من مجموعة رسائل الشيخ محيى الدين بن عربي رضي الله عنه
كتاب الألف وهو كتاب الأحدية
بسم الله الرحمن الرحيم
به الحول والقوة
أحدية حمد الواحد في وحدانيته، وحدانية حمد الأحد في أحديته، فردية حمد الوتر في وتريته، وترية حمد الفرد في فرديته، الله اكبر استدرك الناظر النظر، وقف الخاطر بهذا حين خطر، لاح بالتضمين لا بالتصريح وجود البشر، وحدانية حمد الواحد في إثنينيته، فردية حمد الفرد في زوجيته، وترية حمد الوتر في شفعيته، وبقي حمد الأحد واحدا في أحديته صلى الواحد سبحانه على الإنسان الواحد محمد الخارج بعد الضرب الموقوف على صناعة العدد وهكذا الفرد والوتر ما عدا الأحد فإذن عادت الصلاة عليه لما لم تجد ما تستند إليه وسلم من هذا المقام تسليما.
إخوتي الأمناء الأتقياء الأبرياء سلام الله عليكم ورحمته وبركاته اسمعوا وعوا ولا تذيعوا فتقطعوا، هذا كتاب الألف وهو كتاب الأحدية جاءكم به رسوله الواحد لأحديتكم بأحده جاءكم بها رسولها الواحد لتثنيتكم بوحدها ورسولها الفرد لزوجيتكم بفردها ورسولها الوتر لشفعيتكم بوترها فتأهبوا لقدوم رسلها وتحققوا غايات سبلها والله يمدكم بالتأييد آمين.
اما بعد:فإن الأحدية موطن الأحد عليها حجاب العزة لا يرفع أبدا فلا يراه في أحديته سواه تأبى ذلك.
واعلموا أن الإنسان الذي هو أكمل النسخ وأتم النشآت مخلوق على الوحدانية لا على الأحدية لأن الأحدية لها معنى الغنى على الإطلاق ولا يصح هذا المعنى على الإنسان وهو واحد فالوحدانية لا تقوى قوة الأحدية فكذلك الواحد لا يناهض الأحدية لأن الأحدية ذاتية للذات الهوية والوحدانية اسم لها سَمًّتها بها التثنية ولهذا جاء الأحد في نسب الرب ولم يجيء الواحد وجاءت معه اوصاف التنزيه فقال اليهود، لسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)) وقد ظهر هذا من النبي عليه السلام عالم العلماء في دعائه في السفر(إنا نحن نرث الارض ومن عليها والينا يرجعون)). فأين العقول ما لها لا تنظر أين هذا النزول من جري الحق عن أمر العبد من قوله: ((وما قدروا الله حق قدره)) ومن وصفه بالعزة قلت وظهرت الفردية في الأجسام الإنسانية في موضعين في آدم عليه الصلاة والسلام(ومريم ابنة عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)) فصار عيسى عليه الصلاة والسلام لمريم كروح آدم لآدم عليهم الصلاة والسلام وإنما خرج جسما لظهوره في عالم الأجسام فهو أقرب إلى الجسدية منه إلى الجسمانية فشأنه كشأن الأرواح الملكية والنارية إذا تراءت للأبصار تجسدت فوقعت الأبصار على الأجسام وهو في نفسه على روحية الجسدية ما يرى في الخيال في صورة جسدية فقال الله تعالى(خلقه من تراب)) ولم يقل خلقهما، والضمير يعود على أقرب مذكور ومن معرفتنا بالقصة.
فإن آدم عليه الصلاة والسلام خُمِّرَتْ طينته، خَمَّرَتْها اليدُ المقدسة، وكذلك خَمَّر عيسى عليه الصلاة والسلام طينة الطائر الذي خلقه بإذن الله تعالى ينبىء لما وقع التشبيه بينه وبين آدم أن الأمر ليس كما تظنون وأن القوة الروحية لي، وأني جسد وآدم جسد، وأني من اليد اليمنى، وأن آدم من حيث هو آدم من كلتي يديه يمين وهو من حيث أنا من اليد المطلقة، ولهذا قال الله تعالى(يخرج من بين الصلب والترائب))فآدم فرد وحواء واحد وواحد في الفرد ولهذا تكون المرأة أقوى في ستر المحبة من الرجل، ولهذا أقرب إلى الإجابة وأصفى محل، كل ذلك من أجل الوحدانية.
ولما كان الفرد لا يكون إلا بعد ثبوت الإثنين ضعف عن عزَّةِ الوحدانية فقال(والشفع والوتر)) فأقسم بهما ولم يكن له ذلك السريان فجاءت الفهوانية بالوحدانية من جهة غيبها لا من جهة عينها من أجل الوتر أن يقوم بالشفعية فتعارض الوحدانية في السريان وليس له ذلك فقال عز من قائل(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) وقال تعالى (وإلهكم إله واحد)) وكذلك في المقدمات العلمية لتصور المعلومات بالبراهين، ما يتصور قط برهان إلا من مقدمتين، وكل مقدمة من مفردين يكون أحد المفردين خبرا عن الآخر وهذا أيضا لا ينتج فإنه كقولنا السلطان جائر وخالد إنسان فهذه أربعة ولا واحد فيها فلا نتاج، لكن هذه الأربعة، إن لم تكن ثلاثة من وجه من أجل الوحدانية فإنها لا تنتج إلا أن يكون واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين فيكون اذ ذاك ثلاثة فتصح النتيجة فلا بد للإنتاج من وجه خاص به أن يكون الحكم أعم من العلة مساويا لها ولا بد أن يكون على شرط مخصوص وهو أن يتكرر واحد من الأربعة في المقدمتين إن أردت نتيجة الإفادة وإلا فقد يكون الإنتاج بغير فائدة فتكون ثلاثة ليست أربعة.
والغرض من وجود هذا النتاج لا غير لا ظهور الصدق في ذلك ولا الكذب، والصدق والكذب إنما يقع في الأصول التي هي المقدمات فتخبر عن إحدى المقدمتين أو عنهما بما ليس لها أو بما لها وتنسب نسبة كاذبة أو صادقة، وغرضنا من هذا النتاج الذي هو ظهور أعيان الموجودات لا يصح إلا بالواحد الفرد لا بالواحد غير الفرد.
ألا ترى الحق سبحانه هل أوجد العالم من كونه ذاتا فقط أو من كونه واحدا وإنما أوجده من كونه ذاتا قادرة فهذان أمران ذات وكونها قادرة معقول آخر يعقل منه ما لا يعقل من كونه ذاتا، وكذلك التخصيص من كونه ذاتا أو من كونه مريدا أو عالما مثل قولنا في كونه قادرا، ثم عندنا ذاتا وكونها قادرة من غير أن تكون متوجهة للإيجاد هل يظهر شيء، فكونها متوجهة غير كونها قادرة، وهذا حكم ثابت وهو حكم الفرد الواحد فإنا قد أثبتناه أزلا ذاتا قادرة ولا وجود لكون الحكم الثالث الذي هو التوجه لم نثبته فلم الوجود والفعل يستحيل أزلا والقادر لا يستحيل أزلا فتأمل.
وأما ما ذكرناه هناك من نتائج المقدمات فأخاف أن لا تعقل ما ذكرناه حتى أضرب لك منه مثلا فيما ذكرناه شرعيا ليكون أقرب لفهمك لمعرفتك بالدين، فأقول إذا أردت أن تظهر في الوجود أن النبيذ حرام فتقول كل نبيذ مسكر، فهذان اثنان مسكر وحرام، ثم نقول والنبيذ مسكر فهذان اثنان نبيذ ومسكر، فبالضرورة ينتج أن النبيذ حرام بلا خلاف، أعني في النتيجة، لكن هل الحكم صحيح أم لا، أمر آخر يحتاج إلى معرفة أخرى ليس هذا الكتاب محلا لها، وإنما نريد الإنتاج الذي هو ظهور الوجود خاصة بوجود الفرد الواحد فانظر إلى هاتين المقدمتين تجدها مركبة من ثلاثة في أربع مراتب وهو قولك مسكر وحرام ونبيذ ما ثم رابع، لكن تكرر قولك مسكر وهو الواحد المطلوب الذي به يقع النتاج فوجهه المخصوص تكراره.
وأما حكم الشرط المخصوص في هذا الإزدواج أن الحكم أعم من العلة في هذه المسئلة وهو أن العلة الإسكار وأن الحكم هو التحريم والتحريم أعم من الإسكار فإن المحرمات كثيرة منها المسكرات وغير المسكرات فقد بان لك الأمر والشأن في الواحد، وهو كان المطلوب.
ثم إعلموا أنه لما كان الألف يسري في مخارج الحروف كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد كلها لهذا سميناه كتاب الألف وهو قيوم الحروف وله التنزيه بالقبلية وله الإتصال بالبعدية، فكل شيء يتعلق به ولا يتعلق هو بشيء فأشبه الواحد لأن وجود أعيان الأعداد يتعلق به ولا يتعلق الواحد بها فيظهرها ولا تظهره وتشبهه في هذا الحكم الدال والذال والراء والزاي والواو ويشبه في حكم السريان الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها.
وقد ذكرنا هذا كله في كتاب الحروف لنا مستوفى فلينظر هناك، وكما أن الواحد لا يتقيد بمرتبة دون غيرها ويخفي عينه أعني اسمه في جميع المراتب كلها كما قدمنا ذكره كذلك الألف لا يتقيد بمرتبة ويخفي اسمه في جميع المراتب فيكون الإسم هناك للباء والجيم والحاء وجميع الحروف , والمعنى للألف، مثل الواحد فلهذا سميناه كتاب الألف وقد نجز الغرض من هذا الكتاب على قدر ما اقتضاه محل المُخاطب به حين سأل. والله اعلم والحمد لله رب العالمين.