ثانيا شرح الأبيات 17 - 29 من القصيدة العينية معاناه الجيلي فى الجذب والحب الإلهي .إبداع الكتابة وكتابة الإبداع لشرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات 17 - 29 من القصيدة العينية على مدونة عبدالله المسافر بالله
شرح الأبيات من 17 - 29 : معاناة الشاعر "الجيلي" في الحب وتعبيره بلغات الأولياء والعاشقين
(17) يخيّل لي أنّ العذيب وماءه ..... منام ، ومن فرط المحال الأجارع(18) فلا نار إلّا ما فؤادي محلّها ..... وما السّحب إلا ما الجفون تدافع
(19) ولا وجد إلا ما أقاسيه في الهوى ..... ولا الموت إلّا ما إليه أسارع
(20) فلو قيس ما قاسيته بجهنّم ..... من الوجد كانت بعض ما أنا قارع
(21) جفوني بها نوح وطوفانها الدّما ..... ونوحي رعد ، والزّفير اللوّامع
(22) وجسمي به أيّوب قد حلّ للبلا ..... وكم مسّني ضرّ وما أنا جازع
(23) وما نار إبراهيم إلّا كجمرة ..... من الجمر اللاتي خبتها الأضالع
(24) لسرّي في بحر الصّبابة يونس ..... تلقّمه حوت الهوى وهو خاشع
(25) وكم في فؤادي من شعيب كآبة ..... تشعّب مذ شطّت مزارا مرابع
(26) حكى زكريّا وهن عظمي من الضّنا ... أيحيا اصطباري وهو بالموت ناقع
(27) أيا يوسف الدّنيا لفقدك في الحشا ..... من الحزن يعقوب فهل أنت راجع
(28) أتينا تجار الذّلّ نحو عزيزكم ..... وأرواحنا المزجاة تلك البضائع
(29) فإن يك عطفا أنت أهل ، وأهله ..... أنا إن يكن دون العذيب موانع
( 17 ) يخيّل لي أنّ العذيب وماءه ..... منام ، ومن فرط المحال الأجارع
المفردات :
العذيب : مكان ماء في الصحراء . ومن فرط المحال
الأجارع : ومن المستحيل أن أجرع هذا الماء .
المعنى :
يبدأ الجيلي هنا بتفصيل أحواله ومشاعره وأحاسيسه وخواطره وهو تحت وطأة هذا الحب الذي صرّح به في البيت السابق ،
حب هو نار أشعلها ثلاثة : غرامه وشوقه وبعد حبيبه .
وفي هذا البيت يغنّي الجيلي يأسه من وصال حبيب لا يطال ، ويقول ما معناه :
يخيّل إليّ أن العذيب وماءه ، أي الحبيب ووصاله ، هما من جنس المنام الذي لا يرى في اليقظة أبدا ، وأن ورود ماء الحبيب والشرب من كأسه هما من جنس المستحيل . . .
ولا تخفى على القارئ العلاقة التمثيلية بين الماء هنا كرمز للوصول والوصال وبين النار في البيت السابق كرمز للشوق والحرمان .
( 18 ) فلا نار إلّا ما فؤادي محلّها ، ..... وما السّحب إلا ما الجفون تدافع
المفردات :
فلا نار : أي فلا نار تحرق حقيقة .
وما السحب : جمع سحاب الذي هو جمع سحابة ، فتكون سحب جمع الجمع ، والسحابة هي الغيمة التي يكون عليها المطر ، سميت بذلك لإنسحابها في الهواء .
المعنى :
يدّعي الشاعر هنا أن النار الحقيقية ، أي التي تشتعل وتحرق حقيقة ، هي فقط النار الموجودة في فؤاده ، وكل نار يراها الناس خارج فؤاده فإنما لها صورة النار وليست نارا ، أي لا تحرق .
وكما النار كذلك السحب ، فالسحب الحقّة الممطرة هي ما تدفعه جفونه من دموع .
( 19 ) ولا وجد إلا ما أقاسيه في الهوى ..... ولا الموت إلّا ما إليه أسارع
المفردات :
وجد : الوجد - لغة - هو عذاب الحب والهيام .
والوجد عند الصوفيين يطلق على كل ما صادف قلب الإنسان دون تعمّد أو تكلّف من فزع أو غمّ أو رؤية معنى أو كشف حالة .
والوجد عندهم على مراتب ، وأكثر ما يرد على قلب الإنسان في حال الذكر .
فالروح تلتذ بالذكر ، ولكن عندما يشتد استغراقها فيه تغشى ، وغشيان الروح هذا من غلبة الذكر والشوق يسمونه الوجد .
ولا الموت : أي ولا الموت وجدا .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل أحواله وأحاسيسه في الحب ، ويدّعي أن الوجد الحقيقي هو ما يقاسيه من آلام الهوى ، وأنّ كل آلام الآخرين إنما هي صورة وجد وليست وجدا .
كذلك الأمر في الموت ، فالموت الحقيقي هو موته وجدا بمحبوبه وما عداه ليس له من الموت إلا الصورة .
( 20 ) فلو قيس ما قاسيته بجهنّم ..... من الوجد كانت بعض ما أنا قارع
المفردات :
ما أنا قارع : ما أعاني من الشدة والألم .
المعنى :
يخبرنا الشاعر هنا أن الوجد الذي اشتعل في فؤاده من الشوق والحب
وبعد الحبيب أحرق وجوده ، وكان أشدّ هولا من نار جهنم . بل أهوال جهنم نفسها لا تقاس بما يقاسيه من الوجد .
( 21 ) جفوني بها نوح وطوفانها الدّما ..... ونوحي رعد ، والزّفير اللّوامع
المفردات :
نوحي : النوح هو البكاء المصحوب بالصوت . وقد أقام الشاعر هنا جناسا لطيفا بين اسم النبي نوح عليه السّلام وبين نوح أي بكاء .
والزفير : إخراج النفس من الصدر .
اللوامع : البرق .
المعنى :
بعد أن غنّى الشاعر أوجاعه وشوقه وحرمانه وأحلامه المستحيلة وعهوده القديمة ، سوف يشير تباعا إلى ألوان بلائه بصور شعرية واستعارات ورموز تأخذ طاقتها من المخزون الوجداني لحياة الأنبياء ومعاناتهم ؛ يلمّح بذلك إلى أنه متبّع وليس مبتدعا .
وفي هذا البيت أتى الشاعر بصورة مبتكرة استحضرها من طوفان نوح عليه السّلام ، ليعبّر بها عن بكائه ونوحه وزفراته.
فكأن نوحا عليه السّلام مقيم في جفونه ؛ وغنيّ عن البيان أنه من هذا المكان فار التنور وأغرقت السماء كل شيء . . .
والرعد الذي صاحب الطوفان زمن نوح عليه السّلام يقابله بكاء الشاعر الذي يسمع صوته في الآفاق .
أما أنفاسه فهي البرق ، لأنه كلّما أخرجها من صدره ، اندفعت النار المشتعلة في أعماقه تلمع في زفيره .
( 22 ) وجسمي به أيّوب قد حلّ للبلا ..... وكم مسّني ضرّ وما أنا جازع
المفردات :
للبلا : للبلاء ، والبلاء - لغة - هو الامتحان والاختبار .
وقد فرّق الصوفية بين الامتحان والبلاء ، فالامتحان هو أن يمتحن اللّه تعالى محبّيه وطالبيه بأنواع البلايا في قلوبهم ، كالخوف والحزن والقبض والهيبة ؛ وقد أخذ الصوفية الامتحان من قوله تعالى :"أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى"[ الحجرات : 3 ] .
أما البلاء فهو أعلى عندهم من الامتحان ، لأن الامتحان يؤثر في القلب فقط على حين أنّ البلاء اسم للألم الذي يظهر على قلب المؤمن وجسده .
ووقوع البلاء لسالكي المتصوفة هو ضرورة منهجية ، لأنه يظهر أحوال الرجال ويفضح المدّعي ؛ فمن ابتلي وصبر وما شكا ، فهو نعم العبد .
والبلاء هو غير “ الشقاء “ الذي يصيب الكافرين والمعرضين عن اللّه عزّ وجلّ . جازع : غير صابر ، والكلمة قرآنية من قوله تعالى : " إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً . إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً"[ المعارج : 19 و 20 ] .
المعنى :
يتابع الجيلي توليد رموزه من حياة الأنبياء ، آخذا من كل نبي أخصّ صفات شخصيته الدينية .
وهنا يتابع أيوب في صبره ، وهو الصابر بشهادة القرآن ، قال تعالى :"إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ"[ ص : 44 ] .
فكأن جسم الجيلي قد صار مسكنا لأيوب وصبره ، يواجه بلاء الحب دون خوف ولا جزع .
( 23 ) وما نار إبراهيم إلّا كجمرة ..... من الجمر اللاتي خبتها الأضالع
المفردات :
الجمر : ج . جمرة ، جمعت قياسا للضرورة الشعرية . والجمر هو النار المتقدة .
خبتها : خبّأتها أي سترتها ، وقد خففت الهمزة فأصبحت ألفا مقصورة وحذفت لاتصالها بتاء التأنيث .
المعنى :
أن النار التي ألقي فيها بإبراهيم عليه السّلام وعلى حجم وقودها ، ليست في المثال إلا كجمرة من الجمرات التي أوقدها الحب في أضالع الجيلي.
( 24 ) سرّي في بحر الصّبابة يونس ..... تلقّمه حوت الهوى وهو خاشع
المفردات :
لسري : السرّ من المفردات التي لم يشرحها الصوفية بل أشاروا إلى أنها لطيفة الأعماق ويقارب معناها الروح .
ولكننا نقول ، إن مفرد السر هو اختصار لعبارة : السر الإلهي ؛ وإن كل إنسان يشتمل تكوينه على سر إلهي ، تلقته الإنسانية حين نفخ اللّه عزّ وجلّ في آدم من روحه .
تلقمه : ابتلعه لقمة واحدة .
خاشع : ساكن ، خاضع .
المعنى :
يشبّه الجيلي هنا هواه وغرامه بحوت ابتلع سرّه المستغرق في بحر الصبابة ، وأحاط به من كل جهاته ، وسرّه الآن ساكن خاضع متضرع يلفّه حوت الهوى من كل جانب .
أما صورة الحوت والبحر والسر الساكن الخاضع فقد استنبطها الجيلي ، من حياة نبي اللّه يونس عليه السّلام ، يقول تعالى ":فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ"[ الصافات : 142 ] .
( 25 ) وكم في فؤادي من شعيب كآبة ..... تشعّب مذ شطّت مزارا مرابع
المفردات :
كآبة : من مفردات الحزن ، والحزن من الأحوال عند الصوفية ، وهو لا يضادّ السعادة ، فالسعيد قد تحلّ فيه أحوال من الحزن ويظل سعيدا وحزينا معا ، وإنما الحال الذي يقابل الحزن ويضاده فهو الفرح .
تشعّب : تشعب فؤادي بمعنى تفرّق وتصدّع .
شطّت مزارا : بعدت زيارة . مرابع : ج . مربع ، وهو الموضع الذي يقام فيه زمن الربيع خاصة ، وهنا الإشارة إلى ديار الحبيب
.المعنى :
لكأنما تتسرب كآبة نبي اللّه شعيب عليه السّلام إلى فؤاد الجيلي ،فيمتلأ بها . وها هو يتصدّع همّا منذ بعدت زياراته لمرابع الحبيب المفرحة.
( 26 ) حكى زكريّا وهن عظمي من الضّنا ..... أيحيا اصطباري وهو بالموت ناقع
المفردات :
حكى : شابه . وهن : ضعف .
الضنا : شدة المرض .
اصطباري : الإصطبار هو استدعاء الصبر . والصبر من مقامات الصوفية . [ را . شروحات البيت رقم 4 ] .
ناقع : دائم وثابت .
المعنى :
في البيت إشارة إلى النبي زكريا عليه السّلام الذي بلغ من الكبر عتيا واشتعل رأسه شيبا ، [ أنظر الآية الكريمة "قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي"[ مريم : 4 ] ، ورغم ذلك أحيا اللّه اصطباره بغلام اسمه يحيى .
ويتأوه الشاعر : إن بدنه قد شابه زكريا عليه السّلام في الضعف والوهن ولكن هل يختم اللّه عزّ وجلّ له بالحياة بعد إقامته في الموت ، كما ختم لزكريا بيحيى وتصلّب الكبر يتسرب إلى بدنه ؟
ويظهر في هذا البيت أيضا إبداع الجيلي اللغوي في استفادته من تشابه الحروف لإقامة مطابقات وإيحاءات بين المعاني ، فاسم العلم يحيى يوحي بصفة الحياة ، ويمثل في قصة النبي زكريا عليه السّلام استمرار حياة الآباء في الأبناء . . .
( 27 ) أيا يوسف الدّنيا لفقدك في الحشا ..... من الحزن يعقوب ، فهل أنت راجع
المفردات :
الحشا : ما دون الحجاب مما في البطن كله ، والمقصود هنا بعض ما فيه أي الكبد ، وهو موضع العشق عند الشعراء .
الحزن : الحزن من أحوال الصوفية ، وهو انقباض يقع لقلب السالك يمنعه من الشرود في أودية الغفلة [ را . شروحات البيت رقم 25 ] .
المعنى :
استعار الجيلي جمال النبي يوسف عليه السّلام وأطلقه على محبوبه محولا الاسم إلى صفة ، فمحبوبه هو جمال الدنيا .
وهنا يناديه على عادة العشاق في تأوهاتهم “ أيا يوسف الدنيا “ ، بمعنى أي أيا جمال الدنيا ، إن كبدي تمزقت من الحزن لفقدك ، كما تمزقت كبد يعقوب عليه السّلام حين غاب عنه وجه يوسف ، فهل ترجع كما رجع يوسف؟!
( 28 ) أتينا تجار الذّلّ نحو عزيزكم ..... وأرواحنا المزجاة تلك البضائع
المفردات :
تجار الذل : الذل من صفات العبد والعزة للّه وحده ، والصوفي يتذلل للّه وحده ويتواضع للناس .
عزيزكم : استخدم الشاعر هنا لفظ عزيز كأسم وكصفة ، فقصد بالاسم يوسف عليه السّلام وورّى بالصفة عن محبوبه .
واسم عزيز أصله عزيز مصر أي حاكمها ، وهو اسم يوسف عليه السّلام حين استلم خزائن مصر . قال تعالى :"فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ"[ يوسف : 88 ] .
المزجاة : المطروحة بين أيديكم والمعروضة أمامكم .
ويحتمل معناها أيضا قول ثعلب : بضاعة مزجاة أي فيها إغماض لم يتمّ صلاحها .
المعنى :
يخاطب الجيلي محبوبه بما معناه : إننا نشبه معا ، أنت وأنا ، يوسف عزيز مصر والتجار .
فأنا تاجر ذليل قدمت نحوكم أيها العزيز ، وطرحت أمامكم روحي التي لم تبلغ بعد مرتبة كمالها .
( 29 ) فإن يك عطفا أنت أهل ، وأهله ..... أنا إن يكن دون العذيب موانع
المفردات :
أنت أهل : بمعنى أنت أهل لأن تعطينا بعدلك ما يحقّ لنا من العطف .
العذيب : تصغير العذب وهو الماء الطيب [ وانظر شروحات البيت رقم 13 ] .
موانع : جمع . مانع ، وهو الحاجز الذي يمنع من الوصول والارتواء .
المعنى :
يستعطف الجيلي محبوبه قائلا : إن استحققنا العطف [ وضمير الجمع يعود إلى نحن التجار ، ثم يتسع ليشمل كافة المستعطفين ] .
فأنت أيها العزيز عادل ولن تحرمنا حقنا منه ، وإن لم نستحقّ العطف فأنت أيها العزيز كريم فتتصدق علينا فضلا منك لأننا أهل للصدقة .
.
شرح الأبيات 17 - 29 من القصيدة العينية على مدونة عبدالله المسافر بالله