كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد
“ 389 “
وحيثما ظهر النقصان والعدم ، كانا مرآة الجمال لكلّ فنّ وحرفة .
3205 - وكيف يظهر فنُّ الحائك إذا ( قدّمت له ) ثوباً نظيفاً جيّد الحياكة ؟
وجذوع ( الأشجار ) يجب ألا تكون محفورة ، ولا مُشكَّلة ، حتى يشكلّ النجَّار الأصل والفروع “ 1 “ .
وطبيب العظام يذهب إلى حيث تكون الساق المنكسرة .
وكيف يتضح جمال صناعة الطبّ ، حين لا يكون هناك مريض عليل ؟
ومتى كان الإكسير يظهر ، لو لم تذع بين الناس خسّة النحاس وضعته ؟
3210 - إن النقائص هي المرآة التي تجلو صفات الكمال . كما أنّ الحقارة مرآة العزَّة والجلال .
ذلك لأنّ الضدّ يظهر ضدّه يقيناً . فالعسل - إلى جانب الخلّ - بَيّنُ الحلاوة .
فكلّ من رأى نقص ذاته وعرفه ، فقد انطلق بجوادين نحو استكمالها .
وليس ينطلق محلِّقاً نحو ذي الجلال ، من توهمّ ذاته مفعمة بالكمال .
فيا أيها المُدلُّ بذاته ! إنّ الروح لا تصاب بعلة أسوأ من توهمّ الكمال !
3215 - فلا بدّ من أنْ يفيض قلبك وعيناك بدم كثير حتى يخرج منك هذا العُجْب .
لقد كانت علّةُ إبليس ( في قوله ) أنا خير ( من آدم ) . وهذه العلّة كائنة في نفس كلّ إنسان .
فإنْ كان المرء يرى نفسه شديد الانكسار ، فاعلم أنّ هذا هو الماء الصافي الذي يكمن البعر تحته في قاع النهر “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) يجب أن يقدم الخشب للنجار في صورته الطبيعة حتى يقوم بتشكيله واستخدامه على الوجه الذي يراه والصورة التي يرتضيها فنه .
( 2 ) اعلم أن هذا التواضع الذي يظهر عند بعض الناس قد لا يكون أكثر من مظهر خارجي ، كماء النهر يبدو صافياً ، ولكنه يخفي تحته ما كمن في قاع النهر من أقذار .
“ 390 “
فإذا أثارك أحد - على سبيل الامتحان - صار لون الماء في الحال كلون البعر “ 1 “ ! إنّ البعر ( كامن ) في قاع النهر - أيها الفتى - مع أنّه يبدو لك من السطح صافي الماء !
3220 - والشيخ الحاذق الفطن ، العارف بالطريق ، هو الذي يطّهر أنهار النفوس والأبدان “ 2 “ .
فهل يستطيع ماء النهر أنْ يطهِّر البعر ؟ أم هل يستطيع علم المرء أنْ يزيح جهالة نفسه ؟
وهل في إمكان السيف أن يصوغ قبضته ؟ ألا فاذهب واعهد بجرحك هذا إلى جرّاح ! إن الذباب ليجتمع فوق كل الجراح ؛ وإذ ذاك لا يرى قبح جرحه أحد .
وهذا الذباب ليس سوى هو اجسك وحالك ، وأما جرحك فهو ظلمة أحوال روحك !
3225 - فلو أن الشيخ وضع فوق جرحك هذا مرهماً ، لسكن - في الحال - هذا الألم والنحيب ، حتى أنك تحسب أن الجرح قد التأم ، ( وماذا إلا ) شعاع المرهم وقد لمع فوق الجرح .
فلا تُعرض عن المرهم ، أيها الجريح الظهر ! واعلم أنّ ( الشفاء ) من شعاع المرهم ، وليس من جوهر ذاتك !
...............................................................
( 1 ) فإذا أثارك أحد زال عنك في الحال هذا التواضع والرقة السطحية ، وظهرت في الحال على حقيقتك .
( 2 ) هنا يعود الشاعر إلى الحديث عن ضرورة الشيخ المرشد لتربية المريد .
“ 391 “
كيف ارتد كاتب الوحي لأن شعاع الوحي تجلى عليه بإحدى الآيات
قبل أن يتلوها الرسول عليه السلام فقال : "وأنا أيضاً ينزل عليّ الوحي"
كان للوحي كاتب قبل عثمان . وكثيراً ما أظهر الجد في كتابة الوحي .
فبينما كان الرسول ينطق بالوحي ، كان هذا يسارع فيسجله على الورق .
3230 - وكان شعاع هذا الوحي يشرق عليه - وإذ ذاك كانت تتجلى الحكمة في باطنه .
( وحدث ) أن الرسول كان يملي هذه الحكمة ذاتها . فبهذا القدر ( من الحكمة التي تجلّت له ) ضلّ هذا الفضولي .
( فحدّث نفسه قائلًا ) : إن هذا الذي ينطق به الرسول المستنير ، قد تجلّت لي حقيقته في الضمير ! “ وانكشف شعاع تفكيره للرسول ، وحل قهر الحقّ بروح هذا الكاتب .
فترك النسخ وخرج عن الدين ، وصار عدواً مرّ العدواة للمصطفى ودينه .
3235 - فقال المصطفى ، “ أيها الكافر العنيد ! لو أنَّ النور كان منك فكيف أصبحت مظلماً ؟
إنك لو كنت ينبوعاً إلهيّاً لما فاضت منك هذه المياه السوداء ! “ ولقد أغلق هذا المغرور فمه ، حتى لا يتحطّم غروره أمام هذا وذاك ! لقد أظلم باطنه ، ولهذا لم يستطع أنْ يتوب . فياله من عجب ! وكان يتأوِّه ، ولكن التأوَّه لم يُجده نفعاً ، حين جاء السيف واحتزّ رأسه .
3240 - إن اللَّه قد جعل الغرور ( قيداً يزن ) مائة منّ من الحديد . وكم هناك من مقيّد بهذا القيد الخفي ! فالكبرياء والكفر يغلقان الطريق على هذه الصورة ، فلا يستطيع المذنب أن يتأوه ( ندماً ) .
“ 392 “
قال تعالى :” إنَّا جَعَلْنا في أَعْناقهمْ أَغْلالًا ، فَهيَ إلَى الْأَذْقان فَهُمْ مُقْمَحُونَ ““ 1 “ .
وليست هذه الأغلال مما يقّيد ظاهرنا .
( وقال أيضاً ) :” وَجَعَلْنا منْ بَيْن أَيْديهمْ سَدًّا وَمنْ خَلْفهمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصرُونَ ““ 2 “ ، وهذا الأعمى لا يبصر السد وراءه ولا أمامه ! فهذا السد الذي قام ، قد اتخذ صورة الصحراء ، ( ولهذا ) فإنه لا يعلم أن السد ( الذي يواجهه ) إنما هو سدّ القضاء “ 3 “ .
3245 - إن محبوبك ( الصوري ) سدّ يحجب وجه محبوبك ( الروحي ) ، ومرشدك ( الحسّيّ ) سد أمام حديث مرشدك ( الروحي ) .
وكم من كافر مولع بالدين ، وما صدّه عنه إلا الغرور والكبر ، وما شابههما .
فهذا قيد خفيّ ، ولكنه أقوى من الحديد ، فقيد الحديد تحطمه الفأس .
وقيد الحديد من المستطاع إبعاده ، وأما القيد الغيبي فلا يعرف أحد له دواء .
فلو أن المرء لدغه زنبور بإبرته ، فإنه يخرج من جسمه إبرة هذا الزنبور .
3250 - أما إذا كان وخز الإبرة من وجودك ذاته ، فإن الهم يكون قوياً والألم لا يهون ! إن شرح هذه ( الأمور ) يتوثب من صدري ، ولكني أخشى أن يصبح باعثاً على اليأس .
...............................................................
( 1 ) ( سورة يس ، 36 : 8 ) . ولفظة مقمحون ، في الآية ، معناها : “ رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم “ .
( 2 ) ( سورة يس ، 36 : 9 ) .
( 3 ) إن مثل هذا السد معنوي ، لا يبدو لعينيه حسياً كالسدود التي يعرفها . الأرض أمامه منبسطة كالصحراء ، ومع ذلك فإنه لا يرى . الأمور سهلة ميسورة الفهم ومع ذلك يستعصي عليه الفهم لأن سداً نفسياً يقف حائلًا بينه وبين ذلك .
“ 393 “
لا ! لا تكن يائساً ، بل كن سعيد النفس . واهتف باستغاثتك أمام هذا المغيث ! ( قائلًا ) : “ يا محبّ العفو ! اعف عنا ، أيها المداوي لعناء جرحنا القديم ! “ إن خيال الحكمة أضلّ ذلك الشقي “ 1 “ . فلا تكن مغروراً وإلا جعل منك غباراً سحيقاً .
3255 - أيها الأخ ! إن الحكمة منطلقة إليك . وإنها من الأبدال عارية لديك .
إن المنزل “ 2 “ لو رأى النور يعم أرجاءه ، فإن هذا النور قد أشرق عليه من جار منير .
فكن شاكراً ، ودع خداع النفس ، ولا تشمخ بأنفك ! وأحسن الإنصات ، ولا تُصَبْ قطّ بالغرور ! فوا أسفاه ! وأسفاه مائة مرة ، أنّ هذا ( الأمر ) العارض “ 3 “ قد دفع الأمم بعيداً عن الوحدة .
إنني لعبد لهذا الذي لا يعدّ نفسه - في كل رباط - واصلًا إلى السماط “ 4 “ .
3260 - وما أكثر الربط التي لا بدَّ للمرء أن يمرّ بها ، حتى يصل - ذات يوم - إلى مسكنه “ 5 “ .
إنَّ الحديد - وإنْ أصبح أحمر اللون - فليست الحمرة لون ، وما شعاعه إلا عارية من نار تصليه .
...............................................................
( 1 ) الإشارة هنا إلى كاتب الوحي الذي ارتد .
( 2 ) يرمز بالمنزل هنا إلى قلب الإنسان أو باطنه .
( 3 ) الغرور .
( 4 ) يقول الشاعر إنه عبد لذلك الرجل المتواضع الذي لا يعتبر نفسه واصلًا إلى الحقّ في كل مرحلة من مراحل تطوره الروحي .
( 5 ) ما أكثر المراحل الروحية التي يمربها الإنسان حتى يتحقق له الوصول .
“ 394 “
وإذا امتلأت بالنور نافذة أو دار ، فكنْ لعى يقين أنه ليس من مضيء سوى الشمس ! فكلّ حائط وكل باب يقول : “ إنني مضيء ( بذاتي ) ولست مستعيراً نور غيري ، بل ذلك نوري ! فتقول له الشمس : “ أيها الخالي من الرشد ! إنّ الأمر سيتضح لك حين أغيب “ .
3265 - والنبات الأخضر يقول : “ إنني أخضر بنفسي ! إنني سعيد ضاحك سامق منذ القدم “ .
فيقول فصل الصيف : “ يا أمم النبات ! سترون أنفسكم حين أذهب ! “ إنّ الجسم يتيه بحسنه وجماله ، أما الروح فقد أخفى جلاله ، وقوادمه وخوافيه .
يقول للجسم : “ من أنت أيها المزبلة ؟ إنك تعيش بأشعتي يوماً أو يومين ! والعالم لا يتسع لغنجك ودلالك ! ( لكن ) مهلًا حتى أفلت منك !
3270 - فالذين أدفؤوك ( بالحبّ ) سيحفرون لك قبراً ، ويجعلونك طعمة للنمل والزواحف ! وذلك الذي كثيراً ما قتله عشقك ، سوف يسدّ أنفه من رائحتك المنتنة ! إنِّ أشعة الروح هي النطق والعين والأذن ، كما أنَّ أشعة النار تكون في غليان الماء .
وكما ( تشرق ) أشعة الروح على الجسد ، فإنّ أشعة الأبدال ( تشرق ) على روحي .
فإذا ما فارق الروحَ روحُ ، الروح ، فاعلم أنه يصير مثل جسد بلا روح .
3275 - ولهذا السبب أضع رأسي على الأرض ( خاشعاً ) ، حتى تكون الأرض شاهدي يوم الدين .
“ 395 “
ففي يوم الدين - حين تزلزل الأرض زلزالها - تكون هي الشاهد على أحوالها “ 1 “ .
فإنها” يَوْمَئذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ““ 2 “ فينطق بالقول التراب والأحجار .
والمتفلسف منكر لهذا بفكره وظنِّه . فقل له : “ اذهب ، واضرب بر أسك هذا الحائط “ .
إنّ نطق الماء ، ونطق التراب والطين ، كل أولئك مما تدركه حواسّ أهل القلوب !
3280 - والمتفلسف ، الذي ينكر الجذع الحنّان “ 3 “ غريب عن حواسّ أهل القلوب !
إنه يقول إنَّ أشعة أحزان البشر تلقي في أذهانهم بكثير من الأوهام .
بل الأمر على عكس فساده وكفره . فإنَّ خياله الجاحد قد أثرَّ فيه .
إنِّ المتفلسف ينكر الشيطان ، وهو في الوقت ذاتهُ مسَخرَّ للشيطان !
فإنْ لم تكن قد رأيت الشيطان ، فانظر إلى نفسك . إنَّ زرقة الجبين لا تكون بدون جنون .
3285 - وكلّ من كان في قلبه شك والتواء ، فهو في هذا العالم فيلسوف مستتر !
إنه يتظاهر بالاعتقاد ، لكنِّ عرق الفلسفة يسوّد وجهه بين حين وآخر !
فحذار أيها المؤمنون ، فإنَّ هذا ( العرق ) كامن فيكم ، كما أنّ بكم عوالم كثيرة لا تحدّ !
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان مالها . يومئذ تحدث أخبارها “ . ( 99 : 1 - 4 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان مالها . يومئذ تحدث أخبارها “ . ( 99 : 1 - 4 ) .
( 3 ) إشارة إلى قصة سبق ورودها في المثنوي ( انظر الأبيات 2113 - 2120 ) .
“ 396 “
وفيكم جملة الملل الإثنتين والسبعين “ 1 “ ، فواهاً لو أنها تمكنت منكم ذات يوم ! فكل من كان له نصيب من الإيمان ، فإنه يرتعد من خوف هذا ( الشك ) ، كورقة الشجر .
3290 - إنك قد سخرت من إبليس والشيطان ، لأنك رأيت نفسك رجلًا طيّباً .
ولو أن نفسك أظهرت دخليتها “ 2 “ فكم من صيحة استنكار تنتزعها من أهل الدين ! ففي الدكان يضحك كل ما اتخذ مظهر الذهب “ 3 “ ، ذلك لأن محك الامتحان يكون مختفياً .
فلا تكشف سترنا ، أيها الستّار ! وكن لنا مجيراً يوم الامتحان .
إنّ النقد الزائف ليطاول الذهب في جنح الدجى ، فينتظر الذهب النهار .
3295 - ويقول له الذهب بلسان الحال : “مهلًا - أيها المزوّر - حتى ينبثق النهار."!
إن إبليس اللعين كان من الأبدال آلاف السنين ، بل إنه كان أمير المؤمنين !
فسوَّل له غروره أنْ يضرب بقبضته آدم ، فافتضح كما يفتضح البعر في وقت الضحى .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى الحديث الذي ينسب إلى الرسول أنه قال إن الأمة تنقسم من بعده إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهو حديث مشهور يكثر ذكره في كتب الفرق . والاثنتان وسبعون ملة التي ذكرها الشاعر هي الفرق الهالكة .
( انظر : الشهرستاني ، الملل والنحل ، ص 21 ) .
( 2 ) حرفياً : “ ولو أن نفسك قلبت ثوبها “ .
( 3 ) أي أن المعادن الشبيهة بالذهب ، المعروضة في الدكان ، تبتسم ما دام المحك بعيداً عنها ، فتخدع الناس ببريقها .
“ 397 “
كيف دعا بلعام بن باعور اللَّه ( قائلا ) " يا رب !
ردّ موسى وقومه بدون مرادهم عن تلك البلدة التي حاصروها "
إنّ أبناء الدنيا خضعوا لبلعم بن باعور “ 1 “ ، فقد كان كعيسى في زمانه .
فما سجد الناس لأحد سواه . وكان سحره ( يردّ ) الصحة للمريض !
3300 - وقد دفعه الكبر والكمال إلى التهجّم على موسى ، فكان أن صار حاله إلى مثل ما سمعتَ به ! .
وكم في الدنيا من ألوف مثل إبليس وبعلم ، سواء منهم من كان ظاهراً أو مستتراً .
وقد صيرّ اللَّه هذين مشتهرين ، ليكونا شاهدين على الآخرين .
لقد علّق هذين اللصين فوق مشنقة عالية ، ولولا ذلك لحلّ قهرُه بكثير من اللصوص “ 2 “ .
لقد جرّ هذين من شعرهما نحو المدينة ( مشهّراً بهما ) . ( ولولا ذلك ) ما استطاع أحد أن يحصي صرعى غضب اللَّه .
...............................................................
( 1 ) كان بعلم باعوراء أحد علماء بني إسرائيل . وقد ورد ذكره في تفسير قوله تعالى : “ وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين “ . ( الأعراف ، 7 : 175 ) . قال بعض المفسرين إن المقصود هنا هو بلعم بن باعوراء الذي دعا على موسى فأوقعه في التيه . فلما سأل موسى ربه عن سبب وقوعه في التيه ، أجابه إن ذلك كان بدعاء بعلم . فقال موسى ربه عن سبب وقوعه في التيه ، أجابه إن ذلك كان بدعاء بعلم . فقال موسى : “ اللهم كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه “ ، فخرجت الحكمة من صدره كحمامة ببضاء .
وهناك صور أخرى لهذه القصة عن ابن مسعود وابن عباس في تفسير الطبري وغيره .
( 2 ) أي أن إبليس وبعلم عوقبا بصورة علنية فاشتهر أمرهما ، ولولا ما اشتهر من هذه العقوبة ، لوقع في الإثم كثيرون من أمثالهم ، ولكن العظة المستفادة من عقوبة كل من إبليس وبلعم كانت رادعاً للكثيرين .
“ 398 “
3305 إنك وليّ مدلّل في حدودك . فاتّق اللَّه ، ولا تتجاوز حدودك ! فإنْ طعنت في من هو أكثر منك دلالًا ، أنزلك اللَّه إلى حضيض الأرض السابعة ! وما جدوى قصة عاد وثمود ؟ لتعلم أن للأنبياء حظوة ( عند اللَّه ) .
فهذه العلامات من خسف وقذف وصواعق ، جاءت بياناً لعزّة النفس الناطقة .
فاقتل جميع الحيوانات من أجل الإنسان . واقتل كل البشر من أجل العقل .
3310 - فما العقل ( الكلّي ) ؟ إنه ذهن كل عاقل . والعقل الجزئيّ يكون عقلًا ( أيضاً ) ، ولكنّه ضعيف .
إنّ جميع الحيوانات المستوحشة من الإنسان أقلّ قيمة من الحيوانات المستأنسة .
فهي إذ لم تجىء قابلة ( مسخّرة ) لأعمال الإنسان ، فإنّ دماءها حلال له .
لقد سقطت عزّة هذه الوحوش ، لأنها جاءت مخالفة للَإنسان .
وأيّ عزة تبقى - يا نادرة الزمان - إذا أصبحت كالحمر المستنفرة “ 1 “ ؟
3315 - فالحمار لا يجوز قتله لأنه نافع ، فإذا أصبح وحشيّاً فدمه مباح .
ومع أنّ الحمار ليس له علم يردعه ، فإنه لا يلقى عند الودود عذراً “ 2 “ .
فإذا استوحش الإنسان ( ونفر ) من تلك الكملة “ 3 “ ، فكيف يكون معذوراً ، أيها الرفيق النبيل ؟
...............................................................
( 1 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ كأنهم حمر مستنفرة ، فرّت من قسورة “ . ( المدثر ، 74 : 50 - 51 ) . وهذه الآية تصف الكفار الذين يهربون من سماع كلام اللَّه كأنهم حيمر نافرة ، فرّت من أسد يطاردها .
( 2 ) إن الحمار الأهلي إذا انقلب وحشياً حل بذلك قتله . هذا مع أن الحمار لا عقل له يردعه ويجعله مختاراً فيما يعمل .
( 3 ) الدعوة الإلهية .
“ 399 “
فلا جرم أنّ دماء الكفار أصبحت - كدماء الوحوش - مباحة للسهام والرماح .
ونساؤهم وأولادهم كلّهم سبيُ حلال ، ذلك لأنهم مستوحشون نافرون من العقل الجليل .
3320 - فالعقل الذي يفرّ من عقل العقول ، ينتقل من مرتبة التعقل إلى مرتبة الحيوان .
كيف اعتمد هاروت وماروت على ما كان لهما من عصمة
وطلبا الاختلاط بأهل الدنيا فافتتنا
مثل هاروت وماروت الشهيرين ، اللذين أصابهما البطر بسهم مسموم .
لقد كان معتمدين على ما لهما من قداسة . وأيّ اعتماد للجاموس على الأسد “ 1 “ ؟
فهو يحتال في النطاح بمائة طريقة - ومع ذلك يمزّقه الأسد الضاري إرباً إرباً .
ولو صار مكسواً بالقرون كأنه قنفد ، فإن الأسد لا محالة قاتله!
3325- إنّ الريح الصرصر تقتلع الكثير من الأشجار ، وهي - مع ذلك - تبث النضرة في جميع الأعشاب .
فهذه الريح العاتية ترحم ضعف الأعشاب ، فلا تكن مزهوّاً بقوتك أيها القلب ! وهل تخاف الفأس من كثافة أغصان الشجرة ؟ إنها تُحيلها قطعاً مبدّدة .
...............................................................
( 1 ) إذا اغتر الإنسان بنفسه ، وظن نفسه مقدّساً ، معصوماً ، لم ينفعه ذلك أمام جموح الشهوات . فالشهوة تقضي على التدين الغافل ، كما يفترس الأسد الجاموس .
“ 400 “
لكنها لا تلقي بثقلها فوق إحدى الأوراق . فحّدها ليس يدق إلا حدّاً ( صلبا ) .
وأيّ خوف للشعلة من كومة الحطب ؟ ومتى يفرّ القصّاب من قطيع الغنم ؟
3330 فما الصورة أمام المعنى ؟ إنها لضعيفة واهية ! وما جعل الفلك منقلباً منكّساً “ 1 “ سوى معناه .
فاتخذ من الفلك الدوّار قياساً ! فمن ذا الذي يديره ؟ إنه العقل المدبر ! يا بنّي ! إن الروح المستتر هو الذي يدير هذا الجسم ، الذي هو شبيه بالدرع .
وأما دوران هذه الريح فمن معناها . فهي مثل العجلة التي تكون أسيرة لماء النهر .
وهذا الجرّ والمدّ ، ودخول هذا النَفَس وخروجهَ ، مَنْ الباعث عليه ، سوى هذا الروح المفعم بالحماس !
3335 - وهو حيناً يجعل ( هذا النَفَس ) “ جيماً “ وحيناً “ حاء “ وحيناً “ دالًا “ “ 2 “ . وحيناً يجعله صلحاً وحيناً جدالًا .
وهكذا كان اللَّه قد أطلق هذه الريح كالتنّين على قوم عاد ! ولكنه جعل الريح ذاتها سلاماً على المؤمنين ورعاية وأمناً ! لقد قال شيخ الدين : “ إنّ اللَّه هو المعنى . بل إن ربَّ العالمين بحر المعاني ! “ فكل طباق الأرض والسماء ، ليست سوى قش في ذلك البحر الفيّاض .
3340 - وتدافع القش ورقصه فوق الماء ، إنما يجيء من الماء حين يجيش .
فإذا أراد الماء أنّ يكون هذا القش ساكناً لا يماري ، فإنه يلقي به فوق الساحل .
...............................................................
( 1 ) شبَّه الفلك بإناء مقلوب .
( 2 ) الحروف المذكورة في الشطر الأول من البيت هي التي يتكون منها الفعل “ جحد “ .
“ 401 “
وحينما يجذبه من الساحل إلى منطلق الأمواج ، فإنه يفعل به ما تفعله الريح الصرصر بالعشب .
وليس لهذا الحديث نهاية ، أيها الفتى ! فلتسرع ثانية نحو قصة هاروت وماروت !
بقية قصة هاروت وماروت وكيف حلت بهما العقوبة
والنكال بهذه الدنيا في بئر بابل
حينما أصبحت آثام أهل الدنيا ومعاصيهم ظاهرة لهذين من نافذة ( السماء ) .
3345 - أخذا - من الغضب - يعضّان على أيديهما ، ولكنهّما لم يبصرا عيبهما .
( فهما مثل ) رجل قبيح رأى وجهه في المرآة ، فغضب وحوَّل وجهه عنها ! والمغرور إذا رأى شخصاً يرتكب أحد الذنوب شبّت بنفسه نار مثل نار جهنّم .
وهو يسمّي هذا الكبر حميّة دينيّة ولا يبصر في ذاته النفس المتكبرة .
فحميّة الدين لها ظواهر أخرى . إنّ العالم مخضلّ بنار تلك الحميَّة !
3350 - ولقد قال الحق لهما : إنْ كنتما من النور فلا تنظرا إلى سواد فعل ( هؤلاء ) الغافلين ! يا جنود السماء وخُدّامها ! كونوا للَّه شاكرين ، لأنكم قد نجوتم من الشهوة والفرج .
فلو أنني ركبّت فيكم هذه الطبيعة ، لما بقي لكم مكان في السماء “ 1 “ .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ لما بقيت السماء متقبلة لكم “ .
“ 402 “
فهذه العصمة التي بأجسامكم ، إنما هي ظلّ لعصمتي وحفظي .
حذار ، حذار ! واعلموا أنّ تلك العصمة مني لا منكم حتى لا يغلبكم الشيطان اللعين .
3355 - فهكذا كان كاتب وحي الرسول ، الذي أبصر في ذاته الحكمة والنور الأصيل .
لقد حسب نفسه قريناً لطيور اللَّه في ألحانها ، وما كان لحنه إلا صفيراً كالصدى ! فإنْ أنت غدوت مقلّداً ألحان الطيور ، فأنّى لك أن تكون واقفاً على مرادها ؟
وإنْ أنت تعلمّت صفير البلبل ، فأنّى لك أنْ تعرف ماذا يحمل للوردة ( من شعور ) ؟
وحتى لو عرفت ، فما ذلك إلا من قبيل القياس والظنّ . كما يكون الحدس للصمّ من تحرك الشفاه .
قصة الأصمّ الذي ذهب ليعود جاره المريض
3360 - قال أحد الفضلاء لذلك الأصمّ : “ إن جارك مريض “ .
فحدّث الأصمّ نفسه ، قائلًا : “ ما الذي سأسمعه بهاتين الأذنين الكبيرتين من كلام ذلك الشاب ؟
وخاصّة أنه مريض ، وقد ضعف صوته ! لكنّ واجبي أنْ أذهب ، ما من ذلك بدّ ! وحينما أرى شفتيه تتحركان ، أقيس حالهما على حالي .
فإذا قلت له : “ كيف حالك أيها ( الصديق ) الممتحن ؟ “ فإنه سيقول : “ حالي طيّب أو حسن ! “
“ 403 “
3365 - فأقول له : “ شكراً للَّه ! وأيّ غذاء تتناول ؟ “ فيقول : “ شراباً أو عدساً “ .
فأقول له : “ شراب هنيء ! ومن من الأطباء يعودك ؟ “ فيقول :
“ فلان “ .
فأقول له : “ إنه مبارك المقدم . وما دام قد عادك فسيحسن حالك .
ولقد جربنا مقدمه ، فهو حيثما ذهب ، صح الرجاء ! “ .
وهكذا أعدّ الرجل الطيّب هذه الأجوبة القياسيّة ، وذهب ليعود ذلك المريض .
3370 - فقال : “ كيف أنت ؟ “ فقال المريض : “ لقد مت ! “ فقال :
“ شكراً للَّه ! “ ، فامتلأت نفس المريض - من ذلك - ألماً واستنكاراً .
( وحدَّت نفسه قائلًا ) : “ ولماذا هذا الشكر ؟ إن هذا الرجل عدّوي “ . لقد استخدم الأصمّ القياس فجاء قياسه معوجّاً ! وبعد ذلك قال الأصمّ : “ ماذا شربت ؟ “ فقال المريض : “ سمّاً “ فقال الأصم : “ هناء وشفاء “ ، فاحتدم غضب المريض .
وأردف الأصمّ قائلًا : “ ومن من الأطباء يعودك لعلاجك ؟ “ .
فقال المريض : “ عزرائيل يعودني ، فاذهب عني ! “ فقال الأصمّ : “ إنّ مقدمه لعظيم البركة ، فهنيئاً لك !
3375 - وخرج الأصمّ سعيداً ، وهو يقول : “ شكراً للَّه ، فقد قضيت في مجاملته برهة من الزمن “ 1 “ ! “ أما المريض فقد قال : “ إنّ هذا الرجل عدوّ روحي ، وما كنت أدري أنه معدن الجفاء !
...............................................................
( 1 ) الشطر الثاني من هذا البيت ، كما ورد في نص طبعة نيكولسون غير واضح المعنى .
وقد فضلنا رواية أخرى ورد فيها هذا الشطر بصورة أوضح وأجمل وهي :
“ شكركش كردم مراعاة آن زمان “ .
“ 404 “
وكان خاطر المريض ينشد من القول كل سقط ، ليبعث إليه برسالة حوت كل نمط .
فقد كان كرجل أكل طعاماً فاسداً . فهذا الطعام يمعن في إيلام المعدة حتى ترجعه .
وهكذا كظم الغيظ . فلا تدع الغيظ ينبثق من باطنك كالقيء .
وإنك لمُلاق حسن الثناء جزاء لذلك .
3380 - إنْ هذا المريض كان نافد الصبر ، فأخذ يتلوّى قائلًا : “ أين هذا الكلب . . “ 1 “
حتى أمطره بمثل ما قال لي . إن أسد ضميري كان حينذاك غافياً ! “ فالعيادة هي لبثّ الطمأنينة في القلب .
فليست هذه بعيادة ، بل رغبة عدوّ ، يريد أن يرى عدوه ذابلًا ذاوياً ، فيقر بذلك خاطره القبيح ! “ فما أكثر الناس الذين يؤدون العبادات ، وقد علّقوا قلوبهم بالرضوان والثواب .
3385 - فهذه العبادات - في حقيقتها - معصية خفيّة ! إنها كَدَرُ يظنّ به الصفاء ! ومن هذا القبيل ذلك الأصم ، الذي كان يظن أنه أحسن صنعاً ، فجاء الأمر على عكس ذلك .
لقد جلس سعيداً ( وقال ) : “ هأنذا قد زرت جاري ، وقمت بواجبي نحوه “ .
على حين أنه قد أشعل لنفسه في قلب المريض ناراً ، واحترق بها .
فاتقوا النار التي أو قدتموها يا من أمعنتم في المعاصي “ 2 “ !
...............................................................
( 1 ) بالغ الشاعر هنا في تصويره الواقعي ، فأورد على لسان المريض سباباً فاحشاً رأينا من المناسب حذفه .
( 2 )فاتقوا النار التي أو قدتمو * إنكم في المعصية ازدتمووقد رأينا نثره مجاراة لأسلوب الترجمة .
“ 405 “
3390 - فقد قال الرسول لرجل من الأعراب : “ صلّ ، فإنك لم تصلّ يا فتى ! “ “ 1 “ .
فمن أجل علاج تلك المخاوف ، جاءت كلمة “ اهدنا “ في كل صلاة .
( ومعناها ) “ يا إلهي ! لا تخلط صلاتي بصلاة الضَّالين ، وأهل الرياء “ .
فبهذا القياس الذي اختاره الأصم بطلت صحبة سنوات عشر .
وشر القياس - أيها السيدّ - قياس الحسّ الوضيع بذلك الوحي الذي فاق كل الحدود .
3395 - فإنْ كانت أذنك الحسيّة قابلة للحروف “ 2 “ ، فاعلم أنّ أذنك التي تستمع إلى الغيب صمّاء .
.