ناول عليّاً الماء لتغسيل السيدة فاطمة.
يقول الإمام الحسين عليه السلام: «غسلها ثلاثاً و خمساً، و جعل في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور، و أشعرها مذراً سابغاً دون الكفن، و هو يقول:
اللّهم إنّها أمتك، و إبنة رسولك و صفيك، و خيرتك من خلقك اللهم لقنها حجّتها، و أعظم برهانها، و أعل درجتها، و أجمع بينها و بين أبيها محمّد صلى اللَّه عليه و آله و سلم »
و بعد الفراغ من التغسيل حملها و وضعها على أكفانها، ثم نشّفها بالبردة التي نشف بها رسول اللَّه
و حنطها بحنوط السماء الذي يمتاز عن حنوط الدّنيا.
ثمّ لفها في أكفانها، و كفنها في سبعة أثواب»
و إنّما قام علي عليه السلام بتغسيلها، و لم يكلف أحداً من النساء بذلك لأسباب:
1- تلبية لطلبها، و تنفيذاً لوصيتها.
2- إثباتاً لعصمتها و طهارتها، فإنّ تغسيل الميت يعتبر تطهيراً له، و أما بالنسبة للمعصومين فلا يسمح للأيدي الخاطئة أن تمدّ لتغسيلهم، و إنّما هو من واجبات المعصوم الخاصة أن يقوم بعملية التطهير، و قد مرّ عليك الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام حول كونها صدّيقة، و إنّ الصديقة لا يغسلها إلّا صديّق.
فكان الغرض من تلك الوصية و تنفيذها إثبات عصمتها، والتنويه بذلك في شتى المجالات و كافة المناسبات.
و صرّح الإمام عليه السلام بذلك حيث يقول: «فغسّلتها في قميصها و لم أكشفه عنها فواللَّه. لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة... الخ».
هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى-
بصوت مختنق بالبكاء-: «يا حسن يا حسين يا زينب يا أُم كلثوم هلمّوا و تزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفرق واللقاء في الجنّة!!».
كانوا يبكون بأصوات خافتة، و يغسلون كفن أُمّهم الحانية بالدموع، فتجففها الآهات والزفرات.
كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، والأحاسيس مشتعلة والعواطف هائجة، والأحزان ثائرة.
و انتهت مراسيم التكفين والتحنيط، و جاء دور الصلاة عليها ثمّ الدفن، لقد حضر الأفراد الذين تقرر أن يشتركوا في تشييع الجثمان و مراسم الصلاة و غيرها، و هم الذين لم يظلموا فاطمة، و لم يسكتوا أمام تلك الأحداث، و لم يكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم يتأثر بالحوادث.
لقد حضروا، و هم: سلمان، عمار بن ياسر، أبوذر الغفاري، المقداد، حذيفة، عبداللَّه بن مسعود، العباس
إبن عبدالمطلب، الفضل بن عباس، عقيل، الزبير، بريدة، و نفر من بنى هاشم، و شيّعوا جثمان فاطمة الزهراء البنت الوحيدة التي تركها الرسول الأقدس بين أمتة، و كأنها امرأة غريبة خاملة فقيرة في المدينة، لا يعرفها أحد و كأنها لم تكن لها تلك المنزلة الرفيعة والشخصية المثالية.
هوؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازة سيدة نساء العالمين.
و تقدم الإمام علي عليه السلام و صلى بهم على حبيبة رسول اللَّه، قائلاً: «اللهم إني راض عن إبنة نبيك، اللّهم إنها قد أُوحشت فآنسها، اللّهم إنها قد هجرت فصلها، اللّهم إنها قد ظلمت فأحكم لها و أنت خير الحاكمين
ثمّ صلى ركعتين و رفع يديه إلى السماء فنادى: «هذه
بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور. فأضاءت الأرض ميلا في ميل».
صلّى الإمام علي عليه السلام عليها، إذ أنها كانت معصومة، فيجب أن يصلي عليها المعصوم، فالصلاة على الميت دعاء له بالرحمة، و أمّا بالنسبة للمعصوم فالدعاء له أي الصلاة على جثمانه فهو من واجب المعصوم.
و كان من بنود وصيتها أن قالت: «يابن العم! أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، فإنهم عدوّي و عدو رسول اللَّه، و لا تترك أن يصلي علي أحد منهم و لا من أتباعهم، و ادفني في الليل إذا هدأت العيون و نامت الأبصار»
و ترمز هذه الوصية إلى أنّ الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمة و غاضبة على اولئك الأفراد، و استمرت النقمة
والغضب حتى الموت و بعد الموت و إلى يوم يبعثون.
فلا ترضى السيدة فاطمة أن تشيّعها تلك العصابة، و لا أن يصلوا على جنازتها و لا يشهدوا دفنها، و لا يعرفوا قبرها، بل يبقى قبرها مخفياً من يوم وفاتها إلى يوم الفصل الذي كان ميقاتاً ليجلب هذا العمل إنتباه المسلمين و على الأخص الحجاج والمعتمرين الّذين يزورون قبر الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم في المدينة المنورة، و مراقد الأئمة في البقيع، و يتساءلون عن قبرها فلا يجدون لذلك أثراً و لا خبراً.
فالقبر كان و لا زال مجهولاً عند المسلمين بسبب إختلاف المؤرخين والمحدثين فهناك أحاديث تصرّح بدفنها في البقيع، و هناك روايات أنها دفنت في حجرتها و عند توسيع المسجد النبوي الشريف صار قبرها في المسجد. خلف حجرة النبي و هو شاخص.
فإن صح هذا القول فإن صور القبور التي صورها
الإمام في البقيع كان لغرض التمويه، و صرف الأنظار عن مدفنها الحقيقي.
و إن كان الإمام قد دفنها في البقيع فالقبر كان و لا يزال مجهولاً.
دفنوا أول شهيدة من آل محمّد.
لقد دفنوا المواهب والفضائل.
لقد أخفوا في بطون التراب الحوراء الإنسية.
كانت لحظات حرجة من تلك الليلة المؤلمة والمشجية لقد كان جثمان السيدة الطاهرة ماثلاً نصب عينيه، والآن و قد غابت عنه في طبقات الثرى، و هاجت به الاحزان، و عصره ألم المصاب، فانشد يقول:
لكل اجتماع من خليلين فرقة و إن افتقادي فاطماً بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل
و كل الذي دون الممات قليل دليل على أن لا يدوم خليل دليل على أن لا يدوم خليل
لمّا نفض يدة من تراب القبر أرسل دموعه على خديه و حوّل وجهه إلى قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم ثمّ قال:
«السلام عليك يا رسول اللَّه عنى. و عن إبنتك و زائرتك، والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار اللَّه له سرعة اللحاق بك.
قلّ يا رسول اللَّه عن صفيّتك صبري، و عفى عن سيدة نساء العالمين تجلّدي إلّا أنّ في التأسي لى بسنتك في فرقتك موضع تعزي فلقد و سدّتك في ملحودة قبرك بعد ان فاضت نفسك بين نحري و صدري، و غمّضتك بيدي، و توليت أمرك بنفسي.
بلى و في كتاب اللَّه لي أنعم القبول أنا للَّه و إنا إلية راجعون. قد أُسترجعت الوديعة، و أُخذت الرهينة، و اختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء.
يا رسول اللَّه!! أمّا حزني فسرمد و أمّا ليلي فمسهد، و هم لا يبرح قلبي أو يختار اللَّه لي دارك التي أنت فيها
مقيم كمد مقيّح، و هم مهيّج سرعان ما فرق اللَّه بيننا و إلى اللَّه أشكو، و ستنبئك إبنتك بتظافر أُمتك علي، و على هضمها حقها، فأحفها السؤال، و استخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّة سبيلاً، و ستقول و يحكم اللَّه و هو خير الحاكمين.
والسلام عليكما يا رسول اللَّه سلام مودّع لا سئم و لا قال فإن أنصرف فلا عن ملالة، و إن أُقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللَّه الصابرين.
واهاً واها!! والصبر أيمن و أجمل و لولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً والتلبث عندة عكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية. فبعين اللَّه تدفن إبنتك سرّاً؟!! و يهتضم حقها قهراً؟!! و يمنع إرثها جهراً؟!! و لم يطل منك العهد، و لم يخلق منك الذكر فإلى اللَّه- يا رسول اللَّه- المشتكى، و فيك- يا رسول اللَّه- أجمل العزاء، فصلوات اللَّه عليها
و عليك و رحمة اللَّه و بركاته».
علي في تأبين الزهراء
و إنطلاقاً من هذا المفهوم فإنه يجدر بالإمام علي عليه السلام أن يرثي السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام و يبث آلامه النفسية من تلك الفاجعة المؤلمة، فالإمام يشعر بألم المصاب أكثر من غيره، لأنه يقدّر فقيدته حق قدرها، و تأثير الصدمة في نفسة أقوى و أكثر، فلا عجب إذا هاجت أحزانه فقال مخاطباً لسيدة النساء فاطمة العزيزة بعد وفاتها قائلاً:
نفسي على زفراتها محبوسة لا خير بعدك في الحياة و إنّما أبكي مخافة أن تطول حياتي
يا ليتها خرجت مع الزفرات أبكي مخافة أن تطول حياتي أبكي مخافة أن تطول حياتي
و قوله:
أرى علل الدّنيا علي كثيرة ذكرت أبا ودي فبت كأنني لكل اجتماع من خليلين فرقة و إن إفتقادي فاطماً بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل
و صاحبها حتى الممات عليل بردّ الهموم الماضيات وكيل و كل الذي دون الفراق قليل دليل على أن لا يدوم خليل دليل على أن لا يدوم خليل
و قوله:
فراقك أعظم الأشياء عندي سأبكي حسرة و أنوح شجواً ألا يا عين جودي و اسعديني فحزني دائم أبكي خليلي
و فقدك فاطم أدهي الثكول على خل مضى أسنى سبيل فحزني دائم أبكي خليلي فحزني دائم أبكي خليلي
و قوله:
حبيب ليس يعدله حبيب حبيب غاب عن عيني و جسمي و عن قلبي حبيبي لا يغيب
و ما لسواه في قلبي نصيب و عن قلبي حبيبي لا يغيب و عن قلبي حبيبي لا يغيب
و قوله مخاطباً للسيدة فاطمة بعد وفاتها:
مالي وقفت على القبور مسلماً أحبيب مالك لا تردّ جوابنا قال الحبيب و كيف لي بجوابكم أكل التراب محاسني فنسيتكم و حجبت عن أهلي و عن أترابي
قبر الحبيب فلم يردّ جوابي أنسيت بعدي خلة الأحباب و أنا رهين جنادل و تراب و حجبت عن أهلي و عن أترابي و حجبت عن أهلي و عن أترابي
فعليكم مني السلام تقطعت مني و منكم خلة الأحباب
مني و منكم خلة الأحباب مني و منكم خلة الأحباب
و قال عليه السلام:
شيئان لو بكت الدماء عليهما لم يبلغ المعشار من حقيهما فقد الشّباب و فرقة الأحباب
عيناي حتّى تأذنا بذهاب فقد الشّباب و فرقة الأحباب فقد الشّباب و فرقة الأحباب
و قال عليه السلام أيضاً:
و ما الدهر والأيام إلّا كما ترى و إن امرءاً قد جرب الدهر لم يخف تقلب حاليه بغير لبيب
رزية مالٍ أو فراق حبيب تقلب حاليه بغير لبيب تقلب حاليه بغير لبيب
و قال عليه السلام:
يريد الفتى أنّ لا يموت خليله فلا بدّ من موتٍ و لا بدّ من بلي ستعرض عن ذكري و تنسى مودتي و يحدث بعدي للخليل بديل
و ليس له إلّا الممات سبيل و إنّ بقائي بعدكم لقليل و يحدث بعدي للخليل بديل و يحدث بعدي للخليل بديل
تاريخ وفاتها
ليس من العجيب أن يختلف المؤرخون في تاريخ وفاتها و مقدار عمرها كما اختلفوا في تاريخ ولادتها قبل البعثة أو بعدها، و هكذا الاختلاف في مقدار مكثها في الحياة بعد وفاة أبيها الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم. و كذا اختلفوا في مكان دفنها و هي البضعة الوحيدة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم.
كما ان موقع دفنها عليهاالسلام اختلف فيه، فمنهم من قال دفنت في بيتها، و منهم من قال: دفنت في البقيع. و منهم من قال: دفنت في الروضة المطهرة- استناداً الى حديثه صلى اللَّه عليه و آله و سلم ما بين قبري و منبري روضة من رياض
الجنة، واللَّه العالم بالصواب