اعلم أيدك الله أن الصوم هو الإمساك والرفعة يقال صام النهار إذا ارتفع
قال امرؤ القيس إذا صام النهار وهجرا أي ارتفع
ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمي صوماً
ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات كما سنذكره
وسلبه عن عباده مع تعبدهم به وأضافه إليه سبحانه
وجعل جزاء من اتصف به بيده من أنايته
وألحقه بنفسه في نفي المثلية
وهو في الحقيقة ترك ( لا عمل )
ونفي المثلية نعت سلبي فتقوّت المناسبة بينه وبين الله
قال تعالى في حق نفسه "ليس كمثله شيء"
فنفى أن يكون له مثل فهو سبحانه لا مثل له بالدلالة العقلية والشرعية
وخرج النسائي عن أبي أمامة قال
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت مرني بأمر آخذه عنك
قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له
فنفى أن يماثله عبادة من العبادات التي شرع لعباده
ومن عرف أنه وصف سلبي إذ هو ترك المفطرات
علم قطعاً أنه لا مثل له إذ لا عين له تتصف بالوجود الذي يعقل
ولهذا قال الله تعالى "الصوم لي"
فهو على الحقيقة لا عبادة ولا عمل
واسم العمل إذا أطلق عليه فيه تجوّز
كإطلاق لفظة الموجود على الحق المعقول عندنا تجوّزاً
إذ من كان وجوده عين ذاته
لا تشبه نسبة الوجود إليه نسبة الوجود إلينا
فإنه ليس كمثله شيء.
إيراد حديث نبوي إلهي
خرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل
"كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة
فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب
فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم
والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم
أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك
وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره
وإذا لقي ربه عز وجل فرح بصومه"
واعلم أنه لما نفى المثلية عن الصوم كما ثبت فيما تقدم من حديث النسائي
والحق ليس كمثله شيء
لقي الصائم ربه عز وجل يوصف ليس كمثله شيء
فرآه به فكان هو الرائي المرئي
فلهذا قال صلى الله عليه وسلم فرح بصومه
ولم يقل فرح بلقاء ربه فإن الفرح لا يفرح بنفسه بل يفرح به
ومن كان الحق بصره عند رؤيته ومشاهدته فما رأى نفسه إلا برؤيته
ففرح الصائم لحوقه بدرجة نفي المماثلة
وكان فرحه بالفطر في الدنيا
من حيث إيصال حق النفس الحيوانية التي تطلب الغذاء لذاتها
فلما رأى العارف افتقار نفسه الحيوانية النباتية إليه
ورأى جوده بما أوصل إليها من الغذاء أداء لحقها الذي أوجبه الله عليه
قام في هذا المقام بصفة حق
فأعطى بيد الله كما يرى الحق عند لقائه بعين الله
فلهذا فرح بفطره كما فرح بصومه عند لقاء ربه
بيان ما يتضمنه هذا الخبر
ولما كان العبد موصوفاً بأنه ذو صوم واستحق اسم الصائم بهذه الصفة
ثم بعد إثبات الصوم له سلبه الحق عنه وأضافه إلى نفسه
فقال إلا الصيام فإنه لي أي صفة الصمدانية
وهي التنزيه عن الغذاء ليس إلا لي
وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد
ما من تقييد التنزيه لا بإطلاق التنزيه الذي ينبغي لجلالي
فقلت وأنا أجزي به
فكان الحق جزاء الصوم للصائم إذا انقلب إلى ربه
ولقيه بوصف لا مثل له وهو الصوم إذ كان لا يرى من ليس كمثله شيء
إلا من ليس كمثله شيء كذا نص عليه أبو طالب المكي
من سادات أهل الذوق من وجد في رحله فهو جزاؤه
ما أوجب هذه الآية في هذه الحالة ثم قوله والصيام جنة وهي الوقاية
مثل قوله "واتقوا الله أي اتخذوه وقاية وكونوا له أيضاً وقاية
فأقام الصوم مقامه في الوقاية وهو ليس كمثله شيء
والصوم من العبادات لا مثل له
ولا يقال في الصوم ليس كمثله شيء
فإن الشيء أمر ثبوتي أو وجوديّ
والصوم ترك فهو معقول عدميّ ووصف سلبيّ فهو لا مثل له
لا إنه ليس كمثله شيء فهذا الفرق
بين نعت الحق في نفي المثلية وبين وصف الصوم بها
ثم إن الشارع نهى الصائم والنهي ترك ونعت سلبيّ
فقال لا يرفث ولا يسخب فما أمره بعمل بل نهاه أن يتصف بعمل ما
والصوم ترك فصحت المناسبة بين الصوم وبين ما نهي عنه الصائم
ثم أمر أن يقول لمن سابه أو قاتله
إني صائم أي تارك لهذا العمل الذي عملته
أنت أيها المقاتل والساب في جانبي فنزه نفسه عن أمر ربه عن هذا العمل
فهو مخبر أنه تارك أي ليس عنده صفة سب ولا قتال لمن سابه وقاتله
ثم قال والذي نفس محمد بيده
يقسم صلى الله عليه وسلم لخلوف فم الصائم
وهو تغير رائحة فم الصائم التي لا توجد إلا مع التنفس
وقد تنفس بهذا الكلام الطيب الذي أمر به
وهو قوله إني صائم فهذه الكلمة وكل نفس الصائم
أطيب يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين عند الله
فجاء بالاسم الجامع المنعوت بالأسماء كلها فجاء باسم لا مثل له
إذ لم يتسم أحد بهذا الاسم إلا الله سبحانه فناسب كون الصوم لا مثل له
وقوله من ريح المسك فإن ريح المسك أمر وجوديّ
يدركه الشامّ ويلتذ به السليم المزاج المعتدل
فجعل الخلوف عند الله أطيب منه
لأن نسبة إدراك الروائح إلى الله لا تشبه إدراك الروائح بالمشامّ
فهو خلوف عندنا وعنده تعالى هذا الخلوف فوق طيب المسك في الرائحة
فإنه روح موصوف لا مثل لما وصف به فلا تشبه الرائحة الرائحة
فإن رائحة الصام عن تنفس ورائحة المسك لا عن تنفس من المسك
ولنا واقعة في مثل هذا كنت عند موسى بن محمد القباب بالمنارة
بحرم مكة بباب الحزورة وكان يؤذن بها
وكان له طعام يتأذى برائحته كل من شمه
وسمعت في الخبر النبويّ أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم
ونهى أن تقرب المساجد برائحة الثوم والبصل والكرّاث
فبت وأنا عازم أن أقول لذلك الرجل
أن يزيل ذلك الطعام من المسجد لأجل الملائكة
فرأيت الحق تعالى في النوم فقال لي عز وجل
لا تقل له عن الطعام فإن رائحته عندنا
ما هي مثل ما هي عندكم
فلما أصبح جاء على عادته إلينا فأخبرته بما جرى فبكى
وسجد لله شكراً ثم قال لي يا سيدي
ومع هذا فالأدب مع الشرع أولى فأزاله من المسجد رحمه الله
ولما كانت الروائح الكريهة الخبيثة تنفر عنها الأمزجة الطبيعية السليمة
من إنسان وملك لما يحسونه من التأذي لعدم المناسبة
فإن وجه الحق في الروائح الخبيثة لا يدركه إلا الله خاصة
ومن فيه مزاج القبول له من الحيوان أو الإنسان
الذي له مزاج ذلك الحيوان لا ملك
ولهذا قال عند الله فإن الصائم أيضاً من كونه إنساناً سليم المزاج
يكره خلوف الصوم من نفسه ومن غيره
وهل يتحقق أحد من المخلوقين السالمين المزاج بربه وقتاً ما أو في مشهد ما
فيدرك الروائح الخبيثة طيبة على الإطلاق
ما سمعنا بهذا وقولي على الإطلاق
من أجل أن بعض الأمزجة يتأذى بريح المسك والورد
ولا سيما المحرور المزاج وما يتأذى منه فليس بطيب عند صاحب ذلك المزاج
فلهذا قلنا على الإطلاق إذ الغالب على الأمزجة طيب المسك والورد وأمثاله
والمتأذي من هذه الروائح الطيبة مزاج غريب
أي غير معتاد ولا أدري هل أعطى الله أحداً إدراك تساوي الروائح
بحيث أن لا يكون عنده خبث رائحة أم لا هذا ما ذقناه من أنفسنا
ولا نقل إلينا أن أحداً أدرك ذلك
بل المنقول عن الكمل من الناس وعن الملائكة التأذي بهذه الروائح الخبيثة
وما انفرد بإدراك ذلك طيباً إلا الحق
هذا هو المنقول ولا أدري أيضاً شأن الحيوان من غير الإنسان في ذلك ما هو
لأني ما أقامني الحق في صورة حيوان غير إنسان
كما أقامني في أوقات في صور ملائكته والله أعلم
ثم إن الشرع قد نعت الصوم من طريق المعنى بالكمال الذي لا كمال فوقه
حين أفرد له الحق باباً خاصاً وسماه باسم خاص يطلب الكمال
يقال له باب الريان منه يدخل الصائمون والريّ درجة الكمال في الشرب
فإنه لا يقبل بعد الريّ الشارب شرباً أصلاً
ومهما قبل فما ارتوى أرضاً كان أو غير أرض من أرضين الحيوانات
خرّج مسلم من حديث سهل بن سعد قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة
لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيدخلون منه
فإذا دخل آخرهم أغلق فلا يدخل منه أحد
ولم يقل ذلك في شيء من منهي العبادات ولا مأمورها إلا في الصوم
فبين بالريان أنهم حازوا صفة كمال في العمل
إذ قد اتصفوا بما لا مثل له كما تقدّم
وما لا يماثل هو الكامل على الحقيقة
والصائمون من العارفين هنا دخلوه
وهناك يدخلون منه على علم من الخلائق أجمعين
فلنذكر إن شاء الله في هذا الباب
أحكام الصوم المشروع وتوابعه ولواحقه وأنواعه وواجبه ومندوبه
كما ذكرنا فيما تقدّم من أخواته
من زكاة وصلاة في العموم والخصوص على طبقاتهم في ذلك
وله عندنا مراتب أوّلها الصوم العام المعروف
الذي تعبدنا الله به وهو الصوم الظاهر في الشاهد على تمام شروطه
فإذا فرغنا من الكلام على أحكام المسئلة التي نوردها في ذلك
انتقلنا إلى الكلام بلسان الخواص وخلاصتهم
على صوم النفس بما هي آمرة للجوارح وهو إمساكها عما حجر عليها
في مسئلة مسئلة وارتفاعها عن ذلك
وعلى صوم القلب الموصوف بالسعة للنزول الإلهي
حيث قال تعالى "وسعني قلب عبدي
فنتكلم على صومه وهو إمساكه هذه السعة أن يعمرها أحد غير خالقه
فإن عمرها أحد غير خالقه فقد أفطر في الزمان
الذي يجب أن يكون فيه صائماً إيثاراً لربه مسئلة مسئلة
والكلام على جملة المفطرات في نوع كل صوم على الاختصار
والتقريب فإنه باب يطول
وسأورد في هذا الباب من الأخبار النبوية ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.