25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية .شرح عبد الرحمن الجامي كتاب فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
شرح الشيخ نور الدين عبد الرحمن ابن أحمد ابن محمد الجامي على متن فصوص الحكم للشيخ الأكبر
الفص الموسوي على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكمالجزء الأول
25 - فص حكمة علوية في كلمة موسوية
قال الشيخ رضي الله عنه : ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى عليه السّلام لتعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قتل لأجله لأنّه قتل على أنّه موسى . وما ثمّ جهل ، فلا بدّ أن تعود حياته على موسى عليه السّلام أعني حياة المقتول من أجله وهي حياة طاهرة على الفطرة لم تدنّسها الأغراض النّفسيّة ، بل هي على فطرة « بلى » . فكان موسى مجموع حياة من قتل على أنّه هو)
فص حكمة علوية في كلمة موسوية
علو قدر موسى عليه السلام ورفعه مقامه بين الأنبياء عليهم السلام أظهر من أن تحتاج إلى البيان ، وكذا كثرة آياته وقوة معجزاته أبين من أن تفتقر إلى البرهان . ومن هذا القبيل ظفره على أعدائه وغلبته على خصمائه ، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى ، ولا شك أن كل واحد من هذه الأمور يكفي في توصيف حكمته بالعلوية ،
فإذا اجتمعت فبالطريق الأولى ( حكمة قتل الأبناء من أجل موسى ليعود إليه ) الظاهر أن يقال : حكمة قتل الأبناء أن يعود أو قتل الأبناء لأن يعود ، فكأن مؤدى الحكمة واللام واحدا فلا يبعد أن يجعل الثاني تأكيدا للأول بحسب المعنى يريد رضي اللّه عنه أن الحكمة في قتل فرعون وأعوانه الأبناء من أطفال بني إسرائيل من أجل موسى أن يعود إلى موسى ( بالإمداد حياة كل من قتل من أجله ) ، أي روحانيته التي هي حقيقة وجودية منصبغة بصفة الحياة ولذلك عبر عنها بالحياة
( لأنه قتل على أنه موسى وما ثم جهل ) ، فهو تعالى يعلم أنه قتل على أنه موسى
( فلا بد أن تعود حياته ) ، أي روحانيته بالإمداد ( على موسى أعني حياة المقتول من أجله ) ، وروحانيته ليجازي قاتله في صورة موسى فإن الوجود مجازي مكافى كل ما ألقى إليه بصورة الفعل ألقى مثله إلى الفاعل في صورة الجزاء وما أشبه كونه مقتولا في صورة موسى توهما بكونه قابلا لقاتله في صورته حقيقة ( وهي ) ،
أي ( حياة ) المقتول وروحانيته ( طاهرة ) باقية ( على الفطرة ) ، التي فطرها اللّه عليها ( لم تدنسها الأغراض النفسية ) ، المانعة لها عن الإمداد ( بل هي على فطرة بلى ) القابلة بها أن يفيض عليها من الرب المطلق ما يمد به موسى في قتل فرعون وأعوانه جزاء وفاقا ( فكان موسى مجموع حياة كل من قتل ) ، وروحانيتهم حين قتل كل واحد منهم ( على أنه هو ) ، أي
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكلّ ما كان مهيّئا لذلك المقتول ممّا كان استعداد روحه له ، كان في موسى عليه السّلام . وهذا اختصاص إلهيّ لموسى لم يكن لأحد قبله .
فإنّ حكم موسى كثيرة فأنا إن شاء اللّه تعالى أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهيّ في خاطري . فكان هذا أوّل ما شوفهت به من هذا الباب .
فما ولد موسى إلّا وهو مجموع أرواح كثيرة وجمع قوى فعّالة لأنّ الصّغير يفعل في الكبير .
ألا ترى الطّفل يفعل في الكبير بالخاصيّة فينزّل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه ويزقزق له ويظهر له بعقله .
فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر ؛ ثمّ يشغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه حتّى لا يضيق صدره . هذا كلّه من فعل الصّغير بالكبير وذلك لقوّة المقام فإنّ الصّغير حديث عهد بربه لأنّه حديث التّكوين والكبير أبعد . فمن كان من اللّه أقرب)
موسى ( وكل ما كان مهيئا لذلك المقتول مما كان استعداد روحه له ) من أسباب الإمداد من الحياة والعلم والقدرة والإرادة وغيرها ( كان مهيأ في ) صورة ( موسى ) ، للانتقام من فرعون وأعوانه .
( وهذا ) ، أي اجتماع أرواح الأبناء المقتولين لإمداد موسى ( اختصاص إلهي لموسى لم يكن لأحد قبله ) وحكمة واحدة من الحكم التي خصه اللّه بها ( فإن حكم موسى كثيرة وأنا إن شاء اللّه أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به ) ، أي باطنها ( الأمر الإلهي في خاطري فهذا أول ما شوفهت به ) ، من الحضرة الإلهية في الصورة المحمدية ( من هذا الباب ) ، أي الفص الموسوي ( فما ولد موسى إلا وهو ) مع ما معه من أرواح أبناء بني إسرائيل بالإمداد والتأييد ( مجموع أرواح كثيرة جمعت قوى فعالة ، لأن الصغير يفعل بالكبير ) ، ويؤثر فيه أفعالا كثيرة وتأثيرات عجيبة ( ألا ترى الطفل يفعل في الكبير ) ويؤثر فيه ( بالخاصية ) ،
وإنما قال بالخاصية لخفاء سبب ذلك الفعل ( فينزل الكبير من رياسته إليه فيلاعبه ويزقزق له ) ، بالزاي المعجمة أي يرقصه ( ويظهر له بعقله ) ، أي ينزل مبلغ عقله ( فهو تحت تسخيره وهو ) ، أي الكبير ( لا يشعر بذلك ثم يشغله ) ، أي الطفل الصغير الكبير ( بتربيته وحمايته وتفقد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره . هذا كله من فعل الصغير بالكبير ، وذلك لقوة المقام فإن الصغير حديث عهد بربه لأنه حديث
قال الشيخ رضي الله عنه : ( سخّر من كان من اللّه أبعد .
كخواصّ الملك للقرب منه يسخّرون الأبعدين .
كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبرز بنفسه للمطر إذا أنزل ويكشف رأسه له حتّى يصيب منه ويقول إنّه حديث عهد بربّه . فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النّبيّ ما أجلّها وما أعلاها وأوضحها . فقد سخّر المطر أفضل البشر لقربه من ربّه فكان مثل الرّسول الّذي ينزل إليه بالوحي فدعاه بالحال بذاته إليه ليصيب منه ما أتاه به من ربّه .
فلو لا ما حصّلت له منه الفائدة الإلهيّة بما أصاب منه ، ما برز بنفسه إليه .
فهذه رسالة ماء جعل اللّه منه كلّ شيء حيّ فافهم .
وأمّا حكمة إلقائه في التّابوت ورميه في اليمّ : فالتّابوت ناسوته ، واليمّ ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مما أعطته القوّة النّظريّة الفكريّة والقوى الحسيّة والخياليّة الّتي لا يكون شيء منها ولا من أمثالها لهذه النّفس الإنسانيّة)
التكوين والكبير أبعد ) ، وكما أن القرب الزماني من المبدأ الحق يوجب قوة التسخير كما في المثال المذكور وكذا القرب بسحب قلة الوسائط وكثرة وجوه المناسبات من القدس والنزاهة يوجب قوة التسخير
وإليه أشار بقوله ( فمن كان من اللّه أقرب سخر من كان من اللّه أبعد كخواص الملك للقرب منه ) ، أي من اللّه بقلة الوسائط وكثرة وجوه المناسبات
( يسخرون الأبعدين . كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبرز نفسه للمطر إذا نزل ويكشف رأسه له حتى يصيب منه ويقول إنه حديث عهد بربه . فانظر إلى هذه المعرفة باللّه من هذا النبي ما أجلها وما أعلاها وأوضحها . فقد سخر المطر أفضل البشر لقربه من ربه فكان ) ،
أي المطر في نزوله من ربه عليه ( مثل الرسول ) ، أي الملك ( الذي ينزل إليه بالوحي فدعاه ) ، أي المطر أفضل البشر ( بالحال ) ، أي بلسان الحال ( بذاته ) ، أي إلى ذاته ونفسه ( فبرز إليه ليصيب منه ما آتاه به من ربه ) من المعاني والأسرار كالإشارة إلى الحياة والعلم والرزق وغير ذلك ( فلو لا ما حصلت له منه الفائدة الإلهية ) ، لفظة ما موصولة وقوله : الفائدة الإلهية بدل أو عطف بيان للموصول أو لضميره ( ما أصاب منه ما برز بنفسه إليه فهذه ) ، أي دعوة المطر أفضل البشر وإتيانه بما آتاه من ربه ( رسالة ما جعل اللّه منه كل شيء حي ) ، حياة صورة طبعية بصورته وحياة معنوية حقيقة نعتا أعني العلم ( فافهم ).
(وأما حكمة إلقائه في التابوت ورميه في اليم فالتابوت ) بلسان الإشارة ( ناسوته ) ، أي صورته الإنسانية ( واليم ما حصل له من العلم بواسطة هذا الجسم مما أعطته القوة النظرية الفكرية والقوى الحسية والخيالية التي لا يكون شيء منها ) من تلك القوى ( ولا من أمثالها لهذه النفس الإنسانية)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( إلا بوجود هذا الجسم العنصريّ .
فلمّا حصلت النّفس في هذا الجسم وأمرت بالتّصرّف فيه وتدبيره ، جعل اللّه لها هذه القوى آلات تتوصّل بها إلى ما أراده اللّه منها في تدبير هذا التّابوت الّذي فيه سكينة الرّبّ .
فرمي به في اليمّ ليحصل بهذه القوى على فنون العلم .
فأعلمه بذلك أنّه وإن كان الرّوح المدبّر له هو الملك ؛ فإنّه لا يدبّره إلّا به ، فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا النّاسوت الّذي عبّر عنه بالتّابوت في باب الإشارات والحكم .
كذلك تدبير الحقّ العالم فإنّه ما دبّره إلّا به أو بصورته .
فما دبّره إلّا به كتوقّف الولد على إيجاد الوالد ، والمسبّبات على أسبابها ، والمشروطات على شروطها ، والمعلولات على عللها ، والمدلولات على أدلّتها ، والمحقّقات على حقائقها . وكلّ ذلك من العالم .)
إلا بوجود هذا الجسم العنصري . فلما حصلت النفس في هذا الجسم وأمرت بالتصرف فيه والتدبير فيه جعل اللّه لها هذه القوى آلات يتوصل بها إلى ما أراده اللّه منها ) ، أي من النفس ( في تدبير هذا التابوت الذي في سكينة الرب ) ، لأن اليقين والعلم الذي يزداد به الإيمان وتسكن به النفس إلى ربها وتطمئن لا يحصل إلا فيها ( فرمى به في اليم ليحصل بهذه القوى على فنون العلم . فأعلمه بذلك ) ،
أي أعلم اللّه سبحانه موسى بما فهم بلسان الإشارة عن إلقائه في التابوت ورميه في اليم ( أنه ) ، أي الجسم ( وإن كان الروح المدبر له هو الملك فإنه لا يدبره إلا به فأصحبه هذه القوى الكائنة في هذا الناسوت الذي عبر عنه بالتابوت في باب الإشارات ) ، الإلهية ( والحكم ) الربانية ( كذلك تدبير الحق العالم فإن ما دبره إلا به أو بصورته فما دبره إلا به ) ، أي فالذي دبره ( كتوقف الولد على إيجاد الوالد و ) كتوقف ( المسببات على أسبابها ) كتوقف السرير على النجار والخشب وتخيله صورته وغايته ولكنه مع ذلك يحتاج إلى عدم المانع ووجود المقتضى وهو المعبر عنه بالشرط ( و ) كتوقف ( المشروطات على شروطها ) ، كما عرفت مثالهما ( و ) كتوقف ( المعلولات على عللها ) التامة كتوقف وجود النهار على طلوع الشمس ( و ) كتوقف ( المدلولات على دلائلها و ) كتوقف ( المحققات ) بصيغة اسم المفعول ، أي الأشخاص ( على حقائقها ) النوعية التي عينها خارجا وعقلا ظاهرا وباطنا ( وكل ذلك من العالم وهو ) ، أي جعل
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وهو تدبير الحقّ فيه فما دبّره إلّا به .
وأمّا قولنا أو بصورته - أعني صورة العالم - فأعني به الأسماء الحسنى والصّفات العلى الّتي تسمّى الحقّ بها واتّصف بها .
فما وصل إلينا من اسم يسمّى به إلّا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم . فما دبّر العالم أيضا إلّا بصورة العالم .
ولذلك قال في آدم الّذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهيّة الّتي هي الذات والصّفات والأفعال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » وليست صورته سوى الحضرة الإلهيّة . فأوجد في هذا المختصر الشّريف الّذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهيّة وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ، وجعله روحا للعالم )
العالم موقوفا بعضه على بعض ( تدبير الحق فيه فما دبره ) ، أي العالم ( إلا به ) ، أي بالعالم .
( وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تسمى الحق بها ) ، باسم حسن ( واتصف بها ) بصفة علياء ( فما وصل إلينا من اسم تسمى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في العالم ) ، ومن البين أن الاسم صورة لمعناه وروحه ، فإذا كان معناه وروحه مما في العالم يكون هو صورة ما في العالم ( فما دبر العالم ) إذ دبر بأسمائه الحسنى ( أيضا إلا بصورة العالم ) ، وكما أن الأسماء الحسنى والصفات العلى صورة العالم كذلك هي صورة الحضرة الإلهية ( ولذلك قال في حق آدم الذي هو البرنامج ) معرب برنامه .
وفي بعض النسخ هو الأنمونامج معرب بمونامه . وعلى التقديرين هو العنوان الجامع لما في صحيفة الكتاب من السلام والأوصاف والأحكام فإن آدم أيضا هو ( الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال : « إن اللّه خلق آدم على صورته » وليست صورته سوى الحضرة الإلهية . فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل ) بعضها عن بعض وإنما قال : وحقائق ما خرج منه في العالم الكبير ، لأن جميع ما في العالم ليست موجودة في الإنسان بحسب صورها بل بحسب حقائقها التي هي بها هي ( وجعله ) ، باعتبار تلك الجمعية ( روحا للعالم ) ، بأن صير ذلك الكثير شخصا واحدا
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فسخّر له العلو والسّفل لكمال الصّورة .
فكما أنّه ليس شيء في العالم إلّا وهو يسبّح اللّه بحمده ، كذلك ليس شيء في العالم إلّا وهو مسخّر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته .
فقال تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ[ الجاثية : 13 ] فكلّ ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه - وهو الإنسان الكامل - وجهل ذلك من جهله ، وهو الإنسان الحيوان .
فكانت صورة إلقاء موسى في التّابوت ، وإلقاء التّابوت في اليمّ صورة هلاك في الظّاهر وفي الباطن كانت نجاة له من القتل . فحيّي كما تحيا النّفوس بالعلم من موت الجهل .
كما قال :أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يعني بالجهل فَأَحْيَيْناهُ يعني بالعلم وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ[ الأنعام : 122 ] وهو الهدى كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ[ الأنعام : 122 ]
وهي الضّلال لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [ الأنعام : 122 ] أي لا يهتدي أبدا : فإنّ الأمر في نفسه لا غاية له يوقف عندها . فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ، فيعلم أنّ الأمر حيرة .)
تصير الروح الأعضاء المتكثرة جسدا واحدا ( فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة ) وجامعيتها الصورة الإلهية والكونية ( فكما أنه ليس من العالم إلا وهو يسبح اللّه بحمده ) ما يعطيه حقيقة ذاته والمسبح مسخر لمن يسبحه ( كذلك ليس شيء من العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته قال تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ[ الجاثية : 13 ] فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل ) ، إذ هو الذي يعلمه بالكشف والوجدان .
( وجهل ذلك من جهله وهو الإنسان الحيوان . فكانت صورة إلقاء موسى في التابوت والقاء التابوت في اليم صورة هلاك في الظاهر وفي الباطن كانت نجاة من القتل . فيحيا موسى بالإلقاء في اليم كما تحيا النفوس بالعلم من موت الجهل . كما قالأَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً يعني بالجهل فَأَحْيَيْناهُ يعني بالعلم وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وهو الهدى كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ وهي الضلال لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [ الأنعام : 122 ] ، أي لا يهتدي أبدا وإنما كان لا يهتدي أبدا فإن الأمر ) ، أي أمر الضلال ( في نفسه لا غاية له يوقف عندها ) فينجو الضال الحائر من ضلالة الجهالة .
( فالهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة ) المحمودة الحاصلة من شهود وحدة التجليات المتكثرة المحيرة للعقول والأوهام وظهور الأنوار الحقيقية العاجزة عن إدراكها البصائر والأفهام وذلك عين الهداية ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : « رب زدني تحيرا » ، أي هداية وعلما
"" كان الشيخ الشبلي رضي الله عنه يقول : يا دليل المتحيرين زدني تحيراً ""
( فيعلم أن الأمر حيرة )
قال الشيخ رضي الله عنه : ( والحيرة قلق وحركة ، والحركة حياة ، فلا سكون ، فلا موت ؛ ووجود ، فلا عدم .
وكذلك في الماء الّذي به حياة الأرض ، وحركتها ، قوله تعالى :اهْتَزَّتْ وحملها ، قوله :وَرَبَتْ [ الحج : 5 ] وولادتها قوله :وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ الحج : 5 ] . أي أنّها ما ولدت إلّا من يشبهها أي طبيعيّا مثلها . فكانت الزّوجيّة الّتي هي الشّفعيّة لها بما تولّد منها وظهر عنها .
كذلك وجود الحقّ كانت الكثرة له وتعدّد الأسماء أنّه كذا وكذا ، بما ظهر عنه من العالم الّذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهيّة . فثبت به وبخالقه أحديّة الكثرة .)
( والحيرة ) فيها ( قلق وحركة والحركة ) فيها ( حياة فلا سكون ) ، فيها ، أي في الحيرة لما فيها من الحركة المنافية للسكون وإذ لا سكون ( فلا موت ) ، فإن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم .
( و ) كما أن الحركة فيها حياة فكذلك فيها ( وجود ولا عدم ) ، لأنهما لا يجتمعان في محل واحد والحاصل أن العلم يعطي الهداية ، والهداية تعطي الحيرة ، والحيرة توجب الحركة ، والحركة فيها الحياة والوجود فلا موت فيها ولا عدم فيعطى العلم التقاء الأبدي ( وكذلك في الماء ) ، أي كحال العلم الحال في الماء ( الذي به حياة الأرض ) كما يدل عليه قوله تعالى :وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ الحج : 5 ] .
( وحركتها ) ، أي حركة الأرض اللازمة لحياتها مما يدل عليه ( قوله :اهْتَزَّتْ وحملها ) الذي أعطاه إنزال الماء عليها إنزال النطفة على المرأة ما يدل
( قوله : (وَرَبَتْ) ، أي ازدادت ( وولادتها ) بعد حملها ما يدل عليه ( قوله :وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ يعني أنها الأمر ما ولدت إلا من يشبهها ) ، ( أي أمرا طبيعيا مثلها ) ، فالروح عبارة عن الولد فإنه روح والده بحسب المماثلة الطبيعية ( وكانت الزوجية التي هي الشفعية ) ، حاصلة ( لها ) ، أي للأرض ( بما تولد منها يظهر عنها كذلك وجود الحق ) ، الذي هو أحديّ العين كالأرض الهامدة ( كانت الكثرة له وتعدد الأسماء أنه كذا وكذا بما ظهر عنه من العالم ) ، ظهور مّا أنبتته الأرض من كل زوج بهيج فإن العالم ( هو الذي يطلب بنشأته ) ، الحاملة للقوابل كلها ( حقائق الأسماء الإلهية ) التي هي كالأرواح الثابتة من أرض تلك القابليات ، ( فثبت ) بالثاء المثلثة كذا في النسخة المقروءة على الشيخ
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وقد كان أحديّ العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولانيّ أحديّ العين من حيث ذاته كثير بالصّور الظّاهرة فيه الذي هو حامل لها بذاته .
كذلك الحقّ بما ظهر منه من صور التّجلّي، فكان الحقّ مجلى صور العالم مع الأحديّة المعقولة.
فانظر ما أحسن هذا التّعليم الإلهيّ الّذي خصّ اللّه بالاطلاع عليه من شاء من عباده .
ولمّا وجده آل فرعون في اليمّ عند الشّجرة سمّاه فرعون موسى : والمو هو الماء بالقبطيّة ، والسّا هو الشّجر فسمّاه بما وجده عنده ، فإنّ التّابوت وقف عند الشّجرة في اليمّ . فأراد قتله فقالت امرأته - وكانت منطقة بالنّطق الإلهيّ - فيما قالت لفرعون ، إذ كان اللّه خلقها للكمال كما قال عليه السّلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الّذي هو للذّكران ، فقالت لفرعون في حقّ موسى : قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [ القصص : 9 ] .)
رضي اللّه عنه . وصححه بعض الشارحين بالنون أي نبت ( به ) ، أي بالعالم ( وبخالقه أحدية الكثرة ) الأسمائية ( وقد كان أحديّ العين من حيث ذاته كالجوهر الهيولاني الذي هو أحدي العين من حيث ذاته كثير بالصور الظاهرة فيه التي هو حامل لها بذاته كذلك الحق سبحانه ) أحديّ العين من حيث ذاته كبير ( بما ظهر منه من صور التجلي ) التي هي الأسماء والصفات.
قال رضي الله عنه : ( وكان ) الحق سبحانه ( مجلى صورة العالم ) ومرآتها فظهرت فيه كثرة صورها المشهورة ( مع الأحدية المعقولة فانظر ما أحسن هذا التعليم الإلهي الذي خص بالاطلاع عليه من شاء من عباده ) وذلك بلسان الإشارة حيث أشار بالأحوال الثابتة للأرض والطارئة لها بعد إنزال الماء عليها إلى أحد عينيته سبحانه وتعالى في حدّ ذاته وأحدية كثرته الثابتة له من حيث ظهور كثرة صورة العالم عنه .
قال رضي الله عنه : ( ولما وجده آل فرعون في اليم عند السحرة سماه فرعون موسى . والمو هو الماء بالقبطية والسّا هو الشجر فسماه بما وجده عنده فإن التابوت وقف عند الشجرة في اليم فأراد قتله فقالت امرأته وكانت منطقة بالنطق الإلهي ) الظاهر فيها من غير تعمد واختيار ولهذا كانت صادقة ( فيما قالت لفرعون إذ كان اللّه خلقها للكمال كما قال عليه السلام عنها حيث شهد لها ولمريم بنت عمران بالكمال الذي هو للذكران ) ، قال صلى اللّه عليه وسلم : « كمل من النساء أربع : مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة رضي اللّه عنهن » رواه البخاري
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فبه قرّت عينها بالكمال الّذي حصل لها كما قلنا ؛ وكان قرّة عين لفرعون بالإيمان الّذي أعطاه اللّه عند الغرق .
فقبضه طاهرا مطهّرا ليس فيه شيء من الخبث لأنّه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام . والإسلام يجبّ ما قبله . وجعله آية على عنايته سبحانه لمن شاء حتّى لا ييأس أحد من رحمة اللّهإِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ[ يوسف : 87 ] فلو كان فرعون ممّن ييأس ما بادر إلى الإيمان .)
(فقالت لفرعون في حق موسى إنه :"قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ" فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها كما قلنا وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه اللّه عند الغرق لقبضه طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث ، لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام والإسلام يجب ما قبله ) كما قال صلى اللّه عليه وسلم : « الإسلام يجب ما قبله » رواه مسلم و ابن حبان ومسند أحمد وأبي داود ومنبع الزوائد الهيثمي وغيرهم .
والتوبة تجب ما قبلها أي يقطعان ويمحوان ما كان قبلهما من الكفر والمعاصي والذنوب
( وجعله آية على عنايته سبحانه لمن شاء ) من عباده كما قال تعالى : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [ يونس : 92 ] .
( حتى لا ييأس أحد من رحمة اللّه فإنه لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون ) ، وفي حصر اليأس في الكافرين دلالة على عدم دخول فرعون فيهم ( فإنه لو كان ممن ييأس من رحمة اللّه ما بادر إلى الإيمان ) .
ثم قد رشح في نفوس العامة شقاوة فرعون وكفره ودخوله النار خالدا بما ثبت عنه قبل الغرق من المعاداة لموسى وبما قال :أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى[ النازعات : 24 ] .
وبقوله : ما علمت لكم من اله غيري وغيره من أقواله وأفعاله السيئة إذ ذاك ، ولكن القرآن أصدق شاهد بإيمانه عند الغرق قبل أن يغرغر وتظهر أحكام الدار الآخرة عليه بعد تعطيل قواه الحسية ، فإن ذلك هو الذي لا يعتبر شرعا بل حال يمكنه من النطق من الإيمان ، و
علمه بأن النجاة في ذلك فقال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، وهذا إخبار صحيح لا يدخله النسخ ولا نص على عدم قبول إيمانه هذا ،
فإن الآيات التي يستدل بها أهل الظاهر على عدم قبول إيمانه قابلة للتأويل على وجه لا ينافي قبول إيمانه كما أولها بعض الشارحين ،
ثم أن هذا الكلام لما كان تفرد به الشيخ رضي اللّه عنه بين أئمة الإسلام مع رسوخ اعتقاد كفر فرعون وعباده في النفوس شنع عليه القاصرون وبالغوا في إنكاره فلا حاجة إلى تلك المبالغة فإنه لا مبالغة رضي اللّه عنه ،
كذلك يقول في آخر هذا الفص : هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن ثم إنا نقول بعد ذلك والأمر فيه إلى اللّه لما استقر في نفوس عامّة الخلق من شقائه.
وما لهم نص في ذلك يستندون إليه .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( فكان موسى عليه السّلام كما قالت امرأة فرعون فيه :قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا [ القصص : 12 ] .
وكذلك وقع فإنّ اللّه نفعهما به عليه السّلام وإن كانا ما شعرا بأنّه هو النّبيّ الّذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله .
ولمّا عصمه اللّه من فرعون وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [ القصص : 10 ] من الهمّ الّذي كان قد أصابها .
ثمّ إنّ اللّه حرّم عليه المراضع حتّى أقبل على ثدي أمّه فأرضعته ليكمّل اللّه لها سرورها به .
كذلك علم الشّرائع ، كما قال تعالى :لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً أي طريقا )
(فكان موسى عليه السلام كما قالت امرأة فرعون فيه إنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وكذلك وقع فإن اللّه نفعهما به عليه السلام وإن كانا ما شعرا بأنه هو النبي الذي يكون على يديه هلاك ملك فرعون وهلاك آله .
ولما عصمه اللّه من فرعون وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً [ القصص : 10 ] من الهم الذي كان قد أصابها ثم إن ) من جلة الاختصاصات والنعم التي كانت في حق موسى وأمه أن ( اللّه حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ليكمل اللّه سرورها به كذلك ) ، أي كما حرم اللّه عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه
كذلك ( حرم على الشرائع ) التي نسخت بشريعته عليه حتى أقبل على الأصل الذي منه جاء ( كما قال تعالى : لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً) ، أي
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وَمِنْهاجاً [ المائدة : 5 ] . أي من تلك الطّريقة جاء . فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الّذي منه جاء . فهو غذاؤه كما أنّ فرع الشّجرة لا يتغذّى إلّا من أصله.
فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر يعني في الصّورة : أعني قولي يكون حلالا ، وفي نفس الأمر ما هو عين ما مضى ، لأنّ الأمر خلق جديد ولا تكرار . فلهذا نبّهناك .
فكنّى عن هذا في حقّ موسى بتحريم المراضع .
فأمّه على الحقيقة من أرضعته لا من ولدته ، فإنّ أمّ الولادة حملته على جهة الأمانة فتكوّن فيها وتغذّى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان ، فإنّه ما تغذّى إلّا بما لو لم يتغذّ به ولم يخرج عنها ذلك الدّم لأهلكها . )
طريقة ( ومنهاجا ) فسر الشريعة بالطريق والمنهاج أيضا هو الطريق ، لكن عند الوقف يصير منهاجا فتشبه الكلمتين إحداهما منها والأخرى جاء فيمكن أن يفهم من يفهم لسان الإشارة المعنى الذي ذكره ، وفهم هذا المعنى لا يتوقف على قراءة بعض القراء جاء بالمد ،
ولهذا قال : ( أي من تلك الطريقة جاء فكان هذا القول إشارة إلى الأصل الذي منه جاء ) ، إلى هذا العالم وليس إلا الحق ( فهو ) ، أي الأصل الذي منه جاء هو ( غذاؤه ) ، أي ما يتغذى منه ( كما أن فرع الشجرة لا يتغذى إلا من أصله ) ولما أشار إلى أن شريعته نسخة الشرائع الأخر وذلك النسخ لا يكون إلا بتحليل ما كان حراما يكون بعينه حلالا .
أشار إليه بقوله : ( فما كان حراما في شرع يكون حلالا في شرع آخر ) ، وبالعكس ( يعني في الصورة أعني قولي يكون حلالا ) ، يعني حكم أن ما كان حراما يكون بعينه حلالا إنما هو في الصورة ، ( ولكن في نفس الأمر ما هو ) أي ليس الذي هو حلال آخر ( عين ما مضى ) وكان حراما ( لأن الأمر ) ، أي أمر الوجود
( خلق جديد ولا تكرار ) في المتجلي الوجودي مع الآنات فكيف مع الدهور والأعوام فليس أحدهما عين الآخر بل مثله ( ولهذا ) ، أي لأن الأمر خلق جديد ( نبهناك ) على أن الاتحاد بينهما إنما هو بحسب الصورة لا بحسب نفس الأمر ( فكنى ) اللّه سبحانه ( عن هذا ) ، أي عن عدم تغذيته إلا من أصله
( في حق موسى بتحريم المراضع فأمه على الحقيقة من أرضعته ) وإن لم تك لا من ولدته ولم ترضعه وهذا بحسب الفرض والتقدير ، لأن ما أرضعته إلا أم ولادته وإنما قلنا أم الولد من أرضعته
( لا من ولدته فإن أم الولادة حملته على جهة الأمانة فتكوّن فيها وتغذى بدم طمثها من غير إرادة لها في ذلك حتى لا يكون لها عليه امتنان فإنه ما تغذى إلا بما أنه لو لم يتغذ به ولم يخرج عنها)
قال الشيخ رضي الله عنه : ( وأمرضها ، فللجنين المنّة على أمّه بكونه تغذّى بذلك الدّم فوقاها بنفسه من الضّرر الّذي كانت تجده لو امتسك هذا الدّم عندها ولا يخرج ولا يتغذّى به جنينها والمرضعة ليست كذلك . فإنّها قصدت برضاعته حياته وإبقاءه . فجعل اللّه تعالى ذلك لموسى في أمّ ولادته ، فلم يكن لامرأة عليه فضل إلّا لأمّ ولادته لتقرّ عينها أيضا بتربيته وتشاهد انتشاءه في حجرها ،وَلا تَحْزَنَ[ طه : 40 ] .
ونجّاه اللّه تعالى من غمّ التّابوت ، فخرق ظلمة الطّبيعة بما أعطاه اللّه من العلم الإلهيّ وإن لم يخرج عنها .
وفتنه فتونا أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقّق في نفسه صبره على ما ابتلاه اللّه به .
فأوّل ما ابتلاه اللّه قتله القبطيّ بما ألهمه اللّه ووفّقه له في سرّه وإن لم يعلم بذلك ، ولكن لم يجد في نفسه اكتراثا بقتله مع كونه ما توقّف حتّى يأتيه أمر ربّه بذلك ، لأنّ النّبيّ معصوم الباطن من حيث لا يشعر حتّى ينبّأ أي يخبر بذلك .)
ولأمرضها وللجنين المنة على أمه بكونه تغذى بذلك الدم فوقاها بنفسه من الضرر الذي كانت تجده لو امتسك ذلك الدم عندها ولا يخرج ولا يتغذى به جنينها والمرضعة ليست كذلك فإنها قصدت بإرضاعه حياته وإبقاءه فجعل اللّه ذلك لموسى في أم ولادته فلم يكن لامرأة عليه فضل إلا لأم ولادته لتقرّ عينها بتربيته وتشاهد انتشاءه في حجرها ولا تحزن ونجاه اللّه من غم التابوت ) .
غم التابوت إشارة إلى ظلمة الطبيعة والنجاة منها إنما يكون بالعلم ؛ ولذلك قال :
( فحرق ظلمة الطبيعة بما أعطاه اللّه من العلم الإلهي وإن لم يخرج منها ) ، فالخلاص منها بالكلية لا يتيسر في هذه النشأة ( وفتنه فتونا ) ، إشارة إلى قوله : وفتناه والتلاوة وفتناك فتونا ، ( أي اختبره في مواطن كثيرة ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه اللّه . فأول ما ابتلاه اللّه به قتله القبطي بما ألهمه اللّه ووفقه له في سره ) متعلق بالهمة ( وإن لم يعلم بذلك ) الإلهام والتوفيق .
( ولكن ) كان فيه علامة على ذلك وهو أنه ( لم يجد في نفسه اكتراثا ) يعني مبالاة ( بقتله مع كونه ما توقف حتى يأتيه أمر ربه بذلك ) الفعل يعني القتل كما هو مقتضى منصب النبوة فعدم مبالاته بقتله مع عدم انتظاره الوحي علامة كونه ملهما به في السرور وألا ينبغي أن تعتريه وحشة عظيمة من ذلك الفعل
وإنما قلنا : إنه عليه السلام كان ملهما في قتل القبطي ( لأن النبي معصوم الباطن ) ، أي باطنه معصوم عن أن يميل إلى أمر لم يكن مأمورا به من عند ربه ( وإن كان في السر من حيث لا يشعر حتى ينبأ أي يخبر بذلك ) ، أي بأن ذلك الأمر مأمور به في السر .
قال الشيخ رضي الله عنه : ( ولهذا أراه الخضر قتل الغلام فأنكر عليه قتله ولم يتذكّر قتله القبطيّ فقال له الخضر وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي[ الكهف : 82 ] ينبّهه على مرتبته قبل أن ينبّأ أنّه كان معصوم الحركة في نفس الأمر وإن لم يشعر بذلك وأراه أيضا خرق السّفينة الّتي ظاهرها هلاك وباطنها نجاة من يد الغاصب . جعل له ذلك في مقابلة التّابوت الّذي كان في اليمّ مطبقا عليه . فظاهره هلاك وباطنه نجاة .
وإنّما فعلت به أمّه ذلك خوفا من يد الغاصب فرعون أن يذبحه صبرا وهي تنظر إليه .
مع الوحي الّذي ألهمها اللّه تعالى به من حيث لا تشعر . فوجدت في نفسها أنّها ترضعه .
فإذا خافت عليه ألقته في اليمّ فإنّ في المثل « عين لا ترى قلب لا يفجع » فلم تخف عليه خوف مشاهدة عين ، ولا حزنت عليه حزن رؤية بصر ، وغلب على ظنّها أنّ )
.
يتبع