كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
شرح كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي
“ 203 “قصة الهدهد وسليمان في بيان أنه حين يقع القضاء تُغلقُ العيونُ المبصرة
حينما ضرب مخُيّم سليمان ، مثلت أمامه الطيور طائعة .لقد وجدته متكلماً بلسانها ، عارفاً بأسرارها ، فهرع كلُ منها للمثول أمامه بروحه .وكلّ هذه الطيور تركت صفيرها ، وأصبحت أفصح من أخيك “ 1 “ في حضرة سليمان . 1205- إنّ التشارك في اللسان قربى ورباط ، والمرء مع من لا يفهمونه مثل السجين ! وكم من هنديّ وتركيّ يتكلمان بلسان واحد ، وكم من تركيّين في لغتهما متباعدان !
فلسان الوفاق الروحيّ مختلفُ عن ( لسان القول ) ، وتشابهُ القلوب خيرُ من تشابه الألسن !
ففي القلب يقوم آلاف التراجمة ( بنقل أحاسيسه ) بدون نطق ولا إيماء ولا سجلّ .فجملة الطير - بكل ما وعته من أسرار عن الفضائل والمعرفة والعمل . 1210- عرضت نفسها على سليمان ، وكلُ منها مدح نفسه في معرض القول ...................................................................( 1 ) أي أفصح من الشاعر .“ 204 “ولم يكن ذلك عن كبر ولا اعتداد بالنفس ، ولكنّ كلًا منها أراد أنْ يتقدم على غيره عنده “ 1 “ .فمن واجب العبد أن يُظهر طوفاً من فضائله لسيّده .فإنْ وجد العار في أن يشتريه السيدّ ، تظاهر بالمرض أو الشلل أو الصم أو العرج .وجاء دور الهدهد ، وحرفته ، وبيان صنعته وتفكيره .1215 فقال : أيّها الملك ، إنني سأذكر فضيلة واحدة ، فضيلة صغيرة ، ولكنّ الخير في الإيجاز “ .فقال سليمان : “ تكلّم لنرى ما هذه الفضيلة “ . فقال الهدهد :عندما أكون في أوج الارتفاع ، أنظر من ذلك الأوج بعين اليقين ، فأرى الماء في قاع الثرى ، أين مكانه وما عمقه وما لونه ، ومن أين يتفجر ، أمن التراب أم من الحجر .فخذ معك في السفر ذلك العارف يا سليمان ، لاختيار موقع معسكرك “ .1220 فقال سليمان : “ ما أحسنك من رفيق ، في القفار التي تخلو من الماء العميق ! “ كيف طعن الغراب في دعوى الهدهد
وعندما سمع الغراب ( كلام الهدهد ) ، جاء حاسداً ، وقال لسليمان : “ ما هذا الكلام المعوجّ القبيح ؟إنه ليس من الأدب التفاخر أمام الملوك ، وخاصة إذا كان ذلك...........................................................................( 1 ) حرفياً : “ ولكن لكي يفسح لها الطريق قبل ( غيرها ) “ . “ 205 “ من جزاف القول الكذب المحال .فلو كان للهدهد هذا النظر على الدوام ، فكيف لا يبصر الفخ تحت قبضة من التراب ؟وكيف كان يقع في الشرك ؟ وكيف كان يصير يائساً في القفص ؟ 1225 - فقال سليمان : “ أيها الهدهد ! أصحيح أنه قد أصابك ( كلّ ) هذا الدوار من أوّل قدح ؟فيا من شربت اللبن المخض ، كيف تتظاهر بالسكر ، وتلقي أمامي بجزاف القول وتكذب ؟ “كيف ردّ الهدهد على طعن الغراب
فقال الهدهد : “ لا تستمع - بحق اللَّه - إلى قول العدو ، عني ، أنا المسكين المعدم ! فإنْ لم يصّح هذا الذي أدّعيه ، فإني أضع رأسي أمامك ، فلتقطع عنقي هذا .إنَّ الغراب المنكر لحكم القضاء كافر ، ولو كانت له آلاف العقول ! “ 1230 - فان كانت فيك كاف واحدة من ( كلمة ) “ الكافرين “ فإنك كالفرج محل للنتن والشهوة “ 1 “ .“ إننّي أبصر الفخّ من الهواء ، إذا لم يحجب القضاء عين عقلي “ .وحينما يأتي القضاءُ ينام العلم ، ويغدو القمر أسود ، ويحجب الشمس .فمتى كانت مثل هذه التعبئة “ 2 “ نادرة من القضاء ؟ اعلم أنّ من القضاء أنْ ينكر المرء القضاء !........................................................( 1 ) في البيت جناس بين كلمتي “ كافران “ ( الكفار ) ، ( كاف ران ) .( 2 ) قد تكون كلمة “ تعبئة “ هنا تحريفاً لكلمة تعمية .“ 206 “قصة آدم عليه السلام وكيف أنّ القضاء حجب بصره
عن مراعاة صريح النهي وترك التأويل
إن أبا البشر آدم - أمير علم الأسماء “ 1 “ - كان كلّ عرق من عروقه ينبض بآلاف العلوم ! 1235 إن روحه منُحت علم كل شيء ، كما وُجد ، وكما يكون حتى النهاية .فلم يتبدل قط لقب أطلقه ، فكل ما نعته بالنشاط والسرعة لم يصبح كسولًا متراخياً “ 2 “ .وقد عرف - في أول الأمر - من كان مآله إلى الإيمان ، كما تكشف له من كان مآله إلى الكفر .فلتستمع إلى اسم كل شيء من عالمٍ ( بالأسماء ) ! استمع منه إلى سرّ الرمز في قوله تعالى : “ وعلمّ آدم الأسماء كلها “ .
إن عندنا لكل شيء اسمه الظاهري ، وأما سر هذا الاسم فلدى الخالق .
1240 فالخشبة التي كان يمسك بها موسى ، كان اسمها - عنده - “ عصا “ وأما عند الخالق فكان اسمها “ حيّة “ .
وقد كان لعمر هنا ( في الدنيا ) اسم “ عابد الأصنام “ ولكن
....................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وعلم آدم الأسماء كلها “ . سورة البقرة ( 2 : 31 )
( 2 ) حرفياً : فكل ما أسماء نشطاً لم يصبح كسولًا .
“ 207 “
اسم الايمان كان له من قبل أن يولد “ 1 “ .
فكل ما كان عندنا في عداد النطف ، كان مائلًا أمام الحق كأنه معه “ 2 “ .
لقد كانت هذه النطفةُ صورة في العدم ، ولكنها كانت موجودة أمام الحق بدون زيادة أو نقصان .
فالحاصل أن عاقبة أمرنا هي التي تمثل حقيقة اسمنا عند الخالق .
1245 فهو يسميّ المرء بعاقبته ، لا بما يكون عارية مؤقتة .
إن عين آدم حين أبصرت بالنور الطاهر ، تجلت لها أرواح الأسماء وأسرارها .
وعندما أبصر الملائكة أنوارَ الحق في آدم خرّوا سُجدّا وسارعوا لتمجيده .
فهكذا آدم الذي أحمل اسمه ، ولو أنني مدحتُه حتى القيامة لما وفيته حقه .
لقد أدرك كل هذا ولكنه - حين وقع القضاء - أخطأ في إدراك نهي واحد .
1250 فقد عجب ، أهذا النهي كان من أجل التحريم ، أم أنه كان قابلًا لتأويل ، ومجالًا للوهم .
وعندما رجح في قلبه التأويل ، سارع طبعه في حيرة نحو القمح .
فلما أصابت الشوكة قدم البستاني ( آدم ) ، وجد اللص ( إبليس )
.............................................................................
( 1 ) حرفياً : ولكن اسمه كان “ المؤمن “ في “ ألست “ . كلمة ( ألست ) تشير إلى قوله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى “ . الأعراف ( 7 : 171 ) .
( 2 ) حرفياً : فكل ما كان اسمه - عندنا - نطفة كان أمام الحق “ إنك في هذه الحظة معنا “ ، والمعنى أن كل ما كان بالنسبة لنا مجرد بذرة لا نعرف ما يتولد منها ، كان مائلًا بكيانه أمام الحق ، فهو الذي يعلم ما يؤول إليه كل شيء .
“ 208 “
فرصته ، وسارع إلى حمل الثمار “ 1 “ .
وحينما خلص ( آدم ) من حيرته ، عاد إلى الطريق السوي ، فوجد أن اللص قد سرق المتاع من دكانه .
فتأوه قائلًا :” رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ““ 2 “ ، يعني أن الظلمة قد حلت ، وضاع الطريق .
1255 “ فهذا القضاء سجابُ يحجب وجه الشمس ، وهو يجعل الأسد أو التنين مثل الفأر .
فإنْ كنتُ لا أرى الفخ عند نزول القضاء فلست وحدي الجاهل في تلك الطريق “ “ 3 “ .
فما أسعد من استمسك بالعمل الصالح ، وتخلى عن العنف ولزم الضراعة .
فالقضاء إذا كان يغشاك بظلمة كالليل ، فإنه يأخذ بيدك في عاقبة الامر .
والقضاء ، إذا قصد روحك مائة مرة ، فإنه أيضاً يهبك الروح ويداويك .
1260 إن هذا القضاء ، لو سد الطريق أمامك مائة مرة ، فإنه يضرب لك مخيّماً فوق أعالي السماء !
فلتعلم أنه ( اللَّه ) إنما يخيفك بكرمه ، وذلك لكي ينزلك في ملكوت الأمان ............................................................................( 1 ) حرفياً : البضاعة .( 2 ) قال تعالى في سورة الأعراف : “ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين ، قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين “ . ( 7 : 21 ، 22 ) .( 3 ) عاد الشاعر إلى حديث الهدهد ، ودفاعه عن نفسه أمام سليمان . وقد اختتمه بهذين البيتين . “ 209 “إن هذا الكلام لا نهاية له ، وها هو ذا قد طال ، فلتستمع الآن إلى قصة الأرنب والأسد . كيف تخلف الأرنب وراء الأسد عندما اقترب من البئر
فعندما اقترب الأسد من البئر ، رأى أنّ هذا الأرنب قد تباطاً في الطريق وتخلفّ .فقال له : “ لماذا توانيت في السير ؟ لا تتخلّفْ وأَقبلْ “ .1265 فقال الأرنب : “ وأين لي قدم ( تسير ) ، وقد ضاعت يداي وقدماي ، وارتعدت روحي ، وانخلع قلبي ! أفلا ترى لون وجهي ( مصفراً ) كالذهب ؟ إنّ لوني ينبئك بخبر عن باطني .
ولما كان الحق قد اعتبر السيما وسيلة للتعرف ، فقد بقيتُ عين العارف متعلّقة بالسيما “ 1 “ .
إنّ اللون والرائحة ينبئان كما ينبئ الجرس ، وكذلك ينبئ صهيلُ الفرس عن الفرس .
وصوت كل شيء يجيء بخبر عنه ، فيه تمُيزّ بين نهيق الحمار وصرير الباب .
........................................................................
( 1 ) قال تعالى : “ سيماهم في وجوهم من أثر السجود “ . الفتح ( 48 : 29 ) .
وقال : “ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام “ . الرحمن ( 55 : 14 ) .
وقال : “ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم “ . ( محمد ( 47 : 30 ) . وقال : “ ونادى أصحاب الأعراف رجالًا يعرفونهم بسيماهم “ . الأعراف ( 7 : 48 ) ، وقال : “ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلًا بسيماهم “ . الأعراف ( 7 : 46 ) ، وقال : “ تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً “ . البقرة ( 2 : 273 ) .
“ 210 “
1270 - ولقد قال الرسول في التمييز بين الناس : “ المرء مخفي تحت لسانه “ “ 1 “ .
إن لون الوجه ليخبر عن حال القلب ، فكن رحيماً بي ، وأَشرب قلبك محبّتي .
فالوجه المحرّ يضمر صوت الشكر ، وأما الوجه المصفرّ فيضمر صوت الصبر والنكران .
ولقد وقع بي ما سلبني اليد والقدم ، بل ما سلبني لون وجهي وقوتي وسيماي ،
( وقع بي ) ما يحطّم كل شيء أصابه ، ويقتلع كل شجرة من جذورها وأصلها .
1275 - بل أصابني ما يميت الإنسان والحيوان والنبات والجماد .
وما هذه سوى أجزاء ، والكليّات من ( صنعه ) . إنّه هو الذي جعل اللون أصفر ، والرائحة فاسدة .
إنّ البستان ليرتدي حلّة ( الخضرة ) حيناً ، وحيناً يتعرّى ، وذلك ليكون العالم حيناً صابراً ، وحيناً شكوراً “ 2 “ .
والشمس التي تشرق - وهي في لون النار - تصبح - في ساعة أُخرى - منقلبة الرأس ( نحو المغيب ) .
والنجوم المشرقة في جوانب السماء الأربعة ، إنما هي - بين لحظة وأُخرى - مبتلاة بالاحتراق .
1280 والقمر الذي يتفوق على النجوم في الجمال ، غدا من مرض النحول وكأنه الخيال “ 3 “ .
وهذه الأرض الساكنة الوقور ، تجعلها الزلزلةُ مرتعدة كاللهب .
...........................................................................
( 1 ) اقتباس من حديث شريف . نصّه : “ المرء مخفيّ تحت لسانه “ .
( 2 ) إن اخضرار البستان ثم ذبوله يقدمان للعالم مثلًا لتغير الأحوال حتى يكون في وقت الشدة صابراً ، وفي وقت الرخاء شكوراً .
( 3 ) يشير إلى تناقص القمر يوماً بعد يوم حتى المحاق .
“ 211 “
وكم في الدنيا من جبل جعله هذا البلاءُ المتوراث فتاتاً ورمالًا !
وهذا الهواء جاء مقترناً بالروح ( والحياة ) ، ولكنه - حين وقع القضاء - أصبح فاسداً عفناً .
والماء العذب الذي كان قريناً للروح ، أصبح في العذير ( الراكد ) أصفر اللون ، مرّ المذاق معتكراً .
1285 والنار المنتفخة برياح الغرور “ 1 “ تقضي بالموت عليها نفخة ريح واحدة .
واعلم أنّ حال البحر في اضطرابه وجيشانه ، إنما هو ناشىء من تغير عقله وتبدله .
والفلك الدوار الدائب على السعي والتنقيب ، ليس حاله إلا كحال أبنائه .
فهو حيناً في الحضيض ، وحيناً في الوسط ، وحيناً في الأوج ، وبه أفواجُ ، وأفواج من ( كواكب ) السعد والنحس .
فيا أيها الجزئيّ الذي هو من كليات مختلطة ! لتكن ذاتك سبيلك لتفّهم حال كل موجود !
1290 - وإذا كانت الكليات معتلة سقيمة ، فكيف لا تكون جزئياتها مصفرة الوجوه ؟
وخاصة ذلك الجزئيّ الذي تجمعت به الأضداد ، واتحد فيه الماء والتراب والنار والهواء .
فليس من عجب في أنْ تفرّ الشاة من الذئب ، وإنما العجب هو أنْ يتعلق قلب الشاة بالذئب .
إنّ الحياة تآلفُ بين الأضداد ، وما الموت إلا قيام للحرب بينها !
ولقد ألِّف لطفُ الحقّ بين الأسد وحمار الوحش ، هذين الضدين المتباعدين ! 1295 - وإذا كان هذا العالم مريضاً سجيناً فأيّ عجب يكون لو فني المريض ؟ “.......................................................................( 1 ) حرفياً : والنار التي تحمل في شواربها ريح ( الغرور ) .“ 212 “فعلى هذا الوجه تحدّث الأرنب بالنصح إلى الأسد ، وقال : “ إنّي قد تأخرت من جرّاء تلك القيود “ .كيف سأل الأسد الأرنب عن سبب تأخره
فقال الأسد : “ اذكر لي سبباً خاصاً من أسباب العلّة ، فذلك ما أبتغيه “ .فقال الأرنب : “ إنّ ذلك الأسد يسكن هذا البئر ، وهو - في هذه القلعة - أمن من الآفات .فكلّ من كان عاقلًا اختار قاع البئر ، ذلك لأن صفاء القلب في الخلوة .1300 - إنّ ظلمة البئر خير من ظلمات الخلق ، فما رفع رأسه قط من اقتفى أثر الخلق “ .فقال الأسد : “ فلأقهرنّه بضرباتي ! ألا فلتُقدمْ ولتنظر ، أهذا الأسد حاضرُ في البئر ؟ “ فقال الأرنب : “ إنّني قد احترقتُ بتلك النار ، فلعلّك تقودني إلى جانبك ،
حتى أستطيع - بمؤازرتك - أنْ أفتح عينّي وأنظر في البئر “ .كيف نظر الأسد في البئر ورأى صورته وصورة الأرنب في الماء
فعندما اقتاد الأسد الأرنب إلى جانبه ، جرى - في رعاية الأسد - نحو البئر .“ 213 “1305 - فلما نظر إلى الماء في البئر ، تجلى في الماء خيالُ للأسد والأرنب .فسرعان ما رأى الأسد خياله في الماء . ( لقد كان ) الخيال في هيئة أسد وإلى جانبه أرنب سمين .فلما رأى الأسد خصمه في الماء ، ترك الأرنب ، واندفع إلى داخل البئر .لقد وقع في البئر الذي كان قد حفره ، ذلك لأن ظلمه كانُ مرتدّاً إلى رأسه .إن الظلم قد أصبح اللظالمينُ جبّاً حالك الظلمة ، ولقد قال بهذا جملة العلماء .1310 وكلّ من كان أكثر ظلماً ، كانت بئره أكثر هؤلاء ! إنّ العدل ( الإلهيّ ) قد أمر بأسوأ ( العقاب ) لأسوأ ( الذنوب ) .فيا أيّها الذي يحفر بئراً من الظلم ! إنّك لتنصب لنفسك شركاً ! فلا تجعل نسيجك حول نفسك ، كما تفعل دودة الحرير ! إنّك تحفر البئر لنفسك ، فاحفرها بقدر !
ولا تكن موقناً بأنّ الضعفاء لا معين لهم . وأتل من القرآن ( قوله تعالى ) :” إذا جاءَ نَصْرُ اللَّه وَالْفَتْحُ ““ 1 “ .
فلو أنّك كنت فيلًا يهرب منك خصمك فإنّ جزاءك ( مذكور في قوله تعالى ) :” وَأَرْسَلَ عَلَيْهمْ طَيْراً أَبابيلَ ““ 2 “ .
1315 فلو طلب الأمان ضعيف من أهل الأرض ، لثار ( لنجدته ) جيش السماء .
وإنْ أنت عقرته بأسنانك ، وجللته بدمائه ، أصابك وجع الأسنان ، فماذا أنت فاعل ؟
....................................................................
( 1 ) سورة النصر ، ( 110 : 1 ) .
( 2 ) سورة الفيل ، ( 105 : 2 ) .
“ 214 “
لقد أبصر الأسد ذاته في البئر ، ولكنّه - لغضبه حينذاك - لم يعرف ذاته من عدوّه .
لقد رأى في صورته عدوّاً له ، فلا جرم أن سلّ على نفسه سيفاً ! فيا من تستمع إليّ !
كم من ظلم تراه في الناس ، وما هو سوى طبعك ، وقد رُكَّب فيهم .
1320 ففيهم قد انعكس وجودك ، بنفاقك وظلمك وقبيح غفلتك .
إنّك إنّك أنت ذلك ( الشرير ) ، وإنك لتوجّه ذلك الطعن إلى نفسك ، وإنّك لتلعن نفسك في هذا الساعة !
ولستَ تعاين هذا القبح في نفسك ، وإلا لناصبتها العداء بكل روحك !
إنّك لتحمل على نفسك - أيّها الرجل الغرّ - كما حمل هذا الأسد على نفسه .
فإذا ما وصلتَ إلى قرارة طبع ذاتك ، علمت أن هذه الدناءة كانت منك !
1325 لقد ظهر لهذا الأسد - في قاع البئر - أنّ صورة ذاته هي التي بدت له شخصاً آخر .
فكلّ من اقتلع لضعيف أسنانه ، سلك مسلك ذلك الأسد الذي أخطأ الإبصار .
فيا من أبصرت قبيح الخيال في وجه عمِّك ! ليس عمك بقبيح ، بل إنّك أنت ذلك ، فلا تهرب من نفسك !
لقد رُوي عن الرسول أنّه قال : “ المؤمن مرآة المؤمن “ .
إنّك قد وضعت أمام عينيك زجاجة زرقاء ، ولهذا السبب بدا لك العالم أزرق اللون “ 1 “ .
1330 فإن لم تكن أعمى فاعلم أنّ هذه الزرقة من نفسك .
...............................................................
( 1 ) يشبه ما يقال اليوم عن المتشائم الذي “ ينظر إلى الدنيا بمنظار أسود “ .
“ 215 “
وتَحدّث بالسوء عن نفسك ، ولا تذكر - بعدُ - غيرك بالسوء .
فكيف كان الغيب يظهر عارياً أمام المؤمن ، لو لم يكن ينظر بنور اللَّه ؟
وما دمتَ أنت تنظر بنار اللَّه ، فإنك لم تميِّز الخير من الشر .
فانثر الماء على النار رويداً رويداً - يا أبا الَحزنَ - حتى تغدو نارُك نوراً !
يا ربنا أنزلْ على هذا العالم الماء الطهور ، حتى تصبح جملة ناره نورا ! 1335 إنّ ماء البحر كلِّه رهن أمرك . والماء والنار - يا إلهي - مما تملك .فإنْ تُرد تصبح النار ماء زلالًا ، وإن لم تُرد ، فإنْ الماء أيضاً يصبح ناراً .وهذا الطموحُ فينا إنما هو من إيجادك ، والخلاص من الظلم - يا ربّ - من عطائك .لقد وهبتنا هذا الطموح بدون طلب منا ، وأنعمت علينا بهبات لا تُعدّ ولا تُحدّ .كيف حمل الأرنب البُشْرى إلى الوحوش بأن الأسد قد سقط في البئر
ولما سعد الأرنب بالخلاص ، أخذ يعدو نحو الوحوش حتى أدرك الفلاة .1340 - فهو حين رأى الأسد في البئر قتيلًا تعساً ، معضى يرقص طرباً حتى ( بلغ ) المرج .لقد كان يصفّق بيديه لنجاته من يد الموت ، وكان جذلًا يتمايل في الهواء كالغصون والأوراق .إنَّ الغصون والأوراق - حين تحررث من سجن التراب - رفعت رأسها ، وصارت نديمة للهواء . “ 216 “والأوراق حين تفتقت عنها الغصون سارعت إلى قمم الأشجار .فكانت كلّ ثمرة وكلّ ورقة ترانيم شكر للَّه يتغنى بها لسانُ الدوح .1345 ( قائلًا ) : “ إنّ ذا العطاء قد رعى أصلنا حتى استغلظت أشجارنا واستوت “ “ 1 “ .والأرواح المقيّدة بأسر الماء والطين ، تسعد قلوبها حين تخلص من الماء والطين .وتغدو راقصة في هواء عشق الحقّ ، وتصبح بريئة من النقص مثل قرص البدر .بل إنّ أجسامها لتغدو راقصة ، فلا تسل عن الأرواح ! لا تسل عما يحيط بها من ذلك كله ! إنّ أرنباً قد أقعد بالسجن أسداً ! ألا قبح اللَّه أسداً عجز أمام أرنب .
1350 -والعجيب أنّه - وهو في مثل هذا العار - يريد أنْ يُلقّب بفخرالدين .
فيا أيّها الأسد المنفرد في قرارة هذا البئر ! إنّ نفسك الشبيهة بالأرنب قد أراقت دمك وشربته .
إنّ نفسك الشبية بالأرنب ترتعي في الصحراء ، وأنت هنا في قرارة بئر الكيف والعلّة .
لقد اندفع صياد الأسد “ 2 “ هذا نحو الوحوش ( قائلًا ) : “ أبشروا يا قوم إذ جاء البشير !
بشراكم ، بشراكم يا أهل المرح والسرور ! إنّ كلب الجحيم قد عاد إلى الجحيم ! 1355 بشراكم ، بشراكم ! فإنّ قهر الخالق قد اقتلع الأنياب من عدوّ أرواحكم ..............................................................................( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه “ . سورة الفتح ، ( 48 : 28 ) .( 2 ) الأرنب . “ 217 “إنّ الذي حطّم بمخالبه الكثير من الرؤوس ، قد اكتسحته مكنسة الموت ، كما تُكتسح القذارة .كيف التفتْ جماعة الوحوش حول الأرنب وأثنت عليه السلام
لقد اجتمعت جملة الوحوش في ذلك الزمان ، سعيدة ضاحكة ، سكرى ، جياشة بالطرب .والتفّتْ حول الأرنب ، فكان في وسطها كالشمعة ، وسجدت له كل هذه الوحوش الصحراوية .( وقالت ) : “ أأنت ملك سماويّ أم جنيّ ؟ لا ! بل أنت عزرائيل الأسود الضارية . 1360 وأيّاً ما تكون ، فإنّ أرواحنا فداء لك . لقد انتصرت ، سَلمتْ يدك وساعدك .إنّ الحقّ قد أجرى هذا الماء في نهرك ، فبارك اللَّه يدك وساعدك .ألا فلتحدثّنا ، كيف دبّرتَ حيلتك ؟ وكيف سحقت ذلك الشرير بمكرك ؟حدّثنا ، فلعل قصّتك تصير علاجاً لنا ! وتكلمّ ، فلعلها تصبح بلسماً لأرواحنا .تكلم ، فإنّ ظلم ذلك الظالم أصاب أرواحنا بآلاف الجراح “ .1365 فقال ( الأرنب ) : “ لقد كان هذا بتأييد اللَّه أيّها الكبراء ! وإلا فما شان أرنب في هذا الدنيا ؟لقد وهبني القوة ، وأنار قلبي ، ونورُ القلب قد أمدّ بالقوة يديّ وقدميّ .وما يجيء الفضل إلا من عند اللَّه ، كما أنّ تبديل ( الأحوال ) أيضاً“ 218 “يأتي من الحقّ .والحقّ يظهر هذا التأييد - في أدوار مختلفة - لأهل الظنّ وأهل العيان .فتنبّه ولا تفرح بملك وقتيّ ، ولا تدّع الحرية يا من أنت أسير الزمن المؤقت .1370 فكل من نُسجَ مُلكُه مما هو أعلى من الزمن المؤقت قُرعتْ له الطبول فوق الكواكب السبع .إنّ الملوك الباقين لفوق الزمن المؤقت ، فأرواحهم - على الدوام - تدور حول الساقي .فلو قلتَ بترك هذا الشراب ( الدنيوّي ) يوماً أو يومين لغَمَرْتَ فمك بشراب الخلود . تفسير “ رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “
أيها الكبراء ! لقد قتلنا عدوّنا الظاهري ، وبقي عدّو أمرُّ منه في باطننا ! وقتل هذا ( العدو الباطنيّ ) ليس من عمل العقل والحكمة ، فالأرنب لا يقدر على تسخير أسد الباطن .1375 إن هذا النفس جهنم ، وجهنم تنيّن لا تنقص من قوته البحار .إن جحيمها ليشرب في التوّ سبعة أبحرٍ ، بدون أن ينقص ذلك من ضراوته التي تحرق الخلق .والأحجار والفكرة ذو والقلوب المتحجّرة ، يدخلونها أذّلاء خجلين .وهي لا تشبع من هذا الغذاء ، حتى يأتيها من الحق هذا النداء :قائلًا :” هَل امْتَلَأْت وَتَقُولُ هَلْ منْ مَزيدٍ ““ 1 “ . فهذه هي النار ، وهذا لهيبُها وحريقها .............................................................( 1 ) سورة ق ، ( 50 : 30 ) .“ 219 “1380 لقد جعلت من العالم لقمة وابتلعته ، وظلتْ معدتها تصيح : “هل من مزيد؟ “ .فإذا ما وضع الحق عليها قدمه من اللامكان ، أصبحت ساكنة بمشيئة اللَّه “ 1 “ .ولما كانت نفوسنا هذه أجزاء من جهنم ، فإن لهذه الأجزاء طبع الكلّ .وهذه القدم التي تقتلها إنما هي للحقّ . ومَنْ سواه يشد القوس ( الذي يصميها ) ؟وليس يُرَكّبُ في القوس إلا السهم المستقيم . وقوس ( النفس ) ليس به إلا سهام معكوسة معوجة ! 1385 فكن مستقيماً كالسهم ، وانطلق من القوس ، فلا شك أنّ كلّ ( سهم ) مستقيم ينطلق من القوس . فأما وقد رجعتُ من الحرب الظاهرة ، فإني قد اتجهت الآن إلى حرب الباطن .لقد عدنا من الجهاد الأصغر ، وها نحن مع الرسول في الجهاد الأكبر .وإني لألتمس من اللَّه القوة والتوفيق، ( وما يحملني على ) الفخار ، حتى أقتلع بإبرةٍ جبل قاف.واعلم أنّ من اليسير على الأسد أن يمزّق الصفوف .ولكنّ الأسد ( القويّ ) هو ذلك الذي يتغلبّ على نفسه ........................................................( 1 ) روى أنس عن الرسول أنه قال : “ لا تزال جهنم نقول هل من مزيد حتى يضع فيها ربّ الغرَّة قدمه فتقول قط قط وعزتك “ ..