حكاية عشق ملك لاحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري على مدونة عبدالله المسافر
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي
حكاية عشق ملك لاحدى الجواري وشراء الملك هذه الجارية
عجز الحكماء
كان هناك ملك في سالف الزمان ، دان له ملكُ الدنيا وملكُ الدين .وذات يَوم ركب هذا الملك مع خواصّه من أجل الصيد .فرأى جارية على الطريق السلطاني ، فصارت روحه أسيرةً لهذه الجارية .وحين وقع طير روحه في القفص ، دفع المال واشترى تلك الجارية .40 - فلما اشتراها ، وقرّ بها عيناً ، أصابها القضاء بالمرض .لقد كان لديه حمار لا سرج له ، فلما وجد السرج أكل الذئب الحمار ! وكان لديه إناءُ ولكن لا سبيل له إلى الماء ، فلما وجد الماء انكسر الإناء !
“ 93 “
فجمع الملك الأطباء من كل حدب وصوب ، وقال لهم : “ إنّ روح كلينا في أيديكم .
فأما روحي فيسيرةُ ، ولكنّ هذه الجارية روح روحي ، وأنا مريضُ عليل وهي دوائي .
45 - فكل من أجرى علاجاً لروحي ، نال كنزي ودُرّي ومرجاني “ .
فقالوا جميعاً له : “ إنّنا سوف لا نبالي بأرواحنا ، وسوف نجمع أفهامنا ، ونتعاون معاً ( لإدراك تلك الغاية ) .
فكلّ واحد منا مسيحُ العالم ، ولكل ألم دواء عندنا “ .
وكان من غرورهم أنْ لم يقولوا : “ إن شاء اللَّه “ ، فأظهر لهم اللَّه عجز البشر .
إنّ ترك “ الاستثناء “ “ 1 “ عندي قسوة ، ولست أعني به مجردّ القول الذي هو حالةُ عارضة ، ( لا يؤمن بها القلب ) .
50 - فكم من متكلم لا يأتي في قوله بعبارة “ الاستثناء “ ومع هذا فروحه مقترنة بروح تلك العبارة .
فكل ما صنعوه عن علاج ودواء ، كان يزيد من الألم ولا يتحقق معه الشفاء .
فأصحبت هذه الجارية من المرض في نحول الشعرة ، وكانت عينا الملك ، تفيضان كالنهر بالدموع الدامية .
وشاء القدر أن يزيد مزيج الخل والعسل “ 2 “ من الصفراء ، ويزيد
...............................................................
( 1 ) الاستثناء هنا يُقصد به تعليق الإنسان إرادته على إرادة اللَّه .
( 2 ) مزيج الخل والعسل كان يستخدم لمعالجة الصفراء .
“ 94 “
زيت اللوز من يبوسة الجوف .
وسببت الهليلة “ 1 “ القبض للجارية - وهي التي تُحدث الإطلاق
وأصبح الماء يزيد من حرارتها كأنّه نفط .
كيف ظهر الملك عجز الحكماء عن معالجة الجارية ،
وكيف توجه الملك إلى حضرة اللَّه فرأى وليّاً في المنام
55 ولما رأى الملك عجز هؤلاء الحكماء ، جرى عاريَ القدمين نحو المسجد .ودخل المسجد واتجه نحو المحراب ، وابتلّ مكان السجود بماجرى من دمعه .فلما أفاق من الغرق في لجة الفناء ، أَطلق لساناً جميلًا بالمدح والثناء .(فقال ) : “ يا من أَقلّ عطائه ملكُ الدنيا ! ماذا أقول وأنت تعلم السر وأخفى ؟يا من هو على الدوام ملجؤنا عند الحاجة ، إنّا ضلنا السبيل مرة أخرى “ 2 “ .60 - ولكنّك أنت قد قلت : “ إنّني أعرف سرَّك ، فسارع إلى إعلانه “ .فلما ارتفع الصياحُ من أعماق روحه ، جاش بحرُ العطاء ................................................................( 1 ) دواء مسهل .( 2 ) يقصد بضلال السبيل هنا للجوء إلى غير اللَّه .“ 95 “ وبينما هو يبكي غلبه النوم ، فرأى في النوم شيخاً يظهر أمامه .وقال له الشيخ : “ أيّها الملك ! أبشر فإن حاجتك سوف تُقضى ، إذا جاءك في الغد رجلُ غريب من عندنا .فحينما يجيئك فهو حكيم حاذق ، فاعلم أنّه صادق ، لأنّه أمين صادق .65 - فانظر السحرّ المطلق ، في علاجه ! وتأمّل قدرةَ الحق في مزاجه ! “ 1 “ .فلما طلع النهار وحان الموعد ، وبزغت الشمس من المشرق فاحترقت النجوم .كان الملك يجلس في البهو منتظراً ، ليري ( مصداق ) ما أُظهر له من السرّ .فرأى شخصاً فاضلًا كان أصيلًا ، كأنّه شمس بين الظلال .كان يقترب من بعيد كأنّه الهلال ، وكان لرّقته كأنّه غير موجود ، فقد كان وجوده مثل الخيال .70 - إنّ الخيال في الروح مثل العدم ، ( ومع هذا ) فلتنظر إلى هذا العالم ، كيف أنّه يدور على الخيال !فعلى الخيال يقوم ما بين الناس من صلح أو صراع ، ومن الخيال ما يَعدُّه الناس فخراً وما يعدونه عاراً .
ولكنّ هذه الخيالات التي هي حبائل للأولياء ، ليست إلا صورةً للحسان في بستان اللَّه .
وذلك الخيالُ - الذي رآه الملك في النوم - كان على الدوام يتجلّى
..............................................................
( 1 ) المزاج هنا يمزجه الطبيب من مواد لصنع دوائه .
“ 96 “
في طلعة ضيفه .
فتقدم الملك إلى مكان الحُجَّاب ، ومثل أمام ذلك الضيف الذي جاء من الغيب .
75 - كان كلُ منهما سبّاحاً عالماً : فاتصلت روحاهما دون رابطة مادّية “ 1 “ .
وقال له : “ إنّك كنت معشوقى لا تلك الجارية ! لكنَّ الأمور يُظهر بعضُهاً في هذه الدنيا .
يا من أنت لي كالمصطفى وأنا كعمر ، هأنذا أربط حزامي وأقف أمامك للخدمة “ .
الدعاء إلى اللَّه ولي التوفيق أن يوفقنا لرعاية الأدب في جميع الأحوال
وبيان وخامة الأضرار التي تنجم عن فقدان الأدب
إنّا نرجو من اللَّه أنْ يوفقنا للأدب ، فإن من لا أدب له يبقى محروماً من لطف الربّ .
إنّ من لا أدب له لا يقتصر أذاه على نفسه ، وإنما هو يشعل النار في جميع الآفاق .
80 - لقد كانت مائدة تنزل من السماء بدون عناء ، وبدون بيع أو شراء .
...............................................................
( 1 ) المعنى الحرفي فاتصلت روحاهما دون خيط . وقد جاء في الحديث قول الرسول عليه السلام :
“ الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف “ . “ 97 “ولكنّ جماعةً من بين قوم موسى قالوا بوقاحة : “ أين الثوم والعدس ؟ “ .فانقطع عنهم خبزُ السماء ومائدتها ، وبقي لهم عناء الزراعة والكدح بالفأس والمنجل .ولكنْ عندما شفع عيسى لدى الحق ، أرسل لهم الخوان والغنيمة على الطبق .فعاد أهل الوقاحة إلى ترك الأدب ، وتخاطفوا الطعام كالشحّاذين .85 - فناداهم عيسى قائلًا : “ إنّ هذه المائدة دائمة ، ولن ينقطع ورودها إلى الأرض “ .إنّ سوء الظن والحرص - أمام مائدة العظيم - كفر .لقد أغلق بابُ الرحمة على الناس من جرّاء هؤلاء الذين بدوا كالشّحاذين وقد أعماهم الحرص .إنّ السحب لا تجيء إذا مُنعت الزكاة ، ومن الزنا يقع الوباء في جميع الجهات .فكل ما أصابك من ظلمات وغم ليس إلا نتيجة للتبجح والتوقح .90 - وكل من أبدى توقحاً في طريق الحبيب ، فهو قاطع طريق الناس ، ولا رجولة عنده .فمن الأدب امتلأ بالنور الفلك ، ومن الأدب صارت العصمةُ والطهر صفات الملك .ومن الوقاحة كان كسوف الشمس ، ومن الجرأة رُدّ عزازيلُ “ 1 “ عن الباب ...............................................................( 1 ) عزازيل اسم إبليس قبل سقوطه والشاعر يريد هنا أنه رُدّ عن باب اللَّه لتوقحه .“ 98 “لقاء الملك للطبيب الالهيّ الذي بُشِّر بلقانه في المنام
فتح الملك ذارعيه وعانق الضيف ، ووقع في قلبه وروحه إحساس كأنه العشق .فأخذ يُقبّل يده وجبينه ، ويسأله عن المقام والطريق .95 وقاده - وهو يسائله - إلى صدر المجلس ، وقال : « لقد وجدت آخر الأمر كنزاً لقاءَ صبري » .ثم قال : « يا هدّية الحقّ ويا دافع الحرج ! ويا من هو معنى ( الصبر مفتاح الفرج ) ! يا من لقاؤء جوابُ لكلّ سؤال ! إنك قد حللت مشكلتي بدون قيل وقال !
إنك الترجمان لكلّ ما في قلوبنا ، وإنك الآخذ بيد من زلَّت في الطين قدمه !
مرحباً يا مجتبى يا مرتضى * إنْ تغب جاء القضاء ضاق الفضا " 1 "
100 - أنت مولى القوم من لا يشتهي * قد رَدَى كّلًا لئن لم ينته
كيف أدخل الملك الطبيبَ إلى المريضة ليرى حالها
وحين انقضى هذا المجلس وانفضّ خوان الكرم ، أمسك بيده وقاده إلى مقر الحريم .
...............................................................
( 1 ) هذا البيت والذي يليه عربيان في الأصل . ويلاحظ فيهما وفي غيرهما من الأبيات العربية في المثنوي أن مستوى ما ينظمه الشاعر بالعربية أقلّ بكثير من مستوى شعره الفارسي .
“ 99 “
وقصّ عليه قصّة المريضة ومرضها ، ثم أجلسه بعد ذلك أمام المريضة .
ففحص لون وجهها ، ونبضها وقارورتها ، واستمع إلى وصف عوارض مرضها وأسبابه .
وقال : “ إنّ كلّ ما قدّموه من علاج لم يكن سبيلًا للشفاء ، بل هم قد زادوها مرضاً .
105 - إنّهم لم يكونوا على علم بحال باطنها ، أعاذنا اللَّه مما يفترون “ .
لقد رأى العلّة وانكشف له ما كان خافياً ، ولكنه أخفى الأمر على السلطان ، ولم يقل شيئاً .
فلم تكن علتها من السوداء ولا الصفراء ، فإنّ رائحة كل حطب تظهر في دخانه .
لقد رأى من أَنينها أنّها مريضةُ القلب ، وأنّ الجسم بخير ولكنها أسيرة القلب .
فإن العشق يظهر في أنين القلب ، وليس هناك مرض مثل مرض القلب .
110 - وإنّ علة العاشق لمتّميزة عن سائر العلل ، فالعشق هو أصطرلاب “ 1 “ أسرار اللَّه .
وإذا كان العشق من هذا الجانب أو ذاك ، فإنه في عاقبة الأمر يهدينا إلى تلك الناحية .
وكل ما أقوله في شرح العشق وبيانه ، أخجل منه عندما أواجه العشق ذاته .
...............................................................
( 1 ) آلة صغيرة كانت تستخدم لمراقبة مواقع الأجرام السماوية .
“ 100 “
فإن كان تفسير اللسان ينير السبيل ( لمعرفة الحقيقة ) ، فإن العشق - بدون اللسان - أفصح من أيّ بيان .
فبينما القلم مندفعُ في الكتابة ، إذا به ينشقّ على نفسه حين جاء إلى العشق !
115 - والعقلُ في شرح العشق مثل حمار نام في الوحل ، فالعشق نفسه هو الذي يشرح لنا العشق وفعله .
إن الشمس هي دليل الشمس ، فإذا كنت بحاجة إلى الاهتداء بها فلا تحوّل وجهك عنها .
وإنْ كان الظل يقدّم لك علامة لهذه الشمس ، فإنّ الشمس الخالدة “ 1 “ تُلقى عليك نوراً روحيّاً .
والظلّ مثل السمر يأتيك بالنوم ، وحين تطلع الشمس ينشقّ القمر .
وليس في هذه الدنيا غريبُ مثل الشمس . وشمسُ الروح باقية لا أمس لها .
120 - والشمس الظاهرة - وإن كانت فريدة - فإننا نستطيع أن نتصور مثيلًا لها .
أما الشمس الروح التي خرجت من الأثير ، فليس لها في الذهن ولا في العالم الظاهريّ نظير .
وأين التصور الذي يتسع لذاتها حتى يكون من المستطاع تصورّ مثلها .
وحين جاء حديث وجه شمس الدين “ 2 “ حجبت شمسُ السماء الرابعة وجهها .
...............................................................
( 1 ) شمس الروح الخالدة التي لا يمكن أن يعتريها ظل .
( 2 ) يقصد أستاذه وصديقة شمس الدين التبريزي .
“ 101 “
وما دام اسمه قد ذُكر ، فقد وجب علينا أن تقوم بشرح رمزٍ من إنعامه .
125 - فهذا الشذى قد جذب انتباه روحي ، إذ وجدت فيه رائحة قميص يوسف .
فبحقّ الصحبة ( التي جمعتكما ) سنين ، اذكر لنا حالًا من أحواله الطيبّة .
حتى تضحكَ الأرضُ والسماء ( في نشوة ) ، وتزداد قدرة العقل والروح والعين مائة مرة .
لا تكلفّني فإنّي في الفنا * كلّت افهامي فلا أُحصي ثنا “ 1 “
كلّ شيء قاله غير المفيق * إن تكلّف أو تصلّف لا يليق “ 2 “
130- وماذا أقول ، وليس فىّ عرق واع ، ليشرح حال ذلك الرفيق الذي لا ندّ له .
فدع شرح هذا الهجران ، وحديث القلب الدامي إلى وقت آخر .
قال أطعمني فإنّي جائع * واعتَجلْ فالوقت سيف قاطع “ 3 “
فالصوفىّ ابن الوقت أيها الرفيق ، وليس قولك “ غداً “ من شرط الطريق .
أم لعلك لست برجل صوفي ، فالنسيء يجعل الموجود كالعدم .
135 - فقلت له إنّ الأفضل سترُ سر الحبيب ، فلتُصغ إلى المغزى
...............................................................
( 1 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 2 ) هذان البيتان عربيان في الأصل .
( 3 ) هذا البيت عربي الأصل .
“ 102 “
الذي تنطوي عليه القصة .
وخير لنا أن يجيء سرّ الأحبة في حديث الآخرين .
فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً لا غلائل “ 1 “ فوقه ، يا أبا الفضائل !
وارفع النقاب وبح بالقول ، فإنّي لا أخلو بالحبيبة وهي مرتدية قميصها .
قلتُ إنه لو ظهر عريان للعيان ، فلن تبقى أنت ولا جانباك ولا وسطك .
140 - فلتكن ذا أمل ولكنْ قف عند حد في أمَلك ، فإنّ القشّة لا تستطيع أن تحتمل الجبل .
فهذه الشمس التي تضيء العالم لو اقتربت منه قليلًا لأحرقت كل ما فيه .
فلا تبَحثْ عن الفتنة والثورة وإراقة الدماء ، ولا تقل أكثر من هذا عن شمس تبريز .
فهذا الحديث لا آخر له ، فلتبدأ القول من جديد وتتمّ هذه القصة .
كيف طلب الوليّ من الملك أن يُتيح له الخلوة مع الجارية حتى يدرك مرضها
قال الحكيم : “ أيها الملك أخل المنزل ، وأبعد الأقارب والأجانب .
145 ويجب ألا تكون في الدهليز أذنُ تسمع حتى أسأل هذه الجارية
...............................................................
( 1 ) لم أجد في القاموس جمع غلالة بغلول وهي الكلمة التي استخدمها الشاعر في قوله ، “ گفت مكشوف وبرهنه بي غلول “ ولكن يحتمل أن الشاعر قد جمع غلالة على هذا النحو . والمعنى الذي ذكره القاموس لغلول هو “ خيانة “ . ولو فسر هذا اللفظ على هذا النحو لكانت الترجمة على النحو الآتي ، “ فقال حدثني حديثاً مكشوفاً عارياً دون خيانة “ .
“ 103 “
عن أشياء “ .
فبقيت الدار خالية ، ليس بها ديّار ، سوى الطبيب والمريضة .
وقال الطبيب بلطف ورقة للمريضة : “ إلى أيّ بلدة تنتمين ؟ إنّ العلاج يختلف باختلاف البلاد .
ومن لك من الأقرباء في تلك المدينة ؟ وبمن لك قرب واتصال ؟ “ .
ووضع يده على نبضها ، وأخذ يوجّه إليها السؤال بعد السؤال عن جور الدهر .
150 - إنّ الإنسان إذا ما أصابت قدمه شوكة ، فإنّه يضع قدمه فوق ركبته .
ويظلّ يفتش بحدّ الإبرة عن رأس الشوكة ، فإذا لم يجدها يبلّلها بريقه .
فإذا كانت شوكة في القدم تسبِّب هذه الشدة ، فما بالك بشوكة في القلب ؟ ألا فلتُجبْ !
ولو كان خسيس يرى الأشواك التي تصيب القلوب ، لما استطاعت الهموم أن تصيب إنساناً .فإنه لو وضع شخص شوكة تحت ذيل حمار ، فإنّ الحمار لا يستطيع دفع ذلك ، فيقفز . 155 ويظل يقفز فترداد الشوكة إيغالا ، فلا بد من عاقل لينتزعها .ويظل الحمار - لشدة ألمه وتحرقه - يضرب الأرض بسيقانه للخلاص من تلك الشوكة ، فيجرح نفسه في مائة موضع .وقد كان هذا الحكيمُ مقتلعُ الأشواك أستاذاً ، فمدّ يده وأخذ يفتش عن مكان الداء .لقد ظل يستفسر بطريق الحكاية من هذه الجارية عن أحبتها . “ 104 “فباحث للحكيم بقصص عن مقامها وسادتها ومدينتها وضواحيها .160 - فكان يُصغي إلى القصة التي ترويها بأذنيه ، بينما هو قد ألقى بانتباهه إلى نبضها ، وفحص ضرباته .حتى إذا اضطرب نبضها عند ذكر اسمٍ ( علم أنّ ) صاحبة غاية روحها في هذا العالم .فعدّدت أصدقاء في بلدتها ، ثم ذكرت بعد هذا مدينة أخرى .فسألها الحكيم : “ كيف خرجت من مدينتك ؟ وفي أية بلدة طالت إقامتك ؟فذكرتْ اسم مدينة ، ولكنهّا مرّت بذكرها دون أن يتغير لونُ وجهها أو نبضُها . 165 - وعادت تتحدّث عن السادة وعن البلاد واحدة إثر أخرى ( ذاكرةً ) الأماكن والخبز والملح .وأخذت تحدّثه عن المدن واحدةً واحدةً ، وتَروي له خبر المنازل منزلًا منزلًا ، فلم يضطرب لها عرق ، ولا اصفرّ وجه .كان نبضها لا ينبئ بشيء عن سوء حالها ، حتى سألها عن سمرقند الحلوة كالسكر .فاضطرب نبضها ، وأخذ وجهها يحمرّ ويصفرّ ، إذ أنها كانت قد فارقت صائغاً من سمرقند .وعندما أدرك الحكيم هذا السرّ من المريضة ، عرف أصل الألم والبلاء .170 وقال : “ أين محلة هذا الصائغ ؟ فقالت : “ إنّه ( يسكن ) عند رأس الجسر بمحلة غاتفر “ . “ 105 “فقال الحكيم : “ لقد عرفتُ السرّ في مرضك ، ولن ألبث حتى أُظهر في علاجك منه ألوان السحر .فاهنئي واطمئني ، وقرّي عيناً ، فإنيّ صانع بك ما تصنعه الأمطار بالمروج .ولسوف أحمل همّك فلا تغتمي ، فإنّي أكثر إشفاقاً عليك من مائة أب .ولكنْ حذار أن تذيعي هذا السرّ لإنسان ، حتى ولو أكثر الملك سؤالك ، والاستفسار منك .175 - فإنّه إذا أصبح قلبُك مقبرةً لسرّك ، عجلّ ذلك بتحقيق مرادك .فقد قال الرسول : إنّ كلّ من أخفى سرّه سرعان ما يتحقق له مراده “ “ 1 “ .والبذور عندما تختفي تحت الأر ، تصبح هي السرّ في اخضرار صفحة البستان .وكيف كان الذهب والفضة ينضجان في المنجم لو لم يختفيا في جوف الثرى ؟ولقد جعلتُ وعودُ الحكيم وألطافه هذه الجارية آمنة من الخوف .180 فالوعود الصادقة تلقى قبولًا من القلب ، وأما الوعود الكاذبة “ 2 “...............................................................( 1 ) نص الحديث النبوي الذي يقصده هو ، “ استعينوا على قضاء حوائجكم بالكمتان فإنّ كلّ ذي نعمة محسود “ .( 2 ) المعنى الحرفي . فالوعود الحقيقة . . . وأما الوعود المجازية . “ 106 “ فتبعث الهم في النفس .ووعدُ أهل الكرم نقدُ متداول ، وأما وعد اللئام فعناءُ للروح .كيف أدرك الولي مرض الجارية وعرض ألامر على الملكبعد ذلك نهض الحكيم ، وتوجه إلى الملك ، وأخبره ببعض ما جرى .وقال : “ التدبير الآن هو أن نحضر هذا الرجل من أجل علاج هذا المرض .فلتدعُ الصائغ من هذا البلد البعيد ، ولتدخل الغرور إلى نفسه بما تهبه من ذهب وخلع .كيف أوقد الملك الرسل إلى سمرقند لاحضار الصائغ
185 - فأرسل الملك إلى تلك الجهة رسولًا أو رسولين ، حاذقين من أهل الكفاية والعدل .وجاء هذان الرسولان إلى سمرقند من أجل الصائغ الظريف الفاضل .وقالا للصائغ : “ أيها الأستاذ اللطيف الكامل المعرفة ! لقد ذاعت في المدائن صفاتك ! إنّ فلاناً الملك اختارك لتكون صائغاً عنده ، لأنّك رجل عظيم !
فإليك هذه الخلعة وهذا الذهب والفضّة ، وحينما تجىء إلى حضرته فسوف تصبح رفيقاً له ونديماً .
190 - ورأى الصائغ المال والخلع الكثيرة ، فاغترّ بها وفارق أهله وأبناءه .
“ 107 “
ومضى الرجل إلى الطريق سعيداً ، وما عرف أنّ الملك قد قصد قتله .
فركب جواداً عربياً وأسرع به فرحاً ، فعلم ( فيما بعد ) أنّ خلعة كانت ثمناً لحياته “ 1 “ .
فيا من مضيت في سفرك وأنت تشعر بمائة رضى ، لقد سعيت بقدمك نحو سوء القضاء !
كان في خياله الملك والعز والعظمة ، فقال عزرائيل : “ اذهب فسوف تنال ذلك حقاً ! “ .
195 - وعندما وصل من السفر هذا الرجل الغريب ، أحضره الطبيب أمام الملك .
لقد جئ به معزّزاً إلى الملك ، حتى يحترق أمام شمعة طراز “ 2 “ .
فلما رآه الملك ، بالغ في تعظيمه ، وأسلم إليه خزائن الذهب .
وقال الحكيم للملك : “ أيها السلطان العظيم ! أنعم بتلك الجارية على هذا السيّد .
حتى يحسُن حال الجارية في وصاله ، ويدفع ماءُ وصله تلك النار عنها ! “
.
يتبع