مقدمة كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع لشرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية د. سعاد الحكيم
إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية شرح معاصر للقصيدة العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح د. سعاد الحكيم
المقدمة على مدونة عبدالله المسافر بالله
قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
المقدمة : الجزء الرابعرابعا - أهم أفكار القصيدة العينية : ضمّن الجيلي قصيدته العينية أمهات الأفكار التي نثرها في مؤلفاته الأخرى . وهذه الأفكار لم يبتدعها الجيلي في تاريخ التصوف ، بل يمكن القول أنها موضوعات وقضايا طرحت في الوسط الصوفي ، بعد القرن السادس الهجري ، للتأمل والتجربة العرفانية . وفيما يأتي نتطرق باختصار إلى هذه الأفكار ، بالإضافة إلى ما سبق تفصيله عند الكلام على بنية القصيدة [مثلا : أسرار العبادات ، الطريق الصوفي . . ]:
أ - العشق الإلهي . اختلفت آراء المسلمين حول مسألة “ عشق اللّه “ ، وأنكر فريق منهم أن تكون علاقة الإنسان بربه هي علاقة عشق وتعشّق ، ورأوا أن المسموح في هذا المجال ، هو ما ورد في النص الديني ، أي علاقة الحب لا العشق . ولكن ، بعد القرن الخامس الهجري ، شاع لفظ العشق ، وأصبح مقبولا لدى عامة الصوفية ، وتوالت نصوصهم في العشق واصفة أحوالهم . ونختصر رؤية الصوفية للحب والعشق ، بأن هذه العاطفة اللاملموسة ، غير معترف بها عندهم وليست صادقة ، ما لم يقم عليها شاهد ؛ وشاهد الحب والعشق هو : الفناء . يفنى المحبّ ليبقى محبوبه ، تفنى مراداته لمصلحة مرادات حبيبه ، وتفنى أهواؤه ومطالبه وشهواته ليبقى بدلا منها ما يشاء محبوبه ويرضى . . وكلّما ازداد الحب ازداد الفناء .بحيث أنه لا يصدق الحب ويكمل حتى يقول المحبّ لمحبوبه : يا أنا .وقد استعصى حال الفناء العشقي على الدخول في لغة الكلام ، لذلك عبّر كل صوفي عن حالته العشقية بلغة يوحي ظاهرها بالاتحاد ، مع تحذيره القارئ من أن يتوهم بين الإنسان واللّه اتحادا أو حلولا . .
يقول الجيلي في القصيدة العينية التي ننشرها :
تنزّه ربّي عن حلول بقدسه ..... وحاشاه ، ما بالإتّحاد مواقع
ويرى الجيلي بأن البداية هي ميل الإرادة نحو الآخر ، والنهاية هي العشق وظهور العاشق بالصورتين . . وما بين الميل والعشق يقطع الإنسان مراتب سبع ، فيكون المجموع تسع .
يقول الجيلي : “ واعلم أن الإرادة لها تسعة مظاهر في المخلوقات : المظهر الأول هو الميل وهو انجذاب القلب إلى مطلوبه . فإذا قوي جدا سمي ولعا ،وهو المظهر الثاني للإرادة . ثم إذا اشتد وزاد سمي صبابة ، وهو إذا أخذ القلب في الاسترسال فيمن يحب فكأنه انصبّ كالماء إذا أفرغ لا يجد بدّا من الانصباب ، وهذا هو المظهر الثالث للإرادة . ثم إذا تفرّغ له بالكلية وتمكّن ذلك منه سمى شغفا ، وهو المظهر الرابع للإرادة . ثم إذا استحكم في الفؤاد وأخذ عن الأشياء سمّي هوى ، وهو المظهر الخامس . ثم إذا استوفى حكمه على الجسد سمى غراما ، وهو المظهر السادس للإرادة . ثم إذا نما وزالت العلل الموجبة للميل سمي حبا ، وهو المظهر السابع . ثم إذا هاج حتى يفنى المحب عن نفسه سمّي ودا ، وهو المظهر الثامن للإرادة .
ثم إذا طفح حتى أفنى المحب والمحبوب سمى عشقا وفي هذا المقام يرى العاشق معشوقه فلا يعرفه (. ) وهذا آخر مقامات الوصول والقرب. فيه ينكر العارف معروفه فلا يبقى عارف ولا معروف ولا عاشق ولا معشوق ، ولا يبقى إلا العشق وحده . والعشق هو الذات المحض الصرف الذي لا يدخل تحت رسم ولا اسم ولا نعت ولا وصف ، فهو - أعني العشق - في ابتداء ظهوره يفنى العاشق حتى لا يبقي له اسما ولا رسما ( . . . )
فإذا امتحق العاشق وانطمس أخذ العشق في فناء المعشوق والعاشق . فلا يزال يفنى منه الاسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقى عاشق ولا معشوق ، فحينئذ يظهر العاشق بالصورتين ويتصف بالصفتين فيسمّى بالعاشق ويسمّى بالمعشوق . . . “ .
ب - وحدة الوجود : عرفت البشرية نظرية وحدة الوجود على أنها التي تقول بأن اللّه والإنسان من طبيعة واحدة ، مما يمكن معه أن يرجع الإنسان إلى اللّه ويتحد به إتحادا ماهويا . وحيث أن الإسلام أكد على تنزيه اللّه سبحانه عن مخلوقاته كافة ، وأنه ليس كمثله شيء ، وأنه لا يحلّ في مخلوق ، ولا يتّحد به مخلوق . . لذلك أصبح الكلام على وحدة الوجود محفوفا بالخطر . وقد ظهرت فكرة وحدة الوجود ، وفي صيغتها الإسلامية - في الحقل الصوفي - مع محيي الدين ابن العربي ، وانتشرت من بعده في أوساط الصوفية الأفراد .
وهي لا تقول بأن اللّه والإنسان من طبيعة واحدة ، بل هما من طبيعتين متغايرتين ، محافظة بذلك على التنزيه الإلهي . ورغم قولها باثنينية وجودية ، إلا أن الدارسين نسبوا أقوال الصوفية إلى الوحدة لأنهم حصروا الوجود الحقيقي باللّه وحده عزّ وجلّ ، والمخلوقات كلّها “ ملحقة بالعدم “ ما شمت رائحة الوجود ، بل هي صور قائمة بتجلي الحق فيها .
فاللّه عز وجلّ يخلق المخلوقات ، يخرجها من عدمها إلى الوجود بتجليه فيها ، ولكن حيث أن حقيقتها العدم فليس فيها طاقة لاستقبال الوجود والاحتفاظ به ، لذلك تسقط في العدم مباشرة . . واللّه سبحانه ، يجدّد خلقها باستمرار ، يتجلّى فيها بآثار أسمائه لتظل صورا منصوبة . فالوجود بأكمله مرآة تعكس وجود الحق ، فمن ينظر إلى الكائنات يشهد الحق فيها ، إنها “ مرائي “ الحبيب ، “ وفي كل مرأى للحبيب طلائع . . . “ . يقول الجيلي ( الإنسان الكامل ج 2 / ص 87 ) ذاكرا سر كلمة الشهادة : “ إعلم انه لما كان الوجود منقسما بين خلق حكمه السلب والانعدام والفناء ، وحقّ حكمه الإيجاد والوجود والبقاء ، كانت كلمة الشهادة مبنية على سلب وهي “ لا “ ، وإيجاب وهي “ إلا “ ، معناه : لا وجود لشيء إلا اللّه “ .ج - الإنسان الكامل : ظهرت الكتابة بوضوح حول “ الإنسان الكامل “ ، حول شخصه وأدواره على مستوى خلق الأكوان ومدار وجود الإنسان ، مع محيي الدين ابن العربي . أما عبد الكريم الجيلي فهو صاحب الاختصاص في تاريخ التصوف الإسلامي بهذا الموضوع . وقد أوردت عبارة “ صاحب الاختصاص “ معرّفة لا نكرة ، لأن موقع الجيلي فرضها ، فهو أول من تخصّص ب “ الإنسان الكامل “ في الحقل الصوفي . . لقد وقف كتاباته كلّها تقريبا على التعريف به ، وهذا يعني أن علومه الصوفية ومشاهداته تمحورت حول هذه المسألة .
وتتلخص فكرة “ الإنسان الكامل “ [ - معرّفة وهي غير العبارة النكرة : إنسان كامل ] ، بأن نور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم هو “ مظهر الإلوهية “ ، و “ نسخة الحق “ ، هو أصل الوجود . وهو أول ما خلق اللّه عزّ وجلّ ، ومن هذا النور خلق الأكوان كلّها . . فهو الحق المخلوق به كل شيء ، وهو حقيقة كل شيء .
وبعد الخلق عليه مدار العوالم كلّها من أولها إلى آخرها : في الوجود وفي المعرفة والتحقيق . . وهو واحد لا يتعدّد بذاته ولا يتكرر ، ولكن له تجليات في خلفائه من جنس الإنسان . . وقد ألف الجيلي كتابا أسماه “ الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل “ ، والعنوان بحد ذاته يدعو إلى التأمل ؛ فهو يقرر بأن هذا السفر يجمع معارف السابقين ويصادر معارف اللاحقين في موضوع الإنسان الكامل . وزيادة في التأكيد يقدم الجيلي في عنوانه معرفة الأواخر على معرفة الأوائل ، لا لضرورة السجع فقط .
إذن ، بحسب رأي الجيلي ، كل ما يريد أن يعرفه الطالب في موضوع الإنسان الكامل فهو مجموع في هذا الكتاب ، ولن يأتي اللاحقون بجديد مفقود في هذا الكتاب .
وأفرد الجيلي في كتابه هذا بابا اعتبره عمدة أبواب الكتاب ، بل الكتاب من أوله إلى آخره شرح لهذا الباب ، وهو الباب الموفى الستون [ حوالي 4 صفحات فقط ] ، تكلّم فيه بأسلوب مباشر وبإيجاز شديد على الإنسان الكامل ، وأنه بالاتفاق هو محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم . ويخبرنا عن حقيقته ، فيقول :
“ إن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود ، من أوله إلى آخره ، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الأبدين ؛ ثم له تنوّع في ملابس ويظهر في كنائس ، فيسمى به باعتبار لباس ولا يسمى به باعتبار لباس آخر .
فأسمه الأصلي الذي هو له محمد ، وكنيته أبو القاسم ، ووصفه عبد اللّه ، ولقبه شمس الدين “ .ويخبرنا الجيلي أنه اجتمع به صلّى اللّه عليه وسلم في صورة شيخه الجبرتي :
“ فقد اجتمعت به صلّى اللّه عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين إسماعيل الجبرتي ، ولست أعلم أنه النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وكنت أعلم أنه الشيخ ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعماية . وسر هذا الأمر تمكنه صلّى اللّه عليه وسلم من التصور بكل صورة “ .
ويسارع الجيلي إلى إبعاد تهمة التناسخ عن مقولته ، فيقول للقارئ :
“ إياك أن تتوهم شيئا في قولي من مذهب التناسخ ( . . . ) بل إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة حين يتجلى في هذه الصورة . وقد جرت سنته صلّى اللّه عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ، ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم ، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم “ . وإذا أردنا أن نفهم شهود الجيلي بمنطق عقولنا الظاهر ، نرجع إلى تمكّن جبريل عليه السّلام من التمثّل بصور بشرية . . ومن الأمثلة عليها هو تمثّله عليه السّلام في صورة دحيّة الكلبي ،وظهوره للنبي صلّى اللّه عليه وسلم وصحابته ، وجلوسه وكلامه وقيامه ، كل ذلك في صورة دحيّة . ويلخص الجيلي في هذا الباب ، ما فصله في كتابه بأكمله ، من مقابلة الإنسان الكامل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه . . “ يقابل العرش بقلبه . . . ويقابل الكرسي بانيته ، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه ، ويقابل القلم الأعلى بعقله ، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه ، ويقابل العناصر بطبعه . . . “ ، وهكذا يفصّل الجيلي جزءا جزءا من العالم وما يقابله من الإنسان الكامل .
د - الجيلي يكتب سيرته الروحية :
1 - السيرة والرؤية : أقول ، إن مدونات الناس تنقسم في نظري إلى قسمين كبيرين ، يتفرّع الواحدمنهما إلى فروع عديدة متشعبة ، وهذان القسمان هما :
الكتابات التي تدّون الحياة والواقع ،
والكتابات التي تدّون الأفكار والنظريات . وأقول أيضا ، إن الكتابات التي تدّون للأفكار والنظريات والرؤى الفكرية ليست دائما صادقة ، بل تصدق أحيانا ، وأحيانا تتشابه في ضبابية وتغيب عن المقصود ، وبالتالي نتسلح بأدوات جبارة من الأصول لنزن بها النظريات والرؤى الفكرية . أما الكتابات التي تدّون للسيرة الذاتية أو لمشاهد من الواقع فهي - على الأغلب - صادقة ، إن تأكد لدينا صدق الراوي .
2 - لماذا السيرة الروحية ؟ يذكر الجيلي في كتابه الإنسان الكامل ، السبب الذي دعاه إلى كتابة سيرته الروحية ، يقول ( ج 2 / ص 96 ) : “ إن مقام القربة هي الوسيلة ، وذلك لأن الواصل إليها يصير وسيلة للقلوب ( . . . ) إلى التحقق بالحقائق الإلهية . والأصل في هذا ، أن القلوب ساذجة في الأصل عن جميع الحقائق الإلهية ، ولو كانت مخلوقة منها ، بنزولها إلى عالم الأكوان اكتسبت هذه السذاجة ، فلا تقبل شيئا في نفسها حتى تشاهده في غيرها ، فيكون ذلك الغير لها كالمرآة أو الطابع ، فتنظر نفسها في ذلك الشيء فتقبله لنفسها ، وتستعمله كما تستعمل ذلك الشيء بحكم الأصالة . . .
وقلب الولي الواصل إلى مقام القربة وسيلة الأجسام ( . . . ) إلى التحقق بالحقائق الإلهية لظهور الآثار ؛ فلا يمكن الولي أن يتحقق جسده بالأمور الإلهية إلا بعد مشاهدته كيفية تحقق ولي من أهل القربة ، فيكون ذلك الولي وسيلته في البلوغ إلى درجة التحقق . وكل من الأنبياء والأولياء وسيلتهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم “ . إذن ، إن الولي الواصل إلى مقام القربة ، وهو أعلى مقام يصل إليه ولي وليس بعده إلا مقام النبوة ، يصبح للقلوب الإنسانية الخالية من الحقائق الإلهية كالمرآة . وعندما تشاهد القلوب في هذه المرآة ما تقبله لنفسها تستعمله وتسعى لتحصيله . وبناء عليه ، فقد أراد الجيلي من كتابة سيرته الروحية أن يبين للسالك كيفية تحققه ووصوله إلى مقام القربة ، لتكون روايته هذه وسيلة للسالك لبلوغ درجة التحقق .
ولا ينسى الجيلي من أن يوضح بأن وسيلة كل الأنبياء والأولياء لظهور آثار الحقائق الإلهية عليهم هو محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم .ومن مراقبة أحوال الناس في معايشهم نؤيد الجيلي فيما ذهب إليه ، إذ تقوم - أحيانا - كتابة السيرة بوظيفة هامة في حياة المهتمين بالمجال موضوع السيرة ، وتظهر قيمتها التربوية والإنسانية في أحيان عديدة . ونظرة على رفوف المكتبات ترينا أنها تغصّ بعشرات الكتب عن السيرة الذاتية لفقراء أصبحوا من أصحاب الملايين ، أو لنكرات صاروا قادة سياسيين ، أو سيدات خرجوا من دائرة التهميش إلى حدقة الوجود . . . وهكذا .
فالسيرة الذاتية تحرّض القارئ ، تحرك في داخله الرغبة في السير والإقدام ، وتكسر لديه الشعور بالقلة والضعف ، وتزرع الثقة بالنفس وبالجنس البشري . .
ويهمس حديث من الأعماق : إن كان - هذا رغم ظروفه - قد وصل إلى ما نرى ، فما الذي يمنعني أنا من الوصول ؟ !
كتب الجيلي سيرته الروحية ، التي احتلت نصف مساحة قصيدته العينية ، لتكون وسيلة للآخرين لبلوغ مقام القربة . . فرأينا بدايته ، شخصا من عوام المسلمين ، المؤمنين بالغيب ، ويدل على مقامهم قوله تعالى :"رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ"[ آل عمران : 193 ] ؛ وشهدنا مجاهداته ورياضاته وعشقه وفناءه . .
إلى أن نظر الحق عبده فدخل في عداد المحققين ، وانتسب إلى أهل القرب الإلهي ، الذين بنى اللّه أساس هذا الوجود عليهم ، وأدار أفلاك العوالم على أنفاسهم ، وهم محل نظر الحق من العالم ، بل “ هم محل اللّه في الوجود “ ، ولا يريد الجيلي بلفظ “ المحل “ الحلول ولا التشبيه ولا الجهة ، بل يريد به أن أهل القرب الإلهي هم محل ظهور الحق تعالى بإظهار آثار أسمائه وصفاته فيهم وعليهم .وحيث أن الجيلي وصل إلى مقام القربة . وحقّ له بالتالي أن يجعل سيرته مرآة للآخرين ، فما هو مقام القربة ؟
3 - مقام القربة : يرى الجيلي أن اللّه تعالى جعل مطلق أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم على سبع مراتب ، وهي :الإسلام ، والإيمان ، والصلاح ، والإحسان ، والشهادة ، والصديقية ، والقربة . وما بعد هذه المرتبة السابعة إلا النبوة ، وقد انسد بابها بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم . وبعد أن بيّن مراتب ناس الأمة ، فصّل أركان كل مرتبة ، وصولا إلى “ الولاية الكبرى “ ، إلى مقام القربة .
يقول في وصفه : “ وأما القربة فهي عبارة عن تمّكن الولي قريبا من تمكّن الحق في صفاته ، وهذا مشاع كما يقال قارب فلان العالم فلانا يعني في العلم والمعرفة ، وقارب مسلم التاجر قارون موسى يعني في المالية . فالقربة هي ظهور العبد في تنوعات الأسماء والصفات بقريب من ظهور الحق فيها ، لأنه يستحيل أن يستوفي العبد حقيقة صفة من الصفات ؛ ولكنه إذا انصرف على سبيل التمكين فيها لا يستعصي عليه شيء مما يطلبه : فعلم ما تشوف لعلمه ، وفعل ما أراد حدوثه في العالم مثل إحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك مما هو الجوار “ . إذن ، مقام القربة هو الولاية الكبرى . . هو “ قبول ذات العبد الاتصاف بصفات الرب قبولا أصليا حكميا قطعيا ، كما يقبل الموصوف الاتصاف بالصفة “ ، وصيرورته : خليفة اللّه في الأرض . وإذا أردنا أن نعرف - باختصار - إلى أين يصل الولي في مساره الروحاني ، وما هي المواهب الإلهية التي يتمتع بها .ننقل نصا للجيلي ، يعرفنا بما نريد ، يقول : “ للولي ثلاث معارف باللّه ( . . . ) المعرفة الثالثة ، هو الذوق الإلهي الذي يسري في وجود العبد ، فينزل بها في حقه من غيبه إلى شهادته ، يعني تظهر أثار الربوبية في جسده ، فيكون يده لها القدرة ، ولسانه له التمكين ، ورجله لها الخطوة ، وعينه لا يحجب عنه شيء ، وسمعه يصغي إلى كل متكلم في الوجود “ .
خامسا - تحقيق نص القصيدة ونسخ المخطوطات : كنت يافعة عندما أسمعني والدي ، وصية صوفية في بيت من الشعر . . لقد كنت تابعة للنظر العقلي في أغلب قناعاتي ، وكان يريدني أن أقيم الإيمان فوق أوجه المعقول ،
فقال لي :خذ الأمر بالإيمان من فوق أوجه .....
ونازع إذا نفس أتتك تنازعولم أكن أعرف قائل هذا الشعر ، ولم يشر والدي إلى صاحبه ، حتى كان يوم اهتممت فيه برجالات التصوف ، وتجرّدت إرادتي لنشر القصيدة العينية لعبد الكريم الجيلي ، فعملت على تحصيل نسخ مخطوطة لهذه القصيدة من أماكن متباعدة من العالم ، وحين قرأتها وجدت البيت الذي يطوف كثيرا في الذاكرة ، من ضمن أبياتها . . فاطمأنت النفس لتمام السياق . حصلت على حوالي الاثني عشرة صورة لمخطوطات للعينية ، وبعد النظر فيها قررت مقارنة تسع منها ، وإلغاء الباقي لأنه يثقل الحواشي دون فائدة تذكر . . وأنهيت المقارنة مع شرحي للقصيدة منذ حوالي ست عشرة سنة ، ولكن لم يأن أوان ظهورها إلا اليوم .
الخاتمة نختم كلامنا على الجيلي وأسلوبه وقصيدته العينية بإظهار موقع الشعر عند الصوفي ، في إطار جدلية تاريخية بين الإسلام والشعر . وأقول ، يلتقي أرسطو في تقديره للشعر برجالات الصوفية الكبار ، فهو يرى أن الشعر الحق تعبير عن الإنسانية الكاملة ، وعديد منهم في أصدق لحظة من حياتهم ، لحظة الموت ، نطق بالشعر ، إذ لم يجد ما يعبّر بشفافية عن جوهر إنسانيته إلا الكلام المقطّع الذي يتسع لكل أشكال “ آه “ النفس الانساني .
وعديد منهم أيضا ، محفوظة أخبارهم في كتب الطبقات ، أتلفهم بيت من الشعر ، حتى أضحت مسألة “ الشعر والموت “ ظاهرة صوفية في القرنين الثالث والرابع الهجريين .
وها هو أبو الحسين النوري يسمع قوّالا ينشد :
لا زلت أنزل في ودادك منزلا ..... تتحيّر الألباب عند نزوله فيتواجد ، ويغيب في وجده عن جسده ، فيمشي الجسد على أرض أجمة قطع قصبها وبقيت أصوله أحدّ من السيف ، وظل يمشي مأخوذ الوعي يعيد بيت الشعر والدماء ترشح من قدميّه .وكان ذاك الحادث سبب موته بعد ثلاثة أيام ، لم يكد يصحو فيها .أما أبو علي الروذباري فإنه فتح عينيه في آخر لحظة ، وقال : هذه أبواب السماء قد فتحت ، وهذه الجنان قد زينّت .وأنشأ يقول :وحقّك لا نظرت إلى سواكا ..... بعين مودةّ حتى أراكاأراك معذّبي بفتور لحظ ..... وبالخدّ المورّد من جناكا
وآخر نفس لأبي سعيد الخراز قال فيه :حنين قلوب العارفين إلى الذكر ..... وتذكارهم وقت المناجاة للسرّأديرت كؤوس للمنايا عليهم ..... فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي السكرهمومهم جوّالة بمعسكر ..... به أهل ودّ اللّه كالأنجم الزّهرفأجسامهم في الأرض قتلى بحبّه ..... وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسريفما عرّسوا إلا بقرب حبيبهم ..... وما عرّجوا عن مس بؤس ولا ضروالشبلي ، حين قارب الرحيل ، وتأكد لديه الرجوع ، ظل طوال الليل يردد أبياتا للحلّاج . . لقد استطاع بعض الصوفية أن يحوّل أشد لحظات الإنسان فردية وهي لحظة الموت ، إلى لحظة صحبة ومشاركة .
فالحلّاج شارك الشبلي لحظة الموت عبر أبياته :كل بيت أنت ساكنه ..... غير محتاج إلى السرجوجهك المأمول حجّتنا ..... يوم يأتي الناس بالحجج
والحلّاج سار إلى لقاء ربه . وهو يردد أبياتا لأبي الحسن النوري ، ظل يقول :ما أن ذكرتك إلّا همّ يقتلني ..... ذكري وسرّي وقلبي عند ذكراكاحتى كأنّ منك يهتف بي ..... إيّاك ، إيّاك والتّذكار إيّاكاأما ترى الحقّ قد لاحت شواهده ..... وواصل الكّلّ من معناه معناكا ؟
وأمام هذه الظاهرة الصوفية ، التي ترينا بأن الشعر - في لحظة ما ، وموضوع ما - أقدر من النثر على التعبير عن وجدان الصوفي وأفكاره وتجربته الجوانية . . نقول بأننا نرجح أن تحرّك قصيدة الجيلي العينية ، وجدان وفكر شرائح متنوعة من الناس ، لا الإنسان الصوفي فقط ؛ ونرى : إنها تهمّ الصوفي لما فيها من تصوير للحياة الروحية الأصيلة المؤيدة بروح القدس . . وتهم الشاعر الحديث لما تحويه أبياتها من فكر يؤكد على وظيفة الفن وعلاقة الأدب بالفلسفة . . وتهم النحوي لما تضمّه من مفردات منحوتة من الحرف بقلم جريء . . وتهم الفيلسوف ليقابل بين معطيات النظر والفكر وبين علوم المكاشفة الصوفية وتصورات الصوفي للألوهية والوجود والإنسان . . وتهم الفقيه لما تقدم من إضافات هامة على مستوى ممارسة المسلم لعباداته ، وتظهر أسرارا مخبؤة في خزائن الأفعال . . وتهم عالم العقيدة لأنها تكشف عن الكيفية التي يصوغ فيها الصوفي عقيدته في التوحيد ، ومراتب التوحيد لديه ، ومفهومه للذات والصفات والأسماء الإلهية . ختاما . . قد نقبل مقولات الجيلي أو نرفضها ، ولكن لا نستطيع أن نغفل عن حضوره في الفكر الصوفي عامة ، وفي الشعر الصوفي خاصة . . إنه إلى الآن آخر الشعراء المبدعين قبل زمن التقليد . د . سعاد الحكيم بيروت / شباط 2004.
قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
المقدمة على مدونة عبدالله المسافر بالله