حكاية ملك يهوديّ آخر سعى للقضاء على دين عيسى .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
حكاية ملك يهوديّ آخر سعى للقضاء على مدونة عبدالله المسافر حكاية ملك يهوديّ آخر سعى للقضاء على دين عيسى الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
حكاية ملك يهوديّ آخر سعى للقضاء على دين عيسى
[ بناء سنة سيئة ]وبعد ما أُريق من دم لا مردّ له ، بما ثار من فتنة ذلك الوزير .740 - قام ملك آخر من نسل ذلك اليهوديّ ، يعمل على إهلاك قوم عيسى .وإذا كنت تريد خيراً عن ذلك الخروج اليهوديّ الآخر ، فاقرأ..............................................................( 1 ) الفتنة التي نشأت من اختلاف الأمراء وحربهم بعد موت الوزير وهي من الوقائع التي ذكرها الشاعر في قصة ملك اليهود الذي اضطهد النصارى . “ 159 “سورة” وَالسَّماء ذات الْبُرُوج ““ 1 “ .إنَّ ذلك الملك الثاني سار على تلك السنّة السئة التي ابتدعها الملك الأوِّل .وكلِّ من سنِّ سنة خبيثة ، سعى إليه الذمُّ أصبحت كل ساعة .إن الطيّبين يذهبون وتبقى سننهم من بعدهم ، وأما اللئام فلا يبقى بعدهم سوى الظلم واللعنات .745 - وكل من يولد من جنس هؤلاء الأشرار - حتى القيامة - فوجهته هؤلاء ( الأقران “ 2 “ ) .فالبشر يجري أصبحت عروقهم هذا الماء الحلو أو ذلك الماء الملح حتى يُنفخَ أصبحت الصور .فالطيبون لهم ميراث من الماء الحلو ، وهو المقصود أصبحت قوله تعالى :” أَوْرَثْنَا الْكتابَ ““ 3 “ .وإن ضراعة الطالبين “ 4 “ - لو تأملتَ - ليست إلا أشعة من شمس النبوّة .والأشعة تدور مع الجواهر حيث كانت ، فالشعاع يتجه نحو الجانب الذي فيه الجوهر ................................................................( 1 ) يقصد سورة البروج ، وهي من السور المكية ، وقد وردت بها آيات ذكر المفسرون أنها تشير إلى عدوان ذي نواس ملك اليمن اليهوديّ على نصارى نجران وإهلاكهم بإلقائهم في النار . وهذه الآيات هي : “ قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود “ . ( 85 : 3 - 6 ) .أنظر أيضاً : المسعودي مروج الذهب ، ج 2 ص 77 ، ( القاهرة ، 1958 ) .( 2 ) أمثاله من الأشرار .( 3 ) في هذا البيت اقتباس من قوله تعالى : “ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات باذن اللَّه ذلك هو الفضل الكبير “ . ( 35 : 31 ) .( 4 ) الذين ينشدون ربهم ويسعون إليه .“ 160 “ 750 - ونور النافذة يدور بسرعة حول الدار ، وذلك لأن الشمس تمضي من برج إلى برج .وكل من كان له ارتباط بأحد الكواكب ، فإنه يوافق كوكبه في الصفات .فمن كان طالعه الزهرة فان ميله الكليّ وعشقه وطلبه إنما هو للطرب .ومن كان طالعُه المريخ فطبعُه إراقةُ الدماء ، فهو يبحث عن الحرب والخصومة والبهتان .ووراء هذه الكواكب كواكبُ أخرى ، لا احتراق فيها ولا نحس .755 - وتلك الكواكب تمضي أصبحت سماوات أخرى ، غير تلك السماوات السبع المعروفة .وهي راسخة أصبحت وهج أنوار اللَّه ، وليس بينها ارتباط ولا انفصال .وكل من كان طالعُه تلك النجوم ، فان نفسه تحرق الكفار بالرجوم .وليس غضب هذا كغضب من طالعه المريخ ، ( الذي يكون ) منقلب السلوك ، وطبعه يكون حيناً غالباً وآخر مغلوباً .إن النور الغالب أصبحت مأمن النفص ، ( لا يتطرق اليه ) الغَسَقُ لأنه بين إصبعي نور الحق .760 - ولقد نثر الحق ذلك النور على الأرواح ، ولكنّ السعداء وحدهم هم الذين رفعوا أطراف ثيابهم ( لتلقيّة ) .فكلّ من وجد ذلك النثار من النور ، فقد حول وجهه عن غير اللَّه .وأما من لم يكن له حجْر مُشْرَبُ بالعشق ، فقد مضى بلا نصيب من ذلك النور المثنور .إن الأجزاء لتتطلع إلى كلهّا ، والبلابل تلعب مع الوردة لعبة العشق . “ 161 “ واللون الظاهريّ يكون للثور ، أما الانسان ففتِّش في باطنه عن الألوان ، من أحمر وأصفر . 765 - والألوان الجميلة تجيء من وعاء الصفاء ، وأما لون الأشرار فمن ماء الجفاء الأسود .واسم هذا اللون اللطيف صبغةُ اللَّه “ 1 “ ، وأما ذلك اللون الكثيف فرائحته لعنةُ اللَّه .وكل ما جاء من البحر فإنّه إلى البحر يعود ، وبهذا يرجع من حيث أتى .فمن قمم الجبال تمضي السيولُ المندفعة ، ومن أجسامنا تمضي الأرواحُ الممتزجةُ بالعشق .كيف أشعل ملك اليهود ناراً ووضع بجوارها صنماً
( وقال ) : “ إنّ كلّ من سجد لهذا الصنم نجا من النار “والآن فتأمل هذا التدبير الذي ارتآه هذا اليهودي الضاري : إنّه أقام إلى جانب النار صنماً .770 - ( وقال ) : “ من سجد لهذا الصنم نجا ، وأما من لم يسجد فإنّه يجلس أصبحت قلب النار “ .فهذا الملك لما لم يُوقع بصنم النفس ما هو أهلُ له من جزاء ، ولد من صنم نفسه صنمُ آخر ................................................................( 1 ) قال تعالى أصبحت سورة البقرة “ صبغة اللَّه ومن أحسن من اللَّه صبغة ونحن له عابدون “ . ( 2 : 137 ) .“ 162 “إنّ أمّ الأصنام صنم نفسك ، ذلك لأنّ الصنم المادي ثعبان ، وأما صنم النفس فتنيّن .إنّ النفس كالحجر والحديد ( معاً ) ، بهما تُقدح النار ، والصنم هو الشرر ، وهذا الشرر يطفئه الماء .ولكنْ كيف للماء أن يطفىءَ الحجر والحديد ؟ “ 1 “ وكيف للإنسان مع هذين أن يجد الأمان ؟775 - إنّ الصنم ماء أسود أصبحت كوز ، والنفس هي النبع الذي صدر منه هذا الماء .وذلك الصنم المنحوت شبيهُ بسيل أسود ، والنفس صانعةُ الأصنام عين ممتلئة بالماء يصدر منها السبيل .إنّ قطعة واحدة من الحجر تكسر مائة وعاء للماء ، ولكنّ ماء النبع يظلّ يفيض دون إبطاء .فكسرُ الصنم أمر يسيرُ بالغ اليسر ، وأما استسهال السيطرة على النفس فجهل وأيُّ جهل ! فإنْ كنت يابنيّ تبحث عن صورة النفس فاقرأ قصة جهنم ذات الأبواب السبعة .
780 - ففي كلّ الحظة للنفس مكر ، وكلّ مكر يغرق مائة فرعون مع أتباعهم .
فاهرب إلى إله موسى ، وإلى موسى ، ولا تُرقْ ماء الإيمان بطبيعة فرعونية .
واربط يدك بالإله الأحد ، وبأحمد ، وتخلص يا أخي من “ أبي جهل “ البدن “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) يقصد النار الكامنة فيهما .
( 2 ) تخلص من البدن الحسيّ المظلم الشبيه بأبي جهل . وأبو جهل هو أبو الحكم عمرو بن هشام .
وكان من الكفار الذين أظهروا للرسول عناداً وعداوة مريرة أثناء قيامه بالدعوة أصبحت مكة .“ 163 “كيف بدأ طفل يتكلم في وسط النار ويحرّض الناس على إلقاء أنفسهم فيها
لقد أحضر هذا اليهوديّ امرأة وطفلها أمام ذلك الصنم ، وكانت النار مضطرمة .وأخذ الطفل منها ، ورماه أصبحت النار ، فخافت المرأة وانتزعت قلبها من الإيمان .785 - وأرادت أن تسجد أمام الصنم ، لكنّ الطفل صاح : “ إني لم أمت .فتعالي هنا يا أميّ فإنّي بخير ، وإن كان ظاهري أنّني وسط النار ! إنّ هذه النار حجاب للعين ، يمنع عنها الرؤية ، فها هي ذي الرحمة قد أطلّت من الخفاء “ 1 “ .فتعالي يا أميّ ، وانظري برهان الحقّ . ( انظري ) لتشاهدى سعادة أصفياء الحقّ ! تعالي وانظري الماء الذي يتبدّى لك ناراً ، ودعي هذا العالم الذي هو نار تبدو كالماء !790 تعالي وانظري أسرار إبراهيم الذي وجد أصبحت النار السرو الياسمين “ 2 “ .لقد رأيت الموت ساعة مولدي منك ، وكان خوفي عظيماً إذ كنت أنفصل عنك ................................................................( 1 ) الترجمة الحرفية : فها هي ذي الرحمة قد رفعت رأسها من جيبها .( 2 ) ذلك لأن إبراهيم ألقي أصبحت النار ولم يحترق ، بل كانت النار عليه برداً وسلاماً . “ 164 “وعندما ولُدت ، خلصت من حبس ضيّق إلى عالم طيِّب الهواء جميل الألوان !وإنني الآن أرى العالم مثل الرحم ، بعد إذ رأيتُ أصبحت النار هذه السكينة .لقد رأيت أصبحت هذه النار عالماً أصبحت كلّ ذرة منه نفَسُ عيسى ( الذي يهب الحياة ) . 795 رأيت عالماً صورته العدم ، وجوهره الوجود ، وعالم الدنيا ظاهره الوجود ، ولكنّه لا ثبات له .تعالي يا أميّ بحقّ الأموته ، وانظري كيف أنّ هذه النار لا نارّية فيها ! أقبلي يا أميّ فقد أقبلت السعادة ، أقبلي يا أميّ ولا تدعي الحظّ يُفلت من يديك !
لقد رأيت قدرة ذلك الكلب ( ملك اليهود ) ، فتعالي وانظري قدرة لطف اللَّه .
إنَّني أسحب قدمك إلى هنا رحمة بك ، وإلا فإني أصبحت طرب ( يصرفني ) عن العناية بك .
800 - أقبلي ، وادعي الآخرين ( للحضور ) معك ، فإنّ الملك الحقّ قد أقام في النار الخُوان .
بل أَقبلوا أيها المؤمنون جميعاً ، فكلّ شيء سوى هذه العذوبة عذاب !
أَقبلوا جميعاً مثل الفَراش ! أقبلوا إلى ذلك الحظّ ، فهنا مائة ربيع ! “ .
كان الطفل يصيح على تلك الوتيرة وسط الجمع ، فامتلأت قلوب الناس رهبةً وخوفاً .
“ 165 “
فأخذ الخلق من رجال ونساء - بدون وعي منهم - يلقون بأنفسهم في النار .
805 - لم يكن هناك مُوكَلّ ( يدفعهم ) ولا جذبُ ( إلى النار ) .
وإنما هو عشق الحبيب ، ذلك الذي يجعل كلّ مرّ حلو المذاق .
حتى أخذ أعوان الملك يمنعون الخلق ( قائلين ) : “ لا تُلقوا بأنفسكم في النار ! “ .
واسودّ من الخجل وجه ذلك اليهوديّ ، واعتراه من جرّاء ذلك الندمُ ، واعتلال القلب .
فقد أصبح الخلق بالإيمان أكثر عشقاً ، وصار عزمُهم على إفناء الجسم أكثر صدقاً !
فشكراً للَّه وحمداً ، فإنّ الشيطان قد وقع حبائل مكره ، ورأى ذلك اللعين نفسه وقد اسودّ وجهُه . 810 - لقد تَجمَّع فوق وجه ذلك الشيطان الخسيس كلّ ما كان يمسحه على وجوه الناس ( من عار ) .وسرعان ما التأم كلّ ما مزقه من ثياب الخلق ، وأما هو فتشققت ثيابه “ 1 “ . كيف التوى فم الرجل الذي ذكر محمداً عليه السلام بسخر واستهزاء
لقد لوى فمه وذكر اسم محمد ساخراً ، فبقى فمه معوجاً ! فعاد وقال : “ يا محمد ! اعف عني ، يا من ملكت ألطاف العلم اللدنيّ !...............................................................( 1 ) أي سرعان ما سلم الخلق مما أحلقه بهم من فضائح وأما هو فافتضح أمره . “ 166 “لقد كنت أسخر منك لجهلي ، وإني أنا المنسوبُ للسخرية ، الجدير بها “ .815 - إنّ اللَّه - لو أراد أن يمزّق ستر إنسان - جعله يميل إلى الطعن في أهل الطهر .وإنْ أراد أن يستر عيب إنسان ، وقاه الخوض فيما يقترفه أهل العيب .وإن شاء أن يعاوننا جعلنا نميل إلى الحزن والشجى .فما أهناً العين التي تبكي من أجله ، وما أسعد القلب الذي يحترق في سبيله .وكل بكاء عاقبتُه الضحك ، والبصير بالعواقب عبد مبارك . 820 - فأينما وُجد الماء الجاري وُجدت الخضرة ، وحيثما وُجد الدمع المنهمر وجدت الرحمة .فكنْ مثل الساقية باكياً مبتل العينين حتى تنبت الخضرةُ في رحاب روحك .وإن أردت الدموع ، فرفقاً بمن تفيض منه الدموع . وإن أردت الرحمة ، فارحم الضعفاء . كيف عاتب ملك اليهود النار
لقد اتجه الملك إلى النار وقال : “ أيتها الحادة الطبع ! أين طبعك الذي من شأنه أن يحرق الدنيا ؟كيف لا تحرقين ؟ وأين خصائصك ؟ أم هل انعكست نيّتك ( لسوء ) طالعنا ؟825 إنك لا ترحمين عابدك ، فكيف نجا منك من لا يعبدك ؟ “ 167 “ولم تكوني قطّ أيتها النار صابرة ، فكيف لا تحرقين ؟ ما شأنك ؟ألم تعد لك قدرة ؟عجباً لهذه النار المشتعلة العالية ! كيف لا تحرق ؟ أفوق عيني غشاوة ، أم على عقلي حجاب ؟أصنع إنسانُ بك السحر أو السيمياء ؟ أم أنّ طالعنا جعلك على خلاف طبعك ؟ “ .فقالت النار : “ إننّي لم أتبدل ! أنا النار ! فادخل الآن فىّ لتشعر بضرامي !830 وطبعي لم يتغيّر ولا عنصري ! أنا سيف الحق أقطع بإذنه ! إنّ كلاب التركمان تمرح وادعة على باب الخيمة أمام الضيوف .ولكن إذا مرّ أمام الخيمة غريب الوجه ، تعرّض لحملة من الكلاب تشبه حملة الأسود .وأنا لست أقلّ طاعة من الكلب ، ولا الحقّ بأقلّ حياة من التركيّ “ .فإذا كانت نار طبعك تبعث الغمّ أصبحت نفسك ، فإنّها تحرقك بأمر مليك الدين . 835 وإن كانت نار طبعك تبعث أصبحت نفسك السرور ، فإنّ مليك الدين قد وضع فيها السرور .وإذا أصابك الغمّ فاستغفر اللَّه ، إنّ الغمّ جاءك بأمر اللَّه فلا تقف جامداً .فهو إذا شاء صار الغم سروراً ، وأصبح القيد أصبحت القدمين حرية وانطلاقاً ! فالهواء والتراب والماء والنار من عُبّاده ، وهذه تبدو ميّته لي ولك ، وأما بالنسبة للحقّ فهي حيِّة .والنار قائمة على الدوام أمام الحق ، تتلوى كالعاشق بالليل والنهار .“ 168 “840 - فإذا ضربت الحديد بالحجر قفزت النار ، فهي تخرج منهما بأمر اللَّه .فلا تضربُ حديد الظلم بحجره ، فإنَّ هذين ينجبان كما ينجب الرجل والمرأة .والحجر والحديد يمثّلان السبب ( المباشر ) ، ولكن تطّلع أيّها الرجل الطيّب إلى ما أعلى من ذلك ! فإنّ هذا السبب قد أحدثه سبب آخر ، وإلا فبدون المسبّب ، كيف يجيء السبب من تلقاء نفسه ؟وهذه الأسباب التي تهدي الأنبياء ، أسمى من تلك الأسباب ( الظاهرية ) . 845 - والسبب ( الروحيّ ) يجعل السبب ( الظاهريّ ) عاملًا فعالًا في بعض الأحيان ، وأصبحت أحيان أخرى يجعله عاطلًا لا ثمرة له .وهذا السبب الظاهري تألفه عقول ( عامة البشر ) ، وأما الأسباب ( الروحيّة ) فلا يألفها إلا الأنبياء .وهذا السبب ما معناه بالعربيّة ؟ قل إنه رسن وأنّ هذا الرسن تدلّى أصبحت تلك البئر بفنّ ( وتدبير ) .ودوران الفلك علة لهذا الرسن ، وإنه لخطأ ألا ترى مدير الفلك .فحذار أن تنظر إلى حبال الأسباب أصبحت هذه الدنيا على أنِّها من هذا الفلك الدائر الرأس .850 وإلا بقيت صفر الوفاض ، دائر الرأس كالفلك ، واحترقت لخوّك من اللبّ ، كما يحترق خشبُ المرخ .إنّ الهواء يصبح ناراً بأمر الحقّ ، وكلّ منهما سكران من خمر الحق .وإنك لترى يا بنيّ - إذا أحسنت النظر - أنّ ماء الحلم ونار الغضب هما من اللَّه .ولو لم تكن روح الريح عارفة بالحقّ ، فكيف كانت تفرق بين ( المؤمنين والكفار ) من قوم عاد . “ 169 “ قصة الريح التي أهلكت قوم عاد في عهد هود
لقد رسم هود حول المؤمنين خطاً ، وكانت الريح ترقّ عندما تصل إلى هذا الخطّ . 855 وأما جملة الخارجين عن هذا الخطّ ، فكانت الريح تمزقهم إرباً في الهواء .وهكذا كان شيبان الراعي ، يرسم خطاً حول قطيعه .وذلك حينما كان يذهب للصلاة يوم الجمعة ، حتى لا يجيء الذئب فيغير عليه .فما كان ذئب يدخل تلك الدائرة ( المرسومة ) ، ولا كان حمل يخرج منها ! فكانت دائرةُ رجل اللَّه قيداً لريح الحرص عند الذئب ، وعند الحمل . 860 وهكذا تكون ريح الأجل مع العارفين ، إنها رقيقة طيبة كنسيم البستان “ 1 “ .إنّ النار لم تنشب أنيابها في إبراهيم . وكيف كانت تنهشه وهو الذي اختارة الحقّ ؟إنّ نار الشهوة لم تُصب أهل الدين ، ولكنها هبطت بمن عداهم إلى قاع الثرى ................................................................( 1 ) فضلنا قراءة الشطر الثاني من هذا البيت : “ نرم وخوش همچون نسيم بوستان “ ، وهي التي وردت في النص الفارسي من المنهج القوي على قراءة نيكلسون : “ نرم وخوش همچون نسيم يوسفان “ . “ 170 “ وموجُ البحر - إذ تدفق بأمر اللَّه - ميَّز بين قوم موسى ، وبين أهل مصر .والأرض - عندما جاءها الأمر - سحبت قارون بذهبه وعرشه إلى قاعها . 865 والماء والطين - حينما ارتويا من أنفاس عيسى - انبثقت لهما قوادم وخوالف ، وأصبحا طائراً يحلق “ 1 “ .وما تسبيحك إلا بخار الماء والطين ، وقد صار هذا طائر الجنة لما نفخ فيه القلب الصدوق .ولقد رقص جبل الطور لما رأى نور موسى ، وأصبح صوفياً كاملًا ، وبرئ من النقص .وأيّ عجب إذا صار الجبل صوفياً عزيزاً ، أو لم يُخلق جسمُ موسى أيضاً من قعطة طين ؟سخرية ملك اليهود وانكاره ورفضه نصح خواصه
لقد رأى ملك اليهود هذه العجائب - ومع هذا - لم يكن منه سوى السخرية والإنكار . 870 فقال له الناصحون : “ لا تجعل هذا الأمر يجاوز حدّه ، ولا تدفع بمركب العناد إلى مثل هذا المدى ! “...............................................................( 1 ) إشارة إلى إحدى معجزات عيسى . فقد كان يصنع من الطين أشكالًا على هيئة الظير ثم ينفخ فيها فتصير طيراً .وقد ورد ذكر هذه المعجزة في أماكن عديدة من القرآن ومنها قوله تعالى في سورة آل عمران “ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه “ . ( 3 : 49 ) . “ 171 “ ولكنه قَيّد أيدي الناصحين ، وألقى بهم في السجن ، فارتكب بذلك ظلماً فوق ظلم .وعندما بلغ الأمر ذلك الحدّ جاءت صيحةُ تقول : مكانك أيها الكلب فقد جاء انتقامنا ! “ فارتفع لهيبُ النار بعد ذلك أربعين ذراعاً ، ثم طوقت هؤلاء اليهود وأحرقتهم .
لقد كان ابتداءُ أصلهم من النار ، وها هم أولاء قد انتهوا إلى أصلهم !
875 إنّ هذا الفريق كان قد ولُد من النار ، وها هي ذي الأجزاء قد اتجهت إلى كلّها .
لقد كان هذا الطريق ناراً لهيبها يأكل المؤمنين ، وها هي ذي نارهم تأكل نفسها ، كما يحترق الهشيم !
وكلّ من كانت أمّه الهاوية أصبحت له الهاوية “ 1 “ زاوية وسكناً .
إنّ أمّ الولد دائمةُ البحث عنه ، والأصول طالبة لفروعها .
والماء إنْ احتبس في حوض ، جففته الريح ، لأنه من العناصر الأولى .
880 فالريح تخلصه ، وتحمله إلى معدنه رويداً رويداً ، وأنت لا تبصر فعلها !
وعلى هذا النحو تستلب أنفاسنا أرواحَنا رويداً رويداً من حبس هذه الدنيا .
فإليه يصعد اطيابُ الكلم * صاعداً منا إلى حيث علم “ 2 “
ترتقي أنفاسنا بالمنتقى * مُتْحَفاً منا إلى درا البقا
...............................................................
( 1 ) الهاوية اسم لجهنم . قال تعالى في سورة القارعة : “ وأما من خفَّت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه ، نار حامية “ ( 101 : 7 - 11 ) .
( 2 ) هذا البيت والأبيات الأربعة التي تليه من نظم جلال الدين بالعربية . ويتجلى بوضوح ضعف شعره العربيّ إذا قورن بشعره الفارسي .
“ 172 “
ثم تأتينا مكافاةُ المقال * ضعْف ذاك رحمةً من ذي الجلال
885 ثم يلجينا إلى أمثالها * كي ينال العبدُ مما نالها .
هكذا تعرجْ وتنزلْ دائماً * ذا فلا زلت عليه قائما
وتفسير ذلك “ 1 “ : إنّ هذا الجذب يجيء من ذلك الجانب الذي وقع فيه الشراب .
فكلّ قوم يتّجهون بأعينهم إلى ذلك الجانب ، الذي تحققت لهم فيه - ذات يوم - إحدى اللذّات .
ومن اليقين أن ذوق كلّ جنس يكون من جنسه ، وكذلك يكون ذوق الجزء من كله ، فتأمل !
890 الا ما كان من الأجناس قابلًا الاتّحاد بغيره ، فإنّه ، عندما يتحد بالغير ، يصبح من جنسه .
ومثال ذلك الماء والخبز ، لم يكونا من جنسنا ، فصارا من جنسنا وزادا في كياننا !
فالماء والخبز ليست لهما صورتنا الجنسية ، ومع هذا ، فلتعدّهما من جنسنا باعتبار مآلهما آخر الأمر !
وإذا كان لنا ميل لغير جنسنا فلعلّ ذلك لأنّه يشبه جنسنا .
وكلّ مشابهة ( ظاهرَّية ) تكون عارية “ 2 “ ، والعارية لا تبقى في عاقبة الأمر .
895 فالطير مهما أعجبها الصفير ، تفزع وتفرّ ، أنّ لم تجد ( صاحبه ) من جنسها .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : والمعنى بالفارسية . . . . .
( 2 ) العارية هنا الشيء المستعار والمراد أنّ كل مشابهة ظاهرية ليس لها حقيقة ثابتة ولا وجود ثابت .
“ 173 “
والظمآن يعجبه السراب ، ولكنّه - حين يصل إليه - يهرب منه ، ويبحث عن الماء .
ومهما سعد المفلسون بالذهب الزائف ، فإنّ أمره ( لا محالة ) يفتضح في دار الضرب .
فحتى لا يصرفك الذهب الزائف عن الطريق ، وحتى لا يلقي بك الخيال المعوجّ في بئر ( المهالك ) ،
اطلب تلك القصة في كتاب كليلة ودمنة ، وانشُد ما اشتملت عليه من عظة ..