بحثًا عن العنقاء!
من سِدرة المنتهى جاوزت أَفلاكا
قرنًا بقرن طويتُ الدَهر ذيَّاكا
سوطُ الرحيم رماني في ذُرى فلكٍ
لا تجتليه عيونُ الإنسِ لولاكا
قد حال ناسوتُنا لاهوتَ معرفةٍ
بوركتَ من عضُدٍ يُمناك مرماكا
فالحالُ منِّي أَحوالٌ مجنَّحةٌ
لا النطقُ يشرحُها أو حَدْسُ مولاكا
هذه ترجمة شعرية لي من الفارسية
لمقطوعة من كتاب (المثنوي) الشهير
لجلال الدين الرومي المعروف بمولانا,
هذه الأبيات وصف لحال جلال الدين,
كبير شعراء التصوّف والعرفان في العالم,
وقد بلغ مرحلة الكشف والوصول
في المعرفة القصوى التي هي العرفان.
وقد قلت في حال الرومي العُلويّة هذه من قصيدة لي فيه:
عرفانُ الله بكَ انكشفا
ونقابُ الحضرةِ قد نُقِبا
ماذا تعني هذه الحالُ العجيبة بالنسبة إلى
الرومي البلخي ورصفائه من العارفين?
وبالنسبة إلى بعضنا من السالكين,
فيما نحاول اجتياز أودية السلوك السبعة,
ومحجَتنا جبل القاف بحثًا عن العنقاء?
أي الحقيقة القصوى.
إنها حالة انعدام المكان والزمان وغيبة العارف
في اللامكان واللازمان! فالذي يقضي عمره -
من خلال فكره الخيّر وقوله الخيّر -
في ترويض النفس وصقل مرآة القلب,
لا بدّ له من أن ينعكس في مرآته السر الأعظم.
هي مسيرة الإنسان الكامل أو الساعي
إلى الكمال بنعمة من ربه, ولا يؤتاها
إلاّ من سعى إليها, إذ طريق الكمال ذات اتجاهين
: صعود وهبوط, معراج وتنزيل.
سدرة المنتهى
إنّ الذي يؤتى تجاوز أقطار السماوات والأرض
يعاين ما لم تره عين ويسمع ما لم تسمعه أذن
ويدرك ما لم يخطر ببال بشر!
هي الحواسّ الباطنةُ تستبدل بالحواسّ الظاهرة:
دخول في عالم اللامكان.
قد يقول المتشبّثون بسلطان العقل وموضوعية العلم,
وأدعياء الواقعية إن هذا القول كلام بكلام
وإن القائلين باختراق المكان إلى اللامكان
وطيّ الزمان في اللازمان هم مهلوسون, مجذوبون!
نعم, هم مجاذيب,
لكنهم مجاذيب الحضرة لا يبلغون هذا المقام
ولا تعتريهم هذه الحال إلاّ على برزخ
من الجهاد الموصول الأنفاس, جهادًا
للنفس الأمّارة بالسوء,
ثم تحريرًا لها من عقال العلائق الدنيويّة.
عندئذ يتحررون من ربقة المادة والحاسّة
إلى قدرة الروح والحواسّ الباطنة
غير المقيّدة بمعطيي الزمان والمكان.
(إذا رفع القيدُ عن إحدى الحواسّ
تبدّلت وظائف الحواسّ الأخرى مجتمعة,
فعندما تجوز الأذنُ حدَّ النّفاذ تصبح عينًا.
ما أكثر الكلام الذي أُلقي في قلب موسى
فأدّى إلى اختلاط الرؤية بالكلام!).
إنّ حالة (الخلط ما بين الرؤية والكلام)
و(الغيبة عن الوعي ثم العودة إليه),
و(اختراق ما بين الأزل إلى الأبد)
هي حالة تتجاوز حالات الحياة المحسوسة والماديّة,
أي هي حالة ما وراء الأحوال
ويمكن تسميتها بلغة الفلسفة (التجرُّد)
وبلغة العرفان (الاستغراق) وما أشبه من مصطلح.
العقول وأصحاب القلوب
عند هذا الحدّ أتساءَل:
هل الإنسان حواسّ وإدراك حسي وعقل مجرّد وحسب?
أليس للقلب, كما يقول العارفون وأصحاب القلوب,
أو لقوة وطاقة أخرى في الإنسان,
دور في مساعدته على تجاوز حياته العاديّة
إلى أحوال لا يجد لها تفسيرًا أحيانًا?
أليس يقوم فينا - في مقابل العقل المادي
الذي يحاول اختراق مدارات الكواكب
بمركباته الفضائية التي ينبغي لها
آلاف السنين الضوئية لتبلغ بعضها -
مدّ روحيّ لا تقيده الحواسّ ولا المادة,
ولا يصدمه مكان, ولا يحده زمان?
ألسنا نشعر بذلك في أعماقنا, فتحضرنا أحوال غريبة
أو نستحضرها أحيانًا?
قال صاحب الفتوحات:
خُصِصْتُ بعلمٍ لم يُخصّ بمثلهِ
سواي من الرحمنِ والعرشِ والكرسي!
حقوق الطبع محفوظة للبلاغ