طبيعةُ عيسى الرُّوحية
عيسى روحٌ تجسَّدتْ، لا جسم نُفِخَتْ فيه الروح
قراءة في مذهب ابن عربي
سعاد الحكيم
عجبتُ لِمَن ينادي بثقافة تسامح، فيعمل على التأسيس لها في الوعي المعاصر، دون أن يلامس تصوراتِ الوجود المولِّدة للسلوك الإنساني. فالتسامح الحقيقي،
المتجذِّر في كينونة الإنسان، ليس موقفًا عقلانيًّا أو نفسانيًّا من الآخر، وإنما هو موقف كوني وجودي.
وقد فتح رجالاتُ الصوفية، على أطوال التاريخ الإسلامي، مساراتٍ أساسيةً للتسامح الإنساني الأصيل والمستدام، وأبدعوا في بناء تفاصيل مفصلية تدل على
واقعيتهم وابتعادهم عن التنظير والنظريات. ومن هذه المفاصل الحيوية استعادةُ واحد من كبار الصوفية، هو محيي الدين بن عربي، للتاريخ الدينيِّ كاملاً وصياغته
في جغرافيا كونية روحانية واحدة، يحتل فيها كلُّ نبيٍّ من أنبياء البشرية موقعَه الوجودي الذي لا يملؤه سواه، ويتجلَّى في كمال إنساني هو لبنة ضرورية في جدار
الكمال، ويبقى أبد الدهر حقيقةً روحيةً محوريةً للسالكين والواصلين.
من هذه الحقائق الوجودية الضرورية لبناء عالم روحاني واحد – في تصور ابن عربي – الحقيقة العيسوية. فمن هو عيسى بن مريم؟ وماذا يمثِّل في
الروحانية الإسلامية؟ وما هي المعرفة التي يضيفها ابن عربي إلى ما نملك من معارف حول شخص عيسى ودوره الروحاني؟ وإلى أيِّ مدى تساهم رؤيةُ عالِم
صوفيٍّ مسلم للكمال العيسوي في قبول الآخر والاندماج الإنساني معه؟
نبدأ بالكلام على خَلْق عيسى، جسدًا وروحًا. وقد شكَّل هذا الخلق غير المعتاد إشكاليةً فكرية، وتضاربتْ فيه الأفكارُ وتحزَّبتِ الأحزابُ، ما بين منكر ومصدِّق،
مشكِّك ومتوقِّف، مدافع ومتفكِّر، وغير ذلك.
وقد ساهم ابن عربي في التقريب بين المقبول الإيماني والمقبول العقلي، حين طرح مسألةَ خَلْق عيسى. فالأجسام الإنسانية، وإن كانت واحدة في الحدِّ والحقيقة
والصورة الحسية والمعنوية، إلا أن أشكال خَلْقها متنوعة، لأن الله – سبحانه – بكلِّ خلق عليم؛ وحين تختلف أشكال الخلق تتنوَّع الأجسام.
وفي إلماحة مقارنة، يعطينا ابن عربي صورةً متكاملةً عن خلق أجسام الجنس البشري جميعًا. فأجسام البشر، وإن كانت جنسًا واحدًا، إلا أنها أربعة أنواع:
النوع الأول هو جسم آدم، والنوع الثاني هو جسم حواء، والنوع الثالث هو جسم أبناء آدم وحواء، والنوع الرابع هو جسم عيسى. لقد خلق الله – سبحانه –
جسم الإنسان بأسباب مختلفة تأكيدًا على السببية، من جهة، وحتى لا تدَّعي الأسبابُ أن الفعل لها، من جهة ثانية. فقد خَلَقَ – سبحانه – جسمَ آدم من دون ذكر
وأنثى، وخلق جسمَ حواء من ذكر دون أنثى، وخلق أجسام ذريَّة آدم وحواء من ذكر وأنثى، وخَلَقَ جسد عيسى من أنثى دون ذكر.
يخبرنا ابن عربي في الفتوحات المكية[1] قصة خَلْق الأجسام الأربعة في اختصار: فأول الأجسام، الذي هو جسم آدم، ترابيُّ النشأة، ظهر دون تزاوُج ذكر
وأنثى؛ وتشبه نشأتُه في عالمنا المشهود ما يُنشِئه الفاخوري من الطين والطبخ من أجسام. أما جسم حواء فهو جسم أنثى ظهرتْ من ذكر، خُلِقَتْ من ضلعه؛
وتشبه نشأتُه في عالمنا المشهود ما يُنشِئه النجار في ما ينحته من الصور في الخشب. وعندما خلق الله جسم حواء من جسم آدم، أحدث خروجُها من جسده فراغًا
في محلِّها. ولما كان قانون الطبيعة يحتِّم أنه لا فراغ في الكون، فقد عمَّر محلَّها من جسد آدم بالشهوة إليها. فلما تغشَّاها وألقى ماءه في رحمها، تكوَّن جسمٌ
ثالث يختلف في نشأته عن جسم آدم وعن جسم حواء؛ وتولى الله – سبحانه – هذا الجسم الثالث بالنشء في الرحم حالاً بعد حال، ونفخ فيه الروحَ الإنساني.
فالجسم الثالث متولد من ماء ذكر وماء أنثى.
أما النوع الرابع – وهو جسم عيسى – فيختلف في نشأته عن الأجسام الثلاثة السابقة، كما أنه يشبهها من وجوه: فهو يشبه في نشأته آدم من حيث كونُه خُلِقَ
من غير أب؛ ويشبه حواء من حيث إنه ظهر عن أصل بشري واحد؛ ويشبه بني آدم من حيث تكوُّنه في الرحم وتولُّّده على الهيئة المعتادة. والاختلاف المهم الذي
يجعل جسد عيسى نوعًا رابعًا مغايرًا للأجسام الثلاثة المذكورة هو أنه "اندرجت تسويةُ جسمه وصورته البشرية بالنفخ الروحي"[2]. ويعني هذا الكلام أن
أجسام الجنس البشري كلَّها، في حدود معرفتنا، وُجِدَتْ قبل وجود أرواحها؛ أي أن تسوية البدن ونفخ الروح هما حدثان متتابعان، لم يتمَّا دفعة واحدة. فالله –
سبحانه – إذا سوَّى الجسم الإنساني نفخ فيه من روحه. أما جسد عيسى فلم يُسَوَّ قبل نفخ الروح فيه، بل حدث لحظة نفخ الروح. وتنتج عن هذه المقولة نتائج
عدة عند ابن عربي، ربما تتقدم معها معرفتُنا الإنسانية بهذا الشخص الفريد.
ونتجاوز عن كيفية خَلْق عيسى، لنتابع ابن عربي في رؤيته لحقيقة جسد عيسى. فحيث إن جسده وروحه وُجِدا في لحظة واحدة، وبفعل واحد، فهذا يقود ابن
عربي إلى الاستنتاج بأن روح عيسى هي عين ذاته؛ فالحياة ذاتية له، وهو ليس كائنًا ذا روح، بل هو روح: هو روح ظهر في صورة إنسان ثابتة، كما ظهر جبريل
لرسول الله في صورة موقتة هي صورة روحية. وهذا الكلام يعني أن عيسى، بحسب رؤية ابن عربي، ليس كمطلق إنسان له جسمان: جسم مظلم كثيف،
وجسم لطيف هو روح له، وهو عبارة عن "بخار يخرج من تجويف القلب وينتشر في أجزاء البدن"[3]؛ بل يذهب ابن عربي إلى التلميح بأن جسد عيسى
متخيَّل[4]، أو أن جسده هو تجسيد لروحه، وأنه "أقرب إلى الجسدية من الجسمانية". إذن، عيسى هو روح تجسَّدت، لا جسم نُفِخَتْ فيه الروح.
ماذا ينتج عن كون عيسى – عند ابن عربي – روحًا تجسدت؟ ينتج عن ذلك أن عيسى ينعم بخصائص الروح. وأولها – وأهمها – أن الحياة ذاتية له،
لأن الروح والحياة لا يفترقان[5]: فلو مسَّتِ الروحُ شيئًا أو وطأتْه حَيِيَ ذلك الشيءُ وسَرَتِ الحياةُ فيه[6]. ويستشهد ابن عربي لمقولته بما وَرَدَ في
القرآن من أن السامري يعرف أن من خصائص الروح الإحياء؛ لذا قبض قبضةً من أثر الرسول، أي جبريل – وهو روح –، ونبذها في العجل، فخار العجل!
وحيث إن عيسى هو روح إلهي، والروح والحياة لا يفترقان، كان يحيي الموتى بالنفخ؛ أي كان حاملاً للحياة وينفخها – بإذن الله – في ما وفي مَن
يشاء[7]. وهكذا، فكل ما يظهر من قوى في شخص عيسى فهو قوى الروح التي وضع الله فيها خاصيةَ الإحياء. وهنا يساهم هذا العالِم المسلم في إرساء
نظرية في عيسى مبنية على التفريق بين الروحية والإلهية، ويعطي تصورًا يُظهِر فرادة عيسى.
ولكن هذه الفرادة ترفعه إلى مرتبة الروح لا إلى مقام الألوهية. ذلك أنه عندما يظهر واحدٌ من البشر بخاصية إحياء الموتى فهو بذلك لا يشارك الله – سبحانه
– في صفة ذاتية له، بل يشارك الروح في صفة ذاتية تخصُّه. فالإحياء خاصية روحية، لا خاصية إلهية؛ ومَن يحيي الموتى ليس بالضرورة إلهًا، بل قد يكون
روحًا. ونقرِّب ذلك إلى الأذهان فنقول: كما أن الله – سبحانه – وضع في النار خاصية الإحراق، ووضع في الأسباب فاعليات تفعل بإذنه، كذلك وضع في
الروح خاصة الإحياء. يقول ابن عربي: "عيسى روح الله، أي به ظهرت الحياة فيمَن نفخ فيه."[8]
ويتطرق ابن عربي إلى مسألة "علم عيسى"، ويعدِّد الكثير من علومه[9]. وبعد الاطلاع على عشرات العلوم العيسوية التي يعدِّدها الشيخ الأكبر، نستطيع
أن نحصرها في علمين اثنين، عليهما مدارُ العلوم الباقية كلِّها. وقد ساعدتْني في هذا الحصر إشارةُ ابن عربي في عنقاء مغرب[10] إلى أن عيسى قد
خُصِّص بعلمين؛ وهذان العلمان اللذان اختص عيسى بهما هما: علم النفخ (الكيمياء) وعلم الحروف (السيمياء).
لقد ظهر عيسى في عالم الأجسام مِن نَفْخ جبريل في السيدة الكاملة الطاهرة العذراء مريم – عليها السلام – وأُعطِيَ العلمَ الذي عنه وُجِدَ: أُعطِيَ علم النفخ؛
فينفخ في صورة الطين، مثلاً، فتصير طيرًا بإذن الله. ويؤكد ابن عربي أن لعيسى من علم الكيمياء الطريقين معًا: الإنشاء، وإزالة العلل العارضة. فهو كان
ينشئ من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه؛ كما كان يزيل العلل ويبرئ الأكْمَه والأبرص. وحيث إنه لا يُفتَح لأحد من البشر ليرى أو يعرف كيفية تعلُّق القدرة الإلهية
بالخلق، لذا كان النفخ من عيسى سببًا للخلق، وفي الوقت نفسه حجابًا على الخلق[11].
والعلاقة بين علم الحروف والنفخ واضحة: فالنفخ، إذا دققنا فيه، نجد أنه عبارة عن نَفَس؛ والحرف هو موضع انقطاع الهواء (أي النَّفَس) في طريق خروجه
من تجويف القلب إلى الفم. إذن، نَفَس الإنسان هو المادة التي تظهر فيها الحروفُ كلُّها. وعلم الحروف هو علم السيمياء الموقوفة على العمل بالحروف
والأسماء، لا على البخورات والدماء؛ إنه علم يتعلق بـ"طول العالم"، أي بالعالم الروحاني، وبـ"عرض العالم"، أي بعالم الخلق والطبيعة والأجسام[12].
فإذا سمعنا عارفًا يقول: إن الحرف الفلاني طوله كذا ذراعًا وعرضه كذا، فإنه يريد بـ"طوله" فعلَه في عالم الأرواح وبـ"العرض" فعلَه في عالم
الأجسام[13].
ونستشف من نصِّ ابن عربي علاقاتٍ مميزة لعيسى بغيره من عالم البشر، نشير هاهنا إلى ثلاث منها: عيسى ويحيى، عيسى وابن عربي، عيسى والعيسويين.
إن علاقة عيسى بيحيى، بغضِّ النظر عن قرابة النَّسَب (جدة عيسى وأم يحيى أختان)، هي علاقة الروح بالحياة: فعيسى هو الروح، ويحيى رمز الحياة،
والروح والحياة لا يفترقان؛ كذلك هذان النبيان لا يفترقان، وينزلان في سماء واحدة هي السماء الثانية[14].
أما علاقة ابن عربي بعيسى فقديمة العهد. لقد بدأ مسارَه الروحي بالمقام العيسوي، وانتهى بالمقام المحمدي؛ وما بين هذين المقامين تنقَّل بالفتح الموسوي، ثم
الهودي، ثم جميع النبيين[15]. وقد تجلَّت "عيسوية" ابن عربي – في بداياته – في مظهرين: عدم رغبته في النساء وتفضيله الفقر على الغنى.
ويصرِّح ابن عربي بأنه كانت له مع عيسى لقاءاتٌ كثيرة، وأنه على يديه تاب[16]، وأن عيسى أمَرَه بمجاهدتين هما: الزهد والتجريد. كما أن عيسى أمَرَ
كاتبَه أن يكتب لابن عربي صكَّ ولاية؛ وهو يشبه في صياغته مراسيم الدولة للتعيين[17].
ونختم بالقول إن ابن عربي أفرَدَ مكانًا للعيسويين المسلمين؛ وهم العيسويون الثواني، الوارثون الروحيون لعيسى، يرثون الوجهَ الخاص بعيسى من الحقيقة
المحمدية. والولي العيسوي تكون ولايتُه، في غالب الأحيان، واضحةً لعامة الناس؛ ومن علاماته: دعاء مقبول، ورحمة بالعالم، وإمكانه إعطاء الحال باللمس أو
المعانقة أو إلباس الثوب، واتصافه ببلاغة في النطق، ومعرفة بالطبائع وتأليفها.
لقد أفسح ابن عربي مكانًا مميزًا في الوجدان المسلم ليتجلَّى فيه عيسى، بفرادته وخصائصه؛ كما أنه قدَّم جديدًا حين تأمَّل في شخص عيسى وتفكَّر في ذاته
الإنسانية.
إنه خطوة عملية على درب التآلف الإنساني.