فهي: عالمة, قادرة, مريدة, سميعة, بصيرة, متكلمة, فحيث سجنت في هذه الهياكل الكثيفة كمن فيها ذلك السر وخفي, ولم يظهر منه إلا نموذج ضعيف, فسمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وقدرته وإرادته وحياته: بقية من تلك الصفات ظهرت على العبد واستتر أصلها في النفوس, كاستتار الحب والثمار في الغصون, حين تكون خالية من الثمار, فإذا نزل المطر, وأرعد الرعد أخرجت أوراقها وأزهارها وثمارها, والى هذا أشار بقوله: حتى إذا أرعدت الرعود ..... وانسكب الغيث ولان العود وجال في أغصانها الرياح ..... فعندها يرتقب اللقاح قلت: السكب هو: الصب, يقال: انسكبت الدموع والمطر: انصب, والإلقاح هو حمل الأشجار بالثمار, وألقحت النخل ثمارها إذ حملت به, واللقاح بالفتح كسحاب ما يعلق على النخل من طلع الذكر, والمناسب في البيت أن يكون الإلقاح بالهمز مصدراً وهو الحمل بالثمر, وما ذكره هنا كله استعارة, فالمراد بالرعود مجاهدة الجوارح الظاهرة في خدمة الشريعة, ككثرة الذكر, والصلاة والصيام, والسهر, والجوع, وغير ذلك من مجاهدة الحس, وأوكدها: الذكر والصمت, والعزلة. ولقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول: بقيت أربع سنين فانياً في الاسم لا أفتر عنه, لا ليلًا ولا نهاراً, حتى كان البدن كله يهتز به وحده, فإذا قبضت على إحدى رجلي اهتزت الأخرى, فهكذا ينبغي ذكر الله, والفناء فيه, والمراد بانسكاب الغيث: نزول الأحوال والواردات على القلوب من شوق مقلق أو خوف مزعج, ووصل أثرهما إلى الباطن من الشفقة, والرحمة, والحلم, والصبر والزهد, والورع والتوكل, والرضا والتسليم, والمحبة, والطمأنينة, والمراقبة والكرم, والسخاء, وغير ذلك من الأخلاق المحمودة التي تلين الطباع وتحسن الأخلاق, وهو المراد بقوله: "ولان العود" فكما أن العود يلين بسريان الماء فيه, كذلك القلب يلين بسريان الحال الناشئ عن العلم. والمراد بجولان الرياح: النفحات التي تهب على القلوب من حضرة علام الغيوب, بصحبة العارفين, والحك معهم, وفي حكمة لقمان عليه السلام كان يقول لولده: "يا ولدي جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك, فان الله ينبت الحكمة في القلوب بصحبتهم كما تنبت الحبة في الأرض الطيبة" والمراد بالعلماء: العلماء بالله, فان صحبتهم تلقح العلوم والمعارف والأسرار في القلوب كما تلقح الرياح الثمار في الأشجار, قال تعالى: "وأرسلنا الرياح لواقح" قيل تلقح الأشجار وقيل تلقح الأمطار في السحاب, ثم تصبه حيث أراد الكريم الوهاب, وهذا معنى قوله "هنالك ينتظر الإلقاح" أي إلقاح العلوم والمعارف في القلوب ولأجل هذا المعنى قال بعض العارفين: والله ما افلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح. وقال الشيخ زروق رضي الله عنه: المراد بالرعود المواعظ المذكرات, ونزول غيث الواردات, الملينة لأفنان شجرة القلب, وجولان رياح الأحوال المتوجهة منها في نواحي القلب, حتى يسري ذلك للجوارح فتتأثر به, قال الله تعالى: "الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مّثاني تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله, ذلك هدى الله يهدي به من يشاء". وما شرحت به أنسب لطريق التربية, والله تعالى أعلم. وقد ضرب في القوت مثلًا لهذا السر الكامن في النفوس بالزبد الكامن في اللبن, فإذا ضرب بالمخض خرج زبده, ثم إذا ذوب صار سمناً صافياً ثم بين الناظم ما يكون بعد الإلقاح من بدايته إلى نهايته فقال: فعندما أزهرت الأغصان ..... واعتدل الربيع والزمان يكون إذ ذاك أوان العقد ..... وانتظم الأغصان نظم عقد حتى إذا أينع للعيان ..... وأمنت جوائح الزمان باكرها زارعها والغارس ..... يقطفها, والغير منها آيس قلت: العقد الأول بفتح العين, وهو عقد الثمار من الأزهار, والعقد الثاني بكسر العين وهو: سلك الجوهر المنظوم. يقول رضي الله عنه: فإذا جالت رياح الهداية, وهب نسيم الولاية, وجال في أغصان الأبدان, ثم سرى إلى سويداء الجنان, ألقحت فيه أزهار الحكم, وفنوناً من نوار العلوم, وفتقت أكمام الفهوم مختلفة الألوان صنوان وغير صنوان, يسقى بماء واحد, فعندما أزهرت أغصان الجوارح الظاهرة بالأعمال والعوالم الباطنية بالأحوال, واعتدل ربيع الشريعة بإظهار زهر جماله في رياض الملكوت, مع زمان هيجان بحر الحقيقة في حياض الجبروت "مرج البحرين يلتقيان, بينهما برزخ لا يبغيان" فعند ذلك يكمل عقد معرفة الشهود والعيان, وتنتظم استقامة الجوارح في مقام الإسلام والإيمان, نزولًا إلى بستان سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بعد الإذن والتمكين, وبالعناية لذلك العارف ملحوظ, فحينئذ يتحقق بكمال العبودية, ويقوم بوظائف الربوبية, لا يحجبه فرقه عن جمعه, ولا جمعه عن فرقه, قد اعتدل فيه الميزان: يعطى كل ذي حق حقه, ويوفي كل ذي قسط قسطه, فإذا ظهرت عليه آثار العناية ولاحت له أسرار الولاية تعجبت الناس من أحواله, وما خصه الله به من عظيم نواله, فمن معتقد وناقد, ومن مسلم وحاسد, يريد أن يشاركه في مقامه بدعوى اللسان, ومن ادعى بما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان, كما أبان ذلك كله الناظم حيث قال: فأي من مر بها مساء ..... وأبصر الظلال والأفياء ونزه الأبصار والعيونا ..... حيث رأى الأنهار والعيونا واشتم منها الروح والريحانا ..... وظل في بهجتها حيرانا فقال: نحن إذاً سواء ..... فعندها يجمعنا المساء قلت: المساء هو آخر النهار: من الزوال إلى الغروب, والفيء: الظل إذا أخذ في الزيادة فهو باعتبار ما قبله من عطف الخاص على العام, والروح قال في القاموس: الروح بالفتح الراحة والرحمة, ونسيم الريح, والمناسب هنا هو الأخير, وقال في تفسير الريحان: نبت طيب الرائحة, أو كل نبت كذلك, أو أطرافه أو ورقه, والولد, والرزق والمناسب هو: النبت, على حذف مضاف, أي واشتم من تلك الأغصان نسيماً طيباً, ورائحة تلك الرياحين. يقول رحمه الله ورضي عنه: فأي شخص من البطالين مر في بساتين العارفين ورياض الواصلين في وقت زوالهم واعتدالهم وعند زيادة ظلال أنوارهم وعلومهم, فأبصر ظلال أنوارهم قد ظهرت على وجوههم من أثر خشوعهم أبو بهجة سرورهم, كما قال: إن عرفان ذي الجلال لعز ..... وضياء وبهجة وسرور وعلى العارفين أيضاً بهاء ..... وعليهم من المحبة نور فهنيئاً لمن عرفك إلهي ..... هو والله دهره مسرور ونزه أبصاره في أنهار علومهم الزاخرة, وفي عيون حكمهم الفاخرة, واشتم منها نسيم القرب والوصال, حين قرب من جنة الجمال, وريحان الكمال, فبقي سائر نهاره في بهجة زهرتها ونضرتها حيران, فاستغرب ما أتحفهم به مولاهم المنان, بعد ما كانوا مثله في النقصان, وغاية الجهالة والخذلان فلما علم بأحوالهم وتحقق بعظيم نوالهم, ترامى بالدعوى على مقامهم, فقال ها نحن معكم سواء, فنشترك معكم في تلك البساتين عند المساء, فما دام نهار البسط والجمال استووا جميعاً بلسان المقال, فإذا جن ليل القبض والجلال, ظهرت الجبناء من الأبطال, وتميزت الشمائت من الرجال: سوف ترى إذا انجلى الغبار ..... أفرس تحتك أم حمار؟ وفي الأمثال بلسان الحال: إن شجرة القرع تصاعدت مع النخلة, وقالت: إني شجرة مثلك, فقالت النخلة: ستعلم الشجرة منا عند هبوب رياح الخريف. وكذلك المدعون للخصوصية بأهل الطريق إذا اختبرهم الحق تعالى وعبرهم بمحك التحقيق, فأرسل عليهم قاصفاً من رياح الفتن, وضربهم بزلازل المحن, إما في المال أو في البدن, نكصوا على أعقابهم مدبرين, وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين, خسروا الدنيا والآخرة, ذلك هو الخسران المبين. قال في التنوير: وإنما يفتضح المدعون بزوال الأحوال وعزولهم عن مراتب الإنزال, هنالك يبدو العوار وتنتهك الأستار, فكم من مدع الغنى بالله وإنما غناه بطاعته, أو بنوره أو بفتحه, وكم من مدع العز بالله, وإنما عزه بنسبته وصولته على الخلق, معتمداً على ما ثبت عندهم من معرفته, فكن عبد الله لا عبد العلة, فكما كان لك رباً ولا علة, فكن عبد الله ولا علة, لتكون كما كان لك, ثم تمم حال المدعين وما آل إليه أمرهم حين ظهر عوارهم وانكسفت أنوارهم, واشتدت عليهم ظلمة أغيارهم, فقال:
سلعة الله غالية حتى إذا هجمه الظلام ..... واحتوشته الوحش والهوام ولم يجد للفوز من أسباب ..... أقام حيران إمام الباب فقيل من بالباب؟ قال: طارق ..... فقيل كلا, لا, ولكن سارق قلت: هجم عليه هجوماً: دخل بغتة, قال في القاموس؛ وضمنه الناظم معنى جن: أي جنه وغطاه, ولذلك عداه بنفسه, واحتوش القوم الصيد: نفروه, ومعناه هنا خوفته وأفزعته والوحش حيوان البر, والهوام, بشد الميم: حشرات الأرض, والطارق: الآتي بالليل, وكلا: حرف زجر وردع. يقول رضي الله عنه: إن ذلك المدعي الذي ترامى على مراتب الرجال, بمجرد التشدق والمقال وادعى الوصول إلى مقام الراحة والجمال, قبل أن يتأدب بصدمات الجلال لما هجم عليه ليل القبض والجلال, وغربت عنه شمس نهار البسط والجمال افتضح, وتبين أنه دجال فأفزعته وحوش الشكوك والخواطر, وأحاطت به هوام جرائمه الصغائر والكبائر, فهي تلدغه وتلسعه كلسع العقارب والزنابير, فلما لم يجد منها مسلكاً ولا مهرباً التجأ إلى باب الأكابر, فأقام خلف الباب حيران, يريد أن يضموه معهم إلى حصون ما شيدوه خلف بساتين العرفان, من غير أن يحط رأسه إلى تقبيل أقدام الرجال, ولا أن يسمح بنفسه في عز ولا جاه ولا مال, فنادوه بأفصح لسان الحال: أيها الطارق لباب الرجال, ماذا تريد وأنت على هذا الحال؟ فقال: هذا طارق يريد الدخول إلى حضرة المحبة والوصول, فقالوا له: كلا, ليس حالك حال الطارق, ولكنك متطفل سارق فإذا انكسر وذل نفسه نال مطلبه وحصل أنسه وإن بقي على ما هو عليه كان عاقبته الحرمان. أو يقول: حتى إذا هجم "على" هذا المدعي المتكبر ظلام الجهل والغفلة واحتوشته وحوش المساوي والعيوب, وأحاطت به هوام المعاصي والذنوب, ولم يجد للفوز والخلاص منهما سبباً أقام خلف باب العارفين, يستمطر الرحمة والعفو من رب العالمين, في حال الدهش والحيرة؛ ينتظر من سعة كرمهم لحظة أو نظرة, مع ما هو عليه من زي أهل الغفلة والفترة, فقالوا له: من هذا الذي وقف بالباب يريد الدخول مع الأحباب من غير أن يعفر خده بالتراب؟ فقال: طارق يريد الوصول, فقالوا: لا سبيل للسارق إلى الدخول. وإنما سمي المدعي: سارقا لأنه يسرق كلام القوم وينسبه لنفسه, أو يدعيه حالًا ومقاماً وليس له في ذلك إلا التطفل عليهم دون ذوق ولا وجدان, فإذا أراد الله به خيراً ألقى في قلبه الصدق والتصديق وذل وانكسر لأهل التحقيق, فوقف ببابهم منكسراً, وإلى ما عندهم من المعارف والأنوار مفتقرا, لأنهم باب الله الأعظم,
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الأول في أصل التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:07 pm
الفصل الأول في أصل التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
كما نبه على ذلك الناظم رحمه الله, حيث قال: فقال: مهلًا صاحب الجنات ..... لحائر قد ضل في الفلاة فقال: هلا كنت ذا بستان؟ ..... فقال: كنت قاعداً ووان فقال: يا قوم ألا تشرون؟..... قالوا: جهلت ثمن المثمون قلت: المهل, هو التأخر والتأني, وهو مصدر حذف عامله؛ أي أمهلني مهلًا, وضل بلف, والفلاة هو: الموضع القفر الخالي, من العمارة, والواني هو: المتأخر والمتمهل. يقول رضي الله عنه: إن ذلك المدعي المتطفل لما عرف الحق وأهله, وتحقق عيبه وجهله, أقر بكمال أهل الكمال, وعرف مقالات الرجال, فحين طرق الباب؛ وطرد من ذلك الجناب تهمة له, أنه لم يلق السلاح, ولم ينزع عن فعاله القباح. قال لهم, مهلًا علي يا أصحاب الجنات, هنيئاً لكم بما أسلفتم في الأيام الخاليات. ألا ترقوا لحائر قد ضل في الفلاة واستوحشته هوام الذنوب والسيئات. ولسعته حيات الحظوظ والشهوات. ولدغته عقارب الشكوك والخطرات؛ فقالوا: أين كنت وقت ريح السموم وبرد الليالي؟ حين غرست الرجال أشجار المعارف فجنت ثمار المعاني؟ قال: كنت عند كانون الكسل وغار البطالة قاعداً ووانى. فقالوا له: لا تظن أن بساتين المعارف رخيصة, كل معشوق غال. ما جنيت ثمار المعارف إلا ببرد الليالي. فقال: يا قوم أنتم أهل الكرم والجود. ألا تبيعوا لي شيئاً من ثماركم المنضود, وتأووني إلى سعة ظلكم الممدود؟ قالوا له: جهلت ثمن ثمارنا المحمود. فلا تناله ولو بذلت فيه نفس المجهود. فليس ينال بالدراهم والفلوس, وإنما ينال ببذل الأرواح والنفوس, كما نبه عليه الناظم بقوله: فهذه فواكه المعارف ..... لم تشر بالتالد أو بالطارف ما نالها ذو العين والفلوس ..... وإنما تباع بالنفوس قلت: التالد هو المال الذي نتج عندك وطال في ملكك, قال في القاموس: التالد كصاحب والتلد بالفتح والضم والتحريك والتلاد والإتلاد والتلد: ما ولد عندك من مالك. والطارف: الحادث من المال: أي الذي تجدد ملكه, ضد التالد, يقول رضي الله عنه: فواكه المعارف, وأذواق الواجدين وأنوار الراحلين والواصلين لا تنال ولا تشترى بالأموال القديمة ولا الحادثة ولا بالكسب والاكتساب. وإنما هي فضل من الكريم الوهاب يخص بها من يشاء بأسباب وبغير أسباب, وفاعل السبب هو فاعل المسبب. من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك, فثبوت الخصوصية إنما هو منح إلهية ومواهب اختصاصية ما نالها صاحب الدراهم والفلوس, وإنما تنال ببذل المهج والنفوس. يغيب أولاً عن فلسه وجنسه ثم يفنى عن وجوده ونفسه, ثم يفنى عن فنائه ويبقى ببقائه, وما ثم في ذلك كله إلا فضل ربه وعظيم عطائه, وأنشدوا: قد كنت أحسب أن وصلك يشترى ..... بنفائس الأموال والأرباح وظننت جهلا أن حبك هين ..... تفنى عليه كرائم الأرواح حتى رأيتك تجتبى وتخص من ..... تختاره بلطائف الإمناح فعلمت أنك لا تنال بحيلة ..... فلويت رأسي تحت طي جناحي وجعلت في عش الغرام إقامتي ..... فيه غدوي دائما ورواحي ومعنى بيع النفوس, هو أن لا يبقى لها حظ ولا لحظ, إذ المؤمن يشغله الثناء على الله, عن أن يكون لنفسه شاكراً, ويشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكراً, وذلك لا يكون مع وجود القيض, مع التأخر والتشمير, وكمال البقاء في عين الفناء المطلق, وقد تضمن ذلك قوله تعالى: "إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة". الآية, إذ المبيع لا يبقى لبائعه حق فيه ولا حظ, ولا تدبير مع مشتريه, ولا نسبة له في وجوده مع مالكه, وإنما جاء سياق الآية بذلك إظهاراً للرحمة, وتبييناً للكرامة وتتميماً للنعمة, إذ لا رحمة ولا نعمة أعظم من إكرام السيد عبده بإظهار النسبة له في وجوده بوجوده, مع عزله عن وجوده وموجوده بطريق الرحمة والكرامة, لا بطريق القهر والقوة, والله تعالى أعلم. "قاله الشيخ زروق رضي الله عنه". ولما كانت جنة الزخارف مشتملة على بساتين وأنهار, وعيون وقصور وحور, شبهت الصوفية بما جنته المعارف, فجعلوا فيها بساتين الأسرار والأنوار التي هي محل نزهة الأرواح, وجعلوا فيها أنهار العلوم وعيون الحكم, وقصور الحضرة, وحور سكنى المعرفة وبحائر تفكه البسط والجمال, واجتناء فواكه الأحوال, وطرق مقامات الإنزال, فقد ذكر الناظم ما يتعلق بالبساتين والأنهار والعيون, وتكلم على ما بقي من القصور والبحار, فقال: وقيل: ليست هذه المقاصر ..... مأوى لكل قاعد وقاصر وقيل: ليست هذه البحائر ..... لحائر ضل فظل حائر قلت: المقاصر: جمع مقصورة, والمقصورة هي الدار الواسعة المحيطة, قاله في القاموس, والبحائر جمع بحيرة وهي المقتات. يقول رضي الله عنه: ليس للسكنى في قصور الحضرة والإقامة في دار المعرفة حاصل لكل قاعد بطال, ولا لكل مقصر كسلان, وليس التفكه من بحائر البسط والجمال لمن كان في حيرة وضلال وأقام في تلفه راضياً بذلك الحال, إنما نالها أهل الجد والاجتهاد, وبصحبة الأفراد السالكين على منهاج الحق والسداد, وفي ذلك قيل: الأنس بالله لا يحويه بطال ..... ولا يحوزه في الحال مختال والآنسون رجال كلهم نجب ..... وكلهم صفوة لله عمال ولا يمكن السكنى في قصور المعارف, والتفكه من بحائر الأذواق, إلا بإفراد الوجهة للواحد الخلاق, فيجعل الهموم هماً واحداً, والقصد قصداً واحداً, والمحبة محبةً واحدةً, والقلب مفرداً لله, فبذلك ينال القرب من الله, ويسكن في حضرة الله. وفي الحديث: "من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله هم دنياه". قلت: وجعل جنة المعارف مأواه, وفي حضرة القدس متقلبه ومثواه. قيل للجنيد رضي الله عنه: كيف السبيل إلى الانقطاع إلى الله تعالى, قال: بتوبة تزيل الإصرار, وخوف يزيل التسويف, ورجاء يبعث على مسالك العمل, وإهانة النفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل. قيل له: بم يصل العبد إلى هذا؟ قال: بقلب مفرّد, فيه توحيد مجرد. قال الشيخ زروق: وهذا الأمر لا سبيل إليه سوى الضراعة لمن بيده القلوب وعنده مفاتح الأمور. ثم نبه على أن ما قدم من العبارة ليس المقصود منها ظاهرها, وإنما هو إشارة, كما قال بعضهم: علمنا كله إشارة, فقال: فافهم فتحت هذه العبارة ..... إشارة وأيما إشارة قلت: فليس المقصود من ذكر الرعود, والغيث وزهر الأغصان, واعتدال الزمان, ولا من ذكر الظلال والأفياء, والأنهار, والعيون, والروح, والريحان, والطارق والسارق, والبستان, ما يفهم من ظاهر العبارة, وإنما ذلك إلغاز وإشارة, فتحت كل عبارة إشارة دقيقة ومعان رقيقة, وقد تقدم التنبيه على ذلك كله في محله, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم ذكر أصل التصوف من جهة دليل الشرع, فقال: أصل التصوف من جهة دليل الشرع ولنرجع الآن لباقي الفصل ..... إذ في تمامه ثبوت الأصل قلت: الفصل معقود لثبوت أصل التصوف, فذكر أصله من جهة الذوق والوجدان, وبقي ثبوته من طريق الشرع, وبه تمام ثبوت أصله على الكمال, فأشار إليه بقوله: فقادة الصوفي أهل الصفة ..... في زمن الرسول فاعلم وصفه وهم ضياف الله والإسلام ..... وجلساء سيد الأنام قلت: القادة, والقدوة, ما اقتديت به, واتبعت طريقته. يقول رضي الله عنه: فمتبوع الصوفية, وقدوتهم في طريق التجريد وترك الأسباب والانقطاع إلى رب الأرباب, هم أهل الصفة "موضع بناه عليه الصلاة والسلام في طرف مسجده لفقراء أصحابه" كانوا يجتمعون فيه: إذا كثروا بلغوا أربعمائة. وإذا قلوا كانوا ثمانين أو سبعين, وبه سموا الصوفية "على قول" وكانوا يعرفون بضياف الله, وبضياف الإسلام, آثروا التجريد للعبادة؛ ومجالسة سيد المرسلين, وفيهم نزل قوله تعالى: "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" كما يأتي فأقرهم عليه الصلاة والسلام على التجريد وترك الأسباب, حيث علم منهم عدم التشوف للأسباب, والرضا بما قسم الله لهم, وبما يواجههم به سبحانه من سعة أو ضيق, ومن تشوف منهم أمره بالأسباب, مثل حكيم بن حزام رضي الله عنه, فإنه سأله فأعطاه ثم سأله فأعطاه ثم سأله فأعطاه, ثم قال له يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه, ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه, وكان كالذي يأكل ولا يشبع, ثم قال له: لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه". الحديث, فدله عليه الصلاة والسلام على التسبب لما تشوفت نفسه للأسباب, بدلًا عن المسألة, إذ هي آخر كسب المؤمن, بخلاف غيره, إذ لم يتشوف, ولذلك قال الخواص رضي الله عنه: ما دامت الأسباب في النفس قائمة, فالتسبب أولى, والأكل بكسب أحل له, لأن القعود عن المكاسب لا يصلح لمن لم يستغن عن التكليف. ثم وصف حالهم ليقتدى بهم, فقال: كانوا على التجريد عاملين ..... وعن سوى الرحمن معرضين قلت: التجريد هو: التعرية عن الشيء, يقال: فلان جرد ثوبه: أزاله, وجردت الجلد: أزلت شعره, هذا باعتبار اللغة. وأما عند الصوفية فهو على ثلاثة أقسام, تجريد الظاهر فقط, أو الباطن فقط, أو هما معاً, فتجريد الظاهر هو: ترك الأسباب الدنياوية وخرق العوائد النفسانية الجسمانية, والتجريد الباطني هو: ترك العلائق النفسانية والعوائق الوهمية, وتجريدهما معاً وهو: ترك العلائق الباطنية والعوائد الجسمانية. أو تقول: تجريد الظاهر هو: ترك كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله, وتجريد الباطن هو: ترك كل ما يشغل القلب عن الحضور مع الله, وتجريدهما هو: إفراد القالب والقلب لله, والتجريد الكامل في الظاهر هو: ترك الأسباب, وتعرية البدن من معتاد الثياب, وفي الباطن هو تجريد القلب من كل وصف ذميم, وتحليته بكل وصف كريم, فأشار الناظم إلى الأول وهو: تجريد الظاهر بقوله "كانوا" أي أهل الصفة "على التجريد" الظاهر "عاملين" ورفعوا همتهم إلى رب العالمين, فقنعوا بما تيسر من القوت, وما يستر العورة من الثياب, منها ما يبلغ الركبة, ومنها دون ذلك, كانوا يقولون للنساء في الصلاة: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال قعوداً, خشية أن يرين عورة أهل الصفة من قصر الثياب, ومنهم من لبس إهاب كبش: أي جلده, وهو مصعب بن عمير, فلما رآه عليه الصلاة والسلام: بكى, وقال: "انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه فقد رأيته بمكة بين أبويه يختال في حلة قد اشتريت له أو اشتراها بمائتي درهم فما زال به حب الله ورسوله حتى صيره إلى ما ترون" رواه البيهقي كما في المنذري, ورواه في كتاب الزهد عن الترمذي أيضاً, فهذه كانت أحوال أهل الصفة, خيار هذه الأمة, وهذه كانت سمة نبينا صلى الله عليه وسلم. فقد دخل سيدنا عمر رضي الله عنه عليه صلى الله عليه وسلم فرأى الشريط قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم, فبكى عمر رضي الله عنه لما رأى كما في البخاري ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي واليوم صار هذا بدعة عند الناس, وصار التأنق في اللباس وتكبير العمائم وجماع المال سنة, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ويرحم الله القائل: يا حسبي الله ما للناس أكثرهم ..... قد أنكروا الزهد والتجريد والورعا سموا طريق أولى التوفيق صعلكة ..... وسنة لقبوا الأهواء والبدعا و"سنة" مفعول مقدم للقبوا. وقول الناظم "وعن سوى الرحمن معرضين" أي وكانوا عن سوى الرحمن معرضين, لا يلتفتون إليه, ولا يتعلقون به, اكتفاء بالله واستغناء بعلمه رضي الله عنهم ونفعنا بهم, ثم أشار إلى الثاني وهو التجريد الباطني, فقال: تخلقوا بخلق النبي ..... يدعون بالغداة والعشي قلت: تخلق كذا: تطبع به, والخلق بضمتين: السجية والطبع. يقول رضي الله عنه: إن أهل الصفة رضي الله عنهم, تخلقوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم يعني قاربوا من خلقه عليه الصلاة والسلام, وإلا فلا يمكن التخلق بخلقه عليه الصلاة والسلام على الوفاء والتمام, كيف والله تعالى يقول: "وإنّك لعلى خلقٍ عظيم" فقد حاز عليه الصلاة والسلام مراتب الكمال على الوفاء والتمام, حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن" واحتشمت أن تقول: "كان خلق الرحمن" أدباً مع الحضرة, ووقوفاً مع الحكمة, فذكرت ما يليق بآداب العبودية, واحتشمت من أخلاق الربوبية, فقد أعطى عليه الصلاة والسلام الغاية من: الزهد, والورع والخوف, والرجاء, والصبر والتوكل, والتسليم, والمحبة, والرحمة, والشفقة, والحلم, والكرم, والشجاعة, وكمال العقل, وتمام المعرفة, إلى ما لا يحصى؛ وكان أهل الصفة أشبه الناس به في هذه الأخلاق. قوله يدعون ربهم أشار به إلى قوله تعالى في حقهم لرسوله صلى الله عليه وسلم: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه, ولا تعد عيناك عنهم". وسبب نزول الآية أن الكفار قالوا: لا نرضى أن نجالسك مع هؤلاء فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم مجلساً يخصهم به, ثم يجالس الفقراء بعد ذلك, فنزلت الآية. قال بعضهم: هو أمر إرشاد وتزكية, ونهى تنبيه وترقية, ليكون محجة لقوم؛ وحجة على قوم, وهذا كنهي البار عن العقوق, وأمره بالبر ليكون أثبت وأوفى وأتم في الحجة, وإظهاراً لتشريف قدر هذه الجماعة, وما هم عليه من محامد الخلال, وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لا يعمل إلا ذلك قبل الأمر وبعده, ثم ما وصفهم به مولاهم من الدعاء بالغداة والعشي غير معلل بعلة سوى إرادة وجهه الكريم, أي معرفة ذاته المقدسة: لا يعرجون على ثواب ولا جزاء ولا قصور, ولا حور, وبهذا كله تحققت الصوفية رضي الله عنه, كما فهموا ذلك من أخلاق نبيهم صلى الله عليه وسلم وما كان يدل عليه, وإلى ذلك أشار بقوله: قد فهموا مقتضيات الشرع ..... فصيروا الفرق لعين الجمع قلت: مقتضى الشيء, مطلوبه, واقتضى دينه, طلبه والشرع, والشرعة, بالكسر: ما شرعه الله لعباده من الأحكام, والفرق عند الصوفية, هو: شهود حق بلا خلق, وجمع الجمع هو: شهود خلق بحق. الفرق شريعة: والجمع حقيقة, الفرق شهود الحكمة, والجمع شهود القدرة, وجمع الجمع: شهود حكمة وقدرة. قد خرجوا لله عما اكتسبوا ..... فكل صوفي إليهم ينسب إذن فشأن القوم ليس محدثا ..... بل كان أحوى فوجدناه غثا فاسلك طريق القوم تلق يمنه ..... إذ الكتاب قيده والسنة يقول رضي الله تعالى في وصف أهل الصفة: إنهم تركوا الدنيا لأهلها, وانقطعوا إلى الله بالكلية, وقد فهموا ذلك من مطلوبات الشرع ومقتضياته, إذ قد سمعوا كلام ربهم وأحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذم الدنيا والاشتغال بها, ومدح التفرغ للعبادة والاجتهاد فيها, وما أعد الله فيها للزاهدين والقانتين, فتركوا الأسباب التي هي شريعة الضعفاء, وتمسكوا بالتجريد الذي هو شريعة الأقوياء, وحقيقة الأصفياء, فصيروا الفرق الذي هو الاشتغال بالأسباب لعين الجمع, الذي هو الاشتغال بمسبب الأسباب. فالنظر للأسباب فرق. والنظر لمسبب الأسباب جمع وهذا كقول الشيخ أبي العباس رضي الله عنه: للناس أسباب وسببنا الإيمان والتقوى. قال الله تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا". فمقتضى الشرع للعبد أن يكون جامعاً بين حقيقة وشريعة, أعني شريعة الخواص التي هي لب الشريعة. لا شريعة العوام التي هي القشر, وإذا كان جامعاً, فيكون في ظاهره ممتثلًا لأمره, وفي باطنه مستسلماً لقهره يدعوه لكونه لا يرى الأمر إلا منه وله, ويقوم بواجبات وقته لكونه مطلوباً بوظائف حكمته, عاملاً بقوله: إياك نعبد وإياك نستعين فإياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع, وشهود الجمع في عين الفرق, هو جمع الجمع, وهو الصراط المستقيم الذي طلب الهداية إليه. وبالله التوفيق فهو الهادي إلى سواء الطريق. ولما ذكر أن أهل الصفة صيروا الفرق عين الجمع, ذكر ما يترتب عليه من الخروج عن كل شيء, والغنى بالله في كل شيء.
* * * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:08 pm
الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته
شرف علم التصوف وفضيلته
اعلم أن شرف الشيء وفضيلته, إما أن تثبت بالعقل أو بالنقل أو بظهور ثمرته في الخارج, وقد اجتمعت هذه الأمور في علم التصوف على الكمال: أما ثبوت شرفه بالعقل, فلا شك أن الشيء يشرف بشرف موضوعه وواضعه, وقد تقدم: أن موضوع هذا العلم, الذات العلية, وهي أشرف وأفضل على الإطلاق, وواضعه الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو أفضل الخلق بالإجماع, وأيضا العقل السليم: يستحسن الكمالات, ولا شك أن التصوف ما وضع إلا لتحقق الكمالات: علما؛ وعملا, وحالا, فهو موضوع لتكميل العقائد وتطهير النفوس وتحسين الأخلاق. وأما ثبوت شرفه بالنقل, فلا شك أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة وردت بمدح جزئياته ومسائله, كالتوبة, والتقوى, والاستقامة, والصدق, والإخلاص, والطمأنينة, والزهد, والورع, والتوكل, والرضا, والتسليم, والمحبة, والمراقبة, والمشاهدة, وغير ذلك من مسائله. وقال الجنيد رضي الله عنه: لو نعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه ما تبلغ إليه المطي, وفي رواية "ولو حبوا". وقال الشيخ الصقلي رضي الله عنه في كتابه المسمى "بأنوار القلوب في العلم الموهوب": كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة, وكل من فهمه, فهو من خاصة الخاصة, وكل من عبر عنه وتكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا يرتقي. وما من علم إلا وقد يستغني عنه في وقت ما, إلا علم التصوف, فلا يستغني عنه أحد في وقت من الأوقات. وأما شرفه باعتبار ظهور ثمراته, فهو الذي تكلم عليه الناظم في هذا الفصل, وحصره في ستة أمور: الأول: ما ظهر على أهله من شدة الاقتداء وقوة الاتباع. الثاني: ما ظهر عليهم من وفاق مذهبهم, وحسم الخلاف والنزاع بينهم. الثالث: ما ظهر عليهم من الكرامات الحسية والمعنوية. الرابع: ما ظهر عليهم من تطهير جوارحهم من الذنوب, ونفوسهم من العيوب في الغالب. الخامس: ما ظهر عليهم من تحقيق عقائد الإيمان, وترقيهم فيها إلى مقام الإحسان, مع صحة اليقين والثقة برب العالمين. السادس: ما كوشفوا به من العالم الروحاني, وما ترقوا إليه من عالم الملكوت, وحضرة الجبروت, وهذا مضمن هذا الفصل, فأشار إلى الأول بقوله: حجة من يرجح الصوفية على غيرهم
حجة من يرجح الصوفية ..... على سواهم حجة قوية قلت: وإنما كانت حجة من يرجح الصوفية على غيرهم حجة قوية, لأنهم أحرزوا الكمالات: عقلا وعملا, وحالا, أما اعتقادهم فترقوا فيه إلى الشهود والعيان, وأما عملهم فهم يأخذون بالأحسن والأحوط, فهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأما حالهم فهي: ربانية ذوقية, فهم على بينة من ربهم. ثم ذكر ترجيحهم وشرفهم باعتبار ما ظهر عليهم من ثمرات علمهم, وهي ستة كما تقدم فأشار إلى الأول, وهي شدة الاقتداء والمتابعة فقال: هم اتبع الناس لخير الناس ..... من سائر الأنام والأناس قلت: الأنام, والأناس, شيء واحد, وهم الناس؛ سموا الأنام, لغلبة النوم لهم؛ وسموا الناس؛ لأنس بعضهم ببعض. يقول رضي الله عنه: "هم أي الصوفية أتبع الناس" وأكثرهم اقتداء بسيد الناس صلى الله عليه وسلم فدل على أنهم أحب الخلق إلى الله. قال تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه؛ وماله, وولده, والناس أجمعين" وعلامة المحبة الاتباع. وقال بعضهم: التصوف ذكر مع اجتماع, ووجد مع استماع؛ وعمل مع اتباع. ثم ذكر وجه كونهم أشد الناس اتباعا, فقال: تبعه العالم في الأقوال ..... والعابد الناسك في الأفعال وفيهما الصوفي في السباق ..... لكنه قد زاد بالأخلاق قلت: الناس ثلاثة: عالم, وعابد, وعارف صوفي, وكلهم قد اخذوا حظا من الوراثة النبوية, فالعالم ورث أقواله عليه الصلاة والسلام تعلما وتعليما, بشرط إخلاصه, وإلا خرج من الوراثة بالكلية, إذ الأعمال بلا إخلاص, أشباح بلا أرواح؛ ومن ورث من أبيه جارية ميتة, فليس بوارث, والعابد ورث أفعاله عليه الصلاة والسلام, من: صيام وقيام, ومجاهدة ظاهرة, فقد قام عليه الصلاة والسلام حتى تورمت قدماه, وكان يصوم كثيرا ويفطر كذلك, والصوفي العارف ورث الجميع, فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم, وقد يتبحر فيه, ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال, ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من: زهد وورع, وخوف, ورجاء, وصبر, وحلم, وكرم, وشجاعة, وقناعة, وتواضع, وتوكل, ومحبة, ومعرفة, وغير ذلك مما يطول ذكره, ولذلك قال سهل رضي الله عنه: الصوفي من صفا من الكدر, وامتلأ من الفكر, وانقطع إلى الله دون البشر, واستوى عنده المال والمدر. وقد خص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يشاركه أحد فيها, فكان له القوة في الجهتين, فمن نظر في عبادته وجده لا يطاق, ومن نظر في أخلاقه الباطنة وجده لا يدرك, ومن نظر في معرفته وجده لا يلحق ولا يقرب أحد حول حماه, فكان عليه الصلاة والسلام على مقام: لا يدرك, ولا يلحق, ولا يعرف. وانظر قول الشيخ القطب ابن مشيش رضي الله عنه: "وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق, وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق" ولن ينال أحد من العلماء والعباد والصوفية من علمه عليه الصلاة والسلام أو عمله أو خلقه إلا رشفة أو رشة, ولله در البوصيري في بردة المديح, حيث يقول: وكلهم من رسول الله ملتمس ..... غرفا من البحر أو رشفا من الديم وواقفون لديه عند حدهم ..... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم ثم ذكر الأمر الثاني, وهو اتفاق مذهبهم, واتحاد غاية طريقهم. والأمر الثالث وهو ما ظهر عليهم من الكرامات فقال: ثم بشيئين تقوم الحجة ..... وأنهم قطعا على المحجة مذاهب الناس على اختلاف ..... ومذهب القوم على ائتلاف وما أتوا فيه بخرق العادة ..... إذ لم تكن لمن سواهم عادة
قلت: الحجة هي الدليل والبرهان, والمحجة هي الطريق المستقيم, والائتلاف هو الاتفاق. يقول رضي الله عنه: ثم تقوم الحجة الدالة على أنهم على المحجة والطريق المستقيم بشيئين: أحدهما أن مذاهب الناس على اختلاف كثير, فقد كانت مذاهب الفقهاء في الفروع اثني عشر مذهبا, ثم تقررت في أربعة. كانت مذاهب القراء خمسة وعشرين رواية, ثم تقررت في عشرة, وكانت مذاهب النحاة على مذهبين, بصري, وكوفي, بخلاف مذهب الصوفية, فهي متفقة في المقصد والعمل وإن اختلفت المسالك, فهي راجعة إلى صدق التوجه إلى الله تعالى من حيث يرضى بما يرضي وعبارة كل واحد على قدر ما نال منه, إذ كل عبارة فيه إنما هي مخبرة عن صدق توجه صاحبها؛ وكل من له نصيب من صدق التوجه: له نصيب من التصوف, إذا كان توجهه يرضاه الحق, ومن حيث يرضاه, وإلا فهو زنديق, واسم التصوف عليه لا حقيقة له, فلذلك قيل: "من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق, ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق, ومن جمع بينهما فقد تحقق" وإنما تزندق الأول لرفضه الحكمة والأحكام, وتفسق الثاني لخلوه من صدق التوجه فيما هو فيه, وتحقق الثالث لقيامه بكل في محله, فمرجع كلام الصوفية في كل باب لأحوالهم, وتفسق الثاني لخلوه من صدق التوجه فيما هو فيه, وتحقق الثالث لقيامه, بكل في محله, فمرجع كلام الصوفية في كل باب لأحوالهم, وإلا فلا تنافي بين أقوالهم لمن تأملها, وذلك خلاف مذهب غيرهم, والوجه فيه أن الحق واحد وطريقه واحدة, وان اختلفت مسالكها, فالنهاية واحدة, والذوق واحد, وفي معنى ذلك قال قائلهم: الطرق شتى طريق الحق مفردة ..... والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تسلك مقاصدهم ..... فهم على مهل يمشون قصاد والناس في غفلة عما يراد بهم ..... فجلهم عن طريق الحق حياد فان قلت: قد ورد مدح الاختلاف وذم الائتلاف فقد ورد في بعض الآثار "اختلاف أمتي رحمة" وقال بعضهم:ما دامت الصوفية بخير ما تنافروا, فإذا اتفقوا فلا خير فيهم. قلت: أما مدح الاختلاف فهو محمول على الاختلاف في الفروع, كاختلاف الأئمة في المذاهب, فان في ذلك توسعة على الأمة, إذ كل من تمسك بمذهب فهو ناج, ما لم يتبع الرخص, وكذلك اختلاف الروايات في القراءة, فهي توسعة أيضا على القارئ, بخلاف الاختلاف في الأصول, فهو مذموم, كاختلاف القدرية والجبرية والحشوية وغير ذلك من الاختلاف في التوحيد, ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع. أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان, وهم متفقون فيه, لأنه أمر ذوقي لا يختلف. وأما الفروع فهم يأخذون بالأحوط, والأكابر منهم يخرجون عن التقليد, ويتمسكون بالكتاب والسنة في نفسه, وان كان جلهم قلدوا في الفروع, فكان الجنيد على مذهب أبي ثور, والشبلي: مالكيا والجيلاني, حنبليا, إلى غير ذلك. وأما قول من قال: "ما دامت الصوفية بخير ما اختلفوا" فمراده اختلاف تنبيه وإرشاد فكل واحد يرشد صاحبه وينبهه إذا رأي فيه نقصا وعيبا, فإذا اتفقوا وسكتوا على عيوبهم فلا خير فيهم, وقد يحمل ذلك على حال مذاكراتهم في العلوم, فقد قالوا فيهم: "ألسنتهم حادة, وقلوبهم سالمة" ولا شك أن حال المذاكرة لا ينبغي فيها التسليم في كل شيء, إذ لا تخرج العلوم إلا بالحك والبحث والتفتيش. قال بعضهم, نحن في حال المذاكرة بحال من قال: "حك لي نربل لك" لا بحال من قال: "سفج لي: نعسل لك" هكذا سمعتها من شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه, وكان يقول لي: لا تسلم لنا في حال المذاكرة, وكان أيضا يقول: المستحي, والمتكبر والخواف, لا يأخذ من طريقتنا شيئا, والله تعالى أ علم. وأما الأمر الثاني الذي تقوم به الحجة فهو: خرق العادة التي ظهرت على أيديهم, وتسمى: الكرامة, وقد تقدم تنويعها إلى حسية ومعنوية, وأن المعتبر هي الكرامة المعنوية, وهي الاستقامة, وأما الكرامة الحسية فإن صحبتها الاستقامة فهي كرامة شاهدة على صدق صاحبها مع الله وإن لم تصحبها استقامة, فهي: استدراج ومكر. قال بعضهم: خرقي العادة كرامة للمبتدع, والمبتدع هو المغروق في الدنيا وأشغالها إلى عنقه, ولو كثرت صلاته وصيامه. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بمزيد الإيقان وشهود العيان, وكرامة العمل على السنة والمتابعة وترك الدعاوى والمخادعة, فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب, أو ذو خطأ في العلم والعمل بالصواب, كمن أكرم بشهود الملك على الرضا, ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع المرضى. وكرامة الأولياء قد بلغت مبلغ التواتر, فلا تحتاج إلى دليل, والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى الأمر الرابع, وهو تطهير جوارحهم من الذنوب, وقلوبهم من العيوب فقال: قد رفضوا الآثام والعيوب ..... وطهروا الأبدان والقلوب قلت: لا شك أن الصوفية رضي الله عنهم قد رفضوا الذنوب, أي نبذوها وراء ظهورهم ورفضوا العيوب, أي: طهروا قلوبهم منها, وسبب تطهيرهم من الذنوب والعيوب تطهيرهم من أصلها ورأسها. أما أصلها, فالخلطة مع الغافلين الجاهلين, فمن خالط العوام وظن أنه ينجو من الآثام فقد رام المحال, كمن خلط الحطب مع النار, وظن أنه ينجو من الاحتراق. وأما رأسهما فحب الدنيا الساكن في القلوب. ففي الحديث: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" رواه البيهقي في الشعب من مراسيل الحسن. وقيل هو: من كلام مالك بن دينار. وقيل: من كلام سيدنا عيسى عليه السلام. وقيل: من كلام علي كرم الله وجهه. وعده بعضهم في الموضوعات, ورده ابن حجر, فالله تعالى أعلم. وعلى كل حال فهو كلام صحيح في المعنى مجرب مذوق فمن طهر قلبه من حب الدنيا ورياستها ومالها واعتزل عن الحسد فالغالب سلامة قلبه من العيوب, وطهارة جوارحه من الذنوب, وما تشعبت عيوب القلوب إلا منها, إذ عليها يقع الحسد والبغض والغل والخصام والفجور, وبها يقع الكبر, وحب الرياسة, والنفاق, والتصنع للخلق, وبها أيضا يقع: البخل, والشح, والجبن, وغير ذلك من العيوب, وكذلك الذنوب, كالكذب والأيمان الفاجرة, وسوء الخلق وغير ذلك, ويرحم الله الإمام الشافعي رضي الله عنه حيث قال: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ..... وسيق إلى عذبها وعذابها فلم أرها إلا غرورا وباطلا ..... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها وما هي إلا جيفة مستحيلة ..... عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجنبتها عشت سلما لأهلها ..... وإن تجتذبها ناهشتك كلابها فطوبى لنفس أوطنت قعر بيتها ..... مغلقة الأبواب مرخي حجابها وقوله: "وطهروا الأبدان والقلوب" تفسير لما قبله على طريق اللفظ, والمعنى وطهروا الأبدان من الآثام والذنوب, وطهروا القلوب من المساوئ, والعيوب, فلما حصل لهم هذا التطهير المجيد لاح لهم قمر التوحيد. فأسلموا الأمر إلى مولاهم ورجعوا إلى من قد تولاهم عملا بقوله: "ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور". فلما تحققوا بذلك وقفوا في رياض الإحسان, وأشرقت عليهم شموس العرفان, وأضاءت لهم أنوار المواجهة والعيان. هذه المنازل الثلاث هي التي ينزلها المريد ويرتحل عنها. منزل الإسلام, وهو محل تطهير الجوارح الظاهرة من الذنوب وتحليتها بطاعة علام الغيوب. ومنزل الإيمان, وهو محل تطهير القلوب من المساوئ والعيوب, وتحليتها بمقامات اليقين, لتتهيأ لحمل معرفة رب العالمين. ومنزل الإحسان, وهو محل الشهود والعيان. قال بعض العارفين رضي الله عنه: من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل, ومن بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل, ومن بلغ إلى حقيقة الإحسان لم يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى الله تعالى, وإلى هذه المراتب أشار بقوله: وبلغوا حقيقة الإيمان ..... وانتهجوا مناهج الإحسان
قلت: وهذا هو الأمر الخامس الذي ظهر به شرف أهل التصوف وفضيلتهم, وأنهم بلغوا إلى حقيقة الإيمان وصريحه, بتحقيق دعائمه وأركانه, التي من جملتها الإيمان بالقدر: خيره وشره, حلوه ومره, فقد استوى عندهم وقت الخير ووقت الشر, ووقت الحلو مع وقت المر, قد استوى عندهم الذل والعز؛ والذم والمدح, والمنع والعطاء؛ والقبض والبسط وغير ذلك من اختلاف الآثار وتنقلات الأطوار, وذلك لأجل ما حصل لهم من مقام الرضا والتسليم, وكمال المعرفة وخلوص اليقين. وقوله: "وانتهجوا مناهج الإحسان" أي سلكوا طريق الإحسان الموصلة إلى الشهود والعيان, ولذلك افتقروا إلى دليل يكون عارفا بالمنازل والمناهل, قد سلك الطريق وعرفها حتى يوصلهم إلى مطلوبهم, ويقول لهم ها أنتم وربكم, وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. ثم أشار إلى الأمر السادس, وهو ترقيهم من عالم الملك إلى عالم الملكوت, أو تقول من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح, فقال: وعلموا مراتب الوجود ..... كالأم والوالد والمولود واستشعروا شيئا سوى الأبدان ..... يدعونه بالعالم الروحاني قلت مراتب الوجود هي: العوالم الثلاثة: الملك, والملكوت, والجبروت, وذلك أن الوجود له ثلاثة اعتبارات. وجود أصلي أزلي وهو الذي لم يدخل عالم التكوين, ويسمى عالم الأمر, وعالم الغيب, وهو المسمى بعالم الجبروت. ووجود فرعي, وهو النور المتدفق من بحر الجبروت "وهو كل ما دخل عالم التكوين: لطيفا كان أو كثيفا, ويسمى عالم الشهادة وعالم الخلق, وهو المسمى: بعالم الملكوت لمن غرق فيه وجمعه بأصله". ووجود وهمي, وهو محل ظهور التصرفات الإلهية, ومقتضى الأسماء الجلالية والجمالية ويسمى عالم الحكمة؛ وهو عالم الملك. وقال بعضهم: العوالم أربعة: عالم الشهادة, وعالم الغيب, وعالم الملكوت, وعالم الجبروت. فالأول كالكثائف المحسوسة, والثاني كاللطائف الغيبية, كالجن والملائكة والأرواح, وهذا كله داخل في عالم الملك, والثالث وهو عالم الملكوت, هو جمع لهذه الأشياء, وضمها إلى أصلها, وتحقيق الشهود فيها, والرابع الذي هو الجبروت, هو العظمة الأصلية اللطيفة الأزلية قبل ظهورها, وفي هذه المراتب يقع الترقي للسائرين, فيترقون من عالم الملك الذي هو وهمي ظلماني حسي, إلى عالم الملكوت الذي هو نوراني ملكوتي, ثم يترقون إلى عالم الجبروت الذي هو أصل أزلي, فإذا ضموا الأصول إلى الفروع صار الجميع جبروتا, وهذا هو العالم الروحاني الذي أشار إليه بقوله: "واستشعروا شيئا سوى الأبدان". وقوله: "كالأم" الخ يعني أنهم عرفوا مراتب الوجود الثلاث, وفرقوا بين: الملك والملكوت, والجبروت, تفريقا ضروريا كما يفرق الرجل بين ولده, وأمه وأبيه, ويحتمل أن يكون التشبيه من حيث الإيجاد والظهور, فإن عالم الجبروت سبب في ظهور عالم الملكوت "فهو أشبه شيء بالوالد, وعالم الملكوت هو محل استقرار الصفات, كالقدرة والإرادة, والعلم, والحياة, التي هي سبب في إظهار آثارها لعالم الملك, فهو أشبه بالأم في تربية الولد قبل الظهور وبعده, وعالم الملك هو محل ظهور التصرفات الإلهية وآثار القدرة الأزلية, فهو أشبه شيء بالولد لظهوره بينهما, وربما يلوح حديث الخلق عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله رواه أبو يعلى, والبزار, عن أنس ولفظه: "الخلق كلهم عيال الله, وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" والله تعالى أعلم بالصواب. وقوله: "واستشعروا شيئا سوى الأبدان" الخ. أعلم أن عالم الأشباح هو عالم الملك, وعالم الأرواح هو عالم الملكوت, ومحلهما واحد, إذ ليس لنا إلا وجود واحد, لكن النظرة تختلف باختلاف الترقي في المعرفة, فما ذام العبد مسجونا بمحيطات حسه, محصورا في هيكل نفسه, فهو مقيم في عالم الأشباح, محصور في عالم الملك, لم تفتح له ميادين الغيوب, لم يفرق بين روحانية وبشرية, ولا بين حسه ومعناه فإذا فتح الله بصيرته وغاب عن حسه ونفسه, وفلسه وجنسه, رأى نور الملكوت قد فاض من بحر الجبروت, فحجب شهود ذلك النور عن ظلمة الحس, وعن رؤية الكون, بشهود المكون, فالكون أصله كله نور, وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه, فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه أو قبله أو معه, فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار, فإذا ضم النور إلى أصله صار الجميع نورا واحدا, وهو نور الجبروت, أو سر اللاهوت, فقد علمت أن الملك, والملكوت, والجبروت, محلها واحد, وكذلك عالم الأشباح وعالم الأرواح, محلهما واحد, فأهل الحجاب لا يرون إلى عالم الأشباح, وأهل العرفان, وهم أهل مقام الإحسان لا يرون إلا عالم الأرواح, مع أن المحل واحد لكن لما رق حجابهم, وتلطفت بشريتهم, استشعروا شيئا زائدا على عالم الأشباح, وهو عالم الأرواح, ويسمى عالم المعاني والعالم الروحاني, وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند قوله: لم يتصل بالعالم الروحاني ..... من عمره على الفضول عانى وعند قوله: مهما تعديت عن الأجسام ..... أبصرت نور الحق ذا ابتسام والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى أن هذه المعاني لا تدرك بالعقول, وإنما هي أذواق يلغز إليها بإشارات المقول, فقال: ثم أمام العالم المعقول ..... معارف تلغز في المنقول قلت: اعلم إن النفس, والعقل, والروح, والسر, كل واحد منها له حد ينتهي إليه في العلم والإدراك, على ما يأتي بيانه إن شاء الله عند قوله: يا جاهلا أقصى الكمال وقفا ..... على عقول وهمها لا يخفى فشهود أنوار الملكوت وأسرار الجبروت, وهي علوم المعارف, أمر خارج عن مدارك العقول, فهو أمام العالم المعقول, أي وراءه وقدامه: لا مطمع له في إدراكه, وقد تقدم قول ابن الفارض. فثم وراء النقل علم يدق عن ..... مدارك غايات العقول السليمة وقال أبو العباس رضي الله عنه: لو عاينت عيناك يوم تزلزلت ..... أرض النفوس ودكت الأجبال لرأيت شمس الحق يسطع نورها ..... يوم التزلزل, والرجال رجال قال: والأرض: أرض النفوس والجبال: جبال العقل. قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: "فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا" أي تجلى لجبل العقل دكا أي مضمحلا "وخر موسى صعقا". أي زال وجوده بوجود خالقه, والمتجلي فيه. والحاصل: أن شموس العرفان لا تدرك بعقل ولا حدس ولا برهان, وإنما تدرك ببيع النفوس وبذل الأرواح, وبالخروج عما تعهده النفوس وتحيط به العقول, فإذا صح منك هذا الخروج, أدركت أنوار الملكوت متصلة ببحر الجبروت وصرت لا يحجبك عن الله أرض ولا سماء, ولا عرش ولا كرسي, ولا أفلاك ولا أملاك, وصرت أنت قطب الوجود تدوره بيدك كيف شئت, خليفة الله في أرضه, ونقطة دائرة كونه, والله ذو الفضل العظيم وإلى هذه المعارف أشار بقوله: ثم أمام العالم المعقول ..... معارف تلغز في المنقول وأشار بقوله: "تلغز" الخ إلى أن هذه المعاني ليست صريحة في كلام الله, وإنما هي من باب الإشارة واللغز, وكذلك قيل في قوله تعالى: "إذا زلزلت الأرض زلزالها" أي أرض النفوس, "وأخرجت الأرض أثقالها" أي ما فيها من العلوم والحكم والأسرار "وقال الإنسان ما" متعجبا من حال تلك النفس "مالها، يومئذ تحدث أخبارها" تظهر أسرارها ومواهبها, وهذه كلها إشارات والغاز, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن" وقف بعضهم هنا وجعل "تراه" جوابا, أي فان تحقق زوالك, ولم تكن شيئا تراه, وهذه الأمور كلها إلغازات وإشارات لا يسلمها أهل الظاهر, وإنما يذوقها أهل الباطن, ويلغزون بينهم بها, وقد قالوا: علمنا كله إشارة, فإذا صار عبارة خفي, ثم أن هذه الأمور إنما هي كشوفات تشرق على الأرواح والأسرار, تكون لوائح ثم لوامع, ثم طوالع, ثم يتصل الشروق, ويدوم النور, حتى يقع الرسوخ والتمكين؛ وإلى ذلك أشار بقوله: وعلموا أن لهم تمكينا ..... يرقى بهم مرقى المكاشفينا قلت قد علموا أن دوام السير قطعا يؤدي إلى الوصول, وحال التلوين لا بد يوصل إلى التمكين, فإذا ترقوا إلى مقام التمكين فقد وصلوا إلى مقام لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقينا بل قد انكشف الغطاء, لكن مراتب الكشف لا نهاية لها, "وقل رب زدني علما" ولما علموا بمقام التمكن, علموا أن لهم موانع تمنعهم من الوصول إليه. كما أشار إلى ذلك بقوله: ثم رأوا أن دون ذاك مانع ..... كدفتر نيط عليه طابع فالقوم حين علموا بذاكا ..... وميزوا القطاع والأشراكا سلوا من العزم لهم قواضب ..... فأنبت كل قاطع وحاجب فاحتزموا للطعن والنزال ..... وابتدروا ميادين القتال قلت الدفتر: الكتاب, وأراد به هنا الحرز والتميمة, ونيط: أي لف, وغشى الطابع بفتح الباء كالقالب والكاغد والخاتم, والعالم والنابل والطابق, وألفاظ أخرى تبلغ خمسة وعشرين كلمة, كلها بفتح عين الكلمة, نظمها ابن مالك, والأشراك جمع شَرَكَ وهي الشبكة, والقواضب, جمع قاضب, وهو السيف الصارم, والنزال هو: شدة الحرب, وذلك أن العرب إذا اشتد بينهم الحرب نزلوا عن خيولهم ليقاتلوا بالسيوف, والميادين مجال الخيل استعير هنا لمجاهدة النفوس ومحاربتها. يقول رضي الله عنه: إن القوم لما شعروا بالحقيقة كامنة في نفوسهم, وكوشفوا بها, علموا أنهم إن تمكنوا من الوصول إليها والرسوخ فيها حصل لهم كشف الغطاء, وارتفعت الحجب عن قلوبهم, فكانوا على بينة من ربهم, ثم رأوا أن مقام التمكين دونه موانع وقواطع, تمنعهم من الوصول إلى ذلك المقام, وهذه الموانع هي التي غطت القلوب وغلفتها وحجبت الأرواح عن الكشف عن أصلها, فصار القلب والروح كحرز مكتوب: لف عليه غشاء وطبع عليه طابع, فلا يظهر ما في باطنه حتى يخرق ذلك الطابع والغشاء الذي غشي عليه, وهذا الطابع الذي جعله الله بحكمته وعدله حاجبا للقلوب عن أسرار الغيوب, هو عالم الطبيعة, وهي شهوات النفوس وعوائدها التي امتزجت معها, وعجنت بطينتها في أصل النشأة وهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين" الآية فاشتغلت الروح بتدبير هذا البدن لجهلها, فصرفت همتها لمأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه, وما يتبع ذلك من الشواغل والشواغب, فعيقت عن أصلها, ومنعت من شهود أنوار ربها, إلا من أسعده الله بولايته, وسبقت له سابقة عنايته, فلما علم القوم بهذه القواطع التي قطعتهم عن الوصول إلى ربهم, وميزوا هذه القطاع والشباكات التي حبستهم في قيودها, وهي علائق الدنيا وعوائقها, سلوّا من هممهم العالية سيوفا, وعزموا على قطع تلك العلائق, ورفضوا تلك الشهوات, فلما علقوا هممهم بالله, وانقطعوا بكليتهم إليه "انقطعت تلك العلائق, وارتفعت تلك الحجب, فاحتزموا وشمروا للطعن في تلك العلائق, ونزلوا لمحاربة النفوس وردها إلى حضرة الملك القدوس, حتى ألقت السلاح, وأذعنت لطاعة الكريم الفتاح. قال بعضهم: انتهى سير الطالبين إلى الظفر بنفوسهم, فإن ظفروا بها وصلوا, وهذه مسايرة كلام الناظم, وفيه تقديم وتأخيره, فإن قطع العلائق ورفع الحجب مؤخران عن محاربة النفوس, فقول الناظم: "فانبت كل قاطع وحاجب" مرتب على ما بعده من الطعن والنزال, وابتدار ميادين القتال, والأمر قريب. ولو قال لكل قاطع وحاجب بلام التعليل كان أحسن, والله تعالى أعلم. ثم بين بعض تلك القواطع، فقال: واعلموا أن ليس شيء قاطع ..... كبدن كاس وبطن سابغ قلت: يعني أنهم تحققوا أن أعظم القواطع هو الاشتغال بهم الظهر والبطن, فمن أراد الله تعالى أن يتركه محجوبا بنفسه يشغل قلبه بتزيين الملابس وتحسين المأكل, وهذا هو الذي حجب جل الناس, فمن قنع من اللباس بما يستر العورة من خشين اللباس, وقنع من الطعام بما يسد الجوع من مطلق الطعام, كان قلبه مجموعا مع الله إن توجه بهمته إلى الله, ومن كان همه ما يدخل بطنه, كان قيمته ما يخرج منها, وفي الحديث: "من ترك ثوب جمال وهو قادر عليه ألبسه الله حلة الكرامة يوم القيامة" وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مسالكه بالجوع". والمقصود من ذلك كله صرف الشواغل التي تحجب عن الله, سواء كانت من قبل اللباس أو الطعام أو غيرهما, ولذلك عم الناظم في البيت الذي بعد هذا, حيث قال: ونظروا الحجاب في البواطن ..... فوجدوه في النفوس كامن فعملوا على جهاد النفس ..... حتى أزالوا ما بها من لبس قلت: هذا الحجاب الذي هو كامن في النفوس, هو حب الهوى, ومرجعه إلى حب السوى. فمنه: ما يكون متعلقا بالظواهر, كحب المال وتزيين الملابس والمآكل والمراكب والمناكح. ومنه ما يكون متعلقا بالبواطن, كحب الخصوصية, وطلب الكرامة, وحب المدح والثناء, وحب الرياسة والظهور, وما ينشأ عن ذلك من الحسد, والكبر, والغل, والغش, والغضب, والقلق, والحرص, والطمع, وغير ذلك من العيوب الباطنية, فكل من جاهد نفسه في التخلية من هذه المساوئ, والتحلية بأضدادها, من: التواضع, والخمول, وسلامة الصدر, وسخاوة النفس والحلم, والتأني, والصبر والرضا, والتسليم, وغير ذلك من الأخلاق الحميدة زال عن نفسه حجاب النفس والتخليط, واكتسى لباس الصفا والوفا, فكان من المقربين الذين يشربون من عين التسنيم المختوم, ويمزج لغيره من أهل اللبس والتخليط, فمن صفا صفى له ومن خلط كدر عليه, فمن شرب اليوم كأس محبة المولى صافيا من الهوى: شرب عين التسنيم صافيا, ومن مزج اليوم بمحبة الهوى, شرب مع العوام من السلسبيل, ولا حظوة له عند الملك الجليل. قال أبو طالب المكي رضي الله عنه: واضر ما ابتلي به العبد في دينه, وأشد ما يحجبه ضعف يقينه, لما وعد بالغيب أو توعد عليه. قال: وقوة اليقين أصل كل عمل صالح. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجاهدة النفوس وتصفيتها بقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم, والمهاجر من هجر من نهى الله عنه, والمجاهد من جاهد نفسه وهواه". وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" وفي معناه قيل: ليس الشجاع الذي يحمي فريسته.....يوم الزحام ونار الحرب تشتعل لكن من غض طرفاً أو ثنى قدماً.....عن المحارم ذاك الفارس البطل وفي الخبر ر""جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"" يعني جهاد النفس. قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه,في شأن النفس: هي التي لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وفي الحكم: ""لو كنت لا تصل إليه إلا بعد محو مساويك وترك دعاويك, لا تصل إليه أبداً, ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه, ونعتك بنعته, فوصلك بما منه إليك لا بما منك إليه"" ثم أشار لاختلاف الفرق في المجاهدة, فقال:
اختلاف الصوفية في المجاهدة والقوم في هذا على فريقين ..... وحكمهم فيه على ضربين ففرقة طريقهم مبنية ..... على العقائد وحسن النية قالوا: فالنفس كالمرآة ..... ينطبع الماضي بها والآت وإنما يعوقها أشياء ..... ترك المحاذاة أو الصداء قالوا: وإن العين قد تغور ..... وإنما يخرجها الحفير قلت أشار إلى أن الناس في الوصول إلى الله تعالى على فرقتين: الفرقة الأولى: نظروا إلى أصل الروح وما كانت عليه من الصفاء والجلاء, كالمرآة الصقيلة,ينطبع فيها كل ما يقابلها من الماضي والآتي. ولكن لما اتصلت بهذا البدن انطبع فيها: صور الأكوان, وغبش الحس, فحجبت عن أصلها. فإنما عاقها عن أصلها أمران. أحدهما: ترك المحاذاة "أي القرب والاتصال بالحضرة" باشتغالها بالغفلة. يعني: أن الروح لما تركت القرب إلى الله, ولم تصرف وجهتها بالكلية إليه تدنست وحجبت عن أصلها. فلو اشتغلت بذكر الله على الدوام, وفنيت عن غيره على التمام, لانصقلت مرآتها, وتجلت فيها حقائق الأشياء: ماضية وآتية. وفي الحديث: "إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد, وإن الإيمان ليخلق "أي يبلى" كما يخلق الثوب الجديد". وفي حديث آخر: "لكل شيء مصقلة, ومصقلة القلوب ذكر الله". وهذا الذكر الذي يصقل القلوب, لا بد أن يكون ذكرا واحدا, بقلب واحد, وهم واحد, وإلا فلا يجدي شيئا. الأمر الثاني الذي يعوق الروح عن أصلها: الصدأ الذي ينطبع فيها, وهي صور الأكوان التي تنطبع في القلب حين يتعلق بها: اعتقادا, أو استنادا, أو اهتماما. وفي الحكم: "كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله, وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته". وقال بعض الحكماء: لا تطمع أن تصفو وبك عيب, ولا تطمع أن تنجو وعليك ذنب. وقالوا أيضا: إن السر الذي منا كان في النفوس, هو كماء العيون, إذا غفل عن تخميلها وتجريتها: غار, وتغطى بالتراب, فلا يخرجه إلى الحفير عليه بالفئوس, كذلك سر الحقيقة كان ظاهرا في الأرواح حين كانت ظاهرة من دنس الحس, أرأيت يوم الميثاق, كلها عرفت الحق وأقرت به, فلما اتصلت بهذا القالب الحسي الكثيف, وتراكمت عليها ظلمة الغفلات والشهوات والعوائد وألفت هذا العالم الحسي, وركنت إليه: حجبت عن ذلك السر, فلا يخرجه إلا الحفير عليه بفئوس المجاهدة والرياضة, وانجماع القلب بالله, والمؤانسة به, ذكرا أو فكرة أو نظرة, وإلا غار السر وغاب وذهب كالسراب. قيل للجنيد: كيف الطريق إلى الحقيقة؟ قال: بتوبة تزيل الإصرار, وخوف يقطع التسويف, ورجاء يبعث على مسالك العمل, وإهانة للنفس بقربها من الأجل وبعدها من الأمل, فقيل له: بماذا يصل إلى هذا؟ فقال: بقلب مفرد, فيه توحيد مجرد. ثم بين كيفية العلاج في ردها إلى أصلها فقال: وأجمعوا أن علاج الأصل..... أقرب للبرء معا والنيل فما إليه أبدا نشير ..... هو علاج النفس والتطهير قلت: العلاج: محاولة إبراء الداء بالدواء لتذهب العلة, ولا ينجح في الغالب إلا بعد معرفة العلة وسببها, والمراد بالأصل: هو علاج الروح, والنيل هو: التحصيل. يقول رضي الله عنه: أجمع الصوفية أن علاج الروح ونيل شفائها من مرضها: أقرب من علاج البدن وشفائه إذا تمكن منه الداء. قلت: وهو كذلك بلا شك, فقد رأيت كثيرا من المرضى: أعني مرض البشرية, يدفع أموالا عريضة, ويحتمي أزمنة طويلة, ولا تنقطع علته, ولقد رأيت كثيرا ممن كان مريض الروح بالمعاصي والذنوب والشكوك, والخواطر, حين ألقاه الله إلى الطبيب شفاه الله في أقرب مدة وأقل حمية. قال الشيخ زروق رضي الله عنه؛ وأصل كل داء جسماني إنما هو فساد المزاج إلى أن يصير فعله وانفعاله على غير المجرى الطبيعي, وأصل كل داء قلبي: إنما هو فساد القصد الذي عنوانه: الرضا عن النفس, حتى يصير فعلها وانفعالها على غير المجرى الشرعي والتحقيقي, بل على وفق الهوى والأوهام الباطلة التي شأنها: ضعف اليقين, ورقة الديانة, وتفصيل ذلك يطول, وسيأتي منه إن شاء الله تعالى في باب التربية. وقوله: "فما إليه أبدا نشير" هو: تصريح بعلاج الأصل المتقدم, يعني: أن هذا العلاج الذي نشير إليه هو علاج النفس من: غفلاتها, وشكوكها, وخواطرها, واهتمامها بالرزق, وأمر الخلق, وتدبيرها, واختيارها, وإنكارها, وجهلها, وسوء أدبها, فإذا برئت من هذه الأمراض, وتطهرت من هذه الأخلاق صلحت للحضرة, ومتعت بالنظرة في سرور ونضرة. ثم ذكر استمرار هذه الطريقة إلى انقراض الدنيا فقال: استمرار هذه الطريقة إلى انقراض الدنيا
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:09 pm
الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وهذه طريقة الإشراق ..... كانت وتبقى ما الوجود باقي
قلت: ذكر أن هذه الطريقة التي ذكرها في هذه الأبيات تسمى: طريق الإشراق, وتسمى أيضا طريق الجلاء والتصفية, لأنها مبنية على تصفية القلوب والسرائر, بتخليها من الرذائل, وتحليتها بالفضائل, فإذا تخلت من الأغيار, والأكدار أشرقت عليها شموس المعارف والأسرار. فرغ قلبك من الأغيار, تملأه بالمعارف والأسرار, ثم ذكر أن هذه الطريقة لا تنقطع ما دام الوجود باقيا, لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون". والتحقيق أن هذه الطائفة هي مؤلفة من العارفين بالله, والعلماء العاملين الناصحين, والمجاهدين في سبيل رب العالمين, فلا تخلو الأرض من قائم بحجة الله ظاهرة وباطنة. قال الشيخ زروق رضي الله عنه في "قوله كانت وتبقى" يعني أنها لا ترتفع أبدا, لكنها تارة تجري باصطلاح الخلوات والتربيات ونحوها, وتارة بحفظ الأصول فقط, وتارة بحفظ الحرمة, وتارة بعلو الهمة وقوة الحزم والعزم, وتارة بمجرد التلقي والإلقاء, وهذه الأمور لا تزول أبد الآبدين, غير أن الاصطلاح قد انقرض في هذه الأزمنة, وارتفع إنتاجه حسبما دلت عليه العلامات, ويشهد به الاستقراء. قال بعض مشايخنا رضي الله عنه: ارتفعت التربية بالاصطلاح في سنة 824 ه أربع وعشرين وثمانمئة ولم تبق إلا الإفادة بالهمة والحال فعليكم بالكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان, يعني الجادة مع التزام الصدق, والله ولي التوفيق. قلت: وبعض مشايخه الذي ذكر هو: الحضرمي. وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما أن الاستقراء الذي ذكره متعذر في جميع أقطار الأرض, وشيوخ التربية الغالب عليهم الخفاء, لأنهم كنوز لا يظفر بهم إلا من أسعده الله. والثاني: أن دائرة الأولياء لا تنقطع أبدا, من: أقطاب, وأبدال, وأوتاد, حسبما ذكره غير واحد, وبلوغه إلى مقام القطبانية لا يكون من غير تربية أبدا. فإن قلت: يكفي فيه الهمة والحال, قلنا: لا نسلم ذلك, لأن تربية الهمة والحال دون اصطلاح المقال, لا يترقى صاحبها من مقام إلى مقام, ولا من حال إلى حال, فلا يخرج من السلوك إلى الفناء, ولا من الفناء إلى البقاء, إلا بتربية المقال, وهي الاصطلاح, وإن أراد بالاصطلاح: الخلوة, وترتيب الأوراد, فلا نسلم أيضا انه انقطع, إذ من بلغ إلى درجة التربية يربى كيف شاء, فمن تصلح به الخلوة رباه بها, ومن تصلح به الخلطة رباه بها, فشيخ التربية لا ينقطع أبدا عن تربية الهمة والحال والمقال والاصطلاح, وإذا كان الحضرمي تكلم على ما ظهر له في زمانه, فلا يلزم عمومه فيما بعده. قال الله تعالى: "ويخلق ما لا تعلمون". وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه, في قوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها, ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" قال: ما نذهب بولي نأت بخير منه أو مثله, وكلامه عام في كل زمان وعصر, وقال عليه الصلاة والسلام: "أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره". وقال: "خير أمتي أولها وآخرها وفيما بينهما الكدر" وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه الكرام: "إذا لقيتم إخواني فأقرؤوهم مني السلام؟ قيل من إخوانك يا رسول الله؟ نحن إخوانك, فقال: أنتم أنصاري وأصحابي, إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني, للعامل منهم أجر سبعين, قالوا: يا رسول الله أجر سبعين منا أو منهم؟ قال: بل أجر سبعين منكم, قيل: لماذا يا رسول الله؟ قال: إنكم وجدتم على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا". والحاصل أن نور النبوة في الزيادة لا في النقصان, وقد وجد بعد الحضرمي, وفي زمانه رجال اتفق الناس على تربيتهم, كالغزواني, والتليدي, والهبطي, والمجذوب, والشرقي وسيدي يوسف الفاسي, وسيدي عبد الرحمن الفاسي, وسيدي محمد بن عبد الله, وغيرهم ممن لا يحصى, فإنكار كمال هؤلاء وتربيتهم: مكابرة وخذلان والعياذ بالله من الطعن في أولياء الله. وقد أدركنا والحمد لله في زماننا هذا رجالا قد توفر فيهم شروط التربية على الكمال ذووا همة وحال ومقال: عارفين, راسخين كاملين, تخرج على أيديهم خلق كثير, وانتفع بهم جم غفير, ولكن من كان خفاشا لا يستطيع أن يبصر شعاع النور؛ ويرحم الله البوصيري حيث قال: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ..... وينكر الفم طعم الماء من سقم وقال آخر: وكم عائب ليلى ولم ير وجهها ..... فقال له الحرمان: حسبك ما فات ثم ذكر الطريق الثانية فقال: وفرقة قالت بأن العلما ..... من خارج بالاكتساب اسما وشرطوا العلوم في اصطلاحه ..... إذ لا غنى للباب عن مفتاحه فليس للطامع فيه مطمع ..... ما لم تكن فيه علوم أربع وهي علوم: الذات, والصفات ..... والفقه, والحديث, والحالات وهذه طريقة البرهان ..... وهي لكل حازم يقظان قلت: حاصل هذه الطريقة أنها شرطت إصلاح الظاهر أولا وعلاجه, وعلاجه قبل علاج الباطن, فقلت: إن اكتساب العلم من خارج أسمى, أي أرفع وأعظم, لأنه دواء وشفاء للعلل الظاهرة, لقوله عليه الصلاة والسلام: "العلم إمام والعمل تابعه" وأول الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم, فإن تعلمه خشية, وطلبه عبادة, ومذاكرته تسبيح, والبحث في جهاد, وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة, وبذله لأهله قربة, لأنه معالم الحلال والحرام, ومنار سبل أهل الجنة, وهو الأنيس في الوحشة, والصاحب في الغربة, والمحدث في الخلوة, والدليل على السراء والضراء, والسلاح على الأعداء, والزين عند الأخلاء, يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة, تقص آثارهم, ويقتدى بأفعالهم, وينتهي إلى رأيهم, ترغب الملائكة في خلتهم, وبأجنحتهم تمسحهم, يستغفر لهم كل رطب ويابس, وحيتان البحر وهوامه, وسباع البر وأنعامه, لأن العلم حياة القلوب من الجهل, ومصابيح الأبصار من الظلم, يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة, والتفكر فيه يعدل الصيام, ومدارسته تعدل القيام, به توصل الأرحام, وبه يعرف الحلال والحرام, وهو إمام العمل, والعمل تابعه, يلهمه السعداء, ويحرمه الأشقياء" ذكره المنذري. فشرطت هذه الفرقة الثانية تحصيل العلم الظاهر لأنه مفتاح العلم الباطن, لأن الشريعة باب والحقيقة بيت, ولا مدخل للبيت إلا من بابه, قال تعالى: "وأتوا البيوت من أبوابها" فعلم الشريعة مفتاح لعلم الحقيقة, ومن أتى الباب بلا مفتاح لا يطمع في دخوله فلا يطمع أحد في علم الحقيقة والاطلاع على السر إلا بعد تحصيل أربعة علوم: علم الذات العالية, ويكفيه أن يعتقد فيها أنها موجودة قديمة, باقية, منزهة عن النقائص, متصفة بصفات الكمالات. وعلم الصفات, ويكفيه أن يعتقد أن الذات العالية متصفة بالقدرة, والإرادة, والعلم, والحياة, والسمع, والبصر, والكلام. وإن زاد براهينها من الكتاب والسنة, فهو كمال, وإن أسعده الله بلقاء شيخ كامل رقاه إلى علم الأذواق, وصار توحيد في معد الشهود والعيان. العلم الثالث: علم الفقه, ويكفيه ما يتقن به طاعته, وصلاته, وصيامه, وإن كان له مال تعلم ما يجب عليه فيه, ولا يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. العلم الرابع: علم الأحوال, والمقامات, والمنازلات, ومخادع النفوس, ومكايدها, وما يجري مجرى ذلك من آداب ومعاملات, وهذا الذي يختص به أهل هذا الفن. وللناس فيه طريقان: طريق رؤية الحق من أول قدم, والعمل على ذلك بالانحياش إليه, وهو طريق الشاذلية ومن نحا نحوهم. وطريق رؤية النفس واطلاع الحق عليها والعمل على ذلك, وهي طريق الغزالي ومن جرى مجراه, وكل منهما مستنده لحديث: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فتمسكت الشاذلية بصدر الحديث والغزالية بآخره. وقوله: "فهذه طريقة البرهان" يعني أن هذه الطريقة تسمى طريقة البرهان, لأنه طريقة الترقية, لأنها أولا تستدل بالأثر على المؤثر, ثم ترتقي إلى معرفة العيان, بخلاف الطريقة الأولى, إنما اشتغلت بتصفية الروح, فإذا تصفت وتطهرت زال عنها الحجاب. قلت: وطريق الشاذلية الحقيقية من تأملها وجدها جمعت بين الطريقين: طريق الإشراق, وطريق البرهان, لأن أشياخها الكمل يدلون أولا على إتقان الشريعة, والفناء في العمل بها, ثم على إتقان علم الطريقة, ثم على الحقيقة. قلت: وأنا "عبد الله" كنت إذا لقنت أحداً الورد: علمته ما يلزمه من إتقان طهارته الصغرى والكبرى, وعلمته التيمم وإتقان الصلاة وإذا كان أميا علمته ما يلزمه من عقائد التوحيد إجمالا, فأصحابنا كلهم والحمد الله على بصيرة في دينهم, مع ما زادهم الله تعالى من التنوير والأذواق, وهي طريق الإرشاد, فأصغرهم يناظر نجباء طلبة العلم الظاهر, حسبما استقريناه من أحوالهم, وما اطلعنا عليه من أسرارهم, والحمد لله رب العالمين. قوله: "وهي لكل حازم يقظان" يعني أن هذه الطريقة التي جمعت بين العلم الظاهر والباطن, لكل حازم مشمر في تحصيل دينه "يقظان" أي منتبه من غفلاته, قد أتى البيت من بابه, وحصل الأمر بشروطه وأسبابه, فليس لأحد فيه مطعن, ولا لإخلاله فيه مدخل, لكن لا يدرك هذه الطريقة على الكمال إلا فحول الرجال, وبالله التوفيق. ثم وصف الصوفي وحاله وشأنه فقال: وصف الصوفي وحاله وشأنه ونسبوا الصوفي للكمال ..... وضربوا معناه في المثال فهو كالهواء في العلو ..... ثم كمثل الأرض في الدنو ثم كمثل النار في الضياء ..... ثم كمثل الماء في الإرواء فهو إذا للكائنات حاصر ..... إذ صار في معناه كالعناصر قلت: لا شك أن الصوفي المحقق قد حاز مرتبة الكمال على التمام, فما من مرتبة إلا حاز أكملها وأشرفها: فأخذ من مقام الإسلام: كمال التقوى والاستقامة على التمام. وأخذ من مقام الإيمان تمام الطمأنينة وكمال الإيقان. وأخذ من مقام الإحسان: أعلى المراتب, وهي الشهود والعيان. وقد قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان. وأخذ أهل الظاهر من الأعمال أعمال الجوارح الظاهرة. وأخذ الصوفي أعمال القلوب الباطنة, والذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح, كما قاله الشيخ ابن عباد وغيره. وفي الحديث: "تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة". وعبادة القلوب هي: الفكرة والنظرة, والرضا بما يبرز من عنصر القدرة, فعبادة العارفين كلها مضعفة إما بسبعين أو بألف أو بأكثر, ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: أوقاتنا كلها ليلة القدر: يعني كلها خير من ألف شهر من عبادة العامة, وفي ذلك قال الشاعر: كل وقت من حبيبي ..... قدره كألف حجة أي سنة. وفي الحكم "ما قل عمل برز من قلب زاهد, ولا كثر عمل برز من قلب راغب". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ركعتان من عالم زاهد, خير وأحب إلى الله من عبادة المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدا سرمدا. وهذه المراتب موجودة في الصوفي الكامل على التمام. وقد ضربوا له المثال بالعناصر الأربعة التي قامت بها الموجودات الحسية باعتبار العادة, وهي: الهواء والثرى "أي التراب" والماء, والنار, وتسمى الطبائع الأربعة, وقد نظمها ابن سينا الحكيم, فقال: وقول بقراط بها صحيح ..... نار وماء وثرى وريح وأراد بالريح الهواء. فالصوفي قد اجتمعت فيه العناصر الأربعة, فهو كالهواء في رفع الهمة, وعلو القدر, وأيضا الهواء حار رطب, فهو معتدل محيط بالأبدان, به يقع كمالها ونقصها, والصوفي: معتدل في حركاته من غير إفراط ولا تفريط, بل متوسط في كل شيء, وخير الأمور أوسطها, وبحسب هذا جميع الوجود, يأنس به ويرجع إليه, ويقع له منه الفعل والانفعال بإذن الله سبحانه, مع ارتفاعه عن أبناء جنسه في عين مجانسته لهم, كما ارتفع الهواء عن التراب والماء مع مخالطته لهما, وهو أيضا كالأرض في الدنو والتواضع, والسهولة, يناله البر والفاجر, والصغير والكبير, كما أن الأرض يطأها البر والفاجر, والصغير والكبير, كما أن الأرض يطأها البر والفاجر, والصغير والكبير. وقال بعض أشياخنا: نحن كالرقاق "أي الطرف" يمر علينا البر والفاجر, والطائع والعاصي ولا نفرق بينهم, وأيضا طبع الأرض بارد يابس, فبرودتها يقع لها الملابسة, إذ لو كانت حارة والهواء حارا لاحترق ما عليها, وبسبب يبوستها يقع لها المماسة, والصوفي كذلك, لبرودة حركاته وليونتها يلابسه الخلق وينتفعون به, ولوقوفه مع الحق وصلابته فيه صح له الصدق, فيكون له قلب مثل الأرض يطرح عليه كل قبيح, ولا يخرج منه إلا كل مليح, وكلما زيد في زبلها زيد في خيرها. وكذلك الصوفي كلما زدت في البحث معه زادك فائدة وحكمة. وقد قال سيدنا عيسى عليه السلام لأصحابه أين تنبت الحبة؟ قالوا: في الأرض, قال: فكذلك الحكمة, لا تنبت إلا في قلب كالأرض, وقال سهل رضي الله عنه: طريقتنا هذه لا تصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل, وهو أيضا كالنار في إحراق الأوصاف الخبيثة الذميمة, وفي اقتباس الأنوار واشتغال مصابيح القلوب, وأيضا طبع النار حار يابس, مضيء محرق, كذلك الصوفي لا تفارقه الحرارة الباطنية, وهي قوته وسخانته الناشئة عن شهود حريته الباطنية, ويحرق كل ما والاه من أوصاف نفسه, ويرى ما وراءه من المعارف وحقائق الوجود, وهو أيضا كالماء في الإرواء وإزالة عطش الجهل, وحرارة التعب الناشئة عن وجود الحجاب, وأيضا طبع الماء بارد رطب, والصوفي كذلك فمن برودته لا ينتصر لنفسه, ومن رطوبته لا يتكبر على غيره, مع إروائه من احتاج إليه, وهذه العناصر الأربعة هي التي اجتمع منها وجود العالم باعتبار الحكمة؛ وهي أركانه فالصوفي كلية العالم بمعانيه ومبانيه, ولذلك قال فيه بعضهم: "الصوفي من لا يعرف في الدارين أحدا غير الله, ولا يشهد مع الله سواه, قد سخر له كل شيء, ولم يسخر هو لشيء, وسلط على كل شيء, ولم يسلط عليه شيء, فأخذ النصيب من كل شيء ولم يأخذ النصيب منه شيئا, يصفو به كدر كل شيء, ولا يكدر صفوه شيء, قد شغله واحد عن كل شيء, وكفاه واحد من كل شيء, ثم كمل ما بقي من فضله إجمالا فقال: وفضله أشهر من أن يجهلا ..... وقد ذكرنا منه نزراً مجملا وفي بيان أصله دليل ..... يعلم منه الشان والتفضيل قلت: أشار رحمه الله إلى أن فضل التصوف مشهور, وشهرته أعظم من أن يجهله أحد وقد ذكر من فضله نزراً: أي شيئا قليلًا مجملاً غير مفصل, إذ تفصيله يؤدي إلى التطويل الممل, وفي بيان أصله الذي ذكره في الفصل الأول دليل على تعظيم شأنه وتفضيله على سائر العلوم. قلت: ولم نسمع أحداً قط طعن في علم التصوف أو عابه أو نقصه, بل القلوب كلها مجبولة على حبه ومدحه, وإنما وقع الإنكار على أهله والمنتسبين إليه: إما غيرة عليه أن يدخل فيه من ليس منه, وهذا معذور وإما حسداً لأهله, وهذا هالك مثبور, والأول على خطر, فإن المنكر على المنتسبين كمن يدخل يده في الغيران فيدخل يده في الغار, الأول والثاني, فيقول: لا شيء ثم يدخل يده في غار آخر فيصادف حية تلسعه, فيهلك من ساعته, وإذا فاتته بركة الاعتقاد, فأقل أحواله ترك الانتقاد, ولذلك قال الشاذلي: تسليم طريقتنا ولاية, واعتقادها عناية. وقالوا أيضا: التسليم ولاية, والاعتقاد عناية, والانتقاد جناية. وقل يكون الإنكار من عدم الفهم وقلة الإدراك, ويرحم الله القائل: وكم من عائب قولًا صحيحاً ..... وآفته من الفهم السقيم وسيأتي بقية الكلام في الفصل الرابع إن شاء الله, في الرد على من أنكره.. ثم ذكر الناظم هنا أحكامه فقال:
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:09 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الثالث في أحكامه وهي تسعة
قلت: المراد بأحكامه: ما يحكم به على المريد, وما يلزمه من الآداب, وما يكون عليه أمره من أعمال وأحوال, وحصرها في تسعة. الأول: في حكم الشيخ وما يترتب عليه. الثاني: في حكم الاجتماع. الثالث: في حكم اللباس. الرابع: في حكم الأكل. الخامس: في آداب الاجتماع. السادس: في حكم السماع. الثامن: في حكم السؤال وأسبابه. التاسع: في حكم التربية وتدريج المريد إلى أوان ترشيده. واعلم أن مذهب الصوفية: الأخذ بالأحسن في كل شيء, عملا بقوله تعالى: "فبشر عباد, الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه". وأحسن المذاهب في الاعتقاد مذهب السلف, من اعتقاد التنزيه, ونفي التشبيه, وتفويض المتشابه, والوقوف مع ما ورد كما ورد, ما لم يحتج إلى تقييد, فيقيد بما ينفي شبهته, من غير زائد, وبهذا تمسكت الصوفية في بدايتهم. وقد يطلعهم الله تعالى على أسرار من مكنون علمه, فتتسع لهم دائرة العلوم وتنحل عنهم قيود المتشابه, فيطلعون على أسرار تنكشف بها غوامض المتشابه, ولذلك قال ابن السبكي رحمه الله: المتشابه ما استأثر الله بعلمه, وقد يطلع عليه بعض أصفيائه, وهم الراسخون في العلم يقولون أولا "أمنا به كل من عند ربنا" ثم يطلعهم الله على أسرار غيبه ومكنوه علمه. ولهذا توسعوا في العبارة حتى أنكرت عليهم, فوجب التحفظ, فلا يتكلم بهذا العلم إلا مع أهله, شفقة على الضعفاء, وحماية من سوء الظن بأهله, ولما في بعضه من سقوط الحرمة, فوجب تجنبه أبدا وإن فهم على الصواب, مع حسن الظن بقائله, لأن أصل المذهب حسن الظن حتى يأتي المناقض, وحرمة الشريعة واجبة الحفظ في الأقوال كوجوبها في المعاني والأفعال. وأحسن المذاهب في الأحكام مذهب الفقهاء المرجوع إليهم, كالأئمة الأربعة, فالتقييد بمذهب واحد أجمع للحقيقة, وأقرب للتبصر وأدعى للتحقيق وأسهل تناولا, وعلى هذا درج سلفنا وأشياخنا, فكان الجنيد: ثوريا, والشبلي: مالكيا, والمحاسبي: شافعيا, والجريري: حنفيا, والجيلاني: حنبليا, والشاذلي وشيخه: مالكيين, لكن لا ينبغي لمن تجرع في العلم من الصوفية أن يرضى بربقة التقليد, ويتجمد على قول إمامه من غير أن يعرف أصله, بل ينبغي له أن يأخذ الأحكام من أصولها, ويعلم مأخذها وعللها. وقد قال بعضهم: قف حيث وقفوا, ثم سر. وقال آخر: من أخذ علمه عن خصوص كان نوره وفتحه منهم, ومن أخذه عن نصوص الكتاب والسنة كان نوره وفتحه منهما, وعلى قدرهما. وقال في القواعد: التقليد أخذ القول من غير استناد لعلامة في القائل, ولا وجه في المقول, وهو مذموم مطلقاً لاستهزاء صاحبه بدينه. والاقتداء: الاستناد في أخذ القول لديانة صاحبه وعلمه, وهذه رتبة أهل المذهب مع أئمتها, وإطلاق التقليد عليها مجاز. والتبصر: أخذ القول بدليله الخاص من غير استبداد بالنظر والإعمال للقول, أي ولا اختراع لقول من نفسك, وهي رتبة مشايخ المذهب وأجاويد طلبة العلم. والاجتهاد: اقتراح الإحكام من أدلتها دون مبالاة بقائل, ثم إن لم يعتبر أصل المتقدم فمطلق, وإلا فمقيد. وأحسن المذاهب في فضائل الأعمال: مذهب المحدثين, إذ لا يأخذون إلا بما صح أو قارب الصحيح, فلا يأخذون بموضوع ولا بما قوى ضعفه, وقد حذروا من تتبع الفضائل وتتبع الرغائب, كصلاة الأيام والليالي, وغير ذلك. قلت: وحسب المريد الصادق من النوافل ما يحفظ فرضه من الخلل, فإن قوي جمع قلبه حتى أمن من الخواطر كفته الصلوات الخمس, مع عمارة وقته بذكر مفرد, أو فكرة أو نظرة, أو مذاكرة, أو ما يلزمه من ضروريته, فهذه عبارة العارفين والصديقين من المريدين, مع الزهد التام, والتفرغ التام, والله تعالى أعلم. ثم ذكر ما بدأ به من التسعة الأحكام فقال: الأول: في حكم الشيخ والمشيخة, ومعنى الشيخ. قلت: جعل هذه الثلاثة في حكم واحد لقرب بعضها من بعض. فالأول في حكم الشيخ: يعني هل هو شرط صحة, أو شرط كمال. والثاني: في حكم المشيخة, أي حكمة الشيخوخة, وما يراد بها. والثالث: في معنى الشيخ, يعني المعنى الذي يكون بها شيخا, ويصح الاقتداء به, وهو أن يكون جامعا بين حقيقة وشريعة, بين جذب وسلوك, ماهرا بعلل النفوس ومخادعها, والله تعالى أعلم.
1 - في حكم الشيخ وما يترتب عليه وإنما القوم مسافرون ..... لحضرة الحق وظاعنون فافتقروا فيه إلى دليل ..... ذي بصر بالسير والمقيل قد سلك الطريق ثم عاد ..... ليخبر القوم بما استفاد قلت: السفر إلى الله مجاز, عبارة عن قطع العلائق, وعن الخروج عن الشهوات, والعوائد, ليتصل بالأنوار والحقائق, وهي المعبر عنها بحضرة الحق. وإن شئت قلت: السفر هنا عبارة عن الانتقال عن المقامات, والإنزال في أخرى, كالانتقال من مقام الإسلام إلى الإيمان, ثم من مقام الإيمان إلى الإحسان. أو عبارة عن الانتقال من شهود عالم الملك إلى عالم الملكوت, ومن الملكوت إلى الجبروت, أو من عالم الحس إلى عالم المعنى, أو من شهود الكون إلى شهود المكون, أو من عالم الشهادة إلى عالم الغيب, أو من السلوك إلى الجذب, ثم من الجذب إلى السلوك, أو من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات, ثم إلى توحيد الذات, ولا يتحقق السفر ولا يظهر السير إلا بمحاربة النفوس ومخالفتها في عوائدها وقبيح مألوفاتها وشهواتها, فلولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين, إذ لا سير ولا سلوك إلا فيها, ولا جذب ولا أخذ إلا عنها, ولذلك قال بعض المحققين, لا يصح أن يقال في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: سالكون, ولا مجذوبون, لأن الجذب لا يكون إلا عن نفس, والسلوك لا يكون إلا في قطع عقباتها, وهم عليهم الصلاة والسلام مطهرون من آثار النفوس بأول قدم, فهم مقيمون في بساط الحضرة قديما وحديثا, وقوله: "لحضرة الحق" يعني دائرة ولايته, وهي عكوف القلب في شهود الرب, بحيث يفنى من لم يمكن, ويبقى من لم يزل. أو تقول: الحضرة عبارة عن كشف رداء الصون عن أصل نور الكون, فتلوح أنوار القدم على صفحات العدم؛ فيتلاشى الحادث ويبقى القديم, و"الظاعن هو المرتحل وهو المسافر". وقد ضرب الساحلي مثلا للسفر المعنوي, الذي يوصل إلى الحضرة, وحاصله باختصار: أن مثل الحضرة كملك كبير ظهر بالمشرق مثلا, وأرسل رسلا يعرفون به ويشوقون الناس إلى حضرته, بذكر محاسنه ومكارمه, فمن الناس من أعرض عن طاعته وهم الكفار مثلا, ومن الناس من أذعن وأطاع وعجز عن السير إليه: إما لثقله أو لضعف محبته, وهم عوام المسلمين الذين يؤمنون بالغيب, ومن الناس من تشوق إلى السير إليه وبذل مهجته وروحه في الوصول إليه, فقالت له الرسل أو من ناب عنهم: ها نحن نسير بك ونعرفك الطريق, ثم إن الملك بنى ديارا في الطريق ينزلونها, وجعل فيها: مياها, ورياضا, وأزهارا, وكل منزل ما بعده أعظم منه, فإذا سارت الرسل أو نوابهم بالناس, ونزلوا في بعض تلك المنازل, أراد بعضهم أن يسكن فيها ويقيم ثم, فيقول له الرسول: المطلوب أمامك, فما زالوا يرحلون بهم من مرحل إلى مرحل, ومن مقام إلى مقام, حتى يشرفوا بهم على الملك, فإذا شاهدوا الملك على نعت الرضا والتكريم, كان ذلك مقامهم ومسكنهم, انتهى. ذكرته بالمعنى لطول العهد به. وقال ابن عطاء الله في الحكم في هذا المعنى, فالعاقل من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى, قد أشرق نوره وظهرت تباشيره, فصدف عن هذه الدار مغضيا, وأعرض عنها موليا, فلم يتخذها وطنا, ولا جعلها مسكنا, بل انهض الهمة عنها إلى الله, وصار به مستعيناً في القدوم عليه, فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها دائما بتسيارها, إلى أن أناخت بحضرة القدس وبساط الأنس, في محل المفاتحة والمواجهة, والمجالسة والمحادثة, والمشاهدة والمطالعة, فصارت الحضرة معشش قلوبهم, إليها يأوون, وفيها يسكنون الخ. وقوله: "فافتقروا فيه إلى دليل" يعني أن من تشوف إلى الحضرة لا بد له من دليل يدله عليها, ويسلك به طريقها. قال في "شرح الشريشية": اعلم أن سلوك الطريق, وخصوصا لمريد الكشف والتحقيق, لا يكون من غير التزام الطاعة والانقياد لشيخ محقق مرشد, لأن الطريق عويص, وأدنى زوال يقع عن المحجة يؤدي إلى مواضع في غاية البعد عن المقصود. قال الشيخ أبو الحسن الششتري رضي الله عنه: ولا بد أن يتحكم لمن يأمره وينهاه, ويبصره فإن الطريق عويص: قليل خطاره, كثير قطاعه وقد يظن السالك انه على جادته وهو قد ولى ظهره لموضع توجهه منه, فانه إذا خرج منه أنملة فقد خرج وانقطع, وانصرف سيره على أشعة تلك الأنملة, فانه طريق دقيق, ونفس متصرفة في البدن, وهي الراحلة عنه, وعادة مألوفة, وشيطان هذا الطريق فقيه بمقاماته ونوازله. قال أبو عمرو الزجاجي رضي الله عنه: لو أن رجلا كشف له عن الغيب, ولا يكون له أستاذ لا يجيء منه شيئاً. وقال إبراهيم بن شيبان رضي الله عنه: لو أن رجلاً جمع العلوم كلها, وصحب طوائف الناس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة, من شيخ, أو إمام, أو مؤدب ناصح, ومن لم يأخذ أدبه عن آمر له يريه عيوب أعماله ورعونات نفسه, لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات. وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: من لم يأخذ أدبه من المتأدبين: أفسد من يتبعه. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل من لا يكون له في هذا الطريق شيخ لا يفرح به, ولو كان وافر العقل منقاد النفس, واقتصر على ما يلقى إليه شيخ التعليم فقط, لا يكمل كمال من تقيد بالشيخ المربي, لأن النفس أبدا كثيفة الحجاب, عظيمة الأشراك, فلا بد من بقاء شيء من الرعونات فيها, ولا يزول عنها ذلك بالكلية إلا بالانقياد للغير, والدخول تحت الحكم والقهر, حسبما ذكر الشيخ أبو عبد الله بن عباد رضي الله عنه. وكذلك لو كان سبقت له من الله عناية, وأخذه الحق إليه, وجذبه إلى حضرته, لا يؤهل للمشيخة, ولو بلغ ما بلغ. وقال في لطائف المنن: من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع, ويكشف له عن قلبه القناع, فهو في هذا الشأن لقيط: لا أب له, دعي: لا نسب له, فإن يكن له نور, فالغالب غلبة الحال عليه, والغالب عليه وقوفه مع ما يرد من الله إليه, لم ترضه سياسة التأديب والتهذيب ولم يقده زمام التربية والتدريب. وقال الشيخ أبو عثمان الفرغاني رحمه الله: "المجذوب: المتدارك الراجع من عالم الحق إلى عالم الخلق, لا يكمل ولا يصلح للاقتداء إذا لم يكن له مرشد يهديه إلى دقائق المقامات, وإن كان على بينة من ربه وبصيرة في سلوكه, فإن في المقامات الإسلامية الإيمانية دقائق لا تدرك إلا من حيث الخلقية, والاطلاع عليها متوقف على اطلاع من اطلع عليها بنظر خلقيته, فلا يكتفي بالبينة الحقيقية التي للمجذوب, فكان محتاجا إلى المرشد. وكلام الشيوخ في الحصن على اتخاذ الشيخ الرباني, والتحذير من ضده كثير. وروى عن أبي يزيد أنه قال: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان. وقال الشيخ أبو علي الدقاق: الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس, فإنها تورق ولا تثمر. قال القشيري: وهو كما قال: ويجوز أن تثمر كالأشجار التي في الأودية والجبال, ولكن لا يكون لفاكهتها طعم, فاكهة البساتين والغرس إذا نقل من موضع لآخر, يكون أحسن وأكثر ثمرة, لدخول التصرف فيه, ثم قال: وسمعت كثيرا من المشايخ يقول: من لم ير مفلحا لا يفلح. وقد وقعت مشاجرة ومناظرة في آخر المئة الثامنة بين فقراء الأندلس, حتى تضاربوا بالنعال, وذلك: هل يكتفي بمشاهدة الرسوم, ومطالعة الكتب في طريق الصوفية, أهل التوحيد الذوقي والمعرفة الحقيقية الوجدانية, أم لا بد من الشيخ؟! فكتبوا للبلاد, فأجاب فيها كل أحد على قدر نظره: كالشيخ أبي عبد الله بن عباد رضي الله عنه, وكالشيخ أبي عبد الله بن خلدون رحمه الله, وأفرد لهذه المسألة تأليفا, وقد ذكر حاصل ذلك الشيخ زروق في "عدته" فقال بعد كلام: وقد تشاجر فقراء الأندلس من المتأخرين في الاكتفاء بالكتب عن المشايخ, فكتبوا للبلاد, فكل أجاب على حسب فتحه. وجملة الأجوبة دائرة على ثلاثة: أولها: النظر للمشايخ, فشيخ التعليم تكفي عنه الكتب للبيب حاذق, يعرف موارد العلم. وشيخ التربية تكفي عنه الصحبة لدين عاقل ناصح. قال شارح: "بداية السلوك": وقل أن يوجد لغلبة الهوى. وشيخ الترقية, يكفي عنه اللقاء والتبرك, وأخذ كل ذلك من وجه واحد, يعني أن أخذ ذلك عن الشيخ في الأوجه الثلاثة أتم للنجح وأبلغ للمراد. الثاني: النظر لحال الطالب, فالبليد لا بد من شيخ يربيه, واللبيب تكفي الكتب في ترقية, لكنه لا يسلم من رعونة نفسه, وإن وصل لابتلاء العبد برؤية نفسه. الثالث: النظر للمجاهدات, فمجاهدة التقوى لا تحتاج إلى شيخ لبيانها وعمومها, والاستقامة تحتاج للشيخ في بيان الأصلح منها, وقد يكتفي عنه اللبيب بالكتب, ومجاهدة الكشف, والترقية لا بد فيها من شيخ يرجع إليه في فتوحها, كرجوعه عليه الصلاة والسلام في عرضه على ورقة بن نوفل لعلمه بأخبار النبوة, ومبادئ ظهورها حين فاجأه الحق، وهذه الطريقة قريبة من الأولى والسنة معها, والله تعالى أعلم. انتهى. قلت: وهذا الجواب الأخير أقرب للصواب, والله تعالى أعلم. وقوله: "ذو بصر بالسير والمقيل" أشار به إلى شروط الشيخ, وأنه لا بد أن يكون بصيرا بأحوال السير, فيسير كل واحد على قدر طاقته وجهده, فليس القوي كالضعيف, وليس الراكب كالراجل, وليس سير الصديق كالصادق, وليس الصادق كالمتردد, وليس المتردد كالمنكر, فيحمل الصديق من المجاهدة والأعمال والأذكار ما لا يحمل الصادق, ويحمل الصادق من ذلك مالا يحمل المتردد, ويحتال على المنكر بالسياسة حتى يربي له الصدق, وهكذا يسير مع كل واحد من القاصدين. قال بعض المحققين: المريد على قسمين: مريد حقيقي, ومجازي فالمريد الحقيقي, هو من كملت فيه أهلية الإرادة, فصمم عزمه من أول مرة على الالتزام بصحبة الشيخ, والتحكيم في نفسه, وعمل على معانقة الأهوال, وتحمل الأثقال, ومفارقة الأشكال, ومعالجة الأخلاق, وممارسة المشاق, وتحمل المصاعب وركوب المتاعب. والمريد المجازي, هو: الذي ليس قصده إلا الدخول مع القوم, والتزيي بزيهم والانتظام في سلك عقدهم, والتكثير لسوادهم, وهذا لا يلزم بشروط الصحبة, وإنما يؤمر بلزوم حدود الشرع ومخالطة الطائفة حتى تشمله بركتهم, وينظر إلى أحوالهم وسيرهم, فيسلك مسلكهم, ويؤهل لما أهلوا له. وقوله: "وقد سلك الطريق, ثم عاد" أشار به إلى أن الشيخ لا بد أن يكون سلك طريق السلوك, ثم خاض بحار الجذب, ثم رجع إلى السلوك, فلا يصلح للتربية سالك محض, ولا مجذوب محض, وإنما يصلح من تقدمه سلوك ثم تداركه الجذب, أو تقدمه جذب, ثم رجع للسلوك, والأول أكمل. وقيل: الثاني أكمل, وكلاهما يصلحان للتزكية دون ما قبلهما. أما السالك المحض, وهو الظاهري, فلأنه لا يخلو من بقية فيه من هذا العالم: أعني عالم الأشباح "والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم" والعبد المملوك لا يمكنه التصرف في نفسه فكيف يتصرف في غيره. وأما المجذوب قبل أن يرجع إلى البقاء, أعني قبل أن يرجع من عالم الحق الذي هو عالم القدرة, وارتفاع الوسائط وخرق حجاب الأسباب إلى عالم الخلق, الذي هو عالم الحكمة, وتحقيق الوسائط والأسباب, والى الاشتغال بالسلوك والتحقق بالمقامات, فهو أيضا غير مؤهل للمشيخة والاقتداء به, لاشتغاله بحاله عن حال غيره, وعدم تحققه بالمقامات إلا انه يربي من هو دونه إلى بلوغ مقامه وقد يتمكنان معا: إن كان الأول مقتديا بشيخ يسيره, والله تعالى أعلم. وقوله: "ليبخر القوم بما استفاد" المراد بالقوم: المريدون يخبرهم بما استفاده من علوم الأذواق وأنوار الشهود, ولذلك قالوا: لا بد للشيخ أن يكون له علم صحيح, وذوق صريح, وهمة عالية "وحالة مرضية" وسيأتي الكلام على بقية شروطه إن شاء الله. ثم تمم أحوال الشيخ ومعارفه فقال: وجاب منها الوهد والآكاما ..... وراض منها الرمل والرغاما قلت: أصل "جاب" في اللغة بمعنى: نقب وقطع. قال تعالى: "والذين جابوا الصخر بالواد" أي نقبوها واتخذوا فيها بيوتا, وأطلقه الناظم هنا على الدخول والسلوك, و"الوهد" المكان المنخفض, و"الآكام": المكان المرتفع, جمع أكمة, وهو التل, والتل هو جبل صغير و"راض" المكان: اختبره وعرف ما فيه, والرمل بالراء: معلوم, والمراد هنا: الرقيق الذي يمنع من سرعة السير, "والرغام": التراب, والمراد هنا الصلب اليابس. يقول رضي الله عنه: إن شيخ التربية يكون قد سلك من طريق القوم ما كان منها منخفضا, كالخمول, والذل, والعزلة, والفاقة, وذاق حلاوة ذلك, ومرارته, وعرف منافعه ودسائسه, فيسير غيره فيها كما سار هو, وعرف أيضا ما كان منها مرتفعا كالظهور والعز, والخلطة, والغنى, فيكون قد سلك ذلك وعرف ضرره ونفعه, وذاق حلاوته ومرارته, فيسير فيه كما سار هو, لكن الناس مختلفون, فكم من واحد تأنس بالخمول والعزلة, فتركن نفسه لذلك ويشق عليه ظهوره وخلطته, فالواجب على الشيخ إخراجه من ذلك, فيأمره بالخلطة والظهور, إذا لا تموت النفس إلا بما يثقل عليها, وكم من واحد كان مبتلى بالظهور, والعز, والغنى, والخلطة, فالواجب إخراجه من ذلك كله بالأمر بضده. قال في شرح: "الرائية الشريشية": وإذا أردت الخروج من العلائق, فأولها: الخروج من المال, فإن ذلك الذي يميل به عن الحق, فلم يوجد مريد دخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا, إلا جرته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج, فإذا خرج من المال, فالواجب عليه الخروج من الجاه, فإن ملاحظة الجاه مقطعة عظيمة, وما لم يستو عند المريد قبول الخلق وردهم, لا يجيء منه شيء, بل أضر الأشياء له ملاحظة الناس له بعين التعظيم والتبرك به لإفلاس الناس من هذا الحديث, وهو بعد لم يصحح عقده بينه وبين الله تعالى, فخروجه من الجاه واجب عليه, لأن ذلك سم قاتل له, فإذا خرج به من ماله وجاهه, فيجب أن يصحح عقده بينه وبين الله تعالى, لا يخالف شيخه في كل ما يشير به عليه, فإن الخلاق للمريد في ابتداء أمره عظيم الضرر, لأن ابتداء حاله دليل على جميع عمره انتهى. قوله: "وراض منها الرمل والرغاما" يعني: أن الشيخ يكون قد اختبر الطريق: صعبها وسهلها فينظر في حال المريدين, فمن كان قويا حمله على الصعبة, ليطوي عنه مسافة البعد, ومن كان ضعيفا حمله على السهلة, لئلا ينغره فيرجع من حيث جاء, فالرمل الرقيق يصعب السير فيه, بخلاف الرغام الصلب, فإنه يسهل فيه السير, فكنى به الناظم عن مشاق النفس, وما يخف عليها, ولا شك أن الطريق إذا كانت قريبة مختصرة لا تجدها إلا صعبة معقبة, وإذا كانت طويلة مسلوكة: لا تجدها إلا طويلة بعيدة, والله تعالى أعلم. ثم قال: وجال فيها رائحا وغاديا ..... وسار كل فدفد وواديا قلت: الفدفد: المكان الغيظ, ذو حصباء, قاله ابن الأنباري, وقال أبو زيد: الفدفد: الموضع التي فيه غلظ وارتفاع, والوادي معلوم, وجمعه أودية, وهو مواضع المياه. يقول رضي الله عنه: يشترط في الشيخ أن يكون ماهرا بالطريق, قد جال فيها مرارا, قد راح فيها آخر النهار وغدا فيها أول النهار, وكنى بها عن علم البدايات والنهايات, فيكون عالما بها, و يربي به المريد في بدايته وفي نهايته, فلكل واحد حكم يخصه, فعمل البدايات عمل الجوارح, وعمل النهايات عمل القلوب, ويكون أيضا قد سلك مسالك الجمال والجلال, فالجمال محل العلو والظهور, كالفدفد, والجلال محل الانخفاض والحنو, كالأودية, وفيه إشارة إلى أن شرب المريد من منهل الجلال أكثر من شربه من محل الجمال, لأن الأودية الغالب فيها وجود الماء, بخلاف الفدفد, والله تعالى أعلم. ثم قال: وعلم المخوف والمأمونا ..... وعرف الأنهار والعيونا قلت: يعني أن الشيخ يكون عالما بالمكان المخوف والمأمون, والمكان الجدب الذي لا ماء فيه, والمكان الذي فيه الماء, فيكون علاما بالأمور التي يخاف على المريد فيها بأمره بالبعد عنها كالركون إلى العز والتعظيم, أو إلى الدنيا والميل إلى شيء منها ومن أسبابها ومخالطة أهلها وسماع حديثها, وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول: "لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم" وكصحبة علماء الفروع المتجمدين على ظاهر الشريعة, لأنهم يزعمون أن السنة محصورة فيما علموا منها, وكمخالطة القراء المداهنين, والمتفقرة الجاهلين, فهؤلاء كلهم قطاع, يخاف على المريد في صحبتهم. والموضع المأمون هو: الزهد في الدنيا والبعد منها, ومن أهلها. وفي الحديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله, وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس". وفي حديث آخر: "الزاهد يريح بدنه وقلبه في الدنيا والآخرة". وقيل لأبي الحسن: مالي أرى الناس يعظمونك, وليس لك كبير عمل, قال بسنة واحدة افترضها الله على عباده, تمسكت بها. قيل: وما هي؟ قال: الإعراض عنكم وعن دنياكم. ومن الموضع المأمونة: صحبة الصوفية من المريدين والعارفين, والميل إلى الفاقة, والقناعة من الدنيا, والعزلة, والصمت, والموضع الذي لا ماء فيه, وهو محل الجدب, وهو الموطن الذي تكثر فيه الشهوات والعوائد, ويجد به المريد راحته وجماله, ويظهر فيه عزه وجاهه, فهذا الموطن إن طال فيه إقامته قحط قلبه, ومنع من مدد الزيادة. قال في الحكم: "إن أردت بسط المواهب عليك صحح الفقر والفاقة لديك" ربما تجد من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة, ولذلك كانت الفاقة أعياد المريدين, لأنها سلم ومعراج الرسوخ والتمكين في مقامات اليقين. وقد قال بعضهم: "بقدر الامتحان يكون الامتكان, واختبار الباقي يقطع التباقي, وكل محنة تزيد مكنة", والموضع الذي فيه المياه من عيون وأنهار هو ما قلته آنفا من مواطن الشدة كالفاقة وكل ما ينغص على النفس ويؤلمها, فالأنهار, هي: علوم الطريقة, والعيون هي: أسرار الحقيقة. أو تقول: الأنهار, هي: العلوم, والعيون هي: الأذواق, فلا بد للشيخ أن يكون عارفا بالعلوم التي يحتاج إليها, ويذوق أسرار الأحوال والمقامات, والله تعالى اعلم, ثم قال: قد قطع البيداء والمفاوز ..... وارتاد كل حابس وحاجز قلت: "البيداء" هي الصحراء, و"المفاوز" جمع مفازة, وهي: المسافة البعيدة, وارتاد, أي اختبر البلد, وعرف ما يصلح وما لا يصلح. فالرائد هو: الذي يتقدم أمام القوم ليختبر لهم البلد الذي يصلح للنزول, والحابس هو الذي يحبسك عن بلوغ المراد, والحاجز هو الذي يحجز بينك وبين مرادك. يقول رضي الله عنه: إن الشيخ لا بد أن يكون قطع مهامه النفوس, وجال في ميدان محاربتها في قطع شهواتها وعوائدها, وما تجنح إليه من رعونتها ومألوفاتها, وقطع أيضا مفاوز البعد الذي بينها وبين خالقها الناشئ عن وهمها وجهلها, وذلك بقطع ركونها إلى الكرامات وخوارق العادات, أو طلب الخصوصية أو غير ذلك من الحروف القاطعة عن مقام الإخلاص, واللحوق بخواص الخواص, ويكون أيضا اختبر وعرف كل ما يحبس عن السير من الوقوف مع المقامات والقناعة بظهور الكرامات. وفي الحكم: "ما أرادت همة عارف أن تقف مع ما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقية: الذي تطلب أمامك, ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها: إنما نحن فتنة فلا تكفر" وعرف أيضا ما يحجز ويمنع من الوصول إلى صريح العرفان, على وفق المشاهدة والعيان, وهو أمران, إما الملل من المجاهدة والسير والركون إلى الراحة والكسل, وإما الاستغناء عن الشيخ والخروج عنه قبل الترشيد, فإن ذلك يحجز بينه وبين التحقيق, ويخرجه عن سواء الطريق, ويرجع إلى مقام العموم, نسأل الله السلامة من السلب بعد العطاء. آمين. ثم قال: وحل في منازل المناهل ..... وكل شرب كان فيه ناهل المناهل: جمع منهل, وهو: الموضع الذي ينزله الركب, بشرط أن يكون فيه الماء والأخاذ, والناهل هو الشارب. يقول رضي الله عنه: يشترط في الشيخ أن يكون حل في منازل السائرين, وهي مقامات اليقين, بحيث سلكها وعرفها: ذوقا وحالا ومقامات, كتصحيح التوبة بشروطها وأركانها, وتحقيق الورع والزهد, والخوف والرجاء, والتوكل والصبر, والرضا والتسليم, والمحبة والمراقبة, والمشاهدة, وحصل له الفرق بين الروحانية والبشرية, والسلوك والجذب والفناء والبقاء, وأحكم أحكام التخلية والتحلية و"كل شرب" من مشارب القوم, وأذواقها "كان فيه ناهلا وشاربا, فإذا حصَّل هذه المراتب, وذاق هذه الأذواق: استحق أن يكون شيخا مربيا, كما أشار إليه بقوله: فعندما قام بهذا الخطب ..... قالوا جميعا: أنت شيخ الركب قلت: "الخطب" هو الشأن, يعني فعندما قام بهذا الخطب الجسيم, وتحق فيه هذا السر العظيم, استحق التقديم للتربية والترقية, وقالوا له: أنت شيخ الركب, حيث سلكت المنازل وعرفت المناهل, وحققت الطريق, ووصلت إلى معالم التحقيق وعلمت المخوف والمأمون والمجذوب منها, وما اشتمل على أنهار وعيون, فقد شهدت لك الأرواح بالتقديم, والأسرار بالتعظيم, وقد أشار الشريشي إلى شروط الشيخ, فقال: وللشيخ آيات إذا لم تكن له ..... فما هو إلا في ليالي الهوى يسري إذا لم يكن علم لديه بظاهر ..... ولا باطن, فاضرب به لجج البحر فالعلم الظاهر هو: علم الشريعة, والعلم الباطن هو: علم الطريقة والحقيقة, فإذا لم يحصل شيئا من هذين العلمين, ثم ادعى مرتبة الشيخوخة, فأخرجه من سفينة دائرة الشيخوخة, وألقه في لحجج بحر النفاق. قال صاحب العوارف: ومن شرائط أهل الولاية أن يكون عالما بالأوامر الشرعية, عاملا بها, واقفا على آداب الطريقة, وسالكا فيها, وكاملا في عرفان الحقيقة وواصلا إليها, ومخلصا لجميع ذلك, حتى يتم له السلوك ويشرف بعالم الوصال, فالله الله أيها الطالب, الحذر من صحبة الأشرار, فإنهم قطاع الطريق, واعتصموا بحبل القرآن والأحاديث النبوية. وقال أبو الحسن الششتري رضي الله عنه: لا يقتدى في طريقتنا هذه بظاهر ولا بباطن, وإنما يقتدى بمن جمع بينهما مع الزهد الظاهر والإيثار والورع والعلم بالمنازلات والأحوال والمقامات والخواطر. وقال الجنيد رضي الله عنه: "من لا يكتب الحديث, ويحفظ القرآن لا يقتدى به في هذا الأمر" فيجب على المريد ألا يقتدى إلا بالعالم المتجرد عن الدنيا العامل بما يعلم, ثم قال: ولا يتخيل لطالب هذا الأمر أنه يبلغ بذكائه أو ينظر في كتب الصوفية أو الحكماء ويعمل ويجتهد ويصلي, لا والله ما الأمر هين. واعلم أن ما شرطه الشيخ الشريشي في شيخ التربية من العلم الظاهر والباطن صحيح. أما العلم الظاهر, فالمطلوب منه تحصيل ما يحتاج إليه في نفسه فقط, ويحتاج إليه المريد في حال سيره, وهو القدر الذي لا بد منه من أحكام: الطهارة, والصلاة, ونحو ذلك, إذ كثير من العلوم الظاهرة لا مدخل لها في السير والسلوك إلى ملك الملوك, كالدماء, والحدود, والطلاق, والعتاق, وإلا لزم الحط من رتبة كثير من فحول الطريق وأعلام الوجود, والتحقيق, فقد كان كثير منهم متضلعين بعلوم الشريعة, وكثير منهم ليس عنده إلا ما يخصه من الذي لا بد منه. قلت إذا عرفت هذا عرفت بطلان قول من قال: إن شيخ التربية لا بد أن يكون جامعا للعلوم كلها, بحيث لو انقطعت العلوم كلها لأحياها, كيف وقد وجد كثير ممن اتفق الناس على تربيته وهو أمي: قال في العوارف: لما قال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه. صحبت أبا علي المسندي "بالسين", فكنت ألقنه ما يقيم به فرضه, وهو يعلمني التوحيد والحقائق صرفا. ومن المعلوم أن الشيخ ابن عباد رضي الله عنه لم يفتح له إلا على يد رجل أمي, وكذلك الغزالي. ومن المعلوم أن الغزواني لم تكن له يد في العلم الظاهر, فكان إذا جاءته فتيا في علوم القوم أرسل بهذا لتلميذه الهبطي. وكذلك شيخ شيوخنا. سيدنا عبد الرحمن المجذوب, لم يكن له معرفة بالعلم الظاهر, وكثير من الأولياء الأكابر كانوا أميين, وفي أسرار الولاية راسخين. وأما العلم الباطن فالمطلوب فيه التبحر التام, إذ المقصود بالذات في الشيخ المصطلح عيه عند القوم هو هذا العلم, لأن المريد إنما يطلب الشيخ يسلكه ويعلمه علم الطريقة والحقيقة, فيكون عنده علم تام بالله, وصفاته, وأسمائه, ومتعلقاتها, وأحكامها, وتفاصيلها, وفوائدها وحكمها, وأسرارها, وعلم تام بآفات الطريق ومكايد النفس والشيطان, وطرق المواجيد, وتحقيق المقامات, قد حصل له ذلك على سبيل الذوق والوجدان, بحيث إذا استخبر عن آفات الطريق وعلاماته, وعن حقيقة المقصد يخبر بحقيقة الأمر على ما هو عليه وحصلت له مع ذلك قوة وتمكن من رفع الموانع, وقطع العلائق الظاهرة والباطنة, وبصيرة نافذة ينظر بها في قابلية المريدين والمسترشدين, واستعداداتهم يحمل كل أحد على شاكلة قابليته, ويعين له طريقا يفضي منها إلى ربه "قاله الفاسي". وقال الساحلي: من الشروط التي لا بد منها في الشيخ أن يكون عنده من الكتاب والسنة ما يقيم به ما لا بد منه في الرسوم الشرعية, وما يبني عليه وظائف سلوكه, وإذا انضاف إلى ما يفتح الله به عليه من الحكمة في باطنه, فإنه يكون له في ذلك نور يمشي به في الناس, ويهديه إلى فهم خطابات الكتاب والسنة, إلى آخر كلامه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه كل شيخ لم تصل إليك الفوائد منه من وراء حجاب, فليس بشيخ. قلت: ولعله يشير إلى أن الشيخ الكامل يمد تلميذه ولو كان بعيدا عنه في الحس. وقال أيضا: والله أني لأوصل الرجل إلى الله من نفس واحد. وقال: الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: والله ما بيني وبين الرجل إلا أن انظر إليه وقد أغنيته. قلت: وقد لقينا والحمد الله في زماننا هذا من يغني بالنظر, صحبناهم وعرفناهم على قدم الشاذلي, والمرسي رضي الله عن جميعهم, وخرطنا في سلكهم آمين. ثم إذا توفرت فيه شروط الشيخوخة لزم اتباعه في طريق الخصوص, وإلى ذلك أشار بقوله: وأحدقوا من حوله يمشون ..... وكلهم إليه يوزعون قلت: أحدق القوم بالشيء: داروا به, ويوزعون, أي يضمون ويحشرون يقول رضي الله عنه: لما تحقق الناس بوجود شرط الشيخوخة في هذا الولي, واطلعوا على وجود السر عنده أحدقوا به وداروا من خلفه, يقتدون به ويهتدون بهديه, ويمشون على سننه, وكلهم يضمون إليه ويقربون من حضرته, لعل نفحات تهب من ناحيته فان لله رجالا من نظروا إليه سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا, وهم العارفون بالله. وقال في العوارف: إن نظر العلماء الراسخين والرجال البالغين ترياق نافع, ينظر أحدهم إلى الرجل الصادق فيستنشق بنفوذ بصيرته, حسن استعداد الصادق واستئهاله مواهب الله تعالى الخاصة, فيقع في قلبه محبة الصادق المريد, وينظر إليه نظرة محبة عن بصيرة, وهم من جنود الله تعالى, فيكسبون بنظرهم أحوالا سنية, ويهبون آثارا مرضية, وماذا ينكر المنكر من قدرة الله سبحانه وتعالى, وكما جعل في بعض الأفاعي من الخاصية إذا نظر إلى الإنسان يهلكه بنظره, هو قادر بأن يجعل في بعض خواص عباده أنه إذا نظر إلى طالب صادق يكسبه حالا وحياة. وقال في لطائف المنن: إنما يكون الاقتداء بولي دلك الله عليه,،وأطلعك على ما أودعه من الخصوصية لديه, فطوى عنك شهود بشريته في وجود خصوصيته, فألقيت إليه القياد فسلك بك سبيل الرشاد, يعرفك برعونات نفسك وكمائنها ودفائنها, ويدلك على الجمع على الله والفرار مما سوى الله, ويسايرك في طريقك حتى تصل إلى الله: يوقفك على إساءة نفسك, ويعرفك بإحسان الله إليك, فيفيدك معرفة إساءة نفسك: الهرب منها, وعدم الركون إليها, ويفيدك العلمَ بإحسان الله إليك الإقبالَ عليه والقيام بالشكر إليه, والدوام على ممر الساعات بين يديه. وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه. الشيخ, من شهدت له ذاتك بالتقديم, وسرك بالتعظيم. الشيخ من هذبك بأخلاقه وأدبك بإطراقه, وأنار باطنك بإشراقه. الشيخ: من جمعك في حضوره وحفظك في مغيبه. وقال أيضا "في لطائف المنن": ليس شيخيك من أخذت عنه. وليس شيخك من واجهتك عبارته إنما شيخك الذي سرت فيك إشارته. وليس شيخك من دعاك إلى الباب, إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب. وليس شيخك من واجهك مقاله, إنما شيخك من نهض بك حاله. شيخك هو: الذي أخرجك من سجن الهوى, ودخل بك على المولى. شيخك هو: الذي ما زال يجلو مرآة قلبك, حتى تجلت فيه أنوار ربك, نهض بك إلى الله, فنهضت إليه, وسار بك حتى وصلت إليه, ولا زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه, فزج بك في نور الحضرة, وقال: ها أنت وربك. هنالك محل الولاية من الله, ومواطن الإمداد من الله, وبساط التلقي من الله. ثم ذكر كيفية تسييره للمريدين, فقال: فرتب القوم على مراتب ..... ما بين ماش: راجل وراكب قلت: ينبغي للشيخ أن يكون ماهرا بالمسير, عارفا بأحوال السائرين, فيرتب القوم على مراتب, فمن كان ضعيفا في السير خاليا من الحال الحاملة له: جعله في وسط الركب يمشي خلف من سبقه, ويسيره من خلفه, ومن كان قويا في سيره محمولا على نجيب حاله, قدّمه مع المتقدمين, ليسير خلفه المتوسطون والمتأخرون. وقال الشيخ زروق رضي الله عنه: الماشي عبارة عن صاحب الأعمال والحركات الجسمانية, والراكب: إشارة إلى المحمول بحال أو عمل أو ذكر أو فكر, توجه له على بساط معرفة, وإنما يفعل بهم ذلك, لأن قوة النفس معينة لصاحبها على مراده, والله تعالى ينفع العبد بنيته على قدر همته, فلذلك تجد المسالك واحدا, والفتح مختلفا "يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل" هذا في شأن الأشجار النابتة, فكيف بالحقائق العرفانية, وما صحب أحد قط وليا إلا نال منه ما تقضي همته فإن وافقت نيته همته حصل الانتظام, وإلا وقع الاختلاف. قلت: يعني أن نية المريد: إن وافقت همة شيخه, وقع الانتظام في سلك الشيخ ولحق به, وإن كانت نية المريد مخالفة لهمة الشيخ بأن تكون نية المريد التبرك فقط, أو دخل معه على حرف من الحروف, وهمة الشيخ فيه الوصول, فانه يقع الاختلاف, ولا ينال منه إلا ما نوى, إلا إن سبقت له من الله سابقة, فلا بد أن تنهضه همة الشيخ إلى ما سبق له, والله تعالى أعلم. ثم أن دوام السير يوجب الملل, فلا بد لاستعمال ما يوجب الراحة, ليحصل النشاط, فقد قال عليه الصلاة والسلام: "أريحوا القلوب: ساعة بساعة" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان, فابتغوا إليها طرائف الحكمة". والى ذلك أشار الناظم بقوله: وحيث كلت نجب الأبدان ..... قال: أحدهما يا حادي الأظعان فمن هنا يلقب القوّالا ..... حاد لأجل حدوه الرجالا
قلت: الكلل هو العيا, وعبد كل: أي ثقيل, وكلت الأبدان: عييت, والنجب جمع نجيب, وهي الناقة الجيدة, وحدا يحدو حدواً بمعنى: غنى بالإبل ليسيرها, فهو حاد, أي مغن, والإظعان: جمع ظعينة, وهي الناقة المرحلة, وتطلق على المرأة الراكبة عليها مجازا, والتلقيب هو: إحداث اسم يشعر بالمدح أو الذم, وقد نهى الله تعالى عن اللقب المشعر بالذم, فقال: "ولا تنابزوا بالألقاب" وأطلقه الناظم هنا على مجرد التسمية, أي: وسموا القوال الذي يغني حاديا لأجل حدوه بالرجال السائرين, وحقه أن يقول حاديا لأنه منصوب, لسكنه جرى على لغة من يقدر الإعراب كله في المنقوص. يقول رضي الله عنه: وحيث دام السير, وحصل الملل, وكلت الأبدان في الخدمة, أو القلوب في الفكرة, أو الأرواح في النظرة, أو الأسرار في العكوف في الحضرة, وخيف عليها حصول الفترة, قال الشيخ, أو نائبه, لمن يحسن الغناء: أحد بهذه القلوب أيها الحادي, وذكرها معاهدها الأصلية, ومواطنها القدسية, فيغني بما يليق بكل واحد في محله, ولهذا المعنى اتخذوا قوّالا في حلقة الذكر, لأنه يهيج وينشط, ويحسن أيضا بعد تمام الذكر خشية أن يكون حصل شيء من الممل, فيروح بذلك. والحاصل أن من سياسة الشيوخ إعانة النفوس بما يقتضيه حالها على ما هو المراد منها, ثم أن الطباع مختلفة وأحوال السالكين مفترقة, فمنهم من تنتعش قواه بالمعارف والعلوم, فيذكر له منها ما يقوى حاله بوجه يشوق ولا يشوش. ومنهم من ينتعش حاله بالتذكر والوعظ, فيكون تذكيره عونا له على سلوكه, ورفعاً لهمته. ومنهم من ينتعش قواه بالمذاكرة في العلوم واستخراج دقائق المفهوم, فيكون ذلك منهضا له في حاله, فيؤتي كل أحد بما ينعشه, واليه تشير الآية الكريمة, وهي قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, وجادلهم بالتي هي أحسن" فأهل الصدق يكفي فيهم الدعاء إلى الله بالحكمة, وهي الهمة القوية. وأهل الاعتقاد والتسليم يكفي فيهم الدعاء بالموعظة الحسنة. وأهل الانتقاد يجادلهم بالتي هي أحسن, فإن سبقت لهم سابقة نفعهم التذكير, وإلا فإنما أنت نذير. ومن الناس أيضا من ينتفع بالحكايات وذكر الكرامات. ومنهم من يتأثر بالشعر والسماع. ومنهم من يتأثر بنغم الأوتار وآلات الطرب. ومنهم من يتأثر بسماع الزمارة والكبر, ومنهم من يتأثر بسماع الطنبور والبندير وغير ذلك من آلات اللهو. وفي ذلك يقول الشاذلي رضي الله عنه فيما نسب له: ومنا من يهيم على سماع ..... ببندير وعود ونقر طار ومنا من يهيم على علوم ..... وقرآن وذكر وافتكار قال بعض الحكماء: من سار إلى الله بطبعه كان وصوله أقرب إليه من طبعه, ومن سار إلى الله بالبعد من طبعه كان وصوله على قدر بعده من طبعه, وذلك يقتضي له الاستهلاك قبل الوصول, فلا يتنعم برؤية الحق إلا في آخر نفس من وجوده, إن وجد, وإلا فهو بعيد في دعواه, ومحجوب برؤية نفسه. قلت: وطريق الشاذلية ممن سار إلى الله بطبعه, فكان وصولها أقرب إليهم من طبعهم, لأنهم بنوا أصولهم وطريقهم على رؤية الحق والفناء فيه بأول قدم, حسبما استقرى من أحوالهم, فهم يتنعمون برؤية الحق في أول قدم, ولذلك قال القطب ابن مشيش رضي الله عنه: "من دلك على الدنيا فقد غشك, ومن دلك على العمل فقد أتعبك, ومن ذلك على الله فقد نصحك" فالدلالة على الله هي الفناء فيه والانحياش, والغيبة عما سواه, وعلى هذا بنت الشاذلية طريقهم, حققنا الله بمعرفتهم, آمين. ثم بين حقيقة هذا السفر فقال: والسفر المذكور بالقلوب ..... والشيخ في منزلة الطبيب قلت: السفر هنا هو سفر القلوب إلى حضرة علام الغيوب, وهو من أربعة مواطن إلى أربعة مواطن: يسافر أولا من موطن الذنوب والغفلة إلى موطن التوبة واليقظة. ويسافر ثانيا من موطن الحرص على الدنيا والانكباب عليها إلى موطن الزهد فيها والغيبة عنها. ويسافر ثالثا من موطن مساوئ النفوس وعيوب القلوب إلى موطن التخلية منها والتحلية بأضدادها. كما قال في الحكم: اخرج من أوصاف بشريتك من كل وصف مناقض لعبوديتك, لتكون لنداء الحق مجيباً, ومن حضرته قريباً. ويسافر رابعا من عالم الملك إلى شهود عالم الملكوت, ثم إلى شهود الجبروت, أو من عالم الحس إلى عالم المعنى, أو من عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح, أو من شهود الكون إلى شهود المكوّن. وهذا السفر إنما هو معنوي, كناية عن مجاهدة النفوس ومحاربتها في ردها عن عوائدها ومألوفاتها, وفي تخليتها من الرذائل, وتحليتها بالفضائل. وفي الحكم: لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين, لا مسافة بينك وبينه, حتى تطويرها رحلتك, ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:10 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وقال أيضا: كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته, إلى آخره. وكما أن الشيخ بمنزلة شيخ الركب في معرفة الطريق, هو أيضاً بمثابة الطبيب الذواق, فهو طبيب القلوب بما علم وعرف من أحوالها, وعالج من أمراضها, وبما شاهد وذاق من أنوارها وأسرارها. وقد أشار الفضيل رضي الله عنه إلى هذا حيث قال: العالم طبيب الدين, والدنيا داء الدين, فإذا كان الطبيب يجر الداء إلى نفسه فمتى يبرىء غيره, وأنشدوا: وغير تقي يأمر الناس بالتقى ..... طبيب يداوي الناس وهو عليل وقال آخر: يا أيها الرجل المعلم غيره ..... هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا .... ومن الضنى وجواه أنت سقيم وأراك تلقح بالرشاد عقولنا ..... نصحاً وأنت من الرشاد عديم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ..... فإذا انتهيت عنه, فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى ..... بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ..... عار عليك إذا فعلت عظيم ولما كان علم الطب مركباً من علم وعمل, هو صنعة العقاقير, أشار الناظر إلى بعض ذلك بقوله: يعلم منها الغث والسمينا ..... ويدرك الصلب معاً واللينا قلت: الغث اللحم الهزال, وهو ضد السمين, والصلب هو الشديد اليبوسة, وهو ضد اللين. يقول رضي الله عنه: إذا كان الشيخ بمنزلة الطبيب, فلا بد أن يكون له اطلاع على القلوب, واستشراف على النفوس يعلم ما كان منها غثا ضعيفاً من العلم والعمل والحال, خالياً من اليقين, خراباً من النور, فيعامله معاملة الجائع الهزال, فيعطيه من الأذكار ما يقويه على حاله, ومن الأعمال ما يغنيه عن أشكاله, ويمد باطنه من مدد الهمة ما يسد به فقره ويجبر به كسره. ويعلم أيضا ما كان منها سميناً بعلم أو عمل حال, أو بنور يقين أو معرفة أو غير ذلك, فيعامله بالترقية والتربية اللائقة به, وإذا كان سمنه مفرطاً رده إلى الوسط, فخير الأمور أوسطها. وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص عن صيام الدهر وقيام الليل: لكنه غلب عليه القوة فتمسك بذلك, ثم ندم. ويكون أيضاً حال هذا الشيخ الطبيب يدرك القلب الصلب, وهو القاسي من كثرة الذنوب والغفلة, فيحمله على التوبة, ويوقظه من الغفلة, ويأمره بما يلين قلبه, كالصيام وصحبة الفقراء وقيام آخر الليل, وغير ذلك مما يزيل علته وقساوته. ويدرك القلب اللين بالخشوع والخضوع, فيأمره بالترقي إلى مقام الإحسان, ويطوي عنه مسافة أعمال الجوارح, من أعمال أهل الإسلام والإيمان, وهكذا يعامل كل قلب بما يناسبه. قال في العوارف: ينبغي للشيخ أن يتفرس في المريد ويعامله على حسب صلاحيته واستعداده, ثم قال: ينبغي للشيخ أن يعتبر حال المريد, ويتفرس فيه بنور الإيمان وقوة العلم والمعرفة, فمن المريدين من يصلح للتعبد المحض, وأعمال القلوب وطريق الأبرار, ومن المريدين من يكون مستعداً صالحاً للقرب وسلوك طريق المقربين المرادين بمعاملة القلوب والمعاملات السنية, ولكل من الأبرار والمقربين نهايات وبدايات, فيكون الشيخ صاحب الإشراف على البواطن, يعرف كل شخص وما يصلح له, ومن العجب أن الصحراوي يعرف الأرضيين والغرس, ويعلم كل غرس وأرضه, وكل صاحب صنعة يعلم منافع صنعته ومضارها, حتى المرأة تعرف قطنها وما يتأتى من الغزل: دقته وغلظه, ولا يعلم الشيخ حال المريد وما يصلح له. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس على قدر عقولهم, ويأمر كل شخص بما يصلح. فمنهم من أمره بالإنفاق. ومنهم من أمره بالإمساك. ومنهم من أمره بالكسب. ومن من أقره على ترك الكسب, كأصحاب الصفة, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أوضاع الناس وما يصلح لكل أحد. فأما في رتبة الدعوة فكان يعمم الدعوة, لأنه مبعوث لإثبات الحجة وإيضاح المحجة, يدعو على الإطلاق ولا يخصص بالدعوة من يتفرس فيه الهداية دون غيره. ثم تمم أوصاف الشيخ الطبيب, وهو العلم والعمل, فقال: ويعلم البسيط والمركبا ..... وما بدا منها عليه واختبا والطبع والمزاج والتركيبا ..... والكون والتحليل والترطيبا قلت: البسيط هو المفرد الذي لم يتركب من جواهر, والمركب ضده, وبدا الشيء ظهر, واختبا "بالباء": بمعنى استتر, ومنه الخبء في قوله تعالى: "يخرج الخبء في السماوات" أي المستتر والمخفي فيها, والطبع ما جبل عليه الإنسان من خوف أو شجاعة أو بخل أو كرم, أو غير ذلك. والمزاج: ما ركب منه بدنه كالحرارة, والبرودة؛ واليبوسة, والرطوبة, وغير ذلك. والتركيب: إضافة الشيء إلى غيره كتركيب العقاقير والأدوية. والكون: ما كان عليه الجسم من صحة أو مرض. والتحليل: هو تذويب ما تجمد, كتحليل ما انعقد في جوف الإنسان من العلل بدواء ونحوه. والترطيب: تليين ما صلب ويبس. يقول رضي الله عنه: لا بد للشيخ أن يكون ماهراً بأحوال القلوب, عارفاً بعللها, عالماً بعلاجها, يعلم ما كان منها بسيطاً: أي مفرداً من حب الأشياء, ليس فيها إلا قصد واحد, وهم واحد, ومحبة واحدة, وهو الذي أشار إليه الجنيد رضي الله عنه حين قالوا له: كيف يصل العبد إلى التحقيق؟ فقال: بقلب مفرَّد, فيه توحيد مجرد, بعد تحصيل أمور ذكرها قبل, فهذا القلب سهل العلاج قريب الصحة, لأن المرض إذا كان مفرداً قرب علاجه, وهذا القلب حين سلم من تشغيب الهموم, ولم يبق له إلا هم واحد, لم يبق فيه إلا مرض واحد, وهو حجاب الوهم, فعلاجه في ترقيته ورفع حجابه, بخلاف القلب الذي تشعبت فيه الهموم, فهو أصعب في العلاج لتركيب أمراضه وتراكم علاجه, وهو المراد بالمركب. وقد قال بعضهم: القلب كالمعدة, والمعدة بيت الداء, فإذا كثرت عليها الأخلاط مرضت وفسدت؛ وعلاجها الحمية من الأخلاط, وكذلك القلب إذا كثرت عليه الهموم والخواطر, فسدت فكرته, وانطمست مرآة بصيرته, وإذا قلت منه الهموم والخواطر, سلمت فكرته, وانصقلت مرآته. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم لم يبال به الله في أي أودية الدنيا هلك". وعلاج هذا بالعزلة والصمت, وإخراج الدنيا من يده, إلا قدر ضرورته. ويحتمل أن يريد بالبسيط والمركب: نفس العيوب التي هي مرض القلب, فيعلم القلب الذي مرضه بسيط, وهو الذي فيه مرض واحد, والقلب الذي مرضه مركب, وهو الذي كثرت علله وأمراضه, فيعالج كل واحد على قدر علله وأمراضه, ويدل على هذا الاحتمال قوله: "وما بدا منها عليه واختبا" فان المراد به المرض الظاهر, كمعاصي الجوارح الظاهرة, والمرض الخفي كمعاصي القلوب الباطنة, وهي أصعب في العلاج كالرياء, والعجب, والكبر, وحب الجاه, والرياسة, والمدح, وغير ذلك من الأمراض. وفي الحكم: حظ النفس في المعصية ظاهر جلي, وحظها في الطاعة باطن خفي, ومداواة ما يخفى صعب علاجه. وقال أيضا: تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال. وقال أيضا: لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق؛ فمداواة الأمراض الظاهرة التزام التوبة والتقوى والاستقامة؛ فان صعبت عليه فيلزم صحبة الشيخ ومداومة الجلوس بين يديه, أو تكرار المجيء إليه, فإن نظر الشيخ ترياق, فان صحبه ولم يشف من مرضه فليعلم أن صدقه ضعيف, أو شيخه ضعيف, فان الشيخ إذا كان له نور يمشي به في الناس جامعا بين جذب وسلوك, لا يمكن أن يصحبه العليل بالصدق ولم يشف من ساعته. وقد قالوا: سيدي ابن سيدي هو: الذي يحل عني قيودي. وقال شيخ شيوخنا سيدي العربي بن عبد الله: طريقتنا كالسكين الماضية, يأتينا الرجل مكبلا بشهواته فتنقطع يده من ساعة, فكل من صحب شيخاً بالصدق ولم ينفك عنه كبل المعاصي, فلينظر شيخاً آخر, والله تعالى أعلم. والفرق بين الاحتمالين: أن الأول جعل البسيط والمركب من صفة القلب, والثاني جعله من صفة المرض, وهو أليق بما بعده, ويعلم أيضا هذا الشيخ الطبيب: طبع المريد, وما جبل عليه من قبض أو بسط, أو شح أو كرم, أو سخاء أو خوف, أو شجاعة, أو غير ذلك من الطبائع, فيعالجه بما يصلح لطبيعته, فان كان منقبضا أمره بشيء من البسط, وان كان بخيلا أمره بالبذل والإيثار, وهكذا يقابل الأشياء بأضدادها, ويعلم أيضا مزاج الفريد, هل هو بارد الهمة, قليل الطلب أو هو حار متعطش, السخانة غالبة عليه, أو هو معتدل, فان رآه باردا أمره بصحبة الفقراء والحك معهم, أو دوام صحبته وإن رآه حارا متعطشا أمره بالقصد والتوسط في الخدمة, لقوله عليه الصلاة والسلام: "أكلفوا من العمل ما تطيقون, فان الله لا يمل حتى تملوا" وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "لا يمكن أحدكم كالمنبت "أي المنقطع" لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى". وإن رآه معتدلا سيره كذلك, ويعلم أيضا كيفية تركيب العقاقير والأغذية, فمن رآه يليق به ذكر واحد: لقنه له بسيطا, ومن رآه يليق به ذكران أو ثلاثة, لقنه كذلك, ومن رآه يصلح للفكرة, أمره بها, ومن رآه يصلح للفكرة والنظرة ركبها له, وكذلك الذكر مع الفكرة يركبهما لمن يقدر عليهما, وهكذا, ويعلم أيضا كون القلب: هل هو سليم أو سقيم, وهل هو أهل للخدمة أو للمحبة, فإن القلب الذي لا يطيق أنوار المعرفة لا يصلح لصاحبه إلا اشتغاله بالخدمة, ويعلم أيضا تحليل العلل الجامدة, وتذويبها, كمن تمكنت فيه الرياسة والجاه, فلا يحللها إلا الخراب الكبير والذل الكبير, وكل ما يسقط من أعين الناس, , وكذلك من تمكن فيه حب الدنيا وجمعها, لا يحلله إلا الزهد الكبير, وكذلك من تمكن فيه الشح والبخل, لا يحلله إلا العطاء والبذل, وهكذا. ويعلم أيضا ترطيب العلل اليابسة كقسوة, وغفلة, وجمود العين, وقبض النفس, فيأمره بما يعالج كل داء على حدته. فالقسوة: تذهب بالذكر والتلاوة والتدبر والصيام والتضرع آخر الليل, وقس على هذا, والغفلة تذهب بملازمة الذكر, ومراقبة الوقت. وجمود العين تنفع فيه المواعظ والزواجر, وقبض النفس تنفع فيه مذاكرة ما يقوى الرجاء ويوجب الفرح, وهكذا. وهذا الذي قلته ليس هو عين الدواء وحده, إنما نبهنا على الأصل المهم, وليقس ما لم يقل, ثم كمل أحوال الشيخ الماهر, فقال: قد أحكم التشريح والمفاصل ..... وصار علم الطب فيه حاصل قلت: علم التشريح هو: علم الطب, وسمي علم التشريح لأنه يشرح بواطن الحيوانات ويعلم دواخلها وأسباب عللها وصحتها, وفسادها ويعرف طبائعها وأمزجتها, فهو يشرح ذلك شرحا بالتجربة والاطلاع, حتى إن أطبة العجم يشقون على جوف الميت وينظرون علته, التي أعضلتهم فيعالجونها بالأمور المحللة, حتى تنحل, ليعرفوا كيفية علاجها في غيره. وعلم المفاصل هو: ما يتعلق بعلاج الجوارح الظاهرة, كالوجع الذي يكون في مفاصل اليدين, والرجلين وسائر الجوارح. وقد قيل: إن في الإنسان ثلاثمائة وستة وستين مفصلا, على عدد أيام السنة, كل مفصل قائم بحكمة الله وقدرته, نصفها متحرك ونصفها ساكن, فإذا سكن المتحرك أو تحرك الساكن ضربه الوجع, فيحتاج إلى علاج, فيكون الطبيب عالماً بما يعالجه. وعلم الطب هو: العلم بالطبيعات السبعة, والضروريات الستة, والأمور الخارجة عنها وهي ثلاثة, والعلم بخواص العشب وتركيب الأغذية والعقاقير. يقول رضي الله عنه: يشترط في الشيخ أن يكون قد أحكم علم تشريح القلوب؛ واطلع على أسباب فسادها وصلاحها وصحتها وسقمها, عارفاً بعلاج أمراضها وعللها؛ علم ذلك ببصيرة نافذة ومكاشفة غيبية قد عالج نفسه وطهرها, وطهر قلبه من صدأ الحس وصفا مرآته من صور الأكوان, فإذا كان فعل ذلك, فان قلبه يصير كالزجاجة الصافية, فينطبع فيه بواطن المريدين, فيعالجهم بما يتجلى فيه من أمورهم, بإذن الله. يقع الشفاء بمجرد المواجهة والمقابلة, وهذا الذي شهدناه من أشياخنا, ولذلك قال بعضهم: أن تربية الشاذلية إنما هي بالهمة والحال, يعني أن الغالب فيها نهوض الهمة والحال أكثر من نهوض الاصطلاح والمقال, وإلا فالجميع موجود والحمد لله. هذا معنى كلامه والله تعالى أعلم. ويشترط فيه أيضا أن يكون أحكم علم المفاصل, ويعني به ما يتعلق بإصلاح الجوارح الظاهرة, فيكون جامعا بين علم الشريعة وعلم الحقيقة, وقد تقدم أنه إنما يحتاج منها لما يلزمه في خاصة نفسه, أو ما يتوقف السير عليه من إتقان ما كلف به الإنسان, "راجع ما تقدم". ويشترط فيه أيضا أن يكون علم الطب "أي طب القلوب" صار حالًا فيه راسخاً في معرفته؛ قد شفا الله على يديه خلقاً كثيراً, وجماً غفيراً. وأما من لم يعرف بالتداوي والشفاء, ففيه غرر, وفي صحبته خطر. قال الإمام أبو حامد رضي الله عنه: وكما أن معيار الدواء مأخوذة من معيار العلة, حتى أن الطبيب لا يعالج العليل ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة,، فان كانت من حرارة فيعرف درجتها, هل هي ضعيفة أو قوية, فإذا عرف التفت إلى أحوال البدن, وأحوال الزمن, وصناعة المريض, وسنه وسائر أحواله, فيعالج بحسبها, فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبّب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين, ينبغي إلا يهجم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وطريق مخصوص, ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد, لقتل أكثرهم, فكذلك الشيخ, لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة؛ لقتل أكثرهم, وأمات قلوبهم. قلت: فينبغي للشيخ أن يتفرس ببصيرته في حال المريدين, فمن رآه يصلح للتجريد لقوة يقينه أو خفة مؤونته, جرده ومن رآه لا يصلح له تركه في الأسباب, ومن كان أهلا للخرقة البسه إياها, ومن كان غير أهل لها: تركه في لباسه؟ ومن كان أهلا للعزلة أمره بها, ومن كان قد استأنس بها أمره بالخلطة لقوة حاله, ومن كان ذا جاه ورياسة أمره بالخراب والسؤال ونحوه, ومن كان خاملا أمره بما يليق به, وهكذا, والله تعالى أعلم. ثم تمم أحوال الشيخ فقال: وكان عشابا وصيدلاني ..... قدحا وكحّالا ومارستاني قلت: العشاب هو الذي يعرف أعيان العشب ومنافعها وخواصها, وهو من شأن الأطبة, والصيدلاني هو: الذي يعرف أنواع العطرية التي تتركب منها العقاقير: منسوب إلى صيدلة, وهو: العطر, قاله في القاموس. والقدح وهو: إخراج الماء الفاسد من العين, ويقال للفاعل: قداح, والكحال هو الذي يعرف أدوية العين ويعالجها بأنواع الكحل, والمارستاني هو الذي جمع أنواع الطب فيعالج أنواع المرض في أشخاص مختلفة, والمارستاني: دار كبيرة معدة للمرضى؛ والقائم عليها يسمى المارستاني, ولا يكون إلا ماهرا بالطب, عالما بأنواعه, وقد اخبرني من أثق به أن الروم عندهم مارستان كبير, وعليه طبيب ماهر, يداوي كل من يأتيه, ولهذا المارستان عندهم أحباس عظيمة, يقوم بها على المرضى, والمراد هنا هو طب القلوب. يقول رضي الله عنه: يشترط في طبيب القلوب ما يشترط في طبيب الأبدان, فيشترط فيه أن يكون عارفا بتركيب أدوية القلوب وأشربتها, وأغذية الأرواح وأسقيتها, عالما بمنافع الأذكار وأذواقها, ونتائج الأفكار ومعارفها, فالأذكار كالأغذية للقلوب, والعلوم كالأشربة لها, والمذاكرة كالأغذية للأرواح, والفكرة والنظرة كالأشربة لها, وصحبة العارفين والجلوس بين أيديهم فيه مدد كبير للقلوب والأرواح والأسرار, هو غذاؤهم وشرابهم, وفيه دواؤهم وشفاؤهم, كل على قدر صدقه ومحبته, وعلى قدر مقامه ومرتبته "قد علم كل أناس مشربهم" قال محيي الدين بن عربي رضي الله عنه: ومتى لم يكن الطبيب مميز أعيان الأعشاب والعقاقير, عارفا بتركيب الأدوية فإنه مهلك للمريض فان العلم من غير العين لا يفيد, فلا بد من عين اليقين, ألا ترى لو كان للعشّاب غرض في إهلاك المريض, فإذا وصف الطبيب الدواء من جهة كونه عالماً به, وهو لا يعرف شخص الدواء, وقلد العشاب في ذلك فأعطاه العشاب ما فيه هلاك العليل, وهو يقول: هذا مطلوبك ليسقيه الطبيب للمريض فيهلك, فانه لا يداوي إلا بما يعرف شخصه وعينه, فكذلك الشيخ إذا لم يكن صاحب ذوق, وأخذ الطريق من الكتب لا من أفواه الرجال, وقصد يربي المريدين طالبا للرياسة, فانه يهلك من تبعه, لأنه لا يعرف مورد الطالب ولا مصدره, فلا بد أن يكون عند الشيخ دين الأنبياء, وتدبير الأطباء, وسياسة الملوك, وحينئذ يقال له: أستاذ, وقوله "قدحاً" على حذف مضاف, أي ذا قدح أو يكون مصدرا بمعنى اسم الفاعل, حالا, أي قادحا, كقولك جاء زيد ركضا أي راكضا, والمراد أن الشيخ لا بد أن يكون عارفا بأدوية مرض البصيرة, فان كانت فاسدة بشك, أو كفر, أو نفق قدح عليها وأخرج ما فيها من فساد الإيمان وأبدلها بالطمأنينة وصريح الإيقان, وهذا الدواء يكون لأهل النور الكبير, والعناية الكبيرة, الذين يغنون بالنظرة, وان كانت صحيحة الناظر؛ إلا أنها مسدودة بمرض الحس والوهم, أو مطموسة بالحرص والجزع والهلع, وعلامة ذلك اجتهاد صاحبها فيما ضمن له, وتقصيره فيما طلب منه, عالجها له بكحل توحيد الأفعال, حتى يتيقن أن الذي انفرد بالخلق والتصوير, هو الذي انفرد بالحكم والتدبير, وان الذي غرس الشجرة هو ساقيها, والقائم عليها فيذهب عنه الهم والجزع, والخوف, والهلع, والحرص, والطمع, ويصير قلبه واثقا بمولاه, غنيا به عما سواه وإذا فتحت البصيرة وظهر لها شعاع النور حتى أبصرت قرب الحق منها إلا أنها لضعفها لا تستطيع مقاومة شهود النور, كحلها بكحل توحيد الصفات, فإذا فتحت عينها وقويت على شهود النور المحيط بها, لكنها لم يقو نورها حتى تتصل بالنور المحيط بها, كحلها بكحل توحيد الذات, فيصل نورها بنور الجبروت, فلا تشهد إلا النور, فحينئذ يكمل شفاؤها وينجح دواؤها, وهذا شرح قول ابن عطاء الله "شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك, وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده, وحق البصيرة يشهدك وجوده؛ لا عدمك ولا وجودك, "كان الله ولا شيء معه, وهو الآن على ما عليه كان". وقوله: ومارستاني: أراد أن الشيخ لا بد أن يكون جامعا لعلوم المعاملة, عارفا بأدوية الأمراض على اختلاف أنواعها وأصنافها قد قدمه أهل وقته, وشهد له بذلك أهل فنه؛ وهذا قد لا يشترط لغلبة الخفاء على أهل هذا الفن, والله تعالى أعلم. ثم ذكر ما بقي من أحوال الشيخ فقال: أمهر في الأعراض والأخلاط ..... من أسقلا جالينوس أو بقراط قلت: التمهر في الشيء هو: التوسع في علمه, والماهر هو: الواسع العلم, وفي الحديث "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة" أي الواسع في حفظه أو علمه, والأعراض جمع عرض, وهو ما يعرض للبدن من: أسقام, وأوجاع, وحرارة, وبرودة, ومما يدل على وجود المرض, هذا في علم الطب, وهو عند المتكلمين اعم من هذا, والأخلاط ما اجتمع في المعدة من العلل المتضادة الناشئة عن اختلاط الأغذية المختلفة, "وأسقلا جالينوس" "بفتح الهمزة وسكون السين وفتح القاف ولام مفتوحة ممدودة وجيم مفتوحة ممدودة ولام مفتوحة وياء ساكنة ثم نون مضمومة ممدودة ثم سين ساكنة" اسم حكيم من اليونان, وكذلك بقراط "بضم الباء وسكون القاف" فيلسوف حكيم, وكانا ماهرين بعلم الطلب, و"أمهر" اسم تفضيل معطوف على خبر كان منصوبا, وأو بمعنى الواو. يقول رضي الله عنه: يكون هذا الشيخ أمهر في علم القلوب من هذين الطبيبين الحكيمين, وأراد بالأعراض كل ما يعرض للمريد في حال سلوكه من القواطع والشواغل, كميله للرياسة والجاه, وتقدمه للمراتب قبل كماله, وكميله للدنيا واشتغاله بالأسباب قبل ترشيده, وكمال بقائه؛ وغير ذلك مما يقطع عن السير. وأراد بالأخلاط: الخواطر الرديئة والمقاصد الدنيئة, فيكون الشيخ عارفا بالخواطر النفسانية والشيطانية, والملكية, والربانية, ويكون أيضا عارفا بالمقاصد السنية والدنية, والهمم العالية والسفلية, فيعالجه من الأخلاط بجمع قلبه على الله, والغيبة عما سواه, وبالفناء التام وتفرغ القلب على الدوام, ويعالجه من المقاصد الدنية كحب الحظوظ وطلب الحروف, بالدلالة على تحقيق العبودية, والقيام بوظائف الربوبية الذي هو مطلب العارفين, والله تعالى أعلم. وإذا تكاملت في الشيخ هذه الخصال: صح أن يقصده الرجال لشفاء ما فيهم من العلل, كما أبان ذلك بقوله: فعندما صح له التحصيل ..... يممه السقيم والعليل فكان يبريهم من الأمراض ..... والساخط القلب يعود راض قلت: يريد فعند ما صح له تحصيل هذه الخصال على التمام والكمال, قصده السقيم, وهو الذي خف مرضه, والعليل وهو الذي: تناهت علته, وقيل هما سواء, فيكون من عطف التفسير, فكان يبريهم من أمراض القلوب, وأعظمها هم الرزق وخوف الخلق, ثم التدبير والاختيار, ثم الغضب والقنط عند نزول الأقدار, فيعالجه بهمته ونور بصيرته, ويلاحظه بنظرته حتى يمتلئ قلبه بنور اليقين, فيستغني بالله عن كل ما سواه, وتشرق عليه أنوار التوحيد, فيستريح من كل التدبير والاختيار, فحينئذ يذوق حلاوة الإيمان, فيرضى عن الله في كل حال وأوان. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا, وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا". قال في التنوير: فمن رضي بالله ربا استسلم له, ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم اتبعه, ومن رضي بالإسلام دينا عمل به. قلت: ولا شك أن القلب إذا كان عليلا لا يذوق حلاوة الإيمان, ولا يجد للطاعة ولا للمناجاة لذة, ففم السقيم لا يجد للطعام ولا للشراب لذة, فإذا صح القلب ذاق حلاوة الإيمان, ومن أركانه الإيمان بالقدر, خيره وشره, حلوه ومره, فيستحلي ما يبرز من عنصر القدرة كيفما كان, إذ كل ذلك من عند الحبيب, ولله در القائل حيث قال: إذا كانت الأقدار من مالك الملك ..... فسيان عندي ما يسر وما يبكي رضيت بما يقضي الإله فأمره ..... يقابل بالإقبال عند ذوي النسك وإن صلى الإنسان نار مشقة ..... فما الذهب الإبريز إلا أخو المسك أخو الصبر لا يخشى أمورا وإنما ..... يهنأ في الحالين من غير ما شك قوله: "والساخط القلب يعود راض" هذا علامة الشفاء, فما دام العبد ينقبض عند الجلال والشدة, وينبسط عند الجمال والرخاء ففيه بقية من مرض القلب, فإذا استوت عنده الأحوال, فذلك علامة الصحة على الكمال, ويتصل بمقامات الرجال. سئل ذو النون المصري رضي الله عنه عن وصف الأبدال, فقال: "سألت عن دياجي الظلام, لأكشف لك عنها, هم قوم ذكروا الله بقلوبهم تعظيما لربهم, لمعرفتهم بجلاله, فهم حجج الله تعالى على خلقه, ألبسهم الله تعالى النور الساطع من محبته, ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته, وأقامهم مقام الأبطال بإرادته. وأفرغ عليهم من مخافته, وطهر أبدانهم بمراقبته, وطيبهم بطيب أهل معاملته, وكساهم حللا من شبح مودته, ووضع على رؤوسهم تيجان مبرته, ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب, فهي متعلقة بمواصلته, فهممهم إليه ثائرة, وأعينهم إليه بالغيب ناظرة, قد أقامهم على باب النظر من رؤيته, وأجلسهم على كرسي أطباء أهل معرفته, ثم قال لهم: إن أتاكم عليل من فقدي فداووه, أو مريض من فراقي فعالجوه, أو خائف مني فانصروه, أو آمن مني فحذروه, أو راغب في مواصلتي فمنوه, أو راحل نحوي فزودوه, أو جبان في متاجرتي, فشجعوه أو آيس من فضلي فرجوه, أو راج لإحساني فبشروه, أو حسن الظن بي فباسطوه, أو محب لي فواصلوه, أو معظم لقدري فعظموه, أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه, أو مسترشد فأرشدوه" انتهى كلامه رضي الله عنه. ثم نبه على المقصود بهذا العلم, فقال: وليس هذا طب جالينوس ..... وإنما يختص بالنفوس قلت: نبه رحمه الله على أن هذا الطب الذي ذكر ليس هو طب الأبدان الذي كان يعرفه جالينوس الحكيم, وإنما هو طب النفوس لتصلح لحضرة القدوس, وطب القلوب لتصح من الأمراض والعيوب, وتتهيأ لدخول حضرة علام الغيوب, فتخرط في سلك "من أتى الله بقلب سليم" ويكون "في مقعد صدق عند مليك مقتدر" في جوار الكريم, متعنا الله بالسكنى في حضرته في الدنيا والآخرة. ثم ذكر قلة هذا الطب في زمانه, فقال: فهكذا الشيوخ قدما كانوا ..... يا حسرتي إذ سلفوا وبانوا قلت: الإشارة تعود على ما ذكر في الفصل في أحكام الشيوخ, من معرفتهم بالطرق ومسالكها: سهلها ووعرها, ومعرفتهم بطب القلوب وأنواع الأدوية والعقاقير, وعلمهم بعلل النفوس وأمراضها, ثم تأسف وتحسر على ذهابهم, أي فراقهم في دار الدنيا, وسكناهم دار البقاء, ولكن لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته, كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه. وقد وردت أخبار في مدح مقام الشيوخ والتنويه بقدرهم عند الله. قال في العوارف: ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: "والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمنَّ لكم: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده, ويحببون عباد الله إلى الله, ويمشون في الأرض بالنصيحة". وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة إلى الله, لأن الشيخ يحبب الله إلى عباده حقيقة, ويحبب عباد الله إلى الله, ورتبة المشيخة والدعوة من أعلى الرتب في طريق الصوفية ونيابة النبوة في الدعاء إلى الله. فأما وجه كون الشيخ يحبب عباد الله إلى الله لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله, قال الله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". ووجه كونه يحبب الله تعالى إلى عباده, لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية, وإذا تزكت النفس: انجلت مرآة القلب, وانعكس فيها نور العظمة الإلهية, ولاح فيها جمال التوحيد, وذلك ميراث التزكية, قال الله تعالى: "قد افلح من زكاها" وفلاحها بالظفر بمعرفة الله, وأيضا مرآة القلب إذا انجلت لاحت فيها الدنيا بقبحها وحقيقتها وماهيتها, ولاحت الآخرة بنفاستها بكنهها وغايتها, فينكشف للبصيرة حقيقة الدارين, وحاصل المنزلين, فيحب العبد الباقي ويزهد في الفاني, فتظهر فائدة التزكية وجدوى المشيخة والتربية, فالشيخ من جنود الله تعالى, يرشد به المريدين, ويهدي بي الطالبين. ثم قال: فعلى المشايخ وقار الله, وبهم يتأدب المريد ظاهرا وباطنا, قال الله تعالى: "أولئك الذين هدى الله, فبهداهم اقتده" فالمشايخ لما اهتدوا أهلوا للاقتداء بهم, وجعلوا أئمة المتقين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل, إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي, جعلت همته ولذته في ذكري, فإذا جعلت همته ولذته في ذكري, عشقني وعشقته, ورفعت الحجاب فيما بيني وبينه, لا يسهو إذا سها الناس, أولئك كلامهم كلام الأنبياء, أولئك الأبطال حقا, أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة أو عذابا ذكرتهم فصرفته بهم عنهم". انتهى. ثم أشار الحكم الثاني من أحكام التصوف فقال: "الحكم الثاني في حكم الاجتماع".
اعلم أن الاجتماع عند القوم هو أعظم الأركان وأهمها, حتى قال بعضهم: التصوف مبني على ثلاثة أركان: الاجتماع, والاستماع, والاتباع, فكل من انفرد عن الإخوان واشتغل بنفسه لا يجيء منه شيء, والمؤمنون كالشياه, فإذا انفردت شاة عن الغنم, كانت من سهم الذئاب, وقد رغب الله في الاجتماع, قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى, ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". وقال صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة". وعن معاوية رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا, قال: والله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذلك, قال: أما إني لم استحلفكم تهمة لكم, ولكنه جاءني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل, لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفورا لكم, قد بدلت سيئاتكم حسنات". وﻗﺎل أﻳﻀﺎ ﺻﻠﻰ اﷲ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ: )ﻳﺎ أﻳﻬﺎ اﻟﻨﺎس : إن ﷲ ﺳﺮاﻳﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺠﻮل وﺗﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﻣﺠﺎﻟﺲ اﻟﺬﻛﺮ ﻓﻲ اﻷرض، ﻓﺎرﺗﻌﻮا ﻓﻲ رﻳﺎض اﻟﺠﻨﺔ، ﻗﺎﻟﻮا : وأﻳﻦ رﻳﺎض اﻟﺠﻨﺔ؟ ﻗﺎل : ﻣﺠﺎﻟﺲ اﻟﺬﻛﺮ، ﻓﺎﻏﺪوا وروﺣﻮا ﻓﻲ ذﻛﺮ اﷲ، وذﻛﺮوا أﻧﻔﺴﻜﻢ : ﻣﻦﻛﺎن ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻨﺰﻟﺘﻪ ﻋﻨﺪ اﷲ ﻓﻠﻴﻨﻈﺮﻛﻴﻒ ﻣﻨﺰﻟﺔ اﷲ ﻋﻨﺪﻩ، ﻓﺎن اﷲ ﻳﻨﺰل اﻟﻌﺒﺪ ﻣﻨﻪ ﺣﻴﺚ أﻧﺰﻟﻪ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻪ . وﻗﻮﻟﻪ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم: )وذﻛﺮوا أﻧﻔﺴﻜﻢ ( أي ﻟﻴﺬﻛﺮ ﺑﻌﻀﻜﻢ ﺑﻌﻀﺎ، ﻓﺎﻟﻤﺬاﻛﺮة ﻫﻲ أﻋﻈﻢ اﻟﺬﻛﺮ، ﻷن ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻤﺎ وذﻛﺮا ﷲ وﻣﺠﺎﻟﺲ اﻟﺬﻛﺮ ﺗﺼﺪق ﺑﻤﺠﻠﺲ اﻟﻌﻠﻢ، واﻟﺬﻛﺮ واﻟﻤﺬاﻛﺮة، وﻣﺎ زال اﻷﺷﻴﺎخ رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻬﻢ ﻳﻮﺻﻮن أﺻﺤﺎﺑﻬﻢ ﺑﺎﻻﺟﺘﻤﺎع، وﻳﺤﻀﻮن ﻋﻠﻴﻪ . وﻛﺎن ﺷﻴﺨﻨﺎ رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ ﻳﻘﻮل : إذا رأﻳﺘﻢ أﺣﺪا اﻧﻘﻄﻊ ﻋﻨﻜﻢ ﻓﺘﺪارﻛﻮﻩ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻤﻮت، وﻣﻮﺗﻪ ﺑﺮدّﺗﻪ ورﺟﻮﻋﻪ ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻖ . وﻛﺎن ﻟﻠﺸﺎذﻟﻲ رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ ﺗﻠﻤﻴﺬ ﻳﺤﻀﺮ ﻣﺠﻠﺴﻪ، ﺛﻢ اﻧﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ، ﻓﻠﻘﻴﻪ ذات ﻳﻮم، ﻓﻘﺎل : ﻣﺎﻟﻚ اﻧﻘﻄﻌﺖ ﻋﻨﺎ؟ ﻓﻘﺎل ﻟﻪ : ﻗﺪ اﺳﺘﻐﻨﻴﺖ ﺑﻚ ﻋﻨﻚ، ﻓﻘﺎل ﻟﻪ رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ : ﻟﻮ اﺳﺘﻐﻨﻰ أﺣﺪ ﺑﺄﺣﺪ، ﻻﺳﺘﻐﻨﻰ اﻟﺼﺪﻳﻖ ﻋﻦ ﻣﺠﻠﺲ رﺳﻮل اﷲ ﺻﻠﻰ اﷲ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ وﻟﻢ ﻳﻔﺎرﻗﻪ ﺣﺘﻰ ﻣﺎت، ﻓﺎﻧﻘﻄﺎع اﻟﻔﻘﻴﺮ ﻋﻦ اﻻﺟﺘﻤﺎع، أو ﻋﻦ اﻟﺸﻴﺦ ﻣﻦ أﻋﻈﻢ اﻟﻘﻮاﻃﻊ، واﷲ ﺗﻌﺎﻟﻰ أﻋﻠﻢ . وذﻛﺮ اﻟﺸﻴﺦ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ ﺳﺒﺐ اﻻﺟﺘﻤﺎع وآداﺑﻪ، ووﻗﺘﻪ، وأﻫﻠﻪ، وﺛﻤﺮﺗﻪ، ﻓﺄﺷﺎر إﻟﻰ اﻷول ﺑﻘﻮﻟﻪ :
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:11 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (2) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:12 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (2) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وﻓﻲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻨﻪ ﺻﻠﻰ اﷲ ﻋﻠﻴﻪ وﺳﻠﻢ: (رب أﺷﻌﺚ أﻏﺒﺮ ذي ﻃﻤﺮﻳﻦ ﻻ ﻳﺆﺑﻪ )أي ﻻ ﻳﻌﺒﺄ ( ﺑﻪ ﻟﻮ أﻗﺴﻢ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ اﷲ ﻷﺑﺮﻩ. ) وﺳﺎﺑﻌﻬﺎ : ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ رﻓﻊ اﻟﻬﻤﺔ وﻗﻠﺔ اﻟﻤﺒﺎﻻة ﺑﺎﻟﺨﻠﻖ؛ ﻓﺈن اﻟﻤﻌﺘﻘﺪ ﻻ ﻳﺰﻳﺪﻩ اﻋﺘﻘﺎد اﻟﻨﺎس إﻻ ﺷﺮا، واﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻋﺪم اﻟﻤﺒﺎﻻة ﺑﺎﻟﺨﻠﻖ، ﻗﺪ اﺳﺘﻮى ﻋﻨﺪﻩ اﻟﻤﻌﺘﻘﺪ واﻟﻤﻨﺘﻘﺪ . ﻗﺎل ﺑﻌﺾ اﻟﻤﺸﺎﻳﺦ ﻟﺒﻌﺾ اﻟﺸﺒﺎب : إﻳﺎﻛﻢ وﻫﺬﻩ اﻟﻤﺮﻗﻌﺎت، ﻓﺄﻧﻜﻢ ﺗﻜﺮﻣﻮن ﻷﺟﻠﻬﺎ، ﻓﻘﺎل اﻟﺸﺎب : إﻧﻤﺎ ﻧﻜﺮم ﺑﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ اﷲ، ﻗﺎل : ﻧﻌﻢ، ﻗﺎل : ﺣﺒﺬا ﻣﻦ ﻧﻜﺮم ﻣﻦ أﺟﻠﻪ، أي ﻣﺎ أﺣﺒﻪ إﻟﻴﻨﺎ، ﻟﻪ : ﺑﺎرك اﷲ ﻓﻴﻚ، وﻫﺬا اﻟﺴﺎﺑﻊ داﺧﻞ ﻓﻲ ذل اﻟﻨﻔﺲ . وﺛﺎﻣﻨﻬﺎ : ﻣﺎ ﻗﻴﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻃﻮل اﻟﻌﻤﺮ، وﻣﺤﻤﻞ ذﻟﻚ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﺮﻛﺔ ﻓﻴﻪ، ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺪرك ﻓﻲ ﻳﺴﻴﺮ ﻣﻨﻪ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺪرك ﻏﻴﺮﻩ ﻓﻲ ﺳﻨﻴﻦ ﻣﺘﻄﺎوﻟﺔﻛﻤﺎ ﻗﺎل اﺑﻦ ﻋﻄﺎء رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ: (ﻣﻦ ﺑﻮرك ﻟﻪ ﻓﻲ ﻋﻤﺮﻩ أدرك ﻓﻲ ﻳﺴﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﺎن ﻣﺎ ﻻ ﻳﺪﺧﻞ ﺗﺤﺖ دواﺋﺮ اﻟﻌﺒﺎرة، وﻻ ﺗﻠﺤﻘﻪ اﻹﺷﺎرة ) وﻋﺒﺎدة اﻟﻌﺎرﻓﻴﻦ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺘﻀﺎﻋﻔﺔ ﺑﺄﺿﻌﺎف ﻛﺜﻴﺮة. وﻗﺎل أﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﺣﻜﻤﻪ: ﻣﺎ ﻗﻞ ﻋﻤﻞ ﺑﺮز ﻣﻦ ﻗﻠﺐ زاﻫﺪ، وﻻﻛﺜﺮ ﻋﻤﻞ ﺑﺮز ﻣﻦ ﻗﻠﺐ راﻏﺐ . وﻗﻴﻞ : إن ذﻟﻚ ﻳﻜﻮن ﺣﻘﻴﻘﺔ، وﻫﻮ ﻣﻦ ﺑﺎب اﻟﺨﺎﺻﻴﺔ، وإن ﻣﻦ ﻟﺒﺴﻬﺎ دل ﻋﻠﻰ ﻃﻮل ﻋﻤﺮﻩ، واﷲ ﺗﻌﺎﻟﻰ أﻋﻠﻢ. وﺗﺎﺳﻌﻬﺎ : ﻣﻘﺎﺳﺎة اﻟﺼﺒﺮ وﺗﺠﺮع ﻣﺨﺎﻟﻔﺔ اﻟﻨﻔﺲ، وﻓﻲ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻔﻀﻞ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺠﻬﻞ، ﻗﺎل ﺗﻌﺎﻟﻰ: {إﻧﻤﺎ ﻳﻮﻓﻰ اﻟﺼﺎﺑﺮون أﺟﺮﻫﻢ ﺑﻐﻴﺮ ﺣﺴﺎب } وﻗﺎل ﺗﻌﺎﻟﻰ: {وﺑﺸﺮ اﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ } و {إن اﷲ ﻣﻊ اﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ} . وﻗﺎل : ﺑﻌﺾ اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ رﺿﻮان اﷲ ﻋﻠﻴﻬﻢ، اﻟﺼﺒﺮ ﻣﻦ اﻟﺪﻳﻦﻛﺎﻟﺮأس ﻣﻦ اﻟﺠﺴﺪ، واﻟﺼﺒﺮ ﻣﻄﻴﺔ اﻹﻣﺎﻣﺔ واﻻﻗﺘﺪاء. ﻗﺎل ﺗﻌﺎﻟﻰ: {وﺟﻌﻠﻨﺎ ﻣﻨﻬﻢ أﺋﻤﺔ ﻳﻬﺪون ﺑﺄﻣﺮﻧﺎ ﻟﻤﺎ ﺻﺒﺮوا}. وﻓﻴﻬﺎ أﻳﻀﺎ اﻟﻮﻗﺎﻳﺔ ﻣﻦ ارﺗﻜﺎب اﻟﻜﺒﺎﺋﺮ اﻟﻤﺸﻬﻮرة، إذ ﻳﻌﺎﻗﺐ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ، وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺤﺎل، ﻓﻬﻲ ﻋﺼﻤﺔ ﻣﻦ ﻋﻈﺎم اﻟﻜﺒﺎﺋﺮ، واﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎﻛﺄﻧﻪ ﺻﺒﺮ ﻋﻦ اﻟﻘﺒﺎﺋﺢ ﻛﻠﻬﺎ . وﻋﺎﺷﺮﻫﺎ : اﻻﻗﺘﺪاء ﺑﺄﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎب رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ . وﻗﺪ ﻗﺎل ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم : (اﻗﺘﺪوا ﺑﺎﻟﺬﻳﻦ ﻣﻦ ﺑﻌﺪي أﺑﻲ ﺑﻜﺮ وﻋﻤﺮ) . ﻓﺎﻻﻗﺘﺪاء ﺑﻬﻤﺎ اﻣﺘﺜﺎل ﻷﻣﺮﻩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼة واﻟﺴﻼم، وﻓﻴﻬﺎ ﺟﻤﻊ اﻟﺨﺎﻃﺮ اﻟﺬي ﻟﺒﺴﻬﺎ ﻷﺟﻠﻪ ﻋﻤﺮ رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ، ﻓﺈﻧﻪﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ ﻣﺮﻗﻌﺔ : ﺑﻴﻦﻛﺘﻔﻴﻪ ﺛﻼث ﻋﺸﺮة رﻗﻌﺔ، إﺣﺪاﻫﻤﺎ ﻣﻦ ﺟﻠﺪ، ﻓﻠﻤﺎ ﻃﺮﺣﻬﺎ ﻳﻮم ﻓﺘﺢ ﺑﻴﺖ اﻟﻤﻘﺪس ﺑﺈﺷﺎرة اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ وﻟﺒﺲ ﻏﻴﺮﻫﺎ، ﻗﺎل : أﻧﻜﺮت ﻧﻔﺴﻲ، وﻋﺎد إﻟﻴﻬﺎ؛ وﻟﺒﺲ ﻋﻤﺮ رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ اﻟﻤﺮﻗﻌﺔ كان اﺧﺘﻴﺎرا ﻣﻨﻪ وﺗﻮاﺿﻌﺎ، وﻟﻴﺲ ذﻟﻚ ﺿﺮورة، ﻓﻘﺪﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ أﻣﻮال ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻪ، ﻗﺒﻞ اﻟﺨﻼﻓﺔ وﺑﻌﺪﻫﺎ، وﺑﺎﷲ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ . قال اﻟﺸﻴﺦ زروق رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ: ص 138 "ﻓﺎﺋﺪة " ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻤﻦ وﺳﻊ اﷲ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ اﻟﺪﻧﻴﺎ أن ﻳﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﺛﺮ ﻧﻌﻤﺔ اﷲ ﺑﺎﺳﺘﻌﻤﺎﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ وﺟﻪ ﻣﺒﺎح، ﻻ ﻳﺨﻞ ﺑﺎﻟﺤﻖ وﻻ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﺑﺄن ﻳﻠﺒﺲ أﺣﺴﻦ ﻟﺒﺎس ﺟﻨﺴﻪ أو وﺳﻄﻪ، وﻳﺘﺨﺬ ﻣﺮﻗﻌﺔ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻋﺪﺗﻪ وأﺻﻞ ﻟﺒﺎﺳﻪ، ﻓﻤﺎ دام ﻏﻨﻴﺎ ﻋﻨﻬﺎ اﺳﺘﻐﻨﻰ، وإﻻ ﻓﻬﻲ اﻟﻤﺮﺟﻊ ﻋﻨﺪﻩ، ﻛﺬا أﺷﺎر ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺷﻴﺨﻨﺎ أﺑﻮ اﻟﻌﺒﺎس أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﷲ اﻟﺠﺰﻳﺮي، ﺛﻢ اﻟﺰواوي رﺿﻲ اﷲ ﻋﻨﻪ . اﻟﺤﻜﻢ اﻟﺮاﺑﻊ ﻓﻲ اﻷﻛﻞ . ذﻛﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﺘﺮﺟﻤﺔ : ﺣﻜﻢ اﻷﻛﻞ، وﻣﻘﺪارﻩ، وﺻﻔﺘﻪ، وآداﺑﻪ، وآداب ﺗﺤﺼﻴﻞ اﻟﻤﺄﻛﻮل، واﻟﻌﻤﻞ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﺪ ﺣﺼﻮﻟﻪ، وﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺻﺮف ﻣﺎ ﻳﺘﺼﺮف ﻣﻨﻪ، وﻣﻦ أوﻟﻰ ﺑﺼﺮف ذﻟﻚ إﻟﻴﻪ، واﻟﺘﻨﺒﻴﻪ ﻋﻠﻰ أﻣﻮر ﻣﻬﻤﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﻛﻞ . ﺛﻢ ﺑﺪأ ﺑﺤﻜﻤﻪ ﻋﻨﺪ اﻟﻘﻮم ﻓﻘﺎل : 4- في حكم الأكل الأكل فيه تركه مشروط ..... إلا اضطرارا قدر ما يحوط وإن يكن فحسن وإلا ..... فتركه عند الجميع أولى قلت: الضمير من "فيه" يعود على طريق القوم, والطريق يذكر ويؤنث, يعني أن الأكل في طريق القوم تركه عندهم شرط أيضا, لأن من كانت همته في بطنه, كانت قيمته ما يخرج منها, فلذلك لا يأكلون إلا اضطرارا, بقدر ما يسد الخلة, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه, حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه, فإن كان ولا بد, فثلث للطعام, وثلث للشراب, وثلث للنفس". وحد الاحتياج للطعام أن يشتهي الإنسان خبزه المعتاد, وحد الاضطرار: أن يشتهي كل خبز, بل يأكل أي نوع كان. والجوع الكذاب: أن يشتهي مع الخبز شهوة ما؛ قال المشايخ: وعلامة أخذ الحاجة من الطعام تغيير طعم الطعام في الفم, والاحتياج في تسويغه لشرب الماء بوجه لا يمكن دونه, والإحساس بالثقل, والله تعالى أعلم قاله الشيخ زروق رضي الله عنه. وقوله: "قدر ما يحوط" يعني قدر ما يحفظ القوة ويمسك البدن, إذ لا يجوز لأحد أن يجيع نفسه حتى تختل قوته وتفسد فكرته بل خير الأمور أوسطها, كما أشار إليه البوصيري رحمه الله بقوله: واخش الدسائس من جوع ومن شبع ..... فرب مخمصة شر من التخم وقوله: "وان يكن" أي الاضطرار, أي وإن حصل الاضطرار فأكله حسن, وإلا فتركه أولى عند كافة أهل الطريق. قال أبو عبد الله السلمي رضي الله عنه: سئل بعض المشايخ عن الأكل الذي لا يضر, فقال: أن يأكل بتنفيذ القدرة, لا بشاهد الشهوة, أي أن تأكل بسبب تنفيذ القدرة مرادها من بقاء هذا البدن. فيكون أكله لحفظ صحة هذا الجسم, كما أمرك ربك, لا بسبب شهوة بطنك. وروى أن رجلا تجشأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "كف عنا جشاءك, فأكثرهم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا يوم القيامة". وقال الحسن: كان بلية آدم في أكلة أكلها, وهي بليتكم إلى يوم القيامة. وقال سهل رضي الله عنه: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلى من قيام ليلة. وقال يحيى بن معاذ: لو كان الجوع يباع في الأسواق لما أمكن أن يشتروا غيره. وقال: لو تشفعت لنفسك بالملائكة المقربين, والأنبياء والمرسلين في ترك شهوة لردتهم أجمعين, ولو تشفعت إليها بالجوع لانقادت إليك وطاوعتك: يعني لو خوفتها به, لتركت تلك الشهوة. وقال: مالك بن دينار: لا تجعلوا بطونكم جربا للشيطان يودع فيها ما أحب. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحس من نفسه نشاطا فليؤد بها بالجوع والعطش" يعني نشاطا للمعصية أو اللهو. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا: فقلت: ما أصابك؟ قال: الجوع, فبكيت فقال لي: لا تبك, إن شدة القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب ذلك. ثم نبه على بعض آدابه فقال: وأدب القوم لدى الطعام ..... جم فمنه ترك الاهتمام وقلة الذكر له إن غاب ..... لكونه عندهم حجاب بل أنزلوه منزل الدواء ..... عند العليل بغية الشفاء قلت: أشار إلى أن آداب القوم "يعني الصوفية" عند تناول الطعام أو قبله "جم" أي كثير. فمنها: عدم اهتمامهم به قبل الحاجة إليه, لأن الاهتمام به قبل الحاجة دليل الشره والحرص عليه, وذلك من قوة الأوصاف البهيمية عليها, وقد تقدم قول من قال: من كان همه بطنه كانت قيمته ما يخرج منها. وحكا عن رويم رضي الله عنه أنه قال: "لم يخطر ذكر الطعام ببالي عشرين سنة". حتى احتضر رحمه الله. ومنها قلة: ذكره قبل حضوره, لأن ذكره دليل تعلق النفس به, وتشوفها إليه, و"من أحب شيئا أكثر من ذكره" ولأن ذكره يهيج الشهوة ويسلط على النفس على الطلب, فيؤدي للاهتمام, أو يكون علامة عليه. قلت: وينبغي للعارف إلا يأكل إلا بإذن من الله, بحيث يمهل حتى يتيسر ذلك من غير سؤال, فإذا دخل داره مثلا فلا يطلب غذاء, حتى يعرض عليه إلا لضرورة فادحة؟ وإنما أهملوا ذكره قبل حصوله اهتماما وسؤالا, لأن ذكره حجاب عن الحقائق باشتغال النفس له, لولوعها به طلبا وذكرا, ولو كانت فانية في الحق لأشغلها ذلك عن الحظوظ. وقوله: "بل أنزلوه منزل الدواء ": يعني أن القوم رضي الله عنهم أنزلوا الطعام والشراب منزلة الدواء, لقيام هذا البدن, فلا يتناولون منه إلا قدر شفائه, وهو ما به قوامه, ولا يذكرونه ولا يهتمون به أصلا اشتغالا عنه بما هو أهم, من: ذكر أو فكر أو شهود أو معاملة ظاهرة, وإذا تناولوه قصدوا به التقوي على الطاعة والقيام بحق البشرية التي هي معرفة السر, واليه أشار بقوله: "بغية الشفاء" أي: بقصد الشفاء لا بقصد المتعة والشهوة. قال السلمي رحمه الله: قيل لبعض المشايخ: كيف يتناول الطعام؟ قال: كتناول العليل الدواء يرتجي الشفاء, والله تعالى أعلم, ثم ذكر ما يتعلق به قبل حصوله, فقال: ولم يكن همهم بجمعه ..... وكسبه وفضله ومنعه قلت: يعني أن القوم لم يكن همهم بالاشتغال بجمع الطعام واكتسابه, ولا اشتعال بإعطاء "فضله" أي ما فضل عن الحاجة "ومنعه" بل أنزلوه منزلة المهمل الذي لا قدوم له عليه إلا عند الضرورة, أو ما يقرب منها, فلا يهتمون بجمعه ولا بإعطاء فضله ومنعه, لاشتغالهم بما هو أهم. قال: السلمي رضي الله عنه: فمن آدابهم ترك الاهتمام بالرزق, وقلة الاشتغال بطلبه, وجمعه ومنعه, قال الله تعالى: "وكأين من دابة لا تحمل رزقها, الله يرزقها وإياكم" أي لا تدخره. وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه كان لا يدخر شيئا لغد, ومن اشتغل منهم بشيء من الأسباب فإنما ذلك قياما برسم العبودية, وإن حصل منها شيء كانوا فيه أمناء على وجه أنهم خزان المملكة, يترصدون سد الخلل, فيمسكون ما أمروا بإمساكه, ويرسلون ما أمروا بإرساله. وقد سئل الشبلي رضي الله عنه: كم في خمس من الإبل؟ فقال أما الواجب, فشاة, وأما عندنا فكلها لله, فقيل له ما دليلك على ذلك؟ فقال: أبو بكر رضي الله عنه, حيث خرج من ماله كله لله ولرسوله, فمن خرج عن كل شيء فإمامة أبو بكر, ومن أعطى بعضا وترك بعضا فإمامة عمر, ومن أعطى لله ومنع لله, فإمامة عثمان, ومن ترك الدنيا لأهلها فإمامة علي, وكل علم لا يدل على ترك الدنيا فليس بعلم. وكان أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه يقول: ليس الرجل الذي يعرف كيفية تفريق الدنيا فيفرقها, وإنما الرجل الذي يعرف كيفية إمساكها فيمسكها, يعني انه يعرف كيف يمسكها ولا يشتغل قلبه بها, بحيث يكون يأخذها بالله ومن الله ويدفعها لله والى الله, ولذلك قيل: الدنيا كالحية, وليس الشأن في قتل الحية, وإنما الشأن في إمساكها حية, وإمساكها حية هو إمساكها بالله, فانيا عنها وعن طلبها. وقال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلاني نفعنا الله به لما سئل عن الدنيا: فقال: أخرجها من قلبك واجعلها في يدك, فإنها لا تضرك. وقال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: الدنيا جرادة, إذا قطع رأسها حلت: ورأسها حبها. وقال بعض أهل المعاني في تفسير قوله تعالى: "وما تلك بيمينك يا موسى" يقال للفقير: وما تلك بيمينك أيها الفقير, قال: هي دنيا اعتمد عليها في قيام بنيتي, وأنفق منها على عيالي, ولي فيها مآرب أخرى: أتصدق منها, وأفعل بها وجوه الخير, فيقال له: ألقها من يدك أيها الفقير, فألقاها فإذا هي حية تسعى, كانت تلدغه في قلبه, وتشغله عن شهود ربه, فلما فر منها وأيس من نفعها قيل: له خذها ولا تخف, لأن غني بالله عنها, فتأخذها بالله لا بنفسك, وتدفعها كذلك, وبالله التوفيق. ثم ذكر آدابه بعد حصوله, فقال: ولا استقلوه ولا عابوه ..... ولا يكن قصدا فيطلبوه قلت: من آداب القوم عند حصول الطعام ألا يستقلوه أي يصغرونه ولا يحتقرونه, بل يعظمونه ويكبرونه, ولو كان قليلا في الحس. أو خشينا أو رديء الصنعة, فمن آدابهم أن يتلقوا القليل من صاحبه الذي أتى على يديه بالبسط والفرح والتعظيم والتكثير والتبريك, ويبتدؤون بأكله قبل غيره, تطييبا لخاطره ورفعا لقلبه, وكذلك يفعلون في الطعام الخشين أو الرديء أو ما أشبه ذلك, ويتلقون الكثير أو الرفيع ممن يأتي به الغني, ورفع الهمة عنه شفقة على صاحبه من دخول العجب أو الرياء, وإظهار الزهد والقناعة ليقتدي بهم غيرهم. ومن آدابهم أيضا إلا يعيبوا طعاما ولا يقبحوه, لأن ذلك يدل على الشره له والحرص عليه, وقد تقدم أنهم غافلون عنه غائبون عن شأنه حتى يأتيهم الله بما قسم لهم, وهذا منهم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, ففي الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: "ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط, كان إذا اشتهاه أكله وإلا تركه". وقوله: "ولم يكن قصدا فيطلبوه" يعني: أن الطعام عند القوم لم يكن مقصودا عندهم, فلا يهتمون بشأنه قبل حصوله حتى يطلبوه, بل كانوا غائبين عنه مشغولين بذكر مولاهم, لا يلتفتون إليه إلا عند الاضطرار, فيطلبون ما يتقوون به على عبادة ربهم دون حرص ولا استكثار ولا شهوة ولا اختيار. روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام : ما بال الأقوياء ومناولة الشهوات, إنما جعلت الشهواء لضعفاء خلقي: إن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها محجوبة عني. وحكا أن بشراً الحافي رؤي في السوق, فسئل عن ذلك, فقال: نفسي تطالبني بخيارة منذ سنين, فمنعتها ورضيت الآن بالنظر إليها, فأعطيتها. وقال بعضهم: إنما هي فورة جوع لا أبالي بما سندتها. وقال آخر: ليس لها علينا إلا كفايتها, فلا نبالي فيه بطيب ولا رديء. وهذا ما لم يكن حراما, وسيأتي التنبيه عليه, وما لم يكن أيضا مضرا للبدن, وإلا حرام تناوله, وليس تركه قادحا في التوكل, وإنما هو من مقتضيات الحكمة وجرى مع سنة الله في خواص مخلوقاته, وما وقع من الحكايات, فذلك أمر خارق للعادة, وصاحبه محمول على بساط الحال, محفوظ في ذلك الوقت, فلا يقتدي به, والله تعالى أعلم. ثم ذكر آدابهم في الادخار, فقال: والقوم لم يدخروا طعاما ..... بل تركوا الحلال والحراما إلا يسيرا قدر ما تيسرا ..... إذ الحلال المحض قد تعذرا قلت: أخبر رحمه الله أن القوم لم يكونوا يدخرون شيئا لوقت آخر, وإنما كانوا يأخذون قدر حاجتهم في الوقت, ويتصدقون بالفضلة, وهكذا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في جل أوقاته. قال: ابن ليون التجيبي في "الإنالة": وأما ترك الادخار فقد صح عنه في الأحاديث بأنه عليه الصلاة والسلام لم يدخر. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد. وعن عائشة رضي الله عنها انه عليه الصلاة والسلام قال لبلال: أطعمنا يا بلال. وقال: يا رسول الله ما عندي إلا صبر من تمر, خبأته لك, قال: "أما تخشى أن يخسف الله به في نار جهنم, أنفق يا بلال ولا تخف من ذي العرش إقلالا". والصبر جمع صبره, وهو ما كدس من التمر وغيره من غير وزن ولا كيل, وقد نظم الشريشي هذا المعنى في رائيته فقال: ولا تك ممن لا يفارق خبزه ..... فديمة جود الحق دائمة القطر قال: سيدي احمد بن يوسف الفاسي رضي الله عنه في شرحها: يقول ـ والله اعلم فلا تكن أيها المريد من الذين هممهم بطنهم, الملازمين لخبزهم وغيره من المطبوخات, في كل وقت وأوان, بل اقتد بنبيك صلى الله عليه وسلم في كونه: كان لا يدخر لغد, وينهى عنه, كما اقتدى بذلك فيه أقوياء أمته الذين أردت سلوك طريقهم والاهتداء بهديهم, ولا تنحط إلى ما نهى عنه فتنحط من العزيمة إلى الرخصة, ومن الورع إلى الإباحة, ولا يجيء منك شيء, ولا يدخلنك أيها المريد حين العمل بهذا كونك ترى أنك لا تجد ما تتقوت به إذا أعطيت ما يفضل عن غذائك في الحال لمن يستحقه, فإن قطر عطاء الله وجوده وفضله دائم الانصباب والانسكاب, قد عمت جميع الخلائق نعمه ومننه. قال في العوارف: ومن أخلاق الصوفية الإنفاق من غير إقتار, وترك الادخار وذلك أن الصوفي يرى خزائن فضل الحق, فهو بمثابة من هو مقيم على شاطئ بحر, والمقيم على شاطئ البحر لا يدخر الماء في قربته وراويته. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم إلا وملكان يناديان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا, ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا". وروي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيور, فأطعم خادمه طيرا, فلما كان الغد أتاه به, فقال له رسول الله: ألم أنهك أن تخبأ شيئا لغد, فإن الله يأتي برزق كل غد". وروي عن عيسى عليه السلام انه كان يأكل الشجر, ويبيت حيث أمسى, ولم يكن له ولد يموت, ولا بيت يخرب, ولا يخبأ شيئا لغد. فالصوفي كل خباياه في خزان الله, لصدق توكله وثقته بربه, فالدنيا للصوفي كدار الغربة, ليس له فيها ادخار,، ولا له منها استكثار. قال عليه الصلاة والسلام: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير, تغدو خماصا وتروح بطانا". انتهى. ثم قال: وورد أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أم أيمن عن أن تدخر لغد شيئا, ونهى بلالا عن الادخار في كسرة خبز ادخرها ليفطر عليها, فقال: أنفق يا بلال ولا تخلف من ذي العرش إقلال". وقال له: إذا سألت فلا تمنع, وإذا أعطيت فلا تخبأ. وأما ادخاره صلى الله عليه وسلم فلعياله, وتشريعا وتبيينا للضعفاء من أمته, كما أن ترك ادخاره يعد تعليما للأقوياء منهم حسبما ذكره الإمام أبو حامد رضي الله عنه, وقال بعضهم: فعله صلى الله عليه وسلم دائر بين الإباحة والورع, فادخاره قوت سنة بيان للإباحة, وعدم ادخاره ورع, وشأن أهل الطريق الأخذ بالعزائم دون الرخص التي لم يندب العمل بها, أما ما ندب الأخذ به منها كالقصر في السفر, ونحوه فإنهم يسارعون إليه ويحافظون على تحصيله, على أن للعارفين علما يصرفونه بحسب الأحوال والعوارض, قد يخفى على من ليس من أهله, فقد كان بعضهم لا يقصر في سفره قائلا للناس: في ترك قصر الصلاة للفقراء نية حسنة يحبون اغتنام الصلاة خلفهم, فلا نحرمهم من نيتهم, ثم إن الشبهة تختلف باختلاف المقامات, فمن كان من أهل الحقيقة مثلا, وأتى إليه بشيء حلال, ثم شاهد الخلق قبل الحق فأهل الظاهر لا يفتون إلا بحليته, وأهل الباطن يحكمون بشبهته, فيقع التورع عنه, كما وقع للشيخ أبى مدين رضي الله عنه, كذلك الادخار من أصله, وان كان حلالا من طريق الأحكام, لكنه شبهة عند أهل الباطن ذوي النهى, والأحكام في حق من لم يكمل حاله, ويستقيم يقينه ويستوي عنده الوجد والفقد. وقال الشيخ عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه: الورع ألا يخطر الرزق ببال, ولا يكون بينك وبينه نسبة, لا في التحصيل ولا عند المباشرة لأنه لا يدري أيأكله أم لا. وقال الشيخ أبو طالب رضي الله عنه: ويقال من اهتم برزق غد فهي خطيئة تكتب عليه سيئة. وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: الصائم إذا اهتم في أول النهار بعشائه, كتبت عليه خطيئة. وكان سهل يقول: أن ذلك ينقص من صومه, وقال: أعرف بالبصرة مقبرة عظيمة يغدى على موتاهم برزقهم من الجنة بكرة وعشية يرون منازلهم من الجنان, وعليهم من الغموم والكروب ما لو قسم على أهل البصرة لماتوا أجمعين, قيل: لم, قال: كانوا إذا تغدوا قالوا بأي شيء نتعشى وإذا تعشوا قالوا: بأي شيء نتغدى. وقد وقع النهي منه صلى الله عليه وسلم, ومن الذين من بعده عن الادخار في زمانهم, الذي كان الحلال فيه كثيرا, فكيف بزمانك الذي غلب فيه الحرام, فالأولى أن تلزم الضرورة, فلا تأخذ إلا فاقة وضرورة, ولا تأكل إلا كذلك. وقد كان شقيق البلخي رضي الله عنه يقول: في سنة تسعين ومئة, أن المكاسب اليوم قد فسدت, وإن التجارات والصنائع شبهات كلها, ولا يحل الاستكثار منها لوجود الغش وعدم النصح, قال: وإنما ينبغي للمسلم أن يدخل فيها ضرورة. وقوله: "بل تركوا الحلال والحرام" يعني أن القوم تركوا الإكثار من الحلال خوفا من الوقوع في الحرام, وتركوا المتشابه ورعا. وقيل: الورع هو ترك الحرام والمتشابه, وهم يطالبون أنفسهم بحقائق ذلك. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله نجا موسى بمئة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام, فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم, لما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل, فكان مما ناجه ربه أن قال: يا موسى إنه لم يتصنع لي المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا, ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم, ولم يتعبد لي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي, قال موسى: يا رب البرية كلها, ويا مالك يوم الدين, ويا ذا الجلال والإكرام: فما أعددت لهم؟ وماذا جزيتهم؟ قال: أما الزهاد في الدنيا, فإني أبحتهم جنتي, يتبؤون فيها حيث شاءوا وأما الورعون عما حرمت عليهم, فإنه إذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب, وفتشته إلا الورعون, أني استحييهم وأجلهم وأكرمهم, وأدخلهم الجنة بغير حساب, وأما البكاؤون من خشيتي, فأولئك لهم الرفيق الأعلى, لا يشاركون فيه" رواه الطبراني وغيره. وقوله: "إلا يسيرا" الخ يعني أنهم يأخذون اليسير على وجه الفاقة والضرورة, ويتركون الزائد, وسواء كان أخذهم لذلك بتكسب أو غيره, لأن أخذ ذلك لا بد لهم منه, لوجود الضرورة شرعا, ودخول الكلف ليس من شأن الفقير, بل أموره كلها على التيسير, فلا يكلف ولا يتكلف, لقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف". ولأن التكلف ينافي التوكل, وترك الأسباب من غير أذن ينافي الأدب, ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" فلما توكلوا على الله كفاهم كل مؤونة, لقوله تعالى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي كافيه. وقوله: "إذ الحلال المحض قد تعذر" الحلال المحض هو الخالص الذي لا شوب فيه ولا اختلاف, وقد تقدم قول شقيق: إن المكاسب اليوم قد فسدت. الخ كلامه. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فأما ما يجري على اختلاف العلماء, والراجح والمرجوح فهو موجود. وقال العلماء: إذ فقد رأسا أقيم من عشرة أشياء تجارة بصدق, وإجارة ينصح, وأعشاب الأرض غير مملوكة, وهدية من أخ صالح, وصيد البحر, ومهر النساء بطيب نفس, وقمة المغنم على وجه شرعي, والميراث على أصل مجهول, والسؤال عند الحاجة, وكثيرا ما يجري على السنة المتدينين: أن الحلال ضالة مفقودة أي معدومة, وهو أمر يجعلونه عكازا للاسترسال وأخذ كل ما والاهم, بل الحلال موجود, ولو لم يكن موجودا في كل زمان ما كلفنا بطلبه, ولا نقطع أولياء الله سبحانه, إذ هو قوتهم, وذلك باطل, وأيضا إذا حرمت الكل حللت الكل, وكل من بيده شيء يستأنف فيه حكم الله من الآن. وقد كان شيخنا البوزيدي يقول: من بيده شيء لا يعرف فيه دخول حرام بالأصالة, ولا معاملة قبيحة مقصودة, فمن أين يحرم ماله؟ وما غلب على النسا من الجهل ورقة الديانة لا يحرم ما بأيديهم, لأن الإنسان لا يخاطب إلا بما في علمه, ثم قال: إن الله خلق المال حلالا, كما خلق الماء طهورا, فكما لا ينجس هذا إلا ما غيره, لا يحرم هذا إلا ما غيره, إلا أن السلف رضي الله عنهم لمعرفتهم بكمائن النفوس, تساهلوا في الطهارة لحصرها, وشددوا في باب الكسب لتساهل النفوس فيها, حتى جرى في قواعدهم في باب الطهارة: أن الأصل مقدم على الغالب, وفي باب الحلال والحرام: الغالب مقدم على الأصل, وهي مسألة اختلاف, وقد أهمل الناس في هذه الأزمنة باب الحرام, لا سيما في بلاد المشرق, فليكن الفقير من ذلك على بال, ومن يصحب العلم فلا يضل, ولا يضيق عليه الواسع, بل لا يزال في فسحة ما لم يتغير. وأشار ابن الفاكهاني إلى أنه ينبغي عدم التعرض للبحث في هذه الأزمنة, والوقوف مع ظاهر الأحوال, لأن البحث لا يجب حيث لا علامة, ووجوده لا يكشف عن خير, وأكثر العلماء على أن الحلال ما جهل أصله, والحمد لله الذي جعل في الأمور سعة, انتهى كلامه مع بعض اختصار. وقال الشيخ أبو الحسن: أحل الحلال ما لم يخطر لك على بال, ولا سألت فيه أحدا من النساء والرجال. ثم أشار الناظم إلى ما يفعل بالفضلة على الحاجة. قلت: أشار بقوله: "بلا تكليف" إلى أن ما يدخل على الفقير كله من باب التيسير, بلا كلفة ولا تدبير, فإن كان من غير سبب فأمره ظاهر, إلا أنه ينبغي أن يسبق نظره في الأخذ إلى الحق دون الخلق, فإن سبق نظره إلى الخلق فمقتضى الورع عند الخصوص ألا ينيل نفسه شيئا منه, كما وقع للشيخ أبى مدين رضي الله عنه: أتاه حمل قمح, فنازعته نفسه وقالت: له يا ترى من أين هذا؟ فقال لها: أنا أعرف من أين هذا يا عدوة الله, فأمر به بعض أصحابه أن يرفعه لبعض الفقراء عقوبة لها, لكونها رأت الخلق قبل رؤية الحق تعالى. وينبغي له أيضا ألا يتشوف إليه قبل حصوله, فإن تشوف لشيء منع نفسه منه, كما وقع لأيوب الحمال مع أحمد بن حنبل في قصة الخبز, وهي معروفة. وأما إن كان بسبب شرعي, فينبغي أن يكون ذلك خفيفا غير شاغل عن ذكر الله وأن يكون مقصودا به الأدب مع الحكمة, غير ملتفت له ولا معتمد عليه. قوله: "ابتدؤوا بالجار والضعيف" أشار إلى كيفية تفريق الفاضل عن الحاجة, وأنه يقدم الأهم فألاهم لحديث: "ابدأ بنفسك, ثم بمن تعول". قال رجل: يا رسول الله عندي دينار, قال أنفقه على نفسك؟ قال: عندي آخر, قال: أنفقه على عيالك, قال: عندي آخر, قال: صل به ذوي رحمك, قال: عندي آخر, قال:اصنع به ما شئت" الحديث. وحق الجار معلوم من الدين بالضرورة, فيؤثرونه على غيره بعد المراتب المذكورة ، ويؤثرون من الجيران أحوجهم، فإن استووا فأقربهم إليك باباً، وإن كان هنالك ضعيف لا جوار له، والجيران أغنياء قدموه لأن سد الخلل مقدم على الإبرار، والأخوة في الله مقدمة على غيرها،هذا كله في الفضلة والإيثار، لا في باب الاضطرار، بحيث إذا أعطاه هلك واختلت بنيته عن العبادة فذلك ممنوع، والإيثار ما يحتاج إلى الصبر عند أعطائه من غير إخلال، في قوته ولا ضرر فادح يلحقه ، والفضل ما لا يلحقه منه شئ من ذلك، والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى ورعهم وتحفظهم من الحرام والمتشابه، فقال: وجنبوا طعام أهل الظلم ..... والبغي والفساد خوف الإثم بل أكلوا مما استبان حله ..... غير الذي لا يعرفون أصله قلت: أهل الظلم هم ملوك الجور والعمال المضروب على أيديهم، وأهل البغي هم: السراق والمحاربون، وأهل الفساد من يتعامل بالربا وبالمعاملة الفاسدة، ولا يتحاشى الحرام. ويحتمل أن يكون أهل البغي والفساد شيئاً واحداً، وهم اللصوص ومن يلحق بهم ممن لا يتقي الله في معاملته ولا يتحافظ من الحرام في مأكله وملبسه وغير ذلك. ويدخل في أهل الظلم قضاة الجور الذين يقبضون الأجرة على مجرد الحكم، وكذلك العدول الذين لا يتحاشون من أموال المسلمين, مهما قدروا عليها ، عصمنا الله من جميع ذلك. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وأما تجنبهم طعام الظلمة ونحوهم فلوجوه:
أحدهما ما إرضائهم من الموالاة التي لا تحل, أي لأنهم يفرحون بأكل طعامهم أهل الصلاح والخير, مع ما هم عليه من الظلم, ما لم يخش الضرر الواضح. الثاني: ما فيه من تسلطهم على المنتسبين: إما بسوء الظن بالجهل, لاعتقادهم حرمة ما بأيديهم, وأن من يأكله لا خلاق له فيستهينون بهذا الشخص, بل بكل أهل جنسه: يجعله حجة على غيره, ممن لا يقدر أن يتوسع توسعه لورع أو ضيق حضيرة, أي ضيق دائرة معرفته, فيقول له: فلان أكبر منك أكل طعامي, وما تكون أنت منه؟ فيؤذي لذلك. الثالث: ما فيه من أعانتهم على ما هم فيه, إذ يرون أنفسهم حينئذ أنهم من أهل الخير ويقولون: لو رأى منا فلان ما يكره ما أكل طعامنا, لا سيما إن وجد له وجه في إباحة ذلك وتجرأ على الله بنسبتها لأهل الله, كما يفعله بعض من وهن الإيمان في قلبه, والعياذ بالله. الرابع: ما في ذلك من ميل النفس لهم, ومحبتهم, وقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل لمنافق عليَّ يدا فتحبه نفسي". وحكا أبو نعيم في حليته أن ابن المبارك دخل على الخليفة فوعظه, وذكره فأعطاه مالا, فاشترى به عبيدا فأعتقهم, فقال له محمد بن واسع في ذلك, فقال له: ذكرتهم بالله ووعظتهم, وأخذت منهم مال الله وصرفته في وجهه, فقال محمد بن واسع: الله قسم قلبك الآن لهم, كما كان, قال: لا, فاستغفر, رحمة الله على الجميع. الخامس: ما في ذلك من تناول الشبهة من غير ضرورة, فقد قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: من كان من فقراء هذا الزمان مؤثراً للسماع أكولًا لأموال الظلمة, ففيه نزعة يهودية, قال الله تعالى: "سمّاعون للكذب أكّالون للسحت" باختصار. السادس: ما يلحقه بسبب ذلك من الذلة وتغيير الحال, كما اتفق لكثير من الناس, واتخذه بعضهم " أي بعض الكبراء" سياسة, فإذا رأى فقيرا استظهر عليهم بالقوة وخافوا دعوة أو غيرها والوه واحتالوا عليه, حتى يدخل في أيديهم فلا يمكنه التعزز عليهم, وقد كان بعض مشايخ المغرب يقول: الفقير لا يمشي بالليل, ولا يهرب بالنهار, إن رأى ما يخاف ولا يأكل طعام الظلمة. قلت: لأن هذه كلها تورث الذل. السابع: ما في ذلك من فتح باب التشويش, باعتقاد الناس أن له عندهم جاهاً, فيتوجهون له بطلب الشفاعة, وذلك أمر لا يمكنه استيفاؤه, وقل ما تعلق به رجل فسلم في ديانته, والله تعالى أعلم. وهذا كله ما لم تكن ضرورة, والمرء فقيه نفسه. وقد ذكر الشيخ الغوري رحمه الله: أن السلطان أبا الحسن صنع طعاما لجماعة من أهل الخير في وقته ودعاهم له, فكان منهم من أكل ولم يتوقف, ومنهم من استظهر بالصوم ومنهم من أخرج خبزه وائتدم بإدام الملك, ومنهم من أكل وقلل, ومنهم من قال: أنا صائم, ولكن هاتوا من طعام الملك على وجه البركة, فسألهم شيخهم عن ذلك. فقال: الأول: طعام مستهلك ترتبت القيمة في ذمة مستهلكه فحل له التصرف فيه, وقد مكنني منه عن طيب نفسه, فبأي وجه أتركه. وقال الثاني: تجنبت حال الشبهة بجميع وجهه. وقال الثالث: عملت على القول بإباحة الغلة للغاصب. وقال الرابع: هو مال مجهول الأرباب يجب فيه التصرف بالقيمة, فكنت تأخذ وتقدر أي ليقومه بعد. وقال الخامس: طعام مستحق للمساكين, قدرت على استخلاص بعضه, فاستخلصت ما قدرت عليه, وخرجت به لأربابه. فمما ذكر عنه أنه غسل مزوده مما تعلق من الإدام, وشق عليه إخراج ما تعلق به من الزعفران, فأرسلها مع النهر. ومن هذا النوع ما ذكر أن ابن عباد رحمه الله: أعطاه السلطان كسوة وأعطى الشيخ الركراكي كسوة, وأعلمهما أنه إنما عملهما من الجزية ونحوها, فقبلها ابن عباد وردها الركراكي رضي الله عنهما, فقيل لبعض الوقت, ممن له بصيرة في ذلك, فقال: الورع مستحب بإجماع, وجبر قلب الملك واجب بإجماع, وأنتم ترون من وافق الصواب المتعلق بالواجب, أو بالمستحب, هذا ما وقع له في الأمر الظاهر, ولما بعث له "أي لابن عباد" بدواء ممسك يساوي مالا لعلة كانت به: صبه في المرحاض, ولم ينتفع به, فاعرف لهذه الجملة حقها, فللرد آفات, كما للأخذ آفات كما لا يخفى, والورع من ورعه الله, وإنما يورعه إذا علم صدقه في ورعه. انتهى كلام الشيخ زروق. قلت: وقد اضطرب العلماء في هدايا الملوك وإجازتهم, فمنهم من قبلها, ومنهم من ردها وقد ذكر الغزالي في الإحياء جماعة من قبلها ومن ردها, فانظره إن شئت. وقوله: "بل أكلوا مما استبان حله" الخ يعني أن القوم لا يأكلون إلا ما ظهر حله وتحققت إباحته, ولا يأكلون مما لا يعرفون أصله, هل هو حلال أو حرام؟ ولعل ذلك مع قيام الريبة والشك, والله تعالى أعلم. وقد استوفى الغزالي في الإحياء الكلام على الحلال والحرام, فعليك به. ثم ذكر الناظم بعض آداب الأكل, فقال: ولم يكونوا كرهوا الكلام ..... عليه لكن كرهوا الإرغام قلت: الكلام على الطعام حسن, لأن السكوت عليه يدل على الشره والنهمة, ويستحب أن يكون بعلم, أو بحكايات الصالحين, ويكون الكلام بعد بلع الطعام, لا في حال مضغه, لأن ربما يخرج شيء من فمه فيسقط في الطعام فيقذره على غيره, فلا يتكلم الآكل ما دام الطعام في فمه, وقد ذكر عن بعض المشايخ انه استحب أن يسمي عند كل لقمة, ويحمد عند ابتلاعها, قال ابن الحاج: وهذا أمر حسن, لكن السنة لم ترد به, وهي أحسن من كل ما سواها, فلم يكن القوم يكرهون الكلام في حال الطعام, لكن كانوا يكرهون الإرغام: أي التحتم على الإخوان في الأكل, لما في ذلك من التكلف المنهي عنه, بل الأدب في ذلك تركه يفعل ما يشاء, وقد يكون قولك له: كل, سببا في رفع يده حياء, فالواجب على صاحب الطعام أن يدفع الطعام ويقرب لهم الماء, ويغيب عنهم, فهو في غاية الظرافة, والله تعالى أعلم. ثم ذكر وقت الأكل فقال: ويكرهون الأكل مرتين ..... في اليوم والمرة في اليومين قلت: إنما كرهوا الأكل في اليوم مرتين, لما فيه من تقوية شهوة الطعام, وقد تقدم أنهم لا يأكلون إلا عن فاقة, وقد قيل لسهل رضي الله عنه: أكلة في اليوم؟ قال: أكلة الصالحين, قيل: أكلتان؟ قال أكلة المؤمنين, قيل: فثلاثة؟ قال: يا هذا مر أهلك يبنوا لك معلافا. والمراد باليوم بياض النهار, ومن الفجر إلى الغروب, والغالب أن الآكل فيه مرتين يثقل الأعضاء ويبطئ الهضم, ويفسد الطعام في المعدة,
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (2) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:13 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (2) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وفيه قال ابن سينا عفا الله عنه: توق إذا ما شئت إدخال مطعم ..... على مطعم من قبل فعل الهواضم فكل طعام يعجز السن مضغه ..... فلا تبتلعه, فهو شر المطاعم واجعل طعامك كل يوم مرة ..... وأحذر طعاما بل هضم طاعم وقال آخر: ثلاثة هي أسباب المنايا ..... وداعية الجسوم إلى الحمام نكاح يستدام وكثرة نوم ..... وإدخال الطعام على الطعام ويفهم من كلام الناظم أن الممدوح هو الأكل مرة في اليوم يعني مرة في النهار, ومرة في الليل, وهو الوسط, وأن الأكل مرة في اليومين تفريط, كما أن الثلاثة في اليوم إفراط. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وهذا حكم من اعتدل مزاجه أو قارب, فأما من انحرف إلى حد الإفراط أو التفريط, فلا ينبغي أن يهمل حكمة, بل يعمل بما يصلحه من غير إخلال ولا بعد للحق, فإن الشبع المفرط الذي يفسد المعدة ويضيع الطعام من غير احتياج محرم, والذي يثقل الأعضاء ولا يفسد شيئا مكروه, على خلاف فيه, والأولى بالشخص إلا يأكل حتى يجوع جوعا متوسطا, وهو الذي يشتهي ما يقوم به أوده, أي قوامه من معتاد طعامه, ولا يفرط إلى أن يشتهي كل خبز, فإنه مضر بالفكرة, مخل بالقوة, ولا يفرط بحيث يأكل بالتشهي, وهو طلب الطعام مقرونا بالشهوة, ثم ذكر استحباب الاجتماع على الطعام فقال: وفضلوا الجمع على الإفراد ..... فيه لأجل كثرة الأيادي قلت: إنما فضلوا الاجتماع على الانفراد في الأكل, لثلاثة أوجه: أحدهما: ما في ذلك من التماس البركة الحسية والمعنوية, أما الحسية فلقوله عليه الصلاة والسلام: "اجتمعوا على الطعام يبارك لكم فيه" وأما المعنوية فلقوله عليه الصلاة والسلام: "من أكل مع مغفور غفر له" وبقدر ما تكثر الجماعة تعظم البركة, لأن مع كل إنسان ملكين أو أكثر, فيكثر حضور الملائكة بقدر ما يحضر من الناس. وكان الجنيد رضي الله عنه يقول: المؤاكلة مراضعة, فانظروا من تؤاكلوه. وثانيها: ما في ذلك من العفة والقناعة وعدم الحرص والشره, لأن أكل الناس وحده يدل على نذالته وبخله في النذالة وحرصه بهمته, والنذالة باللام بعد الذال هي الرذالة والخساسة وبخله أو حرصه ونهمته, وفي الحديث: "شر الناس من أكل وحده, وضرب عبده ومنع رفده" إلا لضرورة شرعية أو عادية. وثالثها: ما في ذلك من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يأكل طعاما إلا على ضغف أعني كثرة الأيدي, وكان سيدنا إبراهيم الخليل اتخذ قبة ينظر منها مد بصره من كل ناحية لأجل الضيفان, وربما كان يمشي الأميال في طلب من يأكل معه. وقوله: لأجل كثرة الأيادي يصدق بالأوجه الثلاثة, والأيادي جمع أيد, وأيد جمع يد, فهو جمع الجمع, والله تعالى أعلم, ثم ذكر آدابا أخر فقال: ولم يلقم بعضهم لبعض ..... ولم يجل بصره بل يغضي قلت: أشار رحمه الله إلى أن الصوفية لم يكن من عادتهم أن يلقم بعضهم لبعض, ويحمل ذلك إذا كان على وجه الانبساط والملاعبة لما فيه من قلة الاحتشام والتوقير, أو يحمل ذلك على تلقيم الخادم إذا أتاهم بالطعام, وهو نص قول السلمي: "وكره أكثرهم تلقيم من يخدمهم مما بين أيديهم, لا سيما إذا كان ضعيفا, فانه لا يجوز له التصرف فيما قدم إليه, فقال بعضهم: يملكه بالإحضار بين يديه, وقال بعضهم: بالتناول, وقال بعضهم: بالوضع في الفم, وقال بعضهم: باستيفاء الأكل, وقال الجنيد رضي الله عنه: تتنزل الرحمة على الفقراء عند الطعام, فإنهم لا يأكلون إلا بالإثار" انتهى كلام السلمي. فجعل التلقيم المكروه إنما هو للخادم, لكن قول الناظم: "بعضهم لبعض" ظاهر في تلقيم الفقراء, فيحمل على ما تقدم من الانبساط, وأما إذا كان على وجه التبرك ممن ترجى بركته فلا بأس, وللمتأخرين من المشايخ فيه أسانيد وطرق, وقد يستدل له بحديث المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن يناولها مما يأكل, فناولها من بين يديه, فقالت: لا أريد إلا من الذي في فيك فناولها, وكانت قليلة الحياء, فصارت بعد من أشد الناس حياء" الحديث. وقد جرى العمل بهذا بشرط إذا طلب ذلك من الشيخ أو ممن ترجى بركته, ولا يكلف به من لا يطلبه, وأشار أيضا إلى أن الصوفية إذا كانوا في حالة الأكل لا يجيلون بصرهم, أي لا يمدونها إلى من يأكل معهم, بل يغضون أبصارهم, وينظرون أمامهم لما في إجالة البصر من إخجالهم وقلة المروءة معهم, فإن هيئة الإنسان في حالة الأكل بشيعة, لا سيما إذا كان كبير السن, وقد كان بعضهم ترك أكل الطعام الذي يحتاج للمضغ حياء من الله أن يراه على تلك الهيئة. وقال بعضهم: استتروا بإدخاله كما تستترون بإخراجه, فالواجب من جهة الأدب ألا ينظر أحد إلى الآكلين, ولا يقف على رؤوسهم بماء ولا غيره, بل يضعه ويذهب عنهم خلاف ما يفعله أرباب الدنيا في الولائم وغيرها, والخير كله في الاتباع, والشر كله في الابتداع. وكان مالك رضي الله عنه كثيرا ما ينشد هذا البيت: وخير أمور الناس ما كان سنة ..... وشر الأمور المحدثات البدائع والله تعالى اعلم. ثم أشار إلى أدب آخر وهو عدم انتظار الغائب إذا حضر الطعام, فقال: ولم يروا فيه بالانتظار ..... فيذهب الوقت بلا تذكار قلت: أشار رحمه الله إلى أن مذهب الصوفية إذا حضر الطعام بادروا إليه بالآكل, ولم يكن رأيهم فيه بالانتظار لمن كان غائبا منهم, بل يعزلون حقه ويأكلون الباقي, وذلك لما في ذلك من التكلف للغائب, وإهانة الطعام بابتذاله, أي إهماله وشغل بال الجائع منهم به لا سيما وهم لا يأكلون إلا عن احتياج, ولأن الحاضر مقدم حقه على الغائب. قال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: ويكره الانتظار عند حضور الطعام. وقد قيل: قلوب الأحرار لا تحمل الانتظار, ويكره تفويت الوقت بالاشتغال بالأكل حتى حكي عن بعضهم أنه كان يفطر على حسوة يحسوها, ويقول: الوقت أعز من أن يشغل بالآكل. قلت: وإلى هذا الأخير أشار بقوله: "فيذهب الوقت بلا تذكار" ولعله مرتب على محذوف تقديره ولا يطيلون الجلوس عليه فيذهب الوقت بلا ذكر كما رتبه السلمي, والناظم في هذا الباب ما نظم, إلا ما ذكره السلمي حرفا حرفا, غير أنه قدم وأخر, وفيه تنبيه على ما كان عليه السلف من الجد والاجتهاد, ومحافظتهم على أوقاتهم وساعاتهم. قال الحسن البصري رضي الله عنه: أدركت أقواما كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم, يقول: كما لا يخرج أحدكم دينارا ولا درهما إلا فيما يعود عليه نفعه, فكذلك لا يحبون أن تخرج ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعه. وقال السري السقطي: خرجت يوما من بغداد, أريد الرباط بعبادان, أصوم بها رجب وشعبان, فاتفق أن مررت في طريقي على الجرجاني, وكان من الزهاد الكبار, فدنا وقت إفطاري, وكان معي ملح مدقوق وأقراص,فقال :ملحك مدقوق ومعك ألوان من الطعام, لم تفلح ولن تدخل سنن المحبين, فنظرت إلى مزود كان معه فيه سويق الشعير, فسف منه, فقلت: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: إني سبحت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة, فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة, وفي الخبر: "ما من ساعة تأتي على العبد لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة". انظر تنبيه ابن عباد, فقد أطال فيه. ثم نهى عن كثرة الأكل فقال: وكرهوا البطنة للإخوان ..... فالبطن كالوعاء للشيطان قلت: البطنة بكسر الباء هي: امتلاء البطن من الطعام, فأخبر رحمه الله أن الصوفية كرهوا البطنة للإخوان, وهي الشبع, أو الزائد فوقه إلى حد لا يضر, وإلا حرم, وأشار بهذا إلى قول سيدنا عمر رضي الله عنه: "إياكم والبطنة فإنها تذهب الفطنة, وتبطئ بالجوارح عن الطاعة". وأشار بقوله: "فالبطن كالوعاء للشيطان" إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, فضيقوا مسالكه بالجوع". فالبطن إذا امتلأت كثر دم البدن, فتتسع مجاريه للشيطان فيسلط عليه الكسل والثقل وسوء الخواطر, والوساوس, فيكون جسمه كالوعاء للشيطان يحشو فيه ما شاء. وقد قال لقمان لابنه: يا بني إذا ملئ البطن نامت الفطنة, وخرست الحكمة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه". وقيل يا رسول الله: من أفضل الناس؟ قال: من قل طعمه وضحكه, ورضي بما ستر به عورته. وقال صلى الله عليه وسلم: "البسوا واشربوا, وكلوا في أنصاف بطونكم, فانه جزء من النبوة". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تميتوا قلوبكم بكثرة الطعام والشراب, فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء". وفي حديث آخر: "إن الله يباهي الملائكة ممن قل طعمه في الدنيا, فيقول انظروا إلى عبدي ابتليته بالطعام والشراب في الدنيا فتركهما, اشهدوا يا ملائكتي ما من أكلة يدعها إلا أبدلته بها درجات في الجنة". وقد ذكر في كتاب الإحياء للجوع عشر فوائد: الأولى: صفاء القلب, وإنفاذ القريحة, ونفوذ البصيرة. فإن الشبع يورث البلادة ويقسي القلب ويكثر البخار في الدماغ, كشبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر, فيشتغل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار. الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المناجاة والتأثر بالذكر, فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب لا يلتذ به, حتى كان بينه وبين الذكر حجاب من قساوة القلب, قال أبو سليمان: أحلى ما تكون العبادة إذا لصق ظهري ببطني. وقال الجنيد رضي الله عنه: يجعل أحدكم بينه وبين الله مخلاة من طعام, ويريد أن يحصل حلاوة المناجاة. الثالثة : الانكسار والذل، وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، ولا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع ، فعنده تسكن لربها وتخشع وتقف على عجزها وذلها . الرابعة : ألا ينسى بلاء الله وعذابه, ولا ينسى أهل البلاء ، فإن الشبعان ينسى الجائعين . قيل ليوسف عليه السلام . مالك تجوع وأنت على خزائن الأرض, قال : أخاف أن أنسى الجائع. والعبد الفاضل لا يشاهد بلاء إلا ويتذكر بلاء الآخرة ، فيتذكر بجوعه:جوع أهل النار، وبعطشه: عطش يوم القيامة . الخامسة : كسر شهوات المعاصي والاستيلاء على النفس، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى، ومادتهما من الأطعمة والأغذية فتقليلهما يقنع كل شهوة وقوة. السادسة: دفع النوم ودوام السهر، فإن شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه, ولذلك قال بعض المشايخ: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً وترقدوا كثيرا, فتخسروا كثيرا, وفي كثرة النوم تضييع العمر وفوات التهجد, وبلادة الطبع وقساوة القلب الذي هو أنفس الجواهر ورأس مال العبد. السابعة: تيسر المواظبة على العبادة, الأكل يمنع من كثرة العبادة, لأنه لا بد يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل, وربما يحتاج إلى علاجه, ثم يكثر تردده إلى بيت الخلاء, والأوقات المصروفة إلى هذه لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لعظم ربحه وكثر خيره, ومما يتعذر مع كثرة الأكل دوام الوضوء وملازمة المسجد, فإنه يحتاج إلى الخروج لهراقة الماء وغيره, ويتعذر أيضا مع كثرة الأكل عبادة الصوم, فإنه يتيسر لمن تعود الجوع دون غيره. الثامنة: صحة البدن ودفع الأمراض فإن سبب الأمراض كثرة الأكل وحصول فضلة الاختلاط في المعدة, ثم أن المرض يمنع من العبادات, ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر, وينغص العيش, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء" و "أصل كل داء البردة". وفي رواية: البطنة "أصل الداء والحمية أصل الدواء" وسمع بعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلث طعام, وثلث شراب, وثلث نفس" فتعجب منه وقال: ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحسن منه, وإنه لكلام حكيم. وقال ابن سالم: من أكل خبز الحنطة بحتا بأدب لم يعتل إلا علة الموت, قيل وما الأدب قال: يأكل بعد الجوع, ويرفع قبل الشبع. وفي الخبر المشهور: "صوموا تصحوا". التاسعة: خفة المؤنة, فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير, والذي تعود الشبع صار بطنه غريما ملازما, يأخذ بحتفه كل يوم, فيقول ماذا تأكل اليوم, فيحتاج إلى أن يدخل المداخل الرديئة, فيكتسب الحرام فيعصي, أو الحلال فيذل, وربما يمد عينيه إلى الطمع في الخلق, وهو غاية الذل والمهانة, والمؤمن ضعيف المؤنة لا يذل نفسه في شهوة بطنه. العاشرة: التمكن من الإيثار والتصدق, فيعود بالفضلة على المساكين, ويكون يوم القيامة "في ظل صدقته" كما ورد, فما يأكله فخزانته الكنيف, وما يتصدق به فخزانته فضل الله, فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأمضى أو أكل فأفنى ولبس فأبلى, فالتصدق بفضلة الطعام أولى من التخمة والشبع. قال الحسن: لقد أدركنا أقواما كان الرجل منهم يمشي وعنده من الطعام ما يكفيه, ولو شاء لأكله كله, فيقول: والله لا أجعله كله في بطني, حتى أجعل بعضه لله تعالى, فهذه عشر فوائد للجوع, وتنبعث من كل واحدة قواعد لا تنحصر". انتهى كلام الغزالي باختصار. وقد تقدم تقييد الجوع بغير المفسد للفكرة أو المهلك للبشرية, والله تعالى أعلم. ثم ذكر أدبا آخر, وهو ألا يرفع يده قبل الناس إذا كان يقتدى به, فقال: "قالوا: ولا يمسك يدا ما داموا في الأكل, ليقم ومتى ما قاموا". قلت: من آداب الأكل مع الجماعة إلا يمسك يده قبلهم حتى يعلم أن القوم أخذوا حاجتهم من الطعام, وهذا إذا كان كبيرا يقتدى به, أو رب المنزل. وفي بعض الآثار: "إن لم تأكل فأكل, فإن رفع اليد قبل الجماعة يخجلهم ويمنعهم من الاسترسال في الأكل, وقد يكون معهم من هو في الحاجة, فيمنعه من الأكل فيتضرر بسببه, ولهذا قالوا: من الأدب الجهر بالتسمية والإسرار بالحمدلة, لأن الجهر بها يخجل من معه, فيرفع يده قبل قضاء حاجته من الطعام. ومن آدابهم أيضا: لا يجلس إذا قام القوم عن الطعام, بل يقوم معهم لأن جلوسه يدل على نذالته: أي سقاطته وهجنته, وإن كان محتاجا, إلا في محل لا يدركه شيء من ذلك. قال السلمي رضي الله عنه: وإذا كان مع جماعة فلا يمسك عن الأكل ما داموا يأكلون, لا سيما إذا كان متقدمهم. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل مع جماعة كان آخرهم أكلا. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وينبغي أن يراعي في كل موقف ما يليق به, فطعام الفقراء يأخذ منه قدر حاجته سواء قلت أو كثرت. قلت: والمراد بالفقراء: الإخوان. ثم قال: وطعام المتفضلة أي الأجنبيون المتفضلون به, يأخذ منه مقدارا لا يخل بمروءته ولا يقدح عندهم في ديانته, لأنه إن قلل: قالوا مراء متصنع, وإن كثر قالوا: إنه متوسع, ومن راءا في أكله فقد ستر نفسه, كذا قال بعض المشايخ لمن رآه يأكل أكلا عنيفا فنهاه, فقال: كل من راءا في أكله فقد راءا في دينه, وطعام العامة من المحبين والمنتسبين يأخذ منه على قدر شاهد الحال. وقد كان حمدون القصار إذا دعا أصحابه إلى وليمة أشبعهم قبل الإجابة ليتناولوا بالعز. وكان الشيخ أبو مدين رضي الله عنه: يفعل ذلك ويغديهم عنده بأطيب الطعام. ومن آدابهم: السخاء, والإيثار, والتوسط في تناوله, كما أبان ذلك بقوله: وأمروا فيه بفتح الباب ..... وأكلوا بالقصد والآداب وفتحوا الباب لكل سار ..... وأكلوا بالرفق والإيثار قلت ذكر من آداب القوم في الأكل خمسة أمور: أحدهما: فتح باب المنزل الذي يأكلون فيه, ليدخل عليهم كل من يحتاج إلى الأكل, وفيه دلالة على كرمهم وغنى قلوبهم, لأنهم لا يدفعون من يأتيهم, بل يقابلونه ويفرحون به, وربما رأوا له المنة عليهم في أكله معهم, بل يعتقدون انه هدية من الله إليهم, لا سيما أن كان من إخوانهم أو من ذوي الحاجة لقوله عليه الصلاة والسلام: "السائل على باب أحدكم هدية من الله تعالى" أو كما قال. وكان الشيخ الغوري رحمه الله يقول: رأيت لبعض العلماء أنه قال: يجب على الإنسان إذا وقف السائل وهو يأكل أن يناوله. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فقلت له: يجب؟ قال: نعم, مثل الصلاة, قال: فاستغربته, وسألت عنه جماعة بالمشرق والمغرب, فلم أجده عند أحد, واستدل له بأن عائشة رضي الله عنها أعطته حبة عنب, وذكرت حديث: "ردوا السائل ولو بشق تمرة". قال: وفي الاستدلال على الوجوب نظر. قلت: إنما يظهر الوجوب إذا كان مضطرا أو جاهلا. ثانيهما: الأكل بالقصد, من غير إفراط ولا تفريط, فلا يزيد على الشبع المعتاد, بل يقصر عنه, ولا يقلل جدا حتى يختل بدنه, وخير الأمور أوسطها, وكذلك لا يكبر اللقمة جدا, ولا يصغرها جدا, والوسط مطلوب في كل شيء. قال تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" الآية, وقال: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما". وقال عليه الصلاة والسلام: "ما عال من اقتصد" إلى غير ذلك من الأخبار. ثالثها: الأكل بالآداب, وهي كثيرة فمنها ما تطلب في أوله, وهي التسمية جهرا, ونية التقوي على الطاعة. والاعتبار في تيسيره بعد أن عمل فيه عوالم كثيرة, وغسل اليد إن كان مستقذرا, وإلا فلا, والأكل على السفرة دون الخوان المرتفع. والجلوس على إحدى رجليه, وهي اليسرى ورفع الأخرى وإلصاقها ببطنه. والتشمير عند الأكل, قاله السلمي. ومنها ما تطلب بعد الشروع فيه, وهي الأكل بثلاثة أصابع, حيث يتأنى ذلك. قال السلمي: وليس من الظرافة أن يغمس يده في الطعام بحيث يتلطخ به. والأكل مما يليه, وتصغير اللقمة, وتجويد المضغ, وترك النظر إلى لقمة صاحبه, وترك لعق الأصابع قبل تمامه, ثم يرده في القصعة, وترك الانحناء على الطعام لئلا يسقط من فيه شيء فيقذره على غيره, وترك نفض اليد مما يفضل من لقمته في القصعة, فإن ذلك يقذر على الآكلين, وهذا كثيرا ما يفعله من لا معرفة له بالأدب, فليتحرز الفقير منه جهده فإن التصوف كله آداب كما يأتي إن شاء الله, وترك مسح يده في جوانب القصعة, وترك الأكل وسط القصعة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كلوا من حواليها ولا تأكلوا من وسطها فأن البركة في وسطها". والأكل باليد إلا ما كان مائعا أو خفيفا. وكره بعضهم الأكل بهذه الملاعق إلا لضرورة. ومنها ما تطلب بعد التمام, وهي: الحمد سرا, ولعق الأصابع, لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن أحدكم لا يدري في أي طعامه البركة" ثم مسحها ثم غسلها. وقد رمز بعضهم لهذا الترتيب بلفظ: "لمغ" فاللام للعق, والميم للمسح, والغين للغسل. ومنها لقط ما سقط من الطعام, يقال: أنه مهر الحور. وبقي من الآداب التي تطلب عند الأكل: الأكل باليمين بدلا من اليسار, إلا أن يكون في هذه طعام في هذه إدام, كما وقع لسيدنا علي كرم الله وجهه, إذ كان في إحدى يديه خبز وفي أخرى شواء, وعدم القران في التمر مثلا, إلا أن يكون مع قوم أطعمهم وعدم جولان يده إلا أن يكون مع أهله وولده, وحيث يباح له الجولان. وآداب الأكل كثيرة, ذكر منها في المدخل نبذة صالحة. ورابعها: الأكل بالرفق, وهو التأني في الأكل بحيث يصغر اللقمة, ولا يرفع أخرى حتى يبتلع ما في فيه, ويجيد المضغ ويلوك طعامه إلى أن ينعمه مضغا, ولا يظهر الشره والحرص, بل يظهر القناعة والغنى عنه. وخامسها: الأكل بالإيثار, وهو أن يؤثر غيره على نفسه أن كان الطعام قليلا, أو كان فيه ما يشتهي فيقدمه لغيره, كلحم جيد أو غيره, والإيثار: بذل ما تمس الحاجة إليه دون ضرر لاحق في الحال والمآل, وقد مدح الله أهل الإيثار بقوله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". وقال بعضهم: الزهد عندنا: إذا وجدنا آثرنا, وإذا فقدنا شكرنا. وقوله: "وفتحوا الباب" الخ لما كان الأمر لا يلتزم الفعل ذكر أولا الأمر, ثم صرح بالفعل, أو يحمل الأول على الباب الخارجة, والثاني على الباب الداخلة إن كان للمنزل بابان, والله تعالى أعلم. تتمة. قال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: قال بعض مشايخ الصوفية: واجب على المضيف ثلاثة أشياء, وعلى الضيف ثلاثة أشياء. فأما على المضيف بأن يطعمه من الحلال ويحفظ عليه مواقيت الصلاة, ولا يحبس عنه ما قدر عليه من الطعام. وعلى الضيف أن يجلس حيث يجلسه, وأن يرضى بما قدم إليه, وألا يخرج إلا بعد استئذان. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من السنة أن يشيع الضيف إلى باب الدار". قلت: وإن زاد فهو خير. ويذكر أن سيدنا إبراهيم الخليل كان يشيع الضيف مسيرة ميل أو أكثر, فالله تعالى اعلم. ثم أشار إلى الحكم الخامس من الأحكام التسعة, فقال: والخامس ما يلزمهم من الآداب عند الاجتماع. وحاصل هذا الحكم الحض على الآداب ومواطنه وكيفيته, فقال موطئا للكلام عليه: وللطريق ظاهر وباطن ..... تعرف منه صحة البواطن قلت: المراد بالطريق هو طريق السلوك إلى ملك الملوك, وهي طريق الصوفية, ولها ظاهر وباطن, فظاهرها ما يتعلق بإصلاح الجوارح الظاهرة, وباطنها ما يتعلق بإصلاح العوالم الباطنية. واخبر أن استقامة الظاهر دليل تعرف منه استقامة البواطن, وعبر عن الاستقامة بالصحة, فصحة الظاهر عنوان صحة الباطن. قال ابن عطاء الله في الحكم: حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال, وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال. وقال أيضا: ما استودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر, إلا أن ما تعلق بإصلاح الظواهر يسمى شريعة وما تعلق بإصلاح البواطن يسمى طريقه, ثم حقيقة. ثم بين ما يختص بالظاهر وما يختص بالباطن فقال:
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:14 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
5 - ما يلزمهم من الآداب عند الاجتماع. وللطريق ظاهر وباطن ..... تعرف منه صحة البواطن قلت: المراد بالطريق هو طريق السلوك إلى ملك الملوك, وهي طريق الصوفية, ولها ظاهر وباطن, فظاهرها ما يتعلق بإصلاح الجوارح الظاهرة, وباطنها ما يتعلق بإصلاح العوالم الباطنية. واخبر أن استقامة الظاهر دليل تعرف منه استقامة البواطن, وعبر عن الاستقامة بالصحة, فصحة الظاهر عنوان صحة الباطن. قال ابن عطاء الله في الحكم: حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال, وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال. وقال أيضا: ما استودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر, إلا أن ما تعلق بإصلاح الظواهر يسمى شريعة وما تعلق بإصلاح البواطن يسمى طريقه, ثم حقيقة. ثم بين ما يختص بالظاهر وما يختص بالباطن فقال: ظاهره الآداب والأخلاق ..... مع كل خلق ما له خلاق باطنه منازل الأحوال ..... مع المقامات لذي الجلال قلت: لما أخبر أن الطريق لها ظاهر, وهو ما يظهر على الجوارح من الآداب المرضية والأخلاق السنية والأعمال الزكية ولها باطن, وهو: ما يكمن في القلوب من الواردات الإلهية والأحوال الربانية والمقامات اليقينية والعلوم اللدنية والأسرار القدسية, عين هنا ما يختص به الظاهر وما يختص به الباطن, فأخبر أن ظاهر الطريق: الآداب, وحقيقته عند الصوفية حفظ الحواس, وضبط الأنفاس, أي الأوقات, والحق أنه تهذيب الجوارح وتصريفها في أنواع المصالح. قال السلمي رضي الله عنه: وعلى كل جارحة آداب تختص به, قال الله تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا". وقال بعض المشايخ: حسن ـ مع الله تعالى: لا تتحرك جارحة من جوارحك في غير رضي الله عز وجل, فأدب اللسان أن يكون رطبا بذكر الله تعالى, وبذكر الإخوان بخير, والدعاء لهم, وبذل النصيحة, والوعظ, ولا يكلمهم بما يكرهون, ولا يغتب ولا ينم "يعني يمشي بالنميمة" ولا يشتم ولا يخض فيما لا يعنيه, وإذا كان في جماعة تكلم معهم ما داموا يتكلمون فيما يعنيهم, فإذا أخذوا فيما لا يعنيهم تركهم وأمسك, ويتكلم في كل مكان بما يوافق الحال, فقد قيل: لكل مقام مقال, وقيل: خلق الله اللسان ترجمانا للقلب, ومفتاحا للخير والشر وقيل: إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك. والزم الصمت, فإنه ستر للجاهل وزين للعاقل, قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم". وآداب السمع: ألا تسمع الفحش والخنا والغيبة والنميمة والمناكر, وانشدوا: أحب الفتى ينفي المناكر سمعه ..... كأن به عن كل فاحشة وقرا بل يسمع الذكر والوعظ والحكمة وما يعود إليه بالفائدة دينا ودنيا, ويحسن الإصغاء إلى مكلميه ومخاطبيه, ملتذا بذلك. وآداب البصر: الغض عن المحارم, وعن عيوب الإخوان, وعن المنكرات والمحرمات, فان الله تعالى: "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور". وقيل: من طاوع طرفه تابع حتفه "أي موته" وفي رواية "من أرسل طرفه مات حتفه" وأنشدوا. وإنك مهما ترسل الطرف رائدا ..... لقلبك يوما أتعبتك المناظر ترى ما الذي لا كله أنت قادر ..... عليه, ولا عن بعضه أنت صابر ثم قال السلمي: وقيل من غض طرفه ثم ظرفه, وقيل: من كثرت لحظاته دامت حسراته, ويكون نظره بالاعتبار والاستدلال على قدرة الله تعالى وعظمته وجميل صنعه عاريا عن حظوظ النفس الأمارة بالسوء. حكى عن بعضهم أنه قال: نظرت إلى شخص نظرة شر, فرأيت في المنام قائلا يقول لي: الدنيا داري, والخلائق فيها عبيدي وإمائي, فمن نظر إلى واحد منهم بغير حق فقد خانني, فانتبهت وآليت إلا أنظر إلى شخص بعد ذلك إلا على حد الأمانة. وحكا عن أبى يعقوب النهرجوري أنه قال: رأيت في الطواف إنسانا بفرد عين, وهو يقول: أعوذ بك منك, فقلت: ما هذا الدعاء, فقال: اعلم أني مجاور منذ خمسين سنة فرأيت يوما شخصا استحسنته فإذا لطمة وقعت على عيني, فسالت على خدي, فقلت: آخ فقيل لي: لحظة بلطمة, ولو زدت لزدناك. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "إياك أن تتبع النظر فان الأولى لك والثانية عليك". وآداب القلب مراعاة الأحوال السنية المحمودة, ونفي الخواطر الردية المذمومة, والتفكر في آلاء الله ونعمائه وعجائب خلقه, قال الله تعالى: "الذين يذكرون الله قياما وقعودا على جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار". الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة". قلت: وفي رواية: "خير من عبادة سبعين سنة". فيحمل الأول على تفكر أهل الدليل, والثاني على تفكر أهل الشهود. ومن آداب القلب: حسن الظن بالله وبجميع المسلمين, وتطهيره من الغل والحسد والخيانة وسوء الظن وسوء المعتقد, فإنها من خياناته, قال الله تعالى: "إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح بصلاحها سائر الجسد, وإذا فسدت فسد سائر الجسد, إلا وهي القلب". قال سري السقطي: القلوب ثلاثة, قلب كالجبل لا يحركه شيء, وقلب كالنخلة أصلها ثابت والريح يميل بها يمينا وشمالا, وقلب كالريشة يذهب مع كل ريح ولا يثبت. وآداب اليدين: البسط بالبر والإحسان, وخدمة الإخوان وألا يستعين بهما على معصية الله تعالى. وآداب الرجلين: السعي بهما في صلاح نفسه وإخوانه, وألا يمشي بهما مرحا, ولا يختال ولا يتبختر, ولا يزهو, فإنها مما يبغضه الله تعالى, وألا تستعين بهما على المعاصي. انتهى. وأما الأخلاق, فالمراد بها: حسن الخلق مع كل مخلوق, ومرجعها إلى: الحلم, والعفو, والصبر. أو تقول: مرجعها إلى أن تعامل الخلق بما تحب أن تعامل به. أو تقول: مرجعها إلى كف الأذى, وبذل الندى, والإنصاف فيما ظهر وما بدا, وحمل الجفا, وشهود الصفا, ورمي الدنيا بالقفا. وقال الغزالي: هي ملك النفس عند الشهوة والغضب, ويرجع إلى ما تقدم. وقوله "مع كل خلق ماله خلاق" معناه: أن تحسن أخلاقك مع من لا خلاق له, أي لا نصيب له عند الله, أمرك أن تحسن أخلاقك مع من لا قدر له, لأنه هو الذي يحتاج إلى تحسين الأخلاق, وأيضا التأدب وحسن الخلق مع من لا خلاق له يتضمن التأدب مع غيره بالأحروية, ومرجع ذلك لقوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". قال عليه الصلاة والسلام: "أمرني ربي أن أعطي من حرمني, وأعفو عمن ظلمني, وأصل من قطعني". وقال تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". ومعناه أن تحسن إلى من أساء إليك. وقوله: "باطنه منازل الأحوال... مع المقامات" يعني: أن باطن الطريق هو محل تنزل الأحوال والمقامات, وهي القلوب والأسرار, لأنها باطنية لا يعلمها إلا الله, والفرق بين الحال والمقام أن الحال يتحول فيذهب ويجيء, بخلاف المقام, فإنه رسوخ وتمكين. قال في العوارف: كثر الاشتباه بين الحال والمقام, واختلفت إشارات المشايخ في ذلك ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما, وتداخلهما فتراءى للبعض الشيء حالا وتراءى للبعض مقاما, وكلا الروايتين صحيح لوجود تداخلهما, ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما على أن اللفظ والعبارة عنهما تشعر بالفرق. فالحال سمى حالا لتحوله, والمقام مقامات لثبوته واستقراره, وقد يكون الشيء بعينه حالا, ثم يصير مقاما, مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة, ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس, ثم تعود, ثم تزول, فلا يزال العبد حال المحاسبة تعاهده الحال, ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم, ويغلب حال المحاسبة فتنقهر النفس وتنضبط, وتتملكها المحاسبة, فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه, ثم ينازله حال المراقبة, فمن كانت المحاسبة مقامه تصير له المراقبة حالا, ثم يحول عنه حال المراقبة لتناوب السهو والغفلة في باطن العبد, إلى أن ينقشع ضباب السهو والغفلة, ويتدارك الله عبده المعونة, فتصير المراقبة مقاما بعد أن كانت حالا, ولا يستقر مقام المحاسبة قراره إلا بنازل حال المراقبة, ولا يستقر مقام المراقبة إلا بنازل حال المشاهدة, فإذا منح العبد نازل حال المشاهدة استقرت مراقبته وصارت مقامه, ونازل المشاهدة أيضا يكون حالا ويحول بالاستتار, ويظهر بالتجلي, ثم يصير مقاما, وتتلخص شمسه من كسوف الاستتار, ثم في مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقيات من حال إلى حال أعلى منه, كالتحقق بالفنا والتخلص إلى البقاء, والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين, وحق اليقين نازل يخرق شغاف القلب, وذلك أعلى فروع المشاهدة. انتهى. وكذلك التوبة والورع والزهد والتوكل والرضا والتسليم, تكون أحوالا, ثم تصير مقامات, فما دامت مجاهدة فهي أحوال, فإذا كانت ذوقا فهي مقامات. وقد قالوا: الأحوال مواهب, لأنها موهبة من الله جزاء على الأعمال, والمقامات مكاسب, لأن التمكين منها مكتسب بدوام الأعمال. وفي التحقيق: كلها مواهب. وقول سيدنا علي كرم الله وجهه: "سلوني عن طرق السماوات, فإني أعرف بها من طرق الأرض" أشار إلى المقامات والأحوال فإن السالك يصير قلبه سماويا, فهي طرق السماوات, ومستنزل البركات. قاله السهروردي أيضا. وقوله: "لذي الجلال" يتعلق بمحذوف, أي يستقر بها عند ذي الجلال, وهو الحق تعالى ـ ذو الجلال والإكرام ـ والله تعالى أعلم. ولما كان بين الظاهر والباطن تلازم: ما كمن في هذا ظهر في هذا, أشار إلى ذلك بقوله: والأدب الظاهر للعيان ..... دلالة الباطن في الإنسان
قلت: هذا داخل فيما تقدم من أن صحة الظواهر تدل على صحة البواطن, فما استودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "من أسر سريرة ألبسه الله رداءها". فأحوال الظاهر تابعة لأحوال الباطن, فالأسرة تدل على السريرة, وما فيك ظهر على فيك, وكل إناء بالذي فيه يرشح, وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح, فتهذيب الجوارح يدل على تهذيب القلوب, وآداب الظاهر يدل على آداب الباطن. حُكيَ أن الجنيد دخل على أبى حفص النيسابوري, فرأى أصحابه واقفين عند رأسه كأصحاب الملك, فقال الجنيد: أدبت أصحابك يا أبا حفص أدب الملوك؟ فقال: لا يا أبا القاسم: ولكن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن. وهو الذي ذكر الناظم هنا, والله تعالى أعلم. ثم ذكر فضيلته فقال: وهو أيضا للفقير سند ..... وللغني زينة وسؤدد وقيل: من يحرم سلطان الأدب فهو بعيد, ما تدانا واقترب. وقيل: من تحبسه الأنساب فإنما تطلقه الآداب. قلت: المراد بالفقير هنا: من لا مال له, بدليل مقابلته بالغني وإنما كان الأدب سندا للفقير أي معتمدا عليه, ويرتفع إلى مقام الأكابر دينا أو دنيا, لأن القلوب مجبولة على حب أهل الإحسان والتواضع والحلم, فإن أراد اللحوق بأكابر الدين كان أدبه معهم سببا في التحاقه بهم, وإن أراد اللحوق بأكابر الدنيا, كان أدبه أيضا سببا في لحوقه بهم, لأن القلوب مجبولة على حب أهل الإحسان كما تقدم. وإنما كان للغني زينة وسؤددا أي شرفا, لأن الغني محبوب بالطبع, فإذا كان أديبا متأدبا زاد عندهم شرفه. ومن آداب الغني: التواضع والكرم, فإذا خلا من هذين فليس بأديب, وإذا خلا الغني من الآداب التحق بالأراذل, وانخرط في سلك الأنذال, ولذلك قيل: خير ما أعطيَ الإنسان: عقل يزجره, فإن لم يكن فحياء يمنعه, فإن لم يكن فقال يستره, فإن لم يكن فصاعقة تحرقه يستريح منه البلاد والعباد. والآداب أيضا من موجبات القرب والوصال؛ ولذلك قيل: "من يحرم سلطان الأدب" أي يمنع منه ولم يوجد فيه شيء منه "فهو بعيد ما تدانا" في زعمه "واقترب" في وهمه, فما مصدرية, وتدانا واقترب من عطف التفسير والمرادف, أي فهو بعيد مدة كونه متدانيا قريبا في ظنه. وأشار بهذا لقول أبى حفص رضي الله عنه: التصوف كله أدب, لكل وقت أدب, ولكل حال أدب, ولكل مقام أدب, فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال, ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب, مردود من حيث يظن القبول. وقال ابن عطاء الله: من جهل المريد أن يسيء الأدب, فتؤخر العقوبة عنه, فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب العباد, فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يدري, ولو لم يكن إلا منع المزيد, وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري, ولو لم يكن إلا أن يخليه وما يريد. وإنما سمى الناظم الأدب سلطانا لأنه حاكم على الشخص في نفسه, فلا يتركه يميل إلى جهة النقائص والرذائل. ومن فضيلة الأدب أنها تلحق من لا نسب له بذوي الأنساب, وتصير الوضيع شريفا والدني رفيعا, ولذلك قيل: "من تحبسه الأنساب الدنية تطلقه الآداب المرضية" أي من يحبسه عن الارتفاع مع الكبراء نسبه الوضيع, يطلقه إلى طلب العلو أدبه الرفيع. قيل لبعض الملوك في بعض الكتب أنه ليس بحسيب, أي من قوم لهم حسب, فسأله الملك, فقال الملك: أنا حسيب لأولادي, أي يصير أولادي من ذوي الأحساب بسببي, وهكذا كما قال بعضهم: "نحن بنات المجد لغيرنا" أي نحن نؤسس المجد ونبنيه لغيرنا, "ولا نستظل ببناء مجد غيرنا" وفي ذلك قيل: كن حليما ودع فلان ابن من كان ..... حليما واجمع إلى الحلم علما ولا تكن سكرا فيأكلك الناس ..... ولا حنظلا تذاق وترمى ثم تمم فضيلته وشرفه فقال: فالقوم بالآداب حقا سادوا ..... منه استفاد القوم ما استفادوا "قلت" السؤدد هو الشرف أي ما ساد القوم وشرفوا إلا بالآداب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع أشياخهم ومع سائر المسلمين, فالأدب مع الله بامتثال أمره واجتناب نهيه, والاستسلام لقهره. وقال الشيخ زروق رضي الله عنه في شرح الحكم: هو حفظ الحدود, والوفاء بالعهود والنطق بالملك الودود, والرضا بالموجود, وبذلك الطاقة والمجهود. والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وإيثار صحبته, والاهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه. والأدب مع الأشياخ بحفظ الحرمة, وحسن الخدمة, وصدق المحبة. والأدب مع المسلمين, بان تحب لهم ما تحب لنفسك, أو أكثر. وتقدمت آداب الجوارح, فلا بد منها, وكذلك آداب الأوقات, وهي تعميرها بالطاعات, فأوقات العبد أربعة كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: وقت الطاعة, ووقت المعصية, ووقت النعمة, ووقت البلية, فوقت الطاعة مقتضى الحق منك شهود المنة ووقت المعصية مقتضى الحق منك تحقيق التوبة, ووقت النعمة مقتضى الحق منك الشكر, ووقت البلية مقتضى الحق منك الصبر, فإذا قام العبد بهذه الآداب كلها حصل له الشرف التام والمنزلة الكبرى عند الخاص والعام. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وكل نسبة لا أدب فيها فصاحبها كذاب, لأن عنوان الصدق وجود المراقبة, وإن كانت الغفلة مع حفظ الأصل غير قادحة, فقد قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: كل سوء أدب يثمر أدبا فليس بإساءة أدب, يعني من حيث الواقع, لا من حيث القصد, فتأمل ذلك, وبالله التوفيق. وقوله: "منه استفاد القوم ما استفادوا" يعني من العلوم والمعارف والأنوار والأسرار والكرامات الحسية والمعنوية, والله تعالى أعلم. ثم ذكر بعض تفاصيل الأدب, فقال: إذ نصحوا الأحداث والأصاغر ..... وحفظوا السادات والأكابر قلت: ذكر هنا أربعة أصناف من الناس, ممن يتأدب معهم إذا اجتمعوا معه, أولهم الأحداث: جمع حدث. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: هو من لا نبات له, وهم ثلاث: الحدث سنا, وهو الصغير الذي لم يميز حقائق الأمور, فله ولوع بكل ما يراه أو سمعه من مستحسن, فلا تؤمن غائلته في الانقلاب, ثم للنفوس ولوع به, من حيث الجمال الصوري, أو من حيث التعلق الروحاني, وقد يكون ذلك لا يشعر به الشخص, وقد يكون من حيث شعوره, ولصحبتهم آفات حاضرة من حيث شغل البال وحفظه, ثم من حيث اشتغال النفس بالميل له, ثم من حيث كمون الضرر في النفس بصحبته, فلا خير فيها, ولا بد من نصحه عند إقباله بتعريف الأصول, وترك الفضول. قلت: الأصل في صحبته الجواز, وإنما لهذه العوارض التي ذكرها, فمن تحقق سلامته منها فلا يعترض عليه, وقد ذكره التجيبي, واستدل للجواز بخدمة أنس بن مالك رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان عليه الصلاة والسلام معصوما, فالأصل فيما يفعله الاقتداء حتى يرد ما يخصصه به. القسم الثاني من أقسام الحدث: الحدث عقلا, وهو الذي لا يثبت على حقيقة, ولا ينتهج على طريقة: يتبع كل ناعق, ويتنسم كل ناشق, هذا أعظم ضررا من الذي قبله لفقدان الحقيقة فيه, وانتفاء قابليتها منه, ونصحه بتعريف الوجه الذي يقصده, وبيان الحق بوجه واضح حتى تقوم الحجة وتظهر المحجة, وأكثر ما يوجد هذا في فقراء البادية. قلت: إن كان على الفطرة سهل علاجه وقربت هدايته. القسم الثالث: الحدث دينا, وهو مع كل بما هم عليه, يميل مع كل ريح, ويسمى: الإمعة بكسر الهمزة وشدة الميم, ونصحه بدعواه إلى إفراد الوجهة, وتذكيره بما فيه ذلك من الضرر. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل واد من قلب ابن آدم شعب فمن تتبع قلبه تلك الشعب لم يبال الله في أي واد أهلكه". الثاني: الأصاغر, والمراد بهم: صغار السن الذين لم يبلغوا سن الحداثة والتمكن فيها, ونصحهم بغرس الخير في قلوبهم, كما قال ابن أبى زيد في رسالته: "وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليها". وقال السلمي رضي الله عنه: والصحبة مع الأصاغر بالشفقة والإرشاد والتأديب والحمل على ما يوجبه حكم المذهب, ويدلهم على ما فيه صلاحهم, لا على ما فيه مرادهم, وعلى ما يفيدهم لا على ما يحبونه, ويزجرهم عما لا يعنيهم. الثالث السادات: والمراد بهم: العباد, والزهاد, والصالحون, والعلماء العاملون, والمريدون السالكون, الذين لم يبلغوا مرتبة المشيخة, ونصح الأول بدلالته على الإخلاص وإسقاط الحظوظ النفسانية والروحانية, ونصح الثاني بتصحيح النية وإفراد الوجهة مع ما نصح به الأول, ونصح الثالث بتحقيق التوبة والاستقامة, ونصح الرابع بتحقيق الإخلاص وتوفير الصبر والحلم والتواضع, ونصح الخامس بالغيبة عن السوى, أو بإسقاط الهوى ومحبة المولى, وحفظهم بالتعظيم والتوقير والاحتشام, وبإعطاء الرتبة حقها من كل وجه, ولا يستحقر أحدا أقامه الله في مقام من المقامات كيفما كان. قال في الحكم: إذا رأيت عبدا أقامه الله بوجود الأوراد, وأدامه عليه مع طول الأمداد, فلا تستحقرن ما منحه مولاه, لأنك لم تر عليه سيما العارفين ولا بهجة المحبين فلولا وارد ما كان ورد. وقال أيضا: قوم أقامهم الحق لخدمته, وقوم اختصهم بمحبته, "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك, وما كان عطاء ربك محظورا". الرابع: الأكابر, والمراد بهم المشايخ, وحفظهم بثلاثة أمور: الأول: اتباع ما رسموه, وإن لم يفهم معناه, فقد قالوا: "خطأ الشيخ أحسن من صواب المريد" فإن بان غيه توقف من غير اعتراض حتى يظهر أمره. الثاني: عدم البحث عما جاؤوا به إلا من حيث التفهم, فإن من قال لأستاذه: لِمَ لا يفلح أبدا. الثالث: موالاة من والاهم ومعاداة من عاداهم, ما لم يكن له مانع شرعي, أو يجره إلى منكر. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: آداب الفقير المتجرد أربعة: الحرمة للأكابر, والرحمة للأصاغر, والإنصاف من نفسه, وعدم الانتصار لها. ثم ذكر آدابهم في الكلام فقال: واجتنبوا ما يؤلم القلوب ... وابتدروا الواجب والمندوب قلت: هذا عام مع جميع المسلمين, فلا يتكلم مع مسلم بما يوجعه في قلبه, ولو كان نصحا, فقد قال تعالى: "فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى". فالوعظ إنما ينفع إذا كان على وجه الملاطفة والسياسة, ويتأكد ترك ما يؤلم مع الزوجة والأهل, وكذلك مع الأخوان, لان جبر القلوب في جبر القلوب, وكسر القلوب في كسر القلوب, فمن جبر قلب عبد بإدخال السرور عليه أو هداية إليه: جبر الله قلبه, ومن كسر قلب عبد بإدخال الحزن عليه أو تنفيره صيّن: كسر الله قلبه, ومن أراد جبر قلوب عباد الله فليغض عن مساويهم, وليسكت عن عيوبهم, ويرحم الله القائل: إذا شئت أن تحيا ودينك سالم ..... وجاهك موفور وعرضك صيّن لسانك لا تذكر به عورة امرئ ..... فعندك عورات, وللناس ألسن وإن أبصرت عيناك عيبا فقل لها ..... أيا عين لا تنظري فللناس أعين وعاشر بمعروف وجانب من اعتدى ..... وفارق, ولكن بالتي هي أحسن وقال الشيخ زروق: فهذه الأبيات جامعة لجميع ما يؤلم القلوب بطريق الاجتناب, فمن عمل عليها سلم من هذه الآفات التي أصلها كلها التجسس عن أخبار الناس, وسوء الظن بهم, وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا ينجو منها ابن آدم: الحسد, والطيرة, والنظر, فإذا حسدت فلا تبغ, وإذا ظننت فلا تحقق, وإذا تطيرت فأمض". ومن خلقه عليه الصلاة والسلام أنه: "كان لا يواجه أحدا بما يكره, إلا أن تنتهك حرمات الله". ثم ذكر آدابهم في العمل فقال: واجتنبوا ما يؤلم القلوب ..... وابتدروا الواجب والمندوب
قلت: أشار بذلك إلى كمال عبوديتهم, وأنهم يتبادرون إلى حقوق مولاهم: واجبة كانت أو مندوبة, امتثالا لقوله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض" على اختلاف قصدهم. فمنهم من يقصد الثواب والنجاة من العقاب عاجلا وآجلا, وهم العوام منهم. ومنهم من يقصد: تحقيق العبودية والقيام بوظائف الربوبية, وهم الخواص, أو خواص الخواص, والله تعالى أعلم. ثم ذكر آدابهم مع الأشياخ والإخوان, فقال: وخدموا الشيوخ والإخوانا ..... وبذلوا النفوس والأبدانا قلت: خدمة الشيوخ قربة عظيمة ومنقبة جسيمة, وهي سبب الفوز بالوصول إلى معرفة الحق تعالى, ونيل درجات المقربين السابقين. وفي ذلك يقول سيدي عبد الوارث رضي الله عنه: خدمة الرجال سبب الوصال إلى مولى الموالي. وقال سيدي عبد الله الهبطي رضي الله عنه: إن كان الخديم ظنه جميل ..... دل على فلاحه دليل أهل نفسه لخدمة الرجال ..... لكي ينال من حبيبه الوصال غيره ذل المحب في طلب القرب ..... عن عزيز عند أهل الحب وقال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: الصحبة مع الأستاذ باتباع أمره ونهيه, وهي في الحقيقة خدمة لا صحبة. قيل لأبى منصور المغربي: كم صحبت أبا عثمان؟ فقال: خدمته وما صحبته, يعني أن صحبة الصغير للكبير تسمى خدمة, لا صحبة. ثم قال: والقيام بخدمة أستاذه واجب, والصبر تحت حكمه, وترك مخالفته, ظاهرا وباطنا, وقبول قوله والرجوع إليه في جميع ما يعرض له, والتبرك به واستماع كلامه, وتعظيم حرمته, ومجانبة الإنكار عليه في شيء من أموره, سرا وجهرا, قال الله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" الآية. سأل بعض أصحاب الجنيد الجنيد عن مسألة فأجابه, فعارضه في ذلك, فقال الجنيد: فإن لم تؤمنوا فاعتزلوا. ويكون في صحبته كالصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم, تأديبهم بآداب القرآن في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" وقوله تعالى: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض" الآية, وقوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" وما أشبه ذلك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشيخ في قومه كالنبي في أمته". قلت: والحديث قال ابن الجوزي: "إنه موضوع" والله تعالى أعلم. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: خدمة الشيوخ أمر زائد على تعظيمهم. وأما خدمة الأخوان, فهي إعانة على ما يعرض له من أمور دينية أو دنياوية بنفسه أو بماله أو بجاهه أو بما يقدر عليه. قال السلمي رضي الله عنه: رأيت جدي إسماعيل في النوم يقول لي: ألست تعلم شيئا من العلوم؟ فقلت: ربما أعلم شيئا, فقال: أليس سئلت أمس عن الاعتقاد في خدمة الفقراء؟ فقلت: نعم, فقال: كتبت ما كتبت ولست بمحتاج إليه, إنما هي ثلاث كلمات, وهي: أن تخدم من فوقك بالحرمة, وأقرانك بالنصيحة, ومن دونك بالشفقة, وانتبهت. وقال في آداب صحبتهم ما نصه: والصحبة مع الأقران بالبشر والانبساط والموافقة وبذل المعروف والإحسان, والكون معهم على حكم الوقت. حكي أن العباس ابن عطاء مد رجليه بين يدي أصحابه, وقال: ترك الأدب مع أهل الأدب أدب. وقال الجنيد رضي الله عنه: إذا صحت المودة سقطت شروط الأدب. روي عنه صلى الله عليه وسلم انه كان عنده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, فدخل عثمان فغطى ركبتيه, وقال: "ألا أستحيي ممن تستحي منه الملائكة" فحشمه عثمان وإن عظمت فالحالة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبينهما: يعني أبا بكر وعمر, أصفى, ثم قال: ولا يداهنهم فيما يخالف المذهب. وقد قال رويم: ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا, فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم, ويخضع عند الحق لقائله بالقبول. روي أن عمر رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كان من دار العباس بن عبد المطلب إلى الطريق بين الصفا والمروة, فقال له العباس: قلعت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بيده؟ فقال: إذن لا يرده إلى مكانه غيرك, ولا يكون السلم غير عاتق عمر, فقام على عاتقه, فرده إلى موضعه, رضي الله عنهما, انتهى. وقوله: "وبذلوا النفوس" الخ, والبذل هو الخدمة والمهنة, يقال: ثوب مبتذل, أي مهان بالخدمة, يعني أنهم بذلوا نفوسهم وأهانوها في خدمة الشيوخ والإخوان, فنالوا غاية العرفان, وحازوا أقصى مقام الإحسان, نفعنا الله بهم وخرطنا في سلكهم, آمين, ثم ذكر آدابهم في العلم, فقال: وأنصتوا عند المذاكرات ..... واحترموا الماضي معا والآت وسألوا الشيوخ عما جهلوا ..... ووقفوا من دون ما لم يصلوا وعملوا بكل ما قد علموا ..... وآثروا واغتفروا واحتشموا قلت: أما الإنصات عند المذاكرة فلأنه يدل على كمال العقل والرزانة, فقد قالوا: من كمل عقله قل كلامه, ومن قل عقله كثر كلامه, وأيضا الكلام إنما يفهم بتمامه, فإذا تم الكلام تكلم بما عنده من غير ملاججة ولا خصام, ولا ينبغي السكوت بالكلية إذ لا يعرف الشيخ حاله ولا مقامه إلا بكلامه. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: تعلم المذاكرة كتعلم الرماية, فلا بد أن يرموا الإشارة, فتارة أمامها وتارة قدامها, حتى يصادفها, أو كلام هذا معناه. وأما احترام الماضي فالمراد من تقدم من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين والعلماء العاملين, واحترامهم ألا يذكروا إلا بالإحسان وأن يلتمس لهم أحسن المذاهب. ويرحم الله النووي لما سئل عن ابن العربي الحاتمي: فقال: "الكلام كلام صوفي" "تلك أمة قد خلت, لها ما كسبت ولكم ما كسبتم, ولا تسألون عما كانوا يعملون". ومن احترامهم الاستغفار والترضي عنهم, قال تعالى: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان". وأما احترام الآتي, فمعناه إلا يقطع المادة ويحجر القدرة, فيقول: انقطعت الأولياء ولم يبق أحد, وانقطعت التربية ولم يبق من يصلح لها, أو كان الناس وليس هذا زمانهم أو نحو ذلك من سوء الظن بالله وبعباده. وأما "سؤال الشيوخ عما جهلوا, "فلأن طلب العلم واجب على كل مسلم" وهو معلوم من الدين بالضرورة, ووقع الإجماع على أنه لا يحل لامرئ أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه, وإنما يسئلون عما يحتاجون إليه في الحال من عمل أو حال أو مقام دون ما يتعلق بالمستقبل من المقامات, وهو معنى قوله: "ووقفوا من دون ما لم يصلوا" يعني دون الذي لم يدركوه بالمنازلة والذوق, فلا يسئلون عنه, لأنه لا تدركه عقولهم, وإن أدركته اتصلت به على غير وجه التحقق, فكان ضرره أكثر من نفعه. وأما عملهم بكل ما علموا, فلأن العمل نتيجة العلم, فعلم بلا عمل وسيلة بلا غاية, وعمل بلا علم جناية. وفي الحديث: "مثل العالم الذي لا يعمل, كالشمعة: تحرق نفسها وتضيء على غيرها". ولأن "العلم يهتف بالعمل فان وجده وإلا ارتحل" و "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم". فالعلم إذا أيد بالعمل نهض, ثم أنتج نورا تاما, ينتج ذلك النور حكمه, فيكون كل شيء من صاحبه علما وحكمة. وقوله: "وآثروا" يعني أنهم آثروا على أنفسهم في الكلام, فيقدمون أكبرهم علما أو سنا, ويؤثرون أيضا على أنفسهم في صدور المجالس والمحافل, وكل ما فيه تعظيم. وقوله: "اغتفروا" أي سامحوا وعفوا عن جفوة الإخوان الذين لم يتهذبوا, وصبروا على غلظتهم في المذاكرة وغيرها. وقوله: "واحتشموا" أي: تركوا المنازعة والمخاصمة والملاججة بالغضب, لأن ذلك يؤدي إلى الشرور والعداوة والحقد, فتخرج المذاكرة حينئذ إلى المجادلة والمراء. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة, ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في أسفل الجنة". ثم ذكر آدابهم في المعاشرة فقال: واحتكموا بالعدل والإنصاف ..... فوردوا كل معين صاف قلت: أشار رحمه الله إلى أن الفقراء لا يداهن بعضهم بعضا في الحق, ولا ينافق بعضهم بعضا, بل يأتمرون بينهم بالمعروف ويتناهون عن المنكر, فيحكمون بالعدل على بعضهم بعضا, وعلى أنفسهم, ومن توجه عليه حق من الحقوق أنصف وأذعن وانقاد للحق, ولا يتعصب ولا يتحامى حمية الجاهلية, وحقيقة العدل هو: تنفيذ الحق من غير زيادة عليه ولا نقصان منه, والإنصاف هو الاعتراف به من غير توقف, ويقال الإنصاف من شيم الأشراف. وقال أبو العباس بن العريف رحمه الله: لا بد لطالب العلم الحقيقي من معرفة الإنصاف ولزومه بالأوصاف. قلت: ولا بد أيضا للعالم من التحقق بالإنصاف ليرجع للحق أينما ظهر. وقد قالوا: "إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله". وكان الشيخ عبد العزيز المهدي رحمه الله: إذا سئل عن شيء لا يدريه يقول: لا أدري, وإذا سئل عن شيء يدريه يقول: أحب أن أسمعه من غيري. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: ومن عجيب ما سمع في ذلك أن ابن الحاج حكى في مدخله: أنه لما طلب شيخه ابن أبى جمرة رضي الله عنه في أن يقرأ عليه, قال له: وتترك القضاة والأكابر الذين كنت تقرأ عليهم وتقرأ علي؟ فقال: عزمت, قال: استخر الله, قال: استخرت ثم جئت من الغد, فقال: عزمت, قلت: نعم, قال: لا يخطر على بالك أنك جلست بين يدي عالم ولا إلى عالم وأنت متعلم, ولكنا قوم اجتمعنا لطلب أحكام الله, فإن وجدنا الحق على لسان الصبي من صبيان المكتب اتبعناه. قلت: فهذا الأمر الذي كان عليه سلف هذه الأمة, وإلا لما صحح مخالفة متأخرهم لمتقدمهم, والله أعلم. ثم المنصف هو: الذي لا يبالي كان شيخا أو تلميذا أو عالما أو معلما, ظهر الحق على لسانه أو لسان غيره, لأن مقصوده دون ما سواه, وقليل ما هم. قوله: "فوردوا كل معين صافي" الورود, هو : الشرب, والمعين هو: الماء الجاري, والصافي: لا تغيير فيه, يعني أن الصوفية لما حكموا بالعدل, واتصفوا بالإنصاف شربوا من العلوم أعذبها وأصفاها, لأن القلوب إذا صفت وتزكت وتطهرت من الدعوى والمكابرة أشرقت فيها أنوار العلوم, ولاحت فيها أسرار الفهوم, فأخذت من العلوم أصفاها, ومن الأنوار أبهاها, ومن الأسرار أسناها وأوفاها, فمن صفى صفى له, ومن كدر كدر عليه, فالعلم المكدر هو علم التقليد, أو علم الدليل, والعلم الصافي هو علم الأذواق, أو علم الشهود. وفي هذا المعنى قال القطب بن مشيش رضي الله عنه: "وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة" والله تعالى أعلم. ثم ذكر شروط الأخوة وآدابها فقال: وبعضهم كان لبعض عونا ..... يلقى لديه دعة وأمنا ينصره في الحق حيث كانا ..... فإن أساء قارضه إحسانا قلت: أشار رحمه الله إلى أن الصوفية رضي الله عنهم "أعني الفقراء" كانوا يتعاونون على البر والتقوى, لأن ذلك لمقصد جمعهم, فيعين أخاه بنفسه وماله وجاهه وعلمه وعمله وهمته وحاله ومناصحته وموداته ومصادقاته إلى غير ذلك, وما كان اجتماعهم إلا ليتعاونوا على ذكر الله وسائر أبواب الخير. قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى" وبذلك التعاون يصير كل واحد منهم في راحة وأمن من حاجته, وهذا معنى قوله: "يلقى لديه دعة وأمنا" أي يلقى عنده راحة فيما يعانيه عند توجه أخيه لذلك الأمر, أو عندما يعينه عليه, وأمنا من فوات مقاصده بسببه, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "مثل الأخوين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى" وكمثل البنيان يشد بعضه بعضا, وفي معناه قيل: إن أخاك من كان معك ..... ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك ..... بدد فيك شمله ليجمعك قوله: "ينصره في الحق" الخ أشار به إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما, قالوا: يا رسول الله, فإذا ننصره مظلوما, فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ على يديه فترده عن ظلمه". وإنما كان رده عن الظلم نصرا, لأن نفسه ظالمة له, وهو مغلوب في يديها, فإذا رددته عن ظلمه فقد نصرته عليها, وإذا تركته يظلم فقد خذلته, وقد تقدم قول رويم لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا, فإذا اصطلحوا قل دينهم. وقوله: "فإن أساء قارضه إحسانا" القرض هو السلف, أطلقه هنا على مطلق العطاء, أي فإن أساء فقير إلى أخيه في قول أو فعل سامحه, وبذل له إحسانا وعفوا, وامتثالا لقوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ومن يقتدى به "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم, وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم". أي ادفع السيئة بالتي هي أحسن, وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام في تفسير قوله تعالى خذ العفو الآية إن الله أمرني أن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني. قلت: وقد رأيت للغزالي كلاما حسنا في آداب الأخوة وشروطها ذكره في الإحياء, فرأيت أن أذكره على وجه الاختصار لما فيه من الفوائد الغزار, قال رضي الله عنه: "اعلم أن عقد الأخوان رابطة بين الشخصين, كعقد النكاح بين الزوجين, وكما يقتضى النكاح حقوقا يجب الوفاء بها, فكذلك عقد الأخوة, فلأخيك عليك حق في المال وفي النفس وفي اللسان وفي القلب, وبالعفو وبالدعاء. ثم قال: وذلك يجمعه ثمانية حقوق: الحق الأول: في المال بالمواساة, وذلك على ثلاث مراتب أدناها أن تنزله منزلة عبدك وخادمك, فتقوم بحاجته بفضلة مالك, فإذا سنحت له حاجة وعندك فضلة أعطيته ابتداء, فإن أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك, وترضى بمشاركته إياك في مالك, فتسمح له في مشارطته. الثالثة وهي العليا: أن تؤثره على نفسك, وتقدم حاجته على حاجتك, وهي رتبة الصديقين ومنتهى درجة المتحابين. ومنها: الإيثار بالنفس أيضا كما روى أنه سعى بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء, وهو المتوكل, فأمر بضرب رقابهم, وفيهم أبو الحسن النوري, فبادر إلى السياف ليكون أول مقتول, فقيل له في ذلك: فقال: أحببت أن أوثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة, فكان ذلك سبب نجاة جميعهم في حكاية طويلة. الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات, والقيام بها قبل السؤال, وتقديمها على الحاجة الخاصة, وهذه أيضا لها درجات كالمواساة, فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال, ولكن مع البشاشة والاستبشار, وإظهار الفرح, وأوسطها أن تجعل حاجته كحاجتك, فتكون متفقدا لحاجته, غير غافل عن أحواله, كما لا تغفل عن أحوال نفسك, وتغنيه عن السؤال, وأعلاها أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك, وتؤثره على نفسك وأقربائك وأولادك. كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا, لأن أهلينا يذكروننا الدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة. الحق الثالث: على الإنسان بالسكوت, فيسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله, وإذا رآه في طريقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته, فربما يثقل عليه أو يحتاج إلى أن يكذب ويسكت عن أسراره, التي بثها إليه, فلا يبثها إلى غيره, ولا إلى أخص أصدقائه, ولا يكشف شيئا منها, ولو بعد القطيعة, ويسكت عن مماراته ومدافعته في كلامه. الحق الرابع: على اللسان بالنطق, فيتودد إليه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يجب أن يتفقده فيها, كالسؤال عن عارض عرض له, وأظهر شغل القلب بسببه, فينبغي أن يظهر بلسانه كراهتها, والأحوال التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته في السرور بها, فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء, ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه, ويثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله عند من يريد هو الثناء عنده, وكذا على أولاده وأهله حتى على عقله وخلقه وهيئته وخطه وشعره وتصنيفه, وجميع ما يفرح به من غير كذب, ولا إفراط, ويبلغه ثناء من أثنى عليه, مع إظهار الفرح به, ويذب عنه في غيبته, مهما قصد بسوء أو تعرض بعرضه, بكلام صريح أو تعريض, وتعلمه مما علمك الله, وتنصحه. الحق الخامس: العفو عن الزلات والهفوات, فإن كانت زلته في الدين بارتكاب معصية فليتلطف في نصحه, فان بقي مصرا فقد اختلف الصحابة في ذلك, فذهب أبو ذر إلى مقاطعته, وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته, وذهب أبو الدرداء وجماعة إلى خلاف ذلك, وقال أبو الدرداء: إذا تغير أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك, فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى, وهذه ألطف وأفقه, وذلك لما في هذه الطريق من الرفق والاستمالة والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة, وأيضا للأخوة عقد ينزل منزلة القرابة, فإذا انعقدت وجب الوفاء بها, ومن الوفاء ألا يهمله أيام حاجته وفقره, وفقر الدين أشد من فقر المال. ثم قال: والفاجر إذا صحب تقيا وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب, ويستحي من الإصرار, بل الكسلان يصحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه, وإن كانت زلته في حقك, فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب. الحق السادس: الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يحب لنفسه وأهله. الحق السابع: الوفاء والإخلاص, ومعنى الوفاء: الثبات على الحب, وأدامته إلى الممات معه, وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه. الحق الثامن: التخفيف, وترك التكليف والتكلف, فلا تكلف أخاك ما يشق عليه, بل تروح سره عن مهماتك وحاجاتك, وترفهه عن أن تحمله شيئا من أعبائك, ولا تستمد من منه مال وجاه, ولا تكلفه التواضع لك والتفقد والقيام بحقوقك, بل ما تقصد بمحبته إلا الله تعالى. انتهى المراد منه ببعض اختصار. ثم ذكر بعض ما يجتنب فعله فقال: وليس حط الرأس من آدابه ..... بل الصواب كان في اجتنابه بل هو مبني على القصاص ..... لمن أراد حسبه الخلاص وليس في قيام الاستغفار ..... أصل صحيح واصطلاح جار قلت: أما حط الرأس, فهو أن الفقير إذا أساء الأدب مع أحد من الفقراء أو غيرهم يأتي إليه ويحط رأسه بين يديه, ليؤدبه أو يقتص منه, أو يسمح له, وهذا أمر لم يرد في الشريعة, ولا جرى به عمل في الطريقة, فالصواب اجتنابه, لأن ذلك كان عند من قال مبنيا على القصاص ليتخلص المجني عليه من الجاني, فهو من باب التمكين من القصاص, وهو يتأتى بغير حط الرأس, فلا حاجة إلى ابتداع هذا الحط, وقد مكن عليه الصلاة والسلام عكاشة من القصاص, ولم يكن فيه شيء زائد على التمكين من القصاص لمن أراد أن يحتسب لله بخلاص نفسه في الدنيا قبل الآخرة.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:14 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وأما قيام الاستغفار, فهو أن الفقير إذا أساء في حق الفقراء أو غيرهم, وأرادته التوبة والاستغفار قام على رؤوس الفقراء معترفا بذنبه ومظهرا للاستغفار, ومعتذرا مما صنع, وهذه الحالة لم يجهر بها عمل فقراء المغرب, ولا مستند لها من السنة, فتركها أولى, إلا لضرورة, وهذا خلاف ما ذكره أبو مدين بقوله: وحط رأسك واستغفر بلا سبب ..... وقم على قدم الإنصاف معتذرا فلعله لم يصحبه عمل بعده, وأراد به المبالغة في الاعتذار, والله تعالى أعلم. ثم أجمل ما بقي من الآداب بقوله: والقصد من هذا الطريق الأدب ..... في كل حال منه: هذا المذهب قلت: أشار رحمه الله إلى أن الطريق مبنية على الآداب, فمن لا أدب له لا طريق له, ومن أساء الأدب مع الأحباب طرد إلى الباب, ومن أساء الأدب في الباب, طرد إلى سياسة الدواب. وقال بعضهم: اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا, وقد تقدم قول أبي حفص: التصوف كله آداب إلخ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: أربعة آداب إذا خلا الفقير المتسبب منها فلا تعبأن به وإن كان أعلم البرية: مجانبة الظلمة, وإيثار أهل الآخرة, ومواساة ذوي الفاقة, ومواظبة الخمس في الجماعة. وأربعة آداب إذا خلا الفقير المتجرد منها. فاجعلوه والتراب سواء: الرحمة للأصاغر والحرمة للأكابر, والإنصاف من نفسه, وترك الانتصار لها. وقال محي الدين بن العربي رضي الله عنه: أربعة من حازها فقد حاز الخير كله: تعظيم حرمات المسلمين, وخدمة الفقراء, والإنصاف من نفسه, وترك الانتصار لها. وباب الأدب باب كبير قد استوفى جله السلمي والغزالي في الإحياء, وبداية الهداية, ومداره على ما تقدم. والضمير في "منه" يعود على الطريق, أي: والقصد من هذا الطريق الأدب في كل حال من أحواله, هذا هو مذهبهم الذي تمسكوا به فوصلوا, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم ذكر الحكم السادس فقال: السادس في حكم السماع, قلت: السماع هو استماع الأشعار بالنغم والموسيقى, وتكلم هنا على حكمه وأحكامه وآدابه وفوائده, وبدأ بالحكم فقال:
6 - في حكم السماع وللأنام في السماع خوض ..... لكن لهذا الحزب فيه روض قال العراقيون بالتحريم ..... قال الحجازيون بالتسليم قلت: الخوض في الأصل هو الدخول في الماء, ولما كان الغالب على الماء التغير بالخوض فيه, صار يطلق على الدخول في الأمور المشكلة الملتبسة لكثرة الخوض فيها, والروض معلوم, يجمع على رياض, وهو مكان النزهة والفرجة. يقول رحمه الله: للناس في السماع خوض كبير في منعه وجوازه, لكن لهذا الحزب "وهي جماعة الصوفية" التي هي حزب الله نزهة وخمرة يجدونها في قلوبهم وأسرارهم, ولذلك لما سئل الجنيد عن السماع قال: كل ما يجمع القلب بالله فهو جائز, أو ما هذا معناه. ثم ذكر الخلاف, فأخبر بأن العراقيين قالوا بالتحريم, والمراد بهم الحنفية ومن تبعهم, وأهل الحجاز قالوا بالتسليم أي الإباحة أو الوقف, والمراد بهم مالك والشافعي ومن تبعهم فقد روى أبو معصب أن مالكا سئل عن السماع فقال: لم يبلغني فيه شيء إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرونه, ولا يقعدون عنه, ولا ينكره إلا غبي جاهل, أو ناسك عراقي غليظ الطبع. قلت: لا يشك عاقل أن الأصل في السماع هو الجواز, بدليل قضية الجواري اللاتي كن يغنين ويضربن بالدف يوم العيد, والرسول عليه الصلاة والسلام حاضر, وهي البخاري وغيره. وقال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت عندي جارية تسمعني فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على حالها, ثم دخل عمر ففرت, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ما يضحكك يا رسول الله, فحدثه فقال: لا أخرج حتى أسمع مما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرها فأسمعته. قلت: وذكره التجيبي أيضا بهذا اللفظ, ثم قال السلمي: وسئل ذو النون عن السماع, فقال: وارد حق يزعج القلوب إلى الحق. فمن أصغى إليه بحق تحقق, ومن أصغى إليه بنفس تزندق. قال السري: تطرب قلوب المحبين إلى السماع وتخاف قلوب التائبين, وتكتاب قلوب المشتاقين. وقيل: مثل السماع مثل الغيث إذا وقع على الأرض المجدبة فتصبح مخضرة, كذلك القلوب الزكية تظهر مكنون فوائدها عند السماع, وقيل يحرك ما ينطوي عليه القلب من السرور والحزن, والرجا والشوق, فربما يخرجه إلى البكاء, وربما يخرجه إلى الطرب. وقيل: السماع فيه حظ لكل عضو, فربما يبكي وربما يصرخ, وربما يصعق وربما يرقص, وربما يغمى عليه. وقيل: أهل السماع ثلاثة: تائب, وصادق, ومستقيم. وقيل: المستمعون ثلاثة: مستمع بربه, ومستمع بقلبه, ومستمع بنفسه. وقيل: يحتاج المستمع إلى ثلاثة: دقة, ورقة, وحرقة مع فناء الطبع ودخول الحقائق, ولا يصح السماع إلا لمن فنيت حظوظه, وبقيت حقوقه وخمدت بشريته, ثم قال: فكذلك السماع يؤثر على مقدار صفاء الباطن وقوة الوارد. قال بعض المشايخ: لا يصح السماع إلا لمن كان قلبه حيا ونفسه ميتة, فأما من كان نفسه حية وقلبه ميتا, فلا. حكى عن بعض الأبدال أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تقول في السماع الذي عليه أصحابنا, فقال: هو الصفاء الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء, انتهى المراد منه. وقد أشبع الكلام فيه ابن ليون التجيبي في الإنالة, قال فيها: فاستماع الشعر لا ينكره إلا جاهل بالسنة, ثم قال: وقال صالح بن أحمد بن حنبل: إنه رأى أباه يستمع من جاره غناء كان في بعض ديار جيرانه, ثم قال: وعن أنس كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل عليه جبريل فقال: يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام, وهو نصف يوم, ففرح فقال: أفيكم من ينشدنا, فقال بدري: نعم يا رسول الله, فقال: هات, فأنشد البدري يقول: قد لسعت حية الهوى كبدي ..... فلا طبيب لها ولا راق إلا الحبيب الذي قد شغفت به ..... فعنده رقيتي وترياقي فتواجد عليه السلام وتواجد أصحابه معه, حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فلما فرغوا أوى كل واحد إلى مكانه فقال معاوية ما أحسن لعبكم يا رسول الله, فقال: مه مه يا معاوية ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب, ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة, وذكره المقدسي والسهروردي, وتكلم الناس في هذا الحديث. قلت: والتحقيق في السماع هو التفصيل فأما أهل الحقائق فلا شك في جوازه لهم. أو استحبابه على ما يأتي, ومستندهم ما تقدم, وأما أهل الشرائع فإن خلا المكان من النساء أو الشبان فهو حرام سدا للذريعة, والله تعالى أعلم. وإلى هذا التفصيل أشار بقوله فقال: وإن للشيوخ فيه فنّا ..... إذ جعلوه للطريق ركنا وإنما أبيح للزهاد ..... وندبه إلى الشيوخ باد وهو على العوام كالحرام ..... عند الشيوخ الجلة الأعلام قلت: أشار رحمه الله إلى أن السماع فيه للشيوخ العارفين فنون, وزيادات ومواجيد, وأحوال وواردات, فلذلك جعلوه ركنا يأوون إليه, ولا يعتمدون عليه, لأنه رخصة الضعفاء منهم, كما يأتي, وأما الأقوياء فلا يحتاجون إليه, وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن السماع: أمباح هو؟ فقال: كل ما يجمع العبد على ربه فهو مباح, وقد تقدم, والتحرير: هو التفصيل, كما ذكره الناظم, فقسم مباح, وقسم مندوب, وقسم حرام, فهو للزهاد مباح, لأن نفوسهم ماتت عن الشهوات والمستلذات, فلا ضرر لهم فيه حتى يحرم, ولا نفع لهم فيه حتى يندب, إذ لم يبلغوا رتبة التحقيق والذوق, وللشيوخ العارفين مندوب, لأنه يثير فيهم الوجد والوارد حتى ينشر ذلك في عوالم الأجساد, وتتسع ميادين الحضرة, فيكون للحضار منها نصيب, لأن من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها, وكل ما أفضى إلى الكمال فهو كامل, وعلى العوام حرام, أو كالحرام, لأنه ينشر فيهم الشهوات والمعاصي, ويحرك عليهم الطباع الرديئة والعوائد الدنيئة, فإذا انتفت هذه العلل كان مباحا, إلا أن حضره أهل الفساد, فيمنع مطلقا سدا للذرائع, وإنما حرم على العوام لأن الغنا مرقاة الزنا, وأنه ينبت النفاق في القلب. وقالوا أيضا: السماع راح, تشربه الأرواح, بكؤوس الآدان, على مغاني الألحان, ولكل امرئ ما نوى "ماء زمزم لما شرب له" وهذا وما سمع له. وقالوا أيضا: من سمع بتزندق تزندق, ومن سمع بتحقق تحقق, وإذا ذكر الهوى فلكل امرئ ما نوى. وكان بعضهم يقول: أنتم غنوا كما تحبون, ونحن نسمع كما نحب, وبالله التوفيق. ثم ذكر نتائجه السنية والدنية فقال: وفيه كان ميلق الأحوال ..... كيما يبين سافل وعال قلت: الميلق في اللغة هو, السرعة, وفرس ميلق, أي: سريع "قاله في القاموس" يعني: أن السماع سرعة ظهور الأحوال الزكية أو الدنية, فمن كان قلبه مع ربه حركه سريعا إلى حضرة قدسه, ومن كان قلبه مع حظه وهواه حركة إلى حظوظه ومناه, لأجل ذلك يظهر من سقط في أسفل سافلين, ومن ارتفع في أعلى عليين. ثم أشار إلى نتيجة أخرى فقال: وهو صراط عندهم محدود ..... يعبره الواجد والفقيد قلت: السماع عند الصوفية طريق محدود, أي معلوم بحدوده, أي معلوم بحدوده ورسومه, "يعبره": أي يسلكه الواجد لحاله, وهو الذي حجب بالجمع عن الفرق, أو الذي لم يحجبه جمعه عن فرقه ولا فرقه عن جمعه, ويسلكه أيضا الفاقد لحاله, وهو الذي حجب بالفرق عن الجمع, فيظهر على كل واحد ما كن في سره, فالواجد يزيده في حضرة الحق عشقا ووجدا, والفاقد يزيده عن ربه طردا وبعدا, فكل إناء بالذي فيه يرشح. قال الجنيد رضي الله عنه: كل مريد رأيته يميل إلى السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة. وقال أيضا: السماع صراط محدود, عليه يعبر صاحب يقين وجود, وصاحب شك وجحود إما أن يرفع سالكه إلى أعلى عليين, أو يكبكبه في أسفل السافلين "فكبكبوا فيها هم والغاوون". "ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون". والى هذا أشار الناظم بقوله: فعابر يحله عليين ..... وآخر يحطه في سجين قلت: فالعابر الذي يحله في عليين هو: من تحقق بالوحدة, وفهم الإشارة, وذاق حلاوة الخمرة, فلا يزال يسمع بالله, ومن الله حتى يغيب عن حسه, ويغرق في حضرة قدسه, فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين, والآخر الذي يحطه في سجين هو الذي يسمع بنفسه, ويتذكر حظوظه وهواه الذي كان مشغولا به سره ونجواه, فلا يزال يزعجه الشيطان حتى يلقيه في بحر الردى والهوان, فينهض في طلب المعاصي والطغيان فأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الرحمن أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون, فيكتب مع الفجار "كلا إن كتب الفجار لفي سجين" نسأل لله العصمة بمنه آمين. ثم ذكر نتيجة أخرى فقال: وهو سرور ساعة يزول ..... نعم, وسم ساعة قتول قلت السماع إنما هو فرح ساعة, ثم يذهب, فمن كان فرحه بالله اجتنى ثمرته وجناه, وفاز بمعرفة ربه ورضاه, ومن كان فرحه بهواه فقد باء بغضب من الله, وهو أيضا سم قاتل لمن حركه إلى الهوى والباطل. قال السلمي رحمه الله: بلغني أن أبا عمرو بن نجيد قال لأبي القاسم النصراباذي: بلغني أنك مولع بالسماع؟ قال: نعم هو خير من أن نقعد فنغتاب, فقال: هيهات يا أبا القاسم زلة في السماع شر من كذا وكذا سنة تغتاب. قلت: ولعله من جهة الاقتداء به, والله تعالى أعلم. ثم ذكر نتيجة أخرى من نتائج السماع, فقال: وهو قياس العقل نقاش القلوب ..... إذ ينزل الحال به ثم يؤوب قلت: السماع معيار العقول في الخير والشر, فيعرف به الكامل في الخير من الناقص فيه والكامل في الشر من المتوسط فيه. أما الكامل في الخير فهو المتمكن في المعرفة الراسخ فيها, فهذا كالجبل لا يحركه سماع ولا تهزه ريح: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب". قيل للجنيد: مالك كنت تتحرك في السماع, والآن لا يظهر عليك شيء؟ فقرأ الآية وترى الجبال إلى آخرها. وأما الناقص في الخير فهو السائر, فهذا إذا سمع تحرك وتواجد, ورقص وشطح, فهذا مغلوب للحال, لكنه في أثر الرجال, فمن دام سيره ظهر خيره, ووصل إلى ما وصل إليه غيره. وأما الكامل في الشر, فهو المنهمك في الغفلة, إذا سمع هاج شره, وغلبته نفسه, وبطشت في الحين إلى ما تقدر عليه من الفساد. وأما المتوسط في الشر, فتحركه نفسه, ويغلبها في الوقت, فإذا قامت جمحت إلى طلب ما تحركت إليه, إلا أن يعصمه الله بحفظه. وهو أيضا "أي السماع" نقاش القلوب, فيخرج ما فيها من خير وشر, كمن ينقش على الماء فيخرجه, إن كان صافيا شرب, وإن كان متغيرا طرح. وقوله: "إذ ينزل الحال به ثم يؤوب", هو تصوير النقش المذكور, لأن السماع ينقش عن ما فيه من الحال, إما رباني, أو شيطاني, أو نفساني, والجميع يزول ويذهب, فان كان ربانيا بقي أثره من الخشوع والطمأنينة والتواضع والزهد وحسن الخلق, وإن كان شيطانيا أو نفسانيا لم يبق بعده إلا القسوة والغلظة والحرص والطمع وغير ذلك من الأخلاق المذمومة. وفي الحكم لابن عطاء الله: "لا تزكين واردا لا تعرف ثمرته, فليس المراد من السحابة الإمطار, وإنما المراد منها وجود الإثمار" وهذا مراد من قال: من لم يؤثر فيه السماع زيادة ما عنده فهو نقص في حقه, لأن الواردات لا تراد لذاتها, وإنما تراد لثمراتها, والله تعالى أعلم. ثم شبه الحال الرباني بالمطر النازل في أصول الشجر كما تقدم في الحكم, فقال: وآثاره في عرصات القلب ..... كالوبل في الغصن القويم الرطب قلت: العرصات: جمع عرصه, هو المكان الواسع الذي تغرس فيه الأشجار, كنى به هنا عن سعة القلوب الفارغة من الشواغل والشواغب, وأراد أن السماع يترك آثاره في قلوب العارفين المطهرة من دنس الهوى, الفارغة من حب السوى, كما يترك المطر الغزير آثاره في الغصن القويم الرطب, وهو الزهر أولا, والعقد ثانيا, والثمار ثالثا, فليس المراد من المطر نزوله, وإنما المراد ما ينشأ عنه من الثمار, والله تعالى أعلم. ثم ذكر آدابه في الجملة, فقال: ولا يجوز عنده التكلم ..... ولا التلاهي, لا, ولا التبسم قلت: إنما لا يجوز التكلم عنده, لأنه عند العارفين محل الوجد والخمرة والكلام يشوش القلب ويبعده من الحضرة, ويتلف عن الحقيقة, فالواجب تركه لمن أراد جبر قلبه, وعند غير العارفين رخصة, لأنه قريب من رتبة الباطل, فأقل شيء يرده إليه. قال السلمي رضي الله عنه: والسكون مع حضور القلب وجمع الهم, والوقوف على أقوال المنشدين أولى من المداخلة, لأنه محل الاستكانة والتمكين, والهدوء والإنصات من آداب المستمعين, قال الله تعالى: "فلما حضروه قالوا أنصتوا" الآية, وقال: "وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا". وأما التلاهي عنه, فانه يقتضي أنه لا ارب له فيه من جهة قلبه, وإنما مراده راحة نفسه, والفرجة والتلاهي يكون بالالتفات عنه بقلبه أو بدنه, شغلا بغيره. وأما التبسم فيه, فإن فيه إساءة الأدب, فإن غلبه خرج, وإلا أُخرج وزجر. قال السلمي رحمه الله: ولا يحضر مجلس السماع من يبتسم أو يتلاهى. يحكى عن الشيخ أبي عبد الله بن خفيف أنه قال: حضرت مع شيخي أحمد بن يحيى السماع ببشران "اسم موضع" فاتفق فيها سماع أمم بموضع, فطاب وقت الشيخ وتواجد ودار, وكان في ضفة بحذائنا قوم من أبناء الدنيا, فتبسم واحد منهم. فأخذ الشيخ منارة كبيرة كانت هناك فرماه بها, فأصابت الجدار فانغرست أرجلها الثلاث في الحائط, وكان قد صلى ثلاثين سنة الصبح بوضوء العشاء. ثم نهى عن حضور الأحداث فقال: ويمنع الأحداث من حضوره ..... وإن يكن ذاك فمن ظهوره قلت: مما يتأكد في مجلس السماع منع الأحداث من حضوره, إما حدث السن وإما حدث الدين, أو العاقل, وقد تقدم تفسيرهم. أما حدث السن فلما تحرك مشاهدتهم من الفتنة, لا سيما مع دواعي ذلك من الشعر والأوزان. والترنم بالأصوات الحسان, والنفس لها في هذا الميدان مجال عظيم ومكر كبير. وأما حديث الدين أو العقل, فان حضور غير الجنس يمنع من المدد, وذلك مجرب في الذكر والمذاكرة, والسماع عند الصوفية ذكر قلبي, فإن ألجأت الضرورة إلى حضورهم فليكونوا صفا من خلف الناس خافضين أصواتهم, وهذا معنى قوله: وإن يكن ذاك فمن ظهوره, أي: يكن ذلك الحضور ولم يمكن التحرز منهم بوجه, فليكن حضورهم من ظهور السماع, أي من وراء ظهور المستمعين, والله تعالى أعلم. قال السلمي رحمه الله: ولا رخصة للأحداث في القيام والتحرك أصلا, وأكثر المشايخ يكرهون حضورهم مجلس السماع, ولا يرخصون لهم فيه. سمعت والدي رحمه الله يقول: دخلت بغداد زائرا لجعفر الخلدي, فوجدت أبا العباس النهاوندي عنده, وهو حدث, فكلما حضرنا دعوة فيها سماع أمر أبا العباس بالانصراف, ولم يأمره أن يقعد في مجلس السماع. ثم نهى عن الرقص والتحرك فيه لغير المغلوب فقال: والرقص فيه دون هجم الحال ..... ليس على طريقة الرجال وإن يكن يقوى على السكون ..... فانه أسلم للظنون قلت: الرقص والترقص هو الارتفاع والانخفاض, يعني أن الرقص في السماع والتحرك دون غلبة الحال, ليس هو طريق الكمال, بل الكمال هو السكون والوقار وخفض الصوت والاستماع, فإنه أسلم لسوء الظنون بمن يفعل ذلك, وإن كان صادقا إذ لا سلامة من الخلق, ثم اعلم أن الرقص وقع فيه اضطراب كبير بين الصوفية وعلماء الشريعة, والتحرير في المسألة أن نقول: "الأصل في الرقص هو الإباحة, إذ لم يرد نص عن الشارع فيه بتحريم ولا إباحة, بل ظواهر النصوص تقتضي الإباحة, وسيأتي ذكرها أن شاء الله, وأيضا الأصل في الأشياء هي الإباحة, وقيل الوقف حتى يأتي الحظر, ولم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقتضي التحريم, وإنما حرمته الأئمة لما قارنه من تعاطي أهل الفساد بجمع النساء والشبان وآلة اللهو والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما, فيتحصل في الرقص أنه على ثلاثة أقسام: قسم حرام, وقسم مباح, وقسم مطلوب. فأما القسم الذي هو حرام, فهو رقص العوام بمحضر النساء والشبان, فهذا حرام لما يؤدي إليه من الفساد, وما يهيج من الطباع الدنية والنفوس الشيطانية, ويلتحق به ما خلا من ذلك, لكن قصد به التصنع والرياء وإظهار الحال, والتظاهر بما ليس فيه حقيقة, فهو حرام أيضا لما داخله من الرياء والتلبيس. وعلى هذين القسمين يحمل كلام من أطلق التحريم, كصاحب "المعيار" و"النصيحة الكافية" وغيرهما. وأما القسم المباح, فهو الذي يفعله الصالحون وأهل النسبة من غير وجد ولا تواجد, وإنما يفعلونه راحة لنفوسهم, وتنشيطا لقلوبهم بشرط الزمان والمكان والإخوان, خاليا من حضور ما تقدم من النساء والشبان, فهذا مباح إذ لا موجب للتحريم فيه, إذ علة التحريم هو ما تقدم, وهو خال من ذلك, وأما ما يقال: انه من فعل السامرية حين عبدوا العجل فعلى تقدير صحته فإنما حرم فعلهم لفساد قصدهم, لأنهم قصدوا بذلك تعظيم العجل أو الفرح به, وهذا كفر, ولو كان رقصهم خاليا من ذلك ما حرم عليهم. وقد ثبت أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عن رقص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال رسول الله: أشبهت خلقي وخلقي, وذكره السنوسي في "نصرة الفقير" وغيره. وقال ابن ليون التجيبي ما نصه: وأما الرقص في المسجد ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"جاء جيش من الحبشة يزفون يوم عيد في المسجد, فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت كفي على منكبيه, فجعلت أنظر إلى لعبهم", قال ابن عيينة: والزفف الرقص, فثبت أن الرقص في أصله مباح, ولو كان حراما لذاته ما فعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما القسم المطلوب فهو: رقص الصوفية أهل الذوق والحال, إما وجدا أو تواجدا, وسواء كان ذلك في حضرة الذكر أو السماع, ولا شك أن دواء القلوب من الغفلة وجمعها بالله مطلوب بأي وجه أمكن, ما لم يكن بمحرم مجمع على تحريمه, فلا دواء فيه, وقد تقدم قول الجنيد لما سئل عن السماع, قال: كل ما يجمع العبد على ربه فهو مباح. وقال الفاسي في "شرح الحصن" عن شيخ الإسلام السيوطي رحمه الله ما نصه: أقول وكيف ينكر الذكر قائما, وقد قال تعالى: "والذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم". وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" وإن انضاف إلى هذا القيام رقص ونحوه فلا إنكار عليهم, وذلك من لذة الشهود والمواجيد: وقد روى في الحديث رقص جعفر بن أبي طالب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له: "أشبهت خلقي وخلقي" وذلك من لذة هذا الخطاب, ولم ينكر ذلك عليه النبي عليه الصلاة والسلام, فكان هذا أصلا في رقص الصوفية لما يذكرونه من لذة المواجيد. وقد صح القيام والرقص في مجالس الذكر والسماع عن جماعة من أكابر الأئمة منهم شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام. وهو نحو ما في "الإحياء" وزاد فيه حديث نظر عائشة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة وهم يرقصون, وقوله لها: "أتحبين أن تنظري إلى زفف الحبشة" والزفف الرقص انتهى. وذكره ابن زكري في شرح النصيحة. قلت: وقد تواتر النقل عن الصوفية قديما وحديثا شرقا وغربا أنهم كانوا يجتمعون لذكر الله, ويقومون ويرقصون ولم يبلغنا عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أنكر عليهم. وقد رأيت بفاس بزاوية الصقليين جماعة يذكرون ويرقصون من صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب, مع توفر العلماء, فلم ينكر أحد عليهم, وقد بلغني أن شيخنا شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة كان يحضر معهم في بعض الأحيان, فلا ينكر على الفقراء الرقص في حال ذكرهم إلا مقلد جامد, أو معاند جاحد, يرحم الله الشيخ زروقا رضي الله عنه في بعض شروحه على مقطعات الششتري لما تكلم على هذا المعنى, قال: وإنما أطلت الكلام هنا لوجهين: أحدهما مخافة أن يغتر الغوغاء, ممن لا خلاق له بهؤلاء السادات فيتعاطونه في غير محله, فيقع في المقت. ثم قال: والآخر أن يتبع قول الملحدين, أهل العقول الواهية, والأفئدة الخاوية, فيقدح في جملة طريقة أنتجها الصالحون من أولياء الله, وظهرت نتيجتها في كثير من عباد الله واشتملت نسبتها على رجال قاموا بأحكام الشريعة وآداب الحقيقة, وتعلقوا بأسماء رب العالمين, وتخلقوا بأخلاق سيد المرسلين, آثارهم حميدة, وملاقاتهم سعيدة, ترغب الملائكة في خلتهم, واشتاقت الأنبياء والرسل إلى رؤيتهم, كتاب الله مطرز بالثناء عليهم, وبشائر السنة كلها تشير إليهم, عند ذكرهم تتنزل الرحمة, وبسبب وجودهم تدفع النقمة, رغب في اللحوق بعسكرهم خليل رب العالمين حيث قال فيما أخبر الله عنه في كتابه المبين: "رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين" وتبعه الصديق الأمين في ذلك, حيث قال: "توفني مسلما وألحقني بالصالحين" واستشهادنا في معرض الولاية بهاتين الآيتين اللتين سبقتا في مقام النبوة, إنما اقتبسنا الدليل على ذلك, وهذا من باب تناول الأعلى إلى الأدنى بالثناء عليه ليعرف غيره ببعض شواهد فضيلته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين". أي واجعل المساكين هم قرابتي المحدقون بي يوم المحشر, فقد عرف صلى الله عليه وسلم بفضيلة المساكين, وعظم جاههم عند الله ورسوله, لطلبه من الله أن يكونوا في كفالته, لا أنه في كفالتهم, فكذلك عرف الصديق بفضيلة أمة الإسلام, وخصوصا الصالحين منهم لا أنه طلب من الله اللحوق بعسكرهم لقصوره عن أدراك مقامهم, لكن مبالغة في التعريف بعظيم جاههم عند خالقهم, فعرف أولا بفضيلة الإسلام عموما, وعرف ثانيا بفضيلة الصالحين منهم خصوصا, ملأ الله قلوبنا من محبتهم, وسلك بنا سبيل سيرتهم وحشرنا في زمرتهم, اللهم آمين. انتهى كلامه رضي الله عنه. ثم أشار إلى أن السماع إنما هو رخصة للضعفاء, فقال: وليس يحتاج إلى السماع ..... إلا أخو الضعف القصير الباع قلت: أشار إلى أن السماع لا يحتاجه ويزيد به إلا من كان ضعيف الحال قصير الباع في المعرفة والشهود, وأما القوي المتمكن فلا يحتاج إليه. قال السلمي رضي الله عنه: وقيل يحتاج إلى السماع من كان ضعيف الحال, فأما القوي فلا يحتاج إلى ذلك. وقال الحصري, ما أدون حال من يحتاج إلى مزعج يزعجه, ولعمري ما تحتاج الثكلى "بالمثلثة" إلى نائحة, والثكلى هي: التي مات ولدها. وقيل: هو "أي: السماع" لقوم كالغذاء, ولقوم كالدواء, ولقوم مروحة, كما قال تعالى: "قل هو للذين أمنوا هدى وشفاء". الآية. وقال في موضع آخر: "وسئل بعض الشيوخ عن شرب القلوب من السماع, وشرب الأرواح والنفوس" فقال: شرب القلوب الحكم, وشرب الأرواح النغم, وشرب النفوس ما يوافق طبعها من الحظوظ, ونعت الحسن والجمال. ثم أشار إلى علامة الضعف, فقال: والزعقات فيه والتمزيق ..... ضعف, وهز الرأس والتصفيق قلت: الزعق هو: الصياح والتمزيق هو: تخريق الثياب, وهز الرأس: تحريكه, والتصفيق الضرب بالكف يعني: أن الصراخ في السماع وتمزيق الثياب وتحريك الرأس والتصفيق باليد إنما يصدر من ضعيف الحال, الذي هو مغلوب للأحوال, وأما القوي المالك للأحوال, فلا يصدر منه شيء من ذلك. قال السلمي رضي الله عنه: وليس من الأدب استدعاء الحال والتكلف للقيام, إلا من غلبه حال فيه, فينزعج أو يكون على سبيل مساعدة لصادق, أو مطايبة لخاطر من غير تساكر ولا إظهار حال, وترك ذلك أولى. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ فصعق رجل من جانب المسجد, فقال: "من هذا الملبس علينا ديننا, إن كان صادقا فقد شهر بنفسه وإن كان كاذبا محقه الله". ثم قال: حكى أن شابا كان يخدم الجنيد, وكلما سمع شيئا زعق وتغير, فقال: إن ظهر فيك شيء بعد هذا فلا تصحبني, فكان يضبط نفسه, وربما كان يقطر من كل شعرة منه قطرة عرق حتى كان يوم من الأيام زعق زعقة خرجت منها روحه. والزعقة من وجهين: أحدهما للتوجع, والأخرى للتطلع, زعقة التوجع من حيث الخوف والحزن, وهي نظيرة صيحة المصاب, وزعقة التطلع من المحبة والشوق والرجاء, وهي نظيرة صيحة المتطلعين للإهلاك إذا تحققوا ذلك, وهذا لا يكون إلا عند وجود غائب أو فقدان حاضر, ومثلها كمثل العطسة لا يدري كيف تجيء. قلت: أما التمايل يمينا وشمالا فلا يدل على الضعف, وقد رأيت شيخنا يفعله عند السماع وهو من لذة التواجد, فلا يدل على الضعف, والله تعالى اعلم. وقد ذكر ابن عرضون في "مقنعه" أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذكروا الله مال بعضهم على بعض كالشجرة في يوم الريح العاصف, أو ما هذا معناه, ثم أشار إلى أن السماع لم يكن عندهم مقصودا للاجتماع, بل حيث ما تيسر, فقال: ولم يكن لأجله اجتماع ..... ولا لدى غيبته انصداع قلت: الانصداع هو الافتراق, يعني: أن القوم لم يكن اجتماعهم مقصودا للسماع, بحيث إذا وجد اجتمعوا وإذا غاب افترقوا, بل كانوا إذا اتفق اجتماعهم لأمر من الأمور, أو إذا دعاهم أحد إلى وليمة أو سرور استعملوه, لأنهم أغنياء عنه بحلاوة الذكر والمعرفة والله تعالى أعلم. ثم ذكر انه لم يكن فيه آلة اللهو, فقال: ولم يكن فيه مرأسنونا ..... ولا طنابر ومسمعونا وليس أيضا كان فيه طار ..... ولا مزاهر ولا تنقار والشمع والفرش والتكالف ..... أحلف ما كانت يمين حالف قلت: "المرأسنون" بفتح الميم هي الطائفة التي تجيب القوال بالدندنة ونغم الموسيقى, بحيث إذا فرغ القوال من الشعر أجابون بكلام اللهو والنغم المستلذة, وهو من شأن أهل اللهو, فالتشبه بهم هجنة, والطنابير: جمع طنبور, وهو شبيه بالعود في صورته, وقيل هو بنفسه والمسمعون المرصدون للغناء في الولائم, يسمعون الناس غناءهم ولهوهم, والطار معلوم, وهو ذو الشراشر, والمزهر هو المجلد من جهتين, والتنقار هو: فعل النقر, ويكون في نقر الأوتار المعلومة. يقول رحمه الله: إن سماع القوم لم يكن فيه شيء مما ذكر, مما هو من آلات اللهو, ويلتحق بما ذكر: الرباب, والشبابة, والبندير, والزمارة, وغير ذلك مما يستعمله أهل اللهو فينبغي للفقير أن يجتنبها, وهذه مسألة خلافية, فقد رجح الغزالي في "الإحياء" جواز سماع هذه الأشياء, بشرط خلو المكان والإخوان والزمان, قيل: وهو مذهب الشافعي ورده بعضهم. والحاصل أن العارف المحقق الذي غرق في عين بحر الوحدة حتى كان سمعه بالله ومن الله وبصره بالله والى الله, ووجده بالله ومن الله, لا يكدره شيء, فلا ينكر عليه شيء. وقد قالوا إذا ثبتت عدالة المرء فليترك وما فعل. وهذه مسألة خلافية لم يرد فيها نص من الشارع, والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الحظر, وما حرم السماع حتى أخذه أهل اللهو, ونقلوه إلى لهوهم وقارنوه مع شرب الخمر والزنا, فحرم حينئذ, سدا للذريعة, والله تعالى اعلم. وقد كان بعض علماء الحديث من أهل الحفظ والضبط يستعمل ضرب العود, فعيب عليه فحلف لا يحدث بحديث حتى يضرب العود, فأخبر به السلطان "قيل هارون الرشيد" فأرسل إليه وقال له: حدثني بحديث المخزومية, فقال أحضر العود, فقال له الملك: عود البخور؟ فقال: بل عود الطرب, فضحك الملك, ثم قال: من يحرم السماع من الفقهاء, فقال له: من طبع الله على قلبه, ثم قال له ذلك العالم: لقد حضرت وليمة بالمدينة, وفيها علماؤها, حتى لو سقط البيت لم يبق مغني بالمدينة, وأصغرهم مالك بن انس, فغنوا وهو بمزهره فغنوا وأنشدوا, "ذكره ابن عرفة في باب النكاح" نقلته بالمعنى. وقوله: الشمع والفرش الخ. يعني أنهم لم يكونوا يتكلفون بالسماع حتى يحضروا الشموع الموقودة, والفرش الممهدة, والوسائد المزوقة, وإنما كانوا يحضرون له على حالة الفاقة, والابتذال, على ما يصادف الوقت والحال, وليس مراده أنها محرمة, وإنما مراده أن طريق القوم عدم التكلف, فإن صادف الحال أنها أعدت فلا يمتنعون منها, لأن الصوفي اتسعت دائرته, فلا يختار شيئا ولا يمتنع من شيء, بل ما أعطاه سيده أخذه بالقبول, إلا ما حرمته الشريعة المطهرة بنص صريح لا تأويل فيه, فهو حينئذ أولى بالأدب من غيره والله تعالى اعلم, ثم قال: وأمروا فيه بغلق الباب ..... وإنما ذاك للاجتناب قلت: وإنما أمروا في حال السماع بغلق الباب لئلا يحضر معهم من يجتنب حضوره من الأحداث والعوام والنساء وغير ذلك مما لا يليق حضوره, لأن مجلس السماع إذا كان ربانيا هو كمجلس الذكر والمذاكرة, ومجلس الذكر والمذاكرة غذاء الأرواح ورضاع القلوب, فهي ترضع بعضها بعضا, فإذا حضر صاحب التخويض رضعت منه بعض القلوب ذلك التخويض, فربما يسري في الجماعة, فلا يجدون حلاوة الوجد, ولا لذة الخمرة, ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه: المواكلة رضاعة فانظروا من تواكلوا, فيصدق بالحسي والمعنوي. وقد عقد بعض الشيوخ حلقة الذكر في بيت مظلم فلم يجدوا قلوبهم, فقال لهم الشيخ ائتوني بالمصباح, فلما أتوا به وجدوا معهم طالبا من طلبة المدرسة, فأخرجوه فحينئذ وجدوا قلوبهم. وحكا عن بعض أشياخنا "وأظنه سيدي محمد بن عبد الله" انه كان في مجلس المذاكرة فجلس معهم رجل عامي, فأزال الشيخ عنه ثوبا, وقال له: قم بع في السوق, فلما خرج قال له: خذ ثمنه ولا تعد, وسد الزاوية. والحاصل: أن حضور غير الجنس مشوش مانع من زيادة المدد, والله تعالى أعلم. ثم حرر الخلاف في السماع فقال: وليس للقائل ما يقول ..... في الشعر إذ سمعه الرسول قلت: "سماع الشعر من غير ألحان ولا موسيقى لا نزاع فيه, لأنه سمعه عليه الصلاة والسلام وأجاز عليه ودعا لقائله, وإنما النزاع في الترنيم به". وقوله: "بألحان وموسيقى" فمن كان طبعه جامدا لا يحركه شيء, لا لخير ولا لشر, كان في حقه مكروها إن شغله عن ذكر الله أو مباحا إن لم يشغله, ومن كان طبعه مائلا للهوى وحب الدنيا وعلم انه يحركه للفساد حرم عليه, ومن كان قلبه معمورا بمحبة مولاه, فانيا عما سواه, كلما سمع زاد به إلى مولاه, فهذا يستحب في حقه السماع. هذا حاصل ما ذكره في "جل الرموز" حين تكلم على السماع. فقال: السماع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: منه ما هو حرام محض, وهو لأكثر الناس من الشبان, ومن غلبت عليهم شهواتهم, وملكهم حب الدنيا, وتكدرت بواطنهم, وفسدت مقاصدهم, فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب عليهم من الصفات المذمومة, سيما في زماننا هذا. والقسم الثاني: منه مباح, وهو: من لاحظ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن, واستدعاء السرور والفرح. والقسم الثالث: مندوب, وهو: من غلب عليه حب الله تعالى, والشوق إليه, فلا يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة, وتضاعف الشوق إلى الله, واستدعاء الأحوال الشريفة والمقامات العلية, والكرامات السنية, والمواهب الإلهية. قال الشيخ ابن ذكرى رحمه الله: فتبين من هذا انه لا نص فيه من الشارع, والذي تقتضيه قواعد الشريعة انقسامه إلى ما ذكر. ثم ذكر أصل استعمال السماع فقال: وإنما كان السماع قدما ..... قصد المريد الشيخ يشكو السقما وجاء هذا, ثم جاء هذا ..... حتى استقلوا عنده أفذاذا فبث كل ما به قد جاء ..... فعرضوا من دائهم دواء فعندما نشطت النفوس ..... وزال عنها كسل وبوس وطابت القلوب بالأسرار ..... واستعملت نتائج الأفكار ترنم الحادي ببيت شعر ..... فاكتنفته غامضات الفكر كل له مما استفاد شرب ..... هذا له قشر وهذا لب فإن تمادى وأتم الشعرا ..... أبدوا من الشرح عليه سفرا فهكذا كان سماع الناس ..... فهل ترى به كذا من باس قلت: القدم بكسر القاف معناه: القديم, وهو ظرف, أي في القديم, والسقم: المرض والأفذاذ: الجماعة المتفرقة, جمع فذ, وهو المنفرد, وبث شكواه: أودعها وأخبر بها, والنشاط خفة الأعضاء, والكسل ضده, والباس هو الضر والداء,، والأسرار: الأذواق والأحوال, ونتائج الأفكار: العلوم, والترنم: التغني, والحادي: القوال, واكتنف الشيء: أحاط به, فصار في كنفه, والغامض: الخفي, والشرب "بكسر الشين" النصيب من الماء, والقشر: ظاهر الشيء, واللب باطنه.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:15 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
تابع 6 - في حكم السماع يقول رضي الله عنه: وإنما كان استعمال السماع في الزمان المتقدم عند قصد المريد الشيخ يشكوا إليه سقمه ومرضه الذي أصاب قلبه من غفلة أو فترة أو قسوة أو كسل أو طغيان أو غير ذلك من العيوب التي لا تحصى, ثم توالى المجيء إلى الشيخ: هذا بعد هذا, حتى استقل عنده جماعة من الفقراء, فشكا كل واحد داءه, لأنه طبيب ماهر, وقد يداوي بالهمة أو بالنظرة, فعندما أحسوا بالشفا ونشطت نفوسهم, وذهب داؤهم وبؤسهم, وطابت قلوبهم بالأذواق, وامتلأت قلوبهم بالأنوار, وأشرقت فيها شموس المعارف والأسرار, واستعملت نتائج أفكارهم, فأبدت من العلوم ما يليق بسعة صفائها: ترنم الحادي بالغزل الرقيق, واستعمل من الشعر ما بالجانب يليق, فإذا سمعته دقائق أفكارهم الصافية, وغوامض فهومهم العلية, وأحاطت بمعاني تلك الأشعار, واستخرجت ما فيها من علوم وأسرار, كل واحد على قدر نصيبه وشربه مما استفاد من شيخه بمحبته وصدقه, وعلى قدر مجاهدته وسيره, فمنهم من يكون حظه معاني الكلام الظاهرة ومنهم من يخوض بفكره إلى المعاني الباطنة, وقد يقع في أسماعهم من كلام واحد ما يليق بحال كل واحد, على حسب مقامه, كالنفر الثلاثة الذين سمعوا قائلا يقول: يا سعترا بري, فبعضهم سمع: اسع ترى بري وبعضهم سمع: الساع ترى بري, وبعضهم سمع: ما أوسع بري, فالأول حاله بداية, والثاني الاستشراف على النهاية, والثالث حاله واصل إلى الغاية. وفي هذا المعنى قال ابن عطاء الله: العبارة قوت العائلة المستمعين, وليس لك منها إلا ما أنت له آكل, فإن تمادي الحادي على شعره حتى أتمه تكلموا فيه, واستخرجوا ما عندهم فيه من العلوم, كل على قدر وسعه لينفق ذو سعة من سعته الواصلون ومن قدر عليه رزقه السائرون, فاظهروا من علومهم ما يملأ سفرا أو أكثر, فهكذا كان سماع الناس في الزمان المتقدم, فهل ترى أيها المنكر لهذا الفعل من بأس أو أنت من الحال والوجد من أهل الإفلاس. قلت: وليس مراد الشيخ الحصر في هذه الكيفية حتى لا يصح السماع, إلا إذا كان هكذا بل كل من وجد في نفسه كسلا أو قبضا: استعمل ما يزيل به كسله أو مرضه. ثم اعلم أن اعتراض أهل الظاهر على الصوفية لا ينقطع أبدا: سنة ماضية, وخصوصا في السماع والرقص, وهم معذورون, لأنهم لا يشاهدون إلا ذواتا ترقص وتشطح, ولا يدرون ما في باطنها من المواجيد والأفراح, فيحملون ذلك على خفة العقل والطيش, فيقعون فيهم إلا من عصمه الله بالتسليم, ولذلك كان التصديق بطريقة القوم ولاية, والاعتراض جناية, إلا من صحت نيته وحملته الغيرة, فهو مأجور من جهة, محروم من جهة. وقد رأيت للطرطوشي اعتراضا كبيرا على الصوفية في الرقص, حتى قال فيه: إنه ضلالة وجهالة, وذلك لما قلنا, قال تعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله". وكان الشيخ ابن عباد رضي الله عنه يقول: لا تجعلوا لأهل الظاهر حجة على أهل الباطن, أي: لأنهم لم يدركوا ما أدركه أهل الباطن, فلا تقوم الحجة عليهم بمجرد سوء الظن, ولله در أبي مدين حيث يقول: إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى ..... فلله يا خالي الحشا لا تعنفنا إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقا ..... نعم: ترقص الأشباح يا جاهل المعنى إلى آخر كلامه وبالله التوفيق. ثم أشار إلى مسألة الخلع, وهي خلع الثوب عنه, وإلقاؤه للفقراء فرحا وتواجدا كما فعله عليه الصلاة والسلام, فقال: وكرهوا الخلع على المساعدة ..... لأن فيه كلفة المعاندة ومن يكن يخلع عند الحال ..... فلا يجوز رده بحال إذ كان كل عائد في هديه ..... كالكلب ظل عائدا في قيئه قلت: الخلع بفتح الخاء وسكون اللام هو: نزع الثوب عند السماع, وهو على ثلاثة أقسام: إما أن يكون مساعدة لغيره, أو لغلبة حال عليه, أو سقط بنفسه, الأول مكروه لما فيه من التكلف والمعاندة, أعنى المنافسة, لأنه لما رأى غيره خلع ثوبه وجدا أو حالا: خلع هو ثوبه مساعدة له, ومنافسة فيما فعل, وهذا لا يخلو من رياء وتصنع, واليه أشار بقوله: "وكرهوا الخلع". الخ. وإما أن يكون لغلبة حال عليه, فنزعه فرحا بالوجد أو شكرا لما وهبه الله من سني الأحوال, فهذا يأخذه الفقراء, ولا يجوز له الرجوع فيه بحال, لأن فيه الرجوع في الصدقة وقد قال عليه الصلاة والسلام: "والعائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه", والى هذا أشار بقوله: "ومن يكن يخلع عند الحال" الخ. قال السلمي: وأكثر المشايخ يكرهون طرح الخرقة على سبيل المساعدة, لما فيه من التكلف المخالف للحقيقة, وما كان من معارضة حال أو وقت, فلا يجوز فيه الرد, لأن ذلك شبه هبة وهدية, وقال صلى الله عليه وسلم: "العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه". وقيل: من رجع في هبته بالغ في خسته. ثم إلى حكمه, فقال: وحكمه في أفضل الأحكام ..... رأي العراق ليس رأي الشام قلت: ظاهر كلامه أن الضمير في "حكمه" يعود على الخلع الذي هو أقرب مذكور, لكن لم يذكر السلمي الذي يعتمده الناظم في هذا النظم هذا الخلاف, وكذلك التجيبي في "الإقالة" مع انه أطال في الكلام, ويحتمل أن يرجع الضمير إلى السماع من أصله, ويكون استدراكا لترجيح أحد القولين المتقدمين, في قوله: "قال أهل العراق بالتحريم, وقال الحجازيون بالتسليم" لكنه بعيد. لأن أهل الحجاز غير أهل الشام, وأيضا السياق يأباه, ولعل الناظم أطلع على خلاف بين أهل العراق وأهل الشام في الخلع بالجواز والمنع. وجنح الشيخ زروق إلى المنع فقال: تنبيه. الذي ينبغي الجزم في هذا الزمان منع الخرق, أي خلعها وأخذها والدخول عليها, لما عليه الناس من الشحة والاعتلال. قلت: بل الظاهر الجواز, وليس في طريق الصوفية صوفي شحيح, بل هو من أقبح القبيح, ومن كان شحيحا تعلم السخاء بهذا وبغيره, ثم أشار إلى ما من يقل بها ومن يستحقها, فقال: وحكموا الوارد في الخروق ..... للأنس والخبرة بالطريق قلت: إذا اختلف الفقراء في الخرق التي تخلع في مجلس السماع والذكر, هل ترد لصاحبها أو تقطع وتفرق بينهم أو تعطى لأحوج منهم, وحكموا أول وارد عليهم, فما حكم به اتبعوه وإنما فعلوا ذلك للأنس الذي يحصل بينهم في ذلك الحكم, بحيث لا يتغير قلب أحد. وقيل: يحكمون من كان أهل الخبرة بطريق القوم, وهذا ما لم يحضر الشيخ, وأما إن حضر فالحكم له, وإذا خلعت على القوال فهي له لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل قتيلا فله سلبه". وقيل: إن كان من جملة الفقراء فهو كأحدهم, وإن كان محبا فقط فهي له, وإن كان بأجرة فلا شيء له. ثم ذكر ما يسقط بنفسه من غير أن يخلعه صاحبه, فقال: والسقط مردود بلا خلاف ..... وقدر هذا في السماع كاف قلت: السقط بالكسر بمعنى: المسقوط, يعني أن ما سقط من غير اختيار صاحبه فهو مردود عليه, ولو كان من غلبة حال أو وجد إذا الخلع المتقدم إنما هو ما كان باختيار صاحبه فرحا بالوجد أو الحال, أو شكرا, لا ما سقط بغير اختياره, فلا يحل أخذه, إذ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه". تتميم: قال ابن ليون التجيبي: ومن أشار بيده أن يخلع, بان عنه ما عليه, ومن دخل الطابق "أي الحلقة" بفرجية غير مزورة بانت عنه, يعنى لتفريطه وعدم جزمه, ومن خلع ما على رأسه بان عنه كل ما عليه, فإن الخزق تابعة للتاج. قلت ولعل هذا حيث جرى به عرف أو عمل, وإلا فالظاهر اختصاصه بما خلع ثم قال: ومن رقص ويده تحته بانت عنه خرقه, ومن عثر في ثوبه أو داسه "أي وطىء عليه برجله" أو أطفأ به السراج, أو آذى به أحدا أو شبه ذلك بان عنه الثوب, وكذلك الإشارة بالكم, فان الفقير محفوظ والسقط بائن عنه, فيبين عنه ثوبه أقل شيء, بخلاف المحب, فانه لا يبين عنه ثوبه إلا باختياره, والعياط الفاحش في السماع يطالب صاحبه, فإن انفصل, وإلا استغفر, وكذلك الوقف الكثير في الطابق "أي الحلقة" ما لم تشهد له البواطن بالصدق, ولا يزاحم محترم محترما في طابقه, ولا يدخل الطابق غير فقير, لأنه لا يدري مشرب القوم, ويحبسه الخادم في موضعه إن غلب عليه وارد, انتهى. وهذا القدر كاف في السماع, لمن له صدق واستماع, وبالله التوفيق, وهو الهادي إلى سواء الطريق. ثم أشار إلى الحكم السابع من أحكام الترجمة التسعة, فقال: السابع في حكم السفر والقدوم على المشايخ: اعلم أن للسفر آدابا تطلب قبل الشروع فيه, وآدابا حال الشروع, وآدابا بعده, فأما التي تطلب قبل الشروع فمنها الاستخارة لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما خاب من استخار, ولا ندم من أستشار". وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا الفاتحة, يقول: إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين ثم يقول: "اللهم إني أستخيرك بعلمك, وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم, فإنك تقدر ولا أقدر, وتعلم ولا أعلم, وأنت علام الغيوب, اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري, أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي, ثم بارك لي فيه, وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري, أو قال عاجل أمري وآجله, فاصرفه عني واصرفني عنه, واقدر لي الخير حيث كان, ثم رضني به", والركعتان, بالكافرين والإخلاص, ويقتصر على هذه الاستخارة دون غيره مما فيها نوم أو غيره, ويكررها ثلاثا أو سبعا إن كان أمرا مهما. ومنها الاستشارة إن كان له شيخ, فليستشره ولا يسافر بغير إذنه, وإن لم يكن له شيخ فليستشره من اشتهر بالصلاح والخير من العلماء العاملين, وكذلك الوالدين, ومنها النية الصالحة فلا يسافر بقصد الدنيا أو النزهة, وسيأتي الكلام على هذا عند قول الناظم "ولم تكن أسفارهم تنزها, بل كان فيها نحو التوجها" وبقدر ما يعدد من النيات يحصل له من الخيرات وقد قال الشيخ القطب ابن مشيش لأبي الحسن: لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله, ولا تجلس إلا حيث تأمن غالبا من معصية الله, ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله ولا تصطف لنفسك إلا من تزداد به يقينا, وقليل ما هم, ومنها التماس الصاحب, وفي بعض الآثار "التمسوا الرفيق قبل الطريق" وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن السفر وحده, وقال: الراكب شيطان, والراكبان شيطانان, والثلاثة ركب, ولا يسافر مع غير جنسه, ولا يصحب إلا من يزيد به إلى ربه. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: من نجالس يا رسول الله؟ قال: "من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه, وذكركم بالآخرة عمله", والمراد بالمجالسة مطلق المصاحبة, فتصدق بالسفر وبغيره. ومنها قضاء الديون, ورد الودائع, فإن لم تحل وتعذر تعجيلها فليترك وكيلا يؤدي عنه وإن كانت عليه مظالم تحلل منها, لأنه لا يدري: هل يرجع أم لا؟ ومنها استعداده لحمل الماء, فيستصحب قربة أو ركوة يتوضأ منها, قال السلمي رضي الله عنه: ويجب على المسافر استصحاب ركوة أو كوز للطهارة, والركوة أولى, والركوة إناء من جلد, وقال في القاموس: زق صغير, ثم قال: سمعت والدي رحمه الله يقول: كان بعض المشايخ إذا صافحه المسافر تفقد أثر حمله الركوة من كفه وأصابعه, فإن وجده "أي اثر الركوة أحسن قبوله, وإلا ازدراه". وقال بعضهم: إذا رأيت الصوفي وليس معه ركوة أو كوز, فأعلم انه عزم على ترك الصلاة وكشف العورة, شاء أم أبى. ويستحب للمسافر استصحاب العصا والإبرة والخيوط, والمقص والموسى ونحوها, فان ذلك مما يستعين به على أداء الفرائض كما يجب, وإذا أراد أن يسافر فمن الأدب أن يطوف على إخوانه ويعرفهم بسفره ويودعهم, ويستحب لمن هو من صحبتهم تشييعه, كذلك كان أدب المشايخ. انتهى. وأما التي تطلب حين الشروع في السفر فمنها: صلاة أربع ركعات, فقد روى الديلمي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا صلى أربع ركعات, يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب والإخلاص, فإذا سلم قال: "اللهم إني أتقرب بهن إليك, فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي, فإذا نهض للسفر من جلوسه: قال: اللهم بك انتشرت واليك توجهت, وبك اعتصمت, اللهم أنت ثقتي ورجائي, اللهم أكفني ما أهمني وما لا أهتم به, وما أنت أعلم به مني, وزودني التقوى, واغفر لي ذنبي, ووجهني للخير حيث ما توجهت, ثم يقرأ الكافرون والإخلاص والمعوذتين". ومنها توديعه أهله وجيرانه وأصحابه, يقول: استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه, ويقال له: زودك الله التقوى, وغفر ذنبك, ويسر لك الخير حيث ما كنت. ومنها توديعه أهله وجيرانه وأصحابه, يقول: استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه, ويقال له: زودك الله التقوى, وغفر ذنبك, ويسر لك الخير حيث ما كنت. ومنها قراءة ورد السفر, وهو: استغفر الله "عشرا" اللهم صلى على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما "عشرا" حسبنا الله ونعم الوكيل "عشرا" ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "عشرا". هكذا تلقيناه من أشياخنا زاد شيخنا البسملة "عشرا". قال ينبغي أن تكون بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا الورد حفيظة وحصن يقال في كل سفر ولو قرب, وينبغي تقديمه على التوديع, وإذا كان له مركوب قال إذا جعل رجله في الغرز: "بسم الله, وإذا استوى على ظهره الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون سبحانك إنك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" هكذا روى الترمذي. زاد غيره: "الحمد لله الذي حملنا في البر والبحر, ورزقنا من الطيبات, وفضلنا على كثير بمن خلق تفضيلا, اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى, ومن العمل ما ترضى, اللهم هون علينا سفرنا هذا, وأطوعنا بعده, اللهم أنت الصاحب في السفر, والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في المال والأهل. ويكبر ويسبح ويحمد "ثلاثا وثلاثين" ويهلل "مرة". وأما التي تطلب بعد الشروع فاشتغاله بذكر الله, وبالتفكر والاعتبار في عظمة الله, وكل ما رأى شيئا عرف فيه صانعه ومولاه, وإذا علا على شرف كبر, وإذا هبط في واد أو مكان منخفض سبح, وإذا انفلتت دابته قال: يا عباد الله احبسوا, وإذا رأى قرية أو مدينة قال: اللهم رب السموات السبع وما أظللن, ورب الأرضيين السبع وما أقللن, ورب الشياطين وما أضللن, ورب الرياح وما ذرين, أسألك خير هذه القرية وخير أهلها, ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها, وإذا وصل وضع يده على سورها, ويقرأ لإيلاف قريش "ثلاثا" فإذا فعل ذلك لم يزل صحيحا جسمه فيها حتى يخرج, وإذا دخلها قال: اللهم بارك لنا فيها "ثلاثا" اللهم أرزقنا جناها وأعذنا من وباها, وحببنا إلى أهلها وحبب صالح أهلها إلينا. وسيأتي بقية الأدب والآداب التي تطلب حين يصل عند الناظم إن شاء الله. وينبغي للفقير أن يشد يده على هذه الآداب النبوية, فإنها دليل المحبة, قال الله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" والله تعالى اعلم. ثم قدم الحكمة في سفرهم وما المقصود به فقال:
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:16 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
7- الحكمة في سفرهم والمقصود به مذهبهم في جولة البلدان ..... زيارة الشيوخ والإخوان ثم اقتباس العلم والآثار ..... أو رد ظلم أو للاعتبار أو للخمول أو لنفي الجاه ..... أو للرسول أو لبيت الله قلت من سنة الفقراء في بدايتهم الجولان في البلدان, وعدم التقرر في الأوطان, وذكر الناظم في حكمة ذلك عشرة أوجه: أولها: زيارة الشيوخ, وهي أعظمها بعد الحج وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم, وذلك لما فيها من زيادة فيض الإمداد واكتساب الأوصاف المحمودة, والتخلص من الأوصاف المذمومة, مع اقتباس العلم والحال, وفي ذلك من الخير ما لا يعلمه إلا الله, وسيأتي بعض ذلك أن شاء الله. وعن أبي رزين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زر في الله فإن من زار في الله شيعه سبعون ألف ملك, يقولون: اللهم صله كما وصل فيك, وناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك, وتبوأت من الجنة مقعدا". قلت وهذا الذي ذكره الناظم زيارة الأحياء. وأما زيارة الأموات, فمن ظفر بشيخ التربية, فلا يحتاج إلى زيارة غيره: حيا كان أو ميتا. وقد قال التجيبي: إن زيارة الأموات ليس من طريق القوم. قلت: وهو كذلك, لأن القوم قد أغناهم بالأحياء, فلا يزورون الأموات إلا للدعاء لهم والترحم عليهم, وأما من لم يظفر بشيخ التربية فينبغي له الإكثار من زيارتهم, فإن غاية نفع الميت أن يدله على الحي, وفي ذلك يقول الشيخ الصالح أبو اسحق سيدي إبراهيم التازي "دفين وهران". زيارة أرباب التقى مرهم يبري ..... ومفتاح أبواب الهداية والخير وتحدث في الصدر الخلي إرادة ..... وتشرح صدرا ضاق من سعة الوزر وتنصر مظلوما, وترفع خاملا ..... وتكسب معدوما, وتجبر ذا كسر فكم خلصت من لجة الإثم فاتكا ..... فألقته في بحر الإنابة والبر وكم من مريد أظفرته بمرشد ..... خبير بصير بالبلاء وما يبري فألقى عليه حلة يمنية ..... مطرزة بالفتح واليمن والنصر عليك بها, فالقوم باحوا بسرها ..... ووصوا بها يا صاح في السر والجهر فزر, وتأدب بعد تصحيح نية ..... تأدب مملوك مع المالك الحر ولا فرق في أحكامها بين سالك ..... مرب ومجذوب وحي وذي قبر وذي الزهد والعباد فالكل منعم ..... عليه, ولكن ليست الشمس كالبدر ثانيهما: زيارة الأخوان, ولا شك إن السفر لزيارة الإخوان قربة عظيمة ومنقبة جسيمة وهي من أفضل السياحة قال الله تعالى: "ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون" فالمراد بالذين آمنوا: هم أنصار الدين, الذين ينصحون عباد الله, وهم الفقراء المتوجهون إلى الله, فإن كل من لقيهم نصحوه وذكروه بالله. وقال عليه الصلاة والسلام: "ويقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في, المتجالسين في, المتزاورين في, المتباذلين في", رواه مالك. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها, وباطنها من ظاهرها أعدها الله للمتحابين فيه, والمتزاورين فيه, والمتباذلين فيه", رواه الطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا زار أخا له في قرية فأرصد الله تعالى له على مدرجته ملكا, فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا, غير أني أحببته في الله. قال فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه". رواه مسلم, والمدرجة الطريق. وقال صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضا أو زار أخا في الله, ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك". وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد أتى أخاه يزوره في الله, إلا ناداه مناد من السماء أن طبت وطابت لك الجنة, وإلا قال الله في ملكوت عرشه: عبدي زارني وعلي قراه فلم يرض له بثواب دون الجنة". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه حين قدموا عليه: هل تجالسون؟ قالوا: لا نترك ذلك, قال: فهل تزاورون؟ قالوا: نعم يا أبا عبد الرحمن, إن الرجل منا ليفقد أخاه فيمشي على رجليه إلى آخر الكوفة حتى يلقاه, قال: إنكم لن تزالوا بخير ما فعلتم ذلك. ثالثها: اقتباس العلم النافع, ولا شك أن السفر لطلب العلم فرض, فقد قال عليه الصلاة والسلام "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وقال أيضا: "اطلبوا العلم ولو بالصين", ذكره في القوت. وقال صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة". وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت الملائكة له أجنحتها, رضا بما صنع". وعن قبيصة رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا قبيصة ما جاء بك؟ قلت: كبرت سني ورق عظمي فأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به قال: يا قبيصة ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا أستغفر لك" الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "من غدا يريد العلم يتعلمه لله فتح الله له بابا إلى الجنة, وفرشت له الملائكة أكنافها, وصلت عليه ملائكة السموات, وحيتان البحر, وللعالم من الفضل على العابد كالقمر ليلة البدر على أصغر كوكب في السماء, والعلماء ورثة الأنبياء, إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا, ولكنهم ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر, وموت العالم مصيبة لا تجبر, وثلمة لا تسد, وهو نجم طمس: موت قبيلة أيسر من موت عالم". والمراد بالعلم في الحديث: "العلم النافع فيصدق بعلم ذات الله وصفاته, وأحكامه, والمراد بالعابد الذي فضل عليه العالم: العابد الجاهل بما يلزمه من أداء فرضه, فلا شك أن عبادة الجاهل في جحره, والعالم شامل للعلم بالله, وهو الولي, والعالم بأحكام الله وهو: العالم العامل المخلص, والله تعالى أعلم. رابعها: اقتباس الأثر وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم, وفضل السفر إليه كفضل السفر إلى العلم, لأنه عين العلم, وقال صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" ومعنى "نضر" بهج وحسن. خامسها: رد المظالم والسفر لذلك فرض, كما إذا كان على الفقير دين أو قصاص أو حق من حقوق العباد, فيسافر إليه ليرده أو يتحلل منه, هكذا ذكره السلمي, ونصه: ثم لطلب العلم, ثم لزيارة الإخوان والمشايخ, إلى أن قال: ثم لرد المظالم والاستحلال, ثم لطلب الآثار والاعتبار, ثم لرياضة النفوس وخمول الذكر. وهذا نص ما ذكره الشيخ في هذه الأبيات. وقد تردد الشيخ زروق في تفسيره, فحمله أولا على رد ظلم العباد بعضهم عن بعض, وجعله من تغيير المنكر وقال: هذا على من يمكنه ذلك من غير تقص في دينه كما هو معلوم في باب تغيير المنكر. قلت: ولو حمله على رده بالشفاعة والإصلاح لكان اقرب, ويكون في حق الكاملين منهم. وحمله ثانيا على ما قلنا من رد المظالم, ثم قال: وقد يريد الفرار من الظلم, فإن المؤمن لا يذل نفسه, وقد قال تعالى: "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون" وقال تعالى: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" وقد يريد الفرار من المحل الذي يجري فيه الظلم على يديه كفرار إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه من أرضه وغيره, وكما في حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم كمل المائة بالعابد, فلما دل على التوبة قال له: "أخرج من أرضك إنها أرض سوء" الحديث. وهذه كلها احتمالات يقبلها اللفظ, وأما المقصد فهو الأول, لأن عادة الناظم محاذاة ما للسلمي, والله تعالى أعلم. سادسها: الاعتبار بما يرى في سفره من جبال وأنهار وعيون وبحار وأشجار وثمار وأصناف المخلوقات, وضروب الكائنات, وقد تقدم انه ينوي هذا في أول سفره. سابعها: قصد الخمول ونفي الجاه إذا لا يتحقق الإخلاص حتى يسقط من عين الناس, ويسقط الناس من عينه, ولا شك انه إذا تغرب في البلدان لا يعرفه أحد, فيأمن من الظهور الذي هو قاصم للظهور, والخمول مقصود عند القوم في البدايات, وملحوظ في النهايات. ثامنها: نفي الجاه, وهو قريب من الخمول, ويفرق بينهما بأن قصد الخمول هو الذي لم يكن له جاه فأراد أن يبقى على خموله, ونفي الجاه هو الذي كان له جاه وأراد نفيه وزواله فإذا سافر إلى موضع لا يعرفه أحد, فالغالب تحقيق خموله, وينبغي له أن يكتم اسمه ويخفي حاله حتى لا يعرف لأنه إذا عرف رجع إليه ما هرب منه, والمراد بالجاه: المضر أو الجاري على غير وجه مستقيم, أو الذي يخشى منه نقما أو شغلا, أو الذي تميل إليه النفس وتركن إليه فان الركون إلى ظل العز قاطع كبير. تاسعها: لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من أكبر القربات وأعلى الدرجات, فقد قال عليه الصلاة والسلام "من زارني في المدينة وجبت له شفاعتي" أو كما قال. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى". عاشرها: زيارة بيت الله الحرام, والوقوف بعرفة, وهو فرض للمستطيع, مستحب لغيره إذا سلم من تضييع واجب, قال صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". تنبيه:قال الشيخ زروق رضي الله عنه: كل هذه الوجوه تحتاج لتصحيح النية, وتحقيق القصد, فإن النفس خادعة, وللأمور آفات: واعتبر هذا بحكاية احمد بن أرقم, حيث جنحت نفسه لطلب الجهاد فتعجب منها, وقال: نفس تأمر بالخير, هذا عجب, ثم سأل الله تعالى قائلا: اللهم أني مصدق بقولك: "إن النفس لأمارة بالسوء". ولها مكذب فأطلعني على حقيقة هذا الأمر, قالت: يا احمد إنك تقتلني كل يوم كذا وكذا قتلة, ولا يشعر بي أحد فأردت موتة واحدة, ويقال: مات شهيدا. قال الإمام أبو حامد رحمه الله, فانظر كيف رضيت بالرياء بعد الموت انتهى بمعناه. قلت: وبقي من فوائد السفر صحة البدن والقلب فقد قال عليه الصلاة والسلام: "سافروا تصحوا وتغنموا", وكذلك قصد موت الغربة, فقد قال أيضا عليه الصلاة والسلام: "الغريب شهيد ويفسح له في قبره كبعده من أهله". ثم ذكر مفهوم ما تقدم فقال: ولم تكن أسفارهم تنزها ..... لكن لله بها التوجها ولم تكن أيضا بلا استئذان ..... للشيخ والآباء والإخوان ولم يكن ذلك للفتوح ..... أو لامرئ مبتذل ممدوح قلت: إنما لم تكن أسفارهم للتنزه في البلدان: أو لكروب الأوطان, بل في رضا الرحمن, لأن مقاصدهم دائرة على الجد والتحقيق والمناقشة والتدقيق, لا ينقلون أقدامهم إلا حيث يرجون رضا الله, ولا تنزل هممهم العالية إلا على الله, غائبون هما سواه, لا يتوجهون بهممهم إلا نحو الحبيب, ولا يسافرون بقلوبهم إلا إلى حضرة القريب المجيب بخلاف العامة: أنفسهم غالبة عليهم, وشهواتهم حاكمة عليهم, إن تحركوا للطاعة خوضتها عليهم, فأفسدت عليهم نياتهم وأزعجتهم في هوى أنفسهم, تظهر لهم الطاعة وتخفي لهم الخديعة. روي أن رجلا جاء يودع بشرا الحافي رضي الله عنه عند مشيه للحج, وقال: قد عزمت على الحج أتأمر بشيء, فقال له بشر: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم, فقال له بشر: أي شيء تبتغي بحجك نزهة أو اشتياقا إلى البيت وابتغاء مرضاة الله, قال: ابتغاء مرضاة الله, قال فان أصبت رضا الله تعالى, وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله, أفتفعل ذلك؟ قال: نعم, قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مدينا يقضي دينه, وفقيرا يرم شعثه, ومعيلا يجبر عياله, ومربي يتيم يفرحه, وإن قوي قلبك أن تعطيها لواحد فافعل, فان إدخالك السرور على قلب امرئ مسلم, وإغاثة لهفان وكشف ضر محتاج, وإعانة رجل ضعيف اليقين أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام, قم فأخرجها كما أمرناك وإلا قل لنا ما في قلبك, قال: يا أبا نصر: سفري أقوى في قلبي, فتبسم بشر وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ الشبهات والتجارات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا تسرع إليه بظاهر الأعمال الصالحات, وقد آلى الله على نفسه ألا يقبل إلا عمل المتقين. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: إذا أكرم الله عبدا في حركاته وسكناته نصب له العبودية لله, وستر عنه حظوظ نفسه, وجعله يتقلب في عبوديته, والحظوظ عنه مستورة مع جري ما قدر له, ولا يلتفت إليها كأنه في معزل عنها, وإذا أهان الله عبدا في حركاته وسكناته نصب له حظوظ نفسه, وستر عنه عبوديته فهو يتقلب في شهواته وعبودية الله بمعزل, وإن كان يجري عليه شيء منها من الظاهر, قال: وهذا باب من الولاية والإهانة. وأما الصديقية العظمى والولاية الكبرى, فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة لأنه بالله فيما يأخذ ويترك. وإنما لم تكن أسفارهم بلا استئذان الشيخ والآباء, لأن السفر من غير إذن الشيخ لا بركة فيه, ولا سير إلى الله فيه, بل فيه نقض للعهد الذي أخذه عنه: ألا يتحرك إلا بإذنه, وقد يكون له نظر في إقامته, وكانت الفقراء في الزمان السالف يستأذنون فيما هو اقل من هذا وقد وجد بعض الفقراء باقلا "أي فولا" فأتى به إلى الشيخ فقال: يا سيدي ما أفعل بهذا الباقلا, فقال له: أفطر عليها, فقال بعض الحاضرين: يا سيدي يشاورك حتى في الباقلا, فقال: نعم لو خالفني في شيء لم يفلح, أو ما هذا معناه, وهذا إن كان السفر بعيدا وأما القريب الذي لا يستغني عنه, فأمره قريب. وأما استئذان الآباء فهو أيضا من الأمور المؤكدة. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فإن حق الوالدين واجب شرعا, إلا في واجب لا محيد عنه, ولا تراخي فيه كطلب علم حاله, والجهاد عند تعيينه, والحج عند ضيق وقته, إذا توفر شرطه. وقال السلمي: ولا يسافر بغير رضا الوالدين والأستاذ, وبغير أذنهم, حتى لا يكون عاقا في سفره, فلا يجد بركة في أسفاره. قلت: هذا إن تحقق إنهم لا يمنعونه من زيارة الشيخ, وأما إن تحقق أنهم يمنعونه من زيارة شيخ التربية أو من صحبته, فلا فائدة في استئذانهم, ويسقط عنه استئذانهم, حسبما ذكره البلالي في "اختصار الإحياء" ونصه في باب حقيقة علم الباطن, ويسافر عليه ولو منع أبواه في فرضه. وذكر الشيخ السنوسي في "شرح الجزيري" أن النفس إذا غلبت كانت كالعدو إذا فجأ فتجب مجاهدتها والنهوض إليها بقواه العلمية والعملية, وفي مثل هذا يسقط استئذان الأبوين وغيرهما, الخ كلامه الطويل في المسألة. وقد يرجع هذا قوله تعالى: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما". فإن الشرك على قسمين: أكبر وأصغر "وما" من ألفاظ العموم, والشرك الأصغر لا ينجو منه في الغالب إلا بصحبة من تخلص منه بشيخ كامل, والقرآن بحر واسع يغرف منه كل أحد على قدر وسعه. ومما يناسب ما قلناه من مخالفة الأبوين في صحبة الشيخ, قول الشاعر: ولا أصغي إلى من قد نهاني ..... ولي إذن عن العذال صما أخاطر بالخواطر في هواكم ..... وأترك في رضاكم أبا وأما ولقد سمعت من أشياخنا وغيرهم: أن شابا كان يحضر مجلس شيخ شيوخنا "سيدي يوسف الفاسي" وكان أبوه ينهاه عن ذلك ويزجره, حتى كان ربما يأتي لمجلس الشيخ ويقول: أترك لي ولدي, فكان الشيخ يقول للشاب: يا ولدي أطع أباك في كل شيء إلا في القدوم إلينا وحضور مجلسنا, وكأنه تمسك بقول الغزالي: "إن أخذ علم التصوف فرض عين" والله تعالى أعلم. وقول السلمي: لئلا يكون عاقا لوالديه: أعلم أن عقوق الوالدين لا يكون بمجرد مخالفتهم, فإن الوالدين على ثلاثة أقسام: قسم: يكونان وافري العقل واسعي الصدر, لا يغضبان بشيء. وقسم: يكونان ضعيفي العقل ضيقي الصدر, بغضبان بأقل شيء, وقد يغضبان بلا شيء. وقسم: يكونان معتدلي الحال. فأما القسم الأول: فقد يعقهما, ولم لم يغضبا. وأما القسم الثاني: فقد لا يكون عاقا لهما ولو غضبا, والمرجع في ذلك لعرف أهل العقول الكاملة بحيث يشهدون في ذلك ويقولون: إنه عقوق, سواء ظهر غضب أو لا. وأما الثالث: فغضبهما عقوق, وإذا سمعت هذا التفصيل من بعض العلماء الفاسيين وهو صحيح حسن "نقله بعض شراح الشمايل" والله تعالى أعلم. وأما استئذان الإخوان, فهو حسن لعله ينهض حالهم للزيارة معه. وأما كون سفرهم لم يكن للفتوح, وهو ما يقبضه من الهدايا والصدقات, فقد تقدم أن سفرهم إنما كان لرضا الرحمن, أو لتذكير الإخوان, أو لرياضة النفوس, ولم تكون أسفارهم لقصد الدنيا, فإن ذلك من الهمة الدنية, وكل من كان سفره للدنيا, فلا قيمة له عند الله ومن كانت همته ما يدخل بطنه, كانت قيمته ما يخرج منها, وجلوس من كانت هذه همته في بيته أفضل له, نعم أن تخلصت النية ثم أعطاه الله فتوحا أخذه بنية الشيخ أو صرفه فيما يضطر إليه, وكذلك السفر لمن كان مشهورا بالسخاء والعطاء, فهو من قبيل السفر للدنيا إذا لا يخلو من طمع فيه, وما أقبح الطمع, وما أحسن الورع. دخل سيدنا علي كرم الله وجهه البصرة فوجد الناس يقصون في المسجد, فأقامهم حتى وقف على الحسن البصري, فرأى عليه سمتا وهديا, فقال له: إني سائلك فإن أجبتني تركتك, وإن لم تجبني أقمتك كما أقمت أصحابك, فقال له: سل عما بدا لك, فقال له: ما فساد الدين؟ قال: الطمع, قال: وما صلاح الدين؟ قال: الورع, قال له اجلس فمثلك يتكلم على الناس. وإلى هذا أشار بقوله "أو لامرئ مبتذل ممدوح, والمبتذل اسم فاعل, ومن أبتذل طعامه أعطاه, وأصل ما ذكره الناظم قول السلمي رحمه الله: ولا يسافر للنزهة والبطر وراء الناس والجولان في البلدان لطلب الدنيا والدؤوب على متابعة الهوى. قال أبو تراب النخشبي رضي الله عنه: ليس شر أضر على المريدين من أسفارهم على متابعة هواهم, وما فسد من فسد من المريدين إلا بالأسفار البطالة. قال الله تعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يحج أغنياء أمتي للنزهة, وأوسطهم للتجارة, وقراؤهم للرياء, وفقراؤهم للمسألة, وقال أيضا قال أبو حفص النيسابوري: ينبغي للمسافر ثلاثة أشياء: ترك تدبير الزاد, وتقدير الطريق, ويعلم أن الله حافظه. ثم ذكر آداب الوصول, فقال: فحيث ما حلوا بلدا فبالحرا ..... أن يقصدوا الشيخ وبعد الفقرا قلت: من آداب الفقراء إذا حلوا بلدا من البلدان, سواء كانت التي فيها شيخهم, أو لا أن يقصدوا شيوخها وكبراءها أولا, ثم يقصدوا فقراءها, لأن التقديم تعظيم, والتعظيم على قدر المقام, ومن لا يعظم لا يعظم, وإذا قصدوا شيوخها فلا يدخلون عليهم إلا معتقدين كمال ولايتهم, ولا يدخلون مختبرين فيحرمون بركتهم, فكل من قصد الأولياء بالميزان, فلا ينال إلا الحرمان, ومن أتاهم بالتعظيم وحسن الاعتقاد نال من الله كمال المحبة وحسن الوداد, وينبغي أن ينعزل من علمه وعمله وحاله, كما يفعل مع شيخه, وكذلك يفعل مع الفقراء, فلا يدخل عليهم إلا معتقدا كمالهم, وينعزل أيضا عن علمه وعمله, فيرجع إلى علمهم فيما يشيرون إليه, ولا يدعي علما, ولا يراه في حضرتهم, بل يرى علمهم أكمل من علمه, وأنه مفتقر إليهم وإن كان أعلى منهم في الظاهر, ويرى عملهم أوفى من عمله, وإن كان أوفى منهم فيه, لأن ذلك معتبر بالحقائق, وهي باطنية قلبية, فيحملها على أكمل الوجوه وأتمها, فيشرب منهم على قدر اعتقاده, ويأخذ من مددهم على قدر صدقه, وهذا الترتيب الذي ذكرنا هو مع الاختيار, فإن تعذر لقاء المشايخ أولا: قدم الفقراء. وقوله: "فبالحرا" أي فبالأحروية والأولوية أن يقدموا الشيخ, ثم بعد ذلك الفقراء إن أمكن كما قلناه, والله تعالى أعلم. ثم ذكر آداب لقاء الأشياخ, والجلوس معهم ومكالماتهم, فقال: وإن للقوم هنا آدابا ..... إذا جعلوا كلامهم جوابا فإن تعاطى الشيخ منهم قولا ..... قولوا, وإلا فالسكوت أولى قلت: للقوم في لقاء المشايخ آداب. منها: أنهم إذا قربوا المنزل رفعوا أصواتهم بالهيللة والذكر, فلا يزالون كذلك حتى يصلوا إلى الزاوية فهو من تعظيم النسبة ويفعلون ذلك عند قربهم للمداشر, لما فيه من تنبيه الغافلين الشياطين, ومنها انتظار خروج الشيخ من غير نداء عليه, ولا رسول إليه, قال الله تعالى: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون". ومنها تقبيل يد الشيخ, ثم رجله أن جرت بذلك عادة الفقراء, فهو من أحسن التعظيم, وهو من تربية الآداب والمهابة. وفي ذلك قال الشاعر: يا من يريد خمرة المحبة ..... خذوها عني: هي حلال ومن يريد يسقى منها غبا ..... خد يضع لأقدام الرجال راسي حططت لكل شيخ ..... هم الموالى: سقوني زلال ومنها جلوسهم بين يديه على نعت السكنية الوقار, خافضين أصواتهم, ناكسين رؤوسهم غاضين أبصارهم, فلا يكلمونه حتى يبدأهم بالكلام. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: ثم إن طلب أحدهم بالكلام, فإن كان الكلام عادياً أتى به منخفضا, وإن كان في العلوم والحقائق نظر, فان حضرته نفسه ترك, وإلا تكلم بأقل ما يمكنه الكلام في ذلك, لأن الكلام في حضرة الأستاذين مقت. ثم قال: ومن أعجب ما شهدته في بعض الناس أنهم يدخلون على رجال من أهل الكمال لقصد الانتفاع بهم, ثم يبسطون ألسنتهم بالكلام في وجوه من صور الحقائق, ويرون أنهم بذلك متقربون لقلوبهم, ومتحببون لهم, ولا أدري هل ذلك لظنهم خلوهم عما يألونه, أو لرؤيتهم أن ذلك مما يقربهم إليهم, أو ليروهم أنهم يفهمون ويذوقون, هذه كلها جهالات أعاذنا الله منها, انتهى الكلام. قلت: أما في حال المذاكرة فلا بأس أن يتكلم بما عنده من العلم إعانة للشيخ, بانخفاض وتواضع, ولا يعارضه في كلامه, فإن لم يفهم كلام الشيخ, أو رآه مخالفا لرأيه, أو لما عند غيره, يقول: يا سيدي هذا ما فهمته, وقد ظهر لي كذا وكذا, وقال فلان: كذا وكذا على وجه الاستفهام, لا على وجه التعارض, فإن ظهر له خلاف ما ظهر للشيخ فليسكت, وإن وقعت معارضة بين الشيخ وبعض الفقراء أو غيرهم, فلينصر الشيخ ما استطاع, فإن ذلك مما يجلب المودة من الشيخ, ثم إن تعاطي الشيخ من الفقراء كلاما أو من أحدهم: كلمه بخفض وتواضع, وإلا فالسكوت أولى. وقد أشرت إلى هذه الآداب مع زيادة في قصيدتي العينية التي وضعها في الآداب فقلت بعد الكلام: مع الشيخ آداب إذا لم تكن له ..... فإنه في واد القطيعة راتع خضوع, وهيبة, وصدق محبة ..... وعقل كمال فيه: إنه جامع فلا ترفعن صوتا إذا كان حاضرا ..... ولا تضحكن, فالضحك فيه فجائع ولا تعترض أصلا عليه فإنه ..... بنور شهود للبصيرة تابع ولا ترمين عينا إلى ماء غيره ..... فترمى كسيرا في المعاطش ضائع ولا تخرجن من غش تربية غدت ..... تمدك بالأنوار منها تتابع إلى أن ترى الترشيد قد حاز وقته ..... وصرت من التمكين أمرك شائع تمد من الأنوار من كل وجهة ..... وتسقى من الأنام من هو تابع
ثم أشار إلى أدب المُقْدَم عليهم في حق القادمين, فقال: واجب على أولى الإقامة ..... تفقد الوارد بالكرامة وهو يزور القوم في الحرام ..... وإنما ذاك للاحترام ويبدءوا الوارد بالسلام ...‘ وبالطعام ثم بالإكرام وكلموه بعدها تكليما ..... تأسيا بفعل إبراهيما وكرهوا سؤال هذا الوارد ..... إلا عن الشيخ أو التلامد قلت: ذكر في هذه الأبيات ستة آداب في حق المقدم عليهم: أولها: تفقد الوارد بالكرامة, وهو الذهاب إلى لقائه وإظهار المبرة في وجهه والفرح به وإراحته من شئونه وتعلقاته, وإنزاله في محل يظهر به التعظيم كدار, أو زاوية, والدار أبلغ في تعظيمه, فإن نزل في محل قدم عليه من لم يكن خرج للقائه, فالوارد أحق أن يزار في محله إلا أن يكون بمكة, فان عليه أن يزور المجاورين لبيت الله الحرام, لحرمة بيت الله الحرام, فلا يخرجون منه إلى غيره, وهذا معنى قوله "واجب على أولى الإقامة" الخ. وقوله: "وهو يزور القوم" الخ. على ما في بعض النسخ. ثانيها: ابتداؤه بالسلام تأنيسا له لقوله عليه الصلاة والسلام: "لكل داخل دهشة" فابدءوه بالسلام, ولكل طاعم وحشة, فابدءوه باليمن. واليه أشار بقوله "ويبدوا الوارد". ثالثها: مبادرته بالطعام, ويسمى هذا الطعام "القرى" والمراد ما تيسر ووجد من غير تكلف, وهذه من المسائل التي تطلب المبادرة بها, وقد نظمها بعضهم فقال: بادر بتوبة قري والدفن ..... نكاح بكسر, وصلاة دين رابعا: إظهار كرامته بما يقدر عليه من الطعام من غير تكلف مفرط ولا تفريط, كالصوفي لا يتكلف ولا يكلف, فإن كان موسعا عليه بالغ في إكرامه من غير سرف. قال السلمي: ولما ورد أبو حفص على الجنيد تكلف في خدمته فأنكر عليه فقال: لو دخلت خراسان علمتك كيف الفتوة, فقيل له في ذلك, فقال: صيرت أصحابي مخانيث, تقدم إليهم ألوان الطعام والطيبات كل يوم, وإنما الفتوة عندنا ترك التكلف, ثم قال له: إذا حضرك الفقراء فاخدمهم بلا تكلف, حتى إذا جعت جاعوا معك, وإذا شبعت شبعوا معك, وحتى يكون مقامهم وخروجهم من عندك واحدا. خامسا: تكليمه تكليما خفيفا, كما فعل إبراهيم عليه السلام حيث بدأ بالسلام, ثم أتى بالطعام, ثم تكلم معهم, قال تعالى: "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم" الآية, ثم قال: "فما خطبكم أيها المرسلون" فهذا هو الكلام, واليه أشار بقوله: وكلموه .. الخ, والتأسي هو الاقتداء. سادسها: ترك سؤاله عن أحوال الدنيا وأحاديثها, فان ذلك مما لا يعنى, ويقسي القلب, واليه أشار بقوله "وكرهوا" الخ. وأصل ما ذكره الناظم قول السلمي رضي الله عنه: وعلى المقيمين أن يسلموا عليه, أي على الوارد, فحق القادم أن يزار, إلا أن يكون بمكة, فإن عليه زيارة المجاورين لحرمة بيت الله الحرام, ثم يقدم إليه ما حضر من الطعام من غير تكلف, فقد قيل: الأدب مع الضيف أن يبدأ بالسلام, ثم بالإكرام, كصنع الخليل عليه الصلاة والسلام: "إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما, قال سلام, فما لبث أن جاء بعجل حنيذ" وقد قال عز وجل "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه" ولا يسئل عن أحاديث الدنيا مما لا يعنى, بل عن أخبار المشايخ والأصحاب والإخوان المتعاونين على أعمال الخير. ثم أشار إلى ملازمة الأوراد في حال السفر, فقال: وكرهوا تضييعه أوراده ..... كيف, وقد جاء إلى الزيادة قلت: أوراد الإنسان ما كان وظفه عليه شيخه, أو وظفه على نفسه, والمراد هنا ما كان يعمله في حضره, فإذا سافر بقي على ما كان عليه, لقوله عليه الصلاة والسلام: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل". وذلك بقدر الاستطاعة, وإلا فالسفر محل التعب والنصب, فقد يشق عليه في حال حضره مع أن أجره جار عليه, ولو لم يفعل, ففي الحديث "إذا مرض الإنسان أو سافر أجري عليه ما كان يعمل مقيما صحيحا" أو كما قال عليه الصلاة والسلام "نعم الفكرة والنظرة إن كان من أهلها لا يتركها, وكذلك المذاكرة, وكيف يترك أوراده بالكلية, وهو إنما سافر لطلب الزيادة الباطنية. كان بعض المشايخ يقول: عليك بالذكر عند البسط, وبالفكر عند القبض, وبالحمد على كل حال, وردك لا تتركه, فان فاتك بالليل أستدركه بالنهار, وإن سافرت فاجعل وردك كله في الذكر, أو اتركه على حاله, إلى آخر كلامه, ثم قال: ومن يسافر في هوى النفوس ..... فإنما يؤمر بالجلوس قلت: ما قاله ظاهر, وقد تقدم هذا المعنى مرارا, وتقدم ضابط أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قريبا, والغالب على من لم يظفر بشيخ التربية هذا الوصف إلا النادر, إذ لا يخرج من حظوظ النفس إلا بصحبة من خرج منها, والله تعالى أعلم. تتمة: بقي آداب تتعلق بالسفر ذكرها السلمي. منها: أنه إذا خرج بلدا فيها زوايا قصد أعظمها وأكثرها فقراء. قلت: هذا إن كانوا كلهم من طريقته, وإلا نزل على من هو متفق معه في النسبة. ومنها: أنه ينبغي أن ينزل على الموضع الذي فيه المياه الجارية, والمطاهر النقية. قال: وسمعت أبا طاهر الأشقر يقول: كان يصحبني فقير مليح, كلما نزلنا منزلا تفقد موضع الطهارة, فإذا وجده نظيفا طيبا استطاب المكان وتناول ما قدم إليه من طعام, وإن لم يكن ذلك لم يتناول الطعام, وقال: هذه بلية ليس فيه كنيف. ومنها: أنه إذا دخل بلدا ليس فيها فقراء نزل على أكثرهم محبة لهذه الطائفة, وأحسنهم إيمانا وميلا إليهم, فإذا دخل دويرة تنحى ناحية ونزع خفيه, يبدأ باليسرى في النزع وباليمنى في اللبس, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تنعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا نزع خفيه, يبدأ باليسرى" ثم يقصد موضع الطهارة فيتوضأ ويصلي ركعتين, فإن كان هناك شيخ قصد زيارته وقبل رأسه, إلا أن يكون الزائر حدثا فيقبل يده. ومنها: أنه ينبغي لمن أراد السفر أن يتعلم أحكامه كأحكام قصر الصلاة, والتيمم والقبلة, وغير ذلك مما يتوقف عليه في السفر. قال الشيخ أبو يعقوب السنوسي رحمه الله: يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره, وإلا فلا يسافر: علم يسوسه, وورع يحجزه, وخلق يصونه, ويقين يحمله. سئل أبو رويم عن أدب المسافر فقال: إلا تسبق همته خطوته, وحيث ما وقف كان منزله. ومنها أنهم إذا كانوا جماعة وليس فيهم مقدم, ولا شيخ أن يتفقوا على مقدم يرجعون إليه في أمورهم, ففي بعض الآثار "لا خير في قوم ليس فيهم من يعظم في الله, ومعناه ثابت في الحديث عند المنذري, غير أني لم أستحضره". وقال السلمي في "آداب الصحبة": ومن آدابهم إذا اجتمعوا أن يقدموا أحدهم لتكون مراجعتهم إليه واعتمادهم عليه, ويكون أرجحهم عقلا, ثم أكبرهم همة, ثم أعلاهم حالا ثم أعلمهم بالمذهب, ثم أسنهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله, فإن استووا فأفقههم في الدين, فإن استووا فأقدمهم هجرة, ثم أحسنهم خلقا, ثم أتمهم أدبا, ثم أسبقهم بلقاء الشيخ, انتهى المراد منه". وقال أيضا: ومن آدابهم ألا تجري بينهم في حديثهم: هذا لي وهذا لك, ولو كان كذا لم يكن كذا, ولعل, وعسى, ولم فعلت؟ ولم لم تفعل؟ وما يجري مجراها فإنها من أخلاق العوام. ثم قال: ولا يجري بينهم الإعارة والاستعارة. قال بعضهم: الصوفي لا يعير ولا يستعير, ولا تجري بينهم المخاصمة ولا المجادلة, وإلا الاستهزاء ولا الازدراء, ولا المراجعة, ولا المغالبة, ولا الغلبية, والنقيصة لا تكون بينهم, بل يكون كل واحد منهم للكبير كالابن, وللصغير كالأب, وللنظير كالأخ, وللوالدين والأستاذين كالملوك. وهذا ليس خاصا بالسفر, وإنما هو من آدابهم في الصحبة على الدوام, وفي السفر أكثر لأن السفر يسفر عن المعايب, ولا يبقى على حاله في حال السفر إلا الصديق. ومنها: أنه إذا أقبل وقرب إلى بلده, قال: "لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, آيبون تائبون عابدون ساجدون, لربنا حامدون صدق الله وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, لا يزال يقولها حتى يدخل البلد, فإذا دخلها قال: اللهم اجعل لنا بها قرارا, ارزقنا حسنا, فإذا دخل على أهله قال: أوبا أوبا, لربنا توبا, لا يغادر علينا حوبا. ومنها: أنه ينبغي أن يستصحب هدية لأهله وأقاربه وجيرانه, على قدر وسعه. ومنها: أنه ينبغي أن يدخل أول النهار, ولا يدخل ليلا فإن تعذر أرسل رسولا يعلم به وقد نهى عليه الصلاة والسلام "أن يطرق أهله ليلا والله تعالى اعلم" وبالله التوفيق. ثم أشار إلى الحكم الثامن من الأحكام التسعة, وهو السؤال, فقال: الثامن من السؤال: أي الطلب. قلت: ذكر في هذه الترجمة: حكمه, وآدابه, ومواطنه, فبدأ بحكمه, فقال:
8- في حكم السؤال وأسبابه حكم السؤال عندهم مشروع ..... طورا, وطورا عندهم ممنوع قلت: أعلم أن السؤال أصله في الشريعة الجواز, قال تعالى: "وأما السائل فلا تنهر" وقال عليه الصلاة والسلام: "أعط السائل ولو على فرسه". ثم تعتريه الأحكام الخمسة يكون: واجبا, ومندوبا, ومباحا, ومكروها, وحراما. فأما الواجب فهو سؤال الاضطرار خوفا على البشرية أو الروحانية, وذلك إذا غلبته نفسه للرياسة والكبر. وقد نص ابن العربي على وجوبه على المريد في بدايته, حسبما ذكره القسطلاني في شرح البخاري في باب الزكاة. وأما المندوب فهو إذا سأل لغيره عند حاجته, أو لتهذيب نفسه عند الأمن عليها, وأما المباح فهو ما إذا سأل اختبارا لنفسه, هل تقدر عليه أم لا, وإذا طال عهده به اختبرها, هل رجعت لأصلها أو هي باقية على موتها, وأما المكروه فهو سؤاله لنفسه عند الحاجة قبل الضرورة, وقيل: مباح, على ما سيأتي. وأما الحرام, فهو السؤال تكثرا أو إلحاحا, وسيأتي الكلام على هذه الأقسام في شرح كلام الناظم إن شاء الله. ثم أشار إلى القسم الواجب أو المندوب, فقال: وما على السائل من تأويل ..... لأجل قهر النفس والتذليل فمن أولي الأذواق والأحوال ..... من كان راض النفس بالسؤال قالوا: ولا خير إذن في العبد ..... ما لم يكن قد ذاق طعم الرد قلت: السؤال لأجل قهر النفس يصدق بالواجب والمندوب, فالواجب ما إذا كانت نفسه غالبة عليه, وفيها فخفخة وكبر ورياسة, ولا يمكن دواؤها إلا به لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال خردلة من كبر" والمندوب ما إذا كانت مأمونة من ذلك, لكن ثقل عليها وجمحت منه وهو في محل الرياضة, فهذا مستحب في حقه إذ لا يثقل عليها إلا ما يقتلها, ولا شيء أسرع في قتلها منه, فتقرب عليه المسافة, وهذا ما لم يأمره به شيخه, وإلا تعين عليه, وصار من قبيل الواجب "وقيده" الشيخ زروق بما إذا لم يوصله إلى ضرر في دينه ودنياه. قلت: مثل الضرر في الدين, ما إذا كان يتكشف في الديار على محارم الناس, لأنه عادة النساء لا يستترن من الفقراء في السؤال, ومثل ضرر الدنيا إذا خاف أن يقبض ويؤخذ ماله. ثم قال الشيخ زروق: ولا يجعله الشيخ منهاجا وقاعدة كلية تعرف بها فقراءه, فإن ذلك يؤدي لنقيض المقصودة لا سيما مع هيئة مقصودة وكيفية معلومة تصير صاحبها علما فيما يوجه له فيزيده تعززا وفسادا, ولذلك قل ما ينجح من استعمله إلا أن يكون ذلك كما كان يفعله بعض الفقراء من أهل مصر: أنه كان إذا أتاه أحد من أبناء الدنيا ألزمه بذلك من غير شهوة حتى يأتي على آخر المدينة ثم يتصدق به, فقد يكون له وجه انتهى. قلت: وما ذكره الشيخ زروق محمول على ما يفعله بعض الفقراء, يأخذون علما أو راية ويقصدون المداثر والخيم, وهذا حرام, وأما ما يفعله أصحابنا فإنما هو لقتل النفوس, وقوت الأرواح إذ لا يتقدم له الفقير حين يؤمر به, إلا بعد جهد جهيد شديد, بحيث تتمنى النفس الموت الحسي اختيارا, وترضى أن تموت مرارا ولا تتقدم له, إلا أن الصدق وهمة الشيخ تتحمله على الامتثال, فلا شك انه يقرب مسافة بعيدة, ويقتل النفس, ويجهز عليها في مرة واحدة, واصل دخوله في هذه الطائفة على هذا الوجه أن شيخ شيخنا "سيد علي العمراني" كان له جاه ووزارة ورياسة في فاس, فلما دخل في يد الشيخ, ورأى صدقه وجده, قال له: أرى لك خمرة لم يقدر عليها أحد قبلك, ولولا ما رأيت فيك من الصدق والجد ما دللتك عليها, قال: وما هي يا سيدي؟ قال: السؤال, فتقدم إليه. ورأيت في كتابه أنه قال له: يا ولدي, إنك تطلب هذا العلم, ولا تناول منه ما تريد إلا بالذل, فدخل فيه, وسكن إلى مماته رضي الله عنه. قوله: "فمن أولى الأذواق" الخ. يعني أن بعض أهل الأذواق والأحوال "كان راض نفسه" أي ريضها وهذبها بالسؤال. قال السلمي رضي الله عنه: وقد رخص بعضهم في السؤال لمن يقصد بذلك تذليل النفس. وقال عبد الله بن منازل: لا خير فيمن لم يذق طعم إجابة الرد. وكان بعض المشايخ يأكل من السؤال, فسئل عن ذلك؟ فقال: اخترته لكراهته نفسي. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولا يزال الفقير بخير ما دام خبزه كسرا, فإذا دارت الخبزة بين يديه دار الشر على رأسه. وما أحسن حال السائل يقف بكل باب يسمع "يفتح الله" انتهى. وكان إبراهيم الخواص تعرض عليه الألوف فلا يقبلها, وربما سأل من يعرف من الناس الدرهم والدرهمين, لا يزيد على ذلك, وكان أبو جعفر الحداد, وهو شيخ الجنيد: يسئل باب أو بابين أو ثلاثا بين العشائين, فكانت العامة تتعجب منه أولا, ثم عرف بذلك, فكان لا يعيبه عليه العامة ولا الخاصة مع جلالة قدره وعلو معرفته بربه. وكان إبراهيم بن أدهم معتكفا بجامع البصرة, ولا يفطر إلا من ثلاثة أيام إلى ثلاثة أيام, يخرج بعد صلاة المغرب يطلب على الأبواب فطره. وممن راض نفسه بالسؤال شيخ شيوخنا "سيدي عبد الرحمن المجذوب" وكذلك الشيخ العارف أبو الحسن الششتري, وفعله أيضا في أول بدايته أبو الحسن البردعي بأمر شيخه أبي عبد الناودي, وغيرهم ممن لا يعرف. وقوله: "لا خير إذن في العبد" الخ. يعني أن الفقير, إذا لم يذق طعم الرد حتى يكون الرد عنده أحلى من العطاء, فلا خير فيه, لأن نفسه لم تمت حيث استحسنت العطاء, وثقل عليها المنع, فالواجب عليه الدوام عليه يذوق سره, وذوق سره أن يكون المنع أحب إليها من العطاء والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى القسم الممنوع فقال: ومنعوا السؤال للتكاثر ..... بل حكموا عليه بالتهاجر والقوم لما يسألوا إلحافا ..... ولا تكاثرا ولا جزافا بل ذاك كان منهم اضطرارا ..... فيسألون القوت والإفطارا قلت: هذا من القسم الممنوع, وهو أن يسئل لقوت البشرية من غير اضطرار, واختلف العلماء في القدر الذي تحرم معه المسألة, فقيل: أربعون درهما, وقيل: قوت يوم وليلة, وهو أقرب, والسؤال للتكاثر وهو لاكتساب المال والتكثر منه, ولو صحبته نية قبل نفسه فلا ينفع, لأن الخبيث يغلب الطيب, لكثرته. أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم, والمزعة القطعة". وقال أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه, فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك, إلا أن يسأل ذا سلطان في أمر لا يجد منه بدا". والكدوح الخموش. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه, فما يكون له عند الله وجه". وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل مسألة عن ظهر غنى استكثر بها من رضف جهنم, قالوا: وما ظهر غنى قال عشاء ليلة".
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:19 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
تابع 8- في حكم السؤال وأسبابه
قلت: وهذا يرجح القول الثاني في القدر الذي يحرم معه السؤال, وهذا كله مبني على القصد والنية, فمن كان مراده قوت الروحانية فلا كلام معه, ومن كان مراده قوت البشرية خسر وخاب: "قل كل يعمل على شاكلته" ومن عادة القوم إذا عرفوا أحدا يسئل لشهوة نفسه هجروه ولاموه حتى يتوب, ومن عادتهم أنهم لا يسألون إلحافا, أي بحرص وإلحاح حتى يؤذي المسؤول المسؤول. قلت: وقد كان يفعله بعض الإخوان عفا الله عنهم, فإن كان لجذب غلب عليهم فيسلم وإلا فغير صواب, والله تعالى أعلم. وقيل: الإلحاف السؤال دون احتياج, قال عليه الصلاة والسلام: "من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف ويجمع بين مفهوم هذا والحديث المتقدم عن علي كرم الله وجهه بأن المتقدم في حق من عرف بالزهد والتوكل, واشتهر بسيما الفقر, وهذا في حق العوام الذين لا يعرفوا بذلك كما قال عليه الصلاة والسلام في فقير وجد عنده دينار, فقال: "كية من نار" وقد وجد عند غيره أكثر من ذلك فلم يقل فيه ذلك, والله تعالى أعلم. والسؤال جزافا بكسر الجيم وفتح الزاء هو من يتخذه حرفة يصطاد به أموال الناس, وذكر في القاموس أن الجزاف بفتح الجيم وشد الزاي, هو: الصياد والمجزفة بكسر الميم شبكة يصطاد بها. وقال بندار بن الحسن رضي الله عنه: من سأل وله ما يغنيه خفت أن يخاصمه فقراء المسلمين يوم القيامة, ويقولون أخذت ما جعل لنا من المال ولم تكن منا. وإنما كان سؤال القوم عند الفاقة والاضطرار دون السعة والاختيار, والله تعالى أعلم. ثم ذكر الآداب التي تكون عند السؤال فقال: وأدب الصوفي عند المسألة ..... أن يدخل السوق إليه يسأله لسانه يشير نحو الخلق ..... وقلبه معلق بالحق قلت: السؤال الذي يكون لقوت الروحانية له آداب, إذا فعلها استحق بذلك فتح الباب ورفع الحجاب, وإن لم يفعلها لم يفتح له فيه الباب, وربما كان زيادة في الحجاب. الأول: أن يكون قصده قوت الروحانية فقط, أو قوت الفقراء, أو من تعلق به مع الاضطرار, وأما إن كان قصده قوت بشريته, أو شهوة من شهواته فضرره أكبر من نفعه. الثاني: أن يكون بإذن من الشيخ, فإن لم يكن إذن فقد خسر فيه, وكل من تبطش نفسه له فلا نفع له فيه, إذ لا تموت النفس إلا بما يثقل عليها. الثالث: أن يكون متحليا بحلية العبد الفقير, يطلب المدد من العلي الكبير, فيكون حافي الرجل عاري الرأس فقيرا ذليلا ينادي سيده متاع الله: لله. ويحضر قلبه المعرفة حين يقول: الله. الرابع: أن يكشف عن يده إلى الذراع, ويمدها إلى نحو المسئول, وينظر إلى جهته, لأن ذلك أشد على النفس وأسرع في موتها, إذا الحياء جلة في العين, والمراد إنما هو موت النفوس وحياة الأرواح. الخامس: أن يكون عارفا أو مستشرفا فتكون يده ولسانه يشيران إلى الخلق حكمة, وقلبه معلق بالملك الحق. قال في الحكم: لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق, إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك فان كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم. وقيل: من علامة الفقير الصادق أن يأخذ الصدقة ممن يعطيه, لا ممن جرت الصدقة على يديه, وعلامته أن لا يذم مانعا, ولا يمدح معطيا, ومن لم يكن عنده هذا العلم تعلمه قبل الخروج إلى السؤال, فان كثر عليه العطاء فينبغي أن يقصر في السؤال, لأن النفس مجبولة على حب العطاء, وأما أن ظهر عليه المنع فينبغي أن يزيد فيه, لأن ذلك حينئذ تمحض لحياة الروح, فان قبض شيئا ولم يجد أحدا من الأخوان فليتصدق بذلك ليلا, بحيث لا يشعر به أحد, أو يرميها في موضع خال, والأحسن أن ينزل ذلك في موضع ينتفع به الناس ولا يشعر به. السادس: ألا يسأل من النساء ولا من الصبيان, وهو من لم يحتلم, ولا من أهل الذمة ولا ممن لا يتحاشى من الحرام, وهذا إن كان معه شيء من السلوك, فان كان مجذوبا محضا, فلا كلام عليه, وهذا معنى قوله في الحكم: "فخذ ما وافقك العلم" وقد حرر المسألة الشيخ ابن عباد علما وتصوفا, وذكرنا من ذلك في الشرح نبذة صالحة, فلينظر من أراده والله تعالى أعلم. ثم ذكر القسم المكروه والمباح والمندوب, فقال: وكرهوا سؤاله لنفسه ..... ثم أباحوه لأهل جنسه ولم يعدوه من السؤال ..... لكن من العون على الأعمال إذ كان خير الخلق في أترابه ..... يسأل أحيانا إلى أصحابه قلت: اتفقت الصوفية على كراهية سؤال الفقير لقوت بشريته عند الحاجة, ما لم يبلغ حالة الاضطرار, وحالة الاضطرار أن يضعف عن العمل أو تضعف فكرته, أو إن كان مسافرا ضعفت قوته على المسير, فهذا يباح له أن يندب, فإن خاف على نفسه وجب, فإن لم يبلغ الفقير إلى الحال الذي وصفنا فالأفضل في حقه الصبر والاكتفاء بعلم الله حتى يأتيه الله برزقه إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ويعطي بلا أسباب, فقد قيل: "ما نزلت فاقة بمؤمن فأنزلها الله, فدامت عليه أكثر من ثلاثة أيام قط". وفي حكاية بشر الحافي رضي الله عنه, قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم, فقلت: يا أمير المؤمنين ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء, طلبا للثواب, فقال رضي الله عنه: وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله. ولله در القائل: إذا ما مددت الكف التمس الغنى ..... إلى غير من قال اسألوني فشلت سأصبر جهدي في صيانة غرتي ..... وأرض بدنياي, وإن هي قلَّتِ وقال بعض الحكماء: عز النزاهة أشراف من سرور الفائدة. وفي الحكم: ربما استحيا العارف أن يرفع حاجته إلى مولاه اكتفاء بمشيئته, فكيف لا يستحي أن يرفعها لخليقته. وقوله: "ثم أباحوا لأهل جنسه, يعني أنهم أباحوا السؤال لإخوانه المحتاجين, وهم أهل جنسه, لأن الفقراء جنس, والعوام جنس, وهذا مندوب, ولم يعدوا هذا من السؤال وإنما هو من التعاون على البر والتقوى, وقد فعله عليه الصلاة والسلام لأصحابه حين قدموا عليه عراة فخطب على الناس, وقال: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" الآية, ثم قال تصدق رجل من ديناره, من درهمه, من صاع بره, ثم من صاع تمره, اتقوا النار ولو بشق تمرة. وكقوله للنساء يا معشر النساء تصدقن, ولو من حليكن. والكل منه عليه الصلاة والسلام للتشريع, وتحصيل الخير للسائل والمعطي, وليس على معنى المسألة "قاله الشيخ زروق رضي الله عنه" واليه أشار بقوله: "إذا كان خير الخلق في أترابه, والأتراب بالتاء المثناة من فوق الأقران, فإن أراد به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعله اطلع على نقل, وأن الأنبياء كانوا يسألون لأصحابهم, وإن أراد به غير ذلك, فلا تحمله اللغة, إذا الأتراب لا يطلق إلا على الأقران, والأقران هم المشاركون في الوصف, والله تعالى أعلم. ثم ذكر ضابط صحة السؤال, فقال: ولا تصف بصحة السؤال ..... من يؤثر الأخذ على الإبذال قلت: لا يسلم حال السؤال للفقير ويوصف بصحة قصده فيه, حتى يكون البذل والإخراج من يده أحسن عنده من القبض من الناس. قال الجنيد رضي الله عنه: لا يصح السؤال إلا لمن العطاء أحب إليه من الأخذ. وكذلك السلف الصالح: كان العدم أحب إليهم من التحصيل, والمنع أحب إليهم من العطاء, إذا أقبلت الدنيا, قالوا: ذنب عجلت عقوبته, وإذا أقبل الفقر, قالوا: مرحبا بشعار الصالحين, إلى غير ذلك من حكاياتهم رضي الله عنهم. ثم ختم الباب بمسألة التجريد, فقال: والشغل دون الكسب بالعبادة ..... محض التوكل, ورأي السادة ثم السؤال آخر المكاسب ..... وهو بشرط الاضطرار واجب قلت: الاشتغال بالعبادة والتجريد عن الأسباب من أعظم القرب عند ذوي الألباب, إذا لا يصفو الباطن من الأغيار ويملأ بالمعارف والأسرار, إلا إذا تخلص الظاهر من كثرة الأكدار, ولا يتخلص من الأكدار إلا إذا تجرد من الأسباب, واتكل على الملك الوهاب, قال تعالى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" وقال تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا, ويرزقه من حيث لا يحتسب" وقال صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير, تغدو خماصا وتروح بطانا", فصفاء الباطن من صفاء الظاهر, وتنشب الباطن من تنشب الظاهر, فالاشتغال بالعبادة دون الاكتساب هو محض التوكل على مسبب الأسباب عند السادات أولي الألباب. وقد تكلم الناس على درجات التوكل, وأحسن ما في ذلك ما قاله أبو حامد الغزالي, رضي الله عنه, قال في "الإحياء" التوكل مشتق من الوكالة, يقال وكل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه, ويسمى الموكل إليه وكيلا, ثم قال: فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده, ثم قال: فإن ثبت في نفسك بكشف أو اعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله, واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد, ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجمله العباد, وأنه ليس وراء قدرته قدرة, ولا وراء منتهى علمه علم, ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة, أتكل لا محالة قلبك عليه وحده, ولم يلتفت إلى غيره بوجه, ولا إلى نفسه وحوله وقوته, فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله, فإن الحول عبارة عن القدرة, فان كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك, فسببها أحد أمرين: إما ضعف اليقين, وإما ضعف القلب ومرضه, باستيلاء الجبن عليه, ثم قال: فإذن لا يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعا, إذا بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته, ثم قال: وإذا انكشف لك معنى التوكل, وعلمت الحالة التي سميت توكلا, فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاثة درجات: الأولى: ما ذكرناه, وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته وعنايته كحاله بالثقة بالوكيل. الدرجة الثانية: وهو أقوى: أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه, فإنه لا يعرف غيرها, ولا يفزع إلى سواها, ولا يعتمد إلا إياها, فان رآها تعلق بكل حال بذيلها, وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه: يا أماه, وأول خاطر يخطر على قلبه أمه فإنها مفزعة, لأنه قد وثق بكفالتها وشفقتها ثقة منه أنها ليست بتاركته, ثم قال: والفرق بين هذا وبين الأول, أن هذا قد فني في توكله عن توكله, إذ ليس يلتفت فيه إلى التوكل وحقيقته, بل إلى المتوكل عليه فقط, فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه, وأما الأول فمتوكل بالتكلف والكسب, وليس فانيا عن توكله, ثم قال. الدرجة الثالثة: وهي أعلاها أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في انه يرى نفسه ميتا تحركه, القدرة الأزلية كما تحرك يد الغاسل الميت, وهو الذي قوي يقينه بأنه مجرى الحركة والقدرة, والإرادة وسائر الصفات, فيكون عند الانتظار لما يجري عليه كالمبهوت, ويفارق الصبي بأن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها صياحا, وهذا المقام في التوكل يصحح منه ترك الدعاء والسؤال ثقة منه بكرمه وعنايته فإنه يعطى ابتداء أفضل مما يسئل, والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال, إنما يقتضي ترك السؤال من غيره. فان قلت: هل يبقى مع العبد تدبير وتعلق بالأسباب في هذه الأحوال, فاعلم أن المقام الثالث ينفي التدبير رأسا ما دامت الحالة باقية, بل يكون صاحبها كالمبهوت والمقام الثاني ينفي كل تدبير من الآن حيث الفزع إلى الله, لكن بالدعاء والابتهال, كتدبير الطفل في التعلق بأمه فقط, والمقام الأول لا ينفي أصل التدبير والاختيار, ولكن ينفي بعض التدبيرات, كالمتوكل على وكيله في الخصومة, فإنه يترك تدبيره من جهة غير الوكيل, ولكن لا يترك التدبير الذي أشار إليه وكيله به, أو التدبير الذي عرفه من عادته وسنته, دون صريح إشارته. انتهى المقصود منه مختصرا. والمختار في مسألة التجريد: ما أشار إليه ابن عطاء الله بقوله: "إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية, وإرادتك الأسباب مع إقامة إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العالية" وقال في موضع آخر: "من علامة إقامة الله إياك في الشيء تيسره لك مع حصول النتائج". وهذا كله مع عدم الشيخ, وأما من ظفر بالشيخ فهو الذي يقوم به تجريدا وأسبابا. وقوله: "ثم السؤال" الخ أشار به إلى الحديث: "... والمسألة أخر كسب الرجل" وقال أيضا صلى الله عليه وسلم في ذم كثرة السؤال: "إن الله ينهاكم عن وأد البنات, وعقوق الأمهات, ومنع وهات, وكره لكم: قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال" انتهى. وهذا آخر الفصل الثامن, وهذه الفصول الثمانية كلها مقدمة لما يذكره في هذا الفصل التاسع الذي أشار إليه بقوله: التاسع في "حكم المريد ومعنى الإرادة, وفائدة الشيخ, وتدريج المريد إلى أن يصير شيخا". قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وهذا الفصل هو لباب الكتاب, وسر الطريق ومدارها, وكل ما قبله أو بعده دائر عليه, وذكر فيه أربعة مواقف, لكل موقف معاقل ومعاهد يطول شرحها. قلت: أما حكم المريد, فالمراد ما يلزمه في بدايته من العلم الضروري, ثم المجاهدة في الأعمال الظاهرة, والاستقامة الكاملة, وما يلزمه في وسطه من الرياضات الباطنية, ومقاساة الأحوال السنية, ثم ما يلزمه في نهايته من الاستغراق في الشهود, والفناء في ذات المعبود, ثم الرجوع إلى البقاء بنظره إلى الحكمة والقدرة, وسيأتي تفسير المريد, ولماذا سمي المريد مريدا. وأما معنى الإرادة فهو: طلب السلوك إلى ملك الملوك, أو تقول: هي صدق الوجهة إلى الله بإفراد القصد إلى حضرة مولاه, فالمريد سالك, والمراد مجذوب, المريد محب, والمراد محبوب. وأما فائدة الشيخ, فهو جمع القلب لحضرة الرب, أو رفع حجاب الوهم بتحصيل حقيقة العلم, أو تدريج المريد في مقامات الإنزال وتبعيده عن القواطع والأشغال. وأما تدريج المريد فهو: نقله من شهود الحكمة إلى شهود القدرة, ومن شهود القدرة إلى شهود الحضرة, وهي شهود الذات, أو تقول: تدريجه هو نقله من شهود الأسماء إلى شهود الصفات, ومن شهود الصفات إلى شهود الذات, ثم من شهود الذات يرد إلى اثر الصفات, هذه طريقة السلوك. وأما طريق الجذب فهو: شهود الذات أولا, ثم شهود الصفات, ثم شهود الحكمة عين القدرة, والله تعالى أعلم. ثم أعلم أن الناس على ثلاثة أقسام: طالبون, ومريدون, ومرادون, فالطالبون هم الذين يطلبون الشيخ ويتعطشون إليه, أو هم الذين يطلبون الطريق إلى علم التحقيق, ولا يعرف الطريق إلا من سلكها, فإن علم الله صدقهم وصلهم إليه, والمريدون هم الذين اتصلوا بالشيخ واشتغلوا بالسير, وهو السلوك, والمرادون هم: الذين انجذبوا إلى الحضرة إما بعد السلوك وهم الكمل, أو قبله. فأشار الناظم إلى القسم الأول, وهو الطالب فقال:
9- في حكم التربية وتدريج المريد فإن أتى القوم أخو فتون ..... وقال: يا قوم أتقبلون؟ تقبلوه صادقا أو كاذبا ..... إذ كان محتوما عليهم واجبا قلت: الفتون: جمع فتنة, وهي ما يقطع عن الله: ويشغل القلب عن الحضور مع مولاه وأخوها هو: الملتبس بها, والمنهك فيها سواء كانت هذه الفنون ذنوبا أو عيوبا أو أشغالا أو أموالا أو أغيارا أو أكدارا, فإذا أراد الله أن يلخصه من تلك الفتن, سواء كانت ظاهرة أو باطنة, ألقي في قلبه الاضطرار إلى الله, وحسن الظن بعباد الله, فإذا أطلعه على سر ولي من أوليائه وأتى إليه, وقال له: جئتك لتقبلني وتأخذ بيدي, وجب عليه قبوله والأخذ بيده, لأن رده نوع من كتم العلم, وقد قال الله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب, أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" الآية. وأيضا رده إلى ما كان عليه فيه إعانة له على الدوام فيما هو فيه, والإعانة على المعصية معصية, هذا إن كان صادقا في إرادته, وأما إن كان كاذبا فلما فيه من تقليل المفاسد, وتعريضه لنفحة رحمة الله بالوقوف ببابه ومخالطة أوليائه, وهم قوم لا يشقى جليسهم, ولعل الله أن يفتح عليه بمثل ما فتح عليهم, إذ كل من تحلى بحالة لا يخلوا حاضروه منها فمن جالس العطار طاب بطيبه, ولله رجال من نظر إليهم نظرة سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا, ولله رجال إذا نظروا أغنوا غنى لا فقر بعده أبدا, رضي الله عنهم, وخرطنا في سلكهم أمين. ثم ذكر ما يؤمر به بعد الدخول, فقال: وحذروه من ركوب الإثم ..... وأمروه باقتباس العلم وأمروه بلزوم الطاعة ..... والماء والقبلة والجماعة وقرروا فيه شروط التوبة ..... وأمروه بلزوم الصحبة ثم أمدوه بعلم الظاهر ..... حتى استقامت عنده السرائر قلت: إذا أتى الفقير إلى الشيخ ليأخذ بيده, فأول من يلقنه الورد, فإن التلقين فيه بركة عظيمة, وقل أن ينهض الإنسان قبل التلقين, والتلقين سلسلة مروية عن السادات إلى سيدنا علي كرم الله وجهه, إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأمره بالتوبة ورد المظالم, وقضاء الدين بقدر الاستطاعة, ويحذره من الرجوع إلى ما كان عليه. ثم يعلمه ما يلزمه في دينه من طهارة وصلاة وما يتعلق بذلك إن كان جاهلا, وما تيسر من علم التوحيد خاليا عن الدليل, فأن كان الشيخ ليس من شأنه ذلك دفعه إلى من يعلمه. ثم يأمره بلزوم الطاعة من: صلاة, وصيام, وذكر, وغير ذلك, كل واحد ما يليق به, لأن الشيخ تقدم أنه يكون طبيبا ماهرا. ثم يأمره بالصحبة ولزوم مجالسة الشيخ, والاجتماع مع الإخوان, فطريق التربية ليست طريقة الإنفراد, وإنما هي طريق الاجتماع والاستماع والاتباع, فمهما انفرد المريد عن الإخوان, لم يكن منه شيء, فان تعذر إقامته مع الشيخ أمره بالزيارة والوصول, فمدد الشيخ جار إلى المريد, كالساقية أو القادوس, فإن كان يتعاهدها ويمشي معها بقي الماء جاريا وإن غفل عنها تخرم الماء وانقلب مع غيره. وأيضا: الوصول إلى الشيخ يدل على المحبة, والانقطاع يدل على نقضها, كما قال المجذوب رضي الله عنه: لا محب إلا بوصول ..... ولا وصول إلا غالي لا شراب إلا محتوم ..... ولا مقام إلا عالي ثم يذكره أولا بما يصلح جوارحه الظاهرة, وهي: التقوى, والاستقامة, فإذا صلحت جوارحه الظاهرة, أمره بالعزلة والصمت والجوع المتوسط, وفراغ القلب والفناء في الاسم المفرد, فإذا رآه تحقق فناؤه وكثر تعطشه, فتح له شيئا من علم الحقائق, وأمره بالتفرغ التام وقطع العلائق والزهد في الكونين, فإذا رآه أخذته حيرة أو دهشة دفع له علم الحقيقة, وأمره بتقليل ذكر اللسان وعمل الجوارح, وشغله بالفكرة, فإذا رآه لم يقدر على علم الحقيقة, أو رآه قنع بالعلم دون الذوق, أمره بتخريب الظاهر والتجريد التام, فإذا تمكن من الحقيقة, رسخت فيه ذوقا وتحقيقا, أمره بإرشاد الناس إن رآه أهلا, هذا الذي أخذنا به وفهمناه من طريق أشياخنا. والناظم رحمه الله قدم وأخر في هذا الترتيب, فذكر أنه أول ما يأمره بترك الآثام, ويحذره من ركوب الجرائم, وهذا هو المقصود من صحبة المشايخ وأخذ العهد عنهم, إذ لم يلتجئ لصحبة الأشياخ إلا بقصد الحفظ ببركة صحبتهم, وذلك محقق بفضل الله لمن صح صدقه وقويت نورانية شيخه. وأصل هذه العهد من السنة حديث عبادة بن الصامت قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة: "بايعوني على: ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوني في معروف" الحديث. ثم يأمره باقتباس العلم, فإن كان هو أهلا أمره بلزوم صحبته ليعلمه, وإلا دفعه إلى غيره كما تقدم, فلا بد للمريد بعد عقد التوبة من طلب العلم, إذ لا يجوز لأحد أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه, لقوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم" وقال تعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون". ولا يجب عليه التوسع في العلم لما فوق حاله, لأن ذلك فرض كفاية, ومتى نزلت به نازلة لزمه طلب علمها. ثم يأمره بلزوم الطاعة والقبلة والجماعة, يعني: الصلاة مع الجماعة, لأن الأمر الخاص لا يصح إلا بعد أحكام الأمر العام, لأن من لا يصلح أن يكون من عوام المتقين, لا يصلح أن يكون من خواص المقربين, فالشريعة باب, والحقيقة دخول مع الأحباب, قال تعالى: "وأتوا البيوت من أبوابها". ثم يأمره بالتوبة وتحقيق شروطها. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: شروط التوبة ثلاثة أقسام: شروط صحة, وهي ثلاثة: الندم على ما فات, والإقلاع في الحال والنية إلا يعود أبدا. وشروط تحقيق: وهي ثلاثة: تصميم القصد, لأن التوبة وإن صحت من بعض الذنب مع البقاء على ذنب آخر فصاحبها ناقص, وقل أن يسلم من العودة لما عنده من أصل المخالفة وأداء الحقوق الواجبة له من: الصلاة, والصيام, والزكاة, والكفارات, وغيرها, ورد المظالم المالية باتفاق, والعرضية على المشهور. وشروط كمال, وهي ثلاثة: التشمير في المستأنف, بدلا من التقصير في السالف, والفرار من موارد الفتن بكل وجه أمكن, والحرص على تحصيل الكمال له بأي وجه كان, فمن فاتته شروط الصحة فلا توبة له, ومن فاتته شروط التحقيق فهو عاص, وقل أن يسلم من آفات الانقلاب, ومن فاتته شروط الكمال لم يجد لتوبته لذة, ولا يدرك لها نتيجة, وكل واحدة لا تصح إلا بعد تحقيق ما قبلها. وقوله: "وقرروا فيه شروط التوبة" والمراد بالتقرير هو الأمر بها والحض عليها: المرة بعد المرة, والتنبيه عليها تفصيلا وإجمالا. ثم يأمره بلزوم الصحبة, يعني إن تأتي له ذلك, وإلا أمره بالوصول المرة بعد المرة كما تقدم, وفائدة الصحبة ثلاثة أمور: أحدها: أنها حصن من الانقلاب والرجوع, فإن رؤية الشيخ والجلوس معه ترياق مجرب, فلا تميل نفسه إلى الفضول أبدا ما دام مع الشيخ. وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: الجلوس مع العارفين أفضل من العزلة, والعزلة أفضل من الجلوس مع العوام, والجلوس مع العوام أفضل من الجلوس مع المتفقره الجاهلين. قلت: والجلوس مع علماء الظاهر أقبح في حق الفقير من جميع ما تقدم, والله ما رأيت فقيرا صحبهم فأفلح في طريق القوم أبدا, فلا قاطع أعظم منهم, إلا من عرف بالتسليم لأهل النسبة, وقليل ما هم. الثاني: أن علم القلوب إنما يقوي مدده بالصحبة, فمن تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها, والطبع يسرق من الطبع من حيث لا يعلم, "والمرء على دين خليله", و"المؤمن مرآة أخيه" وما كان في المرآة انطبع في المرآة المقابلة لها. الثالث:إن الإنسان مبتلي بنفسه, فإذا انفرد وحده ظهر له أنه على شيء, وليس كذلك, وقد تقدم هذا في فائدة الاجتماع, وربما ظفر به الشيطان, لأن الشاة المنفردة من سهم الذئاب، وفي الحديث "الشيطان يهم بالواحد والاثنين ولا يهم بالجماعة" "أو كما قال عليه الصلاة والسلام: فلا بد من صحبة أخ صالح أو شيخ ناصح لتحصل السلامة من الرعونات وغيرها ولا يتأدب الفقير وحده أبدا, وإنما يتأدب إذا صحب أهل الأدب فإن صحبهم تأدب أحب أم كره, وأيضا النفس الحية لا تموت ما دامت مع الأحياء, وإنما تموت إذا صحبت الأموات كما قال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه.ض ثم يمده بالعلم الظاهر, ومعناه أنه يذكره بعلم الشريعة علم الطريقة دون علم الحقيقة حتى إذا تهذب ظاهره وباطنه صلح لعلم الحقائق, ولا بد من الترتيب, فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته, ومن لا بداية له لا نهاية له. وقد قالوا: "من قدم الباطن على الظاهر فاته الباطن والظاهر, ومن طلب الباطن بالظاهر حصل له الباطن والظاهر, ومن طلب الباطن والظاهر تحير في الباطن والظاهر, والظاهر رأس مال, وما عداه ربح", ولذلك أمر به أئمة العلم والدين مجردا. وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن سأله أن يعمله من غرائب العلم: "ما فعلت في كذا وفي كذا" في أمور في أحكام الظواهر, ثم قال عليه الصلاة والسلام: "أذهب فأحكم ما هنالك وتعال أعلمك غرائب العلم". ثم من أصلح ظاهره على لسان الصدق فتح الله بصيرته برؤية الحق. قاله الشيخ زروق رضي الله عنه: ولما ذكر ما يتعلق بالبداية, ذكر ما يتعلق بالوسط من المجاهدات والرياضات, فقال: حتى إذا أنقاد مع الإفادة ..... وكاد أن يصلح للإرادة إذا للمريد عندهم حدود ..... لأجلها قيل له مريد فعندها رد إلى الأوراد ..... كالصمت والصوم مع السهاد وعاملوه بالمعاملات ..... إذا علموا مختلف العلات قلت: أما الانقياد إلى طلب الإفادة, فيكون بثلاثة أمور: بالزهد في نفسه, وفلسه, وجنسه. فالزهد في النفس بالإطلاق منها والغيبة عنها وإسلامها إسلاما كليا حتى يكون كالميت بين يدي الغاسل, والزهد في الفلس بالبذل والإيثار في الحاصل, وعدم التشوق إلى غير حاصل. والزهد في الجنس بالإنكار لمن يعرف, وعدم التعرف لمن لا يعرف. فإذا حصل هذه الثلاث استحق الإفادة وصلح للإرادة, والمراد بالإفادة إفادة العلوم الباطنية والأسرار الربانية, لكن بعد تحقيق التخلية والتحلية, وسيأتي عند قوله: ألقوا إليها من صفات النفس. الخ. وأما حدود المريد فثلاثة: مجاهدة, ثم مكابدة, ثم مشاهدة. فالمجاهدة في تقديم الظاهر, والمكابدة في تقديم الباطن, والمشاهدة ثمرة المكابدة. أو تقول: حدود الإرادة: قطع العلائق, وخرق العوائد, واكتساب الفوائد. فإذا تحققت فيه هذه الأمور سمي مريدا لتحقيق إرادته بمعرفة سيده, لأنه لما حصر الإرادة في إرادة واحدة, ولم يبق له مراد إلا محبة سيده سمي لذلك مريدا, وقيل غير ذلك فجواب "إذا" الذي هو عامل فيها هو قوله "رد إلى الأوراد" وما بينها معترض, والتقدير إذا صلح للإفادة والإرادة رد عند ذلك إلى الأوراد, وباعتبار السبك رد وقت صلاحيته للإفادة إلى الأوراد, ثم فسر تلك الأوراد التي يرد إليها بعد إصلاح ظاهره, فقال: كالصمت, وفيه سبعة آلاف حكمه, جمعت في سبعة: 1. عبادة من غير تعب 2. حصن من غير حائط 3. هيبة من غير سلطان 4. راحة الكرام الكاتبين 5. ستر الجاهل 6. زين العالم 7. قلة الاعتذار. ومن خواصه أنه يلقح الفكرة ويجلب الحكمة إذا كان مع الفكرة, وإلا فهو سهو, كما قال بعضهم: كل كلام بغير ذكر فهو لغو, وكل صمت بغير فكر فهو سهو, وكل نظر بغير عبرة فهو لهو, فالصمت الذي يصحبه الخواطر والوساوس هو بمنزلة الكلام, وأما الصوم فهو يعين على الجوع, وقد تقدم فوائد الجوع وأسراره, إلا انه لا ينبغي الإفراط فيه, "فخير الأمور أوسطها". و"السهاد" هو: السهر والمراد, قلة النوم, حتى لا يزيد على القدر المحتاج. قال أحمد بن عامر رضي الله عنه:أعداؤك أربعة: الشيطان وسلاحه الشبع, وسجنه الجوع, والهوى, وسلاحه الكلام, وسجنه الصمت, والدنيا, وسلاحها لقاء الخلق, وسجنها الخلوة, والنفس, وسلاحها النوم وسجنها السهر. ثم المطلوب من هذه الأربع الوسط والأخذ بالأهم, فمن كان الجوع أحب إليه من الشبع لم يأكل فوق حاجته, ومن كان الصمت أهم إليه من الكلام لم يتكلم إلا فيما يعنيه, ومن كان الخلوة أهم إليه من الخلطة لم يرتح للقاء الناس, بل يستوحش منهم, ومن كان السهر أحب إليه من النوم لم ينم فوق الحاجة, والإفراط مضر في كل شيء, فمن الجوع مضر بالفكرة ومن الصمت مضر بالحكمة, ومن السهر يؤدي إلى الحمق, ومن الخلوة يؤدي إلى الملل, قال الشيخ زروق رضي الله عنه. وقوله "وعاملوه بالمعاملات" أي بالمعاملات التي فيها دواؤه, فمن تليق به العزلة عاملوه بها ودلوه عليها, ومن تليق به الخلطة دلوه عليها, وهكذا, إذا ليست معاملة أهل البداية كمعاملة أهل النهاية, وليست معاملة السائرين كمعاملة الواصلين. وقوله: "إذ علموا" الخ يعني أنهم إنما عاملوا المريدين بمعاملات مختلفة, لأجل ما علموا فيهم من العلات المختلفة فعاملوا كل واحد بما فيه دواؤه. وفي بعض النسخ "كقرب نفسه من الفلات" وهو إشارة إلى العزلة. وفي الحكم:ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة. وقد أشبعنا الكلام عليها في شرح الحكم, والله تعالى أعلم. ثم ذكر سر دلالته على الأعمال دون الحقائق, فقال: ولم يحيلوه على الحقيقة ..... إذ لم يكن مستوفي الطريقة لكن أحالوه على الأعمال ..... لأجل ما فيها من النوال إذ الطريق إلى العلم ثم العمل ..... ثم هبات بعدها تؤمل قلت: الحقيقة شهود القدس وإنما لم يحيلوه على الحقيقة, أي لم يطلعوه عليها قبل استيفاء الطريقة, لأن الحقيقة أمرها هائل لا ينالها إلا الشجاع الصائل, وفي ذلك يقول الشيخ الجيلاني "كذا في عينته". وإياك جزعا لا يهولك أمرها ..... فما نالها إلا الشجاع المقارع فلا تطاق إلا بعد موت النفوس وحط الرؤوس وتصفية البواطن من الأغيار وتحليتها بالأنوار, فمن أطلع عليها قبل ذلك خيف عليه التزندق, لأن الحقيقة لا تدرك بالعلم, وإنما هي أذواق ووجدان, نعم: قد تكون علما, ثم تصير ذوقا, لمن راض نفسه بالشريعة, وعظم صدقه, فإنه يأخذها علما وتصير ذوقا. وأيضا اطلاعه على الحقيقة قبل كمال الطريقة توجب له التقصير في الأعمال والتفتر في الخدمة, فإن الحقيقة حلوة قد يشتغل بها ويهمل الشريعة, ولذلك قيل: من تصوف ولم يتشرع فقد تزندق لتعرية الحقيقة عن الشريعة, وهذا معنى قوله "ولم يحيلوه على الحقيقة إذ لم يكن شيء" أي حيث لم يكن مستوفيا لعمل الطريقة, لكن أحالوه على الأعمال, والمراد بالأعمال هنا: العمل الظاهر, كالصلاة والصوم والصمت والعزلة وذكر الله, ويكون ذكرا واحدا, وهو الاسم المفرد الذي هو اسم الله الأعظم, وسلطان الأسماء. هذه طريقة الشاذلية, وسيأتي للناظم التنبيه عليه, وإنما أحالوه على الأعمال لما فيها من النوال, أي العطاء, والمراد به نتائجه, فكل ذكر له نتيجة وثمرة تخصه, كما ذكره ابن جزي في تفسيره عند قوله تعالى "فاذكروني أذكركم" قال: واسم الجلالة وهو "الله" جامع لتلك الثمرات كلها. وفي بعض النسخ "لأجل ما فيها من المنال" أي نيل ما يقصده الذاكر ويتمناه, ثم يذكر علة تقديم العمل على التحقيق, فقال: "إذ الطريق العلم, ثم العمل, ثم هبات, وهي مواهب الأسرار, فبعد العلم العمل, ثم الحال, ثم الذوق, ثم الشرب, ثم الري, ثم السكر, ثم الصحو, ثم شهود وعيان, والعمل حينئذ فكرة ونظرة وآداب مع الحضرة, والله تعالى أعلم. ثم ذكر كيفية انتقال العلم إلى الباطن, فقال: حتى إذا أحكم علم الظاهر ..... وأبصروا القبول فيه ظاهر ألقوا إليه من صفات النفس ..... ما كان فيها قبل ذا من لبس وهي إذا أنكرتها فلتعرف ..... إحدى وتسعين, وقيل نيف قلت: ثم لا يزال الشيخ بأمر المريد بعمل الظاهر, كصلاة وصيام وعزلة وصمت وذكر لسان, حتى إذا رآه أتقن علم الظاهر وذاق سره وحلاوته, فيكون قد ذاق حلاوة الصلاة والصيام, وحلاوة العزلة والصمت, حتى تكون العزلة عنده أشهى من الخلطة, والصمت عنده أحلى من الكلام, وذكر الله قد امتزج معه, حتى لو أراد أن يسكت ما سكت, فهذا علامة إتقان أحكام الظاهر, وصار قبوله لعلم الباطن ظاهرا, فحينئذ يلقى إليه من صفات نفسه ما كان ملتبسا عليه, كحب الجاه أو الرياسة, أو حب المال, أو الغضب أو القلق أو غير ذلك من أوصاف النفس التي يتعذر حصرها, حتى قال بعضهم: "للنفس من النقائض ما لله من الكمالات", وقال الناظم: أنها تزيد على تسعين, بتقديم التاء. وقد ذكر السلمي نبذة صالحة, فلنذكره بنصه, لأن عادة الناظم النسج على منواله, فقال رضي الله عنه: وأما أخلاق النفس, فمنها: الكبر, والعجب, والفخر, والخيلاء, والغل, والغش, والبغض, والحرص, والأمل, والحقد, والحسد, والضجر, والجزع, والهلع, والطمع, والجمع, والمنع, والجبن, والجهل, والكسل, والبذاء والجفا, واتباع الهوى والازدراء, والاستهزاء, والتمني, والترفع, والحدة, والسفه, والطيش, والمراء, والتحكم, والظلم, والعداوة, والمنازعة, والمعاندة, والمخالفة, والمغالبة, والمزاحمة, والغيبة, والبهتان, والكذب, والنميمة, والتهويس, وسوء الظن, والمهاجرة, واللؤم, والوقاحة, والغدر, والخيانة, والفجور, والشماتة, إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. فيجب على المريد معرفتها ومجانبتها, والمجاهدة في تبديلها بأحسن منها, فمن لم يعرف ذلك لم يزدد مع مرور الأيام إلا إدبارا, فيبدل الكبر بالتواضع, والحدة بالتؤدة, والكذب بالصدق, وبالله التوفيق, انتهى. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وأصول الأخلاق المذمومة ثلاثة: الرضا عن النفس, وخوف الخلق, وهم الرزق, فيتولد من الأول: الشهوة, والغفلة, والمعصية. ومن الثاني: الغضب, والحقد, والحسد. ومن الثالث: الحرص, والطمع والبخل. ثم قال: لكن التزام أصل واحد ينفي جميعها, وهم عدم الرضا عن النفس في جميع الأحوال, والحذر منها في كل الأوقات. قال في الحكم: أصل كل معصية وشهوة وغفلة: الرضا عن النفس, وأصل كل طاعة ويقظة وعفة, عدم الرضا منك عنها, ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه. فأي علم لعالم يرضى عن نفسه, وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه. قوله: "حتى إذا أحكم علم الظاهر" هو على حذف مضاف, أي أتقن عمل علم الظاهر لأن الإتقان إنما هو العمل, إذ هو الذي أمره به, وهي فائدة صحبة الشيخ كما تقدم في الاجتماع, والله تعالى أعلم. ثم ذكر كيفية موت النفس, فقال: فجرعوها كؤوس المنون ..... وهي تنادي: كيف تقتلوني قلت: التجرع هو تكلف الشرب, يعني أن المريدين إذا أراد الشيخ أن ينقلهم إلى عمل الباطن, أمرهم بقتل نفوسهم ليكون ذلك سببا في حياة أرواحهم, كما قال ابن الفارض: فالموت فيه حياتي ..... وفي حياتي قتلي "فجرعوها" أي سقوها كرها "كؤوس المنون" جمع كأس, على وزن فعل, والمنون: الموت, يعني أنهم تجرعوا في قتل نفوسهم مرارة الموت, وذلك بخرق عوائدها وردها عن شهواتها, وأعظم العوائد: العز, والجاه, فلا تنتقل إلى الذل والهوان والخمول إلا بعد جهد جهيد, وقتل شديد, فإذا صار عندها الذل والعز والخمول والظهور سواء, فقد تحقق موتها. قال محمد بن خفيف رضي الله عنه: لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء: في المنع, والعطاء, والعز, والذل. وقال الشيخ أبو مدين: من لم يمت لم ير الحق تعالى. قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: لا دخول على الله إلا من بابين: إما بالفناء الأكبر الذي هو الموت الطبيعي, أو بالفناء الأصغر الذي تعنيه هذه الطائفة. وقال بعضهم: لا يدخل على الله حتى يموت أربع موتات: الموت الأحمر, وهو: مخالفة النفس, والموت الأسود, وهو احتمال الأذى من الخلق, والموت الأبيض وهو الجوع, والموت الأخضر وهو لبس المرقعات. وفي رواية وهو: طرح الرقع بعضها على بعض. وقال الشيخ زروق رضي الله عنه: موت النفس لا يكون إلا بثلاث: عزلها عن مواردها, بحيث لا يتحرك ولا يسكن إلا بتحقيق نية توافق العلم من غير هوى, ثم الإعراض عن كل ما تلتذ به في عالم الأجسام والطباع والعلوم والأعمال والمعاني والمباني والحقائق, ثم ترك الإنسان ما تميل إليه من ذلك أو من غيره, ولذلك قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: ولن يصل الولي إلى الله تعالى حتى تنقطع عن نفسه شهوة الوصول, يعني انقطاع أدب واستسلام, لا انقطاع ملل, وكذا قال ابن عطاء الله رحمه الله, ومن هذا القبيل دعاء الشيخ أبي محمد عبد السلام بين مشيش حيث قال: "اللهم أني أعوذ بك من برد الرضا والتسليم, كما يستعيذ بك أقوام من حر المعصية والتدبير". ومنه قول الواسطي رحمه الله: استحلاء الطاعة سم قاتل. وقوله: "وهي تنادي" الخ نداؤها بلسان حالها القريب من لسان المقال, وقد يسمع ذلك الإنسان من باطن النفس كأنه حسي مقالي, وقد تتمنى الموت الحسي اختيارا, فلا تزال كذلك حتى ترتاض وتتهذب, وهي علامة موتها, والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى عمل أهل الاستشراف فقال: فعندما مالت إلى الزوال ..... أدخل في خلوة الاعتزال وقيل: قل على الدوام: الله ..... وأحذر كطرف العين أن تنساه قلت: ميل النفس إلى الزوال هو: إعطاؤها الطوع من نفسها, بحيث يتصرف فيها صاحبها بلا نزاع منها, فهي حينئذ قريبة للموت, مشرفة على الزوال, فعند ذلك يدخله الخلوة, أي يأمره بها, ويحضه على ذكر الاسم المفرد, حتى لا يفتر عنه ساعة. قلت: وهذا التدريج الذي ذكره الناظم ليس بلازم لكل الشيوخ, ولا لكل المريدين أن يسلكوه, بل من الشيوخ من يلقن الاسم من أول مرة إذا رأى الفقير أهلا له, ويأمره بقتل نفسه مع ذكر ربه, بحيث يجعل له وقتا يذكر فيه ربه, ووقتا يقتل فيه نفسه, وهذا الذي أدركنا عليه أشياخنا بأمر الفقير بالخلوة في أول النهار إلى وقت العصر, ثم يخرج إلى السوق ويعمل في الأحوال الصافية ما تموت به نفسه, فيكمل فناؤه في الاسم مع موت نفسه, فيقرب وقت فتحه, ومن المريدين من لا يحتاج إلى خلوة, بل يأمره بالخلطة من أول مرة, والناس معادن وطبائع, والعلل متفاوتة, والفتح من الله من غير توقف على الأسباب, إلا أن الحكمة جارية مع القدرة, والله تعالى أعلم. قال الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله: ولقد أردت في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد والصوم والصلاة فلما علم الله صدق نيتي فيض لي وليا من أوليائه, قال لي: يا بني اقطع من قلبك كل علاقة إلا الله وحده, وأخل بنفسك, واجمع همتك وقل "الله, الله, الله" ولا تزد على ما فرض الله عليك شيئا إلا الرواتب, وقل هذا الإسلام بلسانك وقلبك وسرك, وأحضر قلبك, واجمع خاطرك, ومهما قالت نفسك: ما معنى هذا, فقل لها: لست مطلوبا بمعناه, وإنما قال تعالى: "واذكر اسم ربك وتبتل إليك تبتيلا". ثم ذكر ما يفعل في حال خلوته مع الذكر, فقال: ووكل الشيخ به خديما ..... يلقى إليه القول والتعليما وقيل: إن تكتم من الأحوال ..... شيئا سلكت سبل الضلال فليس عند القوم باللبيب ..... من لم يصف شكواه للطبيب قلت: أما توكيل الشيخ بالفقير الخديم, فلعله كان في الزمان القديم, فكان الشيخ إذا أتى إليه الفقير وعلمه ما يلزمه في حال نفسه أدخله الخلوة وأمره بالذكر, ووكل به الخديم يلقى إليه القول الذي يأمره به الشيخ من الأذكار التي تليق به, ويعلمه ما يحتاج إليه في سيره ويشترط في الخديم أن يكون أعلى منه علما وحالا وذوقا. قلت: وهذه الكيفية قد انقطعت اليوم, ولعلها هي التي قصد الشيخ الحضرمي: نعم بقي اليوم عوض الخديم: تذكير الفقراء بعضهم بعضا, فيأمر الشيخ من يراه أهلا للتذكير, فيدور على الفقراء أينما كانوا يذكرهم وينبههم ويزيد بهم إلى الله كما يزيدون به, ولذلك كانت السياحة للفقير في بدايته أمرا كبيرا, وزيارة الشيوخ: سبب في التمكين والرسوخ فهذه الحالة اليوم أغنت عن الخديم والخلوة, ولا ينبغي للفقير أن يكتم شيئا من أحواله عن الشيخ, قلت أو جلت, لأن الشيء اليسير يورث الشيء الكثير, فليس باللبيب من لم يصف دواءه للطبيب, فإن تعذر عليه الوصول إلى الشيخ وقد عرض له مرض أو أمر فليشخص شيخه بين عينيه بصفته وهيئته, ويشكو له فإنه يبرأ منه بإذن الله, وإن كان مع جماعة واستحيا فليشتك إليه في قلبه وإن كتم ذلك فهو حسن, والله تعالى أعلم.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:19 pm
الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
تابع 9- في حكم التربية وتدريج المريد ثم ذكر نتائج الذكر ونهايته, فقال: فلم يزل مستعملا للذكر ..... فيصمت اللسان وهو يجري وقدر ما تجوهر اللسان ..... بالاسم يستثبته الجنان ثم جرى معناه في الفؤاد ..... جري الغذا في جملة الأجساد فعندها حاذي مرآة القلب ..... لوح الغيوب وهو غير مخب فأدرك المعلوم والمجهولا ..... حيث اقتضى لتركها قبولا قلت: فإذا دخل الفقير الخلوة فينبغي أن يستعمل معها العزلة, وهي عزلة القلب فالخلوة للأشباح, والعزلة للقلوب, فلا بد فيها من التفرغ الكلي, وإلا لم ينتفع بها. وفي الحكم: ما نفع اللب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة. فالمقصود من الخلوة هو دواء القلب, ولا يشفى القلب إلا إذا تفرغ من الأخلاط الردية فإن القلب كالمعدة كلما كثر عليه الأخلاط مرض, وهي الخواطر والشواغب, فإذا تفرغ القلب نفعه الذكر, وإلا فلا, ثم لا يزال مستعملا للذكر لهجا به, حتى يصمت اللسان, ويبقى الجنان ذاكرا, وينبغي أن يستثبت الجنان ما يذكره اللسان, فان ذكر اللسان بلا جنان قليل النهوض إلى حضرة العيان, ثم لا يزال يذكر بلسانه ويستثبه بجنانه حتى يجري معناه في فؤاده, ويتمكن نوره في قلبه, ثم يجري ذلك في جميع أعضائه كما يجري الدم في سائر جسده, وكما يجري الماء في الأغصان الرطبة, فيكون البدن كله يتحرك بذكر الله. ولقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه يقول: بقيت أربع سنين نذكر الاسم المفرد, حتى كان البدن كله يتحرك بالذكر, فكنت إذا وضعت يدي على فخذي لنسكنه تحرك الفخذ الآخر, وإذا وضعت يدي على الفخذ الآخر تحرك الفخذ الآخر. فإذا صفت مرآة القلوب وتجوهرت, فعند ذلك يحاذيها لوائح الغيوب, وهي أنوار المواجهة تقدمة لأنوار المشاهدة, لأن المشاهدة تكون لوائح, ثم طوالع, ثم تشرع شمس العرفان, فما لها غروب عن العيان, فعند ذلك يكاشف بحقائق الأشياء, فيدرك سر كل موجود, ويعلم حقيقة كل معلوم, وكل مجهول, يعني ما كان مجهولا صار عنده معلوما, وما كان معلوما أدرك سره وحكمته, وهنا يطلع على سر المتشابهات وحقائق المشكلات, فتتسع عليه دائرة العلوم, وتخرق له مخازن الفهوم, ويخرج إلى فضاء الشهود ويصير حاكما بسره على الوجود, فلا تقله أرض, ولا تظله سماء, قد فتحت له ميادين الغيوب, وتطهر من جميع المساوئ والعيوب: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون". فقوله: "فيصمت اللسان وهو يجري" يعني أنه ينطبع الذكر في القلب انطباعا كليا, حتى يجري الذكر على القلب, ولو سكت اللسان, وهذا هو المقصود من الذكر, وقوله: "وقدر ما تجوهر" الخ. يحتمل أن يكون إنشاء, ومعناه الأمر باستثبات القلب عند ذكر اللسان أي ويستثبت الجنان ما ذكره اللسان, فيكون بقدر ما تجوهر اللسان يستثبته, ويحتمل أن يكون إخبارا, ومعناه: وبقدر ما يتجوهر اللسان بالذكر يدخل في القلب فيستثبته فيكون فيه الحض على ذكر اللسان, لعله يدخل الجنان, والاحتمال الأول فيه الحض على الحضور عند ذكر اللسان, وهو أولى, لأن ذكر اللسان إذ لم تصحبه مجاهدة لا يفضي إلى القلب, ولو كثر. وقوله: "ثم جرى معناه في الفؤاد" يعني أنه ينصبغ القلب بمعنى الذكر حتى لا ينفك عنه, وهي الطمأنينة بذكر الله. وقوله: "فعندما حاذي مرآة القلب" أي فعند انصباغ القلب بالذكر وطمأنينته به, يحاذي مرآة قلبه الصافية المجلوة بأنوار الغيوب, وهو الذي أراد بقوله: "لوح الغيوب" وتسمى اللوائح, وإنما قصره الوزن, فإذا اطلعت له لوائح الغيوب ظهر ما كان مختبئا, أي خفيا من أنوار الشهود, فانطوى عند ذلك وجود كل موجود, وفي ذلك يقول الششتري: لقد تجلى ما كان مخبي ..... والكون كل طويت طي مني علي دارت كؤوسي ..... من بعد موتي تراني حي وفي بعض النسخ "فعندما حاذي أمير القلب" أي وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف أي فعند جرى الذكر في الفؤاد حاذي القلب الذي هو سلطان الجسد, لوائح الغيوب, وفي بعض النسخ بلفظ "ما" المصدرية بعد "عند" والعامل في الظرف "فأدرك" أي: فأدرك عند محاذاة لوح الغيوب سلطان القلب المعلوم والمجهول. وقوله: فأدرك المعلوم والمجهول, يعني: أنه لما طلعت عليه شمس المعارف أدرك سر ما كان مجهولا, حيث عرف سر وجوده, وغاب عن شهوده بشهود معبوده. وقوله: "حيث أقتنى لدركه قبولا" يعني أنه لا يدرك سر المعلومات والمجهولات, إذا اقتنى, أي ادخر لذلك قوة باستعداده لذلك, وهو التفرغ التام, فبقدر تفرغه من الأشياء يكشف لك عن شهود المكون, أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون, فإذا شهدته كانت الأكوان معك, ومحل أن ترتبط مع الأكوان وتطلع على أسرار مكونها فيها, والله تعالى أعلم. ذكر مخاطبات الحق له على ألسنة الهواتف, فقال: حتى إذا جاء بطور القلب ..... خوطب إذ ذاك بكل خطب فقيل لو عرفتني بكوني ..... قيل: إذن فاخلع نعال الكون قلت: إذا وصل النور من ناحية المذكور إلى جبل الطور, وهو قلبك المستور, بحجاب هيبة المذكور, رفع عنه الستور, وخاطبه حينئذ بكل أمر جميل, فلم تعلم نفس ما خصص به من المساررة والمصافاة والمكللة والمناجاة, فيناديه لسان الملكوت مترجما عن عالم الجبروت, يا أيها العبد الشائق إلى حضرتي لتعاين سر قدرتي, هلا عرفتني بكوني, وقنعت بذلك مني, فيقول العبد المشتاق إلى حضرة التلاق لا أريد إلا وجهك الكريم, ومشاهدة سرك العظيم, فيقول له الحق جل جلاله: إذا أردت هذا الخطب الجسيم, والأمر العظيم فاخلع عنك نعال الكونين, وتخط بقدم همتك نعيم الدارين, فإذا خلعت عنك الحظوظ والهوى, فأنت بالوادي المقدس طوى, وأنشدوا: واخلع النعلين أن جئت إلي ..... ذلك الحي ففيه قدسنا وعن الكونين كن منخلعا ..... وأزل ما بيننا من بيننا وإذا قيل: من تهوى؟ فقل ..... أنا من أهوى, ومن أهوى أنا فهذه مسايرة كلام الناظم, ولنرجع إلى تفسير ألفاظه, فنقول "حتى إذا جاء ذلك اللائح الذي عبر عنه بلوح الغيوب, وهو النور الذي أثمره الذكر, حاذي مرآة القلب, أي وصل لطور القلب الذي هو محل المناجاة, ومعدن المصافاة, فهو كجبل الطور الذي وقعت عليه مناجاة الكليم عليه السلام, فإذا وصل إليه ذلك النور, ورفعت عنه الحجب والستور, "خوطب إذ ذاك" أي حين وصل النور إلى القلب "بكل خطب" له أمر جليل, وهذه المخاطبات تكون هواتف من ناحية القلب, فيجب تصديقها حيث انقطعت الخواطر الردية عنه, وتكون أيضا مخاطبات على السنة الهواتف الكونية, فيسمع العارف منها كل ما يحتاج إليه, وهذا أمر مجرب لمن ذاق الفهم عن الله, وفي ذلك يقول الششتري: أنا بالله أنطق ..... ومن الله أسمع وقال أيضا: أسمع كلامي وأنتبه ..... إذ أنت تفهم لأن كنزك قد عري ..... عن كل طلسم من هو المكلم والكليم ..... على طور الإفهام والحاصل أن هذه الخطابات الهواتفية والكونية لا تكون إلا لمن صفت مرآة قلبه من الأغيار, ولم يشاهد إلا الأنوار والأسرار, فحينئذ يخاطب من كل ناحية, ويسمع التأييدات من كل جانب. ولقد كنا في بعض أسفارنا لا نسافر من موضع إلا بإذن من الله ولا نقيم إلا كذلك, وما ذلك إلا ببركة صحبة العارفين بالله. وقوله: "فقيل لو عرفتني بكوني" يعني أن السالك إذا أشرقت عليه لوائح الوصول, وهب عليه نسيم القبول, وجد في طلب بلوغ المأمول, يقول له الحق تعالى اختبارا لصدقه: يا عبدي هلا قنعت بمعرفة الدليل فتعرفني بنظرك لكوني, فيقول العبد: يا رب لا أريد إلا معرفة ذاتك, فإذا قال له ذلك يقول له الحق جل جلاله: إن أردت ذلك فاخلع عنك نعال الكونين, وتحقق بالزهد في الدارين, تحصل لك مِنّا قُرّةُ العين. قال بعض العارفين: قيل أول ما يقول الله للعبد: اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك, فإن قال: لا, ما أريد إلا أنت, قال له: من دخل هذا معي, فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ, ورفع الحدوث, وإثبات القدم, وذلك يوجب لك العدم, وأنشدوا: من لك يكن بك فانيا عن حظه ..... وعن العنا والأنس بالأحباب فلأنه بين المنازل واقف ..... لمنال حظ أو لحسن مآب والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ثمرة الزهد وخلع النعل, فقال: ثم فني عن رؤية العوالم ..... ولم ير في الكون غير العالم ثم انتهى لفلك الحقيقة ..... فقيل: هذا غاية الطريقة قلت: إذا تحقق زهد المريد في الكونين, وغاب عن حظه في الدارين, أشرق عليه نور الإيقان, فغطى وجود الأكوان, فما حجب العباد عن الله إلا تعلق القلب بالحظوظ والعمل على الحروف, فلو تحرروا من رق الحظوظ, وعملوا على نعت العبودية والقيام بوظائف الربوبية, لأشرقت عليهم الأنوار, وغابوا عن شهود الآثار, فتلعق القلب بالحظوظ النفسانية, يمنع من مقام المراقبة, وتعلقه بالحروف الروحانية يمنع من مقام المشاهدة فالحروف الروحانية تمنع من مقام المشاهدة, والحروف الظلمانية تمنع القرب من القريب, والحروف الروحانية تمنع شهود الحبيب, فالحروف الظلمانية هي الشهوات الحسية, والحروف الروحانية هي الشهوات المعنوية, كطلب الخصوصية والكرامة والمعرفة فلا تدرك المقامات إلا بالزهد فيها. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: "ولن يصل الولي إلى الله ومعه شهوة من شهواته أو تدبير من تدبيراته, أو اختيار من اختياراته". وتقدم قول الشيخ أبي العباس رضي الله عنه: لن يصل الولي إلى الله حتى تنقطع عنه شهوة الوصول, أي حتى يزهد فيه أدبا واكتفاء بعلم الله. وأعلم أن هذه الحظوظ القاطعة عن الله هي التي يسميها شعراء الصوفية في تغزلاتهم: "عواذل ورقباء" كما قال الششتري رضي الله عنه: يا أخي افن تشهد ..... كل سر عجيب وتجول في المشاهد ..... حين قرب الحبيب حيث لاثم حاسد ..... أو عذول أو رقيب قوله: ثم فني عن رؤية العوالم, أي ثم بعد تحقيق الخلع عن الكونين يفنى عن رؤية العوالم حين تتلطف وتصير معاني. أو تقول حين تنقلب أنوارا ملكوتية بعد أن كانت ظلمات ملكية, فإذا غابت العوالم بقي الخبير العالم. أو تقول: فإذا غابت الأواني بقيت المعاني. أو تقول: فإذا غاب الكون بقي المكوّن, وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه: جميع العوالم رفعت عني ..... وضوء قلبي قد استفاق تراني غائبا عن كل أين ..... كاس المعاني حلو المذاق وقوله: "ثم انتهى لفلك الحقيقة" وهو مرتب على ما قبله, فمهما غاب عن العوالم انتهى لفلك الحقيقة, والحقيقة هي شهود العظمة بالعظمة, أو شهود حق بحق, وتقدم قريبا تفسيرها أيضا بتفسير آخر, وفلكها أنوارها المحيطة بالأكوان المغيبة لها. قال في الحكم: "محقت الآثار بالآثار, ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار". وفلك الحقيقة هو عالم الجبروت الأصلي, فإذا انتهى المريد إلى ذلك, وتمكن فيه, فقد انتهى سيره, وذلك غاية الطريق إلى عين التحقيق, قال تعالى: "وأن إلى ربك المنتهى" وبالله التوفيق. ثم ذكر مقام الشهود, فقال: ثم أمتحى في غيبة الشهود ..... فأطلق القول: أنا معبودي حتى إذا رد عليه منه ..... أثبت فرقا حيث لم يكنه قلت: العبد في حال غفلته يكون مبتلي برؤية نفسه, واقفا مع شهود حسه, مسجونا بمحيطاته, محصورا في هيكل ذاته, فإذا أراد الله تعالى أن يرفع عنه الحجاب, ويدخله في حضرة الأحباب, ألقاه إلى ولي من أوليائه, وعرفه سر خصوصيته واصطفائه, فلا يزال يسير به ويحاذيه, ويخرق عليه عوائد نفسه ويغيبه عنها, ويزهده في فلسه وجنسه، فإذا رآه الشيخ قد رق في حقه الحجاب, واستحق الانخراط في سلك الأحباب, فتح له الباب, وقال له: ها أنت وربك, فإذا زج في حضرة النور, ورفعت عنه الستور, أنكر الوجود بأسره, وأنكر وجود نفسه, فامتحق وجوده في وجود محبوبه, وانطوى شهوده في شهود معبوده, فأنشأ يقول: أنا من أهوى ومن أهوى أنا, وأنا المحب والحبيب, ليس ثم ثاني. فإذا تمكن في الشهود, وتحقق برؤية نور الملك المعبود رد عليه صحوه ورجع إليه سلوكه, فأثبت فرقا في عين الجمع قياما بوظائف الحكمة في عين شهود القدرة, فيكون الجمع في باطنه مشهودا, والفرق على ظاهره موجودا, فرقا لفظيا لا حقيقيا, أدبا مع الربوبية, وقياما بوظائف العبودية, فلا تبتهج رياض الملكوت إلا بزهر جمال الشريعة المحمدية. وقد قلت: في قصيدة سايرت بها تصلية ابن مشيش رضي الله عنه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: رياض بساتين المعارف بهجت ..... بزهر جمال من شريعة احمد كذاك بحار الجبروت تدفقت ..... بأنواره في كل غيث ومشهد قوله: "ثم أمتحى في غيبة الشهود" أي أمتحى وجوده في وجود الحق. قال في الحكم: الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته. وقال أيضا في الكلام على الإشارة بل العارف من لا إشارة له, لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده. وقوله: فأطلق القول أنا معبودي, إطلاق هذا القول لا يسلم له, إلا في حالة القوة والجذب, وإلا فقد علمت ما وقع للحلاج, وهو لي الله حقا, وفي معنى ذلك قيل: ومن شهد الحقيقة فليصنها ..... وإلا سوف يقتل بالسنان كحلاج المحبة إذا تبدت ..... له شمس الحقيقة بالتدان وقال آخر: بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ..... وكذا دماء البائحين تباح قال ابن خلدون: قتل الحلاج بفتوى أهل الظاهر, وأهل الباطن: أهل الشريعة وأهل الحقيقة, لأنه باح السر, فوجبت عقوبته. ومنن أفتى بقتله: الجنيد, والشبلي, غيرة على السر أن يفشى لغير أهله, فالواجب كتم الأسرار, وإظهار شريعة النبي المختار, ولله در الششتري حيث يقول: شق ثوب الوهم شقه ..... ترتفع عنك المشقة إن منك اليوم شوقا ..... فافن عن ذاتك ترقى فإذا حققت ذاتك, وانتهى بادي صفاتك, قف على طور سينائك, واجعل الوجد حياتك, وأفن به حتى تكن, إياك أن تقولك أناه. وأحذر أن تكون سواه. وقوله: "حتى إذا رد عليه منه" هو على حذف المضاف, أي حتى إذا رد عليه من شهود نفسه, أي بربه, فحينئذ أثبت فرقا لتظهر العبودية في مظهر الربوبية, سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية, وظهر بعظمة الربوبية في مظاهر العبودية, فربوبية بلا عبودية نقص, وعبودية بلا ربوبية محال, وبهذا الفرق ثبت التكليف. قال شيخ شيوخنا سيدي علي العمراني رضي الله عنه في كتابه: أعلم أن الكف صفة من أوصاف الفرق, وعدم الكلف صفة من أوصاف الجمع, والفرق عبودية, وهو حق, والجمع ربوبية وهو حق أيضا, صار الحق هو القائل وهو المستمع لما قال, لأجل هذا المعنى تجد هؤلاء المتوجهين إلى الله تعالى: من غلب عليه شهود الجمع, تجده في غاية البسط والراحة من الكلف, ومن غلب عليه شهود الفرق, تجده في غاية القبض والتعب والكلف ويرحم الله القائل: الرب حق, والعبد حق ..... يا ليت شعري: من المكلف؟ إن قيل: عبد, فالعبد ميت ..... أو قيل رب: أنى يكلف؟ وقد أجابه سيدي عبد الرحمن الفاسي, نفعنا الله بالجميع بقوله: نعم بحق إثبات عبد ..... بنعت فرق به يكلف والعبد ميت بغير رب ..... لسر عون منه يكلف وقوله: "أدرك فرقا حيث لم يكنه, ومعناه أي فرقا حيث لم يكن فرق, وإنما أثبتته الحكمة, فوجب إثباته بالله, فالشريعة أدب منه إليه, والطريقة سير منه إليه, والحقيقة: وصول منه إليه, واليه يرجع الأمر كله, فاعبده وتوكل عليه. سمع بعض العارفين هاتف الحق يقول: أنا الله سبحاني ما أعظم شأني, ظهرت لخفائها صفاتي, وخفيت لظهورها ذاتي, فشهدت صفاتي بوحدانية ذاتي, وأحاطت ذاتي بجميع صفاتي, فاضمحلت الصفات في الذات, وغابت الذات في الصفات, فمنى إلي قربي تنزيها وتقديسا عن مثلي, لا اله إلا أنا الملك الحق المبين, كل شيء هالك إلا وجهي "آلم كهيعص طسم حم عسق" لمن الملك اليوم, لله الواحد القهار, والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى مقام البقاء فقال: فرد نحو عالم التحويل ..... وعبروا عن ذاك بالنزول ورده بالحق نحو الخلق ..... كي ما يؤدي واجبات الرق قلت: إذا تمكن المريد في الجذب, وتحقق من شهود الرب, وأتقن صناعة السباحة في البحر, رد إلى شهود جزيرة البر, ليكون ماشيا بين بر وبحر, وهو مقام الكمال, كما قال ابن عطاء الله بعد الكلام على مقام الجذب والخمرة: "وأكمل منه عبد شرب فازداد صحوا, وغاب فازداد حضورا, فلا جمعه بحجبه عن فرقه, ولا فرقه يحجبه عن جمعه, يعطي كل ذي حق حقه, ويوفي كل ذي قسط قسطه, انتهى. ويسمى هذا مقام البقاء, لأنه أبقى ما كان نفاه مرة في حال جذبه, فلما صحا من سكرته وجد ما كان نفاه باقيا على حاله, وإنما بقي الوهم فقط, وفي ذلك يقول الجيلي في عينيته: فأفنيتها حتى فنت, وهي لم تكن ..... ولكنني بالوهم كنت أطالع وقال الششتري: افن من لم يكن ..... يبق من لم يزل فمقام البقاء مقام شريف, وحال منيف, وهو مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام, وهو معنى قول الشيخ أبي يزيد: وخضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما خاضوا البحر من القدم الأول, رجعوا إلى ساحل البحر ليسيروا الناس في البر والبحر, ولو بقوا في البحر ما أمكنهم أن يسيروا أحدا في البر, فتبطل حكمة الإله إرساله لهم, ولعل الشيخ أبا يزيد قال هذه المقالة قبل رجوعه للبقاء والسكر غالب عليه. قوله: "فرد" أي رده الشيخ "نحو عالم التحويل" بالحاء المهملة, أي التصديق, وهو محل ظهور تصرفات الأسماء والصفات, وهو عالم الخلق, وقد كان في حالة الجذب في عالم الأمر. وفي بعض النسخ بالمعجمة أي محل ظهور إنعام الله على خلقه, وما خولهم به من كرمه وجوده. وقوله: "وعبروا عن ذاك بالنزول" لأن الحرية ارتفاع, والعبودية نزول. وقال في الحكم بعد ما تكلم على الحضرة فإن نزلوا إلى أسماء الحقوق, أو أرض الحظوظ, فبالإذن والتمكين, والرسوخ في اليقين. وقوله: "ورده بالحق نحو الخلق, أي رده بالله نحو عالم الخلق, لأجل أن يؤدي ما وجب عليه من حقوق الرق, وهي العبودية, وهي عند الله اشرف المقامات وأسنا الكرامات, وما خاطب الله أنبياءه ورسله إلا بالعبودية, قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا", وقال تعالى: "واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب" وقال تعالى: "واذكر عبدنا أيوب" إلى غير ذلك. وقد قلت في قصيدتي العينية في هذا المعنى: تمسك بمنهاج الشريعة أنها ..... أمان من كل هول للظهر قاطع فشد لها يد الضنين فمنتهى ..... كمال الكمال منك هو الشرائع وقال سيدي علي رضي الله عنه في كتابه: أعلم أن مقام البقاء هو مقام الملك بالله, وهو مقام خاصة الخاصة, وهو مقام الراحة بعد الشقاء, والربح بعد الخسران, وهو مقام العبودية لله بلا علة, والنظر إليه بلا واسطة, وهو مقام التفريق بعد الاجتماع, والتواضع بعد الارتفاع, والعجز بعد القدرة, والأدب لله بالله بعد التمكن في الحضرة الإلهية, صاحب هذا المقام راسخ في العلم والعمل, راتع في شهود الحق في الجلال والجمال, لتحقيق المقامات والأحوال. قال أبو المواهب التونسي في قوانينه: من وصل البقاء أمن الشقاء. ثم أشار إلى ما يفعل بعد ترشيده وإطلاق يده من التحجير, فقال: فكلم الناس بكل رمز ..... وألغز التعبير أي لغز وعندما أسلكه المسالك ..... أقامه شيخنا لكل سالك قلت: الفقير إذا كان في مقام الاستشراف, ولم يتمكن من علم التحقيق, تجده يعبر عن الحقيقة بعبارة واضحة عارية من الكسوة, وذلك لضيق عطنه وعدم فروسيته, فإذا تمكن في العرفان, ورسخ في الشهود والعيان, استحق حينئذ دخول الميدان, وجال مع الفرسان, فإذا جال بفرسه بين الناس لا يسبق ولا يضر أحد من الخلق. أو تقول: كل من لم يتحقق بالوصول لا يقدر أن يرقق الغزول ولله در الغزالي حيث قال: غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد ..... لغزلي نساجا فكسرت مغزلي فإذا رد المريد إلى مقام البقاء وسلك تلك المسالك المتقدمة من جذب وفناء وتخلية وتحلية أمره الشيخ بتذكير الناس وإرشادهم إلى ربهم, فاستحق أن يكون شيخا مربيا, وهذا حاصل البيتين, والرمز أدق وأخفى من اللغز, لأن الرمز إشارات وتلويحات, واللغز كلام يراد به غير ظاهره, يفهمه من عرف اصطلاحه أو قرينته. وكان حق الناظم أن يقدم البيت الثاني على الأول, لأن تعبير المريد ناشئ عن تذكيره, وتذكيره ناشئ عن تقديمه لذلك, وتقديمه هو إقامته للشيخوخة, فإذا أقامه لذلك أمكن أن يأتي الرمز أو باللغز, والأمر في ذلك قريب, والله تعالى أعلم. ثم أشار إلى أن هذا العلم ليس هو أقوالا باللسان, وإنما هو أذواق بالجنان, فقال: فهذه أحوال ذي الأحوال ..... تدرك بالأفعال لا الأقوال قلت: الإشارة تعود إلى ما قدمه من أول الباب إلى هنا, وأن تدريج السالك في هذه الأحوال والمقامات هي أحوال أهل الأذواق والوجدان من أرباب الأحوال, وهي إنما تدرك بالأعمال: مجاهدة ومكابدة, ثم مشاهدة. قال الجنيد رضي الله عنه: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال, والمراء والجدال, وإنما أخذناه عن الجوع والسهر, وكثرة الأعمال. وأنشدوا في معنى ذلك: يا من يريد منازل الأبدال ..... من غير قصد منه للأعمال لا تطمعن فيها فلست من أهلها ..... ما لم تزاحمهم على الأعمال بيت الولاية قسمت أركانه ..... ساداتنا فيه من الأبدال ما بين صمت واعتزال دائم ..... والجوع والسهر النزيه العالي ثم بين أن ما ذكره هو طريق السلف المتقدمين من الجهابذة المتمكنين, وأنه لا يزال الخصام في وجودها أبدا, فقال: فكذا كان طريق القوم ..... ولم يزل يخصم كل خصم قلت: الإنكار على الأولياء سنة ماضية, "ولن تجد لسنة الله تبديلا" قال تعالى "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين" وما قيل في النبي يقال في الولي, لأنه على قدمه, لكن حجة الأنبياء غالبة واضحة, وحجة المنكرين عليهم واهية داحضة, وكذلك حجة الأولياء على الأغوياء, لا تزال قائمة غالبة, لأنها هي الطائفة الظاهرة إلى يوم القيامة, وهذا معنى قوله: "ولم يزل يخصم كل خصم" أي يغلب كل من يخاصمه "والله متم نوره ولو كره الكافرون". تنبيه: قوله "فهكذا" الإشارة تعود على تدريج المريد وتربيته بالكيفية التي تقدمت, وهل هذه التربية تجري في كل زمان؟ أو لكل زمان تربية مخصوصة؟ الظاهر أن كل زمان تحدث له تربية مخصوصة, لأن الأولياء على قدم الرسل, فكما أن الحق تعالى لم يكتف برسول واحد لجميع بني آدم لاختلاف المصالح والعوائد, فكل زمان بعث الله فيه رسولا يخرج أهله من عوائدهم التي حجبتهم عن الله, وكذلك الأولياء يبعثهم الله في كل زمان بخرق عوائده. وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. ويقال في قياسه: تحدث للناس تربية بقدر ما تعودوا من الأمور, والله تعالى أعلم. ثم أن هذه الطريق ميراث نبوي, أخذه وارث عن وارث إلى خير وارث, وهي مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين, وإلى ذلك أشار بقوله: وهي إذا ما حققت موارث ..... عن خير مبعوث وخير وارث قلت: هذه الطريقة موروثة, أخذها عارف عن عارف إلى سيد العارفين صلى الله عليه وسلم ولنذكر سلسلتنا تبركا واقتداء بمن ذكر ذلك, فنقول: أخذنا الطريق وعلم التحقيق عن شيخنا الواصل المحقق الكامل مربي السالكين ومرشد الطالبين سيدي: محمد اليزيدي الحسني, عن شيخه القطب العارف شيخ المشايخ مولاي العري الدرقاوي الحسني, عن شيخه سيدي علي, عن شيخه سيدي العربي, عن شيخه سيدي احمد بن عبد الله, عن شيخه سيدي قاسم الخصاصي, عن شيخه سيدي: محمد بن عبد الله الكبير, عن شيخه سيدي: عبد الرحمن الفاسي, عن شيخه سيدي: يوسف الفاسي, عن شيخه سيدي احمد زروق, عن شيخه سيدي احمد بن عقبة الحضرمي: عبد الرحمن المجذوب, عن شيخه سيدي علي الصنهاجي المشهور "بالدوار" عن شيخه سيدي إبراهيم أفحام, عن شيخه سيدي يحيى القادري, عن شيخه سيدي علي بن وفا, عن أبيه سيدي: محمد بحر الصفا, عن شيخه سيدي داوود الباخلي, عن شيخه سيدي احمد بن عطاء الله, عن شيخه سيدي أبي العباس المرسى, عن شيخه سيدي: أبي الحسن الشاذلي عن شيخه القطب سيدي: عبد السلام بن مشيش, عن شيخه سيدي: عبد الرحمن المدني, عن شيخه القطب: تقي الدين الفقير "بالنصير فيهما". عن شيخه القطب: فخر الدين, عن شيخه القطب: نور الدين عن شيخه القطب: تاج الدين, عن شيخه القطب: شمس الدين, عن شيخه القطب زين الدين القزويني, عن شيخه القطب سيدي إبراهيم البصري, عن شيخه القطب سيدي احمد المرواني, عن شيخه القطب سيدي: سعيد, عن شيخه القطب سيدي: سعد, عن شيخه القطب: فتح السعود, عن شيخه القطب سيدي:سعيد الغزواني, عن شيخه القطب أبي محمد: جابر, عن أول الأقطاب سيدنا: الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن والده أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه الذي هو "باب مدينة العلم" "عن نخبة الوجود" ومادة عين الرحمة والجود, سيد المرسلين وخاتم النبيين, سيدنا ومولانا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سيدنا جبريل, عن الرب الجليل جل جلاله وتقدست صفاته وأسماؤه. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: طريقتنا هذه مروية مسلسلة, قطب عن قطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن لم يكن له سلسلة أشياخه فهو مقطوع, لا يصح الاقتداء به, والله تعالى أعلم. ثم ذكر أن ما سلكه التلميذ المتقدم من المقامات والأحوال هكذا يكون سلكها شيخه, فقال: وهكذا الشيخ على التحقيق ..... إذا كان مثل سالك الطريق قلت: الإشارة تعود إلى التربية المتقدمة, يعني أن الشيخ المحقق كان سلك الطريق مثل ما سلكها المريد, وهذا إخبار بمعلوم, إذ لو لم يسلكها شيخه قبله ما سلكها هو, وقد تقدم في شروط الشيخ ذلك كله, والله تعالى أعلم. ثم قال: فمن يكن بهذه الأوصاف ..... شيخا وتلميذا فعن إنصاف قلت: يريد أن من اتصف بهذه الأوصاف المتقدمة, بأن كان جامعا بين حقيقة وشريعة, بين جذب وسلوك, زاهدا في الدنيا, رافعا همته عن الأكوان بأسرها, فهو مستحق بأن يكون شيخا, ومن كان على قدمه من أتباعه, استحق أن يكون تلميذا علة نعت الحق والإنصاف, وإلا فلا. ثم ختم الفصل بفذلكة ليس تحتها حكم يتعلق بالفن, فقال: فهذه لوازم الأحكام ..... جئنا بها تترى على نظام وما ذكرنا فهو كالقليل ..... إذا اختصرنا خشية التطويل قلت: يعني أن هذه الأحكام التي ذكرها في هذا الفصل في تدريج المريد إلى أن يصير شيخا, وهي الأحكام التي تلزم المريد الذي يطلب الوصول, ولوازم الأحكام, من إضافة الصفة إلى الموصوف, أي فهذه الأحكام اللوازم, أي اللازمة للمريد الصديق جئنا بها تترى, أي يتبع بعضها بعضا, وإنما ذكر القليل دون الكثير, لأن كثرة التطويل موجب للملل, ومقلل للتحصيل. وقد قالوا: التحبر مفتاح التحير. وكان الزهري يقول: إذا طال المجلس حضره الشيطان, لأنه موجب لكثرة الكلام فيوقع في التحير, والله تعالى أعلم. خاتمة: قال الشيخ زروق رضي الله عنه: فإن قلت: هل يصح دخول الخلوة والسلوك على هذا الأسلوب بغير شيخ؟ قلنا: نعم, ولكن يتعذر النجاح لقوة العوارض وكثرتها, فلذلك قيل: إن الشيخ واجب في هذه المجاهدة دون مجاهدة التقوى والاستقامة, وقد تقوي همة مريد في ذلك ولا يجد شيخا, فيهجم على ذلك ويتوقف في الثبات والترك على رأي أخ صالح ذي بصيرة سليمة, ثم يقوم مستعينا بالله, فإن الله سبحانه يمنحه على قدر همته بفضله, وأما الرياضيات والخلوات الاصطلاحية التي يذكرها أبو العباس البوني وغيره, فأسلمها ما يتعلق بالذكر المجرد, وقد قربه في كتابه "القبس" وذكره من غير تقييد بأكل ولا صوم ولا كيفية ولا سبب, فأعمل به إن شئت بعد تحقيق علم, وبالله التوفيق, انتهى. قلت: طريقة الأسماء لا تخلو من حروف وحظوظ, الفتح فيها بعيد, والإخلاص فيها معدوم, وطريق الذكر المجرد إن كان بالشيخ نهض من ساعته, وإن كان بغير شيخ, فإن كان مراده الأجور أخذه وافرا, وان كان مراده الوصول فغاية ما يصل إليه الفناء في الصفات, وأما الفناء في الذات فلا يمكن بغير شيخ, هذا ما جرت به العادة, وإن خرقت العادة في فرد فلا يقاس عليه, والله تعالى أعلم, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. ثم شرع في الفصل الرابع, فقال:
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:20 pm
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الرابع في الرد على من رده ..... وليس يدري شأنه وقصده قلت: مضمن هذا الفصل: تقبيح من أنكر هذا الطريق, وتوبيخ من رد على أهلها وتزييف رأيه وتحقير شأنه, حيث أنكر ما لم يحط به علما, ولم يدرك له شأنا ولا قصدا إذ لو عرف شأنه لعظمه, ولو أدرك المقصود منه سارع إليه, ولكن كما قال القائل: "من جهل شيئا عاداه" وقال تعالى: "وإذ لم يهتدوا فسيقولون هذا إفك قديم". وقال الشاعر: وكم عائب ليلى ولم ير وجهها ..... فقال له الحرمان: حسبك ما فات وقد تقدم أول الكتاب "فصل الاجتماع" على ترجيح مذهب الصوفية على غيرهم, وذكر هنا الاحتجاج على ترجيح علومهم على علوم غيرهم, ومن أين نشأ الإنكار عليهم وذم المنكر عليهم, فأشار إلى الأول بقوله: هذا الطريق من أجل الطرق ..... فافهم هديت واقتده بنطق قلت: إنما كان من أجل الطرق, لأنه يدل على الله من أول قدم, خصوصا طريق الشاذلية, بخلاف غيره من الطرق, فان منها ما يدل على العمل, ومنها ما يدل على العلم بالأحكام. وقد قال الشيخ القطب ابن مشيش: "من دلك على العمل فقد أتعبك, ومن دلك على الدنيا فقد غشك, ومن دلك على الله فقد نصحك". والدلالة على الله هي الفناء فيه بالغيبة عما سواه. ولقد سمعت شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول: صاحبنا أول قدم ندخله في الفناء في الذات, ولا يحتاج إلى مجاهدة عمل, إذا صدق في صحبته. وإن شئت قلت: إنما كان من أجل الطرق لأن شرف العلم على قدر شرف متعلقه, ومتعلق هذا العلم أشرف المتعلقات, لأن مبدأه صدق التوجه إلى الله, ومنتهاه إفراد القلب والقالب إلى الله على وجه تحقيق اليقين, حتى يصير في معد الشهود والعيان. أو تقول: أوله داع إلى محبة الله, وأوسطه داع إلى السير إلى الله, ونهايته الوصول إلى معرفة الله. وقالوا في شأن المحبة: أولها جنون, وأوسطها فنون, وآخرها سكون. وقال الجنيد رضي الله عنه: لو أعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه. وقال الشيخ الصقلي رضي الله عنه: كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة, وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة, وكل من عبر عنه وتكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا يترق. وقوله: "فافهم هديت" الخ: الجملة دعائية معترضة بين المعطوفين, أي فافهم واقتد بما نقول لك, هداك الله لطريق الحق, وأبان لك معا. وأثبت هاء السكت في الوصل على حد قوله تعالى: "فبهداهم أقتده" فيمن بها. ثم ذكر وجه ترجيحها على سائر الطرق, فقال: إن العلوم كلها المعلومة ..... فنونها في هذه متهومة قلت: إنما كانت العلوم المعلومة عند الناس, "فنونها" أي فروعها في جانب هذه الطريقة "متهومة" أي مشكوكة, لأن غايتها لا يحصل إلا غالب الظن, الراجح, وقد يحصل الجزم المطابق عن دليل, لكن لا يسلم من اختلاج الوهم لعدم الجزم بصحة الدليل. فقد قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط المعلق في الهوى, يميل مع كل ريح, أو كريشة تتقلب مع كل ريح بخلاف علم التصوف, فإن غايته الطمأنينة والتحقيق ذوقا وكشفا وشهودا, فالعلوم كلها تحصل علم اليقين, والتصوف يحصل عين اليقين, وحق اليقين. العلوم كلها: استدلالية وبرهانية, وعلوم القوم: ذوقية وعيانية. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان. وقال الشبلي رضي الله عنه: ما ظنك بعلم: علم العلماء فيه تهمة, يعي أنه في معد العيان, وغيره في محل التهمة, إذ لا يخلو صاحبه من خاطر ريب وتهمة, إذ لا تنقطع الخواطر عن القلب, إذا حصلت في الطمأنينة بالله, ولا تحصل الطمأنينة إلا بصحبة أهل الطمأنينة. وفي بعض الأحاديث "تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين, والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح". قلت: ومما يرجح أيضا ما قاله الناظم: أن طالب العلم الظاهر لا تجد قصده إلا معلولا, إذ غالب طلبة العلم فساد قصدهم فيه بطلب الحظوظ والحروف, بخلاف طالب علم الباطن, فلا تجد نيته إلا صحيحة, لأنه مبني على قتل النفوس وطرح الحظوظ, فلا ينال منه شيئا إلا من ترك حظوظه وشهواته. ثم بين الشيخ وجه دخول التهمة في العلوم الرسمية فقال: إذ العلوم في مقام البحث ..... وإن هذا في مقام الإرث قلت: العلوم الرسمية كلها كسبية, تدرك بالبحث عليها بالدلائل والبراهين, فنهايتها الظن القوي, وهذا شأن الفروع الفقهية, لأن جلها ظنية وأما أصول الدين فنهايتها الجزم المطابق عن الدليل, فغايتها الإيمان بالغيب, بخلاف علوم القوم, فإنها مواهب وأسرار وكشوفات وأذواق تورث عن أرباحها بالصحبة والمحبة والخدمة, حتى يسري ما في باطن الشيخ إلى باطن التلميذ فيتنور الباطن بنور اليقين, ثم يغيب في شهود رب العالمين, حتى يصير ما كان غيبا شهادة, وما كان علما ذوقا وحالا, وما كان دليلا مدلولا, وما كان نظريا يصير ضروريا, كما قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه: طلع النهار على قلبي ..... حتى نظرت بعينا أنت دليل يا رب ..... أنت أولى مني بيا غيبت نظر في نظري ..... وأفنيت عن كل فاني حققت ما وجدت غير ..... وأمسيت في الحال هاني وفرق كبير بين من يكون من الأحباب داخل الحجاب, وبين من يكون يأخذ أجرته من وراء الباب "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" قوم أقامهم لخدمته, وقوم اختصهم بمحبته, كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا. وفي نوازل المعيار: سئل ابن رشد رحمه الله عن قول الإمام أبي حامد الغزالي في الإحياء في لما ذكر معرفة الله تعالى والعلم به قال: والرتبة العليا في ذلك للأنبياء, ثم للأولياء العارفين, ثم العلماء الراسخين, ثم الصالحين, فقدم الأولياء على العلماء وفضلهم عليهم. وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته: فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه, وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه, فهل هذا نحول قول أبي حامد, وهل هذا المذهب صحيح أم لا, فقد قال بعض الناس: لا يفضل الولي على العالم, لأن تفضل الشخص إلى الآخر إنما هو برفع درجاته عليه لكثرة ثوابه المرتب على عمله, فلا فضل إلا بتفاوت الأعمال, وقد ثبت أن العلم أفضل من العمل, لأنه متعد والعمل قاصر, والمتعدي خير من القاصر, فثوابه أكثر وصاحبه أفضل. فأجاب: أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله, فقول الأستاذ وأبي حامد فيه متفق, ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال, وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام, بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع, لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وثمراته, فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم, من جهة متعلقة المعلومات وأكملها, لأن ثماره أفضل الثمرات, ثم قال بعد ذكر ثمرات المعرفة بالله من الاتصاف بالأخلاق السنية بعد التطهير من الأوصاف الدنية: ولا شك أن معرفة الأحكام لا تورث شيئا من هذه الأحوال ويدل على ذلك الوقوع, فإن الفسق فاش في كثير من علماء الأحكام, بل أكثرهم مجانبون للطاعة والاستقامة, بل قد اشتغل بعضهم بأقوال الفلاسفة في النبوات والإلهات, ومنهم من خرج عن الدين, ومن من شك فتارة يترجح عنده الشك وتارة يترجح عنده البطلان, ثم قال: فكيف يساوي بين العارفين وبين الفقهاء, والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله سبحانه وتعالى, والله سبحانه يقول: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وأما قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فإنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله, دون العرافين بأحكامه, ولا يجوز حمله على علماء الأحكام, لأن الغالب عليهم عدم الخشية, وكلام الله صدق, فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه. وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه, وهو ترجمان القرآن, فإذا كان عالما بالله تعالى وبأحكامه, فهذا من السعداء, وإن كان من أهل الأحوال العارفين بالله, فهذا من أفضل العارفين, إذ قد حاز ما حازوا وفضل عليهم بمعرفة الأحكام. وأما قول من قال: إن العمل المتعدي خير من القاصر, فانه جاهل بأحكام الله تعالى بل العمل القاصر أحوال: إحداها أن يكون أفضل من المتعدي, كالتوحيد, والإسلام والإيمان, وكذلك التسبيح عقب الصلوات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضله على التصدق, ثم قال: فإن كانت مصلحة القاصر أفضل من مصلحة المتعدي أرجح قدمت على القاصر, فتارة تقف على الرجحان فتقدم الراجح, وتارة ينص الشارع على تفضيل أحد العلمين فتقدمه وإن لم تقف على رجحانه, وتارة لا تقف على الرجحان ولا نجد نصا يدل على التفضيل, فليس لنا أن نجعل القاصر أفضل من المتعدي, ولا المتعدي أفضل من القاصر, لأن ذلك موقوف على الأدلة الشرعية فإذا لم يظهر شيء من الأدلة الشرعية لم يجز أن نقول على الله ما لا نعلمه, أو نظنه بلا أدلة شرعية, ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة, ولكن بشيء وقر في صدره" انظر بقية كلامه ذكره في الجنائز, والتفضيل عند المحققين إنما هو بقوة اليقين, فمن قوي يقينه أكثر كان عند الله أكبر, وهو الذي وقر في صدر أبي بكر, فسبق به, والله تعالى أعلم. ثم ذكر المنكر لهذا العلم ومنشأ إنكاره, فأشار إلى الأول بقوله: وأنكروه ملأ عوام ..... لم يفهموا مقصوده فهاموا قلت: الملأ في أصل اللغة هم أشراف القوم وعظماؤهم, لأنهم تملأ العين بالنظر إليهم ثم صار يطلق على مطلق الجماعة, والعوام ضد الخواص, فالعوام هم أهل اليمين, والخواص هم السابقون من المقربين, لكل من حجب بسحب الآثار عن رؤية الأعمال فهو من العوام, وكل من نفذ إلى شهود الأنوار قبل الكون أو معه أو عنده من خواص المقربين, وكل علم وفن له عوام وخواص فيه, يعني أن جماعة من العوام أنكروا علم الباطن, وقالوا ليس إلا علم الشريعة الذي هو العلم الظاهر, وأما علم الباطن فلم ينزل به كتاب ولا سنة. قلنا: يرد عليهم بقوله تعالى في قضية سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام "أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" فالعلم اللدني هو العلم الموهوب, وهو على قسمين: قسم يكشف عن سر الوجود ومعرفة الملك المعبود, وقسم يكشف عن سر القدر وما يقع من الحوادث, والمعتبر عند المحققين هو القسم الأول. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم مقام الإحسان بقوله:" أن تعبد الله كأنك تراه, ولا يمكن أن يعبد الله كأنه يراه, وهو محجوب بظلمة الآثار". وقال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو وأبو بكر يتكلمان في علم التوحيد, فأجلس بينهما كأني زنجي لا اعلم ما يقولان, فهذا التوحيد الذي كان يتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع الصديق هو التوحيد الخالص, وهو غوامضه وأسراره التي لا تفشى إلا لأهله, وهو المسمى عندنا بعلم الباطن, ويسمى أيضا بعلم الحقيقة, وسيأتي زيادة بيان لهذا الأمر عند قوله: "هل ظاهر الشرع مع الحقيقة: إلا كأصل الفرع في الحديقة". قوله: "وأنكروا ملأ" وهو على حد قوله تعالى: "وأسروا النجوى الذين ظلموا". وقوله: فهاموا, أي تحيروا أن تلفوا وضلوا عن سلوك طريق التحقيق, وبالله التوفيق. ثم بين منشأ الإنكار وسببه فقال: وكل من أنكر منه شيئا ..... فإنما ذاك لسبع أشيا لجهله بنفسه الشريفة ..... وكونها في أرضها خليفة وجهله بالعالم المعقول ..... وشغله بظاهر النقول وسهوه عن عمل القلوب ..... والخوض في المكروه والمندوب والجهل بالحلال والحرام ..... والميل عن مواهب الإلهام قلت: ذكر سبعة أشياء هي الموجبة لإنكار العوام على الخواص, وهم أهل الباطن: الأول: جهلهم بحقيقة نفسهم وشرفها, وهو الروح في أصل نشأتها, فلما حجبت وتظلمت سميت نفسا, ولا شك أن الروح التي قامت بهذا البدن: أصلها لطيفة نورانية ملكوتية جبروتية , عالمة بما كان وما يكون, وما حجبها عن هذا العلم إلا شغلها بتدبير البدن وتحصيل أغراضه وشهواته, فكلما جاهدها وخرق عوائدها رجعت إلى أصلها, فأدركت العلوم اللدنية والأسرار الربانية, وهو علم الباطن, فلو علم الإنسان أصل نفسه وشرفها, وعرف السبب الذي حجبها عن أصلها لاحتال عليها حتى يردها لأصلها, لكن جهله بأصله تركه محجوبا بها حتى أنكر خصوصيتها, ولذلك قال يحيى بن معاذ الرازي: "من عرف نفسه عرف ربه" قيل من عرف نفسه كيف كانت فاحتال عليها حتى ردها لأصلها فقد عرف ربه, وقيل: معناه من عرف حقيقة نفسه, فقد عرف ربه, لأنه حصل مقام الجمع وحجب به عن الفرق, والله تعالى اعلم. والأمر الثاني: جهل كون نفسه خليفة عن الله في أرضه, قال تعالى في شأن آدم: "إني جاعل في الأرض خليفة" ولا شك أن الحق سبحانه ركب هذا الروح اللطيف في هذا المظهر الإنساني الكثيف, وجعله يتصرف في الكون كيف شاء, قال تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" وقال تعالى: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه" وقال في الحكم: "جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته, وأنك جوهرة تطوي عليك أصداف مكوناته, وسعك الكون من حيث جثمانيتك, ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك, فالإنسان في أصل نشأته خليفة الله في وجوده من عرشه إلى فرشه, لكن الإنسان لما جهل نفسه أشغلها بخدمة الأكوان, فسقطت عن رتبة الخلافة حين صارت مملوكة في أيد المماليك, ولا يصلح للخلافة إلا من كان حرا عن الملوك والمماليك. قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: الأكوان كلها عبيد مسخرة, وأنت عبد الحضرة. وفي بعض الأخبار المروية عن الله عز وجل: "يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك, وخلقتك من أجلي, فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له". فكل من تحرر من رق الأكوان ورفع همته عنها ملكها بأسرها واستولت روحه على الوجود بأسره, فصار خليفة الله في كونه, وأما من بقي مملوكا في يدها فلا خلافة له. الأمر الثالث: جهل النفس بالعالم المعقول, والمراد به العالم الروحاني, وهو عالم المعاني لأنه لا يدرك بالنقل: "وإنما يدرك بتصفية العقل وجوهريته, حتى يصير سرا من أسرار الله فحينئذ يدرك عالم المعاني, ويغيب عن عالم الأواني, وهو عالم الحس. فتحصل أن من اشتغل بعالم الأشباح, وهو عالم الحس, وعالم الحكمة لا يدرك عالم الأرواح, وهو عالم المعاني, وعالم القدرة, وأنكر على من ادعى إدراك شيء من ذلك فهو معذور كمن أنكر طلوع الشمس وهو أرمد, كما قال البوصيري: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ..... وينكر الفم طعم الماء من سقم وسبب حجابهم عن عالم المعاني, وهو عالم القدرة: اشتغالهم بعلم عالم الحس, وهو عالم الحكمة, فاشتغلوا بعلم المنقول والاطلاع على الأقوال الغريبة وتحرير المسائل الفروعية والتغلغل فيها, وهو سبب حجاب علماء الظاهر: تجمدوا على ظاهر الشريعة وادعوا الإحاطة بها, وأنكروا على أهل علم الحقيقة, فضلوا وأضلوا عن طريق الخصوص, وقد قال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ولو تأملوا في سر الشريعة لوجدوها تدل على الطريقة والطريقة توصل إلى الحقيقة, ولكن سنة الله لا تنخرم, فلا بد من قوم يتجردون لعلم الشريعة ويحملون لواءه, وإلا ضاعت الطريقة والحقيقة, إذ لو ذاقوا هذا العلم لزهدوا في سائر العلوم, ولن تجد لسنة الله تبديلا. الأمر الرابع: الاشتغال بعمل الجوارح الظاهرة, والتعمق فيه, والغفلة عن عمل القلوب وتصفيتها, وهو سبب حجاب العباد والزهاد, وحبستهم حلاوة عبادتهم عن شهود معبودهم وحلاوة زهدهم عن معرفة خالقهم, فاستوحشوا من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء, فهم ينكرون الخصوصية لغيرهم, ويثبتونها لنفوسهم, وهو الجهل المركب, وهذا مع ما قبله اشد الحجاب عن الله, ولذلك قال بعضهم: أشد حجابا عن الله العلماء ثم العباد ثم الزهاد. الأمر الخامس: الخوض فيما يحسنه العقل ويقبحه, فما استحسنه العقل أحبوه واعتقدوه وما قبحه العقل كرهوه وأنكروه, فوقفوا مع عقولهم فانعقلوا عن مراتب الكمال, وحجبوا عن مدارك الرجال, فالعقل معقول, لا يدرك من أمر التوحيد إلا افتقار الصنعة إلى صانعها, وأمام أسرار التوحيد وغوامضه, فهو خارج عن دائرته كما قال ابن الفارض رضي الله عنه: فثم وراء النقل علم يدق عن ..... مدارك غايات العقول السليمة وهذا سبب حجاب أهل علم الكلام وقفوا مع الدليل, وحجبوا عن المدلول, وارتبطوا مع الدليل والبرهان, وأنكروا الشهود والعيان, هذا معنى قوله: "والخوض في المكروه والمحبوب" ويحتمل أن يريد الخوض في الدنيا بالاشتغال في تحصيل محبوبها, كالعز والجاه والمال, والبعد عن مكروهها كالذل والفقر وغير ذلك مما تكرهه النفوس, فان الاشتغال بذلك حجاب عظيم في سر التوحيد, والله تعالى اعلم. الأمر السادس: جهل الإنسان بما يحل له الخوض فيه وما يحرم عليه, إذ لو تحقق ذلك وعلم ما فيه من العقوبة, لانزجر وانكف عن الخوض فيما لا علم له به, وأشغله عيبه عن عيوب غيره, لكن لما جهل ما يضره وما ينفعه أطلق لسانه في الإنكار على أولياء الله من غير احترام ولا احتشام, فلا جرم انه إن لم يتداركه اللطف يخاف عليه سوء الخاتمة. وفي الحديث القدسي: "من عادى لي وليا فقد آذنني بالحرب" أو كما قال. وفي حديث آخر: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ولا تغتر بمن يدعي مرتبة العلم ثم يطلق لسانه في أولياء الله فإنه جاهل على الحقيقة لأن ذلك سببه الرضا عن نفسه, وأي علم لعالم يرضى به عن نفسه, وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه, عصمنا الله من ذلك بمنه وكرمه. الأمر السابع: الميل عن المواهب الإلهامية والعلوم اللدنية, وعدم التعريج عليها والتصديق بها, ولا شك من لم يعرج عليها ولا يصدق بوجودها لا يتشوف إليها ولا يطلبها وعلم الباطن كله مواهب وكشوفات, فمن لم يصدق به لا يناله أبدا ما دام منكرا له, وقد قالوا: أول الطريق تصديق, ووسطه توفيق, وآخره تحقيق, فمن لا تصديق له لا توفيق له, ومن لا توفيق له لا وصول له لعين التحقيق, ولذلك قالوا: التصديق بطريقتنا ولاية أي لأنها سبب الولاية, والله تعالى اعلم. هذا آخر الأسباب الموجبة للإنكار على طريق الخصوص, فمن سلم من هذه الأسباب فتح له الباب ورفع عنه الحجاب ومنح مشاهدة الأحباب بمنه الكريم الوهاب, وإلا بقي مع عصبة الجهال في الحيرة والضلال, كما أبان ذلك بقوله: واعلم بان عصبة الجهال ..... بهائم في صورة الرجال قلت: إنما كان الجهال بهائم في صورة الرجال, لأن المزية التي شرف به الإنسان على البهائم هو العقل, والعقل نور يميز به صاحبه ما يضره ما ينفعه, فإذا صار الإنسان يتعاطى أمورا تضره في دينه, وتحجبه عن ربه, ويترك أمورا تقربه إلى ربه, وتوصله إلى حضرة قدسه, فقد انطمس نور عقله وصار كالبهيمة أو أضل, قال تعالى في شأن الكفار: "إن هم إلا كالأنعام, بل هم أضل سبيلا". وقال بعض الحكماء: من غلب عقله على شهواته كان كالملائكة أو أفضل, ومن غلبت شهوته على عقله كان كالبهائم أو أضل, والمراد بالجهل في كلام الناظم الجهل بالنفس وشرفها من جهل نفسه جهل ربه, ومن جهل ربه كان كالبهيمة, فهو راجع إلى السبب الأول من الأسباب السبعة. ثم أشار إلى تقرير السبب الثاني, وهو جهله بكونها خليفة, ولا تكون خليفة حتى تتحرر من رق الهوى, فقال: ومن أباح النفس ما تهواه ..... فإنما معبوده هواه قلت: أصل الروح في أول نشأتها الطهارة والنزاهة, لأنها من عالم القدس, فنعيمها إنما هو ذكر ربها وشهوده, والقرب من حضرة قدسه, فلما ركبت في هذا القالب إظهارا لقدرته وحكمته مال بها إلى أصله الطيني, فانقلب نعيمها إلى النعيم الجسماني وهو الشهوات الجسمانية الحسية, فانحجبت بذلك عن أصلها, فمن أراد الله سعادته وفقه لمخالفتها ومجاهدتها في قطع مألوفاتها وهواها, حتى ترجع إلى أصلها فيصير نعيمها في ذكر مولاها وشهوده, فيعظم قدرها ويشرف محلها, فحينئذ تستحق الخلافة وتتحقق بالنيابة, فتحكم مهمتها على الكون, وتتصرف في الوجود بأسره: أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون, فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك. ومن أراد الله خذلانه وهوانه بعدله, أشغله بشهواته الفانية ومألوفاته الجسمانية, فاتخذ إلهه هواه, وحجب بذلك عن مشاهدة مولاه, فسقط في أسفل سافلين, وطرد عن ساحة رب العالمين, فمن أباح نفسه وأعطاها كل ما تهواه فإنما محبوبه ومعبوده هواه, وضل بذلك عن طريق الوصول إلى مولاه, قال تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه, وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله". فاتباع الهوى يصد عن سبيل الهدى قال تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" ويخمد نور السريرة ويطمس شعاع البصيرة. قال الشاعر: إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ..... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وهو أيضا سبب الذل والهوان والالتحاق بحزب الشيطان. قال الشاعر: لا تتبع النفس في هواها ..... إن اتباع الهوى هوان وقال بعضهم: "الهوى شرك الردى" أي شبكته ومصيدته, وبالله التوفيق. ثم أشار إلى تقرير السبب الثالث, وهو الجهل بالعالم المعقول فقال: تالله ما يجمل باللبيب ..... جهل البعيد منه والقريب قلت: اللبيب هو الكامل العقل, والبعيد منه هو ظلمة الحس, والقريب منه هو نور المعاني, الذي هو أصله وفصله. أو تقول: البعيد من الإنسان هو ظلمة الأواني, والقريب منه هو نور المعاني والمفنية للأواني. أو تقول: البعيد منه التجليات المنفصلة عنه في الحس, كالسموات والأرضين, وما بينهما, والقريب منه جسمه المتصل به, والكل متصل في المعنى, كما قال الششتري فيه. * متحد المعنى في كل حي * فينبغي أن يعرف في الجميع فلا يحمل.
أي يحسن باللبيب أن لا يجهل ما هو بعيد منه من ظلمة الحس, وما هو قريب منه من نور المعاني, فنور روحك أقرب إليك من ظلمة حسك, لكن لما انطمست البصيرة اشتغلت الروح بتدبير هذا الجسم وتحصيل شهواته وأغراضه, فسقطت في أسفل سافلين, وبعدت من حضرة رب العالمين, فتركت ما هو قريب من نور حضرة الحبيب, واشتغلت بما هو بعيد من ظلمة الجسم: في تحصيل أغراضه وتوفير شهواته, فارتبطت في عالم الأشباح ولم ترجع إلى عالم الأرواح, وهو عالم المعاني, بل أنكرته بالكلية, ولو انفتحت البصيرة لشاهدت الأنوار الحاجبة الماحية للأغيار أقرب إليها من كل قريب, قال في الحكم: "شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك, وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده" وحق البصيرة يشهدك وجوده: لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه, وهو الآن على ما عليه كان. وراجع الشرح ففيه تفسير هذه المعاني, والله تعالى أعلم. ثم ذكر تقرير السبب الرابع, وهو الغفلة عن عمل القلوب, فقال: كيف يرى في جملة السباق ..... من حظه مع الحظوظ باق قلت: السباق جمع سابق, والحظوظ هي الشئون والشواغل: جمع حظ. اعلم أن الناس على قسمين: أهل اليمين, والسابقون, فأهل اليمين هم المشتغلون بإصلاح الظواهر وتدبير شئونها, وما يصلح بها جلبا ودفعا عاجلا أو آجلا, والسابقون هم المشتغلون بإصلاح القلوب والسرائر, وهم المقربون الغائبون عن رؤية أنفسهم, الباقون بشهود ربهم, فكل من اعتنى بإصلاح ظاهره فاته إصلاح باطنه, وكان من أهل اليمين, وكل من اعتنى بإصلاح باطنه كان من السباق, وحشر في زمرة المقربين. قال الشيخ أبو الحسن: "غب عن إصلاح ظاهرك إن أردت فتح باطنك" فكيف يرى الإنسان ويظهر في جملة السباق, ويلتحق بأهل الجد والاستباق, وحظه منصرف لتحصيل حظوظ وشئون ظاهره الحسية, وهمته واقفة مع عوائده وشهواته الوهمية, "كيف تخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد". ولا بد من صحبة شيخ عارف, ينقلك من العمل الظاهر إلى عمل الباطن, وإلا بقيت مع عوام المسلمين من أصحاب اليمين تنكر مقامات المقربين. وبين عمل القلوب وعمل الجوارح ما بين عمل السر والعلانية. وقال بعضهم: الذرة من أعمال القلوب, أفضل من أمثال الجبال من عمل الجوارح, والله تعالى اعلم. ثم قرر السبب الخامس: وهو الخوض في المكروه والمحبوب, فقال: متى يجد جواهر المعاني ..... من قلبه على الدوام عاني قلت العاني هو: الأسير, وفي الحديث "فكوا العاني وأطعموا الجائع" وجواهر المعاني هي أسرار الذات في أنوار الصفات. أو تقول: هي أسرار الجبروت وأنوار الملكوت. أو تقول: هي المعاني اللطيفة القائمة بالأواني الكثيفة, فإذا ظهرت المعاني تلطفت الأواني, وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه: ولطف الأواني في الحقيقة تابع ..... للطف المعاني, والمعاني بها تسموا وقال: في الحكم "لولا ظهوره في المكونات ما وقع عليها وجود أبصار, لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته". فالصفات معاني والأكوان أواني: لا تنظر إلى الأواني. وخض بحر المعاني لعلك تراني. وقال أيضا: أباح لك أن تنظر في المكونات, وما أذن لك أن تقف مع ذات المكونات: "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" فتح لك باب الإفهام ولم يقل انظروا السماوات, لئلا يدلك على وجود الأجرام, فالأجرام كالصدف ليواقيت المعاني, فمن وقف مع الصدف الظاهر حجب عن جمال اليواقيت الباطنة, فمن كان قلبه مصروفا إلى ظواهر الأجرام مشغوفا بحبها أسيرا في يدها معمورا بصور خيالها, لا يطمع أن يذوق حلاوة المعاني, ولا تشرق عليه أنوارها: "كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته". أم كيف يدخل إلى الله وهو مكبل بشهواته. أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته. أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته. فمتى يجد في قلبه بهجة جواهر المعاني من قلبه على الدوام عاني "أي أسير" في قيد هواه الجسماني, متعوب في خدمة الأواني, يقرب هذا ويبعد هذا, يحب هذا ويبغض هذا, يقبح هذا ويحسن هذا, يصغر هذا ويكبر هذا, فما دام هذا شأنه لا يطمع أن يطلع على بهجة المعاني, ولا يترقى إلى العالم الروحاني, وإنما وطنه العالم الجسماني منكرا على أهل المعاني إلا أن يتداركه الله بلطف رباني, فينهض بخوف مزعج أو شوق مقلق, وما ذلك على الله بعزيز. ثم قرر السبب السادس من أسباب الإنكار, وعنه ينشأ تضييع العمر والاشتغال بالفضول, فقال: لم يتصل بالعالم الروحاني ..... من عمره على الفضول حاني قلت: الحاني على الشيء هو المنكب عليه والمنهمك في محبته بكليته, والعالم الروحاني هو ضد العالم الجسماني, فالعالم الروحاني هو عالم الملكوت, وعالم الجسماني هو عالم الملك أو تقول العالم الروحاني هو عالم التلطيف, والعالم الجسماني هو عالم التكثيف, فالتلطيف محل التعريف, والتكثيف محل التكليف, أو تقول العالم الروحاني هو عالم الأرواح, والعالم الجسماني هو عالم الأشباح, أو تقول: العالم الروحاني هو عالم القدرة, والعالم الجسماني هو عالم الحكمة, أو تقول العالم الروحاني هو عالم الجمع, والعالم الجسماني هو عالم الفرق, أو تقول: العالم الروحاني هو عالم شهود الربوبية, والعالم الجسماني هو محل ظهور العبودية, وهذه التفاسير معناها واحد, وإنما ذكرتها للإيضاح, واعلم أن محل عالم الأرواح وعالم الأشباح واحد عند أهل التحقيق إذ الأرواح لا تظهر بغير أشباح, والأشباح لا تقوم بغير أرواح لكن قوم غلبت بشريتهم على روحانيتهم, وظلمتهم على نورهم, وملكهم على ملكوتهم, فلم يروا إلا الأشباح تظهر وتعدم, وهم أهل الحجاب من أهل السلوك. وقوم غلبت روحانيتهم على بشريتهم, ونورهم على ظلمتهم, وملكوتهم على ملكهم, فلم يروا إلا الأرواح تظهر وتبطن. وإن شئت قلت: لم يروا إلا الأنوار تكثفت وتدفقت من بحار الجبروت إلى رياض الملكوت, وهم أهل العرفان من أهل الشهود والعيان. أو تقول: هم أهل الجذب والفناء, فهم غرقى في بحار الأنوار, مطموس عليهم الآثار, فإن فاقوا من سكرتهم وصحوا ميزوا بين الأشباح والأرواح, وبين القدرة والحكمة, فأعطوا كل ذي حق حقه, ووفوا كل ذي قسط قسطه, ولم يحجبوا بجمعهم عن فرقهم, ولا بفرقهم عن جمعهم, وهمل الكمل رضي الله عنهم, وإنما سمي عالم المعاني بالعالم الروحاني لأن من عرفه وكوشف به لا يرى إلا الأرواح تكثفت بالقدرة وانحجبت بالحكمة كما قال ابن الفارض: وقامت بها الأشياء ثم لحكمة ..... بها احتجبت عن كل من لا له فهم والضمير على الخمرة الأزلية, ثم قال: وهامت بها روحي بحيث تمازجا ..... اتحادا ولا جرم تخلله جرم فأهل عالم الأرواح لا يرون الأجرام ولا الأشباح, وإنما يرون الأرواح تكثفت في تماثيل الأشباح, وإذا ردوا إلى رؤيتها رأوها قائمة بالله. ومن الله, والى الله, ولا شيء سواه, رأوها أواني حاملة للمعاني. أو تقول: رأوها مغارف يسقي منها شارب المعارف, ولا يسقي من هذه الأواني خمرة المعاني إلا من هو عن حظوظه فاني, لا يتصل بالعالم الروحاني: من هو مع العالم الجسماني, لا يترقى إلى العالم الروحاني, من كان في أيام عمره على الفضول حاني, وأنشدوا: بقدر الكد تكتسب المعالي ..... ينال العز من سهر الليالي تريد العز ثم تنام ليلا ..... يغوص البحر من طلب اللآلي وكل ما يشغل العبد عن الترقي إلى الحضرة فهو فضول,، سواء كان عملا حسيا أو عملا رسميا أو غير ذلك مما لا يحصى,، والله تعالى اعلم. ثم قرر السبع السابع, وهو الميل عن مواهب الإلهام, فقال: ليس يرى مع المعاني دان ..... من قلبه في عالم الأبدان قلت: الداني هو القريب, والمراد بالمعاني أسرار عظمة الربوبية وأنوار الألوهية, وهي لطيفة شريفة رفيعة منيفة, رفيعة المدارك دقيقة المسالك, لا ينالها إلا قلب سماوي, أو روح عرشي, أو سر جبروتي, قد ارتفعت همته عن سائر الأكوان ورحلت روحه عن عالم الأبدان, إلى طلب الشهود والعيان, فني عن وجوده في شهود معبوده, فرغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار, فليس يقرب من ساحة المعاني من كان قلبه في العالم الجسماني, من اشتغل بخدمة الأشباح لا يترقى أبدا إلى عالم الأرواح, من اعتنى بخدمة جسمه مات في سجن غمه وهمه. سأل سهل رضي الله عنه عن القوت, فقال: هو الحي الذي لا يموت, فقال: إنما سألتك عن القوام, فقال: القوام هو العلم, قيل: سألناك عن الغذاء, فقال: الغذاء هو الذكر, قيل: إنما سألناك عن طعام الجسد, فقال: مالك والجسد, دع من تولاه أو لا يتولاه آخرا, إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه, أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها, وأنشدوا: كمل حقيقتك التي لم تكمل ..... والجسم دعه في الحضيض الأسفل أتكمل الفاني وتترك باقيا ..... هملا, وأنت بأمره لم تحفل فالجسم للنفس النفيسة آلة ..... ما لم تحصله به لم يحصل يفنى وتبقى دائما في غبطة ..... أو شقوة وندامة لا تنجل أعطيت جسمك خادما فخدمته ..... أتملك المفضول رق الأفضل شرك كثيف أنت في حبلانه ..... ما دام يمكنك الخلاص فعجل من يستطيع بلوغ أعلى منزل ..... ما باله يرضى بأدنى منزل وقال آخر: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ..... أتطلب الربح مما فيه خسران؟ عليك بالنفس فاستكمل فضيلتها ..... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان قلت: وتكميل فضيلة النفس هي تطهيرها وتهذيبها وتقريبها من حضرة ربها, فمن يطهرها ولم يهذبها فقد بخسها ونقصها, قال تعالى: "قد أفلح من زكاها, وقد خاب من دساها". وفي الحكم: "اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيبا ومن حضرته قريبا". فإذا خرج العبد من أوصاف بشريته ترقى إلى مقام الروحانيين, فيشاهد حينئذ أنوار ربه, ويحظى بمؤانسته وقربه, ولذلك زاد في الحكم بعد هذه الحكمة متصلا به "الحق ليس بمحجوب عنك, وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه" الخ. كأنه يقول: ما حجبك عنه إلا أوصاف البشرية التي أنت محجوب بها, فإذا زالت عنك زال حجابك واتصلت بمرتبة الشهود وعرفت الملك المعبود, وبالله التوفيق هو الهادي إلى سواء الطريق. والى هذا في الجملة أشار بقوله: مهما ترقى مادة الموضوع ..... يأخذ نجم الدرك في الطلوع قلت: الموضوع هنا هو الجسم الموضوع لظهور الروح وقيامها به, فهو كالقالب لها: أو الصدف, ومادته ما يقوم به في العادة كالأكل والشرب واللباس, ويدخل فيه ما يقوم به معناه كالعز والجاه والمال وغير ذلك من مكملاته, فما دامت النفس مشتغلة بتحصيل هذه المادة جلبا ودفعا, وتحصيلا وتكميلا, فهي مرتهنة به, محبوسة معه, كيف يرحل القلب إلى الله وهو مكبل بشهواته. وللششتري رضي الله عنه: فارفض الخلق وارقا ..... ترتق عن ظلالك واسبق الخلق سبقا ..... ثم غب عن فعالك وافن في الحب عشقا ..... فالمراد في زوالك فما دام العبد مقبلا على دنياه, مشتغلا بتحصيل حظوظه وهواه, ولا يطمع في الرحيل إلى حضرة مولاه, فإذا غاب عن مادة حسه, وزهد في نفسه وفلسه وجنسه, يأخذ نجم إدراكه في الترقي إلى حضرة قدسه, فلا يزال يمشي في نور نجم توحيد الأفعال, إلى أن يطلع عليه قمر توحيد الصفات, ثم تشرق عليه شمس توحيد الذات, فيقول بلسان حاله: طلعت شمس من أحب بليل ..... فاستضاءت, فما تلاها غروب إن شمس النهار تغرب بليل ..... وشمس القلوب ليست تغيب وقال آخر: ليلي بوجهك مشرق ..... وظلامه في الناس ساري الناس في سدف الظلام ..... ونحن في ضوء النهار وقال سيدي عبد الرحمن المجذوب: طلع النهار على الأقمار ..... ولا أبقى إلا ربي الناس زارت محمد ..... وأنا اسكن لي في قلبي وقلت في عينيتي: تبدت لنا شمس النهار وأشرقت ..... فلم يبق ضوء النجم والشمس طالع تنحى رداء الصون عن كون ربنا ..... فسرنا إلى نور الحبيب نسارع ثم تأسف الناظم عن قلة من يساعده في وقته على حاله, فقال: يا حسرتي إذا لا مجد راكب ..... يصحبنا في هذه المراكب قلت: الموكب هو: الجماعة ركبانا ومشاة والجمع مواكب, وكأنه رضي الله عنه لم يجد في زمانه من يساعده على هذا العلم لأنه عزيز وأهله أعز من كل عزيز, وغالب الناس إما مشغول بدنيا, أو مفتون بدعوى, أو مبتلي بهوى, وإن كان الزمان لا يخلو منهم فهم اقل من القليل, وأعز من العزيز, وأغرب من عنقاء مغرب, لكن لا ينسحب ذلك في كل زمان, فان النور النبوي تارة ينبع ويظهر فيظهر أهله لصلاح ذلك الزمان, فإن النور النبوي تارة ينبع ويظهر فيظهر أهله لصلاح ذلك الزمان, وتارة يخفي مع وجوده, فيخفي أهله لفساد ذلك الزمان, فالعدد لا ينقطع, لكن تارة يريد الله تعالى إظهار أوليائه كزماننا هذا, والحمد لله, وتارة يريد الحق تعالى إخفاءهم لحكمة أرادها الله تعالى, والله يحكم لا معقب لحكمه, والله تعالى اعلم. ثم تأسف ثانيا على قلة من يبحث معه في هذا العلم فقال: يا معشر الأخوان هل من سائل ..... أخبره عن هذه المسائل قلت: المذاكرة في هذا الفن من الأمور المؤكدة, فلا بد من صحبة إخوان يخوض معهم في هذه الفن, وقد قالوا: فهم سطرين أفضل من حفظ سفرين, ومذاكرة اثنين أفضل من هاتين, وكما أن الذكر اللساني للجماعة فيه أفضل, كذلك الذكر القلبي, وهي الفكرة الجماعة فيه أفضل من الانفراد, والجماعة في الفكرة هي المذاكرة مع أرباب الفن, فان إدراك فكرة متعددة أحسن من إدراك فكرة واحدة, وهذا كله مع من دخل بلاد المعاني, وإلا فاستعمل فكرة واحدة أفضل من الاجتماع مع غيره, وقال سيدي علي العمراني: "الجلوس مع العارف أفضل من العزلة, والعزلة أفضل من الجلوس مع العامة, وفضل الصحبة أمر شهير لما فيه من التعاون, قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى". وأوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود كن يقظانا وارتد لنفسك إخوانا, وكل أخ أو صاحب لا يوافق على مسرتي فارفضه, فانه لك عدو, أو كمال قال. وقال ابن عباد رضي الله عنه في نظم الحكم: إن التواخي فضله لا ينكر ..... وإن خلا شرطه لا يشكر والشرط فيه أن يؤاخي العارفا ..... عن الحظوظ واللحوظ صارفا مقاله وحاله سيان ..... ما دعوا إلا إلى الرحمن أنواره دائمة السراية ..... فيك, وقد حفت بك الرعاية وقاصد لفاقد هذا الشرطا ..... بصحبة يعقدها قد أخطا لأنه يرى بها محاسنه ..... فنفسه ذات اغترار آمنه وهو نظم لقوله: "لا تصحب من لا ينهضك حاله, ولا يدلك على الله مقاله" ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك, وهذه النصيحة تصدق بصحبة الشيخ والإخوان, وإن كان ابن عطاء الله إنما قصد بها الشيخ, والله تعالى أعلم. ثم تأسف على ذهابهم وانقراضهم في زمانه, فقال: وأسفا يا فتية الوصول ..... على انصرام حبلها الموصول قلت: التأسف هو التحسر, والفتية جمع فتى والفتى هو من سكر صنم نفسه, قال تعالى: في شأن الخليل "قالوا سمعنا فتى يذكركم يقال له إبراهيم". وفتية الوصول: هم العارفون بالله, لأنهم أهل الوصول والتمكين, والانصرام هو الانقطاع, وكأن طريق العارفين كانت فيما سلف موصولة بحياة أربابها, مرتبطة بتحصين, ثم انصرفت وانقطعت بموت أربابها وانقطاع موادها وأسبابها, وهذا كما قال القائل: أهل التصوف قد مضوا ..... صار التصوف مخرقه صار التصوف ركوة ..... وسجادة مزوقة صار التصوف سبحة ..... وتواجدا ومنطقة كذبتك نفسك ليس ذي ..... سنن الطريق الملحقة
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:21 pm
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
فتأسف الشيخ وتحسر على انقطاع هذا الطريق, بانقطاع أهلها, وناداهم وإن كانوا غائبين زيادة في التحسر, فكأنه يقول يا أسفي أولياء الله انقطاع طريقكم بعد وصلها, واندراسها بعد ظهورها, وقد تقدم له هذا المعنى في أول الكتاب. ثم شوق إلى اللحوق بهم ومشاركتهم في مقاماتهم, فقال: لو أبصر الشخص اللبيب العاقل ..... لم يعتقل عن هذه المعاقل قلت: الاعتقال هو: الربط والحبس, ومنع عقال البعير, والمعاقل هي المراتع التي يعقل فيها الخيل لترتع, ولا يكون إلا خصبا, كالروض ونحوه. يقول رضي الله عنه: لو أبصر العاقل بنور بصيرته ونظر ما خص الله أولياءه من كرامته وما متعهم به من النزهة في معرفته, لم يعتقل ويجلس عن هذه الرياضات والمراتع التي رتع فيها الذاكرون وتنزه في رياضها العارفون, ولم يقنع بخيالات الدنيا التي لا حقيقة لها, وشهواتها الفانية التي لا بقاء لها, قال تعالى: "أفرأيت إن متعناهم سنين, ثم جاءهم ما كانوا يوعدون, ما أغنى عنهم ما كان يمتعون". قال في التنبيه: وحاصل الدنيا أمور وهمية انقادت طباع الناس إليها, وهي لا تفي بجميع مطالبهم لضيقها وقلتها وسرعة تقضيها, فتجاذبوها بينهم, فتكدر عيشتهم, ولو يحصلوا على كلية أغراضهم, كما قيل: أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ..... على أنهم فيها عراة وجوع أراها وإن كانت قليلا كأنها ..... سحابة صيف عن قريب تقشع وقال سهل رضي الله عنه للعقل ألف اسم, ولكل اسم منه ألف اسم, وأول اسم منه ترك الدنيا. قال الحسن رضي الله عنه: كيف يسمى عاقلا وهو يصبح ويمسي في الدنيا ومباهاة أهلها في المطاعم والمشارب والملابس والمراكب, أولئك هم الخاسرون, أولئك هم الغافلون, أولئك هم الجاهلون. قلت: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في بعض مواعظه "إن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور, والإنابة في دار الخلود, والتزود لسكنى القبور, والتأهب ليوم النشور". وقال أبو علي الثقفي رضي الله عنه أف من أشغال الدنيا إذا أقبلت وأف من حسراتها إذا أدبرت, والعاقل من لا يركن إلى شيء إذا اقبل كان شغلا وإذا أدبر كان حسرة, وقد قيل في معناه: ومن يحمد الدنيا لشيء يسره ..... فسوف لعمري عن قريب يلومها إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ..... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها وقيل لأبي القاسم الجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفا بالعقل؟ فقال: "إذا كان للأمور مميزا ولها متصفحا, وعما يوجبه عليه العقل باحثا, يلتمس بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به, ويؤثره على سواه, فإذا كان كذلك فمن صفة العقلاء ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العلم بما فرض عليه, وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحق وأولى, ولا من صفتهم الرضا بالنقص والتقصير, فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول, وترك العمل بما يفنى وينقضي, وذلك وظيفة كل ما سورت عليه الدنيا, وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل وبيسير حائل, يصده التشاغل به والعمل به عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها ويتأبد سرورها, ويتصل بقاؤها, وذلك أن الدين يدوم نفعه, ويبقى على العامل حظه, وما سوى ذلك زائل مردود, مفارق موروث, يخاف من تركه سوء العاقبة فيه, ومحاسبة الله عليه, وكذلك من صفة العاقل تصفحه للأمور بعقله, والأخذ منها بأوفره, قال الله تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب". بذلك وصفهم الله تعالى,، وذوو الألباب هم ذووا العقول, وإنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم الله به للأخذ بأحسن الأمور عند استماعهم, وأحسن الأمور هي أفضلها وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل, والى ذلك ندب الله من عقل في كتابه. انتهى كلام الجنيد رضي الله عنه, وهو في غاية الحسن لتفسير العاقل, من الله علينا باستعماله آمين. وإلى هذا العاقل وجه الناظم الخطاب بقوله: يا صاحب العقل الحصيف الوافر ..... إياك أن تصدمك الحوافر قلت: الحصيف بالمهملة والفاء المروسة هو: المحكم المتقن, وثوب حصيف أي محكم النسج, وهو ضد الخفيف, والصدم هو الزطم بلغتنا. يقول رضي الله عنه: يا صاحب العقل الكامل لا ترض لنفسك بالغفلة والتواني والتقاعد عن مراتب الرجال أهل المعاني, فتقعد في طريق السير حتى تزطم فيه الرجال, ويسبقوك إلى رتبة الكمال ونيل كرامة الوصال ودخول جنة الكمال, فتندم حيث لا ينفع الندم, وقد زلت بك القدم, وأنشدوا: السباق السباق قولا وفعلا ..... حذر النفس حسرة المسبوق وقال ابن الفارض رضي الله عنه: وجد بسيف العزم سوف فإن تجد ..... تجد نفسا فالنفس إن جدت جدت والتنافس في الطاعات ونيل المراتب محمود قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" إلا انه لا ينبغي أن يجعل الإنسان مجاهدته في مقابلة هذا الحرف, بل يجاهد نفسه في تحقيق العبودية والقيام بوظائف الربوبية, ولا يلتمس بذلك حظا ولا حرفا, فبذلك يتحقق الإخلاص ويلحق بدرجة الخواص, والله تعالى اعلم. "ثم" نبهك على ارتحال الدنيا عنك إن لم ترحل عنها بقلبك فقال:
لقد غدا الكون لديك سافر ..... إن لم تكن فيه كما المسافر قلت: غدا بمعنى: صار, والمسافر الخالي من الشيء, وقد يراد به المسافر, يقال سفر فلان فهو سافر, ويجمع على سفر كراكب وركب. يقول رضي الله عنه: لقد صار الكون مسافرا عنك بموتك إن لم تسافر عنه بهمتك. قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان عبد الله بن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح". يقول لقد صار الكون خاليا عندك من الخير إن لم تزهد فيه وتسافر عنه بهمتك وتشتغل فيه بطاعة ربك. والحاصل إن الإنسان والكون يتسابقان ويتصارعان, فمن سبق الكون وغلبه برفع همته عنه والغيبة عما فيه, والزهد فيما اشتمل عليه خدمه الأكوان بأسره, وصار عونا له على السير إلى ربه, بل يصير عبد له, يتصرف فيه بهمته كيف شاء, قال الشاعر: لك الدهر طوع والأنام عبيد ..... فعش: كل يوم من أيامك عيد وقال ابن الفارض رضي الله عنه: وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ..... ترى الدهر عبدا طائعا, ولك الحكم وقال في الحكم: "أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون, فإذا شهدته كانت الأكوان من معك". وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: "يا دنيا أخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك". وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "الدنيا طالبة ومطلوبة, فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستكمل رزقه, ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه". ومن سبقه الكون وغلبه بالرغبة فيه والحرص على ما اشتمل عليه, وبقي في يده أسيرا, وفي سجنه رهينا, وعن ربه بعيدا, فإذا مات صار في قبره فريدا, وبسبب ذلك عدم العلم والفهم وانقياده للحدس والوهم, كما قال الششتري رضي الله عنه: تقيدت بالأوهام لما تداخلت ..... عليك ونور العقل أولئك السجنا ولا يتخلص الإنسان من سجن الأكوان حتى يخلع نعله عن الكونين, ويتخطى بهمته حظوظ الدارين, كما قال القائل: وعن الكونين كن منخلعا ..... وأزل ما بيننا من بيننا وقال بعضهم: "طالب الدنيا أسير, وطالب الآخرة أجير, وطالب الحق أمير, فإذا تحرر العبد من رق الحظوظ, فقد تحقق سفره إلى ربه وظفر بوصله وقربه حققنا الله بذلك بمنه وكرمه وإلا بقي موثقا بحبل هواه, مكبلا في قيد حظوظه ومناه, كما أشار إلى ذلك بقوله: يا موثقا في موثق الممالك ..... تزهو أراك اليوم زهو المالك قلت: الموثق: المحبوس, والوثائق ما يحبس به, والزهو الترفع والتكبر. يقول رضي الله عنه: يا محبوسا في وثاق شهواته وحظوظ نفسه, لقد كنت حرا وهي مملوكة لك, لو غلبت عنها في محبة خالقها لخدمتك, فلما شغفت بحبها وخدمة نفسك في طلبها صرت مملوكا لها أسيرا في يدها, فابك على نفسك بكاء الثكلى, واضرع في فكاك نفسك إلى المولى, فعسى أن يفك أسرك ويصلح أمرك ويردك إلى أصلك, فتصير مالكا والهوى مملوكا, وتصير مخدوما والهوى خادمك, كما قال الشاعر: كنت عبدا والهوى مالكي ..... فصرت حرا والهوى خادمي قال آخر: العبد حر ما عصى طمعا ..... والحر مهما طاعة عبد وفي الحكم: "أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت له طامع". وقال أيضا: ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا, وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدا. وقال بعض الملوك لبعض الأولياء: أطلب مني شيئا نعطك؟ فقال له وكيف اطلب منك وأنت عبد لعبدي, فقال له: وكيف ذلك؟ فقال له: أنا زهدت في الأشياء فخدمتني وأنت أحببت الأشياء فملكتك, أو كلاما هذا معناه لطول العهد به. وإذا كنت أيها الراغب في الدنيا أسيرا في يدها, كيف يمكنك أن تزهو وتترفع على غيرك زهو المالك, وإنما أنت مملوك, فتنبه لمصيبتك واعرف قدرك, ولا تتعد طورك, واسأل الله تعالى أن يفك أسرك, وبالله التوفيق. ثم وبخ المخاطب على قلة الاستماع فقال: يا من أعاتبه على الدوام ..... حتام أجفان الدوا دوام قلت: المعاتبة: اللوم والتقريع و"حتى" بمعنى "إلى" الغائية "وما" نافية حذف ألفها للوزن, وأجفان الدوا مبتدأ, ودوام: خبره منقوص مقدر رفعه, ودوام جمع دامية: أي سائلة بالدم, والمجرور بحتى محذوف, والتقدير إلى أي زمان تستمر مريضا, وليس أجفان عينك التي في بكائها شفاؤك سائلة بالدم. يقول رضي الله عنه: "يا من نعاتبه على الدوام, وهو يسمع عتابي ويفهم خطابي, ومع ذلك لم ينكف عن العناد ولم يرجع عن الانتقاد, إلى متى تبقى عليلا, وقد أمكنك الدواء, فكيف لا تبكي على نفسك وقد تنشب في باطنك داء الهوى, فإذا كان الدواء في سكب دمعك, فكيف لا تبكي الدم في طلب شفاء نفسك, وفي الحكم "تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال, لا يخرج الشهوة في القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق". فلا يخرج الداء من القلب إلا وارد قوي يأتي من حضرة قهار لا يصادم شيئا إلا دمغه إما بنفحة إلهية أو بسبب واسطة شيخ كامل عارف محقق. والغالب أن من صدق في الطلب يبلغه الله ما طلب, كن طالبا تجد مرشدا, فمن طلب الله وجده وأنجز بالوفاء وعده, فإذا تضرع وبكى على نفسه كما قال الناظم, أخذ الله بيده وأطلعه على ولي من أوليائه حتى يوصله إلى ربه, والله أكرم من أن يلتجئ العبد إليه ولا يضمه إليه, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله. وفي بعض النسخ: يا من أعاتبه على الدوام ..... حتى متى جفنك في منام وهو يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام "الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا". وقال بعض الشعراء: إلى كم تمادى في غرور وغفلة ..... وكم هكذا نوم إلى غير يقظة لقد ضاع عمر ساعة منه تشترى ..... بملء السما والأرض أية ضيعة أتنفق هذا في هوى هذه التي ..... أبى الله أن تسوي جناح بعوضة؟ وترضى من العيش السعيد بعيشة ..... مع الملأ الأعلى بعيش البهيمة ثم ذكر سبب إعراض المعاتب وعدم انزجاره, وهو البلادة والجهل, فقال: كم أنت ذو وسائد عراض ..... لاه عن الجوهر بالأعراض؟ قلت: "كم" اسم استفهام يستفهم بها عند العدد, وهي هنا الأزمنة والأوقات, ووسائد جمع وساده, وصرفا للوزن, والمراد به هنا: الكناية عن عدم الفهم, يقال "فلان عريض الوسادة, وعريض القفا, إذا لم يفهم ولم يفطن, وقد قال عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم حيث لم يفهم قوله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" فحمله على ظاهره فجعل خيطين تحت وسادته وجعل ينظر أليهما ويأكل حتى تبين أحدهما من الآخر, فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنك لعريض القفا" وفي رواية "إن وسادك إذن لعريض" على بعض التأويلات, والجوهر هنا كناية عما يبقى, والإعراض كناية عما يبقى, والإعراض كناية عما يفنى, لأن العرض لا يبقى زمانين, يقول رضي الله عنه: كم تمكث أيها المعاند من السنين والأوقات, وأنت في سكرة الغفلات غبي جاهل, لا تسمع الخطاب ولا تنفع فيك العتاب, مشتغل بالعرض الفاني عن النعيم المقيم أما تسمع قوله تعالى: "يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم" إلى كم تبقى غليظ الطبع عريض القفا معتنيا بإصلاح جسمك الذي هو معرض للفناء, لاهيا عن إصلاح جوهر روحك وقلبك الذي هو سبب النعيم على الدوام والبقاءِ, فبادر أيها الجاهل إلى دواء قلبك قبل أن يهجم عليك الحمام, وأنت على حالك من الأمراض والسقام, فانهض أيها الغافل إلى خلاص نفسك بالتوبة والندم قبل أن تندم ولا ينفعك الندم, وقد زلت بك القدم, وأنشدوا: أما آن للنفس أن تخشعا ..... أما آن للقلب أن يقلعا تقضي الزمان ولا مطمع ..... لما قد مضى منه أن يرجعا تقضي الزمان فيها حسرتا ..... لما فات منه وما ضيعا وقال آخر: وما هي إلا ليلة ثم يومها ..... ويوم إلى يوم, وشهر إلى شهر مطايا يقربن الجديد إلى البلا ..... ويدنين أشلاء الصحيح إلى القبر ويتركن أزواج الغيور لغيره ..... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر وقال في الحكم "العجب كل العجب ممن لا يهرب مما لا انفكاك له عنه, ويطلب ما لا بقاء له ومعه "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". والذي لا بقاء له معه هو شهواته وحظوظه الفانية والذي لا انفكاك له عنه هو قدر الله وقضاؤه والله تعالى اعلم. ثم ذكر سبب حجاب الناس عن الله, فقال: مهما تعديت عن الأجسام ..... أبصرت نور الحق ذا ابتسام قلت: قد تقدم قريبا عند قوله, لم يتصل بالعالم الروحاني.. الخ. الفرق بين العالم الروحاني والعالم الجسماني, فالعالم الجسماني هو محل ظهور حكمته تعالى, لأن من أسمائه تعالى الحكيم, وهو أيضا محل لظهور آثار تصرفات الأسماء والصفات, من إعزاز وإذلال, وقبض وبسط, وإحياء وإماتة, وغير ذلك من اختلاف الآثار, وهو أيضا محل لظهور العبودية التي بها كمال سر الربوبية, ومن مقتضى العبودية: الفقر والذل, والعجز, والضعف, والجهل, وهو أيضا محل ارتباط الأسباب بمسبباتها واقتران العلل بمعلولاتها, وبهذا وقع الحجاب عن شهود مسبب الأسباب, فوقف الناس مع الأسباب والعوائد, ومنعوا عن تحصيل المواهب والفوائد, وانهمكوا في طلب تحصيل هذه الأسباب لتحصيل مسبباتها, وارتبطوا معها حتى ظن أهل الجهل انه لا بد منها, قد خلهم بذلك هم الرزق وخوف الخلق لضعف أيمانهم وحجابهم عن ربهم فمن أراد الله عنايته رفع الحجاب عن قلبه, فأعرض عن هذا العالم بأسره, ورفع همته إلى ربه, فلاحت له الأسرار, وضحكت في وجهه الأنوار, فمهما تعديت أيها الإنسان بهمتك عن عالم الأجسام, وحصلت لك الغيبة عنه على التمام, أبصرت نور الحق في وجهه سرك ذا ابتسام, وهي أنوار الملكوت وأسرار الجبروت, وما حجبك عنها إلا شغل قلبك بأمر نفسك, فلو بعتها لربك يعوضك منها شهود أنوار قدسه, وما حجبك أيضا عن شهود تلك الأنوار إلا وقوفك مع خيال الحس وروية ألا غيار, كما أشار إلى ذلك بقوله: مهما ارتقيت عن قبيل الحس ..... أدركت في نفسك معنى النفس قلت: من اصطلاحات الصوفية أنهم يعبرون بالحس عما يدركه البصر من الأجسام الكثيفة, وبالمعنى عما يدركه بالبصيرة من المعاني اللطيفة القائمة: بالأجسام, وهي أسرار الذات ومعاني الصفات, فالوجود كله دائر بين حس ومعنى: الحس الظاهر, والمعنى الباطن, فالحس كأنه ظرف والمعنى مظروف, والحس لا ينفك عن المعنى, ومثال ذلك الثلجة: ظاهرها ثلجة وباطنها ماء, فالظاهر الجامد حس, والباطن المائي معنى, فالكون كله كالثلجة ظاهره كثيف ويسمى حسا, وباطنه لطيف ويسمى معنى, وفيه قال الجيلي رضي الله عنه: وما الكون في التمثال إلا كثلجة ..... وأنت لها الماء الذي هو نابع فما الثلج في تحقيقنا غير مائه ..... وغير أن في حكم دهنه الشرائع ثم أن الحق سبحانه جعل أحكام الحس مضادة لأحكام المعنى مع تلازمهما, فأحكام الحس أحكام العبودية, وهي النقائص, وأحكام المعنى أحكام الربوبية وهي الكمالات, فمن أراد أن يظفر بالمعاني بتمامها فليغب عن الحس وأحكامه, وهذا معنى قوله: "مهما ارتقيت عن قبيل الحس أدركت في نفسك معنى النفس" أي أدركت في ذلك معنى الروح, والروح لطيفة نورانية قائمة بالبدن, وهي من قبيل المعاني فمن عرف نفسه عرف ربه", ولا يفرق بين روحانيته وبشريته إلا من ترقى من عالم الحس إلى عالم المعاني. والحاصل: أن الحس ما أظهره الله تعالى إلا لتقبض منه المعنى, وهي معرفة الحق سبحانه وتعالى, فلولا ظهور الحس ما قبضت المعنى, ولوا وجود المعنى ما قام الحس, وهو معنى قول الشيخ أبي مدين رضي الله عنه: "الحق مستبد, والوجود مستمد, والمادة من غين الجود, فإذا انقطعت المادة أنهد الوجود". فالحق تعالى مستبد, أي قائم بنفسه, والوجود هو الحس الظاهر "مستمد" من المعنى الباطنية, فلو انقطعت مادة المعاني التي تمد الحس "انهد" الوجود أي اضمحل وتلاشى, لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته "إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا" وهنا معاني تضيق عنها العبارة, وعلمنا كله إشارة, وفيما ذكرته كفاية, والله تعالى أعلم. ثم عاتب من وقف مع الحس ولم ينفذ إلى المعنى, فقال: يا من على القشر غدا يحوم ..... حتى عن اللب متى تصوم؟ قلت: القشر هو ظاهر الشيء, ويسمى الصوان بكسر الصاد, لأنه يصون ما في داخله, واللب هو باطن الشيء وقلبه, فالحس قشر والمعنى لب. يقول رضي الله عنه: يا من وقف مع قشره الظاهر فاعتنى بإصلاح ظاهره وتدبير أمر بدنه أكلا وشربا وملبسا ومنكحا ومسكنا أو اعتنى برفعته وعزه وطلب رياسته وجاهه, أو اعتنى بإصلاح جوارحه الظاهرة ولم ينفذ إلى إصلاح باطنه, وغدا أي صار يحوم ويدور حول القشر الظاهر "متى" تتسمر صائما عن حلاوة المعاني الباطنية, وهي حلاوة الشهود ولذة معرفة الملك المعبود, ولم تذق منها ما ذاقت الرجال, ولم تزاحمهم على مراتب الكمال. قال إبراهيم بن أدهم أو مالك بن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئا, قالوا: وما فاتهم؟ قال: حلاوة المعرفة, فكل من وقف مع الرسوم الظاهرة لا يطمع أن يذوق حلاوة المعاني الباطنية, وكل من اشتغل بحلاوة الرسوم لا يذوق حلاوة شهود الحي القيوم, وكل من اشتغل بحلاوة العبادة الحسية لا يذوق حلاوة المعاني القدسية, ولله در الششتري حيث يقول: جميع العوالم رفعت عني ..... وضوء قلبي قد استفاق تراني غائبا عن كل أين ..... كأس المعاني حلو المذاق وقال ابن الفارض رضي الله عنه: ولو خطرت يوما على خاطر امرئ ..... أقامت به الأفراح وارتحل الهم والحاصل أن كل من اشتغل بالحس علما أو عملا لا يذوق حلاوة الشهود أبدا, ولا يطمع أن ينتقل من شغل الحس إلى شهود المعنى إلا بصحبة أهل المعنى. وإلا بقي متعوبا في عبادة الحس على الدوام, منكرا على أهل المعاني على الدوام, إلا من عصم الله, والله تعالى أعلم. والى هذا المعنى "أي دوام الإنكار ممن لم يصحب أهل المعاني" أشار بقوله: يا من إذا قيل له تعال ..... لمنهج التحقيق قال: لا لا قلت: تعال فعل أمر بمعنى أقبل, ومنهاج التحقيق هو طريق الوصول إلى معرفة الحق معرفة حقيقية عيانية لا برهانية. يقول: رضي الله عنه لهذا المنكر لطريق الخصوص: هلم إلى طريق التحقيق: طريق أهل العناية والتوفيق, طريق أهل الجمع بين التشريع والتحقيق. قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم" "هو الجمع بين الشريعة والحقيقة المفهومة", من قوله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" فلما دعا هذا المنكر إلى منهاج التحقيق أجاب بأنه ليس من أهل هذه الطريق, لأنها طريق الأبطال, لا يسلكها إلا فحول الرجال, فقال مستمرا على إنكاره لا, لا أجيبك إلى ما دعوتني, إذ لا طريق أفضل مما أنا عليه, قال تعالى: "كل حزب بما لديهم فرحون". وسبب إنكار هذه الطريق مع أنها مؤسسة على التحقيق, أمران: أحدهما أنها مبنية على قتل النفوس وخرق العوائد, وهذا الأمر ثقيل على النفوس, لا يقبله إلا من أراد الله وصوله إليه, وأهلها ثقيلون على النفوس الحية, لأن الميت لا يأوي إليه إلا مثله. الثاني: أن عمل أهلها خفي, جله باطني, بين فكرة ونظرة, فكل من ينظر إلى أعمالهم الظاهرة استحقرها في عينه, فلا يقنع بطريقتهم. قال ابن ليون التجيبي رضي الله عنه: المنكرون على الفقراء ثلاثة أصناف: أرباب الدنيا وأتباعهم, والجامدون من الفروعية وأتباعهم, والمتعمقون في الأعمال المتنمسون وأتباعهم. فأما أرباب الدنيا فلأن الفقراء أضداد لهم, لرثة ثيابهم وقلة جاههم, والضد يبغض ضده, والدنيا تورث القساوة وطول الأمل, وأتباعهم يمشون في مرضاتهم. وأما الجامدون من الفروعية "وهم علماء الظاهر" فإنهم يعتقدون الإحاطة بالشريعة, وينكون على من ترك طريقهم: وتتبعهم العوام على ذلك, والإحاطة بالشريعة متعذر, ثم قال: وحقيقة الفقه ما أدى إلى ترك الدنيا وطلب الآخرة. وأما المتعمقون في الأعمال المتنمسون ففتنهم الشيطان برؤية الأعمال, وجعلهم يزيدون أعمالا قد نهوا عنها, فعظمهم الناس فهم ينقصون لأن الفقراء لا يتصنعون, والفقير إذا رأى أعماله أشرك, وإذا رأى انه قد أخلص احتاج إلى إخلاص يخلصه من شرك نفسه, ثم قال: وقد ذهب الفقراء والصوفية مذهب أهل القرآن والحديث, وعلومهم مكارم الأخلاق التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم ليكملها ويتمها, وعامة الخلق مطلوبون بها, انتهى" انتهى المراد منه. ثم ضرب مثلا لمن جهل قدر نفسه وهي بين جنبيه, فقال: يا جاهلا من داره سكناها ..... وهو يؤدي أبدا كراها قلت: قد تقدم قوله: ولم تزل كل نفوس الأحيا ..... علامة دراكة للأشياء فأصل الروح قطعة نور جبروتي, انظر قوله تعالى: "ونفخت فيه من روحي" فلما ركبت في هذا الهيكل نسيت أصلها وجهلت أمرها بحكمة الحكيم العليم, فجعلت التعشق إلى أصلها وتجتهد في معرفة خالقها ومظهرها, وتتعب نفسها في الخدمة الحسية طلبا للوصول, فيقال لها إلى كم تتعبين نفسك والشيء أقرب إليك منك, اعرفي أصلك تعرفي ربك. قال يحيى بن معاذ الرازي: "من عرف نفسه عرف ربه" فلما انكشف عنها حجاب الوهم وجدت في الحضرة, وهي الدار التي جهلت سكناها, فاستراحت من تعبها, ووجدت الدار التي كانت تسكن فيها, كانت لها وهي لا تشعر, فهي كانت مولاة الدار, ولكن لم تشعر, فهي بمثابة من كان يسكن دارا يظنها لغيره وهو يؤدي كراها, فلما علم بحقيقة الأمر ترك الكراء, كذلك الإنسان كان قبل الوصول: يظن أن المطلوب بعيد عنه, فلما زال حجاب الوهم وجد نفسه في الحضرة وهو لا يشعر. وفي ذلك يقول بعض المشارقة: قبل اليوم كنت مقيد بقيود البين محجوب بالوهم نحسب مفردي اثنين لما تبدى جمالك زال عني الغين شاهدت عيني بعيني وصرت عين العين وقال بعض التلامذة لشيخه: أين الله؟ فقال له: أسحقك الله وأبعدك, هل تطلب مع العين أين؟ وقال الششتري: في هذا المعنى: أنا شيء عجيب لمن رآني أنا المحب والحبيب ليس ثم ثاني وقال غيره: يا قاصدا عين الخبر غطاه أينك الخبر الخمر منك والخبر والسر عندك أرجع لذاك واعتبر ما ثم غيرك وقال غيره: كم ذا تموه بالشعبين والعلم ..... والأمر أوضح من نار على علم أراك تسأل عن نجد وأنت بها ..... وعن تهامة, هذا فعل متهم وقال في الحكم "وصولك إلى الله, وصولك إلى العلم به, وإلا فجل ربنا أن يتصل به شيء, أو يتصل به شيء". وقال أيضا: "لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك, ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك". فمن من قوله "من داره" ابتدائية, وسكناها مفعول بجاهل, والمراد بالدار ذاته الحسية, والسكنى الخمرة الأزلية التي قامت بها, فهو ساكن في الحضرة وهو لا يشعر, أي يا جاهلا بسكنى الحضرة من ذاتها وهو يطلبها ويؤدي كراءها, والله تعالى أعلم. ثم وبخه على جهله بنفسه الذي كان سببا في جهله بربه, فقال: أتدري من أنت؟ وكيف تدري ..... وأنت قد عزلت والي الفكر قلت: "والي الفكر" هو العقل, لأنه هو الذي يلي الفكر ويستعمله, عزله عن ذلك, هو اشتغاله بحظوظه وهواه, حتى بعد عن حضرة مولاه, وهذا منه رحمة الله تنبيه وإيقاظ للغافل, وتقريع وتوبيخ للجاهل, يقول له: أتدري من أنت أيها الإنسان؟ ولماذا خلقت؟ وما المراد منك؟ أنت نخبة الأكوان, وأنت في الأصل قطب الزمان, أنت المقصود الأعظم من هذا الكون, فلو تفكرت في أمر نفسك لعلمت عظمة ربك فسارعت إليه بجسمك وقلبك, لكن عزلت عقلك عن الفكر والاعتبار, وشغلت نفسك بالفضول والاغترار, فلا جرم انك هوت نفسك في دار البوار, فلو تفكرت في عجائب نفسك لتحققت بمعرفة ربك, قال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" فتأمل في أول نشأتك, وفي تركيب صورتك: "فانظر رحمك الله إلى أصلك حين كنت نطفة مهينة فقلت الحق تعالى عرف دم الحيض مددا لك في رحم أمك, ثم صرت علقة, ثم مضغة, ثم فصل سبحانه تلك المضغة إلى العظم واللحم والعصب والعروق والدم والجسد والظفر والشعر, ووضع كل واحد منها لحكمة لولاها لاختل الجسد, بحسب العادة, فالعظام منها هي عمود الجسد, فضم بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال من العضلات والعصب, ربطت بها, ولم تكن عظما واحدا لأنه إذ ذاك يكون مثل الحجر أو الخشبة, لا يتحرك ولا يقوم ولا يجلس ولا يركع ولا يسجد لخالقه الحي القيوم, وجعل سبحانه وتعالى العصب على مقدار مخصوص, ولو كان أقوى مما هو, لم تصح في العادة حركة الجسم ولا تصرفه في منافعه, ثم خلق تعالى الخ. في العظام لين في غاية الرطوبة ليرطب يبس العظام وشدتها, وتتقوى العظام برطوبته, ولولا ذلك لضعف قوتها وانخرم نظام الجسد بحسب جري العادة, ثم خلق سبحانه اللحم وأعفاه وعلاه على العظام, وسد به خلل الجسد كله, فصار مستويا لحمة واحدة, واعتدلت هيئة الجسد واستوت, ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول لجريان الغذاء فيها إلى أركان الجسد, لكل موضع من الجسد عدد معلوم من العروق صغارا وكبارا, ليأخذ الصغير من الغذاء حاجته, والكبير حاجته, ولو كانت أكثر مما هي عليه أو أنقص أو على غير ما هي عليه من الترتيب ما صح شيء من الجسد عادة, ثم أجرى الدم في العروق سيالا خاثرا ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يجر في العروق, ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء, ثم كسا سبحانه اللحم بالجلد, ستره كله كالوعاء, ولولا ذلك لكان قشرا أحمر, وفي ذلك هلاكه عادة, ثم كساه الشعر وقاية للجلد, وزينة في بعض المواضع وما لم يكن فيه شعر على له اللباس عوضا عنه, وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتم الانتفاع به, ولين أصوله ولم يجعلها يابسة مثل رؤوس الإبر, إذ لو كانت كذلك لم يهنأ عيش, وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعينين, ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقيط, وجعلها سبحانه على وجه ليتمكن بسهولة من رفعها على الناظر عند قصد النظر, ومن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تؤذي رؤيته دينا ودنيا, وجعل شعرها صفا واحدا لينظر من خللها, ثم خلق سبحانه شفتين ينطبقان على الفم يصونان الحلق والفم من الرياح والغبار, وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح, ولما فتحهما أيضا من كمال الزينة وغيرها, ثم خلق سبحانه بعدها الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطحنه, ولم يخلق له الأسنان في أول الخلقة لئلا يضر بأمه في حال رضاعه, ولأنه لا يحتاج لها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية, فعوضه الله منها برأفته لبن أمه دافئا في الشتاء باردا في الصيف, فلما قوي وصلح للغذاء الخشن خلق له الأسنان, لأن الطعام لو جعل في الفم وهو قطعة واحدة لم يتيسر ابتلاعه, فيحتاج إلى طاحونة يطحن بها الطعام, فخلق اللحيين من عظمين وركب منهما الأسنان وطبق الأضراس من العليا على السفلى, لتطحن بهما الطعام طحنا, ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر, وتارة يحتاج إلى القطع, ثم يحتاج إلى الطحن بعد ذلك, فجعل سبحانه الأسنان على ثلاثة أصناف: بعضها عريضة طواحن كالأضراس, وبعضها حادة قواطع تصلح القطع كالرباعية, وبعضها صلبة للكسر كالأنياب. ثم جعل سبحانه مفصل اللحيين متخللا بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر, حتى يكون على الفك الأعلى على, دوران الرحا, ولولاهما لم يتم إضراب أحدهما على الآخر, مثل تصفيق اليدين, ثم جعل الأسفل يتحرك حركة دورية, و"اللحي الأعلى ثابت لا يتحرك" فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى, فان رحى الحلق الأعلى يدور, والأسفل ثابت, ورحى الله تعالى معكوسة الأسفل يتحرك والأعلى ثابت, ثم هب أنك وضعت الطعام في الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان؟ وكيف تستجره الأسنان إلى نفسها؟ وكيف يتصرف باليد في داخل الفم؟ فانظر كيف أنعم الله عليك فخلق اللسان يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة؟ كالمجرفة ترد الطعام إلى الرحا, هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق, ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على ابتلاعه, إلا بأن يزلق إلى الحلق بنوع رطوبة أنبع الله تعالى في الفم عينا نباعة على الدوام, أحلى من كل حلو, وأعذب من كل عذب, فيحرك اللسان بالغذاء ويمزجه بذلك الماء فيعود زلقا فينحدر في الحلق بلا مؤنة, ولهذا إذا أعدم الله تلك العين من حلق المريض لم يمض على الحلق شيء, وإن مضى فبمشقة عظيمة. ومن عجب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم في كل وقت, حتى يتكلف الإنسان طرحها, بل جرت على وجه ألجمت فيه أن تتعدى وجه منفعتها, فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم لما كنت تحتاج إلى مناولة الطعام, وجعله في الفم خلق الله لك اليدين؛ ولم يجعلك كالبهيمة تأكل على فمك, فأنعم عليك باليدين, وهما طويلتان فتمتدان إلى الأشياء مشتملتين على مفاصل كثيرة, لتتحرك في الجهات فتمتد وتنثني إليك, فلم تكن كالخشب علها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب يدور على الأربعة الباقية, ولو كانت مجتمعة لم يحصل بها تمام غرضك, ووضعها وضعا إن بسطتها كانت مجوفة, وإن ضممتها وثنيتها كانت لك مغرفة, وإن جمعتها كانت آلة للضرب, وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة للقبض, ثم خلق سبحانه أظفارا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتشتد بها أطرافها لكثرة حركتها والتصرف بها في الأمور حتى لا تتفتت, وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تأخذها الأصابع, ولتحك بها جسدك, ولما كان الشعر والظفر مما يطول, لما في طولهما في المصلحة لبعض الناس, ولتحك في جسدك, في بعض الأوقات, وكان جزهما مما يحتاج إليه في بعض الأوقات, لم يجعلا كسائر الأعضاء في تألم الإنسان بقطعهما, فانظر إلى دقائق هذه النعم, هل تقوم بشكرها؟! ثم إذا نظرت إلى الطعام كيف تجذبه الحنجرة وتبتلعه؟ ثم إلى المعدة كيف تطبخه بالحرارة التي فيها؟ ثم إذا طبخ كيف يأخذ القلب اللباب الذي صعد على وجه المعدة؟ ثم كيف يجري في العروق المتصلة به من قرنك إلى قدمك, ثم إلى نعمة الرجلين, كيف تمشي بهما إلى حاجتك؟ وجدت نفسك مغمورا بالنعم, قال تعالى: "وإن تعدّوا نعمت الله لا تحصوها" هذه كلها نعم حسية, فكيف بالنعم الباطنية, كنعمة الإسلام والإيمان والمعرفة, والعلم, وغير ذلك بما لا يحصره العقل ولا يعده النقل: "فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون" ولذلك كانت عبادة التفكر قدرها عند الله عظيما, إذ لا يتوصل إلى هذه العجائب إلا بالتفكر. ففي الحديث: " تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة". وقال كعب: "من أراد شرف الدنيا والآخرة فليكثر من التفكر". وقال الجنيد: أفضل المجالس مجلس الفكرة في ميدان التوحيد. وقال في الحكم: "الفكرة سراج القلب, فإذا ذهبت فلا إضاءة له". وفضائل التفكر كثيرة وقد شفى الغزالي في "الإحياء" فيها الغليل, والله تعالى أعلم. ثم بين شرف الإنسان وعظيم قدره إن استقام مع ربه, فقال: يا سابقا في موكب الإبداع ..... ولاحقا في جيش الاختراع قلت: "الموكب" هو الجمع العظيم, و"الاختراع" هو الإيجاد, أشار رحمه الله إلى أن الإنسان له وجودان: أحدهما سابق في الأزل, والآخر لاحق فيما لا يزال, فيحتمل أن يشير بالسابق إلى الوجود الأصلي, وباللاحق إلى التجلي الفرعي, أو إلى أصل ظهور القبضة أولا, ثم ظهور الفروقات ثانيا, وهذا يناسب قوله "موكب الإبداع", وحديث القبضة مروي عن جابر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول شيء خلقه الله؟ فقال: نور نبيك يا جابر, خلقه ثم خلق منه كل خير, وخلق بعده كل شيء, وحين خلقه أقامه قدامه في مقام القرب اثنتي عشر ألف سنة, ثم جعله أربعة أقسام فخلق العرش من قسم, والكرسي من قسم, وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم. وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثنتي عشرة ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء, فخلق القلم من قسم, واللوح من قسم, والجنة من قسم. وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثنتي عشرة ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء فخلق الملائكة من جزء, والشمس من جزء, والقمر والكواكب من جزء. وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء اثنتي عشرة ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء, فخلق العقل من جزء والعلم من جزء, والحلم والعصمة والتوبة من جزء. وأقام الجزء الأربع في مقام الحياء اثنتي عشرة ألف سنة, ثم نظر الله تعالى إليه فرشح النور عرقا فقطر منه مائة ألف وأربع وعشرون ألف قطرة, فخلق الله من كل قطرة روح نبي أو رسول, ثم تنفست أرواح الأنبياء, فخلق الله من أنفاسهم نور الأولياء, والسعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة, في حديث طويل. وهذا الحديث وإن كان ضعيفا, فله شواهد تعضده. منها حديث عمر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي خلق الله تعالى أول كل شيء نوري فسجد له, فبقي في سجوده سبع مائة عام, "فأول شيء سجد له نوري" ولا فخر, يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي خلق الله العرش من نوري, والكرسي من نوري, واللوح والقلم من نوري, والشمس والقمر من نوري, ونور الأبصار من نوري, ونور العقل الذي في رؤوس الخلق من نوري, ونور المعرفة في قلوب المؤمنين من نوري ولا فخر. وذكر الورتجيبي في تفسير قوله تعالى: "قل أن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين" عن جعفر الصادق, قال أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء, وأول من وحد الله عز وجل ذرة محمد صلى الله عليه وسلم, وأول ما جرى به القلم "لا اله إلا الله محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم. وقال في تفسير الآية: فيها إشارة إلى أوليته عليه الصلاة والسلام في عبودية الله, وإشارة إلى بدء وجوده في إتيانه من العدم بنور القدم, وانقياده في أول تجلى جلاله. قلت: وعلى هذا المحققون من الصوفية, وانظر قول العارف القطب الكبير الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه في تصليته مشهورة "اللهم صلي على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار". ثم قال: "ولا شيء إلا وهو به منوط, إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط". وقال في بردة المديح: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ..... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم وقال أيضا: فإن من جودك الدنيا وضرتها ..... ومن علومك علم اللوح والقلم ولا يعترض على مثل هذا إلا جاحد محجوب, نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب وشدة العذاب, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم حض على التفكير والاعتبار ليعرف ما عليه من النعم الغزار, فقال: اعقل فأنت نسخة الوجود ..... لله ما أعلاك من موجود قلت: ذكر أهل التأريخ أن الوجود كله خلقه الله على صورة الآدمي, من عرشه إلى فرشه, ولعل تلك القبضة النورانية النبوية كانت على صورة الإنسان, ثم تفرعت منها الأكوان كلها, فاختصر الله الوجود بأسره من هذا الآدمي, فهذا دليل على شرفه على الكون, هذا معنى قوله: "فأنت نسخة الوجود" أي مختصر منه, ويقال: الولد نسخة أبيه. وقال الجيلي رضي الله عنه: ونفسك تحوي بالحقيقة كلها ..... أشرت بجد القول ما أنا خادع وقال الششتري رضي الله عنه: وأنت مرآة للنظر ..... قطب الزمان وفيك يطوي ما انتشر من الأواني ...,...........,...؛.... وقوله: "لله ما أعلاك من موجود" تعجب من شرفه, كقولك: لله دره, أي أمرك لله لا يفهمه غيره, ما أعلا قدرك عند الله, إن عرفت أصلك وفصلك, وقمت بواجب ذلك, وإلا فأنت في أسفل سافلين. قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: قرأت مرة والتين والزيتون, إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم, ثم رددناه أسفل سافلين" ففكرت في معنى الآية فكشف عن اللوح المحفوظ, فإذا فيه مكتوب لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحا وعقلا ثم رددناه أسفل سافلين نفسا وهوى. ثم بين وجه كونه نسخة الوجود, فقال: أليس فيك العرش والكرسي ..... والعالم العلوي والسفلي قلت: اشتمال الإنسان على العالم العلوي والسفلي, يحتمل أن يكون ذلك من جهة معناه, أو من جهة حسه, أما من جهة المعنى فلا شك أن الروح أصلها ملكوتية, لا يحصرها كون, كما قال في الحكم: "وسعك الكون من حيث جثمانيتك, ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك". لكن الإنسان لما جهل نفسه وتركها محجوبة بهواها, أنحجبت روحه, وانحصرت في هذا الكون, فإذا عرفها وخرق عوائدها انخرقت له العوائد وخرجت روحه عن الكون بأسره, فلم يحجبها عن الله أرض ولا سماء, ولا عرض ولا كرسي, فحينئذ تستوي روحه على الوجود بأسره من عرشه إلى فراشه, فينطوي في جوفه العرش والكرسي والأفلاك وغير ذلك, وهو الذي قصده الششتري رضي الله عنه بقوله: أغمض طرفك ترى ..... وتلوح أسرارك وأفن عن الورى ..... تبدو لك أخبارك وبصقل المرأ ..... به يزول إغبارك قال: الفلك فيك يدور ..... ويضيء ويلمع والشموس والبدور ..... فيك تغيب وتطلع فاقرأ معنى السطور ..... التي فيك أجمع لا تغادر سطر واحد ..... من سطورك وادر أش هو القمر الذي فيك يسري وقوله: "فاقرأ معنى السطور" إلخ: اعلم أن الصوفية رضي الله عنهم يطلقون على هذه الأجرام الحسية رسوما وأشكالا وسطورا, ووجه الإطلاق الدلالة على المعاني, فكما أن الحروف تدل على المعاني, كذلك هذه الأجرام الحسية, المقصود منها هو قبض المعاني اللطيفة, وكما أن القارئ, إذا حفظ المعنى محي الرسوم, كذلك العارف إذا قبض المعنى غاب عن الرسوم, ولا يحتاج إليها. بل تمتحي من نظره, قال ابن العريف رضي الله عنه وتفتيق صورته وتشكيلها وتسويتها وتحسينها سطور, مكتوب فيها بقلم القدرة, سبحان البديع الصانع, سبحاني ما أعظم شأني, إن وحدتني تعرفني. فهذا معنى السطور التي في الإنسان, فإذا حفظ هذا المعنى محي رسمه واسمه, وبقي معناه, والله تعالى أعلم.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:22 pm
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وأما من جهة حسه فقد قال بعضهم: إن جسد بني آدم مشتمل على ما اشتمل عليه العالم بأسره, جعله الحق تعالى نسخة الوجود, يحاكي بصورته كل موجود, ففيه جسم كثيف ونور لطيف, نصفه ساكن, ونصفه متحرك, نصفه نور ونصفه ظلمة,، وجعل فيه العناصر الأربعة, واستودع فيه قوة الجلب والدفع, الضرر والنفع, وجعل قلبه خزانة لسره, ولسانه ترجمان ذلك, وعيناه حارستان وأذناه مخبرتان, ورجلاه مطيتان, ويداه خادمتان, وجعل رأسه عرشه, وصدره كرسيه, وجانباه شرقه وغربه, وجعل حركته كحركة الشمس والقمر والنجوم, وتركيبه على تركيب العالم العلوي, فجعل في ظهره أربعة وعشرين فقارة, على عدد الساعات, وفي جسده ثمانية وعشرين مفصلا, على عدد المنازل, وفي جوفه اثنا عشر معنى, على عدد البروج والشهور, وفيه ثلاثمائة وستة وستون عرقا نافضا ومثلها ساكنة على عدد أيام العام, وجعل معدته بيت ماله, وكبده قسامه, وجعل لحمه كالتراب, وعظامه كالجبال, وشعره كالنبات, وعروقه كالأنهار, وجواهره معادن وهي تسعة: لحم, ودم, وعظم, وعصب, ومخ, وشحم فهذه ستة خفية, وثلاثة ظاهرة وهي: الجلد, والشعر, والظفر, وفيه اثنا عشرة عنصرا, سبعة في الرأس: العينان, والأذنان, والمنخران والفم, والباقي في الجسد: الثديان والمخرجان والسرة, إلى غير ذلك لا يدرك, كما ذكره الشطيبي, في الفصل الأول, فانظره. قال الشيخ عبد الوارث: فأنت لباب هذه العوالم كلها فإذا أطعت الله أطعته بها كلها, وإذا عصيته فكذلك, فلأجل ذلك عظمت المعاصي منها, فتواعدنا عليها بالعذاب الأليم, وعظمت الطاعة فوعدنا الله عليها بالثواب الجسيم. قلت: وفي هذا المعنى انشدوا: إذا كنت كرسيا وعرشا وجنة ..... ونارا, وأفلاكا تدور وأملاكا وكنت من السر المصون حقيقة ..... وأدركت هذا بالحقيقة إدراكا ففيم التأني في الحضيض تثبطا ..... مقيما مع الأسرى أما آن إسراكا وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: الخلق كلهم عبيد مسخرة, وأنت عبد الحضرة, ثم جمع ما تقدم, فقال: ما الكون إلا رجل كبير ..... وأنت كون مثله صغير قلت: قد تقدم أن الإنسان نسخة من العالم حسا ومعنى, ولا يستغرب هذا, فقد قالوا: إن الناموسة فيها ما في الفيل, وزادت عليه بالجناح, فانظر كيف اجتمع في البعوضة ما افترق في الفيل, مع صغر جرمها, فكذلك الإنسان: اجتمع فيه ما افترق في الكون, وزاد عليه بسر الروح, وهو العقل الأكبر, وكون الإنسان رجلا صغيرا هو في حق من غلبت عليه البشرية, وأما من غلبت روحانيته فقد صار هو العالم الأكبر, والكون العالم الأصغر, لأن الروح تستولي عليه, ويصير في جوفها كشيء تافه, بل ينمحي بالكلية, والى هذا أشار ابن الفارض بقوله: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ..... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي والمعنى الذي هو فيه اللطيفة الروحانية السابقة في موكب الإبداع على جيش الاختراع, والله تعالى أعلم. ومما عظم به أمر الإنسان, جمعه بين الضدين, والى ذلك أشار بقوله: فأنت لست من قبيل الأرض ..... حتى إذا رميت فيها تمضي قلت: قد خص هذا الإنسان بعجائب لم توجد في غيره, فهو سماوي أرضي, روحاني جسماني, نوراني ظلماني لطيف كثيف. واعلم أن الله سبحانه لما أراد أن يتعرف إلى هذا الإنسان, وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية: لطيفة لاهوتية مودعة في كثيفة ناسوتية, فمن غلبت لطافته على كثافته كان روحانيا والتحق بالروحانيين, ومن غلبت كثافته على لطافته كان جسمانيا والتحق بالبهائم, ومن توسط نال شيئا من طبع البهائم وشيئا من طبع الروحانيين, وكان من أهل اليمين, فأنت أيها الإنسان لست من قبيل الأرض كالبهائم, حتى إنك مت صرت ترابا وتمضي هباء, لكنك مركب من روح وشبح, فإذا مات الشبح بقيت الروح, إما في غبطة أو حسرة, فالموت ليس عدما محضا, وإنما هو انتقال من دار إلى دار, ومن حال إلى حال, قال تعالى: "فأما إن كان من المقربين, فروح وريحان وجنات نعيم". الآية. ومما ينسب للغزالي رضي الله عنه بعد موته وجدت عند رأسه, وقيل لغيره: قل لإخوان رأوني ميتا ..... فبكوني ورثوني حزنا أتظنون بأني ميتكم ..... ليس ذاك الميت والله أنا أنا في الصور, وهذا جسدي ..... كان لباسي وقميصي زمنا أنا كنز وحجاب طلسم ..... من تراب, قد تهيا للفنا أنا در قد حواني صدف ..... حرت عنه فتخلى وهنا أنا عصفور وهذا قفصي ..... كان سجني, فألفت السجنا أشكر الله الذي خلصني ..... وبنا لي في المعالي وطنا كنت قبل اليوم ميتا بينكم ..... فحييت, وخلعت الكفنا فأنا اليوم أناجي ملكا ..... وأرى الحق جهارا علنا عاكفا في اللوح أقرأ وأرى ..... كل ما كان ويأتي أو دنا وطعامي وشرابي واحد ..... وهو رمز, فافهموه حسنا ليس خمرا سائغا أو عسلا ..... لا, ولا ماء, ولكن: لبنا هو مشروب رسول الله إذ ..... كان لسر من فطره فطرتنا فحيي ذي الدار نوم مغرق ..... فإذا مات طار الوسنا لا تظنوا الموت موتا انه ..... لحياة وهو غاية المنى لا ترعكم هجمة الموت فما ..... هو إلا انتقال من هنا فاخلعوا الأجساد من أنفسكم ..... تبصروا الحق عيانا بينا وخذوا في الزاد جهدا لا تنوا ..... ليس بالعاقل هنا من ونا أحسنوا الظن برب راحم ..... تشكروا السعي وتأتوا أمنا ما أرى نفسي إلا أنتم ..... واعتقادي أنكم انتم أنا عنصر الأنفاس منا واحد ..... وكذا الأجسام جسم عمنا فمتى ما كان خير فلنا ..... ومتى ما كان شر فمنا فارحموني ترحموا أنفسكم ..... واعلموا أنكم في إثرنا أسأل الله لنفسي رحمة ..... رحم الله صديقا أمنا وعليكم مني سلام طيب ..... وسلام الله بر وثنا ثم قال: فاحتل على النفس فرب حيلة ..... أنفع في النصرة من قبيلة قلت: يقول رضي الله عنه: احتل أيها الإنسان على نفسك وسايسها جهدك, حتى تردها إلى مولاها فإذا رجعت إلى مولاها أتتك بطرائف العلوم, وفتح لك مخازن الفهوم, ولا حيلة أنفع فيها من أن تأخذ بزمامها وتدفعها إلى شيخ التربية يفعل بها ما يشاء, وتمتثل ما يأمرك به, وأما غير هذا فتعب وعنت لا يجدي ولا يفيد, وجرب ففي التجريب علم الحقائق, والتوفيق بيد الله, ولا حول لا قوة إلا بالله العلي العظيم. فائدة: قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: اعلم أن البيبان, أي الأبواب كلها مغلوقة بين الله وعبده إلا باب نفسه, من لم يدخل على الله من باب نفسه لا يدخل أبدا, من عادى نفسه فاز بإقبال الخلق عليه, ومن صادق نفسه فاز بإقبال مولاه عليه, لكن مصادقة النفس هذه التي ذكرنا لا تكون إلا بصحبة عارف بالله إن وجده, وأما قبل وجوده فلا, فإذا عادى الإنسان نفسه فلا بأس به, لأن هذه النفس خيرها ما له حصر, لا يعلم قدره إلا الله, وشرها ما له حصر, لا يعلم قدره إلا الله, ومن استشرف على خيرها هام فيه وفاته شرها, ومن استشرف على شرها هام فيه وفاته خيرها, ويرحم الله القائل: وسمعت الخطاب: ما ذاتي ..... من مكان قريب يا حياتي وأنت في ذاتي ..... حاضر لا تغيب هذا والله ممن دخل على مولاه من باب نفسه, ويكفيك في النفس شرفا قوله صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه عرف ربه". ومن كلام شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب نفعنا الله بالجميع. من أين جيتي يا ذي الروح الهايما روحانيا ... الساكنا في أبساط أحوالها ربانيا وقال أيضا: راعي من النفس جهدك ..... ومسي وصبح عليها لعلها تدخل بيدك ..... تعود تصطاد بيها صار الأمر كما قلنا: عداوة النفس تمكنك من نواصي الخلق, أنت تزيد عداوة لنفسك والخلق يزيد إقبالا عليك, وأنت تزيد بعدا من مولاك ومصاحبة لنفسك تجمع بينك وبين هواك, أنت تزيد عداوة من نفسك وأنت تزيد قربا من ربك وإقبالا منه عليك, وأنت تزيد قربا من مولاك, وأنت تزيد بعدا من الخلق, وذلك لأنك إذا قربت من مولاك يشم الخلق فيك رائحة لا يعرفونها, فيحصل الإنكار منهم عليك, لأن "من جهل شيئا عاداه". جرت عادة الله تعالى أن الداخل إلى الله منكور, والخارج إلى الخلق مبرور. قال الشاعر: من يخطب الحسناء ... يصبر على البذل. ثم رجع إلى التوبيخ من ينكر عالم المعاني, وهو العالم الروحاني, فقال: يا منكر المعقول والمعاني ..... ما الصنع في أمثلة القرآن قلت: مضمن كلامه في الرد على من ينكر المعاني ويقر المحسوسات أن يقال له: لو كان الأمر محصورا في المحسوسات ما احتاج الله تعالى أن يضرب لنا الأمثال للأمور المعنوية بالأمور الحسية, لنفهم بسرعة, كضربة مثلا للعلم النافع بالماء النازل من السماء الذي يطهر الأرض وتمتلئ منه الأودية في قوله "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" الآية, فإن العلم يطهر النفوس من ظلمات الجهل والشك والشرك, ويطهر القلوب من كدر الأغيار, والأرواح من لوث الأنوار, وتمتلئ منه القلوب: كل على قدر وسعه, كما أن الماء يطهر الأرض من الأدناس والأنجاس, وتمتلئ منه الأودية, كل على قدر وسعه وكقوله تعالى: "مثل نوره كمشكاة". الآية, وكقوله تعالى: "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء" الآية. إلى غير ذلك, فدل ذلك على أن الأمر على قسمين, منه ما هو حسي يدرك بالحس, ومنه ما هو معنوي يدرك بالعقل والروح, أو السر, ولما كان قد يخفى على بعض الناس ضرب الله له الأمثال بالأمور المحسوسة, تقريبا للفهم, والله تعالى أعلم. فما تقول أيها المنكر لعالم المعاني في هذه الأمثلة التي ضربها الله في كتابه تقريبا لفهم المعاني. قلت: وهذا الذي قاله الناظم لا ينهض في الرد على المنكر, لأن المعاني التي يثبتها الصوفية إنما هي معاني الصفات وأسرار الذات التي قامت به الأشياء, لا هذه المعاني التي ضرب الله لها الأمثال, فإنما هي أمور عقلية يدركها العقل ويقرها أهل الظاهر, ولا ينكرها أحد. نعم عندنا آيات تشهد بظاهرها لعالم المعاني, كقوله تعالى: "الله نور السماوات والأرض", "إن الذين يبايعونك", "قل انظروا ماذا في السماوات"الآية, "هو الأول والآخر والظاهر والباطن. الآية. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على غوامض التوحيد وأسرار التفريد, ومن لم يبلغ فهمه هذا فشأنه التسليم, وإلا وقع في الإنكار على أولياء الله, فيصبح من الصم البكم الذين لا يعقلون. والحاصل: أن عالم المعاني لا يدرك إلا بصحبة أهل المعاني, ولا يؤدى بالعبارة, وإنما يرمز عليه بالإشارة, فمن لم يفهم الإشارة فلا سهم له فيه, كما أشار إلى ذلك بقوله: بعدا أرى فيك عن الإشارة ..... هل تنكرن رواية العبارة قلت: يقول رضي الله عنه لهذا المنتقد: أرى فيك بعدا عن فهم الإشارة, فكيف تفهم المعاني وهي لا تؤدى إلا بالإشارة؟ وإذا بعدت عن فهم الإشارة فقد وردت رواية العبارة بإثبات ما تنكر من المعاني, هل تنكر رواية العبارة بعد أن بعدت عن فهم الإشارة , فما تقول في آيات وأحاديث تدل على ثبوت المعاني والعالم الروحاني, وكأنه يشير إلى الآيات التي قدمنا آنفا من قوله: الله نور السماوات والأرض الخ. والحديث القدسي: "ويقول الله تعالى: عبدي مرضت فلم تعدني" الحديث ففيه ثبوت عالم المعاني, والله تعالى أعلم. ثم وبخه على وقوفه من عقله فقال: يا جاهلا أقصي الكمال وقفا ..... على عقول وهمها لا يخفى قلت: عقول بني آدم ضعيفة محصورة, لا تدرك من التوحيد والمعرفة إلا افتقار الصنعة إلى صانعها, ثم تستدل على صفات هذا الصانع بما تدرك من المصنوعات, كوحدانيته وقدمه وبقائه وقدرته وحياته, إلى سائر صفاته المعلومة, وهي لا تأمن الخطأ ولا تسلم من الوهم والخواطر, لأنها في محل البعد, ومالها إلا الإيمان بالغيب, فمن وقف مع عقله وجعل ما أدركه به هو أقصى غاية الكمال, فهو مغبون, وبالجهل المركب مفتون, قال تعالى: "وخلق الإنسان ضعيفا" وهو عام يصدق بضعف العقل وغيره, أي ضعيفا من كل شيء, وقال ابن الفارض: ثم وراء النقل علم يدق عن ..... مدارك غايات العقول السليمة بخلاف ما أدركته الروح أو السر من المعاني اللطيفة والأسرار القديمة, فإن ذلك أذواق وكشوفات ومشاهدات, لا يبقى معها وهم ولا ظن ولا خاطر, وقال المجذوب: طلع النهار على قلبي ..... حتى نظرت بعينيّا أنت دليلي يا ربي ..... أنت أولى مني بيا واعلم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر: تطورات للروح اللطيفة النورانية كما تقدم, وكل واحد من هذه التطورات له حد من العلم والإدراك لا يتجاوزه. أما النفس فحد إدراكها: زينة ظاهر الكون اغترارا بمتعة ظاهره, وغفلة عن عبرة باطنة, لاشتغالها بحظوظها وهواها, فهي لا تلتفت إلى خالقها ومولاها, فإذا نبهت أقرت حينئذ, ثم رجعت إلى نومها, كمن طرش قائما فأفاق, ثم رجع إلى نومه. وأما العقل فحد إدراكه وعلمه: افتقار الصنعة إلى صانعها على ما تقدم: معقول عن غير ذلك. وأما القلب فحد إدراكه تعشقه وتوجهه إلى خالقه بترك الأغيار وطلب الأنوار, انطلق من المقال في طلب الكمال, ولكنه من وراء الحجاب, لم يفتح له الباب. وأما الروح فحد علمها وإدراكها مواجهة أنوار الملكوت, طالبة أسرار الجبروت, قد استراحت من تعب السير, لكنها لم تتمكن من السر: وأما السر فمنتهى إدراكه أسرار الجبروت, فقد نفذت البصيرة من الوقوف مع أنوار الملكوت, وهذا منتهى السير, قال تعالى: "وأن إلى ربك المنتهى". ثم يبقى الترقي في المكاشفات والمشاهدات والعلوم والأسرار, إذ لا نهاية لها وقل رب زدني علما_. قال في العوارف: وأعلم أن الاتصال والمواصلة أشار إليه الشيوخ, وكل من وصل إلى صفو اليقين بطريق الذوق والوجدان فهو في رتبة من الوصول, ثم يتفاوتون: فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال, فيغني عن فعله وفعل غيره, لوقوفه مع فعل الله ويخرج في هذه الحالة من التدبير والاختيار, وهذه رتبة في الوصول. ومنهم من يترقى إلى مقام الفناء, مشتملا على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة, مغيبا في شهوده عن وجوده, وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين, وهذا رتبة في الوصول وفوق هذا مقام حق اليقين, ويكون في ذلك في الدنيا للخواص لمح وهو: سريان نور المشاهدة في كلية العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه, حتى قالبه, وهذا من أعلى رتب الوصول, وإذا تحققت الحقائق يعلم العبد من هذه الأحوال الشريفة أنه بعد أول المنزل فأين الوصول, هيهات, منازل طريق الوصول لا تنقطع أبد الآباد في عمر الآخرة الأبدي فكيف في العمر القصير الدنيوي؟ انتهى. وذكر الناظم للإنسان تطورا آخر, فقال: أول أطوارك منذ أول ..... الحس والتمييز والتخيل والعقل والذكر معا والفكر ..... هيهات, بل وراء ذلك طور قلت: الأطوار هي الأحوال التي ينتقل إليها الإنسان من أول نشأته, كطور اجتنانه وطور طفوليته, ثم شبوبيته, ثم كهولته ثم شيخوخته, قال تعالى: "وقد خلقكم أطوارا" هذا باعتبار الذات الحسية, وأما اعتبار المعاني الباطنية فأول ما يدرك الإنسان الحس, فيحس بألم الجوع وأضراره والبرودة وغير ذلك من الأمور الضرورية, ثم التمييز بين أمه وغيرها, وبين القريب والبعيد, ثم الخيال, وهو أول منشأ الخوف والوهم, فيخاف من أمور يعتقد أنها تضر, ويحب أمورا يعتقد أنها تنفع. ثم عقل التمييز بين الضار والنافع الحقيقي, والمراد بالعقل: نهايته, لأن هذه الأمور كلها أطوار للعقل, لكن لما كان ضعيفا جعل يتطور هكذا, وأول خلق العقل عند اجتنان الولد في بطن أمه, ثم لا يزال ينمو حتى يكمل, وهو نور خص به هذا الآدمي من دون الحيوانات شرفا له, وهو يتفاوت في النور بحسب القسمة الأزلية. ثم بعد العقل: القلب, وهو محل الذكر. ثم بعد القلب: الروح, وهي محل الفكر وهو التفكر, في عجائب المصنوعات. هذا غاية ما أدركه العامة, وبقي مرتبة السر, وهي محل الشهود, والنظرة, وهو الذي حجب عن العوام, وهو الذي أشار إليه بقوله "هيهات" بل وراء ذلك طور وهو مقام السر, وهو خارج عن مدارك العقول, لا يناله إلا الأفراد الفحول, والى ذلك أشار بقوله: ما ناله الجمهور والوراد ..... وإنما يناله الأفراد قلت الوراد: جمع وارد, وهو الذي يقصد الماء للشرب, يعني أن هذا السر الذي هو وراء العقول والأفكار القصيرة ما ناله جمهور الناس, ولا كل من قصده وأراده, وإنما ناله الأفراد من الرجال, دلهم الحق تعالى أولا على أوليائه من أهل هذا السر, وأطلعهم على ما أودعهم من خصوصية اصطفائه, فأسلموا إليهم أنفسهم, وانقادوا إليهم بكليتهم, حتى قالوا لهم: ها أنتم وربكم, فهؤلاء هم الذين أطلعهم على مكنون سره, وأسرار غيبه, فإن باحوا بها أبيحت دماؤهم غيرة عليه من مولاهم, كما تقدم, وهو الذي أشار إليه الشيخ أبو مدين بقوله: وفي السر أسرار دقاق لطيفة ..... تراق دمانا جهرة لو بها بحنا ثم قسم العقل على ثلاثة مراتب على اصطلاح القدماء, فقال: منفعلا يدعى ومستفاد ..... وعقل تخصيص لمن أراد قلت: هذا اصطلاح القدماء, جعلوا العقول ثلاثة: عقلا يسمى منفعلا, وهو العقل الغريزي المجعول فيه من غير اكتساب, وعقلا يسمى مستفادا, وهو المكتسب بالمجاهدات والرياضات والتجريبات, ولذلك يقول العامة: كل محنة تزيد عقلا, وعقلا يسمى عقل التخصيص, وهو: الذي خص الله به أنبياءه ورسله, وقد ينتهي إلى بدايته العقل المستفاد بالرياضة, وهو عقل أكابر الأولياء, فنهاية كمال عقل الأولياء بداية عقل الأنبياء, ولذلك كانت نهاية الولي بداية النبي, كما أشار إلى ذلك بقوله: وحيث فيه ينتهي الولي ..... فمن هناك يبتدي النبي قلت: فنهاية الولي بداية النبي, ونهاية النبي بداية الرسول, ونهاية الرسول بداية نبينا "محمد" صلى الله عليه وسلم: وكلهم من رسول الله ملتمس ..... غرفا من البحر أو رشفا من الديم وواقفون لديه عند حدهم ..... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم فأول قدم النبي: الجمع بين الحقيقة والشريعة, لأنه لا سير له, لأن السير في ميادين النفوس, وهم مطهرون منها, فقد خاضوا بحر التحقيق, ثم رجعوا إلى التشريع, وأما قول أبي يزيد: "خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله" فمراده أنه دخل البحر ولم يخرج إلى ساحل بر الشريعة, فهو إقرار منه بالتقصير, لأنه قال هذا في حال الجذب, والمجذوب ناقص حتى يصحو من سكره ويرجع إلى البقاء, بخلاف الأنبياء عليهم السلام, فقد عرفوا البحر وخاضوه, وخرجوا إلى البر ليسلكوا الناس. وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في تأويله: فمعنى وقفت الأنبياء بساحله من الجانب الآخر, على ساحل الفرق, يدعون الخلق إلى الخوض فيه, أي فلو كنت كاملا لوقفت حيث وقفوا. قال في لطائف المنن: وهذا الذي فسر به الشيخ هو اللائق بمقام أبى يزيد, وقد قدمنا عنه أنه قال: جميع ما أخذ الأولياء كزق مملوء عسلا, ثم رشحت منه رشاحة, فما في باطن الزق للأنبياء, وتلك الرشاحة هو للأولياء, والمشهور عن أبى يزيد هو التعظيم لمراسم الشريعة والقيام بكمال الأدب, انتهى. وأما قول من قال: إن دائرة الولي أوسع من دائرة النبي, فمراده بذلك أن الأنبياء عليهم السلام لشدة قربهم من الحضرة مشدد عليهم في الأدب والحضر والهيبة والتعظيم والإجلال, فأقل شيء يصدر منهم يعاتبون عليه, بخلاف الأولياء فدائرتهم أوسع من جهة طلب الأدب والحضور, فهم موسع عليهم من جهة الأدب, وكذلك دائرة الشهداء, وهم المجاهدون نفوسهم في طلب الحق, دائرتهم أوسع, وبعدهم دائرة الصالحين, وبعدهم العوام. وهذه صورة الدوائر في الحس, فالنقطة هي الحضرة مثلا, والدائرة الأولى للنبيين, والثانية للصديقين, وهم الأولياء, والثالثة للشهداء, وهم السائرون والرابعة للصالحين, ومن ورائهم عموم المسلمين. وكلما كثر القرب وقع التضييق في الطلب للقيام بحسن الأدب, وبقدر التضييق في الطلب يقع التوسع في العلوم, لأن المدد على قدر القرب. وأعلم أن ترقي الأنبياء محجوب عن الأولياء, كما أن ترقي الأولياء محجوب عن العوام. قال الغزالي رضي الله عنه: اعلم أن منازل السلوك لا غاية لها, ولا يعرف السالك منها إلا ما رقي عنه, ولا يعرف ما بين يديه إلا بطريق الإيمان بالغيب, كما أخبر الله به, فكما أن الأجنة لا تعرف أحوال الطفولية, والطفولية لا تعرف أحوال العقلاء, والعقلاء لا يعرفون أحوال القضايا الربانية "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" والله تعالى أعلم. ثم كمل الكلام على عقل التخصيص الذي اختص به الخواص, فقال: وفيه تجلى جمل المعارف ..... فمن رآها قيل له عارف قلت: الضمير لعقل التخصيص, أي وفي عقل التخصيص تظهر وتجلى جمل المعارف الربانية والعلوم اللدنية, لأنه ما سمي عقل التخصيص حتى تطهر من الأغيار وتهذب من الرعونات والأكدار, إما بالأصالة أو بالمجاهدة, فإذا تطهر من ألا غيار ملئ بالمعارف والأسرار, فالمعارف هي العلوم, والأسرار هي الأذواق, فمن رآها وذاقها يقال له: عارف, ومن لم يصل لهذا المقام وكان من أهل الدليل يقال له: عالم. والفرق بين العالم والعارف: أن العالم دون ما يقول, والعارف فوق ما يقول. العالم يصف الطريق بالنعت, والعارف يصفها بالعين, لأنه سار معها وعرفها, والعالم إنما نعتت له فقط. العالم محجوب, والعارف محبوب. العالم من أهل اليمين, والعارف من المقربين. العالم من أهل البرهان, والعارف من أهل العيان. العالم من أهل الفرق, والعارف من أهل الجمع. العالم من أهل قوله تعالى "إياك نعبد" والعارف من أهل قوله تعالى "وإياك نستعين". العالم يدل على العمل, والعارف يخرجك عن شهود العمل. العالم يحملك حمل التكليف, والعارف يروحك بشهود التعريف. العالم يدلك على محافظة الصلوات, والعارف يدلك على ذكر الله مع الأنفاس واللحظات. العالم يدلك على الأسباب, والعارف يدلك على مسبب الأسباب. العالم يدلك على شهود الوسائط, والعارف يدلك على محرك الوسائط. العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار, والعارف يحذرك من الوقوف مع الأنوار فيزج بك في حضرة الجبار. العالم يحذرك من الشرك الجلي, والعارف يخلصك من الشرك الخفي. العالم يعرفك بأحكام الله, والعارف بذات الله. العالم يدلك على العمل لله, والعارف يدلك على العمل بالله. العالم يدلك على العمل خوفا وطمعا, والعارف يدلك على العمل محبة وشكرا. والحاصل: أن من لم يسعده الله بملاقاة العارف, فلا شك أنه في نفسه تالف, ولله در صاحب بداية السلوك, حيث يقول: إن لم تلاق عارفا في مدتك ..... لا عاش عمر عيشه كعيشتك وحقيقة العارف هو: الذي فني عن نفسه وبقي بربه, وكمل غناه في قلبه لا يحجبه جمعه عن فرقه, ولا فرقه عن جمعه, يعطي كل ذي حق حقه, ويوفي كل ذي قسط قسطه, والله تعالى أعلم بغيبه. وهذا المقام الكريم لا يناله إلا من له حظ عظيم, كما أبان ذلك بقوله: فهذه ميادين الأبطال ..... ليست لكل جبان بطال قلت: الميادين جمع ميدان بالفتح والكسر, وهو مجال الخيل, استعير هنا للخروج من ضيق الأشباح, إلى عالم الأرواح, وهو فضاء الشهود والتنزه في حضرة الملك المعبود, لأن فيه تتسع دائرة العلوم, وتجري نتائج الفهوم فيه تجول الأفكار في عظمة الواحد القهار. والأبطال: جمع بطل, وهو الشجاع, والجبان هو: الخواف. يقول رضي الله عنه: هذه العلوم والمعارف التي تتجلى في قلوب العارفين, وتجول في سعة رياضها أفكار المقربين, هي ميادين الأبطال, ومجاري أسرار الرجال, لا ينالها البطالون ولا يدخل في هيجائها الخوافون, بل ما نالها إلا أهل الحزم, وما طلب جهادها إلا ألو العزم. وفي ذلك يقول الجيلي رضي الله عنه: وإياك جزعا لا يهولك أمرها ..... فما نالها إلا الشجاع المقارع وقال آخر: أيها العاشق معنى حسننا ..... مهرنا غال لمن يخطبنا جسد مضنى وروح في العنا ..... وجفون لا تذوق الوسنا وفؤاد ليس فيه غيرنا ..... فإذا ما شئت أد الثمنا وفي التحقيق ما ثم إلا سابقة التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قرر ما تقدم, وهو أن دخول الميدان لا يصلح للجبان, فقال: هل يصلح الميدان للجبان ..... أو يكمل الزرع بلا إبان قلت: الإبان هو الوقت, يعني أن ميادين القتال لا يدخلها إلا أبطال الرجال, فالجبان لا يتركه الفزع أن يدخل الميدان. قال شيخ شيخنا رضي الله عنه: ثلاثة أصناف من الناس لا ينالون من هذا الطريق شيئا: الخواف, والمستحي, والمتكبر, وإذا شجع نفسه ودخل في طريق الخصوص فلا يستعجل الفتح قبل أبانه, لئلا يعاقب بحرمانه, فمن غرس شجرا أو زرع فلا يطمع أن يثمر قبل وقته, كذلك شجرة المعرفة تنبت في قلب المريد حين ملاقاته إن كان يحرسها ويخدم عليها ويسقيها, طلعت متناهية في الخضورة والبهجة, وأطعمت سريعا, وإن فرط فيها أبطأت, وربما ماتت, وحرسها هو: العزلة وعدم خلطة العوام, وخدمتها هو: الذكر والفكر, وسقيها هو الجلوس بين يدي الأشياخ واستعمال الأحوال والواردات, ونهاية إطعامها هو الطمأنينة بالله والتمكين في المعرفة بالله, والغنى بالله عن كل شيء, فحينئذ يكون من الأبطال, ويصلح لدخول الميدان, فتربية الشيوخ إنما هي لهذه الشجرة التي هي شجرة المعرفة, فما دام صاحبها يفتقر إلى من يسقيها له, فلا بد من مدد الشيخ, فإذا أثمرت واشتدت عروقها استغنت عن ماء غيرها, وبالله التوفيق. ثم تعجب من إنكار الناس ما لم يحيطوا به علما, فقال: ما أنكر الناس لما لم يعرفوا ..... ما أهجر الولاف لما لم يألفوا؟ قلت: ما تعجبية مبتدأ بمعنى شيء, والجملة بعدها خبر, والولاف جمع والف, من ألف الشيء إذا أولع به, أي شيء عظيم صير الناس منكرين ما لم يعرفوا, وهاجرين ما لم يألفوا, تعجب رضي الله عنه من إسراع إنكار الناس على أهل هذه الطريق, مع أنهم لا معرفة لهم بها, ومن إسراعهم في هجران أهلها لتعاطيهم أمورا لم يألفوها, ولا غرابة في ذلك, إذ الإنكار على الخصوص سنة ماضية, فان ثلث القرآن كله في الإخبار عن تكذيب الصادقين, وكذلك إنكار ما لم يؤلف فإنه هو السبب في تكذيب الرسل, قالوا: "وما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين", "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون", "قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا", فكل من أتى بخرق العوائد التي اعتادها أهل زمانه فلا بد من إنكار عليه: سنة ماضية, ولن تجد لسنة الله تبديلا. قال في لطائف المنن: وأعلم أن الله تعالى ابتلى هذه الطائفة بالخلق, ليرفع بالصبر على من آذاهم مقدارهم, وليكمل بذلك أنوارهم, ولتحقيق الميراث فيهم ليؤذوا كما أوذي من قبلهم فيصبروا كما صبر من قبلهم, ولو كان كل من أتى بهدي أطبق الخلق على تصديقهم هو الكمال في حقهم, لكان الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد صدقه قوم هداهم الله بفضله, وحرم من ذلك آخرون حجبهم الحق عن ذلك بعدله, فانقسم العباد في هذه الطائفة إلى معتقد ومنتقد, ومصدق ومكذب, وإنما يصدق بعلومهم وأسرارهم من أراد الحق سبحانه أن يلحقه بهم, والمعترف بتخصيص الله وعنايته فيهم قليل, لغلبة الجهل واستيلاء الغفلة على العباد, وكراهة الخلق أن يكون لأحد منهم شفوف في منزله واختصاص بمنة, ألم تسمع قوله تعالى "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ومن أين لعموم العباد أن يعلموا أسرار الحق في أوليائه, وشروق نوره في قلوب أصفيائه, انتهى المراد منه. قلت: واحتجاب الأولياء عن العامة لطف كبير من الله بأوليائه, واعتناء عظيم منه بأسرار أحبائه, فإن إقبال الناس على الولي قبل التمكين فتنة كبيرة, وانظر ما قال الشيخ ابن مشيش: أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون لي ملجأ إلا إليك, ولله در القائل: استتار الرجال في كل أرض ..... تحت سوء الظنون قدر جليل ما يضر الهلال في حندس الليل ..... سواء السحاب, وهو جميل وفيه أيضا لطف كبير بعامة عباده, إذ لو أظهر سرهم لعامة الناس لكان كل من آذاهم حارب الله ورسوله, لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: يقول الله عز وجل من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب, فقد قيد الحديث بعد معرفتهم, فأخفاهم الله لطفا بخلقه. وقد ضرب بعضهم مثلا لهذا, فقال: مثل إذاية العامة لأخفياء أولياء الله كمثل الأعمى إذا رمى بعكازته على رجل صاحب بصر فأوجعه, فانه يقوم إليه حتى إذا وجده أعمى كف عنه وعذره, ولم يبق في قلبه حرج عليه, وربما أخذ بيده ودله على الطريق. وقد سأل رجل إبراهيم بن ادهم رضي الله عنه على العمران, فدله على المقبرة, فضربه حتى شجه, فلما قيل له هذا إبراهيم بن أدهم, فجعل الرجل يقبل يده ورجله, ويقول له: أعذرني فإني لا أعرفك, فقال له إبراهيم: والله ما رفعت يديك من ضربي إلا وأنا أسأل لك المغفرة. ثم دعاهم إلى كتاب الله ليحكم بينهم, فقال: أليس قد جبلت العقول ..... على الذي جاء به التنزيل قلت: جبل على الشيء: طبع عليه وألفه, ولا شك أن العقول مجبولة على تصديق ما جاء في القرآن, وهو قد جاء بالحقيقة والشريعة, وإلا أن التشريع فيه كثير, وذكر الحقيقة قليل, لأن أهلها قليلون, وإذا تأملت في القرآن وجدته يشرع, ثم يحقق, يقول سبحانه وتعالى افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا, حتى يظن الجاهل أن الأمر بيد الخلق, ثم يقول: "ولو شاء ربك ما فعلوه", "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد", "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة, ولا يزالون مختلفين", "وما تشاءون إلا أن يشاء الله". فقوم وقفوا مع ظاهر الشريعة, فحجبوا عن الحقيقة, وهم أهل الحجاب, وقوم نفذوا إلى شهود الحقيقة وأنكروا الحكمة, وهم أهل الجذب, وقوم جمعوا بينهما, وهم أهل الكمال. فعلم الحقيقة هو علم الباطن, وهو علم العالم الروحاني, وعلم عالم المعاني الذي ينكره المنكر, وليس ثم شيء غير هذا. فثبت أن القرآن ورد بما أنكروا, فقامت الحجة, وتبينت المحجة, وبالله التوفيق. ثم ضرب مثلا للحقيقة والشريعة في الحس, فقال: هل ظاهر الشرع مع الحقيقة ..... إلا كأصل الفرع في الحديقة قلت: الشريعة عمل الجوارح, والحقيقة معرفة البواطن, فالشريعة أن تعبده, والحقيقة أن تشهده, فالشريعة من وظائف البشرية, والحقيقة من وظائف الروحانية, والشريعة قوت البشرية, والحقيقة قوت الروحانية, وما نقص من أحدهما يزاد في الآخر, فأفهم, وما مثل الشريعة الظاهرة مع الحقيقة الباطنية, وإلا كأصل شجرة في بستان, وهو الحديقة فأصل الشجرة المغروزة في الأرض مثل الحقيقة, والفرع الظاهر على وجه الأرض, مثل الشريعة, فلا قيام للشريعة إلا بالحقيقة الباطنة, ولا ظهور للحقيقة إلا بالشريعة, فمن نظر إلى الباطن ووحد الله وجد كل شيء قائما بالله, ولا فاعل سواه, ومن نظر إلى ظاهر العبد وجد له اختيارا في الجملة, يقوم إذا شاء ويجلس إذا شاء, ويفعل ويترك باختياره في الظاهر, وعلى هذا وقع التكليف, وهو الشريعة, ويسمى الكسب عند المتكلمين. فالتحقيق أن العبد مجبور, لكن في قالب الاختيار, فمن نظر للجبر الباطني سماه حقيقة, ومن نظر لقالب الاختيار سماه شريعة. أو تقول: من نظر لعالم القدرة وجد الحقيقة محضة, ومن نظر لعالم الحكمة وجد الشريعة محضة, فالواجب على الإنسان أن تكون له عينان: إحداهما تنظر لعالم القدرة فيوحد الله, والأخرى تنظر لعالم الحكمة فيتأدب مع الله, وليس اسمه القادر بأولى من اسمه الحكيم, فمن أهمل إحداهما سقط من عين الله, فمن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق لإبطاله الحكمة, ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق لقصور نظره عن شهود القدرة, فلا يخلو من شرك خفي, وإنما لم يكفر, لأنه يقر بوجود القدرة, لكنه لم يعمل بما علم, فهو عالم غير عامل, والله تعالى أعلم. تنبيه: قد يبلغ الولي إلى مقام في الوصول يقال له "أفعل ما شئت فقد غفرت لك". ومعنى ذلك: أن الله تعالى يتولاه ويأخذه عن نفسه, ويغطي وصفه بوصفه, ونعته بنعته, فيكون محفوظا من شهود نفسه, فيكون فعله كله بالله. وفي القوت في "كتاب المحبة" - إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب -. وفي البخاري: "وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وفي كتاب "القصد" للشاذلي: يبلغ الولي مبلغا يقال له اصحبناك السلامة, وأسقطنا عنك الملامة, افعل ما شئت. وليس هذا قولا بإسقاط التكليف, فما دامت البشرية موجودة فلا بد من التكليف, فإذا انهدمت البشرية, وتخلصت الروحانية إلى مولاها, سقط حينئذ التكليف, فافهم. قال في نوادر الأصول "من حظه من أهل التقريب الجلال والجمال, وقد أقيم في الهيبة والأنس, قد غاب عن العقوبة, ولكنه يخاف التحويل والهوى والسقوط لما ركب في نفوس بني آدم من الشهوات فهي أبدا تهوي بصاحبها إلى الإخلاد والبطء, وإنما يسكن خوف التحويل إذا خلص إلى الفردانية, وتحقق بالوحدانية, لتلاشي الهوى منه والشهوة بكشف الغطا ولا يذهب خوف ذلك وإن سكن, لبقاء خيال ذلك في حق غير الأنبياء, أما الأنبياء فلم يبق لهم ظل الهوى فبشروا بالنجاة, فلم تضربهم البشرية لأنهم لم يبق لهم نفوسهم فتستد وتحرر إذا أمنت السقوط, ومن بعدهم بقي لهم في نفوسهم شيء, فمنعوا البشرى وأبهم عليهم الأمر صنعا لهم, لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال, هذا هو الأصل فافهمه, هذا بعد أن قرر أن الشوق وخوف القلق من حبه لا يذهب على المجذوب المحدث, وإن كان بينه وبين مولاه من الأسرار ما يسكن عنه خوف التحويل, وإنما يتوهم ذلك من وقف في الجلال والجمال, فسكن شوقه بلذة ما نال من القربى, فأنظره. ثم ضرب مثلا آخر, فقال: والشرع جار وصحيح العقل ..... كحذوك النعل معا بالنعل قلت: حاصل كلامه أن ظاهر الشريعة وباطن الحقيقة كتطبيق النعل على النعل بحيث لا يفوت أحدهما على الآخر, كذلك الحقيقة الباطنية مع الشريعة الظاهرة, متلازمتان, لا تفوت إحداهما الأخرى, فما ظهر على العبد من عمل الشريعة, فإنما هو من مدد الحقيقة قال تعالى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار, ما كان لهم الخيرة". وقال تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله". أو تقول: ما ظهر على العبد من عمل الحكمة, فإنما هو من فعل القدرة, فالقدرة باطنة والحكمة ظاهرة. وسأذكر لك شيئا من بحر القدرة وشيئا من بحر الحكمة, ليظهر لك الفرق بينهما مع اتحادهما محلا, فنقول وبالله التوفيق.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:22 pm
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
بحر القدرة بحر زاخر وأمره قاهر, ليس له أول ولا آخر, يظهر ويبطن, ويحرك ويسكن, ويقبض ويدفع, ويعطي ويمنع, ويخفض ويرفع, بيده مقادير الأمور, وعلى قطب دائرة الأفلاك تدور, وتطير إليه قلوب المشتاقين, وتعوم في طرق لجته أرواح السائرين, وتخوض في وسط لججه أسرار الواصلين, ولا تعرف كنه عظمته قلوب العارفين, غاية منتهاها الدهش والحيرة, ثم العكوف في الحضرة. وأما بحر الحكمة فهو أيضا بحر زاخر, وأمره ظاهر, يظهر الأسباب ويسدل الحجاب, يربط الأحكام بالعلل, ويقرر الشرائع والملل, يغطي ما يبرز من عنصر القدرة بردائه, ويستمر ما يبدو من أسرار الربوبية بعز كبريائه, ينور الطريقة, ويصون الحقيقة يظهر العبودية, ويبطن الحرية, ومن وقف معه كان محجوبا, ومن نفذ منه إلى بحر القدرة كان واصلا مجذوبا, ومن نظر إليهما معا كان كاملا محبوبا, وبالعناية مصحوبا. واعلم أن القدرة والحكمة: كل واحدة تنادي على صاحبتها بلسان حالها, أما القدرة فتقول للحكمة: أنت تحت قهري ومشيئتي, لا تفعلي إلا ما نشاء, ولا يصدر منك إلا ما أريد, فان أردت خلافي رددتك, وإن سبقتيني أدركتك. وتقول الحكمة للقدرة: أنت تحت حكمتي وعند أمري ونهي, فإن عصيتني أدبتك, وربما قتلتك, ثم إن اتفق فعلهما كان ذلك الفعل طاعة وحقيقة نورانية, وإن اختلف فعلهما, بان أظهرت القدرة خلاف ما تريد الحكمة, كان معصية, وهي حقيقة ظلمانية, فتبين أن الحقيقة لا تفارق الشريعة, إذ لا قيام لها إلا بها, والشريعة لا تخرج عن الحقيقة لأنها ستر لها ورداء يصونها. فان قلت: ظهور المعاصي والذنوب حقيقة بلا شريعة, فأين التلازم الذي ذكرت؟ قلت: النهي عن فعلها وتسميتها معاصي هو من جهة الشريعة, فلولا الشريعة, ما سميت معاصي, وانظر ما قاله صاحب العينية: فإن كنت في حكم الشريعة عاصيا ..... فإني في حكم الحقيقة طائع فلولا الشريعة لم تتميز الطاعة من المعصية, فالشريعة صادقة بالواجبات والمباحات والمحرمات, فمهما صدر شيء من هذه الثلاثة فهو شريعة, فثبت التلازم, وهو معنى قول الناظم "والشرع جار" و "صحيح العقل" الخ وهو على حذف المضاف, أي: ومدرك صحيح العقل, والمراد بالعقل: عقل التخصيص المتقدم, الذي اختص به الأنبياء, وينتهي إليه عقل الأولياء, لأنه هو الذي يدرك علم التحقيق, لا مطلق العقل كما تقدم, ويحتمل أن يريد الناظم: أن ما أتى به الشرع كله موافق لإدراك العقول, كما قال البوصيري رضي الله عنه: لم يمتحنا بم تعيا العقول به ..... حرصا علينا, فلم نرتب ولم نهم فمسائل الشريعة كلها موافقة لما يقتضيه العقل, فما حرم الله تعالى شيئا إلا لحكمة, وهي ما فيها من البعيد عن الله, وما أوجب شيئا إلا لحكمة, وهي كونه يقرب إلى الله, ومسائل الفقه كلها لحكمة, فمنها ما أدركه الناس, ومنها ما لم يدركوه, ويقولوه فيه: إنه تعبدي, لكن هذا الاحتمال وإن كان ظاهر الناظم ليس فيه رد المنكر لإثبات علم الحقيقة, لأن هذا الأمر يثبته الظاهر ويقررونه, وسياق الكلام إنما هو في الرد على أهل الحقائق فتأمله, والله أعلم. ثم ضرب أيضا مثلا للشريعة الظاهرة مع الحقيقة الباطنة باليواقيت التي تكون في البحر, فقال: ما مثل المعقول والمنقول ..... إلا كدر زاخر مجهول حتى إذا أخرجه الغواص ..... لم يكن للدر إذن خلاص وإنما خلاصه في الكشف ..... عن الغطاء حيث لا يستخف فالصدف الظاهر ثم الدر ..... معقوله والجهل ذاك البحر قلت: المراد بالمعقول هنا هو علوم الحقائق العرفانية والأسرار الربانية, وتسميتها معقولا مجاز, ولكنه قد قدم أن عقل التخصيص الذي هو للخواص يدرك علم الحقيقة, فيسمى حينئذ ما أدركه معقولا بهذه النسبة, وحاصل هذا المثال أن الروحانية التي هي محل علوم الحقائق مثلها كالدرة, وهي الياقوتة الكبيرة, والبشرية التي هي محل العلوم النقلية كالصدف لتلك الياقوتة, والجهل الذي عم الناس وأحاط بهم كالبحر, فمن دوخه بحر الجهالة لم يلتفت إلى در ولا صدف, بل غرق في بحر الجهالة وأتلف, ومن أيقظه الله من دوخته, ونبهه من غفلته, غاص بفكره يمينا وشمالا فاستخرج ياقوتة سوداء مستورة في صدفها, لا يظهر منها إلا الصدف وهي نفسه, فإذا قنع بالاغتناء بظاهرها ولم يذهب إلى من يخلصها ويكشف له عن باطنها, بقي فقيرا على الدوام, وان أراد أن يخلصها بنفسه بقي متعوبا معها على الدوام, وربما أفسدها, كذلك إن ذهب بها إلى غير عارف ماهر بتصقيل اليواقيت أفسدها له أيضا, وإن ذهب بها إلى عارف ماهر غواص في البحر بتصقيل اليواقيت كشف له عنها في أقرب ساعة, فصار غنيا موسعا عليه ينفق منها كيف يشاء, قال تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته". قال في الحكم في تفسيرها "لينفق ذو سعة من سعته" الواصلون إليه "ومن قدر عليه رزقه" السائرون. هذا حاصل كلام الناظم مع ما في حمله عليه من التعسف, لكن بهذا الحمل يجري على نسق ما قبله, ويمكن حمله على ظاهره, فتكون الألفاظ كالصدف, والمعاني كالدر, والجهل بذلك كالبحر, لكن هذا الأمر لا نزاع فيه بين أهل الظاهر وأهل الباطن, والكلام إنما هو في المعاني التي هي ضد المحسوسات وهو الذي شرحنا به. فقوله: "ما مثل المعقول والمنقول" وهو على حذف مضاف: أي محل المعقول ومحل المنقول. وقوله: "إلا كدر زاخر" يقرأ بالإضافة لزاخر على حذف مضاف, أي كدر بحر زاخر وقوله "مجهول": نعت لدر, لا لزاخر, وقوله: لم يكن للدر الخ، معناه أن الدر حين يخرجه الغواص لم يكن مستخلصا من صدفه, وإنما خلاصه بالكشف عنه من عارف به كما تقدم, بحيث يصير ظاهرا لا يستخفي, وباقي الكلام ظاهر. ثم قال رحمه الله: وإنما المعقول في شكل الحروف ..... كما يكون الدر في جوف الصدوف قلت: هذا البيت من تتمة ما قبله, والمراد بالحروف رسوم البشرية الظاهرة, وقد تقدم أن اصطلاح الصوفية يطلقون الحروف والرسوم والأشكال على صور الأكوان الحسية, والمعنى: وإنما المعقول الذي هو المعاني اللطيفة في شكل الرسوم الحسية كالدر في الصدف. أو تقول: وإنما المعاني في رسوم الأواني كاليواقيت في أصدافها, فالأواني, أصداف, والمعاني يواقيت, فمن وقف مع الحروف والأشكال, وقنع بتحسين خطوطها وتزين أشكالها, فاته الاطلاع على جواهر العلوم ويواقيت الفهوم, وبقي جاهلا مضيقا عليه في أرزاق العلوم, ومقترا عليه في نتائج الفهوم, ومن نفذ إلى ما في باطنها في الدرر والجواهر الحسان كان من الأغنياء: أهل الشكر والإحسان. ويحتمل أن يريد الحروف معناه الأصلي, وهي الألفاظ الدالة على المعاني, والمراد بالمعقول علم الباطن, فإنه موجود في القرآن, لكنه باطني خارج عن ظاهر ما تؤديه الحروف. قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "إن للقرآن ظاهرا وباطنا, وحدا ومطلعا" قالوا: فالظاهر للنحاة والقراء, والباطن للمفسرين وأصحاب المعاني, والحد للفقهاء والعلماء, والمطلع لأرباب الكشف والتحقيق". والمطلع بفتح اللام هو محل الاطلاع, كأن القرآن مشكاة يطلع منها على أسرار غيبه تعالى, وبالله التوفيق. ثم ضرب مثلا آخر للعلم الظاهر والباطن, فقال: هل ظاهر الشرع وعلم الباطن ..... إلا كجسم فيه روح ساكن قلت: ظاهر الشرع هو العلم الظاهر, وهو العلم المنقول, والعلم الباطن هو العلم الموهوب. أو تقول: العلم الظاهر هو علم الحكمة, والعلم الباطن هو علم القدرة. أو تقول: العلم الظاهر هو علم البشرية, والعلم الباطن هو علم الروحانية. أو تقول: العلم الظاهر هو علم العبودية, والعلم الباطن هو علم الربوبية, فالأول: علم الأوراق, والثاني: علم الأذواق, وعلم الربوبية هو: علم الفناء والبقاء والسكر والصحو والجمع وجمع الجمع, وغير ذلك, وهذا العلم لا يؤدى بالعبارة, وإنما يرمز إليه بالإشارة, لأنه ذوقي لا علمي. فان قلت: علم البواطن متعلق بالقلوب, وهي باطنية, فكيف لا يكون من علم الباطن؟ قلنا: لما كان يؤدى بالعبارة, والعبارة تظهره وتوضحه, صار من قبيل علم الظاهر, وهو تصوف أهل الظاهر, وأما تصوف أهل الباطن فلا يدرك بالعبارة, وقد تقدم قول الشيخ: إياك أن تطمع أن تحوزه ..... من دفتر أو شعر أو أرجوزة وهذا هو علم الباطن عند المحققين. وقال الشيخ عبد الوارث: العلوم ثلاثة: ظاهر, وباطن, وباطن الباطن, كما أن الإنسان له ظاهر وباطن, وباطن الباطن. فجعل علم الشريعة ظاهرا, وعلم الطريقة باطنا, وعلم الحقيقة باطن الباطن, وهو حسن, إلا أن الجمهور حصروا العلم في القسمين والأمر قريب. فمثال: العلم الظاهر مع العلم الباطن, كجسم فيه روح كامن, فالجسد لا يقوم بغير روح, والروح لا تظهر من غير جسد, وإذا خلى الجسد من الروح كان ميتا, ولا عبرة به, ولذلك كان من تشرع ولم يتصوف فقد تفسق, لأن أعماله أشباح بلا أرواح, وإذا خلت الروح من الجسد بطنت ولم يظهر لها وجود, ولذلك كان من تحق ولم يتشرع بطنت ولم يظهر لها وجود, ولذلك كان من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق لأنه تصير حقيقته عريانة بلا كسوة, فيقتل عليها, فان كان محقا وغلبه السكر كان شهيدا وان كان مدعيا كان بعيدا, ومن الحضرة طريدا, والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل, بجاه الحبيب مولانا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وبجل. ثم ذكر أصل النزاع الذي بين أهل الظاهر والباطن, فقال: لو عمل الناس على الإنصاف ..... لم تر بين الناس من خلاف قلت: الإنصاف هو: الرجوع لقول الغير بعد وضوح دليله, أو الإقرار بالحق بلا مكابرة, فلو اتفق الناس على الإنصاف, واقروا بالحق أينما ظهر من غير مراء ولا جدال, لم يبق خلاف بين الناس, إذ الطريق واضح, والحق لائح, والداعي قد أسمع, ما التحير بعد هذا إلا من العمى كما قال البلخي, لكن طباع النفوس لا ترضى بحط الرؤوس, ومن كان رئيسا لا يرضى أن يصير مرؤوسا, وهذا سبب الخلاف والاختلاف بين الأمم: فريق في الجنة وفريق في السعير, واتفاق الناس كلهم على الحق خلاف الحكمة قال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك, ولذلك خلقهم". قيل: للاختلاف وقيل: للرحمة, فالله يرحمنا وأحباءنا برحمته الخاصة والعامة آمين. ثم إن الحق غريب وأهله غرباء في كل زمان, قال عليه الصلاة والسلام "طوبى للغرباء". والى هذه أشار بقوله: واعلم رعاك الله من صديق ..... أن الورى حادوا عن التحقيق إذ جهلوا النفس والقلوبا ..... وطلبوا ما لم يكن مطلوبا واشتغلوا بعالم الأبدان ..... فالكل ناء منهم ودان وأنكروا ما جهلوا وزعموا ..... أن ليس بعد الجسم شيء يفهم قلت: ذكر رحمه الله أن الخلق حادوا, أي أعرضوا عن طريق التحقيق التي هي علم الحقيقة في عين الشريعة, أو علم الربوبية, في عين العبودية, وذلك أن سبب إعراضهم عن ذلك أربعة أمور: الأول:جهلهم بحال نفوسهم وقلوبهم, فلم يدروا هل هي مريضة أو صحيحة, وهل هي باقية على أصلها أو تغيرت, ومن شعر بشيء أنكر وجود الطبيب, ومن يردها إلى أصلها يبقى مريضا على الدوام والتحق بمرتبة العوام. الثاني: انطماس بصيرتهم حتى اشتغلوا بطلب ما لم يطلب منهم, وفرطوا فيما طلب منهم فاشتغلوا بطلب الرزق المقسوم والحرص على الدنيا وجمعها واحتكارها, وتركوا ما طلب منهم من حقوق مولاهم والتفكر فيما أولاهم, فحادوا عن الطريق, وأنكروا معالم التحقيق. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بال أقوام يشرّفون المترفين ويستخفون بالعابدين, ويعملون بالقرآن الكريم ما وافق أهواءهم, وما خالف أهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض, يسعون فيما يدرك بغير سعي من القدر والمقدور والأجل المكتوب والرزق المقسوم, ولا يسعون فيما لا يدرك إلا بالسعي من الجزاء, الموفور والسعي المشكور, والتجارة التي لا تبور". قال إبراهيم الخواص: العلم كله في كلمتين "لا تتكلف ما كفيت, ولا تضيع ما استكفيت". الثالث اشتغالهم بعالم الأشباح دون التعريج إلى عالم الأرواح, فاشتغلوا بخدمة الحس, وعلم الحس وعمل الحس, وغفلوا عن علم القلوب وعمله, وأنكروا ما يدل عليه, فصارت خدمتهم حسية وعلومهم حسية رسمية, وأعمالهم بدنية حرفية, والحق من وراء ذلك كله, وهذا كله بعد عن الوصول إلى التحقيق إلا بسابقة التوفيق, فكل من اشتغل بخدمة الحس فهو بعيد في حال قربه, منقطع في حال وصوله, وهذا معنى قوله: "فالكل ناء منهم ودان" أي فالكل منهم ناء أي بعيد, وهو دان أي قريب. وفي مناجاة الحكم:"الهي ما أقربك مني, وما أبعدني عنك" الخ. الرابع: إنكارهم لهذا المقام الذي جهلوا وهو علم التحقيق, الذي هو الزوال, ويسمى العالم الروحاني, وزعموا أنه ليس شيء زائد على الأجسام الحسية, وهم معذورون في الإنكار, إذ لا يعرف البلد إلا من وصلها: لا يعرف الشوق إلا من كابده ..... ولا الصبابة إلا من يعانيها وبالله التوفيق, وهو الهادي إلى سواء الطريق. ثم هؤلاء الجهال لم يقنعوا بالإنكار حتى كفروا من قال بشيء من ذلك, كما قال: وكفّروا وزندقوا وبدّعوا ..... إذا دعاهم اللبيب الأورع قلت: هذا هو الحرمان, وعلامة الخذلان, إذا دعاهم أحد إلى التحقيق قالوا: إنه زنديق, وإذا خرق عوائد نفسه في دواء قلبه قالوا: انه صاحب بدعة, وهذا كله حجاب وستر لأوليائه, فإذا سمع المريد شيئا من ذلك فليطلب نفسا, فتلك عناية به نعم ينبغي أن يجزم نفسه في ستر السر الذي عنده, فإذا أفشى شيئا من ذلك فسيف الحلاج فوق رأسه, ثم المنكر على الصوفية في أقوالهم وأحوالهم إن كان ذلك من عدم فهمه فقد يعذر بجهله, لضعف مدركه وضيق عطنه كما قال الحضرمي رضي الله عنه في كتابه "صدر المراتب ونيل المراغب" ونصه بعد كلام: والجاحد لمن يوحي إليه بشيء من هذا الكلام وما يفهمه فهو معذور مسلم له حاله من باب الضعف والتقصير, وهو مؤمن إيمان الخائفين, ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان واتساع دائرة, ومشهده مشهد واسع, سواء كان مورد نور أو ظلمة بحسب ما في القوابل من الودائع الموضوعة على أي صفة كانت. انتهى. وإن كان تعصبا وتزكية لنفسه, وإرادة الترفع على غيره فهو هالك مبثور, وعلامة الأول الوقوف على حد ما يقع به التعبير من غير زيادة ولا تشنيع, وعلامة الثاني التشنيع واتساع الدعوى والهروب من مواطن التحقيق, ومن رزقه الله التسليم فهو أولى. وقد سئل النووي رحمه الله عن ابن العربي الحاتمي فقال: الكلام كلام صوفي و "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت" الآية. وكذلك قال ابن أبي زرعة في شأنه أيضا, وابن الفارض, وذكر فيه كلام الناس من المنكرين وغيرهم, وقال: إن يعترض على الكلام وينكره القائل لاحتمال توبته. قلت: وإنكار أهل الظاهر على أهل الباطن لعدم فهم مقصودهم, ولعدم الوصول إلى مقامهم, ولذلك كان التسليم أولى, بل هو نصف الولاية, والله أعلم. ثم ذكر سبب إعراضهم عمن دعاهم إلى الله فقال: كل يرى أن ليس فوق فهمه ..... فهم ولا علم وراء علمه محتجبا عن رؤية المراتب ..... عل يسمى عالما وطالب قلت: هذه سنة الله في خلقه, قال تعالى: "كل حزب بما لديهم فرحون" كل من كان في مقام يرى أنه لا مقام فوق مقامه, فإن شوّق إلى ما وراء ذلك أنكره, وحكمة ذلك تمام الحكمة الكلمة التي سبقت له في الأزل, فإن كان ممن سبق له شيء من هذه الخصوصية إذا شوقته تشوق وطلب فيوصله الله إلى ما سبق له, بخلاف ما إذا لم يسبق له شيء من ذلك, إذا ذكرت له مراتب الرجال أنف وقال: "كان ذلك فيما مضى" خوفا أن يسقط له جاهه ومرتبته من عين الناس, فباء بالخيبة والإفلاس, واحتجب عن مراتب الكمال, وتخلف عن مقامات الرجال, والعياذ بالله من مثل ذلك, ودعواه أن لا فهم فوق فهمه, ولا علم فوق علمه, جهل عظيم, فإن فوق كل ذي علم عليم, ومنتهى العلم إلى الله العظيم, كما أخبر تعالى في كتابه الحكيم وقال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" واتساع دائرة العلوم, وفتح مخازن الفهوم إنما هي منح إلهية, ومواهب اختصاصية, لا تنال بكسب ولا احتيال, وإنما تنال بفضل الكبير المتعال مع حكمة صحبة الرجال, والله يختص برحمته من يشاء, والله ذو الفضل العظيم. وقوله "عل" الخ لغة في "لعل" أي إنما أنكر لعله يسمى عالما وطالبا للعلم, وهذه علامة الرياء أعاذنا الله منها بمنه وكرمه, ثم استبعد الناظم أن يصدر مثل هذا ممن له عقل كامل, فقال: هيهات هذا كله تقصير ..... يأنفه الحاذق والنحرير قلت: النحرير هو: الذي يحقق الأمور ويحررها, يعني أن القناعة بعز الناس ومدحهم مع فوات الحظ من الله بمعرفته الحقيقية لا يرضاها من كان صادقا نحريرا, بل لا يرضاها الجاهل فضلا عن العالم. قال في الحكم "استشرافك أن يعلم الناس بخصوصيتك, دليل على عدم صدقك في عبوديتك". ثم حرض على النهوض إلى الله تعالى, فقال: فمن يرد موارد المواهب ..... فكيف يرضى هذه الغياهب فالعلم ما يلفي إليه حد ..... بل ظاهر يخفي, وخاف يبدو والعلم لو كانت له نهاية ..... يوقف عند حدها أو غاية من كان أذكى مرسل وأسمى ..... قيل له: قل رب زدني علما فعش بما لديك ما حييت ..... وجنب التعنيف والتعنيت والكل قد يعجبه الكلام ..... فالزم هدي نفسك والسلام قلت: حاصل كلامه أن من أراد أن ينهل من موارد المواهب والأسرار, وتشرق عليه شموس الأنوار, فلا يرضى لنفسه الإنكار على أولياء الله, فيحارب بذلك مولاه, ولا يحصر العلم فيما عنده, وينكر أن يكون فوق علمه علم, أو فوق حاله حال, أو فوق مقامه مقام, فلا يرضى بهذه المذاهب السخيفة إلا ذووا الهمم الضعيفة, فالعلم لا يوجد إليه حد ينتهي إليه, بل هو كالشموس والأقمار والنجوم, لا يزال غاربا وطالعا ومتوسطا ما دام الدهر, فعلوم العارفين كالشموس, وعلوم السائرين كالأقمار, وعلوم عامة أهل اليمين كالنجوم, وهي في الجميع, تارة تظهر وتشرق بقوة الواردات, وتارة تخفى بضعف الواردات, ولا حد للعلوم والمعارف والأسرار, فلو كان لها حد تنتهي إليه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى له: "وقل رب زدني علما". وهو سيد العارفين, فدل على أن العلم لا نهاية له, قال تعالى: "وفوق كل ذي علم عليم", وأعلم أن جميع العلوم الرسمية كلها يبقى معها الافتقار إلى غيرها, أو إلى الزيادة منها, إلا علم الشهود إذا تحقق واطمأن العبد بالله, فإنه يحصل له الغنى الأكبر, ولا يلتفت إلى علم آخر أبدا, كمن عنده الفلوس أو الدراهم أو الذهب, ثم وجد الإكسير, فلا شك أن يزهد فيما كان عنده, ولا يلتفت إليه, كذلك العارف لم تبق له حاجة إلى شيء إلا إلى مولاه. قال سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: كنت أعرف أربعة عشر علما, فلما أدركت الحقيقة سرطت ذلك كله, ولم يبق لي إلا التفسير والحديث والمنطق. فإذا حصل لك أيها المريد علم المعرفة, فعش بما لديك منها ما حييت, فهذه هي الحياة الطيبة التي لا يعقبها موت أبدا, وجنب التعنيف والتعنيت, فالتعنيف التغليظ في الكلام, والتعنيت المنازعة والمغالبة, لأن هذه الحال من شأن الجهال, فلا تبدي ما يفتح به عليك, ولا تنكر ما لا ينتهي إليه علمك, ولا تنازع من نازعك, فللحقيقة رب يحميها, وللطريقة نفس تصطفيها والنزاع لا يجلب إلا الشر في الدنيا والنقص في الدين, وكلام القوم يعجب كل سامع إليه, فلا يغرنّك من الناس استحسانهم له, حتى تطالبهم بحقائقه وتطمع في سلوكهم عليه, فإن ذلك يتعبك ويفتح لك باب الدعوى والرعونة والشهوة, فالزم إصلاح نفسك وهداها, ولا تلتفت إلى ما سواها, قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم". الآية. وقال الفضيل رضي الله عنه: هذا زمان أحفظ فيه لسانك, وأخف مكانك, وخذ ما تعرف, ودع ما تنكر, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت شحا مطاعا, وهوى متبعا, وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك". رزقنا الله العمل به إلى الممات في عافية دائمة وستر جميل, آمين. هذا آخر الفصل الرابع بحول الله وقوته.
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الخامس في فقراء العصر ومتشبهي الوقت الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:23 pm
الفصل الخامس في فقراء العصر ومتشبهي الوقت الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الخامس في فقراء العصر ومتشبهي الوقت يتلوه الفصل الخامس وبه الختام, وختم الله لنا بالحسنى والمعرفة على التمام.
وحاصل هذا الفصل الإنكار على بعض الفقراء, تشبهوا بالفقر ولبسوا على الناس, فأشار إلى الرد عليهم في هذا الفصل, فقال: الفصل الخامس في فقراء العصر, ومتشبهي الوقت. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: هذا الفصل في مقابلة الذي قبله إذ ذاك في الرد على أهل النقص من المتفقهة, وهذا في ذم المخلطين من المتفقرة. وهو من أهم ما يعرفه الصادق في هذا الزمان ليحكم به على نفسه لا غير ذلك, وذلك لما في الوقت من الفساد والتخليط, ولا سيما وقد ورد أن في صحف إبراهيم عليه السلام: "وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه" ومعرفة الزمان وأهله أمر مهم فلا بد من العلم به جملة وتفصيلا, لأن من تعلم العلم لنفسه تنور, ومن تعلم العلم للناس تحير, ومن لاقى الناس بالنية أفلح, ومن لاقاهم بالاعتراض خسر, ولكل قوم حثالة, وهؤلاء الذين يذكر أوصافهم بعدهم: حثالة المتشبهين فارحمهم وعظهم, ونبههم وذكرهم, وحذر الصادقين من فعلهم, ثم أن تمادوا فلا تشغل بهم ولا تغير إلا حيث يجب عليك التغيير, بحكم الشرع, فهو في كل أمر بين متفق عليه تقدر على تغييره من غير أن يؤدي لمنكر آخر أعظم منه, أو مثله: وبالله التوفيق, انتهى.
ثم افتتح بتغيير الطريق الذي كان عليها السلف الصالح, فقال: إذا علمت كيف كان الحال ..... في الشيخ والتلميذ ثم حالوا فاعلم بأن أهل هذا العصر ..... قد شغلوا بمحدثات الأمر إذ أحدثوا بينهم اصطلاحا ..... لم أر للدين به صلاحا وصنفوا بينهم أحكاما ..... أكثرها كانت لها حراما وانتهجوا مناهج منكوسة ..... وارتكبوا طريقة معكوسة قلت: لما اخبر في كتابه ما كان حال الصوفية المحققين, وما كان حال شيوخ التربية, أخبرك هنا أن ذلك قد حال, أي تغير, ولم يبق على حاله, فلا تغتر بمن يدعي حالة مع الله حتى تختبره في حب الدنيا والميل إليها, أن أردت أن تصحبه, وإلا فلا عليك فيه, فحسن الظن بعباد الله ليس فوقه شيء من الخير, وسوء الظن بعباد الله ليس فوقه شيء من الشر, وماذا علينا إذا اعتقدنا أن الناس كلهم صالحين وأولياء, لا والله لا يزيدنا ذلك إلا قربا من الحق, مع المحافظة على رسوم الشريعة. وقد قال الصحابي الجليل سيدي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: من خادعنا في الله انخدعنا له. و"في" الحديث: "المؤمن غر كريم, والمنافق خب لئيم", والغر بكسر الغين هو الذي يغتر لحسن ظنه ونيته, والخب بفتح الخاء وكسرها هو: الخداع قاله المنذري, والمؤمن يلتمس المعاذير: يلتمس سبعين عذرا لأخيه المؤمن, سيما أهل النسبة, فالواجب تعظيم الجانب حرمة لمن انتسب إليه, فإن كان كاذبا فعليه كذبه, وإدخال ألف رجل في الولاية أفضل عند الله من إخراج ولي واحد منها, والخلق عيال الله فمن مدح عياله أحبه ومن تنقص عياله أبغضه. قال في "النصيحة الكافية": وأما الفقراء فيسلم لهم في كل شيء لا يقتضي العلم إنكاره. قال الشارح: ما لا يقتضي العلم إنكاره على ضربين. أحدهما ما يعرفه الناس ويعتقدونه كذلك, فهذا لا ينكره أحد على أحد. الثاني ما يعتقدون قبحه ونقص المتصف به لعارض غلب عليه, وهو الذي يحتاج إلى التنبه به والتوصية بترك إنكاره, كترك الخوف ومجانبة الأسباب, فان الناس ينقصون صاحب ذلك ويحملونه على العجز والكسل ويتهمونه بالطمع والتشوف إلى ما في أيدي الناس, وكلبس المرقعات, فإنهم يرون أن صاحبه اتخذه شبكة يصطاد به, وجعله بابا للسؤال ومسلكا للاغترار, مع أنه قد يكون كذلك وقد, لا, فالسلامة في التسليم, فمن انتمى لطريق القوم وانتسب إليهم يسلم له حاله في مثل ذلك. ثم قال في "النصيحة" وما وجب إنكاره أنكر عليهم مع اعتقاد كمالهم. قال الشارح: لأن انتسابهم لجناب الحق مقتض لذلك, يعظم المنتسب له, ولو كان في نفس الأمر كاذبا, قال في "العدة" لأن وجود انتسابه شاهد بتعظيمه للجناب الذي انتسب إليه في نظره, ولذلك ما تعرض أحد قط لمنتسب بأذى إلا أصابه منه ضرر, لأن الحق سبحانه يغار لهتك جنابة إلا بأمر منه, فإذا وقع المنتسب في أمر فيه حق من حقوق الله: أقيم عليه الحق, وحفظت حرمته في نسبته, لحديث "لا تعلنه فإنه يحب الله ورسوله". قال: وبالجملة فالنسبة لها حق عظيم: رأى المجنون في البيداء كلبا ..... فجر له من الإحسان ذيلا فلاموه على ما كان منه ..... وقالوا: لم أنلت الكلب نيلا فقال: دعوا الملامة إن عيني ..... رأته مرة في حي ليلى ثم قال "النصيحة": إذ لا يبعد أن تكون للولي الهفوة والهفوات, والزلة والزلات, قال الشارح: ويفهم من تعبيره بالمفرد المختوم بتاء الوحدة ويجمع القلة: أن وقوع ذلك منهم نادر, وذلك لأن الشيطان لا تسليط له على قلوبهم, وإنما يطوف بها كالسارق. وقال في كتاب "الانتباه" لا سبيل للشيطان إلى دخول قلوب الأولياء التي هي معدن الأسرار ومظهر الأنوار, فلا يحوم حولها إلا سارقا, والسارق إنما يقضي غرضه من الغافل والنائم, وهم في مقام الانتباه واليقظة, فإذا استشعروا شيئا من همزاته رموه بشهب أدلة التوحيد, فانقلب خائبا لمانع حماية الرحمن, كما قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان". والتعبير بالسلطان يدل على الغلبة, والله أعلم, أي لا غلبة لك عليهم, فبان بهذا أنه وإن رام القرب منهم فلا ينال غرضه, وإن توصل إلى بعض الوسوسة, فمحلها ظاهر القلب لا باطنه الذي هو محل المعرفة بالله, ولا يستقر لها أي للوسوسة قرار, لثبوت يقظتهم وقوة نور بصائرهم, فإذا استشعرها القلب كان كما أخبر الله عنهم, بقوله: "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون". فانظر لم ينف عنهم حكم الوسوسة, ولكن أثبت لهم اليقظة المتضمنة نفي الإغواء الذي هو الإصرار, كما وصف من ذكر أهل الغفلة في الآية الثالث. ثم قال في "النصيحة": " الأولياء محفوظون, والحفظ يجوز معه الوقوع في العصية, أي بخلاف العصمة, إلا انه لا يجوز معه الإصرار ولا يقتدي به في مثلها, وقد سئل الجنيد رضي الله عنه: أيزني العارف؟ فقال: وكان أمر الله قدرا مقدورا, وقال ابن عطاء الله رحمه الله: ليت شعري, لو قيل له: أتتعلق همة العارف بغير الله؟ لقال: ولا ينكر على الفقراء إلا محرم مجمع على تحريمه, ولا يسلم لهم إلا فيما له صورة, ليباح لها من الأفعال, انتهى كلام النصيحة. وإنما نقلته مع غيره لينزل عليه ما يذكره الناظم من التشنيع على متفقرة وقته, فقوله: إذا علمت أحوال الصوفية والشيوخ والتلامذة كيف كانت أحوالهم على ما وصفت لك في كتابي, علمت أن أهل العصر خرجوا عن طريقهم, واشتغلوا ببدع محدثات في أمور الدين, فلا تقتد بهم, ونبههم للتي أحسن إن قدرت ولا فشأنك بنفسك ولا ننتقده, فإن البواطن لا يعلم ما فيها إلا الله, وليست كل بدعة محرمة, فان فيها ما هو واجب, وما هو مكروه, وما هو مباح, فالبدعة المحرمة هي التي تنقض قاعدة من قواعد الشرع, كتحليل حرام, أو تحريم حلال, وجل أحوال الصوفية إنما هي بدع مستحسنة, أو مباحة, كتعليق السبحة والقيام للذكر جماعة, وغير ذلك. وقوله: "إذا أحدثوا بينهم اصطلاحا" الخ ينظر في هذه الاصطلاحات, فان كانت لا تغير شيئا من قواعد الدين فلا اعتراض, وإلا فليرشدهم برفق, وقوله: "وصنفوا" الخ أي صنفوا تصانيف فيما أحدثوا من البدع, وأكثرها كانت حراما عند الصوفية, وينظر فيها اليوم بميزان الشريعة كما تقدم. وقوله "وانتهجوا" أي سلكوا مناهج وطرقا "منكوسة" أي غير مستقيمة, وارتكبوا طريقة معكوسة مع طرق الصوفية, فطريق الصوفية ترك الدنيا وأهلها, وإيثار الزهد والخمول, فكل من مال للدنيا, وأهلها أو مال لحب الشهوة, فقد عكس طريقهم وسلك طريقة منكوسة. وفي بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات أمثال جبال تهامة, حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار, قيل: يا رسول الله بين لنا هؤلاء حتى نعرفهم, قال: إنهم كانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهنا من الليل, ولكنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام, وفي رواية "من الدنيا" وثبوا عليه وثبة الأسد على فريسته". أعاذنا الله من النفاق, ثم قال: تاالله قد كان طريقا قاصدا ..... والآن ما نلقى إليه واردا قلت: يريد أن طريق التصوف "كان طريقا قاصدا" أي مقصودا مسلوكا والآن لا تجد عليه "واردا" أي سالكا, أو كان قاصدا أي متوسطا معتدلا ليس فيه إفراط ولا تفريط ثم جاء قوم أفرطوا, وقوم فرطوا, وخير الأمور أوسطها, ثم قال: فهذه طريقة قد درست ..... وشجر أغصانها قد يبست قلت: معنى درست: ذهبت واضمحلت, ودروسها باندراس أهلها, وشبهها بالشجر لأنها أصل وفروع ومادة, ويبس أغصانها يؤدي إلى عدم ثمرتها, ولا يكون إلا لما دخل على أصلها من الاختلال, إما من جهة المريد, لعدم صدقه, أو من جهة الشيخ لعدم كماله, ثم قال: كانت إذن مواردا شريفة ..... فاستبدلت مذاهبا سخيفة قلت: كانت طريق التصوف مشارب ومناهل شريفة, من شرب منها شربة المحبة لا يظمأ بعدها أبدا, كانت إذا شرب المريد من خمرة شيخه سكر وصحا, وفني عن أوصافه المذمومة, وبقي بأوصاف محمودة, فاستبدلت تلك الطريقة بمذاهب سخيفة, أي قبيحة خسيسة, يسلكها كل سخيف خسيس, والخير لا ينقطع إلى أن يأتي أمر الله, وقال الله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" فقال: قد أسست على صحيح العقل ..... وأسها الآن بمحض الجهل قلت: كانت طريق التصوف مؤسسة على الكتاب والسنة والهامات العارفين الذين تنورت عقولهم, وانصقلت مرآة قلوبهم, فتجلى فيها ما كان حقا, وزهق منها ما كان باطلا, فكانت طريقهم مبنية على التحقيق, ثم صارت مؤسسة على التحديس والتخمين ومجرد التقليد, بلا ذوق ولا وجدان, فادعاها كل جاهل ولهان بحب الدنيا سكران, نسأل الله العصمة من مواطن الخذلان, فقال: يدعي الذي يمشي عليها سالك ..... وسالكوها اليوم حزب هالك قلت: السالك هو الذي يرى الخلق ويستدل بهم على الحق, والمجذوب هو الذي يرى الحق ويستدل به على الخلق, والسالك المجذوب هو الذي يرى الخلق بعين الجميع, لا يحجبه خلق عن حق, ولا حق عن خلق, وقد تقدم في محله, فكانت طريق القوم يسمى الذي دخل فيها سالكا, أي سائرا إلى الله, قال الناظم في زمانه: .... ..... وسالكوها اليوم حزب هالك لما رأى فيهم من الخلل, ثم قال: بها عاش القوم بخير عيشه ..... فصيرت بعدهم معيشة قلت: كانت طريق التصوف من دخل فيها حييت روحه بمعرفة الله, وطابت حياته بذكر الله, فعاش عيشة طيبة, قال تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة". فالحياة الطيبة هي الغنى بالله. وقال السري السقطي: من عرف عاش, ومن مال إلى الدنيا طاش, والأحمق يغدو ويروح بلاش. ثم صارت عند قوم حرفة ومعيشة, يتمعشون بها, ويتخذونها شبكة يصطادون بها الدنيا والجاه, والعياذ بالله, ثم قال: وكانت تضاهي الكوكب المنيرا ..... والآن أضحت حائطا قصيرا قلت: كانت طريق القوم رفيعة القدر, عالية الشأن, "تضاهي" أي تشابه وتحاكي الكواكب المضيء في الرفعة والإشراق, لما يظهر على أهلها من شروق الأنوار, وابتهاج الأسرار, لكان لا يدخلها ولا ينتسب إليها إلا الأخيار من الزهاد والعباد, الذي علت همتهم, وصلح قصدهم ونيتهم, والآن صار ينتسب إليها الأشرار والفجار, فتجد فيها هذا قائدا وهذا باشا, وهذا حرصي, وغير ذلك, فمنهم من يتخذها حصنا يتحصن بها من عواقب ظلمه, يظن ذلك ينفعه بزعمه, ومنهم من يتخذها حرفة, فصارت كالحائط القصير يتخطاه القوي والضعيف, وسبب ذلك عدم سقوطهم على شيخ التربية, إذ لو وجدوه لأمرهم بخرق عوائد أنفسهم, فيفرون منه, لكنهم انتسبوا للأموات, ووجدوا راحة نفوسهم, فبقوا مع عوائدهم, فازداد حجابهم والعياذ بالله, ثم قال: إذا صار لا يعلم منها إلا ..... أكلا ورقصا وغنى وسؤلا قلت: الحصر في قوله "لا يعلم منها" الخ يقتضي أن الطريق الموجودة في زمانه, ليس فيها علم ولا حال, ولا ذوق, ولا معرفة, ولا شهود, وإنما يعرف منها الأكل والرقص والغناء والسؤال. وقال الشيخ عبد الوارث: لم يبق منها إلا الأكل بلا صيام, والرقص دون أحوال, والتواجد بلا وجد, والتملق لأنفسهم وهواهم وسلاطينهم. وإنما كانت طريق القوم مقصودة لتهذيب القلوب ورياضة النفوس, والتخلص من أوصاف البشرية, والتخلق بأخلاق الروحانية, ومعرفة الشهود والأدب مع الملك المعبود, وقد يوجد فيها ما ذكره الناظم, لكنه لم يكن مقصودا, وإنما كان دواء ولعل الناظم تحقق ذلك من فقراء زمانه بإمارة, وإلا فالتسليم لأهل النسبة أولى كما تقدم, ثم قال: وكانت على الإنصاف والنصيحة ..... فهي على الإسراف والفضيحة قلت: كانت طريق القوم مبنية على الإنصاف, فكان أربابها ينصفون من أنفسهم, ويرجعون إلى الحق, ويقبلونه من قائله كائنا من كان, وكانوا يتناصحون: ينصح بعضهم بعضا, وينصح جميع المسلمين, كل من يلقاهم أرشدوه, وعلى الله دلوه, ثم صارت مبنية على الإسراف في الكلام, وفي كل شيء ترى أحدهم يتكلم ألف كلمة يقضي فائدة واحدة, وصارت فضيحة, إذا نصح أحدهم عنف وغضب وجهه, وأغلظ في القول, حتى يفضح من ينصحه, وقد قالوا: "من نصحك وحدك فقد نصحك, ومن نصحك مع الناس فقد فضحك, والله تعالى أعلم, ثم قال: تعرف بالخلق والإيثار ..... والآن بالحقد, والإقتار قلت: كانت طريق القوم يعرف أهلها بالأخلاق الحسنة, كالحلم والسخاء والإيثار, وهو الإعطاء من الإقتار كما قال الشاعر: ليس العطاء من الفضول سماحة ..... حتى تجود وما ليدك قليل وكان من أخلاقهم أيضا التواضع, وسلامة الصدور, وحسن الخلق مع كل مخلوق, ثم تبدلت هذه الأخلاق بالحقد, والحسد, والكبر, والبغض, والغضب, والقلق, والشح, والبخل, والترفع, وهو الإشار, فصار المنتسبون يبغض بعضهم بعضا, ويحسد بعضهم بعضا لتمكن حب الجاه والدنيا من قلوبهم, نسأل الله السلامة من الجميع, ثم قال: وكانت أجل غبطة وخطه ..... والآن فهي بدعة وخلطة قلت: كانت طريق القوم اجل ما يغتبط, أي يفرح بها وينافس فيها, لأنها كانت طريق الوصول إلى الغناء الأكبر, قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون", وكانت أجل خطة, أي حرفة وأرفع رتبة, إذ لا طريق أرفع منها, فصارت بعد ذلك بدعة وتخليطا لقلة أهل الصفا, وبالله التوفيق, ثم قال: كانت على مجرد الصيام ..... والآن في مجرد الطعام قلت: كانت من طريق التصوف مبنية على تصفية القلوب ورياضة النفوس بخرق عوائدها وتعكيس مألوفاتها, فمن كان طبعه نهمة الطعام أمروه بالصيام, ومن كان مولعا بالكلام أمروه بالصمت, ومن كان مولعا بجمع الدنيا أمروه بالزهد, ومن كان مبتلي بالجاه أمروه بالخمول, وهكذا, وليست طريقهم محصورة في الصيام ولا في غيره, بل الشيخ كالطبيب عامل كل واحد بما فيه دواء نفسه والسلام, ثم قال: في السماع كان غلق الباب ..... والآن عند جفن جواب الجفنة هي: القصعة الكبيرة, والجوابي جمع جوبة, وهي حفرة كالصهريج, شبهت بها القصعة الكبيرة. قلت: قد تقدم أن السماع إنما هو رخصة, ويشترط فيه الإخوان والزمان والمكان, فإذا وقت السماع أغلقوا الباب لئلا يدخل معهم من ليس بأهله, وتقدم أيضا أن الأكل, ينبغي فيه فتح الباب ليدخل من يحتاج إلى الأكل, وفي ذلك الدلالة على الكرم وسماحة النفس وغنى القلب وعدم الشح والحرص. وقال الناظم في فقراء وقته: إنهم عكسوا الأمر, ففتحوا الباب عند السماع ليجمعوا عليهم الناس, وأغلقوها عند الطعام حرصا وشحا, نعوذ بالله من ذلك, ثم قال: وقولنا الشيوخ والإخوان ..... هم الذين سلفوا وبانوا ماتوا ولما يتركوا من وارث ..... إذ هؤلاء القوم كالبراغث قلت: قد تقدم أن الأرض لا تخلوا ممن يقوم الله بحجته, وراجع ما تقدم لنا عند قوله: إن الذي سألت عنه مات ..... .... وقال الشيخ زروق رضي الله عنه: وشبه هؤلاء بالبراغيث من وجوه: أحدها: ما هم عليه من الرقص والتطاير كالبراغيث. الثاني: ما هم فيه من الإذاية والتنغيص لمن جاوروه, تارة بالغيبة وتارة بغيرها. الثالث: خساسة همتهم باعتبار سكنى المواضع المزيلة والاشتغال بالأكل دون غيره مع ظهورهم بالضعف والمسكنة. انتهى. قلت: وقد تقدم ما في الرقص في باب السماع محررا وتعظيم أهل النسبة مطلوب, وحسن الظن واجب أو مندوب, والتسليم وقاية, والانتقاد جناية, وتأمل ما وقع لابن هارون من القراد حيث نقصه في باطنه, فسلبه من ساعته, وفقد ما كان عنده من العلوم والأنوار حتى تاب إلى الله وذهب إليه وتحلل منه, والقصة مذكورة في طبقات الشعراني, وكذلك قصة الفقيه البلقيني من بائع الحشيش, حيث اعترض عليه بقلبه: ففقد علمه وحاله حتى تاب وأمره أن يجلس معه ويأتي بخبز ولحم, حتى كل من اشترى الحشيش أطعمه الفقيه واللحم والخبز, وهذا كله وبال الإنكار على أهل النسبة, والله تعالى أعلم. ثم قال: فكل ما اليوم عليه الناس ..... من مدعين الفقر فيه باس قلت: هذه الكلية لا تسلم له, لصحة نقيضها, وهي الجزئية السالبة, وهو بعض ما عليه الناس من فقر لا بأس به, قال صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله". قال المحققون من العلماء: إن هذه الطائفة مؤلفة من ثلاثة فرق: أولياء وعلماء, ومجاهدين, فهؤلاء الفرق لا تنقطع حتى يأتي أمر الله, وكأن الناظم لما رأى كثرة الخليط عمم الأمر. وقال الشيخ عبد الوارث: كل ما هم عليه من محدثات الأمور ففيه بأس "أي عيب" فالباس من غير همز, هو: العيب, وبالهمز هو الحديد انتهى. لكن: ما قاله في تفسير الباس غير صحيح, إذ الباس هو الحزم والشدة, بهمز وبغير همز, ثم ذكر العلة, فقال: إذ نقضوا الأصول والأركانا ..... وصيروه في الورى مهانا وهدموا بنيانه المشيدا ..... وصيروه مخملا ومخمدا قلت: نقض الأصول والأركان هو: إهمالها والعمل بأضدادها. وأصول التصوف خمسة: تقوي الله في السر والعلانية. واتباع السنة في الأقوال والأفعال. والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار. والرضا من الله في القليل والكثير. والرجوع إلى الله في السراء والضراء. هكذا قال الشيخ زروق في بعض تآليفه, وقال في شرحه لهذا المحل: "وأما نقضهم الأصول فإثبات ما ليس منها في محلها, كاستبدالهم الزهد بالحرص, والورع بالطمع, والتقوى بوقعة الربائية, "أي ما فيه من ربأ", والأركان كالأصول, مثل الجوع, والسهر, والصمت, وكثرة الأعمال فنقضوا ذلك بوجود: البطالة, والكسل, وجعلهم لكل ما أثبتوه تأويلا ووجها, يرونه عين الهدى والصراط المستقيم, نسأله الله العافية, وإنما " صيروه مهانا" أي الطريق, بما أظهروا فيه من خلاف الحق الذي لا يعرف به أحد إلا استخف بطريقه, وهذا أمر واضح من هذه الأزمنة, حتى لا يكاد أحد من المعترضين في هذه الأزمنة يعتقد أحدا, بل ولا طريقة صحيحة, ويحتج لذلك بأن فلانا المستظهر بكذا ظهر منه كذا, وفلانا وقع منه كذا, وهذا من أولئك, فالله حسيب المغيرين, والفاتحين الباب بأعمالهم, وإلا فالمنكر يستحق الإنكار معذور, بل مأجور, فأعرف ذلك" انتهى كلامه. وقوله: "وصيروه مخملا ومخمدا" أي لما هدموا أصوله وضيعوا حقوقه, صار عند الناس مخمولا لا يعرف, ومخمودا لا يظهر لما أدخلوا فيه من التخليط, والله تعالى أعلم. ثم تمم أوصافه, فقال: ونثروا الفروع والأصولا ..... وجعلوا معلومها مجهولا قلت: النثر هو الطرح, يعني أنهم لم يأخذوا بأصل ولا فرع, لم يتمسكوا من الطريقة بشيء إلا مجرد النسبة, فصيروا ما كان معلوما منها عند أهلها مجهولا عندهم, حيث لم يعرفوه. وقال الشيخ زروق: معناه أنهم لم يأتوا بالطريقة بأصل ولا فرع, بل عملوا منها ببعض وتركوا بعضا, فاشتبهت أمورهم على من ينظر إليهم, لأنه يجد من الطريقة شيئا يدعوه للاعتقاد, ويجد من مخالفتها أشياء يدعوه للانتقاد, وهو من أعظم المصائب, ثم قال: واحتسبوا فيها بغير حسبة ..... صيروها ضحكة ولعبة قلت: الاحتساب الأول من الحساب, يعني أنهم حسبوا من الصوفية من غير حسبة, أي نية صادقة. وقال الشيخ زروق: معناه أنهم عدوا منها ما ليس بقربة, واعتقدوا أنه قربة, كالرقص ونحوه من توابع السماع والاجتماع, وهو عين الضلال. انتهى. وفيه مقال عند أهل الذوق. وقال الشيخ عبد الوارث: أي نسبوا إليها من غير أن يظهر عليهم شيء من آثارها الدالة على صدق نسبتهم, فصيروها بذلك ضحكة ولعبة, وأما الطريقة فعلو شرفها وعلو مرتبتها باقية, ثم قال: وجعلوها للغني مغرما ..... وللفقير نهبة ومغنما قلت: لما لم تكن لهم نية صادقة في طلب مولاهم, صيروا طريقهم مغرما للغني منهم, يغرمونه وينصفونه أحب أم كره يتسببون له بأدنى شيء ويأخذون منه كرها وحياء ما لا يعطيه طوعا وسخاء, وصيروها للفقير منهم نهبة ومغنما, أي ينتهب الفقير من الغنى, ويغتنم ما يأخذ منه وليس قصده شيئا آخر, وهذه في غاية خسة الهمة, ثم قال: وافتضحوا واصطلحوا لديها ..... فصار ما كان لها عليها قلت: لما لم يتحقق لهم من الطريقة إلا مجرد النسبة من غير عمل ولا صحبة, لم تظهر عليهم نتيجة الطريقة, فافتضحوا. من ادعى بما ليس فيه ..... فضحته شواهد الامتحان وقوله: "وافتضحوا واصطلحوا" أي على سكوت بعضهم عن بعض, فلا يغير أحد على أحد, وهذا سبب الهلاك, قال تعالى: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه". وقال بعضهم: ما زالت الصوفية بخير ما اختلفوا, فإذا اتفقوا فلا خير فيهم, وقد تقدم تأويله والكلام عليه عند قوله: "مذاهب الناس على اختلاف ... ومذهب القوم على ائتلاف". وقال الشيخ عبد الوارث في تفسيره: قوله اصطلحوا أي: أسكت عني وأسكت عنك, لما روى عن بعضهم أمثالهم أنه أتى إلى قوم جاهلين, فقال لهم: أنا جبريل, فأتاه ذووا العاهات والمرضى, فمسح عليهم, ويجدون لذلك راحة, فأقبلوا عليه بأنفسهم وأموالهم, فسمع به بعض أهل العقول, فأتى إليه, فقال: أني أريد أن أخلوا بك, فخلا به, فقال له: يا هذا ما وجدت على من تكذب إلا على جبريل, فقال: ما ضرك بكذبي, أذهب أنت إلى قوم آخرين, وقل: أنا ميكائيل, وأتركني والقوم الجاهلين. هذا جزاء الجهلة, ولو أنكر بعضهم على بعض لفر الناس عنهم, وتنغصت عليهم دنياهم. انتهى. ثم قال: الولائم:وكان الشيخ أبو مدين رضي الله عنه إذا عرض أحد على أصحابه في حضور وليمة يشبعهم هو من طعامه قبل أن يحضروا الوليمة, لئلا يظهر عليهم الشره والحرص, فتنقض النسبة فهذا منه غيرة على النسبة أن تمتهن, جزاه الله عن طريق القوم خيرا, إلا إذا كانت حال غالبة, فلا كلام على صاحبها, والله تعالى أعلم, ثم قال: حق لمن كان عليهم منكرا ..... إذ كل ما يبصر منهم منكرا قوله "حق" يحتمل أن يكون خبرا عن مبتدأ مضمر, أي الإنكار حق, وأن يكون مبتدأ حذف خبره, أي حق لمن أنكر على الفقراء ثابت, والأحسن أنه خبر عن مصدر من أن فالفعل, أي حق لمن كان منكرا على الفقراء أن يفعل ذلك كقوله: حق لك أن تفعل كذا وكذا, أي فعلك كذا وكذا حق. قلت: قد تقدم أنه لا ينكر على الفقير إلا ما كان محرما مجمعا على تحريمه, ولا تأويل فيه وعلى تقدير التغيير يكون برفق ولين, وإذا كان فيه حد أو أدب يكون المؤدب له كالعبد يؤدب ابن سيده, ولا تسقط حرمة النسبة عنه بسبب ما صدر منه, وهذا التغيير إنما هو لمن هو مكلف به كقضاة العدل وأهل الحسبة الذين يتقون الله, وإلا فالسلامة في التسليم. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: "المعترض على الفقراء كمن يدخل يده في الغيران: الغار الأول لا يجد فيه شيئا, والثاني كذلك, وقد يصادف أفعى تلدغه فيهلك من ساعته" بالمعنى. وهذا من الناظم تحامل, وفيه تسليط على الجانب, فالصواب حذفه, ولا سيما العارف لا يرى إلا الكمال, وللعارف وجوه من التأويلات والمحامل, بل لا يقع بصره إلا على الكمال: يكمل نقصان القبيح كماله ..... فما ثم نقصان وما ثم باشع وكل قبيح إن نسبت لحسنه ..... أتتك معاني الحسن فيه تسارع لو علموا ما جهلوا ما صاروا ..... حيث انتهوا ترمقهم أبصار يعني أنهم لو علموا من طريق الصوفية ما جهلوا منها ما رمقتهم الأبصار, حيث ما انتهوا وأينما ظهروا. قلت: وفيما قاله نظر, لأن من خرق عوائد نفسه وخرج عن أبناء جنسه قطعا ترشقه الأبصار, ويكثر عليه الصياح والإضرار, سنة ماضية في حق الصادقين, نعم من بقي من الفقراء أو المنتسبين منهم في زيهم لم ينظر إليه أحد, وهو دليل برودته. فقد قالوا: الداخل على الله منكور, والخارج إلى الناس مبرور, وقالوا أيضا: مدح العوام للخواص هجنة: أي نقص فيهم, وتسليط الناس على الأولياء في بدايتهم سنة جارية وما ذلك إلا لخروجهم عن عوائدهم وارتحالهم عن عالم حسهم, والله تعالى أعلم. ثم قال: لو لم يكن بعض لبعض عاكس ..... ما لقبوا بعصبة الكساكس قلت: مذهب الصوفية الألفة والموافقة قلبا وقالبا, فقلوبهم قلب واحد, يحب بعضهم بعضا, ويخدم بعضهم بعضا, وقد تقدم شروط عقد الأخوة عن الغزالي فيما تقدم, فالصوفية على قدم الصحابة, قال تعالى في حقهم: "أذلة على المؤمنين", أي متعاطفين أذلاء على المؤمنين: "أعزة على الكافرين", أي غالبين عليهم شدة وغلظة, وقال في الآية الأخرى: "أشداء على الكفار رحماء بينهم", فكل من لم يكن على هذا المذهب فلا نصيب له في طريق القوم, وقال الناظم في فقراء عصره: إنهم متعاكسون بعضهم لبعض, أي متنافرون, كل واحد بعكس رأي صاحبه, لشدة نفرة قلوبهم, وذلك لبقاء حب الدنيا في القلوب, فلو خرج منها حب الدنيا لتطهرت وصفت وتعاطفت بعضها على بعض, فلو لم يكونوا متعاكسين لا يجتمعون إلا في حظ بطونهم, ما سماهم الناس بعصبة الكساكس, وصاروا يقال لهم: "الكساكسية". قلت: ولأجل هذه العلة كان بعض الشيوخ يمنع أصحابه من حضور. رزقنا الله من حسن الظن به وبأوليائه, وبسائر عباده الحظ الأوفر, بمنه وكرمه آمين, ثم هذه الكلية التي ذكرها لا تسلم له, والله تعالى أعلم. ثم قال رحمه الله: عار لمن لم يرض العلوما ..... ويعلم الموجود والمعدوما ولم يكن في بدءه فقيها ..... وسائر الأحكام ما يدريها والحد والأصول واللسان ..... والذكر والحديث والبرهانا ولم يكن أحكم علم الحال ..... ولا دري مقاصد الرجال ولم ينزه صفة المعبود ..... ولا دري مراتب الوجود والنفس والعقل معا والروحا ..... ويدري منه صدره المشروحا وعلم سر النسخ والمنسوخ ..... أن يتعاطى رتبة الشيوخ قلت: قوله "عار" خبر مقدم, "وأن يتعاطى" مبتدأ مؤخر, أي تعاطى رتبة الشيوخ والتقدم للشيخوخة "عار" أي عيب على من "لم يرض العلوم" بضم الراء, أي يتمهر فيها حتى تصير طوع يده ليكون في أموره على بينة من ربه, ويعلم الموجود الحقيقي, وهو الحق الواجب الوجود, والمعدوم حقيقة, وهو ما سوى الله, ولم يكن في ابتداء أمره فقيها, إذ لا يحل لامرئ أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه, وهو أيضا لا يدري سائر الأحكام, فلا يفرق بين ما يحل له ويحرم عليه, فقد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف, وهو أيضا لم يدر حدود الأشياء ورسومها, وكأنه يشير إلى فن المنطق, ولم يدر أيضا في الأصول, والمراد أصول الفقه, كمعرفة الواجب والمندوب والمكروه والحرام, والخاص والعام, والمطلق والمقيد, والقياس والإجماع, وغير ذلك مما هو مقرر في فن علم الأصول, ولم يدر أيضا علم اللسان, وهو العربية والتصريف واللغة, وفن البيان, ولم يدر أيضا معاني الذكر أي القرآن العظيم ليتمكن من التدبر فيه, ولم يدر أيضا حديث النبي صلى الله عليه وسلم, إذ التصوف مبني على الكتاب والسنة والهامات العارفين. وقال الجنيد رضي الله عنه: "علمنا هذا مؤيد بالكتاب والسنة, فمن لم يكتب الحديث ويجالس العلماء لا يقتدي به في هذا الشأن". ولم يعرف أيضا البرهان, أي علم البرهان, وهو علم العقائد التوحيدية, وهو علم الكلام, فتكون عنده العقائد برهانية, ثم تصير بعد ذلك عيانية, ولم يكن أيضا أحكم, أي أتقن علم الحال والمقام, بحيث يكون سلك طريق الأحوال, ثم سكن في المقامات, وهذا هو المسمى بالسير. فمقامات اليقين ينزل فيها الفقير أولا بالحال, ثم تصير مقاما. قال في الحكم:"حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال, وحسن الأحوال من التحقق في مقامات الإنزال", فلا بد أن يكون سلك مقام الزهد حالا, ثم مقاما, وكذلك: الورع والرضا, والتسليم, والمراقبة والمشاهدة وغير ذلك, وهذا هو الذوق الصريح, وأما من كان يأخذها من الكتب ويقلد فيها فلا تصح مشيخته, وضرره أكثر من نفعه, ولم يكن أيضا درى مقاصد الرجال في عبارتها وإشارتها ورموزها وألغازها ومقاصدهم, هل إصلاح الظواهر أو البواطن, أو هما معا ولم ينزه أيضا صفة المعبود عن الحدوث أو الحلول أو الاتحاد أو غير ذلك من النقائص, ولا درى أيضا مراتب الوجود من: الملك والملكوت, والجبروت, إذ الترقي إنما يكون في هذه العوالم, فيترقى من شهود الملك إلى الملكوت, إلى الجبروت, وقد تقدم تفسير هذه العوالم عند قوله: "وعلموا مراتب الوجود" ولم يدر أيضا معنى: النفس, والعقل, والقلب, والروح, والسر, وقد تقدم لنا أن المحل واحد, وهو الروح, وهي التي تتطور إلى العقل وما بعده باعتبار المجاهدة والرياضة, وقد تقدم بيان ذلك مرارا. ولم يدر أيضا معنى الصدر المشروح, وما علامة شرحه, وعلامة شرحه ما قاله عليه الصلاة والسلام: "التجافي عن دار الغرور, والإنابة إلى دار الخلود, والتزود لسكنى القبور والتأهب ليوم النشور". ويرجع إلى اليقظة من الغفلة ورفع الهمة عن الدنيا وما فيها, وإنما اشترطت معرفة الصدر المشروح, لأن الشيخ يشترط فيه أن تكون له فراسة يطلع بها على أحوال البواطن فيعرف المشروح من المقبوض, وفي بعض النسخ ولم "يدر منه" أي من نفسه, وفي بعضها "معنى" وهي أحسن, ولم يدر أيضا سر الناسخ من المنسوخ في الكتاب والسنة, وهذا من شأن أهل التفسير, وهو مقرر في محله. ثم هذا الذي ذكره الناظم لا يشترط منه شيء إلا علم الأحوال أو ما يلزمه في نفسه من العلم الضروري, وقد تقدم هذا المعنى مستوفيا عند قوله: وعند ما قاله بهذا الخطب ..... قالوا جميعا: أنت شيخ الركب فراجعه ثم إن شئت, وبالله التوفيق, وهو الهادي إلى سواء الطريق. ثم قال: يا عجبا من جاهل مبداه ..... في رتبة الكون ومنتهاه قلت: مبدأ الإنسان في رتبة الكون ومنتهاه التقدم له والتأخر عنه, فجيش الأرواح سابق على الكون, وباق بعد طيه فهو أول الكون ومنتهاه, فلإنسان شبه بالصمدانية الأزلية, لأن فيه الأولية والآخرية, والظاهرية, والباطنية, فروحه أول الكون وتبقي بعد فنائه, وهي ظاهرة بالإنسان إذ لا ظهور لها إلا به, باطنة فيه, وفيه سبع من صفات المعاني: القدرة, والإرادة, والعلم, والحياة, والسمع, والبصر, والكلام, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري: "إن الله خلق آدم على صورته" وفي رواية غيره: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن" أي على صفته في الجملة, وإن كانت أوصاف الباري عظيمة لا تشبه أوصاف العبد, لكن لها شبه ونموذج في الجملة. وقال صاحب "الرموز في فتح الكنوز" على قوله صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه عرف ربه" قد ظهر لي في سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه, وهو: أن الله سبحانه وضع هذه الروح في هذه الجثة الجثمانية لطيفة لاهوتية مودعة في كثيفة ناسوتية دالة على وحدانيته تعالى وربوبيته, ووجه الاستدلال من عشرة أوجه: الأول: أن هذه الهيكل الإنساني لما كان مفتقرا إلى محرك ومدبر, وهذا الروح يدبره ويحركه, علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني: لما كان مدبر الجسد واحدا, علمنا أن مدبر هذا العالم واحد, لا شريك لهو وفي تدبيره وتقديره, قال تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا". الثالث: لما كان لا يتحرك هذا الجسد إلا بتحرك الروح وإرادته, علمنا أنه لا يتحرك كائن بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته. الرابع: لما كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها, لا يخفي على الروح من حركات الجسد شيء, علمنا أنه تعالى "لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض". الخامس: لما كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء, علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء ليس شيء أقرب إليه من شيء, ولا شيء أبعد إليه من شيء, لا بمعنى قرب المسافة, لأنه منزه عن ذلك. السادس: أنه لما كان الروح موجودا قبل الجسد, ويكون موجودا بعد عدمه, علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه, ويكون موجودا بعد عدمهم, ما زال ولا يزال, وتقدس عن الزوال. السابع: لما كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية, علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية. الثامن: لما كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية, ولا أينية, بل الروح موجود في سائر الجسد ما خلا منه شيء في الجسد كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان وتنزه عن المكان والزمان. التاسع: لما كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يمس, علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر: لما كان الروح في الجسد لا يدرك بالبصر, ولا يمثل بالصور, علمنا أنه لا تدركه الأبصار, ولا يمثل بالصور والآنار, ولا يشبه بالشموس والأقمار, ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. تنبيه:قد اشتهر على ألسنة كثير من الصوفية أن "من عرف نفسه عرف ربه" حديث, وليس كذلك وإنما هو من كلام يحيى بن معاذ الرازي, حسبما نص عليه الحافظ البدر الزركشي, والحافظ السيوطي في "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة" ونصه: حديث: "من عرف نفسه عرف ربه" قال النووي غير ثابت, وقال السمعاني: هو من كلام يحيى ابن معاذ الرازي. وكل فن يرجع فيه لأربابه, والصوفية رضي الله عنهم لحسن ظنهم: كثيرا ما يتساهلون في الأحاديث, هكذا كما قال الشيخ سيدي مسلم في كتابه. وإنما تعجب الشيخ من الجهل بهذين الأمرين, لأن هذين الموقفين هما أصل التوجه والمعاملة, ومظهر التحقيق والمواصلة, وبالله التوفيق. ثم قال متمما لما تعجب منه: وكيف يهدي وهو لم يهدى ..... لقد عدى ظلما وقد تعدى قلت: من لم يأخذ أدبه من المتأدبين أفسد من أتبعه, من لم يرب لا يربي, من لم يهد بغيره لا يهدي غيره, من لم يسلك الطريق لا يسلكها لغيره, بل يتلف نفسه ومن تبعه, "لقد عدا" أي جاوز الحد ظلما, أي من جهة الظلم لقد تعدى طوره, ولم يعرف قدره. ثم قال: من لم ينل مراتب الإرادة ..... كيف يوطي للهدى سجادة قلت: من لم يحصل مراتب الإرادة ويسلكها جذبا وسلوكا "كيف يوطي" أي يبسط سجادة ويقعد عليها لهداية الناس, فمن فعل ذلك فقد غر الناس, من لم يصحب العارفين من أهل الكمال لا يغر بأولاد الرجال. ثم قال: كيف يدل طرق الأسفار ..... من لم يزل في جحره كالفار قلت: الجحر بتقدم الجيم وهو الغار, وقد تقدم أن الشيخ بمنزلة شيخ الركب, فلا بد أن يكون عارفا بالمنازل والمناهل, قد سلك الطريق وعرفها, وعلم وعرها وسهلها, وأما من كان لازما بيته قاعدا في جحره كالفار, فلا يمكن أن يدل على الطريق, لأنه يتلف من تبعه قطعا. قال في بداية السلوك: أتكتفي بالوصف في المسير ..... فالوصف لا يغني عن الخبير قال في الشارح بعد كلام العلماء: إنما نبهت على ما تصح به الوجهة إلى الله, لا عن السر الذي تمتد منه الوجهة, الذي لا يتصور الكشف عنه إلا لمن انفقأ الحجاب عن عين قلبه, وكان له نصيب ميراث من فراسة نبيه صلى الله عليه وسلم في أحوال صحابته, فهذا العلم هو الذي لا يمكن التعبير عنه بالمقال, ولا يصح الأمر حتى يؤمر وينهى, ويعطي ويمنع, ثم قال: أرأيت لو أن رجلا أو رجالا وصفوا لك الطريق من دارك إلى مكة, وكتبوا لك كتابا فيه جميع المنازل والمناهل, والمواضع المخوفة والمأمونة, ثم تهت, أينفعك ذلك الكتاب, وقد أحاط بك بحر السراب, وانقطعت عن حي الإعراب؟ بل تتيقن بالهلاك وكتابك في يديك, وهذا في الطريق الحسي, فما بالك في الطريق الباطني المعنوي التي هي قليل خطارها, كثير قطاعها بالمعنى. ومن هذا المعنى قالوا: "إن الميت لا يربي" لأن من مات لا يدل على الطريق بالفعل, وقالوا: أيضا الثدي الميت لا يرضع الولد, والله تعالى أعلم. ثم قال: أليس هذا كله محال ..... لم يستقم لشخص منه حال قلت: الإشارة تعود إلى التقدم إلى الشيخوخة من غير استحقاق, وذلك عند أهل الحق محال, لم يستقيم لمن تبعه حال, بل ضرره أقرب من نفعه, لبئس المولى ولبئس العشير. ثم قال: يا قاصدا علم الطريق السالف ..... لا تقتدي بهذه الطوائف ما منهم من علم المقصود ..... منه ولا الوارد والمورود لم يعرفوا حقيقة الطريقة ..... فالقوم جهال على الحقيقة فاحذرهم خشية يفتنوكا ..... واترك سبيلا لم يزل متروكا قلت: هذا تحذير من متفقرة وقته, يقول: يا قاصدا علم طريق الصوفية المتقدمين المحققين لا تقتدي بهذه الطوائف: الجهلة المبتدعين, فليس منهم من علم المقصود من الدخول في طريق القوم, ولا كيفية الورود, أي المرور عليها, ولا مورودها أي مشروبها ما هو, إذ لا ذوق عندهم, ولا حال, وإنما الناس من عوام الجهال, لم يعرفوا طريقة ولا حقيقة والجاهل لا يقتدي به, ولا يكون إماما أبدا, قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله, على بصيرة أنا ومن اتبعني". والجاهل لا بصيرة له. فان قلت: قد وجد كثيرا من الأولياء أميين, وكانوا أئمة يقتدي بهم في الباطن. قلت: مثل هؤلاء كانوا متعطشين إلى الله, جادين في طلب الحق, فلما علم صدقهم دلهم على ولي من أوليائه, فلما كشف الحجاب عنهم, علمهم الله ما جهلوا, فكانوا أعلم الناس بالله, وقد قال بعضهم: ما اتخذ الله وليا جاهلا إلا علمه وغيرهم من فقراء الوقت لم يكن لهم ذلك فبقوا جاهلين, ثم هذا الذي قاله الناظم ليس على التعميم, إذ لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته, وشيخ التربية لا يخلو الزمان منه أبدا, إذا لا يمكن أن يكون القطب إلا بعد التربية, وهو لا تخلو الأرض منه, كما هو مقرر عند أهل الفن, والله تعالى أعلم.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
عبدالله المسافربالله
عدد الرسائل : 3605 تاريخ التسجيل : 21/11/2017
موضوع: الفصل الخامس في فقراء العصر ومتشبهي الوقت الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى الثلاثاء يناير 02, 2024 8:24 pm
الفصل الخامس في فقراء العصر ومتشبهي الوقت الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
ثم قال: فإن غدا الأمر عليك مشكلا ..... وشئت أن تعلمه مفصلا فسوف ألقي لك قول الحاذق ..... يفصل بين المدعي والصادق يعني إذا صار الأمر مشكلا عندك, ولم تعلم الصادق من الكاذب, والجاهل من العالم, والمحقق من المدعي, والسني من المبتدع, واغتررت بظهور الكرامات, وكثرة الاتباع, وكثرة الطعام, ولم تدر بمن تقتدي, فها أنا أخبرك وألقى إليك قول اللبيب الحاذق يحكم بين المدعي والصادق, ثم ذكر ذلك القول الفاصل, فقال: قول الفقير: إنني فقير ..... فللظهور أبدا يشير قلت: كون قول الفقير: "أنا فقير يشير للظهور, ليس على إطلاقه, بل فيه تفصيل". قال الشيخ زروق رضي الله عنه: أما قول الفقير: أنا فقير فهو إشارة للظهور كما قال, وذلك محمود ومذموم بحسب قصده, وهو على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقصد به التبري مما كان عليه من الجهالة والغنى, ليكون له عونا على عدم العود لما كان عليه, وهذا أمر لا بأس به إن وقف على حده. الثاني: أن يقوله يستنجد به من عسى أن يرجو فيه خيرا أو عاصيا متمردا, أو متذكرا يقظان, أو مريدا متوجها ليكون له عونا على البر والتقوى, فهذا أيضا لا بأس به إن لم يتعد به محله, وعلامة صاحب هذين الوجهين: أن يقول ذلك مع انكسار وتبر واستغفار وحمد واستبشار. الثالث: أن يقول ذلك بقصد التبجح والاستتباع, وإظهار المزيد, والتعزز بالنسبة والانتساب, وطلب الرياسة وإشاعة الأمر في العموم, والتعرض لكل أحد, والتعريض به, وشاهد الحال لا يخفي الخ. قلت: وذم من هذا وصفه لا يخفي, وهو الذي يفسر به الناظم, والله تعالى أعلم. ثم قال: وبسطه وليس غير عارف ..... سخافة ليست من المعارف وقبضه وليس ذا إرادة ..... فهو على غير طريق السادة قلت: والغالب على العارفين البسط فرحا بالله وبالوصول إليه, والغالب على المريدين القبض, لأنهم في محل المجاهدة والمكابدة, فإذا رأيت الفقير انبسط وانشرح من غير وارد قبل تحصيل المعرفة بالله فبسطه وانشراحه سخافة وحمق, ليست من المعارف, إذ لا يليق بحاله إلا القبض, إذ لاحظ للنفس فيه, وإذا رأيته مقبوضا ولم تظهر عليه أحوال الإرادة فاحذره, فهو على غير طريق السادة المتقدمين, ولا يلزم من الحذر الاستحقار, فتعظيم النسبة مطلوب. ثم قال: وأخذه مما بأيدي الناس ..... دون اضطرار فهو ذو إفلاس قلت: أخذ المريد من أيدي الناس, وسؤاله لهم من غير ضرورة, تدل على إفلاسه, وأنه فقير بطنه, يريد جمع الدنيا, اللهم إن كان قصده إعانة شيخه أو فقير مثله, فلا بأس به, والحاصل أن الفقير لا يقبض لنفسه إلا ما كان مضطرا إليه وإن قبض شيئا بلا ضرورة أخرجه عنه سريعا, والله تعالى أعلم. ثم قال: ولبسه ما كان ذا اشتهار ..... فسره عار عن الأسرار قلت: لبس الفقير ما فيه الشهرة عند الناس, إن كان بإذن من شيخه فلا عليه, فإن الشيخ طبيب, وإن كان بغير إذن فلا يخلوا من حظ, فإن النفس تحب أن تعرف, وقد قالوا: خالفوا وتعرفوا, فلعلها تريد ميل القلوب, فمن فعل ذلك فأحذره, فإن سره خال من الأسرار والعياذ بالله, لأن الصادق لا يحب أن يذكر ولا يظهر, والسر لا يكون إلا مدفونا, والله تعالى أعلم. ثم قال: وأكله من سائر المآكل ..... دون انتهاء فهو غير واصل قلت: الناس على ثلاثة أقسام: قسم عوام, لا توجه لهم, فهم يأكلون كل ما تبيحه الشريعة. وقسم عارفون واصلون, تحقق فناؤهم وبقاؤهم, فهم يأخذون من يد القدرة, فهؤلاء أيضا لا كلام عليهم. وقسم مريدون متوجهون, فهؤلاء ينبغي لهم ألا يتعاطوا كل ما تشتهي نفوسهم, بل ينبغي لهم مخالفتها في ذلك, إذ لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين, فإذا رأيت الفقير يأكل من سائر المآكل, شهوات وشبهات, ولا يتحاشى من شيء, وهو دون انتهاء في المعرفة, فهو غير واصل, لا يأتي منه شيء, ولا يحصل على طائل, إلا أن يتوب, والله تعالى أعلم. ثم قال: وسمعه مواقع الألحان ..... بغير موت النفس فهو عان قلت: قد تقدم الكلام على السماع, وحاصله: أن الفقير إذا حصل له الفناء في الذات, وعرف كيف يسمع, فالسماع في حقه مطلوب, لما فيه من زيادة الخمرة, فإن النفس لما ماتت لا تميل إلا إلى الحضرة, ولا تسمع إلا منها. قال: بعض من صح سماعه: أنا لا أسمع من النغم إلا أنا أنا, أو أنت أنت. وقال الششتري: "أنا بالله أنطق, ومن الله أسمع, فمثل هذا يزيد بالسماع ما لا يزيد بغيره, ومن لم يبلغ هذا المقام فالسماع عليه مكروه أو حرام, فمن رأيته يسمع الألحان ولم تمت نفسه فهو عان أي في عناء وتعب, لا يزيده ذلك إلا بعدا, والله تعالى أعلم. ثم قال: وحبه السماع لا محالة ..... بقية فيه من البطالة قلت: السماع إنما هو دواء ورخصة للضعفاء تقوية لحالهم, فإذا حصل الشفاء استغنى عن الدواء, فإذا رأيت الفقير يحب السماع, ويميل إليه على الدوام, فاعلم أن فيه بقية من البطالة, والبطالة ضد المجاهدة, ومن لا مجاهدة له لا مشاهدة له, ومن لا سير له لا وصول له, والله تعالى أعلم. ثم قال: ورقصه فيه بغير وارد ..... يسلبه عنه فقير وارد قلت: قد تقدم الكلام على الرقص والتحرير فيه عند قوله في السماع, والرقص فيه دون هجم الحال, الخ ما يغني عن إعادته. فرقص الفقير بغير وارد يسلبه عن الشعور بنفسه, فهو غير وارد, أي غير شارب من شراب القوم, إلا أن يكون تواجدا أو مساعفة لمتواجد, فلا بأس به, ولا يتعرض على صاحبه. أو تقول: رقص الفقير أو زعقه أو صراخه من غير وارد, فهو بدعة غير وارد في الشرع, والله تعالى أعلم. ثم قال: وأخذه الخلع بغير الخلع ..... بعد عن الحق بعين الجمع قلت: قد تقدم الكلام على الخلع, فإذا رأيت الفقير يأخذ ما خلع عنه من الثياب عند ورود الأحوال بعد أن طرحها عنه, فهو عائد إلى صدقته, كالكلب يعود في قيئه, فهو بعيد عن الحق بعين الجمع, أي حيث يظن الجميع, يعني أنه بعيد من حيث يظن القرب, ففيه جهل مركب, والله تعالى أعلم. ثم قال: وحطه الرأس بغير جرم ..... على أخيه غير فعل القوم قلت: قد تقدم أن حط الرأس فعل ما لا ينبغي: ليس من شأن الصوفية, ولا عمل عليه, فإذا فعله الفقير فقد أخطأ, إذ ليس نص من الشارع, فهو قريب من البدعة. ثم قال: وقد ذكرنا حكم الاستغفار ..... أعني القيام ليس عرفا جاري قلت: قد تقدم أيضا حكم الاستغفار, وأنه لم يجر به عرف. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: هذه الثلاثة, يعني أخذ الخلع, وحط الرأس, والقيام للاستغفار, ليس من مطلب الطريقة, ولا من موجبات الحقيقة, ولا من أحكام الشريعة, وإن كان لها وجه من التأويل, فتركها أولى, والتسليم للعامل بها لازم لمحل الاشتباه, والله تعالى أعلم. ثم قال: وميله للعرب والأعاجم ..... علة نفس, وهو فيه آثم قلت: من شأن، الفقير في بدايته الفرار من الناس والاستيحاش منهم, حتى يتمكن الحضور فيه على التمام, وحينئذ لا بأس أن يخالطهم بجسمه, ويفارقهم بقلبه وأما ميله للناس وحب مخالطتهم فهو دليل على إفلاسه, إذ الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس. وقال بعضهم: من خالط الناس داراهم, ومن داراهم راءاهم, ومن راءاهم وقع فيما وقعوا, فهلك كما هلكوا, ولله در الشيخ الحضرمي حيث قال: عش خامل الذكر بين الناس وارض به ..... فهو أسلم للدنيا والدين من عاشر الناس لم تسلم ديانته ..... ولم يزل بين تحريك وتسكين وقال بعضهم: من خالط الناس وظن السلامة من الإثم, فقد رام المحال, كمن خالط النار بالحطب وظن سلامته من الاحتراق. ثم قال: سفره إن لم يكن إليه ..... منه فلا حقيقة لديه قلت: سفر المريد إن كان بالله لله, فانيا عن نفسه, خاليا من حظوظه, فهو في غاية الكمال, وإن كان بالنفس للنفس, فهو في غاية النقصان, وجلوس هذا أفضل من سفره, وإن كان بنفسه لله, فهو متوسط, وسفره أفضل من جلوسه, ليتحقق كماله, فتحصل أن السفر على ثلاثة أقسام: سفر بالله إلى الله, وسفر بالنفس للنفس, وسفر بالنفس لله. فالأول محمود قطعا, والثالث ملحق به, والثاني مذموم قطعا. ومنطوق الناظم هو: الثاني, والثالث, ومفهومه, هو: القسم الأول, لكن الثالث ملحق بالأول, كما تقدم, خلافا لظاهر كلام الناظم, والله تعالى أعلم. ثم قال: وإن أشار للمرام الأول ..... وجهل العقل فعنه فأعدل قلت: لعله أراد بالمرام الأول: عالم القدرة, وأراد بالعقل: عالم الحكمة, فإنها من مدركات العقل, فإذا أشار المريد إلى الحقيقة الأولية, وجهل ما أدركه العقل من الأكوان التي وقع بها التجلي فاعدل عنه, لأنه إن كان مجذوبا فهو ناقص, وإن كان مدعيا فهو ساقط فالأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته, فلا بد من إثبات الواسط والموسوط, ونفي عالم الحكمة يؤدي للزندقة, لإبطال الأحكام والله تعالى أعلم. وقال الشيخ زروق رضي الله عنه: إشارته للمرام الأول تنبيه على من قال بقول الفلاسفة من اعتبار العقل الأول ويسمونه: الفعال: وهو مذهب فاسد خارج عن حدود المعقولات, لما تضمنه من قدم العالم, والقول بحوادث لا أول لها, واليه أشار بقوله "جهل للعقل" أعني جهل حقيقته, حتى سماه بغير اسمه, وحكم له حكمه. أو قال بالظهور والحلول ..... فبدعة يقدح في الأصول قلت: مراده بالظهور: ظهور الذات العالية لبصر الحس, حتى تدرك بالبصر الحسي, وقد قال تعالى: "لا تدركه الأبصار" وإنما تدركه البصيرة, فإذا انفتحت وقوي نورها استولت على البصر, فصار الحكم لها, فالبصر لا يرى إلا الحس, والبصيرة لا ترى إلا المعنى, وقد يتلطف الحس فيصير كأنه معنى, فيكون ما تراه البصيرة في مد العيان, وهو محل الشهود, إذ الحس لا يفارق المعنى وأما الحلول فمعناه إثبات السوي, وحلول الألوهية فيه, وهو كفر صراح, فمن ادعى شيئا من الظهور أو الحلول فأرفضه, فقد أتى ببدعة تقدح في أصول إيمانه, والعياذ بالله من الزلل. ثم قال: وقوله: أنا الذي أهواه ..... قبل الفنا عنه فما أقصاه قلت: إذا قال الفقير: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا" قبل تحقق فنائه, فما أبعده عن الصواب, وإذا تحقق فناؤه فلا يقول ذلك إلا مع من يصدقه في حاله, وإلا تعرض لقتله. ثم قال: أو يدعي في علمه اللدني ..... بلا تقى, فذاك غير سني قلت: متى ادعي الفقير أن له علما لدنيا, ولم تظهر عليه تقوى ولا مجاهدة ولا رياضة, وإنما ذاك خرافات لا طائل تحتها, ومن ادعى ذلك فهو غير سني قال تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله" فمن لا تقوى له لا يعلمه الله شيئا, ولله در القائل: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ..... فأوما لي إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم فضل ..... وفضل الله لا يؤتاه عاصي والمراد بوكيع الفقيه المحدث الضابط من أشياخ الإمام الشافعي. وفي الحكم "أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته". ثم قال: وحكمه إن كان فوق الحال ..... فذاك مقطوع عن الرجال قلت: ينبغي للفقيه أن يكون حاله فوق مقاله, وقدمه أكبر من صيته, فإذا كان يدعي مراتب الرجال ويحكم على نفسه بها قبل وصوله إليها بشهادة أهل الفن, فهو مقطوع عنهم والعياذ بالله من الدعوى. ثم قال: أو قال أنا الشيخ فأتبعوني ..... بغير علم فهو ذو جنون قلت: الفقير لا يدعي الشيخوخة حتى يأذن له شيخه, فإذا أذن له فلا بأس أن يعرف بنفسه لقصد الاتباع به, وأما إذا لم يؤذن له, أو لم يكن له شيخ, وقال أنا الشيخ فأتبعوني فهو أحمق مجنون, سواء كان له علم أم لا, إذ من لا شيخ له: لا علم له بطريق السير أصلا, ومن لا علم له فهو جاهل, والجاهل يقود الجاهل, كالأعمى يقود الأعمى: إلى أين المصير, وإن لم يأذن له شيخه فهو ذو دعوى, ومبتلي يهوى, والهوى شعبة من الجنون, والله تعالى أعلم. ثم قال: أو قال صوفي أنا, ولما ..... يدر حدود النفس فهو أعمى قلت: إذا قال الفقير: أنا صوفي, ولم يفرق بين حدود النفس وحدود العقل والقلب والروح والسر, فهو أعمى. أو تقول: لم يفرق بين الروحانية والبشرية, فهو أعمى عن طريق الخصوصية. أو تقول: لم يعرف ما فيه ضرر نفسه فينكف عنه, وما فيه نفعها فيبادر إليه, ولا شك أن من كان هكذا هو أعمى عن طريق السير, إذ السير إنما هو في فعل ما يقتل النفوس, وترك ما تجيء به, ومن لم يعرف ما ينفعه وما يضره فلا بصيرة له, فهو أعمى, وهذا أقرب لشرح النظم, والله تعالى أعلم. ثم قال: وحبه القوم بلا اتباع ..... ليس له فيه من انتفاع قلت: محبة القوم فيها خير كثير "من أحب قوما حشر معهم", لكن لا ينتفع بها في طريق التصفية والتهذيب إلا باتباع ما أشاروا إليه به, وأما الحرمة والبركة فتحصل بحول الله: عمل بعملهم أو لم يعمل للحديث. والله تعالى أعلم. ثم قال: وفعله ما في عموم الشرع ..... يمنعه النص ففعل بدعي قلت: فعل ما يمنعه النص في عموم الشريعة حرام, إلا لضرورة, فإن الضرورات تبيح المحظورات, فإن فعل الفقير شيئا من ذلك فهو بدعي, وأما ما لم يرد نص في تحريمه ولا تحليله, فإن فعله بنية القربة فهو بدعة أيضا لتغييره أحكام الشريعة, وإن فعله استراحة للنفس, أو جلبا لحال أو لدواء مرض أصابه فهو مطلوب, فقط سئل الجنيد عن السماع, فقال: كل ما يجمع العبد بالله فهو مباح. وبيت الناظم فيه تقديم وتأخير, أي وفعل الفقير ما يمنعه النص في عموم الشرع, ففعل بدعي, والله تعالى أعلم. ثم قال: وإن تشيخ بغير إذن ..... من شيخه باء بكل غبن قلت: الفقير إذا تشيخ, أي صير نفسه شيخا, وتقدم لمرتبة الشيخوخة من غير إذن من شيخه فقد باء, أي رجع بكل غبن وخسارة, إذ لو رآه شيخه أهلا لها لقدمه لها, وأما انتقاله عنه إلى غيره فهو أقبح وهو إفساد لبذرة الإرادة, وهذا في حق شيخ التربية, وأما غيره فلا يضره الانتقال عنه, إذ المريض إذا لم يشف على يد طبيب انتقل إلى غيره وهكذا, أي انتقال المريد لم يذكره الناظم, وتقدم في محله, والله تعالى أعلم. ثم قال: فهذه وشبهها موانع ..... وهي على الطريق كالقواطع هل هي إلا علل في الفقر ..... جالدها كل جليد صقر قلت: الإشارة تعود إلى كل ما قدمه من الفصل إلى هنا من مساوئ متفقرة الوقت: يعني أن هذه الأمور التي قدمنا وشبهها هي في طريق القوم, موانع تمنع المريد من الوصول إلى مقصوده, وهي على طريق التصوف, كاللصوص والقطاع, وما هي أيضا إلا علل في طريق الفقر, فمن جاهدها وجالدها فهو كالصقر, أي البازي في الشجاعة والزعامة, والمجالدة هي المضاربة بالسيوف, والرجل الجليد هو الصبار أي جالد هذه العلل وصرفها عن نفسه, صبار شجاع زعيم, يفوز بالخير الجسيم, والله تعالى أعلم. ثم قال: حتى إذا جدلها صريعة ..... لم يتوقع بعدها وقيعة قلت: التجديل هو الصراع والإسقاط, يعني أن الفقير إذا غلب نفسه وجاهدها حتى غلبها وصرعها وقتلها, أمن حينئذ من غوائلها, ولم يتوقع منها بعد ذلك وقيعة, ولا فتنة البتة وبالله التوفيق. ثم قال: يا صاح لا يفتنك الزمان ..... فها لديك الشرح والبيان قلت: لما نصحك وحذرك قال لك: يا صاحبي لا يفتنك الزمان وأهله, فقد شرحت لك أحوال الناس وبينتها حتى تركتك على بينة تعرف منها الصادق والكاذب, فلا تغتر حتى يأكلك من والاك, ولا تسيء الظن حتى تسد باب رحمة مولاك, وابتغ بين ذلك سبيلا, والله تعالى أعلم. ثم قال: فالحق لا يعرف بالرجال ..... والعين لا تصلح بالمحال قلت: هذا مثل مشهور, وهو أن "الحق لا يعرف بالرجال بل الرجال يعرفون بالحق" أي باتباعه فمن عرف الحق بالرجال أصبح في غاية الضلال, أعرف الحق تعرف أهله. وقد قال علي كرم الله وجهه: "لو عرفت الله بمحمد صلى الله عليه وسلم لما عبدته, ولكن الله عرفه بنفسه فعرفته, ثم عرفت محمدا بالله". فانظر هذا المقام الذي لم يحجبه عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "والعين لا تصلح بالمحال" أي ما شاهدته العين وتحققته لم يتطرق إليه محال ولا ريب, فليس الخبر كالعيان, فلا تغتر بالسماع حتى ترى بعينك وتتحقق, وحينئذ تقدم أو تأخر, وفي بعض النسخ: "والعين لا تصلح بالكحال, بالكاف, ولعل معناه أن العين الكحلاء غنية عن الكحل, فهي جميلة لا تحتاج إلى أن يصلحها الكحل, فكذلك الحق معروف لا يتوقف على معرفة الرجال, بل معرفة الرجال متوقفة على معرفة الحق, والله تعالى أعلم. ثم قال: والحق في كل الأمور أولى ..... لو رآه الباطل لاضمحلا قلت: لا شك أن متابعة الحق والأخذ به في كل الأمور أولى, ومتى جاء الحق زهق الباطل واضمحل, قال تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" إذ الباطل لا يقوم الحق أصلا. قيل لسهل رضي الله عنه: من أين تأكل؟ قال: من عند الله؟ قال: أينزل عليك من السماء؟ قال: لو لم تكن الأرض له لأنزله من السماء. قال: أنتم لا يقوم أحد لكم بحجة, فقال: الحق لا يقوم له شيء. وقبل المسؤول حاتم. والله تعالى أعلم. ثم قال: وإذا علمت سنن الأقوام ..... إذن فهاك القوس والمرامي قلت: السنن بالفتح الطريق, وبالضم جمع سنة, يقول لما أخبرتك بسنن الصوفية فقد أعطيتك أقواسهم, وكشفت لك عن مبلغ مرامهم, وحيث انتهى سهامهم فلا تغتر بحبال سحرة فرعون وأعصيتهم الباطلة, وتدع الميل إلى عصى موسى التي هي: "تلقف ما يأفكون, فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون, فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين". وكذلك المتشبهة مع سادات الصوفية, قال الشيخ عبد الوارث. ثم قال: هذا هو الطريق فاقصد جله ..... فقد جمعنا لك منه جمله يعني أن ما ذكرته في كتابي هذا هو أساس الطريقة, فابن عليه يستقم بنيانك, وأرفض ما سواه تفلح, فاقصد العمل بما فيه أو جله, فقد جمعت لك من سنن القوم جملة صالحة, وبالله التوفيق. ثم قال: وقد ذكرنا كل ما اشترطنا ..... وها على آخره أتينا قلت: أخبر رحمه الله انه على ما شرطه في أول كتابه من بيان سنن الفقير, وقد أتي على آخره, وذكر جميع فصوله الخمسة, فجزاه الله عن المسلمين خيرا. وفي أمثاله قال القائل: جزي الله الرجال جزاء خير ..... في كل ما أظهرا لنا وأبدوا لقد عظمت فضائلهم علينا ..... لما للمؤمنين هدوا وأهدوا ثم ختم كتابه بالدعاء فقال: وفقنا الله إلى التوفيق ..... وقادنا لقادة التحقيق قلت: التوفيق هو خلق القوة على الطاعة, وقادة التحقيق هم العارفون بالله سأل من الله التوفيق, وأن يسوقه إلى شيوخ التحقيق, إذ بذلك يكمل التوفيق, وبالله التوفيق. ثم ختم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل دعاؤه, ويقبل على كتابه فقال: وبعد هذا فصلاة الله ..... تترى على الهادي العظيم الجاه ما غردت ورقاء في الأغصان ..... وحن مشتاق إلى الأوطان قلت: تترى أي يتبع بعضها بعضا, والتغريد الصياح بصوت حنين, والورقاء بالمد الحمامة ذات النقط في ريشها. وقوله: العظيم الجاه, أشار به إلى حديث عنه صلى الله عليه وسلم: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم". وفي حديث آخر: "مكتوب تحت ساق العرش: من اشتاق إلى رحمتي رحمته, ومن سألني أعطيته, ومن توسل إلي بمحمد صلى الله عليه وسلم لم أخيبه". اللهم إنا توسلنا إليه بجاه حبيبك مولانا محمد صلى الله عليه وسلم أن تمتع أسرارنا بمعرفتك, وتنزه أفكارنا في رياض قدسك, وأن تحفظ قلوبنا من الميل إلى غيرك, نحن وأحباؤنا ومن تعلق بنا آمين. ثم أيد هذه الصلاة بشيئين أحدهما: فان والآخر باق. فالأول: تغريد الحمام في الأغصان, والثاني حنين المشتاق إلى الأوطان, فإن الأرواح نحن إلى أوطانها على الدوام, ولو بعد الحمام, ولو اتصلت بالنعيم الروحاني المقيم, فلا بد أن يبقى معها الاشتياق إلى الترقي, والنظر أبدا, والفرق بين الشوق والاشتياق, أن الشوق يزول بالملاقات, بخلاف الاشتياق, فلا يزول بالوصول, والى ذلك أشار ابن الفارض بقوله: وما بين شوق واشتياق فنيت في ..... تول بحظوة أو تجل بحضرة ثم ختم بالحمد كما بدأ, ليكون الكتاب مكتنفا بالحمد, فيعظم خطره, ويرفع قدره, فقال: الحمد لله الذي ختمنا ..... بحمده كما به بدأنا قلت: حمد الله على توفيقه الحمد لله في البداية والنهاية, وذلك من علامة بلوغ الأمل والمرام, وقد تقدم الكلام عليه في أول الكتاب فلا نعيده. والحمد لله الذي هدانا لهذا, وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما, والحمد لله رب العالمين.
هذا آخر التعليق المبارك, نسأل الله سبحانه أن يتقبله بأحسن قبول وأن يبلغ به من طالعه أو سمعه كل مقصد ومأمول, بجاه الحبيب الأعظم والرسول الأفخم سيدنا محمد سيد العرب والعجم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أولي النزاهة والفضل والكرم. ووافق الفراغ من تبييضه عشية يوم الخميس أوسط شهر رمضان سنة إحدى عشرة ومائتين وألف, وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
قصيدة الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى