و:
تشبه الشريعةُ تعلُّمَ الكيمياء من أستاذ أو كتاب.
وتُشبه الطريقةُ استخدامَ منتجات الكيمياء
أو فَرْكَ النحاس بالحجر الكيميائي.
وتشبه الحقيقةُ تحوُّلَ النحاس فعليًّا إلى ذهب. والشريعة
تمثل الطريق الواسع المُعَدَّ للناس جميعًا،
في حين أن الطريقة مسلك ضيق
من نصيب العدد القليل من أولئك الذين يريدون
تحقيق مرتبتهم الكاملة بوصفهم أناسًا كُمَّلاً.
"ارتقي سلَّمَ الوجود الروحي لتقومي خلقًا آخر،
كما ارتقى جسدُك من مرتبة الجماد":
في اللحظة التي دخلتَ هذا العالم
وُضِعَ أمامك سلَّمٌ ليمكِّنك من النجاة
في الأول كنتَ جمادًا، ثم صرتَ نباتًا
ثم بعدئذٍ صرتَ حيوانًا: كيف يمكن أن تتجاهله؟
ثم جُعِلتَ إنسانًا موهوبًا معرفةً وعقلاً وإيمانًا
انظر إلى هذا الجسد المصنوع من التراب أيَّ كمالٍ اكتسب
وعندما تتجاوز شرطَ الإنسانية لا شك في أنك ستغدو ملاكًا
بعدئذٍ ستنتهي من هذه الأرض، وإقامتُك ستكون في السماء
وكنتَ، كلما رأيتَ العجبَ في عيني والارتباك،
تربِّت على كتفي وتهمس لي، وأنا كلِّي آذان مصغية، ناصحًا:
أن يتعلَّم العالمُ الطالبُ ما لم يعلم، وأن يعلِّم ما قد علم،
ويرفق بذوي الضعف في الذهن، ولا يعجب من بلادة أهل البلادة،
ولا يعنف على قليل الفهم: "كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم".
وتذكِّرني بأنه
لن يدرك العلمَ مؤثرُ هوى، ولا راكنٌ إلى دَعَة،
ولا منصرفٌ عن طلبه، ولا خائفٌ على نفسه، ولا مهتمٌّ بمعيشته.
طيب إذًا، يا سيدي، ها إنني أحاول أن أكون كالميْت في يد الغسَّال.
سأتجه بحواسي كلِّها إليك، و"لن أسألك عن شيء
حتى تحدث لي من أمرك ذكرا". فإذا عجلتُ إليك لترضى،
اغفر لهفتي وجِدْ لشوقي عذرا، ولا تردني بقولك:
"إنك لن تستطيع معي صبرا"، ولا تقطع ما بيننا من حبل وثيق بقولك:
هذا "فراق بيني وبينك". فمادمتَ الخضر الحي، كيف لعطاياك أن تنتهي،
أو لصبرك أن ينفد، أو لصدرك أن يضيق بطفلة مثلي؟!
وأخذتَني إلى بستان مثنويك،
فوجدتُه مائدةً عامرةً تمتد بين الأرض والسماء،
بلغة سهلة سلسة، جُعِلَتْ كلغة القرآن، تلائم كلَّ عصر وزمان،
كلَّ عمر وجنس، كلَّ عرق ولون – مائدةً زاخرةً بالأمثال،
ما إن تلامسها عصاك حتى تدبَّ فيها الحياةُ ويعود كلُّ مثل،
مهما صَغُرَ، إلى ممثوله. وكنت مذهولة، أفغر الفاه عجبًا وإعجابًا
من بساطة المثل وعظمة الممثول – لولا أن تذكِّرني بقوله تعالى:
"إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة فما فوقها"،
فأداري ما بي، وأتابع الإبحارَ في يمِّ الطريقة،
أصغي إلى حديث حبَّة الحِمِّص،
تتذمر من طول الغليان وحرارة النار،
وإلى جواب الطاهية عليها:
إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك،
ولكنْ لأنَّي أريد أن أجعلك سائغةَ الطعم
فتصبحين بذلك غذاءً يختلط بروح الحياة.
فمثل هذا العذاب لا يهبط بك
لقد فُصِلْتِ عن بستان الأرض، وستصبحين بذلك طعامًا يدخل جسم الحيِّ
فيغدو غذاءً وحيويةً وفكرًا. لقد كنتِ عصارة نباتية،
والآن تصبحين من أسد الغاب
لقد كنتِ جزءًا من السحاب والشمس والكواكب،
والآن تصبحين نَفَسًا وحركةً وحديثًا وفكرًا
ما أعظم ذلك الدرس في عدم الاستهانة بأبسط الأمور،
وفي أننا نحن مَن نعطي الأشياء قيمتَها بنفخة الروح فيها
وإقامة تلك الرابطة القوية معها، تجعلنا نبصر ما عجزتْ عنه عينُ البصر،
فأرجعتْ أمرَها إلى عين البصيرة النافذة.
علَّمتَني، يا مولاي، كيف عليَّ الوقوف على الصراط
لأفرِّق بين حقٍّ وباطل، وكيف يمكن أن أعود الإنسانَ–الميزان،
الفيصلَ بين الخير والشر، بلا فعل وانفعال،
حين رأيتك تتقمَّص الشخصياتِ كافة:
من فرعون لموسى، من غنيٍّ لفقير، من سيِّد لعبد، من كافر لمؤمن،
ومن امرأة لرجل. تغوص في أعماق النفس،
تتكلَّم على لسان الضدَّين بالحياد نفسه،
في مسائل عميقة دقيقة، كالجبر والاختيار، والقضاء والقَدَر،
لتخرج في نهاية الحوار، الذي تقوده في خبرة وإبداع،
إلى العرفان كحلٍّ لازم لا بديل عنه لكلِّ تلك المعضلات التي تطرحها،
وكأنك خبير بالنفس وبأدقِّ خفاياها، في نقد لاذع وتهكُّم واضح،
لم تنجُ منه حتى الصوفيَّة الذين باعوا حمار رفيقهم ليشتروا طعامًا بثمنه.
وكدت أستنكر عليك حينًا أسلوبَ السخرية والتهكم،
وأهمُّ بأن أعترض عليه كطريقة للتعليم،
حين تذكرتُ ما كان بيني وبينك من عهد وميثاق،
فأعدتُ التمعُّن من جديد، لأجدني معجبةً بما استنكرتُ قبل وقت،
فأدركت كم أحتاج ليكون علمي علمَ وعي ودراية:
كانت ذبابة على عود قشٍّ فوق بول حمار،
وقد رفعتْ رأسَها كربَّان السفينة!
وقالت: "إني أسمِّيهما بحرًا وسفينة، وهذا ما استغرق فكري فترةً من الزمن
فانظر هذا البحر وتلك السفينة، وأنا فوقهما،
الربَّان البارع الحصيف الرأي!"
فكانت هذه الذبابة تسيِّر سفينتَها على صفحة البحر،
وقد بدا لها هذا القَدَر ماءً لا يُحَدُّ
لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود في نظرها
– ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته؟
إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرُها.
فعلى قدر العين يكون مدى بحرها