فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية الأحد نوفمبر 04, 2012 6:17 am | |
| . الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله هو الله الذي لا إله إلا هو والصلاة والسلام على من أضاف الأمة إليه فقال: يارب أمتي وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد.. فلما مضى بعض الوقت على تمام مؤتمر "العربية وهوية الأمة" الذي عقده قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب في الجامعة الأردنية في عمان – الأردن – في الفترة من 15 إلى 17 أكتوبر (تشرين أول) لعام 2012م، فقد أحببنا أن ننقل لكم هنا بحثاً يمس موضوع المؤتمر من الناحية العرفانية. هذا وأبحاث المؤتمر جميعاً على موقع الجامعة الأردنية على الرابط:
http://conferences.ju.edu.jo/sites/Alin/Research/Researches.aspx
ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية بحث مقدم من الباحثين: محمد ياسر فوزي عبد الحميد حمزة و أحمد عبد العزيز فهمي عرفة 1- التمهيد التمهيد هو بالضرورة فاتحة لطريق نسلكه لكي نصل إلى الهدف، وهدفنا هنا هو الإشارة – مجرد الإشارة – إلى الطريق. الطريق الذي هو التمهيد الذي هو الأفق لكي نضع سؤال الهوية وعلاقتها بالبيان العربي بل لكي نستطيع أن نضع سؤال الهوية في أفقه وسياقه الحقيقي. الهدف إذاً ليس طرح إجابة أو إجابات معادة ومكرورة طُرحت أو قيلت من قبل، بل الهدف هو السؤال نفسه. وذلك لأن السؤال من حيث هو سؤال هو الذي يحدد الأفق ويشير إلى الإنفتاح الذي تتجلى فيه الإجابات بل وما تكاد إحدى الإجابات تظهر إلا لكي يُعاد طرح السؤال نفسه ولكن بصورة مختلفة. فسؤال الهوية هو من تلك الأسئلة التي تحاول بضربٍ ما من ضروب البصيرة شق ستار الغيب. وهو سؤال يُعتبر قديما وحديثاً "سؤال الأسئلة" لعلاقة الهوية بالتوحيد والوحدة في العرفان الإسلامي باعتبار أن الهوية هي أساس الوجود نفسه. وكذلك فإن مبدأ الأنية "Identity" يُعتبر المبدأ الأعلى للفكر في الفلسفة الغربية (1) قديمها وحديثها من حيث أن كون "A" هي نفسها "A" أو أنا = أنا (2) هو الأرضية التي تقوم عليها كل المفاهيم الكلية التي هي أساس الميتافيزيقا الغربية. نحن لا نسعى هنا إلى تحديد صارم للهوية التي بطبيعتها تند عن كل تعريف لأنها أساس التعريف الفكري والتحديد الوجودي نفسه. بل نسعى إلى الإشارة ولو من بعيد إلى الأمر البارق الذي هو كلمح البصر الذي يتجلى فيه سؤال الهُوية نفسه. على أي أساس إذاً نتحدث عن الهوية ونُسائل عنها؟؟ نحن نعتقد أن المرجعية الفكرية السائدة الآن هي المرجعية الفكرية الغربية. وحتى الإسلاميون ومع جهودهم المشكورة فإنهم عن إدراك أو غير إدراك ينطلقون من هذه الخلفية وفي قضايا مختلفة مثل: الهوية أو التأويل أو المرأة أو حقوق الإنسان، فإن ما يفعلونه ليس إلا تأكيد الأسبقية الزمنية للفكر الإسلامي، ومن ثم فإنهم وبدون إدراك يتبنون مفاهيماً غربية عن هذه المسائل، وهذه المفاهيم هي نتاج تطور تاريخي طويل خاص جداً بالميتافيزيقا الغربية. فهل هذا هو الأفق الذي تتجلى فيه وتُشرق الهوية من حيث هي هوية؟؟ ماذا لو ... ماذا لو أنّ التفكير الغربي لم يتصور الهوية مطلقاً من حيث هي هوية لإنقطاعه عن الوحي!؟ ماذا لو كان الغرب ينطلق من لوجوس آخر غير الهوية وهو الأنية "Identity"؟؟ ماذا لو كان حديث الهوية يختلف عن لسان الأنية؟ نحن نتصور أن المنطلق الصحيح للتسائل عن الهوية - التي هي هويتنا - هو السياق الغائب الحاضر وهو المرجعية العربية الإسلامية وإن شئت فقل المرجعية الإسلامية التي بيانها ووعيها عن نفسها هو البيان العربي. "العربية" هنا لا تشير إلى جنس ولا قومية، ولا تشير حتى إلى سياق تاريخي ثقافي إجتماعي، بل تشير إلى ما هو أساس لذلك وفاتحة له كله ونعني بذلك نحو خاص تظهر عليه طبائع الأشياء وحقائق الوجود نفسه، وليس حقائق تصور الإنسان عن الوجود، وهذا النحو لا ينفصل فيه الدال عن المدلول، بل يكون فيه الدال بُعد خاص من أبعاد المدلول. الهوية شئنا أم أبينا تتحدث العربية أو تتحدثها العربية وليس الفرنسية والإنجليزية فضلاً عن اليونانية واللاتينية. فما معنى إنتزاع مباديء معينة من سياقها الفكري والتاريخي ومن طبيعتها الميتافيزيقية وتطبيقها على ظواهر لا تنتمي إلى هذا السياق نفسه؟ أليس هذا تحويل هذه المباديء الغربية التي لا تدعي الإطلاق بل وتفككه – تحويلها إلى حقائق هي نفسها مطلقة بحيث يتم تطبيقها دائماً على كل زمان ومكان. إن الزمان هو زمان الغرب بلا شك. ولكن ألا يعني هذا بطبيعة ما تعطيه كلمة الغرب من غروب وأفول أن هذا هو زمن الإحتجاب؟ إن الهوية تتحدث العربية وتتحدثها العربية فقط. ومن ثم فإن السياق الطبيعي للإقتراب من مسألة الهوية هو سياق البيان العربي الذي اكتمل من حيث هو بيان بالروح القرآني (3) الذي هو جوامع الكلم. الكلمة القرآنية تستند إلى مرجعية أخرى وسياق يختلف زمانه عن زمان الغرب، ويعي نفسه بإعتباره الزمان الأقدم والأصل الأقدم الذي يظل يصاحب الفرع ويضارعه ثم يأتي ليقابله من المستقبل. زماننا ليس زمان الماضي فقط بل هو زمان الماضي والمضارع والمستقبل فنحن "الآخرون الأولون" (4). نحن لا نحسبها مصادفة أن حدث إكتمال ظهور العربية الذي هو الحدث القرآني كان فاتحة لنشوء أمة وبداية زمن جديد. إن هذا الأفق الذي نشير إليه ليس زمانه هو الزمان بالمعنى الخطي المعهود الذي يوثن فكرة التقدم، بل زمان هذا الأفق يستدير لكي يرى نفسه في مرآة نفسه ويرى مستقبله في مرآة ماضيه، وماضيه في مرآة مستقبله، وهو يعي نفسه بإعتباره نقطة البدء التي منها خلقت السمواتُ والأرض (5). إن هذا الأفق يستدعي منهجاً آخراً في التفكير هو أقرب ما يكون إلى الذِكْر الدائم للأصل واستحضار هذا الأصل. ما هو الأصل؟ إنه الغيب إنه الهوية. وللبحث بقية ننقله لكم إن شاء الله في مشاركات مستقبلية، وصلى الله على خير البرية وآله وصحبه صلاة زكية والحمد لله بكرة وعشية.
الهوامش (1) مارتن هايدجر "الأنية والإختلاف" Martin Heidegger, "Identity and difference" translated by Joan Stambaugh, Harper books first edition, 1974 page 25.
(2) نفس المرجع السابق ص 26 same as before page 26 (3) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] (4) روى الإمام أحمد ومسلم في صحيحه واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ الْآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"- الحديث، وروى ابن ماجة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ يُقَالُ أَيْنَ الأُمَّةُ الأُمِّيَّةُ وَنَبِيُّهَا فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ" وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. (5) روى البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" – الحديث.
| |
|
فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: رد: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية الإثنين نوفمبر 05, 2012 7:51 pm | |
| . الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله واهب النعم .. الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والصلاة والسلام على من تشرفت بالإنتساب إليه الأمة، وعلى آله وصحبه. أما بعد... سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. ثم أما بعد.. فنستأنف نقل البحث لكم مع ملاحظة أن هذه الفقرة القادمة ستحوي فكراً غربياً قد لا يهتم بقراءته كل أحد، لكنها تحلله وتفنده، ثم ما تلبث في المشاركات القادمة من العودة إلى لسانٍ عربيٍ مبين، فصبرٌ جميل، وكما قيل: من صبر علينا وصل إلينا. قال الباحثان: محمد ياسر وأحمد عبد العزيز في بحثهما:
2- المفهوم الغربي "للأنية" Identity لا شك في أنّ لكل عصر سَماتٍ وخواص مميزة يمتاز بها عن العصور الأخرى وتظهر فيها تصورات ومقولات مختلفة تعبر عن مزاج هذا العصر وروحه، وعلى سبيل المثال فليس عصر الراشدين هو عصر الحروب الصليبية، وكذلك فإن عصر الإمبراطورية الرومانية في الغرب ليس هو عصر الإصلاح الكنسي (Reformation). فلكل عصر وعيُه الخاص به الذي تتجلى فيه إنجازاتُه وقدراتُه، أو إن شئنا قلنا إنّ له أفقاً خاصاً تتجلى فيه رؤيته للعالم ولنفسه. ولا شك أنّ العصر الذي نعيش فيه الآن – وهذا "الآن" يمتد لما يقرب على الأقل من مائتي عام – هو عصر الحداثة وما يُسمى بعصر الأنوار، ونعني بذلك سيادة العقل والعقلانية أو إن شئت قلت: سيادة مفهومٍ مُحَدَدٍ للعقلانية (Rationalism) كانت بدايتُه الفكريةُ هي الكوجيتو الديكارتي (الأنا أفكر "Cogito") وكانت المظاهر الأساسية لهذا العصر هي أولاً التفسير الميكانيكي للعالم على يدي نيوتن في كتابه الشهير (Principia Mathematica) الذي كان بداية للتفسير العلمي (scientific) الحديث، وثانياً تطبيق هذه المباديء العلمية فيما يُسمى الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي.في أوربا عموماً وإنجلترا خصوصاً، وما أدى إليه ذلك من تطور هائل في التكنولوجيا والسيطرة على موارد الطبيعة، وثالثاً تطور مفهوم الدولة وظهور الدولة الحديثة القائمة على فكرة القومية والوطنية وكون الإنتماء إليها عن طريق المواطنة من خلال الثورة الفرنسية وما بعدها. إنّ الفكرة الأساسية هي أنّ المركز الأساس للفكر الإنساني تحول من المطلق بأشكاله المختلفة سواء في الأديان أو الفلسفات السابقة إلى "الأنا" عن طريق مفهوم محدد للأنية. الأنا الذي يفكر ويستطيع من خلال الفكر والإرادة الإنسانية السيطرةَ على الطبيعة وتسخيرَها لمصلحتِهِ الذاتية أو الإجتماعية. هذا المنظور يفترض مسبقاً أنّ كلَّ شيءٍ بل الموجود من حيث هو موجود هو بالضرورة معقول ومفهوم من جميع جوانبه وقابل للتفكيك والسيطرة وإعادة التركيب لكي يكون مناسباً للإستهلاك الإنساني. إنّ هذا المفهوم هو نِتاجُ تطورٍ طويلٍ في الفكرِ الفلسفي الغربي، وعن طريق التطور التكنولوجي أصبح هذا المنظور السائد والغالب الآن في العالم كله وهو المرجعية الأساسية والغاية النهائية لكل تقدمٍ أو إنجاز. لقد أصبحت كل الأمم والأفراد تقيس نفسها بمقياس التقدم (progress). وحتى فكر ما بعد الحداثة الذي يحاول تفكيك آفات العقلانية الحداثية، فإنه لا يستطيع تعريف نفسه إلا بالنظر للحداثة نفسها. إنّ النتيجة الطبيعية لسيادة هذا الفكر هو المجتمع الإستهلاكي الذي نعيشُه كلَّ يوم، والشركات عابرة القارات التي تحاول السيطرة على الموارد البشرية وتسخيرِها لخدمة هذا المجتمع الإستهلاكي. لقد أصبح الإنسان مُستهلِكَاً بحسب تعريفه، وأصبح مستوى الإستهلاك هو المقياس الأساس الذي يقيس به الإنسانُ نفسَه وتقيس به الأمم تقدمها. ولأنّ هذا الفكر تعولم وأصبح كوكبياً لكي يحقق أكبر نسبة من الربح لهذه الشركات أصبحنا نحن نلهث وراء هذا الأُنموذج الذي أصبح كوكبياً. إنّ سيادة هذا الفكر ظاهرة في كل ما نراه حولنا إبتداءً من التعليم ومروراً بفكرة الدولة الحديثة التي تعتمد على فكرة المواطنة وإنتهاءً إلى المنظمات العالمية كلها حتى الإسلامية منها. وبالرغم من ذلك فإنّ الأُسس الميتافيزيقية لهذا النظام العالمي الجديد لا تزال محتجبة. لقد إحتاج الغرب إلى تمهيدٍ طويل لكي يتحول الإنسان إلى فرد بالمعنى الغربي للكلمة (individual) ومن خلال هذا الفرد الحر القادر على الإختيار يتحول إلى مواطن يسهم في دولة حديثة. إنّ كل هذا لم يكن ممكناً بغير الكوجيتو الديكارتي. ولذلك نقول إنّ الأفق يحتجب دائماَ لكي تظهر تجليات ومظاهر هذا الأفق. إنّ كل الأبنية السياسية والإقتصادية والإجتماعية ليست إلا تجليات لهذا الأفق المحتجِب. وأهم المفاهيم التي ساهمت في الإنشاء التاريخي لهذا الأفق هو مفهوم معين للأنية (Identity) الذي أصبح سائداً وتجلى بالرغم من إحتجابه في مفهوم الفرد والمواطن والإنسان بالمعنى الحديث لهذه الكلمة وليس بالمعنى العربي لها. إنّ مهمتنا هنا هي محاولة الإشارة لهذا المفهوم الذي هو تكريسٌ للسيادة المحتجِبة للفكر الغربي. لقد دُشنت الفلسفة الغربية بالسؤال عن الأنية (Identity) وظل هذا السؤال شغلُها الشاغل لأكثر من ألفي عام (1) ، ويُعتبَر الفكر الغربي كله ليس إلا تحولات في مفهوم الأنية نفسها. يقول بارمينيدس: "إنّ نفس الأمر هو الفكر وهو الوجود" (2) ، إنّ البداية حسب هذا القول نفسه تكون في تجلي الأنية وظهورها ولكن من خلال مفهوم معين للوجود (Einai). وهذا المفهوم في الحقيقة هو الذي يتجلى في تاريخ الفلسفة الغربية كلِّها بحيث لا يمكن التفكير في الأنية إلا من خلال الوجود أولاً. وما نعنيه هو أن النور الكاشف للأنية وللأشياء وللوحدة ثُمّ لوحدة كل شيء مع نفسه هو هذا المفهوم ولكن بدون أن يظهر هذا النور الكاشف بل هو يُظْهِر ولا يَظْهَر. يقول أفلاطون في محاضرة السوفسطائي "إنّ كل واحد منهم يختلف عن الإثنين الآخرين ولكنه هو نفسه بالنسبة لنفسه" (3). من خلال هذا القول لأفلاطون يترسخ مفهومُ إنسجامِ الشيء وتوافقِهِ مع نفسه، وهو المفهوم المفتاح الذي سيصير بعد ذلك مبدأ الأنية. نحن نعتقد أنّ فاتحةَ الشيء ومبدأَهُ تحوي حقيقةَ الشيءِ كلِّه، ومن هنا فإنّ المفاتيحَ الأساسيةَ للفكر الغربي كلَّها كامنةٌ في فلسفة الإغريق، ومن هنا تأتي أهميةُ دراسةِ هذا الفكر لفهم تطورِ الفكر الفلسفي الغربي كلِّه حتى نهاياتِه فيما بعد الحداثة. يحاول هايدجر فهم الأصل الإغريقي للغرب أعمق مما فَهِمَهُ الفلاسفةُ الإغريقُ أنفسُهُم. إنّه يحاول فهمَه كحدثٍ فريد جامعٍ يجمع تاريخَ الفلسفةِ الغربية من بدايتها الإغريقية إلى نهايتها في نيتشه وهيجل. إنّ الوجودَ Einai بالنسبة لليونان هو الحضورُ نفسُه، إنّه الحضور الذي يحضَر، وهو قلب الحقيقة النابض، وهكذا وحسب كلمة بارمينيدس المتقدمة فإنّ على الفكر أن يكون فكر الوجود، فهذا هو الطريق إلى قلب الحقيقة النابض. لا شـك في أنّه توجد عدة صياغات لمبدأ الأنية، إنّ الصـياغة الأولى والأشـهر هي: "A is A"، وهي صيغة لا تقول شيئاً جديداً عن "A". ونحن هنا نتكلم عن حقيقة تتطابق مع نفسها، فما يقوله مبدأ الأنية "Identity" هو أن الشيء كما هو في نفسه متطابق مع نفسه. والصياغة الأخرى لهذا المبدأ هي: "A = A" وهي أيضاً تتحدث عن إنسجام الشيء وتتطابقه مع نفسه، وهكذا فإنّ ما يعلنه هذا المبدأ بالألسنة الغربية المتعددة هو التطابق المطلق للشيء مع نفسه، فالشيء يظل كما هو لا يتغير، والوحدة المفهومة هي وحدة التطابق والإنسجام، وهي الوحدة التجريدية العقلية، وبلسان العرفان هي الوحدة العددية التي لا تسمح بالتغير أو الإنفتاح أو الإختلاف. لقد ظل الوضع هكذا إلى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، ومن هنا يقول هايدجر فيما يقول: "إن الميتافيزيقا إحتاجت لأكثر من ألفي عام لكي تبدأ في التفكير في مبدأ الإنية (Identity) من حيث هو توسط للإختلاف والتطابق" (4) ، ذلك أنّ المدرسة المثالية الألمانية قد أسست لمفهوم التوسط "Mediation" على يد فيخته وشيلنج وهيجل. وعند شيلنج خصوصاً تحولت الوحدة إلى الوحدة المركبة من الإختلاف والتطابق وصارت وحدة الشيء مع نفسه تتجلى في الرابط "is" (5). يرى شيلنج أنه حسب الرأي الشائع فإنّ ارتباط كل شيء مع نفسه هو تطابق وإنسجام أو وحدة ميتة، ولكن هناك فهم أعلى لمبدأ الأنية "Identity" جوهره هو: "إجتماع ما هو مختلف في نفس الأمر" (6) ، فعندما نقول مثلاً: إنّ الطائر أزرق، فنحن نعني أنّ الطـائر واللون الأزرق ينتميان لنفس الموضوع بالرغم من إختلافهما. وكذلك ينبغي أن نفهم (A is A) على أساس أنّ A تنتمي لنفس الأمر الذي هو A بالرغم من مغايرتها لـ A. إنّ هذا الإنتماء المتبادل من A مع نفسها يظهر في الرابط (Copula) الذي هو is التي تربطA مع نفسها عبر إختلافها. إنّ هذا الإنتماء المتبادل من A مع نفسها هو تطبيق الفهم الأعلى والأعمق لمبدأ الأنية وإلا تحولت الأنية إلى تطابق عقيم لا يسمح بصيرورة الشيء وتطوره وإختلافه، فالشيء يتطور ويختلف في الفضاء الكامن بينA ونفسها وهذا الفضاء هو التوسط (Mediation) بعينه. في رأينا فإنّ شيلنج - من بين نجوم المدرسة المثالية الألمانية - هو الأكثر عمقاً وهو فاتح أفق جديد للفكر الغربي قبل هيجل، ويظل أثره في الفكر الغربي كله من هيجل وإلى هايدجر. لقد التقط هيجل هذا الفهم الأعلى لمبدأ الأنية (Identity) من شيلنج وحاول تطويره ليصل إلى ما يسميه "فهم ديالكتيكي" لمفهوم الأنية. إنّ الشكل الأساس للإختلاف عند هيجل ليس هو التنوع، بل هو التناقض. إنّ التنوع نفسه ليس إلا لحظة في التطور المُستَلَب لتناقض الشيء مع نفسه. يقول هيجل: "إنّ التنوع والتعدد لا ينتعش ولا يحيى إلا إذا ذهب إلى حد التناقض، آن إذاً تلتقي الأشياء بشكلها السالب الذي هو الباعث على الحركة" (7). إنّ الحركة الأساسية عند هيجل هي حركة التناقض الداخلي للشيء وهي تعني تعارض الشيء الدائم مع نفسه، وأنّ هذا التعارض هو الأرضية الأساسية للحركة الداخلية الجوهرية التي تعني سلب الشيء لذاته وتطابقه مع ذاته في آن واحد. الإختلاف الحقيقي هو إختلاف الماهية مع ذاتها لكي تتطابق مع ذاتها. والمعنى الصحيح عنده لوحدة الشيء مع نفسه هو التركيب الكلي بحيث يشكل الشيء في النهاية كلية جامعة لتناقضه وتطابقه مع نفسه. ومن هنا فإنّ الآخر يشكل عند هيجل لحظة تخارج أو اغتراب الذات الكلية مع نفسها لكي تعود أشد تطابقاً مع نفسها وتتحول البساطة إلى كلية تركيبية جامعة التي كلما إزداد تركيبها كلما إزداد غناها وتقدمها. ويلخص الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي النقد الأساس الموجه لهيجل بقوله: " إنّ الفكر الذي يقوم على الكلية فكر يقضي على غيرية الآخر ويحتضنها، وهو فكر عاجز عن أن يفكر في الآخر بما هو كذلك" (8). لكن في رأينا فإنّ النقد الأساس للفلسفة المثالية الألمانية خصوصاً وتاريخ الميتافيزيقا عموماً يأتي من هايدجر. وينبغي أن نسير هنا بحذر لكي نصل إلى قلب الموضوع. ما هو المنسي في فكر المثالية بالرغم من إكتشافها للتوسط (Mediation) ؟ ما هو غير المُفَكَر فيه في قولنا "A is A"؟ لقد فكر شيلنج في تطبيق أعلى لمبدأ الأنية ومن خلال ذلك بدأ فهم التوسط، ثم إتجه هيجل لكي يفهم الأنية كتناقض دايالكتيكي ولكن الوجود المتمثل في الرابطة الصغيرة "is" في قولنا "A is A" ظل غير مُفَكَر فيه، وحتى أنشودة بارمينيدس الشهيرة فإنها لم تتساءل عن حقيقة الوجود من حيث هي كذلك. وبمعنىً آخر فإنّ مبدأ الأنية في تطوراته المختلفة يفترض معنىً ما للوجود غير مُفَكَر فيه ويقيم تحولاته وتطوره على أساس هذا المعنى المحتجَب عنه. ويظل هذا المبدأ حبيساً لأفق هذا المعنى المحدد للوجود. نعم إنّ لهذا الفهم المحدد لمعنى الوجود تجليات كثيرة تشكل مسيرة الميتافيزيقا الغربية – وكل ميتافيزيقا فهي بالضرورة غربية – من العصر اليوناني الذي يتحدث اليونانية إلى الروماني والمسيحي الوسيط الذي يتحدث اللاتينية إلى العصر الحديث الذي يتحدث بالألسنة الغربية المختلفة. ويظل هذا المفهوم سارياً في تلك العصور كلها مع إحتجابه من حيث هو أفق تتجلى فيه هذه العصور نفسها. وفي تأملات هايدجر فإنه يوجد إنفتاح أساس (Aletheia) يظهر فيه معنى الوجود وهو المعنى الذي دُشنت به الفلسفة اليونانية ومع ذلك فإنّ هذا المعنى لا يظهر إلا في نهاية تاريخ الفلسفة نفسه. "إنّ الفكر والوجود هما نفس الأمر" هكذا تكلم بارمينيدس أبو الفلسفة اليونانية، والكلمة التي تعبر عن الإنفتاح الذي يظهر فيه نفس الأمر تعني اللاتحجب (Aletheia). إنّ هذه الترجمة حرفية حسب هايدجر، وحسب أنشودة بارمينيدس فإنّ الفكر المنتتمي إلى الوجود Einai يقود إلى القلب النابض للاتحجب Aletheia. ما هو هذا القلب النابض؟ إنه معنى الوجود وحقيقته. ما هو هذا المعنى؟ حسب هايدجر: "المعنى الأساس المتكشف والمحتجب معاً للوجود هو الحضور الحاضر (Presencing presence)" (9) إن هذا المعنى هو أساس الميتافيزيقا كلها. ينبغي هنا أن نفهم خصوصية هذا المعنى للحضور فهو يشمل الظهور والتجلي ولكن كذلك يشمل المعقولية وحضور المعنى بالنسبة للإنسان Intelligibility. إن معنى كون الشيء حاضراً هو كونه ظاهراً متجلياً وقابلاً للفهم الإنساني. يقول هايدجر: (إنّ الوجود " Einai" كلمة تقول: الحضور إلى اللاتحجب، ولكن يحتجب في هذه الكلمة أنّ الحضور نفسه يحضر اللاتحجب معه) (10). وبهذا يظهر الإنفتاح أو اللاتحجب كإشراق للموجود نفسه لحضور الحاضر الموجود. إنّ الخبرة اليونانية القديمة فهمت دائماً الوجود على أساس الموجود، وفهمت الوجود نفسه على أساس أنّه الحضور الحاضر، وهذا هو الذي يسري في تاريخ الميتافيزيقا كلها ويظهر في قدر بارمينيدس (Moira) وكذلك (Logos) هيرقليطس، وفي المثال الأفلاطوني (Eidos) كما يظهر في جوهر أرسطو (Ousia). إنه هو أيضاً الذي يتجلى في الـ (Cogito) الديكارتي، والروح الكلية المطلقة عند هيجل. لقد فُهِم اللاتحجب على أساس أنّه لوجوس الحضور الذي يحضره الحاضر معه، وبذلك تم فهم حقيقة الوجود من حيث هي حقيقة الوجود كذلك على أنها موجود من الموجودات العينية الحاضرة، واختفى الفرق الوجودي بين حقيقة الوجود وبين الموجود، هذا الفرق الذي هو أصل الميتافيزيقا وبداية تاريخها والمحتجب عنها بالضبط لأنه أصلها. لقد ابتدأ تاريخ الفلسفة بنسيان حقيقة الوجود. يقول هايدجر: "]بالنسبة لليونان[ فإن ما هو حاضر وسواء كان حاضراً أم لا فإنّه يحضر في هذا اللاتحجب Aletheia ولكن مع هذا اللاتحجب Aletheia نفسه فقد ظل التحجب غير مفكر فيه وكذلك فإنّ حضور الحاضر وكونه حاضراً أو غير حاضر ظل غير مُفَكَر فيه" (11). يمكننا هنا أن نلخص ما سبق بلسان العرفان الإسلامي ونقول: إنّ الوجود فُهِمَ منذ بداية الميتافيزيقا على أساس أنه التعين أو على أساس أنّه تعين المتعين مع نسيان كامل لتلك الحقيقة التي هي أقدم من كل تعين والتي تسمح له بالظهور وهي اللاتعين أو الغيب، وبالنسبة لنا فإنّ الفكر الغربي كله على مستوياته المختلفة مؤسس على هذا الأصل الميتافيزيقي الذي هو نسيان الغيب، ومن هنا كان إصرارنا على ترجمة "principle of identity" بمبدأ الأنية وليس كما هو الشائع – للأسف - بمبدأ الهوية إذ لا إشارة مطلقاً في كلمة "Identity" إلى "هو" أو إلى الغيب بل الأمر بالعكس. وفي حقيقة الأمر فإنّه لا معنى مطلقاً للحديث عن مبدأ الهوية في الفكر الغربي الذي ينطلق دائماً من الحضور ولا يشير إلى الغيب فضلاً عن غيب الغيب بأي حال من الأحوال. فمبدأ الأنية "Identity" ينطلق دائماً من الحضور المتكلِم عبر الأنا، ونترجم نحن هذا إلى ما نعرفه على أساس مبدأ الهوية بسبب إحتجاب الكلمة العربية عنا، فلا العلم (Science) هو العلم الذي يشير إليه المعنى القرآني ولا الإنسان هو الإنسان الذي يشير إليه المعنى القرآني، وكذلك فإنّ الهوية نفسها عند الغرب تشير دائماً إلى المتعين الظاهر الحاضر ولا تشير أبداً إلى الأفق الحقيقي الذي يمكن أن تظهر فيه. إنّ هذا الأفق هو اللسان العربي من خلال ضمير شأن الأمر الكلي المشار إليه بـ "هو". لقد صارت كلمة اللاتحجب Aletheia علماً على الحقيقة، وصارت تشير إلى الحقيقة مع أنّ معناها نفسه ليس إلا نفي الغيب – اللاتحجب. إن تاريخ الفكر الغربي هو تاريخ تحقق الغرب بمعناه العربي الذي هو أفول شمس حقيقة الوجود. نحن نحتاج إلى أفق آخر لكي نستطيع الحديث عن الهوية أو بالأحرى والأحق بأن ندع الهوية تتحدث عن نفسها.
الهوامش (1) مارتن هايدجر "الأنية والإختلاف" Martin Heidegger, "Identity and difference" translated by Joan Stambaugh, Harper books first edition, 1974 page 25. (2) نفس المرجع السابق ص 27 "For the same is thinking as well as being" same as above page 27 (3) محاورة الصوفي "Plato the Sophist" harper and Collins second edition page 254. (4) مارتن هايدجر "الأنية والإختلاف" Martin Heidegger, "Identity and difference" translated by Joan Stambaugh, Harper books first edition, 1974 page 26. (5) كتاب Schelling's treatise on the essence of human freedom by Martin Hedegger, translated by joan stambaugh, the Ohio university press 1985 page 77 and 78. (6) السابق ص 78 (7) أسس الفكر الفلسفي المعاصر. مجاوزة الميتافيزيقا. الدكتور عبد السلام بنعبد العالي – دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 1991 ص 91. (8) المرجع السابق ص 93 (9) كتاب Martin Heidegger, Four Seminars, translated by Andrew Mitchell and Fracois Raffoul, Indiana university press 2003 page 93 and after. (10) كتاب Early Greek thinking, the dawn of western philosophy, Harper Collins publishers 1984, page 55. (11) المرجع السابق ص 55، 56.
| |
|
فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: رد: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية الخميس نوفمبر 08, 2012 5:41 pm | |
| . الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. والصلاة على النبي الكريم وآله وصحبه عليه وعليهم السلام أيما تسليم. أما بعد.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. ونستأنف المسير مع الباحثين أحمد عبد العزيز ومحمد ياسر حيث يقولان: 3- حقيقة الهوية ليس المراد فيما يلي الدخول في تحليل لغوي حول ضمير الشأن، كما أنّه لا يعنينا الفوائد اللفظية والبلاغية والبيانية لهذا الضمير، فلقد قال فيه المتقدمون ما قالوه وأكثروا وأبلغوا، ولكن المراد الإنطلاق من معنى ضمير الشأن إلى رؤية عرفانية تربط هذا المعنى بحركة الوجود وتَفتُحه وظهوره الذي هو شأن ضمير الشأن. وبمعنى آخر فإن الكلمة ليست مجرد دال عن طريق حروف ومقاطع صوتية، بل الكلمة تجلي وظهور أنحاء الوجود وكمالاته المختلفة وشئونه الجامعة الكلية والجزئية، وهي بذلك بُعد لاحضوري للوجود نفسه وظهوره وتكشفه واحتجابه. وبمعنى آخر فإنّ الكلمة لا تنفصل عن الشيء بل هي الأفق الذي يظهر فيه أو يحتجب ذلك الشيء. يقول الشيخ أبو البقاء الكافومي: "وإذا وقع قبل الجملة ضمير غائب إن كان مذكراً يُسمى ضمير الشأن نحو "هو زيدٌ منطلق" وإن كان مؤنثاً يُسمى ضمير القصة ويعود إلى ما في الذهن من شأن أو قصة أي الشأن أو القصة كذا أمرٌ مبهم لا يتعين إلا لخصوصية يُعتبر هو فيها ويتحد هو مع مضمونها في التحقيق" (1) ويقول أيضاً: "وإنما سُمي ضمير الشأن لأنه لا يدخل إلا على جملة عظيمة الشأن نحو "قل هو الله أحد" فإنّ أحديته عظيمة جلية" (2). وينبغي التنبه هنا إلى أنّ ما قاله هؤلاء اللغويون هو من خصائص اللسان العربي المبين. يقول الأستاذ برجشترسر: "من خصائص اللغة العربية أنّ مبتدأ الجملة الإسمية المركبة ربما كان ضميراً للغائب لا علاقة له بالجملة الخبرية ولا راجع إليه فيها وهذا ما سماه النوحيون ضمير الشأن نحو "إنه لا يفلح الظالمون""(3). وهكذا فإنّ الشأن أو القصة هو غيبٌ دائماً ولكن هذا الغيب يظهر ويتجلى فيه خبر الجملة الإسمية المركبة، وبمعنى آخر فإنّ هذا الغيب هو وحدة تظهر بمظهر الكثرة، ولذلك يقول أبو البقاء في كتابه السابق: "خبر ضمير الشأن لا يكون إلا جملة"(4) ، وكذلك يؤكد السيوطي لزوم الإفراد والغيبة لضمير الشأن وذلك في كتابه الأشباه والنظائر(5). وهكذا يمكننا القول أنّ ضمير الشأن هو ذلك الغيب الذي لا يتعين ويظل بالضرورة حقيقة مبهمة ولكنّه بالرغم من ذلك يُخبر عنه عن طريق حدث عظيم جليل هو خبر الجملة الإسمية، ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعين لا يزيل حقيقة الإبهام واللاتعين. وكذلك فإنّ غيبة ضمير الشأن وظهوره مركباً في الجملة الخبرية تشير بوضوح إلى علاقة أساسية هي في غاية الأهمية وهي علاقة الهوية بالوحدة، وظهور هذا الغيب بمراتب الوحدة المختلفة التي تتدلى إلى أن تصير كثرة، وهذه الكثرة هي إخبار عن حقيقة الأمر الواحد اللامتعين الذي هو الهوية. نحن هنا نشير فقط إلى علاقة الهوية بالوحدة وسوف نتناولها بالتحليل فيما بعد. ولكننا هنا نريد تحقيق شأن ضمير الشأن الذي هو الغيب نفسه. يقول الشيخ الأكبر في كتاب الياء الذي هو كتاب "الهو"، وهو كتاب كما يقول ليس لأي أحد بل لأهل الإشارات (الذين أبصروا الحق في العوائق والعلائق)، يقول ابن عربي: "ما من مقام يكون فيه تجلي من التجليات مثل تجلي الأنا والإني والأنت والكاف إلا والهو مبطونٌ في ذلك التجلي، فيقع الإخبار عما ظهر من هذه المقامات ويقع التنزيه على الذات المطلقة"(6). يتحدث الشيخ هنا عن سريان "الهو" وتجليه في مظاهر مختلفة من الضمائر ومع ذلك فإنّ هذه الضمائر تشير إلى مقامات الوجود كله ومختلف أنحائه. فالأمر هو شأن "هو" ولذلك يقول الشيخ: "فلسريان الهو في الموجودات إذ لا وجود لها إلا بالهو ولا بقاء"(7). فـ "الهو" إذاً سَارٍ في كل ما ظهر بل في كل ما ظهر وما بطن {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ...}(8). ولكن ما ينبغي الإلتفاتُ إليه هنا وهو القضية الأساس أنّ مراتب "الهو" مثل الأنا والأنت التي هي أنحاء الوجود لا تظهر إلا ببطون "الهو"، ولذلك يقول: "فما من مقام إلا وهو مبطون فيه"، فببطون "الهو" ظهر الظاهر وبطن الباطن، ومن ثم فما من إسم إلا وهو ترجمان عن "الهو". ولذلك يقول الشيخ الأكبر: "فالأسماء كلها ترجمانات عن "الهو" و"الهو" مكتنف بحجاب العزة الأحمى في أحديته وهويته، فلهذا جعلنا ما بعد "الهو" عطف بيان للمرتبة وبدلاً مستخلفاً عن المرتبة"(9). إنَّ ما نريد الإشارة إليه أنّ كل ظهور وحضور يُتضمن فيه ويُحتجب غيب هو "الهو" وبدون هذا الغيب لا يكون ظهور أبداً. فـ "الهو" لا يظهر مطلقاً من حيث هو هو بل يظل محتجباً لكي يُظهِر مراتباً ومقاماتٍ هي أنا وأنت والكاف. فكلُّ ظهور يتضمن غيباً ولا بد. وإذاً فحركة إنفتاح الغيب للشهادة التي هي إسراء "الهو" تتضمن ظهوراً وغيباً معاً لكن يبطن الغيب في هذا الظهور فلا تكون الإشارة إلا إلى الأسم الظاهر الذي هو ترجمة وتعبير عن غيب. ومن ثَمَّ فإنّ كل ظهور يتضمن قدر من الإبهام والخفاء، وهذا القدر المحتجب دائماً لكي يظهر الظاهر هو الأفق المحيط الذي لا يظهر الظاهر إلا به، وهذه هي قاعدة أساسية في العرفان يمكن صياغتها باللسان الفلسفي فنقول: "إنّ كل تعين فهو بالضرورة مسبوق باللاتعين"(10). ومن ثَم فالأصل الذي ينطلق منه العرفاء ليس هو الحضور الذي هو بالضرورة تعين وتحدد وحضور في إطار معين، بل هو حركة الغيب نفسه الذي لا يتعين، وبهذا اللاتعين يظهر كل متعين. إنّ هذه الحركة الغيبية تنفتح بظهور الأعيان المختلفة ولكنها مع ذلك لاتخرج عن إطلاقها ولاتعينها حال ظهورها هي نفسها من خلال أسمائها وصفاتها متعينة بمظاهر الوجود المختلفة. ومن ثَم يتوالى على الشيء التعين بعد التعين والظهور بعد الظهور فيما يسمى الخلق الجديد {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}(11). يقول عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل: "قال الله تعالى: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} [النمل: 9]، فـ "إنّ" إشارة إلى الأحدية لأنها إثبات محض لا تقييد فيها، وكذلك الأحدية ذات محض مطلق لا تقييد فيها لشيء دون غيره. و "هو" في قوله "إنه" إشارة إلى الهوية الملحقة بالأحدية، ولهذا برزت مركبة مع "إنّ" و "أنا" إشارة إلى الهوية الملحقة بالأحدية الإنية، ولهذا كانت المبدأ والمعول عليها في الإخبار بأنه الله"(12). وهكذا فإن شأن "الهو" هو أن تظهر بالإسم "الله" الذي هو الإسم الجامع للأسماء كلها، ونفس هذا الكلام يُقال عن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(13). فحركة الهوية الغيبية شأنها أن لاتتجلى ولا تظهر إلا بإسم من الأسماء، فصار الإسم "الله" ترجماناً عن هذه الهوية الغيبية، وظل الغيب غيباً لازماً ضرورياً لتجلي الإسم "الله"، ولذلك يقول الشيخ الأكبر في فتوحاته حول شأن ضمير الشأن: "وإذا كان الأمر على هذا الحد فما ثَمّ من يصح أن يُضمر قبل الذكر إلا من يستحق الغيب المطلق الذي لا يمكن أن يشهد بحالٍ من الأحوال، فيكون ضمير الغيب له كالإسم الجامد العلم للمُسمى يدل عليه بأول وهلة من غير أن يحتاج إلى ذكر متقدم مقرر في نفس السامع يعود عليه هذا الضمير فلا يصح "هو" إلا في الله خاصة، فإذا أُطلق على غير فلا يُطلق إلا بعد ذكر متقدم معروف بأي وجه كان فيقال: هو عين محل هذا الضمير المشهود عند من لا يصح أن يقال فيه "هو" لحضوره عندك فيزول عنه إسم "الهو" بالنظر إلى ذلك ويثبت له إسم "الهو" بالنظر إلى من غاب عنه، فإن قيل: إذا صح ما قررته فإنه سبحانه مشهود لنفسه فيزول عنه "الهو" بالنظر إلى شهوده نفسه فإذاً "الهو" ليس بمنزلة الإسم العلم كما زعمت؟ قلنا: وإن شهد نفسه فإن الهوية معلومة غير مشهودة وهي التي ينطلق عليه إسم "الهو""(14). فالمقصود أنّ الغيب يظل غيباً بالرغم من تنزله في مظاهر شهادية، بل ضرورة ظهور وتعين هذه المظاهر المشهودة أن تكون مسبوقة باللاتعين الذي هو شأن ضمير الشأن "هو". ولكن القضية هي في بيان كيفية هذا التنزل الغيبي إلى الشهادة. نحن أشرنا فيما سبق في كلام العرفاء إلى إلتحاق "الهو" بالأحدية المطلقة. لكن هذه الأحدية لا إسم لها ولا رسم، ومع ذلك فهي الأساس لكل إسم ورسم. ومهمتنا هنا هي تتبع سير "الهو" وإنفتاحه من مراتب بطونه التي هي الأحدية إلى المراتب الشهادية التي تتضمن العالم كله. وقد أشارت الكثير من الآيات القرآنية وكذلك كلام كثير من العارفين المحققين إلى تلك المراتب وعلى رأسهم الشيخ الأكبر. ولعل من أهم هذه الآيات هي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(15). يقول الشيخ الأكبر في فصوص الحكم في الفص الإلياسي: "فارتبط الكل بالكل فلم يمكن أن يخلو تنزيه عن تشبيه ولا تشبيه عن تنزيه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنزه، وقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فشبه، وهي أعظم آية تنزيه نزلت، ومع ذلك لم تخلُ عن تشبيه بالكاف"(16). يقول شارحه ابن التركة: "وإذ قد توجه النفي إلى مثل المثل الذي هو مدلول كاف التشبيه يكون المثل مثبتاً في أصل الدلالة"(17). فالمعنى المقصود الذي عليه العرفاء هو أنّ نفي مثل المثل هو إثبات للمثل، ولكن ما هو المقصود بالمثل؟ لكي نجيب على ذلك ينبغي أن نسير مع العرفاء في محاولتهم كشف معانٍ أعمق مما هو متبادر للذهن من أنّ الله – جل وعلا – له مثيل أو شبيه. إنّ الآية لا تتحدث عن أشياء جامدة ولذلك يقول الشيخ الأكبر في فتوحاته: "فليس "هو" شيء ولا "هو" لا شيء"(18). ومن ثم فهناك سير للـ "هو" المذكور في قوله "كمثل" "هـ" فالهاء إذاً إشارة للـ "هو"، والآية تتضمن وحدة جامعة لمعانٍ متعددة، فإذا أُخذت الكاف لتأكيد النفي لا يكون هناك "مثل" لـ "هو" ولكن أيضاً يمكن فهم الكاف على أنها بمعنى "مثل" فيكون المعنى إنه ليس هناك مثلاً لمثل "هو"، وهي تتضمن ظهور "مثل" للهوية الغيبية التي لا مثل لها. لكن كيف يظهر "الهو"؟ كيف يتعين الغيب اللامتعين؟ إنّ تعين الغيب اللامتعين يكون كما أشرنا سابقاً عن طريق ترجمة هذا الغيب إلى مراتب ظهور أو بطون عن طريق الأسماء الإلهية المختلفة التي هي المجالي والآفاق التي يظهر فيها الغيب اللامتعين متعيناً ويظل مع ذلك على لاتعينه. وإذاً فإسراء "هو" من الغيب المطلق إلى الظهور هو عن طريق الأسماء الإلهية التي تُكنى بمفاتح الغيب {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ}(19). وليس المقصود هنا المقطع الصوتي المسمى بالإسم، وكذلك ليس المراد الحروف المرقومة بل عين ذات "الهو" تتقيد بقيد خاص هو كمال إلهي تظهر به "الهو" في مظاهر أسمائية إما كلية مثل الإسم "الله" والإسم "الرحمن" وغيرهما وإما جزئية، ولذلك أعقب النفي المشير إلى اللاتعين بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(20) المشير إلى التعين. فالأسماء إذاً هي تعينات لذات الغيب المطلق يظهر بها في مراتب البطون والظهور المختلفة إلى أنهى مراتب الظهور وهو الظهور الكياني المشاهَد والمحسوس. نحن سوف نشير هنا إلى هذه المراتب لأهميتها فيما بعد، ولكننا لن نتوقف عندها كثيراً بالشرح والإيضاح وذلك عن طريق تفصيل المعاني السابقة في الآية.
الهوامش: 1) كتاب الكليات ص 899 بترقيم الشاملة. 2) المرجع السابق نفس الصفحة. 3) التطور النجوي للغة العربية – برجشترسر – دار السماح القاهرة 1929 ص 142 4) كتاب الكليات ص 1661 بترقيم الشاملة. 5) الأشباه والنظائر طبعة خيبر آباد الجزء الثاني ص 176. 6) رسالة (الهو) في كتاب الباء طبعة مكتبة القاهرة الطبعة الأولى 1374 هـ 1954م ص 16. 7) المرجع السابق ص 17. 8) [الحديد: 3] 9) المرجع السابق ص 17. 10) شرح الفصوص لعبد الرزاق القاشاني – طبعة الحلبي – الطبعة الأولى – ص 236. 11) [ق: 15] 12) الإنسان الكامل تأليف عبد الكريم الجيلي طبعة الحلبي – الطبعة الرابعة - الباب الخامس عشر ص 72. 13) [الإخلاص: 1] 14) الفتوحات المكية للشيخ الأكبر الجزء الرابع ص 290 بترقم الشاملة. 15) [الشورى: 11] 16) فصوص الحكم شرح صائن الدين بن التركة الأصفهاني تحقيق وتعليق محمد بيدارفر طبعة إنتشارات بيدار الجزء الثاني ص 767. 17) المرجع السابق نفس الصفحة. 18) الفتوحات الجزء الثالث ص 70 بترقيم الشاملة. 19) [الأنعام: 59] 20) [الشورى: 11]
| |
|
فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: رد: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية السبت نوفمبر 10, 2012 11:34 am | |
| . الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، والصلاة والسلام على سيد أهل الأرض والسماء وآله الأصفياء وأصحابه الأنقياء وعلى الصالحين والأولياء. أما بعد... سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. ونستأنف نقل البحث حيث يقول الباحثان أحمد عبد العزيز عرفة ومحمد ياسر: ... خلاصة القول هنا أن هناك معانٍ متعددة لا تتنافر مع بعضها البعض بل تتحد وتتآلف في وحدة جامعة يمكن تفسير الآية من خلالها، ومن هذه المعاني: الأول: هو أن تكون الكاف للتأكيد فيكون المعنى تأكيد نفي المِثل، وهذه المرتبة يشار إليها عندهم بمرتبة الأحدية المطلقة التي هي الوجود المطلق المشروط بكونه مطلق. وليس في هذه المرتبة ظهور للأسماء أو للصفات أو للنسب أو للنعوت. وبالرغم من عدم ظهور أي إسم أو رسم في هذه المرتبة لكن كل الأسماء والصفات مندرجة فيها لا تظهر، ولذلك فهذه المرتبة مع كونها غاية البطون هي في نفس الوقت مفتاح مفاتيح الظهور ومشرعَه. المعنى الثاني: أن الكاف في الآية بمعنى (مِثل) ويكون المعنى هنا: (ليس مِثل مِثله شيء) ففي هذا نفي مِثل المِثل الذي يتضمن إثبات المِثل. وهذه هي الإشارة إلى مرتبة الواحدية الذي يتعين فيها الغيب الأحدي المطلق عن طريق مفاتح هذا الغيب المندرجة فيه بطوناً وهي الأسماء والصفات الكمالية التي ليس كمثلها شيء. وهذه الحضرة هي حضرة لاتعين في عين التعين وتعين في عين اللاتعين. وهي وحدة في كثرة وكثرة في وحدة. المعنى الثالث: النظر إلى المعنيين معاً، أو بمعنى أدق النظر إلى الرابط الجامع بين المعنيين فيشمل الظهور والبطون أو النفي والإثبات وهذه الوحدة الجامعة بين النفي والإثبات التي هي برزخ يفصل بينهما ويجمعهما في آن واحد، وهذا البحر المحيط الذي هو في آنٍ واحد نور على نور وظلمات بعضها فوق بعض هو المسمى عندهم بمرتبة الألوهية وهي مرتبة إعطاء كل ذي حق حقه، ومن هنا فهي جامعة لكل الأسماء الإلهية قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(1).
4- المعنى المطلق للوحدة يتضح مما سبق أنّ الهوية الغيبية تنفتح وتتنزل إلى مراتب الوحدة المختلفة من أحدية وواحدية، ومن الهام هنا أن نؤكد أنّ المقصود من هذه الوحدة وفي كل الحالات ليس هو الوحدة العددية كما أنّه ليس الوحدة العقلية التجريدية التي منشؤها إنتزاع العقل لمفاهيم كلية، فليس المقصود ما هو في العقل بل ما هو في الخارج بل ما يؤسس الخارج والعقل. يقول الشيخ صائن الدين علي بن محمد التُّركة الأصفهاني: "فاعلم أنّ الذات باعتبار اللاتعين المسماة بغيب الغيب تارة والهوية المطلقة أخرى يمتنع أن يُعتبر فيها أمر يستلزم التعين والتقيد ويستدعي التكثر والتعدد، فأول ما اعْتُبِرَ فيها من المعاني الوصفية هي الوحدة الحقيقية"(2) ، وهكذا فإنّ الوحدة الحقيقية هي أول المراتب المتعينة من سريان الهوية ولكن وحسب صائن الدين فإنّ لهذه الوحدة معنيين: "الأول: الوحدة الذاتية المطلقة وهي كون الشيء بحيث لا يعتبر في مفهومه ما يُشعر بتعدد الوجوه والإثنينية أصلاً حتى أنّ عدم اعتبار الكثرة أيضاً غير معتبر في مفهومه لما فيه من إشعار بمقابلتها للكثرة المستلزمة للإثنينية، فالواحد بهذا الإعتبار لا يكون في مقابلة شيء ولا في مقابلته شيء، فلا يكون مقابلاً للكثير، فيكون غير الواحد المعتبر في الأعداد، وقولهم: (الله واحد لا بالعدد) إشارة إلى هذا المعنى، والثاني لاحقٌ لها عارضٌ إياها وهي بذلك الإعتبار تسمى بالوحدة الإضافية والنسبية، وهي كون الشيء لا ينقسم في ذاته إلى الأمور المتعددة من حيث هو كذلك، والواحد بهذا المعنى هو الذي قيل فيه أنّه مقابل للكثير"(3). وهكذا فإنّ الوحدة بالمعنى الشائع مستبعدة لأنّ المقصود ليس الوحدة المضافة إلى شيء، بل الوحدة من حيث هي كذلك، أي أنّ المقصود ذات الوحدة نفسها وعينها، وليس إضافتها إلى معنى خارج عنها وطاريء عليها مما قد يشعر بالتعدد والكثرة. ولكن ذات الوحدة نفسها لها إعتباران أوليان وهما: "الأول: سقوط الإعتبارات عنها بالكلية، وسُمي بهذا الإعتبار أحداً ومتعلقه بطون الذات وإطلاقها وأزليتها، وعلى هذا يكون نسبة الأحد إلى السلب أحق من نسبته إلى الثبوت والإيجاب، والإعتبار الثاني: ثبوت الإعتبارات الغير متناهية مع إندراجها في أول رتبة للذات كالنفسية والثُلُثية والرُّبعية المندرجة في الواحد"(4) وعلى ذلك فإنّ الوحدة الحقيقية هي برزخ يجمع بين الأحدية والواحدية، أو بين عدم ثبوت الإعتبارات التقييدية وثبوت تلك الإعتبارات، بل على الحقيقة هي الوحدة الجامعة والفاصلة بين كل الحقائق المتقابلة سواءً كانت متضايفة أو متضادة أو متناقضة، فالوحدة وإن كانت في نفسها ليست شيئاً من الأشياء ولكنها جامعة لكل الأشياء، وهذا الجمع يسري في مراتب متعددة ثابتة عن طريق إثبات المِثل ونفيه كما أشرنا من قبل، وحركة السريان هذه هي حركة ظهور واحتجاب حقيقة الوجود ومن ثم كانت هي حركة التقدير والخلق، وهي معنى "كل يوم هو في شأن". نحن نعتقد أنّ أفضل وصف لبيان تنزل حقيقة الهوية الغيبية هو الفاتحة، فالفاتحة هي أيضاً أم الكتاب وهي أيضاً أم القرآن، وهي في نصفها الأول ابتداءً من قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(5) إلى آخر قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(6) تبتديء باسم الله وتسترسل تنزلاً عبر الأسماء: "الرحمن"، و"الرحيم"، و"الرب"، و"الملك" إلى قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ...}(7) ويمكننا تسمية هذه الآيات الثلاثة الأولى التي تلي البسملة بقوس النزول وفيها تتعين الهوية الغيبية عبر تنزلات باطنة تحددها الأسماء المذكورة في تعينات متعاقبة تنتهي بتجلي غيب الغيب وفتق رتقه إلى غيب وشهادة، أو إلى باطن هو الرب وظاهر هو العبد، وذلك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(8) ، وبهذا يظهر الغيب والشهادة من غيب الغيب الذي هو عين الهوية الإطلاقية وتظل هي الأفق المحتجب الذي ظهر فيه الغيب وظهرت فيه الشهادة. ثم تستمر الآيات التالية في وصف الطريق العائد إلى الغيب فيما يمكن تسميته بالقوس الصعودي. والدائرة المكونة من التقاء القوسين هي دائرة الكشف والوجود الجامعة للغيب والشهادة، والدائرة مظهر لحرف الهاء الذي يشير إلى باطن الهوية الإطلاقية. وهكذا فإنّ أفق الآفاق الذي يتعين فيه الأنا والأنت بل كتاب الوجود كله هو "الهو"، وهو الشرط الأساس لظهور الأنا والآخر في واسطة عقد الفاتحة وقلبها ومعقد إزارها، وهو "الواو" الرابطة بين "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" وبين" "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" التي بإضافتها إلى "هاء" الهوية يتكون ضمير الغيب "هو". وهكذا فإنّ الفاتحة لا تتحدث فقط عن الآخر بل تتجه أساساً للإشارة إلى المجال الأساس الذي يكن فيه ظهور الأنا والآخر، بل ظهور الكلمة التي هي في الحقيقة القرآن ولذلك سميت بأم الكتاب: كتاب وجود الأنا والاخر، وسميت بأم القرآن من حيث تأسيسها لإمكانية ظهور الكلمة. إنّ فاتحة الفاتحة ونعني بذلك ما تنفتح به الفاتحة هي مفاتح الغيب التي هي الأسماء الإلهية نفسها التي تعين الغيب في مراتب طولية غيبية ومراتب عرضية شهادية يعقبها جلاء واستجلاء هذه المراتب عن طريق مظاهر كيانية هي حاملة لحقائق غيبية وتعبر عنها وتتصور بصورتها.ومن هنا سميت كلمات وجودية، ولا يتم هذا التعين إلا في الفاتحة نفسها. ينبغي هنا أن نؤكد على التقابل بين المستوى الكلامي للوجود والمستوى الكياني له، ولذلك فإنّ فتق رتق السموات والأرض في قوله تعالى: {... أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا...}(9) ، على المستوى الكياني هو بعينه فاتحة الكتاب على المستوى الكلامي. وهكذا فإنّ الكلمة القرآنية ليست فقط إخباراً عن الوجود ولكنها أيضاً وبالأخص حركة الوجود نفسه في سيره وتجليه وإنفتاحه وظهوره من أشد مراتب البطون إلى أقصى مراتب الظهور. وهكذا ندرك أنّ شأن ضمير الشأن هو الوحدة المطلقة التي تنفتح بالفاتحة إلى العبد والرب، ولذلك لم يأت اسم "الرب" في القرآن إلا مضافاً وهذا التضايف نفسه يشير إلى الوحدة الحقة التي بها وفيها إنفتح الغيب إلى الشهادة. قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ"(10) وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ المقصود بالصلاة هو الفاتحة نفسها كما هو واضح من نص الحديث بكامله. إنّ ما نعنيه هنا هو أنّ شأن ضمير الشأن الذي هو الوحدة المطلقة يتجلى في الفاتحة عبر الكلمة القرآنية. إنّ ما نريد توضيحه هو طبيعة هذا التجلي الذي يشير إلى ارتباط الكلمة بالشيء والشيء بالكلمة بحيث لا ينفصل أحدهما عن الآخر. وهكذا فإنّ الكلمة هي الأفق الذي يتجلى فيه الوجود أو يحتجب. فالكلمة تشير إلى الحق الجامع للآفاق كلها الذي هو الأم الكبرى لكتاب الوجود المحيط بالغيب والشهادة، ولكن هذه الأم لا تظهر ولا تتجلى إلا في مركز الدائرة الذي هو قلب الفاتحة وهو "الواو" التي هي معقد الإزار. وفي تلك الآية ونعني بها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(11) يحدث ما يسمى في علم البيان بالإلتفات وهو الإنتقال من الغيب في قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }(12) إلى الشهادة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }(13). إنّ هذا الإلتفات على المستوى البياني هو بعينه إستدارة الزمان المذكور في قوله: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.." – الحديث(14). ينبغي هنا أن نؤكد أن منتهى تمام جلاء الغيب هو الحادث في قلب الفاتحة وهو الإنسان الذي هو أنت. انتهى ما ننقله اليوم ونستأنف مستقبلاً إن شاء الله وتأتي هوامش هذا الجزء وهي:
الهوامش 1) [الإسراء: 110] 2) تمهيد القواعد الصوفية تأليف العارف بالله تعالى صائن الدين علي بن محمد التُّركة الأصفهاني ضبطه وصححه وعلق عليه الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي – منشورات محمد علي بيضون – دار الكتب العلمية – بروت الطبعة الأولى ص 79. 3) المرجع السابق ص 21. 4) نقض النصوص لسيدي عبد الرحمن الجامي ضبطه وصححه وعلق عليه الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي الحسيني الشاذلي الدرقاوي – منشورات محمد علي بيضون – دار الكتب العلمية – بروت الطبعة الأولى ص 46. 5) [الفاتحة: 2] 6) [الفاتحة: 4] 7) [الفاتحة: 5] 8) [الفاتحة: 5] 9) [الأنبياء: 30] 10) رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" 11) [الفاتحة: 5] 12) [الفاتحة: 2 - 4] 13) [الفاتحة: 5] 14) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ..." – الحديث ورواه البخاري ومسلم.
| |
|
فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: رد: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية الأحد نوفمبر 11, 2012 5:26 am | |
| . الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله .. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 3، 4] والصلاة والسلام على القائل: "أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ" وعلى آله وصحبه عدد كلمات الله. أما بعد.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. ثم أما بعد.. نستأنف نقل هذا البحث سائلين الله تعالى أن ينفع به ويبارك فيه ويجعله واحداً من أسباب خروج مثقفي الأمة عن فهم هويتهم بل والكثير من معانيهم بفهم الغرب مصداقاً للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ" – الحديث. كيف كيف والغروب أفول {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } [الأنعام: 76]
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وسِرْتُ مُغَرِّباً ** شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ يقول الباحثان أحمد عبد العزيز فهمي عرفة ومحمد ياسر فوزي عبد الحميد حمزة في بحثيهما:
5- البيان إذا كانت الفاتحة هي الشأن الجامع لشئون "الهو"، فإننا لا ينبغي أن ننسى أن الفاتحة هي فاتحة الكتاب والكتاب هو تنوع وتقلب "الهو" في أيامه التي هي "أيام الشأن"، وبهذا التقلب سرت الهوية وتنزهت أيضاً وظهرت واحتجبت في الآيات الكلامية القرآنية والآيات الآفاقية الكونية. إنّ بيان هذا الظهور الشأني هو الكتاب نفسه بآياته وكلماته. إن الكلمة - ونحن نعني بالضرورة الكلمة القرآنية العربية – ليست هي تعبير وصفي إتفاقي أو رمز خارج عن حقيقة الشيء ليدل عليه، بل هي ظهور غيب الشيء نفسه وتقلبه في مدارج مراتبه الصورية والمعنوية والحسية. إنّها بيان الشيء عن نفسه أو إعراب الشيء عن حقيقته بتجليه وظهوره. فالكلمة العربية إذاً هي الكلمة التي تُعربُ عن نفسها قبل أن ينطق الناطق بها، وتُظْهِرُ حقيقةَ الشيء الذي تُعْرِبُ عنه. قال في لسان العرب – مادة عربَ – قال الأزهري: الإعراب والتعريب معناهما واحد وهو الإبانة، يقال: أعرب عنه لسانه وعرب أي أبان وأفصح، وأعرب عن الرجل بيّنَ عنه. انتهى، وفي مقاييس اللغة – مادة عرب – قال: "العين والراء والباء": أصول ثلاثة أحدها الإبانة والإفصاح، والآخر النشاط وطيب النفس، والثالث مساوي في جسم أو عضو، وأعرب الرجل إذا أفصح. انتهى. ينبغي أولاً قبل إستعارة أي مناهج غريبة عن البيان العربي إستجواب البيان العربي نفسه عن نفسه وأن ندعه يعرب عن نفسه. وبيان اللسان لأنه عربي يستلزم ظهور الشيء على ما هو عليه، وإشراق هذا الظهور في وحدة جامعة لمراتب مختلفة هي مستويات معاني هذه الوحدة الخاصة بالشيء. ينبغي أن نلاحظ أيضاً في البيان العربي أنّ كلمة "الآيات" كما تطلق على الآية القرآنية فإنها تطلق أيضاً على مظاهر التجليات الإلهية في الوجود بحيث تتطابق الكلمة والشيء في عين إختلافهما. وبالجانب الأول الذي يفيد الإشتراك والإتحاد يصير الكتاب قرآناً أي جامعاً، وبالجانب الثاني الذي يشير إلى الإختلاف والفُرقة يصبح الكتاب فرقاناً، وتتجلى الفرقانية والقرآنية معاً في أم الكتاب. ينبغي أيضاً أن نشير إلى أنّ كلمة "الحَدَث" بمعنى وقوع الشيء بعد أن لم يكن و"الحديث" الذي هو الكلام يعودان إلى نفس الأصل(1). وهكذا فبالنسبة للعربية فإنّ "الحَدَث" وهو ما يجد من الحوادث هو أيضاً حديث يُعرب عن بيان الحَدَث وظهوره. ولذلك فإننا إذا تركنا البيان العربي يتحدث عن نفسه فسوف نكتشف وجود مسكوت عنه هو حقيقة هذا البيان، وهو الإرتباط الشديد الذي لا ينفصل بين الوجود والكلام. ولذلك فإن كل شيء هو كلمة إلهية {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}(2). ولكن مع ذلك فهناك خصوصية للإنسان وهي كونه قد تعلم البيان {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(3). وبهذا صار حاملاً للأسماء الإلهية التي هي منازل سير الهوية الغيبية. لذلك يقول الشيخ الأكبر في فاتحة كتابه "فصوص الحكم": "الحمد لله مُنَزِّل الحِكَم على قلوب الكلم"(4). والمقصود هنا بالكلم هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن ثم صار الأنبياء كلمات من حيث كانوا بياناً لحقائق الحِكَم المنزلة على قلوبهم. ومن هنا صار النبي بوجوده وحياته وكلماته كلمة تهدي إلى صراط مستقيم، وكان النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من حيث جمعه لحقائق الأنبياء كلهم جامعاً لجوامع الكلم(5). ولكن الشأن كل الشأن عن كيفية تجلي الغيب ليصبح شهادة. ينبغي أن ندع العربية نفسها تتكلم. في مقاييس اللغة – مادة نفس- "النون والفاء والسين" أصل واحد يدل على خروج النسيم كيف كان. انتهى. وفي لسان العرب مادة (نفس): النَفَس: الفرج من الكرب، وفي الحديث "لاتسبوا الريح فإنها من نَفَس الرحمن". انتهى. وفي تفسير الطبري عند قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] قال: "يقول إذا أقبل وتبين. وقال قتادة: إذا أضاء وأقبل"(6). انتهى. وهكذا فإنّ النَفَس والتنفيس هو عبارة عن الظهور والخروج والإتساع والإضاءة، ولذلك استعار أهل التحقيق تعبير "النَفَس" – بفتح الفاء – للتعبير عن تجلي الهوية بظهور الكلمة. وكأن المقصود أن نسبة الموجود لحقيقة الوجود مثل نسبة الكلمة إلى النَفَس الذي تنفتح فيه الكلمة. يشرح لنا مؤيد الدين جَندي صلة الكلمة بالنفس والتنفيس فيقول: "والنَفَس مادة وهيولي للصور الحرفية، والحروف إنما هي تعينات نَفَسية في المراتب المخرجية"(7). ويمكننا هنا ملاحظة أنّ النَفْس - بسكون الفاء - هي عين النَفَس - بفتح الفاء - ولكن مع تسكين حركة الإنفتاح في الفاء التي هي قلب النَفَس، وهكذا فإن النَفْس – بسكون الفاء – ليست إلا تحديد وتعيين للنَفَس – بفتح الفاء – الذي هو غير متعين بطبيعته. ثم يشير جَندي إلى مراتب النَفَس وأولها أحدية النَفَس وهي مرتبة إندراج الحروف والكلمات في النَفَس فلا تظهر بل تُستهلك، وهي مرتبة غيب النَفَس عند المحل الأول في القلب ثم يقول جَندي: "والإعتبار الثاني مرتبة إمتداد النَفَس الإنساني والرحماني بالإيجاد إلى أعيان وحروف الأعيان حال تعيناتها في مخارجها وتنزلاتها في مدارجها ورجوعها إلى الباطن في مراجع معارجها، وفي هذه المرتبة يتحقق وجود عين الألف"(8). فالألف للنَفَس الرحماني هي التعين الأول، وهي الفاتحة الجامعة في حقيقتها لحقائق الحروف كلها، وهي في حقيقتها فتحة ممتدة إذا انقطعت صارت همزة، ومن هنا جاءت معيتها لكل حرف فهي دائماً باطن الحرف المتعين بمخرجه الخاص به، ولذلك فالنَفَس الرحماني هو الإنفتاح والإتساع الذي يتم فيه التفريج عن كرب الحروف بإخراجها من إندراجها في غيب النَفَس من حيث أحديته حيث كانت مستهلكة إلى مجالي ومشارق مطالع الظهور والبيان. وهكذا فإنه يمكننا أن نقول أن الرابط الأساس بين غيب الهوية الإطلاقية وبين الصور الكيانية العالمية هو النَفَس الرحماني نفسه. إنه البرزخ الذي يجمع ويَفْرِق حقائق الغيب عن حقائق الشهادة، ومن ثم صار جامعاً بين القرآن والفرقان، وبين سعة وإطلاق اللاتعين وضيق وتحديد التعين، فهو عين الظهور والبطون مع إطلاقه عنهما. يقول الشيخ الأكبر: "حقيقة الحقائق المعقولة التي لها الحدوث في الحادِث والقِدَم في القديم، ويظهر ذلك بالاشتراك في الأسماء فسماك بما سمى به نفسه وما سماك ولكن الحقيقة الكلية جمعت بين الحق والخلق فأنت العالِم وهو العالِم"(9). وهكذا يمكننا أن نقول أن النَفَس الرحماني هو المعنى الأعمق للبيان والتبيين، فالكلمة هي عين التعين المسبوق دائماً والمحاط باللاتعين. فالنَفَس هو المحيط الذي يفصل ويجمع في آنٍ واحد بين كل المتقابلات، وهو الروح في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا...}(10) ، فالروح على هذا هي النَفَس الرحماني مع إشارة النَفَس إلى الظهور والجلاء، وإشارة كلمة الروح إلى الحركة الخفية الغيبية التي يتم بها هذا الظهور والجلاء بالإشارة إلى أصل إشتقاقها(11). ومن هنا كانت الكلمة رُوحاً، وكان القرآن رُوحاً، وبذلك فالكلمة القرآنية العربية هي عين سريان وإنبساط النَفَس الساري في جميع البراري سواءً على مستوى الآيات الآفاقية فتسمى حينئذ موجودات وأشياء وأحداث، أو الآيات الأنفسية فتسمى حروفاً ومعاني وكلمات. وينبغي أن نوضح هنا أنّ هذه هي مستويات مختلفة ومجتمعة في آنٍ واحد للحقيقة الواحدة بالوحدة المطلقة الحقيقية التي لا تعاند ولا تضاد الكثرة والإختلاف، بل هي الأساس الجامع الذي يقوم عليه الإختلاف والكثرة لأنها بطبيعتها لا تقابل شيئاً كما أوضحنا، وهكذا فإنّ العربية هي المجلى الأساس لبرزخ البرازخ الذي هو حقيقة حقائق الوجود الجامع للجلاء والإستجلاء الكامل لتعينات النَفَس، فهي البرزخ المحيط الذي يجمع الأطراف ولا يقابله شيء من خارجه. وهذه الحقيقة المسماة حقيقة الحقائق هي الأب الأكبر العلُوي وفي نفس الوقت فإنها الأم الأعظم السفلي، وهي – أي تلك الحقيقة – هي التي تتحدث وتعرب عن نفسها، وما حديثنا وكلامنا إلا رجع لصدى تلك الحقيقة.
الهوامش 1) مقاييس اللغة لإبن فارس مادة حدث "الحاء والدال والثاء". 2) [الكهف: 109] 3) [الرحمن: 4] 4) فصوص الحكم تأليف محيي الدين بن عربي والتعليقات عليه بقلم أبو العلا العفيفي طبعة دار إحياء الكتب العربية الجزء الثاني ص 4. 5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ "... وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ..." – الحديث ورواه مسلم في صحيحه. 6) تفسير الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" حققه وخرج أحاديثه أحمد شاكر – دار المعارف بمصر – الطبعة الأولى - الجزء 24 ص 257. 7) شرح فصوص الحكم تأليف مؤيد الدين جَندي – تصحيح الأستاذ السيد جلال الدين أشتياني طبعة مؤسسة بوستان كتاب الطبعة الثانية ص 55. 8) المرجع السابق ص 56. 9) الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (7/ 48، بترقيم الشاملة آليا) 10) [الشورى: 52] 11) لسان العرب – مادة روح.
| |
|
فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: رد: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:51 am | |
| . اللـه بسم اللـه الرحمن الرحيم الحمد للـه.. الحمد للـه الذي جعل مع العسر يسرين. وجعل بعد العسر يسرا. والصلاة والسلام على من قيل له {لَعَلَّ اللـه يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وعلى آله وصحبه واجعل لنا ببركتهم فرجاً. أما بعد.. سلام اللـه على الأمة حين كانوا في الأصلاب والأرحام بل من حين لبوا {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى...} [الأعراف: 172] فتحملوا في محبة اللـه البلا. {عَسَى اللـه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللـه أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا} [النساء: 84]. ثم أما بعد... "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" قال الألباني في تحقيقه لفقه السيرة: حسن صحيح. ثم ما بعد.. إنتهى بنا الكلام على الهوية إلى الخاتمة حيث يقول الباحثان: أحمد عبد العزيز ومحمد ياسر:
6- الخاتمة علينا الآن أن نجمع العناصر الرئيسة التي كانت معالم لنا على الطريق لبحثنا عن أفق تجلي واحتجاب "الهو". إنّ "الهو" بحسب ما يشير البيان العربي هو ضمير الشأنّ الغيبي، وشأنه هو سريانه في المراتب المتعددة وظهوره فيها مع عدم تقيده بها. إنّه غيبٌ لا يتقيد، ومن هنا وبسبب هذا اللاتقيد واللاتعين والإطلاق عن كل القيود كان منبعاً وأساساً للظهور في عين كونه غيباً. قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}(1) ، بمعنى أننا إذا حصرنا "الهو" في "الأول" وجدناه في "الآخر" مع كونه "أولاً" وإذا حصرناه في "الآخر" وجدناه "أولاً". إنّ هذا يعني ثبوت المراتب وظهوره بها وتعينه مع إطلاقه عنها في نفس الوقت. ومن هنا فإنّ عدم الإنحصار هو منبع ظهور المراتب سواء منها مراتب الظهور أو البطون، إذ لو إنحصر في مرتبة لكان حاضراً مع كونه غيباً، ومن هنا فإنّ عدم الإنحصار هذا هو المشار إليه باللاتعين ولكنه اللاتعين الذي هو أصل ومنبع كل تعين، وليس اللاتعين الذي يضاد التعين. يقول الشيخ الأكبر في نصٍ رائع: "فلا تطلق ولا تقيد لتُمَيِّزُه عن التقييد ولو تميز تقيد في إطلاقه ولو تقيد في إطلاقه لم يكن هو فهو المقيد بما قيد به نفسه من صفات الجلال وهو المطلق بما سمى به نفسه من أسماء الكمال وهو الواحد الحق الجليّ الخفيّ لا إله إلا هو العليّ العظيم"(2). وهكذا فإنّ لاتعين الغيب هو المنطلق الأساس لإنفتاحه وتنزله للشهادة.
إنّ هذه الفاتحة هي تنفيس عن حقائق وكمالات الهوية السارية عبر تحديد وتقييد تلك الهوية بأسمائها المعبرة عن هذه الكمالات. إنّ هذا الإنفتاح هو خلق السموات والأرض وهو في نفس الوقت تنزيل القرآن العربي المبين. ولذلك ينبغي أن ننصت إلى إفصاح لسان الغيب عن الغيب بتأمل الآيات القرآنية سواء منها الآفاقية أو الأنفسية. وهذا الإنصات يتضمن أن ندع البيان العربي يفصح عن نفسه لنتعلم إعراب العربية التي هي لسان الحق. نحن لا نعني هنا بالعربية إنتماءً عِرقياً أو عُنصرياً معيناً بل نعني العربية التي هي البيان القرآني المفصح عن نفسه المعرب عن حقائق الوجود لأنه لسان حقيقة الوجود نفسها. وقد رُوي في الحديث: "وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم فإنما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي"(3) ولذلك وعلى حسب هذا الكلام فإنّ سلمان الفارسي مثلاً هو عربيٌ فارسي، وبلال هو عربيٌ حبشي. لذلك نقول أن سيبويه كان عربياً أكثر من العرب أنفسهم، وأن ابن سينا كان فيسلوفاً عربياً مع كونه فارسياً وبدون أي تناقض. فالعربية هنا هي أفق تتجلى فيه آيات الوجود وشواهده. وهي البيان الخاتم الذي لا ينفصل عن حقيقة خاتمية الإسلام نفسه. لقد كانت الحضارات السابقة كلها لكي تميز نفسها تصف "الآخر" بالبربرية إلا العرب الذين ميزوا أنفسهم ببيانهم ولسانهم بكونهم عرباً وكون الآخر أعجمي نسبة إلى عُجمة اللسان وعدم قدرته على البيان، وكأن العربية تعبير عن الإرتباط الأساس بين الإنسان والبيان. ومن هنا كان إصرارنا – وما زال – على تسمية Principle of Identity بمبدأ الأنية أو مبدأ الذاتية لأن المنطلق الأول عند الغرب هو "الأنا" وهو تطابق الذات مع نفسها، وعدم إختلافها مع نسيان كامل للنسبة الباطنة التي هي "هو" التي تسمح للذات بالإختلاف عن نفسها والسير في مراتب مختلفة ولكنها مع ذلك تعبير عن وحدة حقيقية لا تضاد هذا الإختلاف. "الهو" الذي هو دائماً باطنٌ في "الأنا" و"الأنت" وأي ذات "Subject". تلك الذات التي تحتاج دائماً إلى موضوع "Object" يقابلها في الخارج لكي تصبح ذاتاً "Subject". لذلك فنحن نقول إنه لا يوجد في الفكر الغربي مبدأً للـهوية كما إنه لا يوجد في البيان العربي مبدأً للذاتية. إنّ فكر الحضور بنسيانه لـ"الهو" أدى إلى إنفراط عقد الذات نفسها وتفكيكها وتفريغها لكي تتحول في فكر ما بعد الحداثة إلى ذوات كثيرة هي ليست ذوات حقيقية بل نسبية فيتحول الإنسان إلى فرد على المستوى الوجودي، ويتم تعريفه بحسب عوارض خارجة عن حقيقته فيتم تعريفه مثلاً على المستوى السياسي بأنه مواطن له وطن معين أو بُقعة معينة من الأرض، ويتم تعريفه على المستوى الإقتصادي بكونه ينتمي إلى طبقة معينة، وهكذا تصبح الهوية حقيقة إعتبارية مجردة تُصنع بمواضعة واتفاق البشر بعضهم مع بعض، ويُنسى ما صنع البشر أولاً. عند إحتجاب الهوية تختفي الوحدة الحقة التي هي أحدية جمع لما تفرق من عقد الأنيات والذاتيات المتكثرة والمتعددة.
إنّه لا شك في سيادة مبدأ الأنية Principle of Identity الآن في الوقت الذي تدخل فيه الأمة إلى عصر العولمة ولكننا مع ذلك وبالرغم من التقارب الشديد الظاهر على السطح بين الثقافات والأوطان والأجناس ولكننا نلحظ بالرغم من هذا التقارب الشديد شدة الإختلاف والتفرق وسوء الفهم بين هذه الثقافات بعضها مع بعض. بل لعلنا نقول إنّ الإختلاف الشديد الذي يصل إلى حد الصراع والحروب هو نتيجة التقارب الشديد في محاولة الإنسان فرض هيمنته على العالم كله. لقد تحولت المعرفة إلى مجموعة من المعلومات الرقمية التي تُمنح لبعض وتُمنع عن آخرين، ويحاول الإنسان الآن استنساخ الحيوان والإنسان عن طريق هندسة الجينات الوراثية، ولكن مع ذلك يظهر في الأفق بدايات تحلل هذا كله في فكر ما بعد الحداثة وإنتهاء عصر السرديات الكبرى، ونرى بداية لتحولات تاريخية في منطقة كانت هي الأصل في نشوء الثقافة واللغة وهي في القلب من العالم فلعل الصبح قريب {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}(4). إنتهى البحث وبعده الهوامش يتلوها تعقيب لنا نرجو التكرم بقراءته.
الهوامش 1) [الحديد: 3] 2) الفتوحات المكية (1/ 331، بترقيم الشاملة آليا) 3) راجع كنز العمال (12/ 47) بترقم الشاملة: حديث: 33936 يا أيها الناس ! إن الرب رب واحد وإن الاب أب واحد وإن الدين دين واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم فانما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي (ابن عساكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا). 4) [هود: 81]
إنتهى البحث بهوامشه، ونسأل اللـه العلي العظيم أن ينفع به من قرأه ومن تدبره ومن مر عليه مرور الكرام ومن أحسن الظن بكاتبيه ونرجو من الإخوة الكرام الذين فهموا المراد أن يتفضلوا مشكورين محفوظين بنقله إلى المواضع التي يظنون أن فيها منه إنتفاع خصوصاً وأن الفقير حاول وضعه في بعض المواضع فاستعصى الأمر والأخ بأخيه والمؤمن مرآة المؤمن والخطاب لكل عربي لا من حيث النسب بل من حيث اللسان ونسأل اللـه لكل من سعى في ذلك فتحاً قريباً وحفظاً وعزاً من محض جود اللـه وفضله فإن النبي صلى اللـه عليه وآله وصحبه وسلم كان يكافيء بالمعروف ولنا فيه أسوة وقد عجزنا عن ذلك فوكلنا أمر مجازاة من تكرم علينا بذلك أو بغيره إلى القدير القادر سبحانه ولا حول ولا قوة إلا باللـه وصلى اللـه على من لولاه ما عرفنا ولا فهمنا ولا أحببنا ولا تقربنا وعلى آله الذين حملوا عبء الأمة من بعده فها هو مولانا الحسن رضي اللـه عنه يتنازل عن الخلافة الظاهرة حقناً لدماء المسلمين فيرث الخلافة الباطنة ثم يموت شهيداً مسموماً، وها هو مولانا الحسين رضي اللـه عنه يموت شهيد المحبة، وهما سيدا شباب أهل الجنة رضي اللـه عنهما وعن صحابة رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم الذين هم كالنجوم تحملوا ما لم يتحمله أحد لحفظ الرسالة وأداء الأمانة فمنهم من ظهر بجهاده وفدائه ومنهم من إختفى كحال الملامتية وتلبس ظاهراً بأمور قيل بها هو طالبٌ للدنيا – ولا واللـه بل هو محب ستر حاله وقصده خدمة قد كُلِفَ بها فلو ظهر بالحق والعدل ما تمت، فاستمد من أسماء إلهية ما به يتم المطلوب. وأرجو من الكرام قارئي هذا الكلام ألا يسألوني عنه فإنما هو حروف وكلمات جرى بها القلم فمن إلتقف من العبارة إشارة من باب {فَيَتَّبِعُونَ } التي في سورة الزمر لا من باب {فَيَتَّبِعُونَ } التي في سورة آل عمران، فبها ونعمت، وإلا فليترك هذه الكلمات فإنما هي كلمات وليقل ما جاء به جبريل إلى خير الرسل في الحديث الذي صححه الألباني رحمه اللـه في السلسلة الصحيحة حيث يقول في هذا الحديث خير من مشى على الأرض أو عرج إلى السماء صلى الها عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال : يا محمد ! قل . قلت : وما أقول ؟ قال : قل : أعوذ بكلمات اللـه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارق يطرق بخير يا رحمن". والحمد للـــــــه الذي بنعمته تتم الصالحات.
| |
|
فقير الاسكندرية
عدد الرسائل : 192 تاريخ التسجيل : 14/10/2007
| موضوع: رد: ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية الإثنين ديسمبر 10, 2012 11:24 am | |
| الله بسم الله الرحمن الرحيم وننقل لكم هنا ملخص هذا البحث الذي تم القاؤه أثناء المؤتمر في الأردن، وهو يتكلم في بعض المواضع بأسلوب يختلف عن البحث الأصلي ولكنهما يدندنان حول نفس الأمر والسلام قال الباحثان :
. الله بسم الله الرحمن الرحيم ضمير الشأن وشأن الضمير: مقاربة عرفانية لمفهوم الهوية بحث مقدم من الباحثين: محمد ياسر فوزي عبد الحميد حمزة و أحمد عبد العزيز فهمي عرفة
الحمد لله لا إله إلا هو، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم المرسلين ورحمة الله للعالمين. سر الهوية التى فى كل شيء سارية وعن كل شيء مجردة وعارية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وبعد.. 1- التمهيد: • إشارة إلى الأفق إن الغرض الأساس لهذا البحث ليس "تحديد" الهوية تحديدا منطقيا أو عقليا فلسفيا، لأنها بطبيعتها تند وتتعالى عن كل تحديد، ولكن الغرض الأساس هو الإشارة إلى أفق مختلف إختلافاً جذرياً عن الأفق السائد المعاصر في الحديث عن الهوية، وهذا الأفق تتجلى فيه الهوية بحيث ننصت نحن إلى حديثها الذي يُعْرِب عن حقيقة ظهورها وبطونها. • الإطار السائد الآن في التفكير الغربي وتحويله الهوية إلى الحضور إننا لا نعتقد أن أحداً سوف يختلف معنا حين نقول إن المرجعية الفكرية الســائدة الآن هي المرجعية الفكرية الغربية، وهذا بالرغم من أنّ هذه المرجعية قد تم خلخلتها وتفكيكها على يد مفكرين عظام من أبنائها أنفسهم. وهذه المرجعية يُعتبر مبدأ الأنية Principle of Identity مبدأً أساسياً فيها، وقد تم تأسيسه وتطويره ثم تفكيكه وخلخلته عبر المسيرة الطويلة للميتافيزيقا الغربية إبتداءً بالفلسفة اليونانية وإنتهاءً بفكر ما بعد الحداثة، إنّ الزعم الأساس لهذا البحث هو أنّ منطلق فكر الأنية Identity لم يكن أبداً هو الهوية بمعناها العربي الفصيح، وأنّ ترجمة The Principle of Identity بمبدأ الهوية ما هو إلا تعريب للسانٍ غربي لا يُعْرِبُ مطلقاً عن الهوية بل هو مؤسس بالكامل على فكر الحضور. الحضور الحاضر الذي يمكن فهمه والسيطرة عليه والتحكم فيه بأدوات بشرية خالصة، وهو يعبر عن عقلانية ترى الوجودَ كلَّه شفافاً ومتاحاً للإنسان سواء عبر الأنفاق الفلسفية أو المعادلات الرياضية. وهذه العقلانية تختلف إختلافاً جوهرياً عن ذِكْرِ الهوية. وهي أيضاً تعبير عن السيادة المحتجِبة للفكر الغربي والظاهرة في إغتراب كثير من المثقفين العرب عن بيانهم العربي المبين. 2- المفهوم الغربي "للأنية" Identity • مفهوم الأنية (Identity) عند الإغريق: بارمينيدس لقد دُشنت الفلسفة الغربية بقول بارمينيدس "إن نفس الأمر هو الفكر وهو الوجود"، وهذا المفهوم كما هو واضح ينبني على ربط للفكر بمفهوم معين للوجود، وهذا المفهوم هو الذي يتجلى في تاريخ الفلسفة الغربية كلها بحيث لا يمكن التفكير في تطابق كلِّ شيء مع نفسه إلا من خلال هذا المفهوم للوجود. وهكذا فإنّ المفاتيح الأساسية للفكر الغربي كلها كامنة في الفلسفة الإغريقية. إنّ هايدجر قد حاول فهم الأصول الإغريقية فهماً أعمق مما فهمه الفلاسفة الإغريق أنفسهم. إنّ هذا "الأعمق" يشير إلى اللامُفَكَر فيه بالنسبة للإغريق. • ماهية الأنية (الأنا) ومن خلال تاريخ الفلسفة الغربية فإنّه توجد عدة صياغات لمبدأ الأنية. الصياغة الأولى هي: A is A وهي صياغة تقوم على تكرار الشيء لنفسه وتعبر عن تطابقه مع ذاته وعدم إختلافه عنها. والصياغة الثانية هي: A = A وهي أيضاً تتحدث عن نفس هذا التطابق. وهكذا فإنّ ما يعلنه هذا المبدأ بالألسنة الغربية المتعددة هو التطابق المطلق ونفي الإختلاف لكل شيء مع نفسه، والوحدة المفهومة هنا هي وحدة التطابق والإنسجام، وهي الوحدة التجريدية العقلية التي لا تسمح بالتغير أو الإختلاف. • الأنية (Identity) عند هيجل والحداثة الغربية لقد تم تأسيس مفهوم التوسط Mediation على يد فلاسفة المثالية الألمانية التي وصلت إلى أوجها عند هيجل الذي يحاول تطوير ما يسميه الفهم الديالكتيكي لمفهوم الأنية، والشكل الأساس للإختلاف عند هيجل ليس هو التنوع بل هو التناقض والصراع الذي هو حركة داخلية في كل شيء تدفعه إلى الأمام، وهي تعني التناقض المستمر للشيء مع نفسه، وهذا التناقض الداخلي هو الوحدة التي توحد الشيء بنفسه. وهكذا فإنّ الآخر ليس إلا لحظة من لحظات إغتراب الذات عن نفسها يتم تجاوزها في الوحدة الكلية للفكرة المطلقة. ويلخص الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي النقد الأساس الموجه لهيجل بقوله: "إنّ الفكر الذي يقوم على الكلية فكر يقضي على غيرية الآخر ويحتضنها، وهو فكر عاجز عن أن يفكر في الآخر بما هو كذلك". انتهى. لكن يظل الوجود وحقيقته غير مفكَر فيه حتى عند المثالية الألمانية. إنّ مسألة الوجود لم تظهر كقضية أساسية بالنسبة لهيجل. وبمعنىً ما فإنّ هناك معنىً معين للوجود غير مفكَر فيه وهذا المعنى هو الحضور Presencing presence، وعلى أساس هذا المبدأ الحاضر والمحتجِب للوجود يتم صياغة مبدأ الأنية في صوره المختلفة. ويظل مبدأ الأنية نفسه في تطوراته المختلفة عبر العصور المختلفة حبيساً لهذا المعنى المحتجِب للوجود. • هايدجر: "الميتافيزيقا الغربية هي نسيان حقيقة الوجود" وحسب هايدجر فإنّ معنى الوجود بالنسبة للميتافيزيقا الغربية كلها هو الحضور. والميتافيزيقا الغربية قد فهمت دائماً الوجود على أساس الموجود الحاضر. لقد فهمت الميتافيزيقا الغربية الوجود بإعتباره أحد الموجودات الحاضرة سواءً كان هذا الفهم هو قدر بارمينيدس (Moira) وكذلك (Logos) هيرقليطس، وفي المثال الأفلاطوني (Eidos) كما يظهر في جوهر أرسطو (Ousia). إنه هو أيضاً الذي يتجلى في الـ (Cogito) الديكارتي، والروح الكلية المطلقة عند هيجل. لقد فَهِمَتْ دائماً الوجود على أساس الموجود ومن ثم احتجب الفرق الأساس بين حقيقة الوجود من حيث هي كذلك وبين الموجود من حيث هو موجود. وهكذا فإنّ الفلسفة الغربية هي نسيان الوجود. 3- حقيقة الهوية وبالنسبة للثقافة العربية الإسلامية فهناك أفق آخر يختلف إختلافاً أساسياً عن فكر الحضور. وهذا الفكر هو مؤسَس على ضمير الشأن وشأنه. نحن لا نعني هنا المعاني البلاغية والبيانية لهذا الضمير. ولكننا نعني الأفق الذي ينفتح بشأن ضمير الشأن. • ضمير الشأن وشأن الضمير إنّ شأن ضمير الشأن يشير إلى الإرتباط الأساسي والجوهري بين الكلمة والشيء بحيث تعدو الكلمة الشأن الذي يتجلى في أفقه الشيء، وهكذا فإنَ الكلمة ليست رمزاً إتفاقياً يدل على الشيء، بل هي النحو الذي يظهر به الشيء بحيث يُعْرِب عن خصائصه ومميزاته. نحن هنا بالتأكيد نعني بالضرورة الكلمة العربية التي هي البعد اللاحضوري للحضور، كما أنّ الأفق هو البعد اللاحضوري الذي يتجلى فيه القمر والنجوم. وهكذا فإنّ الكلمة العربية بالذات لا تنفصل عن الشيء بل هي شأن الشيء نفسه. إنّ ضمير الشأن أو القصة هو غيب دائماً ولكنه الغيب الذي يظهر فيه خبر الجملة الإسمية المركبة التالية لضمير الشأن. وهكذا فإن الأمر الواحد اللامتعين يتعين من خلاله كثرة، ولكنها في الحقيقة إخبار عن وحدة هذا الأمر اللامتعين. يقول الشيخ الأكبر: "ما من مقام يكون فيه تجلي من التجليات مثل تجلي الأنا والإني والأنت والكاف إلا والهو مبطونٌ في ذلك التجلي". وهكذا فإنّ شأن ضمير الشأن هو التجلي في مراتب متعددة هي الأنا والأنت وغيرها، فما من مقام يظهر إلا والهوية باطنة فيه فتقع الإشارة على هذا المقام ويُنَزه "الهو" عنه، فببطون "الهو" ظهر الظاهر وبطن الباطن. • "ليس كمثله شيء" إنّ القرآن الكريم يبين كيفية هذا التنزل الغيبي إلى الشهادة عبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وهذه الآية يفهمها محققو العارفين بمعنيين يتحدان ويأتلفان معاً في معنىً ثالث. والمعنى الأول يشير إلى الإطلاق بالنفي المطلق للمثلية على أساس أنّ الكاف زائدة لتأكيد النفي. إنّ هذا المعنى يشير عندهم إلى أول مرتبة من مراتب تنزل الهوية وهي الأحدية. والمعنى الثاني يشير إلى أنّ النفي يقع متوجه إلى مِثْلِ المِثْل لأنّ الكاف في الآية بمعنى المِثل، ونفي مِثل المِثل يتضمن إثبات المِثل، والمقصود بالمِثل هنا ظهور الأسماء الإلهية المختلفة التي هي كنايات عن الهوية وهي تعبر عن تنزل "الهو" في مراتب مختلفة، وهذا المعنى هو عندهم مرتبة الواحدية. وهكذا فإنّ هناك إسراء لـ "الهو" عبر مراتب متعددة. والمعنى الثالث وهو الجامع للمعنيين هو تعين "الهو" في مراتب مختلفة عبر لاتعينه، بمعنى ظهور "الهو" في مراتب هذه الأسماء الإلهية وعدم إنحصاره فيها ولا تقيده بها، فتعيُن اللامتعين يكون عبر ترجمة الغيب إلى مراتب مختلفة من الظهور والبطون عن طريق الأسماء الإلهية التي هي المجالي والآفاق التي يظهر فيها الغيب من حيث كونه غيباً، بمعنى يظهر فيها ولا ينحصر ولا يتقيد بها: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. 4- المعنى المطلق للوحدة إنّ الوحدة المفهومة هنا هي وحدة يعبرون عنها بالحقيقية من حيث أنّه لا مقابل لها، وليست هي التي تعارض وتقابل الكثرة بل هي الجامعة والمؤسسة لظهور الكثرة. فهي الحق الذي تَعودُ عليه كل الأفاق في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53] وهي ليست شيئاً من الأشياء، وليست بمعنى كون الشيء شيئاً واحداً، ولكنها ما يجعل الشيء شيئاً أساساً. إنّها هي المؤسسة لشيئية الشيء وليست هي بشيء. إنّ النظر هنا إلى ذات وحقيقة الوحدة وليست إلى ذاتٍ مضافاً إليها الوحدة. إنّ المَثَل الأعلى لهذه الوحدة المطلقة في البيان الجامع القرآني هو الفاتحة. • بيان تنزل حقيقة الهوية – الفاتحة تبتدأ الفاتحة في الآيات الثلاث الأولى بعد البسملة فيما يمكن تسميته بقوس النزول بتنزلات باطنة عبر أسماء إلهية تنتهي بتجلي غيب الغيب وفتق رتقه إلى غيب وشهادة أو إلى باطن هو الرب وظاهر هو العبد عبر الإلتفات الرائع من الغيبة إلى الخطاب ومن الغيب إلى الشهادة وذلك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ثم تستمر الآيات التالية في وصف الطريق العائد إلى الغيب فيما يمكن تسميته بالقوس الصعودي. والدائرة المكونة من التقاء القوسين هي دائرة الكشف والوجود الجامعة للغيب والشهادة والدائرة مظهر لحرف الهاء الذي يشير إلى باطن الهوية الإطلاقية. وهكذا فإنّ أفق الآفاق الذي يتعين فيه الأنا والأنت بل كتاب الوجود كله هو "الهو"، وهو الشرط الأساس لظهور الأنا والآخر في واسطة عقد الفاتحة وقلبها ومعقد إزارها، وهو "الواو" الرابطة بين "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" وبين" "إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" التي بإضافتها إلى "هاء" الهوية يتكون ضمير الغيب "هو". وهكذا فإنّ الفاتحة لا تتحدث فقط عن الآخر بل تتجه أساساً للإشارة إلى المجال الأساس الذي يكن فيه ظهور الأنا والآخر 5- البيان • الكلمة القرآنية ينبغي أن نشير هنا إلى حقيقة هي أساسية وهو أنّه بالنسبة لهؤلاء العرفاء فإنّ الكلمة القرآنية ليست فقط إخباراً عن الوجود ولكنها أساساً حركة الوجود نفسه في تحققه وتجليه وظهوره من أعلى مراتب البطون إلى أقصى مراتب الظهور. إنّ ما نعنيه هنا هو أنّ شأن ضمير الشأن هو التحقق العيني الذي لا ينفصل عن الكلمة القرآنية التي تعبر عن الأفق الذي يتجلى فيه الوجود نفسه. وهكذا فإنّ القرآن يشمل الوجود الخارجي كله عبر كلماته {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف: 109]. وهكذا فإنّ الكلمة القرآنية هي فرقان وقرآن في أنٍ واحد. فرقان يشير إلى تجلي المظاهر الوجودية المخلتفة وقرآن جامع لهذه المظاهر كلها، ويجتمع الإثنان معاً في أم الكتاب، كتاب الوجود المفصِح بالبيان العربي. وهكذا فإنّ القرآن وحسب هؤلاء العرفاء هو حقيقة حقائق الوجود كله. • اللسان العربي هو إفصاح لسان الغيب عن الغيب علينا الآن أنَ نشير إلى العناصر الرئيسة التي تشكل معالم بحثنا عن الأفق القرآني الذي تتحدث من خلاله الهوية. يقول الشيخ الأكبر: "فلا تطلق ولا تقيد لتُمَيِّزُه عن التقييد ولو تميز تقيد في إطلاقه ولو تقيد في إطلاقه لم يكن هو، فهو المقيد بما قيد به نفسه من صفات الجلال وهو المطلق بما سمى به نفسه من اسماء الكمال وهو الواحد الحق الجليّ الخفيّ لا إله إلا هو العليّ العظيم". انتهى. لذلك ينبغي أن ننصت إلى إفصاح لسان الغيب عن الغيب بتأمل الآيات القرآنية سواءً منها الآفاقية أو الأنفسية لكي يُعْرِب البيان العربي عن نفسه. إنّ إعراب البيان العربي عن نفسه هو إعراب الشيء عن نفسه الذي هو البيان العربي المبين. 6- الخاتمة • ليست العربية بالنسب نحن لا نعني بالعربية هنا إنتماءً عرقياً أو عنصرياً معيناً بل نعني أفق الآفاق الجامع لحقائق غيب الوجود الذي هو وحي الحق. وقد رُوي في الحديث: "وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم فإنما هي اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي"( ). لذلك وحسب هذا الكلام فإنّ سلمانَ الفارسي هو عربي فارسي وبلالاً هو عربي حبشي. وكذلك يمكننا أن نقول أن سيبويه كان عربياً أكثر من العربِ أنفسهِم، وبدون أي تناقض، لأنّ العربية هنا ليست هي جنساً معيناً بل هي الأفق الذي تتجلى فيه آيات الوجود وشواهده، وهي الإرتباط الأساس الذي يُعَبِرُ عن الوحدة القائمة بين الإنسان والبيان. • عود على بدء: إفتراق لسان الهوية عن حديث الأنية ومن هنا كان إصرارنا وما زال على تسمية Principle of Identity بمبدأ الأنية أو الذاتية لأن المنطلق الأساس في هذا المبدأ هو الحضور المتكلِم عبر "الأنا" المتطابق دائماً مع ذاته مع نسيان كامل للأفق الغيبي الذي يتجلى فيه "الأنا" و"الآخر" وهو الأفق الوحيد الذي يسمح بالجمع بين "الأنا" و"الآخر" في عين الفرق ينهما تماماً كما يظهر "الأنا" و"الأنت" في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ...} في قلب الفاتحة. إنّ ترجمة Principle of Identity بمبدأ الهوية هو نسيان كامل لضمير الشأن وشأنه بل إنّها حتى ليست ترجمة حرفية، ولذلك فنحن نقول إنّه لا يوجد في الفكر الغربي مبدأً للهوية كما إنه لا يوجد في البيان العربي مبدأً للذاتية. إنّ فكر الحضور سوف يؤدي إلى إنفراط عقد الذات نفسها وتفكيكها وتفريغها لكي تتحول إلى ذوات كثيرة هي بالضرورة ذوات نسبية تعبر عن أنيات على مستويات مختلفة. وهكذا فإنه يتم تعريف الفرد على المستوى السياسي بأنه مواطن له وطن معين أو بُقعة معينة من الأرض، ويتم تعريفه على المستوى الإقتصادي بكونه ينتمي إلى طبقة معينة، وهكذا تصبح الهوية حقيقة إعتبارية مجردة تُصنع بمواضعة واتفاق البشر بعضهم مع بعض، ويُنسى مَنْ صنع البشر أولاً. عند إحتجاب الهوية تختفي الوحدة الحقة التي هي أحدية جمع لما تفرق من عقد الأنيات والذاتيات المتكثرة والمتعددة.
| |
|