شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 3102 - 3504 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 3102 - 3504 على مدونة عبدالله المسافرشُروح وَ درَاسَات الأبيات من 3102 - 3504 .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي
شرح كيف شكا شيخ من الأمراض لأحد الأطباء وكيف اجابه الطبيب
( 3102 ) لو لم تكن حقيقة الأنبياء والأولياء وفضائلهم معروفة للأخيار والأشرار على السواء . فعلى أي شئ يحسدهم الأشرار ؟
( 3103 ) ان كان الأشرار يعرفون الأنبياء معرفة يقينية ، ويدركون حقيقتهم ، فلماذا اذن يناصبونهم العداء على تلك الصور المريرة .
( 3104 ) يعجب الشاعر من الأشرار، يعرفون البعث والقيامة ، ومع ذلك يحاربون الأنبياء والأولياء؟ فكيف يُعرّضون أنفسهم لانتقام يوم الحساب.
وقد رمز الشاعر إلى عقاب الآخرة “ بالسيف الحاد “ .
( 3105 ) ان ظاهر النبي أو الولي يخدع الناس عن حقيقته . فهو في ظاهره وديع رقيق ، يبدو لهم ضعيفا ، على حين أنه يمتلك من القوة ما يقيم مائة قيامة ، لأنه يكون مؤيدا بالله .
( 3106 ) يتضمن هذا البيت لمحة من فكرة “ الانسان الكامل “ عند الصوفية .
يقول الجيلى : “ واعلم أن الانسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه ، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته ، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته . . . “ . ( انظر ، الانسان الكامل ، ج 2 ، 50 - 52 ) .
( 3108 ) كيف يتهجم السفهاء على الأنبياء والأولياء ، وهم يعلمون
“ 572 “
أن قوتهم مستمدة من قوة الله وتأييده ؟
( 3109 ) يسخر الشاعر من أدعياء الايمان الذين يتقربون إلى الله بتعظيم المسجد ، في حين أنهم يوقعون الأذى بقلوب العارفين من رجال الله .
( 3110 ) المسجد بيت الله ، على سبيل المجاز ، وأما قلب العارف فهو - على التحقيق - بيت الله .
( 3116 - 3127 ) حكى الشاعر في هذه الأبيات قصة عن جحى .
وهذه القصة ذات أصل عربى ، رويت في مصادر متعددة ، لكنها لا تدور حول جحى . فمن صورها العربية تلك التي وردت في كتاب الأغانى ، على النحو التالي :
“ قال إن دراج الطفيلى : مرت بي جنازة ومعي ابن ومع الجنازة امرأة تبكى وتقول : بك يذهبون إلى بيت لا فراش فيه ولا وطاء ولا ضيافة ولا غطاء ، ولا خبز ولا ماء . فقال لي ابني : يا أبت إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة . فقلت : كيف ويلك . قال : لأن هذه صفة بيتنا “ .
انظر : ( فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 77 - 78 ) ، ( تعليقات نيكولسون ) .
( 3128 ) الطغاة لا يستطيعون أن يروا من الأمور سوى ظاهرها .
فابصار هؤلاء شبيه بابصار الطفل ، في القصة السابقة .
( 3129 - 3131 ) القلب الذي لم يتلق نور الهداية ، ولا شعاع الالهام ، يكون مظلما ، لا قدرة له على الادراك السليم .
( 3132 ) من كان قلبه مظلما فهو دفين ظلمة الجهل . وبعض الموتى أحسن حالا من الأحياء الذين يعيشون في ظلام الجهل . أما قول الشاعر :
“ فلتنهض الآن من ضريح قلبك “ فمعناه : “ حطم سجن الجهالة الذي يغشاك بظلمة شبيهة بظلام القبر ، وانطلق إلى بعث روحي جديد مشرق بنور العرفان “ .
“ 573 “
( 3133 ) من كان سبيل آدم - الذي علمه الله الأسماء كلها - كيف يستريح إلى الجهل ، ولا تضيق به أنفاسه ؟
( 3134 ) الروح الانساني الذي أحاطت به الظلمة شبيه بيوسف في قرارة الجب ، أو بشمس السماء وسط الظلمات . والجب لا يليق بيوسف ، وكذلك الظلمات لا تناسب الشمس .
( 3135 ) يشير هذا البيت إلى قصة يونس حين ابتلعه الحوت ، ثم انقذه الله .
لقد ذكر القرآن الكريم قصة يونس في قوله تعالى : “ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين . فاستجبنا ليه ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين “ . ( 21 : 87 - 88 ) .
وقد وردت قصة يونس في تفسير هذه الآيات . وخلاصة القصة أن يونس كان رجلا صالحا يتعبد في جبل . وكان من أهل نينوى فبعثه الله إليهم ليدعوهم إلى الايمان بالله ، وترك عبادة الأصنام . وكان قليل الصبر على قومه والمداراة لهم ، فتعجل الأمر وخرج مغاضبا ، وأتى البحر . قال الثعلبي : “ فلما أتى يونس البحر إذا قوم يركبون سفينة فحملوه بغير أجرة ، فلما دخلها احتبست السفينة ووقفت ، والسفن تسير يمينا وشمالا فقال الملاحون : ان فيها عبدا آبقا من سيده ، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر . فاقتر عوا فوقعت القرعة على يونس . فقال أنا الآبق .
فقالوا تُلقى في الماء . فاقترعوا ثانيا وثالثا فخرجت القرعة على يونس ، فزج نفسه في الماء ، فذلك قوله تعالى : “ فساهم فكان من المدحضين “ ( 37 : 141 ) . فلما وقع في الماء وكل الله به حوتا فابتلعه ، وأوحى الله تعالى إلى الحوث انى لم أجعله لك رزقا بل جعلناك له حرزا ومسكنا ، فخذه ولا تسكر له عظما ولا تخدش له لحما “ . ( قصص الأنبياء 462 - 463 ) .
“ 574 “
وبينما يونس في جوف الحوت تاب إلى ربه وسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحة . وشفعت له الملائكة فأمر الله الحوت فقذفه إلى ساحل نينوى . وكان ضعيفا من جراء ما مر به فأنبت الله عليه شجرة من يقطين .
وقد ذكر القرآن الكريم قصة ابتلاع الحوت ليونس ونجاته منه بقوله تعالى : “ وان يونس لمن المرسلين . إذ أبق إلى الفلك المشحون .
فساهم فكان من المدحضين . فالتقمه الحوت وهو مليم . فلو لا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . فنبذناه بالعراء وهو سقيم .
وأنبتنا عليه شجرة من يقطين . وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا فمتعناهم إلى حين “ . ( 37 : 139 - 148 ) .
( 3136 ) يشير هذا البيت إلى قوله تعالى : “ فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثنون “ . ( 37 : 143 - 144 ) .
( 3137 ) قول الشاعر : “ فماذا يكون التسبيح ؟ انه آية يوم ( ألست ) “ يعنى أن التسبيح الحق هو ذلك المنبثق من ايمان الروح بالخالق ، من قبل أن يخلق العالم . ويوم “ ألست “ يُقصد به ما جاء في قوله تعالى : “ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى “ . ( 7 : 172 ) .
( 3138 ) “ ان كانت روحك قد نسيت تسبيحها الذي عرفته قبل خلق هذا العالم ، فاستمع إلى تسبيح أهل الكمال ، فإنه يذكرك بما كانت روحك قد عرفته “ . والحيتان هنا رمز للعارفين ، وكثيرا ما يشبههم جلال الدين بالحيتان ، كما يشبه عالم الروح بالبحر .
( 3139 ) قول الشاعر : “ وكل من شهد هذا البحر فهو ذلك الحوت “ ، يعنى كل من شهد بحر الروح فهو صوفي عارف .
( 3140 ) بدأ الشاعر هنا يستخدم البحر والحوت للتصوير البياني ، وليس للرمز ، كما فعل في البيتين السابقين .
“ 575 “
( 3141 ) الروح قد انطوى في الجسد ، كما انطوى يونس في جوف الحوت . ولولا تسبيح الروح لقضى عليه الجسد ، ومحا وجوده ، فالتسبيح هو الذي يمكن الروح من أن يطرح عنه أغلال الجسد ، كما استطاع يونس بالتسبيح أن يخلص نفسه من جوف الحوت . ( انظر :
سورة الصافات ، 37 : 143 - 144 ) .
( 3142 ) هذه الدنيا لا تخلو من صوفية عارفين ، ولكن أهل الحس ، الغارقين في اللذات ، لا ينتبهون إلى هؤلاء .
( 3143 ) ليس احتجاب العارفين عن أهل الحس ناشئا من حرص هؤلاء على الابتعاد عنهم ، بل الحقيقة أن العارفين كثيرا ما يسعون إلى ارشاد أهل الحس ، لكن هؤلاء لا يفطنون إلى هذا السعي الكريم .
( 3144 ) ان كنت قد اخفقت في ملاقاة الرجال العارفين ، فلا بد أن أذنك قد استعمت إلى تسبيحهم .
( 3145 ) يكثر الصوفية من الثناء على الصبر . ويروون في الصبر أقوالا كثيرة ، منها قول علي بن أبي طالب : “ الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد “ . والصبر - عند الصوفية - محمود في كل المواقف ، الا الصبر عن الله ، ومن ذلك قول الشاعر :الصبر يجمل في المواقف كلها * الا عليك فإنه لا يجمل( انظر : رسالة القشيري ، باب الصبر ، 84 - 87 ) .
( 3147 ) “ الصبر “ هو الطريق الموصل إلى السعادة . انه كالصراط الذي يعبره المؤمن إلى الجنة .
( 3149 ) جكلcheyelبلدة وراء نهر سيحون من بلاد تركستان ( ياقوت : معجم البلدان ) . وقد اشتهرت هذا البلدة بجمال نسائها . وقد ذكر جلال الدين هذا المعنى مرارا في شعره . قال في ديوان شمس تبريز .
“ 576 “
گفت له اين خانه دل برهمه نقشست جرا * كفتم كين عكس تواست اى رخ توشمع جكَل( قال : لماذا قد حفل منزل القلب هذا بالصور قلت إن هذه خيالات محياك يا من وجهك شمع جكَل ) .
والمراد بالصبر هنا الصبر عن الجمال الأسمى ، وهو ما لا تكون للمحب العارف طاقة به .
[ شرح من بيت 3150 إلى بيت 3300 ]
( 3150 ) عاد الشاعر هنا إلى استخدام الصبر بمعنى القوة على مقاومة البلاء ومعاناة الشدة . وهذا ما يكون من الفضائل التي يتحلى بها الرجال . ومثل هذا الصبر في مجاهدة الحياة يعتبر درجة أدنى من الصبر في مجاهدة النفس ، فهو أيضا يحتاج إلى قوة وجلد ، هما من صفات الصوفي العارف .
( 3154 ) هناك فرق بين رايات ترفع للجهاد ، ورايات يرفعها المتسولون ملتمسين كسر الخبز . وليست العبرة بالارتفاع وانماهى بجوهر هذا الارتفاع .
( 3159 ) يشير البيت إلى مثل الثعلب والطبل ، وهو من أمثال كليلة ودمنة ، ونصه كما يلي :
“ زعموا أن ثعلبا أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة ، وكلما هبت الريح على قضبان تلك الشجرة ، حركتها فضربت الطبل فسُمع له صوت عظيم باهر . فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته . فلما أتاه وجده ضخما ، فأيقن في نفسه بكثرة الشحم واللحم ، فعالجه حتى شقه .
فلما رآه أجوف لا شئ فيه قال : لا أدرى لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة “ . ( كليلة ودمنة ، 132 ) .
أما قول الشاعر : “ فيا من تشبه بضخامتك قوم عاد “ ، فيشير إلى ما اشتهر به هؤلاء من ضخامة الأجساد . وقد أخبر القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى : “ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في
“ 577 “
الخلق بسطة “ . ( 7 : 69 ) .
( 3163 - 3175 ) نقل فروزانفر أصلا لهذه القصة عن “ مقالات شمس “ . انظر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 78 - 79 .
( 3176 - 3183 ) لهذه القصة أصل عربى جاء في عيون الأخبار لا بن قتيبة .
قال : “ مر رجل من العباد وعلى عنقه عصا في طرفيها زنبيلان قد كادا يحطمانه ، في أحدهما برّ وفي الآخر تراب . فقيل له : ما هذا ؟ قال :
عدلت البرّ بهذا التراب لأنه كان قد أمالنى في أحد جانبي . فأخذ الرجل زنبيل التراب فقلبه ، وجعل البرّ نصفين في الزنبيلين ، وقال له : احمل الآن ، فحمله ، فلما رآه خفيفا قال : ما أعقلك من شيخ “ . ( فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 79 ) .
( 3201 ) الصوفية لا يؤمنون بالفلسفة العقلية ، ويرون أنها لا توصل إلى علم يقيني ، وأن حاصلها الشقاء والحيرة .
( 3207 ) “ الفكر الحق هو الذي يفتح طريقا للهداية الروحية “ . أما “ الملك “ هنا فهو رمز للمرشد الكامل .
( 3208 ) العارف يكون ملكا بذاته ، لا بخزائنه وجيشه .
( 3210 ) بدأ الشاعر هنا قصة صغيرة عن إبراهيم بن أدهم . . وقد وردت هذه القصة في تذكرة الأولياء للعطار ( ج 1 ، ص 155 ) . وترجمة القصة كما يلي .
“ يروى أنه كان ذات يوم جالسا على شاطىء دجلة ، وكان يرقع خرقته الممزقة ، فوقعت ابرته في النهر . فسأله أحد الرجال : لقد تخليت عن مثل هذا الملك ، فماذا وجدت ( عوضا عنه ) . فأشار إلى البحر ليرجع اليه ابرته . فخرجت من النهر ألف سمكة ، وقد أمسكت كل منها بإبرة ذهبية في فمها . فقال إبراهيم : أريد ابرتى ! فخرجت سمكة صغيرة ضعيفة ، وقد أمسكت بفمها ابرته . فقال إبراهيم : هذا أهون شئ وجدته
“ 578 “
لقاء تركى ملك بلخ ، أما ما سوى ذلك فإنك لن تدركه “ . انظر ( فروزانفر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 80 ) ، ( تعليقات نيكولسون ) .
وقد روى السلمى أن إبراهيم بن أدهم كان ابن أحد ملوك خراسان ، وأنه خرج ذات يوم إلى الصيد ، وبينما هو يطارد صيده هتف به هاتف دعاه إلى ترك ما كان فيه ، فاستجاب له ، وتخلى عن جواده ومتاعه لأحد رعاة أبيه ، وأخذ جبته الصوف فلبسها وتوجه إلى مكة . ( طبقات الصوفية ، 30 ) .
( 3221 ) “ العميان “ هنا رمز لمن حرموا نور البصيرة الروحية .
( 3222 ) “ المبصرون “ هنا رمز للعارفين الذين أشرقت قلوبهم بنور العرفان .
( 3230 ) ربما أتيح للمتعلق بعالم الظاهر أن يتلقى نفحة من الغيب .
لكنه لا يكون مثل أهل العرفان الذين يطلعون على عالم الروح الخفي .
( 3231 ) “ الحديقة “ رمز لعالم الروح .
( 3232 ) “ ان لم تكن من السالكين إلى حديقة الروح ، فالتمس شيئا من المقدرة على تنسم شذاها ، وادفع عنك تلك الروابط المادية ، التي تحول بينك وبينها “ .
( 3234 ) قميص يوسف الذي ألقى على وجه يعقوب فارتد بصيرا رمز لنفحات الروح التي تنير ظلام الحس ، وتكشف سبيل الابصار الحق .
( 3235 ) قول الرسول : “ جعلت قرة عيني في الصلاة “ يشير إلى ما كان يتلقاه في صلاته من نفحات روحية .
( 3236 ) يقول الغزالي ان المدركات الحسية تلتقى جميعا لتقدم الصورة الحس المشترك فهو القوة التي تكوّن الصورة العامة مما تتلقاه الحواس المختلفة . “ تلك القوة مجمع المتاثلات والمختلفات فسميناها الحس ، المشترك ، إذ لا تكون النفس مدركة الا بهذه القوة ، وسميناها اللوح إذ لا تجتمع المحسوسات الا في هذه القوة ، وليس لها الا الادراك
“ 579 “
فقط “ . ( الغزالي : معارج القدس ، 47 - 48 ) .
وجلال الدين يرى ارتباط الحواس بعضها بالبعض الآخر لأنها جميعا تنبع من أصل واحد . وسياق الأبيات يبين ان جلال الدين يرى أنه لو تخطت احدى الحواس نطاق حسيتها إلى مارواء الحس ، فان ذلك يقود الحواس الأخرى إلى تخطى نطاق الحس .
( 3240 ) “ ان انطلاق احدى الحواس من قيد المادة ، واستنارتها بالاحساس الروحي ، يعين بقية الحواس على تحقيق استنارة مماثلة “ .
( 3242 ) الشاعر يشبه الحواس بقطيع من الخراف ، فلو أن واحدا من القطيع قفز من فوق القناة إلى الجانب الآخر تبعته بقية الخراف .
والقناة هنا رمز للحد الفاصل بين عالم الادراك الحسى ، وعالم الادراك الروحي .
( 3243 ) ان حواسك - التي تشبه الخراف في حسيتها - غافلة عن ذلك المرعى ، وهو عالم الروح الكامن وراء عالم الحس . فسق هذه الخراف إلى ذلك المرعى حتى تنعم هناك بغذاء يختلف عما عهدته في عالم الحس .
( 3245 ) لو اطلع كل حس من حواسك على عالم الروح ، أصبح بمثابة النبي الذي يقود الحواس الآخرين إلى ذلك العالم ، كما يقود النبي أتباعه إلى الجنة .
( 3246 ) عندما تصبح الحواس كلها مطلعة على الأسرار ، تزداد الحاجة إلى التعبير عنها ، والإشارة إليها بالألفاظ والعبارات .
( 3247 ) الحقيقة - حينما لا تكون مشهودة - تتقبل الكثير من التأويلات ، وتنشأ حولها الخيالات والأوهام .
( 3248 ) حقيقة الشهود لا تتقبل أي تأويل ، ما دامت مبنية على العيان ، والمشاهدة .
( 3249 ) من تجلى له الغيب ، وأصبح مرشدا لسواه إلى ذلك
“ 580 “
الشهود ، فقد تحقق له سلطان على الأفلاك .
( 3250 ) الأفلاك وغيرها من مظاهر العالم المادي ليست سوى مظهر يخفى وراءه جوهر الحقيقة ، فمن ملك هذا الجوهر ، فهو - نتيجة لذلك - مالك لما يحيط به من قشور .
( 3253 ) الروح المشار اليه في هذا البيت هو الروح ( الحيواني ) .
وقد عرفه الغزالي بقوله : “ أما الروح فيطلق ويراد به البخار اللطيف الذي يصعد من منبع القلب ، ويتصاعد إلى الدماغ بواسطة العروق ، ومن الدماغ يسرى بواسطة العروق أيضا إلى جميع البدن ، فيعمل في كل موضع بحسب مزاجه واستعداده عملا ، وهو مركب الحياة ، فهذا البخار كالسراج ، والحياة التي قامت به كالضوء ، وكيفية تأثيره في البدن ككيفية تنوير السراج أجزاء البيت “ . ( معارج القدس ، 14 ) .
( 3254 ) قول الشاعر : “ فالحس أكثر سرعة في سلوكه سبيل الروح “ ، يعنى أن الحس أكثر استجابة لدواعي الحياة المتحركة ، وأوضح من العقل تعبيرا عنها .
( 3256 ) الحركة لا قيمة لها في ذاتها ، فهي تظهر من الحيوان ومن الانسان ، ولكن العقل حين يخلع على الحركة اتزانا يجعل لها قيمة ذاتية . فهذا التغيير في قيمة الحركة شبيه بفعل الإكسير الذي يجعل المعدن الخسيس ذهبا .
( 3258 ) “ الروح الملهم “ هو الروح الانساني الكامل ، وهذا عند الصوفية أسمى بكثير من العقل . وهو ينتمى إلى عالم أسمى من هذا العالم . وادراك أسرار العقل أيسر من ادراك أسرار هذا الروح الملهم يقول الغزالي : “ هو الروح الانساني المتحمل لأمانة الله ، المتحلى بالمعرفة ، المركوز فيه العلم بالفطرة بالتوحيد بقوله ( بلى ) ، فهو أصل الآدمي ، ونهاية الكائنات في عالم المعاد “ . ( معارج القدس ، 13 - 14 ) ( 3259 ) كان من الميسور لكل انسان أن يدرك مقدار عقل
“ 581 “
الرسول ، أما ادراك أسرار روحه الملهم فهذا قد امتنع على كثير من الناس .
( 3260 ) للروح الملهم أفعال متناسبة متزنة ولكن العقل يعجز عن ادراكها . ومن هنا كان عجز علماء الدنيا عن فهم الصوفية العارفين .
( 3261 ) لا سبيل للعقل إلى فهم الروح الملهم ، الا إذا أصبح العقل ذاته روحا . ويبدأ ذلك بايمان العقل بسموّ هذا الروح ، وصدق الهامه . وبدون هذا الايمان تبدو تجليات الروح جنونا ، في نظر العقل .
( 3262 - 3263 ) من أمثلة الصعوبة التي يلاقيها العقل في فهم الروح ما أبداه موسى من انكار لأعمال الخضر ، وذلك حين خرق السفينة وقتل الغلام . ( انظر : سورة الكهف ، 18 : 71 - 75 ) .
( 3265 ) العلم التقليدىّ يكون ذا رونق وراء حينما يجد المشترى ، أنه يقوم على التظاهر ، وطلب المنفعة .
( 3266 ) العلم الروحي لا يخبور رونقه ، ولا يتأثر بالمنافع الموقوتة ، كالعلم التقليدى ، بل هو دائم الرونق ، لأنه من الهام الله ، ولا يراد به سوى وجه الله .
( 3268 ) الملائكة كانوا هم المشترين لدرس العلم الإلهي الذي تلقاه آدم عن خالقه. أما إبليس فلم يتقبل هذا العلم ، لأنه لم يكن أهلا لتلقيه.
( 3269 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين .
قالوا سبحانك لاعلم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم “ . ( 2 : 31 - 33 ) .
( 3271 ) سبق للشاعر أن صور قصير النظر بأن له عقلا كعقل الفأر ( البيت 3264 ) . وهو هنا يشير إلى هذا البيت بقوله : “ قد دعوته فأرا “ . أما قول الشاعر : “ لأن مقرة التراب “ فيعنى أن نفسه
“ 582 “
غارقة ماديتها ، لا تستطيع الخلاص منها .
( 3276 ) انظر الآيات ( 16 : 15 ) ، ( 78 : 7 ) .
( 3291 ) قدرة الله هي التي ألقت في العين الحسية نور البصر ، وجعلت عظام الأذن قادرة على السمع .
( 3294 ) قول الشاعر : “ فان كنت لا ترى الماء بين الطين . . . “ يعنى : “ فان كنت لا تدرك وجود الروح في جسدك ، فما هذه الآثار الدالة عليها ، كما تدل الأعشاب السابحة فوق الماء على وجود الماء “ .
( 3295 - 3296 ) ان الصور المنعكسة على صفحة الفكر تدل على وجود عالم معنوي ، خارج العالم الحسى ، ينعكس على الفكر بصورة جميلة أو قبيحة ، على مقتضى ما تكون عليه نفس الانسان من جمال أو قبح .
( 3297 ) الالهام الذي يقبل إلى النفوس من عالم الغيب يقوم دليلا على وجود هذا العالم . والأرواح تحمل آثارا منه ، كما يحمل ماء النهر قشورا من ثمار بستان بعيد .
( 3298 ) هذه اللمحات التي تقبل من عالم الغيب ليست الا ظلالا للحقيقة وعلى الانسان أن يبحث عن الحقيقة ذاتها . فقشور الثمار التي تسبح فوق صفحة النهر ليست هي الثمار ، وانما هي دليل على وجود تلك الثمار .
( 3299 ) تحرك الأفكار والخواطر دليل على حياة الروح ، فهذه تحملها إلى الفكر من عالم الغيب ، كما يحمل النهر قشور الثمار من بستان بعيد . وحركة القشور توضح حركة الماء .
[ شرح من بيت 3300 إلى بيت 3450 ]
( 3302 ) إذا ازدادات قوة الروح لم يبق للجسد وجود إلى جانبه .
( 3309 ) في رأى الشافعي أن الماء إذا بلغ قلتين لا تقدر القطرة من النجاسة على أن تخرجه عن طهارته . ( انظر : المنهج القوى ، 2 ، 621 ، وكذلك تعليقات نيكولسون ) . وفي هذا تعبير رمزى عما يبلغه العارف من طهارة روحية لا ينتقص منها ما قد يبدو عليه من ظاهر على خلاف ذلك .
“ 583 “
( 3310 ) انظر : المثنوى ، 1 ، البيت 547 وشرحه .
( 3311 ) الأدلة العقلية والبراهين الجدلية من مطالب النفس ، أما الروح فمستقرها عين الحقيقة .
( 3312 - 3313 ) السالك في البيداء هو الذي يكون بحاجة إلى الدليل ، لأنه يكون في كل لحظة عرضة للضلال ، أما الواصل فلا حاجة به إلى عناء البحث ، وحسبة نعمة الشهود .
( 3314 - 3315 ) لو أن أحد العارفين لجأ إلى بسط الأدلة الجدلية ، فهو يفعل ذلك ليفهم من لم تُتح له نعمة الشهود ، فكأنما هو أب يصطنع أصوات الطفولة لوليده الجديد .
( 3320 - 3321 ) الذنوب والنقائص الانسانية كلها فانية ، ، فهي تنتهى بانتهاء صاحبها ، أما نور العارف فهو نور خالد ، لأنه مستمد من نور الله .
( 3322 - 3323 ) ايمان العارف مستمد من عرفانه بجوهر الحقيقة ، وليس حاله كحال العوام في ايمانهم أو كفرهم ، فهم يتعلقون بأمور نسبية لا تقاس بجوهر الحقيقة ، بل انها هي التي تحجب الحقيقة .
( 3324 ) رأس الجسد - بما ينطوى عليه من غرور ، وانكار لعالم الروح - كافر منكر .
( 3325 ) الكافر المنكر هو الغافل عن حقيقة ايمان العارف .
فما دامت هذه الحقيقة منبثقة من محبة الخالق والفناء فيه ، فهي أسمى درجات التوحيد .
( 3326 ) بقاء الروح - بعد تحققها بالفناء - ليس سوى خبر يروى ، بالنسبة لغير العارف . فإذا ما عانى المرء هذه التجربة قويت روحه ، وتأصل عرفانه .
( 3330 - 3331 ) انظر : المثنوى ، 1 : 1234 ، 2659 - 2663 ، والشرح .
“ 584 “
( 3340 ) الشاعر في هذا البيت يسفه الذين يسيئون إلى الشيوخ العارفين ، ويضمرون لهم الحسد والبغضاء ، في حين أن هؤلاء المسيئين لا يحسنون غسل وجوههم .
( 3341 ) قول الشاعر : “ انك تشن غارة على الملائكة “ ، يعنى أن المسىء إلى العارف الكامل يسئ إلى الملائكة الذين عرفوا لهذا العارف قدره ، وسجدوا له ، حينما شهدوا صفاته في شخص آدم .
( 3344 ) إذا تأبى المتعلق بالحس على المرشد العارف ، فلم ينتفع بارشاره ، فذلك لا يسئ إلى عرفان العارف .
( 3345 - 3349 ) يوازن الشاعر في هذه الأبيات بين المرشد العارف وبين عدوّه الحسى العنيد ، ثم يقدم للحاسد صورا تبين استحالة النيل من العارف أو انتقاص فضله كماله .
( 3350 ) من عاب الصوفي العارف ، ولم يطق مواجهته ، شبيه بخفاش يعيب الشمس ويطلب احتجابها .
( 3351 ) قول الشاعر : “ والغيوب قد أضحت - بغيرتهم عليها - غيوبا “ يعنى أن هؤلاء الصوفية يحرصون على اخفاء الأسرار الغيبية عمن لا يكونون أهلا لتلقيها .
( 3355 ) الروح التي هبطت من عالمها إلى هذا العالم الحسى ، ينبغي لها ألا تصبح غريقة عالم الحس . فالحمار - وهو من الحيوانات التي اشتهرت بالغباء - لو انزلق في الوحل فإنه يتحرك على الدوام لكي ينهض من كبوته .
( 3358 ) “ ها أنت ذا تتأول رخصة لتعلقك بالمادة وحرصك عليها ، لأنك لا تريد أن تخلص قلبك من سلطانها “ .
( 3359 ) “ انك تبرر تعلقك بالمادة ، فتدعى أنك مُجبر على ذلك ، وأن الله لا يعاقب المجبر على عمل لا حيلة له فيه “ .
( 3360 ) من اقترف الاثم وحسب أن الله لن يأخذه باثمه فهو في
“ 585 “
الحقيقة مغرور أعماه الغرور . وهذا العجز عن ابصار الخطأ هو في ذاته عقوبة الهية . يقول ابن الجوزي في هذا المعنى : “ وإياكم والاغترار بحمله وكرمه فكم استدرج “ . ( صيد الخاطر ، ص 133 ) .
( 3361 - 3363 ) اشتهر الضبع عند العرب بالحمق ، حتى ضربوا به المثل ، فقالوا : “ أحمقُ من الضبع “ .
يقول الدميري : “ الضبع أحمق الحيوان . . . ومن حمقه أنه يغفلى عما يجب التيقظ له . ولذلك قال علي بن أبي طالب : لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد ، واللدم الضرب الخفيف . . . . والصياد إذ أراد أن يصيدها رمى في جحرها بحجر ، فتحسبه شيئا تصيده ، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك “ .
وذكر الدميري كلاما يقال على باب جحرها ، “ فلا يزال يقال لها حتى يدخل عليها الصائد فيربط يديها ورجليها ، ثم يجرها “ . ( حياة الحيوان ، ج 1 ، ص 365 ، ج 2 ، ص 82 ) . وذكر النويري كلاما شبيها بهذا عن الضبع . ( انظر : نهاية الأرب ، ج 9 ، 274 - 276 ، “ ذكر ما قيل في الضبع “ ) . والنويري يستبعد ما يقال عن استسلام الضبع لصائديه فيقول : “ وهذا القول - فيما أظن - من خرافات العرب “ .
( 3364 - 3369 ) أوردت المصادر العربية قصة شبيهة بما رواه الشاعر في هذه الأبيات .
انظر : ( حلية الأولياء ، 10 : 168 ) ، ( محاضرات الأدباء ، 2 :
277 ) . وقد نقلها عنهما فروزانفر . ( مآخذ قصص ، 80 ) . ونص هذه القصة كما يلي : “ قيل : وكان في بني إسرائيل حبر قال في دعائه : يا رب . كم أعصيك وأنت لا تعاقبنى ! فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان ، قل لعبدي : كم أعاقبك ولا تدرى ، أسلبك حلاوة مناجاتى “ .
( 3370 ) “ ان الآثام الكثيرة التي ارتكبتها قد جعلت باطنك أسود ،
“ 586 “
فلم تعد لديك قدرة على معرفة الخير من الشر “ .
( 3371 ) قلب الانسان كالمرآة والآثام التي يرتكبها شبيهة بالصدأ .
فكلما ازداد ارتكاب الآثام . زادت ظلمة القلب ، فيصبح كالمرآة التي تراكمت فوقها طبقات من الصدأ .
( 3372 ) من كان نقى القلب ، أحس بوقوعه في أدنى خطأ . فالقدر الجديدة يظهر أثر الدخان فوقها ، مهما قل هذا الدخان .
( 3373 ) الاثم يكون غريبا على القلب النقى ، فسرعان ما يتكشف لهذا القلب قبحه ، كما تتميز الأشياء ، بضدها ، أو كما يتضح السواد فوق البياض .
( 3374 ) إذا أصبح القلب أسود لفرط ما ران عليه من الاثم ، فكيف يتضح فيه ما يغشاه من اثم جديد ؟ أنه يكون كالقدر السوادء ، لا يظهر فوقها أثر الدخان .
( 3375 ) “ الحداد الزنجي “ رمز للقلب الأسود . فهذا الحداد الأسود الوجه لا يبين في وجهه أثر الدخان . وهكذا القلب المظلم بأخطائه وآثامه .
( 3376 ) “ الحداد الرومي “ رمز للقلب النقى . فمثل هذا يتبين له أثر الدخان في وجهه .
( 3394 ) انظر شرح الأبيات 3364 - 3367 .
( 3316 ) قال تعالى : “ انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم “ . ( 2 : 173 ) . وانظر أيضا : ( 6 : 145 ) ، ( 16 : 115 ) .
( 3430 ) العارف لو تذوق متاع الدنيا فإنه يتقوى به على التأمل الروحي ، على حين أن الرجل الحسى يتذوق الشهد فينقلب في كيانه سما ، لأنه يزيد من حرصه على الشهوات ، ومتع الحس .
( 3432 - 3433 ) في البيتين إشارة إلى قصة أصحاب الفيل الذين
“ 587 “
أرادوا هدم الكعبة فأهلكهم الله . قال تعالى : “ وأرسل عليهم طيرا أبابيل . ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول “ .
( 105 : 3 - 5 ) .
( 3436 ) يبدأ الشاعر هنا حكاية ترمز إلى أن المريد لا يليق به أن يجترىء على العارف . وهذه الحكاية مرتبطة بالبيت السابق ( رقم 3435 ) .
[ شرح من بيت 3450 إلى بيت 3600 ]
( 3453 ) “ ما دمت لست من العارفين فلا بد لك من السير في طريقهم ، وبذل الجهد ، لعلك تصبح واحدا منهم ، فتخلص من بئر الشهوات إلى حيث يتحقق لك الجاه والمجد “ .
( 3454 ) “ ما دمت لم تصل بعد إلى مقام العارفين فلا بد لك من مرشد “ .
( 3456 ) السالك بحاجة إلى الانصات لكي يتعلم . وقد أمر الله بالانصات في قوله تعالى : “ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون “ . ( 7 : 204 ) .
( 3464 ) من كانت روحه مفعمة بالكمال ، لم يكن للجاه الدنيوي قيمة عنده ، ولا أثر عليه . أما المتعلق بالحس فالرياسة تدفعه إلى الغرور والتعالى وتزيد نفسه قبحا .
وفي هذا البيت هدم لمبدأ اعتزال الحياة ، والانصراف عن الدنيا ، وهو ما قال به بعض الصوفية الذين يصرون على مواجهة هذا العالم بموقف سلبىّ .
( 3465 ) في اعتقادي أن “ الجبل الملىء بالثعابين “ يرمز هنا للحياة الدنيوية الحافلة بالمغريات . فالشاعر يدعو الانسان إلى مواجهة هذه الحياة بقوة ، وعليه ألا يخافها ما دام في الامكان أن تنطوى هذه الحياة على مضمون روحي ، يحول بين الانسان وبين المهلكات الحسية ، من لذات وشهوات .
( 3466 ) قول الشاعر : “ فإذا ما أصبحت الرئاسة نديما لدماغك . . . “
“ 588 “
يعنى : “ فإذا لا تولاك الغرور من جراء جاهك وسلطانك . . . “ .
( 3467 - 3469 ) يصور الشاعر هنا موقف العناد الذي يقفه بعض الأفراد من آراء المخالفين ، وكيف أنهم يتصورون أن كل مخالفة لآرائهم انما هي محاولة للقضاء على كيانهم الذاتي . وهذا - في نظر الشاعر - ينشأ من رسوخ الأخلاق السيئة في نفس صاحبها .
( 3471 ) ينشأ الانسان وعنده قدر محدود من الشهوة . لكن بعض الناس يترك لشهواته مجال النموّ حيت تتحكم فيه : “ ان الشهوة تكون - في بداية أمرها - نملة ، لكنها سرعان ما تعظم ، وتصير مثل الثعبان “ .
( 3473 - 3474 ) أسير الشهوات لا يفظن إلى ما يعانيه من اسار المشهوة ولا بد له من مرشد يعينه على ادارك حقيقة حاله . وحين يتحقق لمثل هذا خلاص من سيطرة اللذات الحسية ، فإنه يتسنى له إذا ذاك أن يدرك ما كانت عليه نفسه من سوء الحال .
( 3475 ) لكي تتحول النفس الخسيسة المعدن ، إلى نفس كريمة المعدن ، لا بد لها من الصبر على مشقة هذا التحول . فالنحاس لا بد له من الصبر على الإكسير . والقلب لا بد له من الصبر على ما يفرضه عليه من تَملكه .
( 3476 ) قول الشاعر : “ وان هؤلاء ليهربون من الدنيا كالنهار والليل “ يعنى : “ أن الصوفية العارفين يهربون من سلطان الدنيا كالنهار والليل ، اللذين يمران بها ، ويعملان عملهما ، ومع ذلك لا يستقران فيها ، ولا يخضعان لسلطانها “ .
( 3478 - 3495 ) يروى الشاعر في هذه الأبيات حكاية عن كرامات فقير اتهم بالسرقة . وكرامات الأولياء كانت موضوعا لحكايات كثيرة تملا كتب التصوف ، وبخاصة تلك التي تهتم بتراجم الصوفية .
والقصة المذكورة هنا وردت ، في مصادر متعددة ، وأشار إليها فروانفر ، كما نقل نصا فارسيا لها من “ كشف المحجوب “ للهجويرى .
“ 589 “
( انظر : مآخذ قصص وتمثيلات ، 81 - 82 ) . وفيما يلي ترجمة لنص كشف المحجوب :
“ وبلغت منزلته ( مالك بن دينار ) أنه كان ذات يوم راكبا في سفينة ، وكان أن فقدت جوهرة في هذه السفينة ، فاتهموه بأنه أخذها لأنه بدا أقل القوم حظا من ظهور الحال ، فرفع رأسه إلى السماء ، وفي الحال صعد إلى سطح الماء كل ما كان في البحر من الأسماك ، وقد أمسكت كل سمكة بجوهرة في فمها . فأخذ جوهرة من جملة هذه الجواهر ، وأعطاها للرجل ، ثم وضع قدمه فوق الماء ، وسار فوقه برفق حتى خرج إلى الساحل “ .
( 3478 ) قول الشاعر : “ وقد اتخذ لنفسه من بضاعة الرجولة ظهيرا “ ، يعنى أن ذلك الصوفي لم يكن يمتلك بضاعة كغيره من الناس ، إذ لم تكن له بضاعة سوى الرجولة والشرف .
( 3500 ) قول الشاعر : “ ان النفس سوفسطائية . . . “ يعنى أنها تميل إلى المغالطة ، والمجادلة بالباطل .
( 3503 ) الشهود الروحي لا يتسنى الا لعين طهرت من أهواء الحس .
( 3504 ) الشهود الروحي يتسامى فوق ملكات الحس . فهو كالطاووس ، لا يستقر في حفرة ضيقة . واستخدام “ الطاووس “ هنا رمزا للشهود الروحي يشير إلى ما ينطوى عليه هذا الشهود من الجمال والبهجة .
.
الشروح والدراسات المجمعة المثنوي المعنوي الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي