منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Empty
مُساهمةموضوع: كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي    كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Emptyالأربعاء أغسطس 19, 2020 6:23 am

كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )    

كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد على مدونة عبدالله المسافر
 كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 372 “
كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد
[ تعاون الذئب والثعلب الأسد على الصيد ]
توجه أسد وذئب وثعلب إلى الجبال في طلب الصيد .
وذلك ليتعاون الجميع على إحكام قيد الصيد بالأغلال والقيود .
 

3015  - وحتى يمسك ثلاثتهم معاً بصيد كثير وافر ، في تلك البرية العميقة .
ومع أن صحبة الذئب والثعلب كانت عاراً على الأسد الهصور ، فإنه أكرمهما ، وأظهر مصاحبته لهما على الطريق .
فمثل هذا الملك يضيق بعسكره ، لكنه صاحبهما ، فالجماعة رحمة .
ومثل هذا القمر يرى العار في صحبة النجوم ، فما ظهوره بينها إلا سخاء منه وكرماً .
ولقد أمر الحق رسوله أن يشاور أصحابه “ 1 “ ، مع أنه لم يكن هناك رأي يقارن برأيه .

 

3020 - إن الشعير أصبح في الميزان رفيقاً للذهب “ 2 “ ، وما ذلك لأن الشعير صار جوهراً ( ثميناً ) كالذهب .
والروح قد صارت الآن رفيقة للجسم . ( وبذلك ) صار الكلب حارساً للباب برهة من الزمان “ 3 “ .
فلما سعت هذه الجماعة نحو الجبل ، في ركاب الأسد ، ذي الأبهة والجلال ، نجحت أُمورها ، فوجدت ثوراً جبليّاً وتيساً وأربناً سميناً .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : ولقد جاء إلى الرسول أمر “ شاورهم “ . وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى : “ ولو كنت قظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر “ ، ( آل عمران ، 3 : 159 ) .
( 2 ) كانت حبات الشعير هي وحدات الوزن التي يوزن بها الذهب .
( 3 ) أي صار الجسم الخسيس حارساً للروح طوال إقامتها به .

 

“ 373 “

 
وكل من يقتفي أثر الأسد المغوار ، لا ينقص عنده الشواء في الليل ولا في النهار .

 
3025 - وحينما حملت الوحوش صيدها من الجبل إلى الغابة ، بعد أن جرّته قتيلًا جريحاً ، يسبح في الدماء ، طمع الذئب والثعلب في أن تجري القسمة وفق عدل الملوك .
وصدم الأسد خيالُ الطمع بخاطر هذين ، ولكنه أدرك سند هذه الأطماع .
وكل من هو للأسرار أسد وأمير ، فإنه يعرف كل ما يخطر في الضمير .
فحاذر - أيها القلب المطبوع على التفكر - وصن نفسك من أية فكرة خبيثة في حضرته .

 

3030 -  فإنه يدركها ، ولكنه يسوق حماره صامتاً ، ويحجب وجهه عنك وراء بسماته .
فالأسد حين علم بما يخالجهما من الوسواس ، لم يفصح عن ذلك ، ولزم نحوهما - حينذاك - جانب المراعاة والمداراة .

ولكنه حدّث نفسه ( قائلًا ) : “ لأظهرن لكما ما تستحقان من جزاء ، أيها المتسولان الخسيسان ! أما كان رأيي يكفيكما ؟ أهكذا ظنكما بعطائي ؟
يا من عقلكما ورأيكما ( مستمدان ) من رأيي ، ومن هباتي ، التي ازدانت بها الدنيا !

 

3035- أية فكرة سوى ( الخير ) تحملها الصورة للمصور ، ما دام هو الذي أضفى عليها الفكر والمعنى ؟
أهكذا ظنكما الخسيس بي ، يا من أنتما عارُ للزمن ! فلأطيحن برؤوس” الظَّانِّينَ باللَّه ظَنَّ السَّوْء ““ 1 “ ، الذين هم كالمنافقين .
...............................................................
( 1 )  ( سورة الفتح ، 48 : 6 ) .




“ 374 “


ولأخلصن الفلك من عاركما ، حتى تبقى قصتكما هذه ( عبرة ) في الدنيا .
وبينما الأسد يقلب هذه الأفكار ، إذا به يضحك . فلا تركنن إلى بسمات الأسد !
 

3040  فالمال في هذه الدنيا صار مثل بسمات الحق ، فجعلنا سكارى مغرورين متهالكين .
والفقر والألم خير لك أيها السيد ، فبهما يقتلع هذا التبسم أشراكه “ 1 “ .


كيف امتحن الأسد الذئب قائلًا : “ تقدم أيها الذئب واقسم بيننا الصيد “

 

قال الأسد : “ أيها الذئب ! قسّم هذا ( الصيد ) بيننا ، وجدد العدل ، أيها الذئب الهرم ! وكن في القسمة نائباً عني ، حتى يتبيّن لنا كنهُ جوهرك “ .
فقال الذئب : “ أيها الملك ! إن الثور الوحشي نصيبك ، فهو كبير ، وأنت كبير قوي سريع .

 

3045 - أما التيس فإنه لي ، فهو متوسط الحجم . أما أنت أيها الثعلب فخذ الأرنب ، فما في ذلك من حيف “ .
فقال الأسد : “ أيها الذئب ! كيف تكلمت ؟ خبرني ! أحينما أكون موجوداً ، تقول “ نحن “ و “ أنت “ ؟
فأيّ كلب يكون ذلك الذئب الذي أبصر ذاته في حضرة أسد مثلي ، لا شبيه له ولا نظير ؟ “
...............................................................
( 1 ) لا يبقى للمال هذا السحر الذي يخدعك ويضلك .




“ 375 “

 
وناداه قائلًا : “ أقبل أيها الحمار الذي أبصر ذاته ! “ . فلما دنا منه ضربه بمخالبه ومزّقه .
فالأسد إذ لم ير للذئب لبّاً رشيد التدبير ، عاقبه فنزع جلده عن رأسه .

 

3050 -  وقال : “ ما دامت رؤيتك لي لم تذهلك عن ذاتك ، فإن روحاً مثل روحك يجب أن تموت ذليلة ! ولما لم يتحقق لك الفناء في حضرتي ، فقد جاء من الخير ضرب عنقك “ .” كُلُّ شَيْءٍ هالكٌ إلَّا وَجْهَهُ ““ 1 “ ، فإن لم تكن في وجهه فلا تطلب وجوداً .
أما من تحقق له الفناء في وجهنا ، فلا يكون “ كل شيء هالك “ جزاء له .
فإنه قد أصبح ضمن “ إلا “ وخلص من “ لا “ ، وكل من كان ضمن “ إلا “ فإنه لا يفنى .



3055 -  وأما كل من يطرق الباب ، “ بأنا “ و “ نحن “ ، فإنه يُردّ عن الباب ، ويعلق بالنفي والعدم .
...............................................................
( 1 )   ( سورة القصص ، 28 : 88 ) .




“ 376 “

 

قصّة ذلك الشخص الذي طرق باب صديق فهتف الصديق منَ الداخل :
“من بالباب ؟" فقال : “ أنا “
فقال الصديق : “ما دمت أنت أنت فلن أفتح الباب لأني لا أعرف من الأصدقاء
 أحداً يقول : أنا“
 

قدم رجل وطرق باب صديق . فقال الصديق : “ من أنت أيها المفضال ؟ “ فأجاب الرجل : “ أنا “ فقال الصديق : “ اذهب فالوقت غير ملائم . وليس للغر مكان على مثل هذا الخوان ! وماذا يُنضج الغر سوى نار الهجر والفراق ؟ وأي شيء ( سواها ) يخلصه من النفاق ؟ “ فذهب هذا المسكين ، وقضى عاماً في السفر . فاحترق بشرر من فراق الحبيب .

 

3060  -  ونضج هذا المحترق فعاد ، ودار مرة ثانية حول منزل رفيقه .
ثم طرق الباب بمزيد من التهيّب والأدب ، حتى لا تنطلق من بين شفتيه لفظة خالية من الأدب .
فهتف صديقه قائلًا : “ من بالباب ؟ “ فقال الرجل : “ أنت بالباب ، يا مليك القلوب ! “ فقال الصديق : “ الآن ما دمت أنت أنا ، فادخل يا أنا ! فالدار لا تتسع لاثنين كل منهما ( يقول ) : أنا “ .
فالخيط المزدوج ليس ( بملائم ) لسمّ الخياط ، وما دمت مفرداً ، فلتدخل فيه !

 

 3065 -  فإنّ للخيط ارتباطاً بالإبرة ، وليس سمّ الخياط على قياس الجمل .
وهل يصبح ضامراً بدنُ الجمل بدون مقراض الرياضات والعمل ؟

 

“ 377 “

 
وقوة الحقّ ضرورية لذلك - أيها الرجل - فهي التي تقول لكلّ محال “ كن “ فيكون .
فكل محال يصير بقوته ممكناً ، وكل حرون يغدو من هيبته منقاداً طيّعاً .
فما الأكمه وما الأبرص ؟ بل وما الميّت أيضاً ؟ إنه يُبعث حياً بدعاء من ذلك ( الرب ) العزيز .

 

3070 -  وذلك العدم - الذي هو أوغل في الموت من الميّت 
- مُلزَم بالإجابة حين يدعوه إلى الوجود .
فاقرأ :” كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ““ 1 “ ، واعلم أنه لا يكون قطّ بدون فعل أو عمل .
وأهون أعماله أنه يسيّر في كل يوم ثلاثة جيوش :
فجيش ( يسير ) من الأصلاب إلى الأمهات ، وذلك لكي ينبت في الرحم النبات .
وجيش من الأرحام ( ينطلق ) نحو الأرض ، حتى يحفل العالم بالذكور والإناث .

 

3075 -  وجيش من الأرض ( يمضي ) نحو الأجل ، حتى يشهد كل إنسان ( جراء ) حسن العمل .
وليس لهذا الحديث نهاية ، فتنبّه ، وسارع ثانية إلى هذين الصديقين الطاهرين المخلصين .


صفة التوحيد


لقد قال الصديق لصديقه : “ ادخل يا من أنت جملتي ! يا من لست مختلفاً عني كاختلاف ورد البستان وشوكه !
..............................................................
( 1 ) ( سورة الرحمن ، 55 : 29 ) .


 
“ 378 “

إن الخيط أصبح واحداً ، فلا تخطىء الآن ، إن رأيت الكاف والنون “ 1 “ حرفين مرتبطين .
إن حرفى الكاف والنون قد جاء جاذبيز كالوهق “ 2 “ ، فهما يجرّان العدم إلى عالم الخطوب .


3080   والوهق يجب أن يكون مزدوجاً في صورته ، مع أن هذا الازدواج ( الصوريّ ) يكون متوحدّ الأثر .
والساقان وكذلك السيقان الأربع تقطع طريقاً واحداً . وكذلك المقراض “ 3 “ يكون ذا سلاحين ويقطع قطعاً واحداً .
وانظر كذلك إلى القصّاريْن “ 4 “ المتشاركين ، تجد - في الظاهر - خلافاً بين هذا وذاك .
فأحدهما قد ألقى بالثياب في الماء بينما الآخر يعمل على تجفيفها .
ويعود الأول فيبلل ما جفّ . فكأنما هو حاقد يعاند رفيقه .


3085 -  لكن هذين الضدين اللذين ظاهر هما العناد ، هما - بتراضيهما - قلب واحد ، وعمل واحد .
وكل نبي وكل ولي له سبيله ( الخاص ) لكنه يوصله إلى الحق ، فالمسالك كلها واحدة .
لقد جرف الماء أحجار الطاحون حين سلب النعاس يقظة المستمع .
إن مجرى هذا الماء فوق الطاحون ، وما مروره بداخل الطاحون إلا من أجلكم .
فلما لم تعد هناك حاجة إلى الطاحون ، عاد فساق الماء ثانية إلى النهر الأصلي .
...............................................................
( 1 ) الكاف والنون هما الحرفان اللذان يتكون منهما فعل “ كن “ .
( 2 ) حبل طرفه على صورة حلقة تطرح من بعيد على الحيوان الشارد للامساك به . ذلك أن الحلقة إذا استقرت حول رقبة الحيوان أمكن جرّه بالحبل .
( 3 ) للقراض هو المقصّ .
( 4 ) القصّار غاسل الثياب .


“ 379 “

 

3090 -  إن القوة الناطقة تحلّ بالفم من أجل التعليم ، وإلا فإن لهذا النطق مجرى منفصلًا .
فهو ينطلق بدون صوت ولا تكرار إلى حدائق وردٍ” تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ “ *” 1 “ .
يا إلهي ! اكشف للروح ذلك المقام الذي ينبت الكلام فيه بدون حرف .
حتى ينطلق الروح الطاهر ساعياً على رأسه “ 2 “ إلى رحاب العدم “ 3 “ الفساح .
إنها رحاب ممتدة واسعة الأرجاء ، منها يغتذي خيالنا ووجودنا .


3095  - والخيال أضيق من العدم ، ولهذا فهو باعث الهم ومسبب الأحزان .
والوجود أضيق من الخيال ، ولهذا تصبح الأقمار فيه مثل الأهلة .
أما الوجود المتجلي في عالم الحس واللون ، فهو أضيق من ذلك .
فهو ليس سوى سجن ضيّق .
وعلة ضيقه إنما هي من التركيب والعدد . فالحواس دائمة الاتجاه نحو التركيب .
فلتميز بن عالم التوحيد وبين جانب الحسّ . وإذا أردت التوحيد فامض نحو ذلك الجانب ( الآخر ) .


3100  - إن أمر “ كن “ ليس سوى فعل وقع في الكلام ، مركبّ من الكاف والنون ، ولكن معناه هو الصفاء .
وليس لهذا الكلام نهاية ، فلترجع ( لنرى ) ما آلت اليه أحوال الذئب في صراعه .
...............................................................
( 1 ) وردت هذه العبارة في آيات عديدة تصف الجنة . منها ( 65 : 11 ) ، ( 66 : 8 ) ، ( 85 : 11 ) .
( 2 ) حرفياً : حتى يجعل الروح الطاهر من رأسه قدماً ويسعى . .
( 3 ) العدم هنا هو العالم الغيبيّ الذي لا يتجلى للحواس ، عالم الروح المجرّد من ظواهر المحسوسات .


 

 

“ 380 “


كيف أدّب الأسد الذئب لأنه أساء الأدب في القسمة

 
إنّ الأسد الرفيع الهامة قطع رأس الذئب ، حتى لا تبقى رئاستان ولا امتيازان .
فيا أيها الذئب الهرم ! ما دمت لم تكن كالميت أمام الأمير ، ( فهاك معنى قوله تعالى ) :” فَانْتَقَمْنا منْهُمْ “ *” 1 “ .
وبعد ذلك نظر الأسد إلى الثعلب وقال : “ قسّم الصيد بيننا حتى نفطر !

3105  فسجد الثعلب وقال : “ إنّ هذا الثور السمين طعام إفطارك ، أيها الملك المختار ! 
وهذا التيس لغداء الملك المظفّر في منتصف النهار ! والأرنب أيضاً عشاء المليك ذي اللطف والكرم ، يتناوله إبّان المساء “ .
فقال الأسد : “ أيها الثعلب ! لقد أشعلت ( مصباح ) العدل ! ممن تعلمّت هذه القسمة ؟
وأين تعلمتها أيها العظيم ؟ “ فقال الثعلب : “ يا مليك العالم ! ( لقد تعلمتُ ) من مصير الذئب “ .

 

3110 -  فقال الأسد : “ الآن وقد أصبحت رهن عشقي ، فأمسك بالفرائس الثلاث ، وخذها واذهب ! 
أيها الثعلب ! ما دام كل وجودك قد أصبح لنا ، فكيف أوذيك ، وقد صارت ذاتك ذاتي ! 
إنني وجملة الصيد لك ، فضع قدمك على السماء السابعة ، وتسنّم علاها !
...............................................................
( 1 ) ورد ذكر الانتقام الإلهي في مواضع متعددة من القرآن ، ومنها قوله تعالى : “ فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين “ . ( 43 : 25 ) .

 

“ 381 “

فأنت عندي أسد ، ولست بثعلب ، ما دمتَ قد اعتبرت بذلك الذئب الدنيء ! 
فالعاقل هو الذي يعتبر بموت الأصحاب ، حين يحلّ البلاء المرتقب “ .


3115  فقال الثعلب : “ مائة شكر وحمد لذلك الأسد ، لأنه دعاني بعد الذئب .
فلو أمرني بإجراء القسمة في أول الأمر ، فمن ذا الذي كان يخلّص منه روحي ؟
 “ فشكر اللَّه الذي أوجدنا في الدنيا بعد الأولين .
فسمعنا بما أنزله الحق من عقاب بالقرون الماضية ، السابقة علينا .
حتى نزيد من مراقبتنا لأنفسنا ، متعظين كالثعلب بأحوال من سبقنا من الذئاب .


3120  فلهذا السبب وصفنا الرسول الحقّ الصادق البيان بأننا أمة مرحومة “ .
فيا أيها الكبراء ! أنظروا عظام تلك الذئاب وجلودها واضحة للعيان ، وخذوا العبرة منها ! 
فالعاقل من طرح من رأسه هذا الغرور بالذات والاعتداد ، إذا ما استمع إلى مآل فرعون وعاد .
فإنْ لم يفعل فالآخرون يعتبرون بحاله ، ( ومايؤول ) إليه بضلاله .

 
كيف أنذر نوح قومه ( قائلا ) : أيها المخذولون لا تعاندوني فلست إلا حجاباً
وما أنتم في حقيقة الأمر الا معاندين للَّه وراء هذا الحجاب
 

قال نوح : “ أيها المعاندون ! ليس وجودي بمقصور على ذاتي . فأنا لست سوى نفس فانية ، ولكنّي حيّ بالحبيب !



“ 382 “

 
3125    وما دمتُ قد تخليّتُ عن حواسّ البشر “ 1 “ فقد أصبح الحقّ لي سمعاً وإدراكاً وبصراً .
وما دامت ذاتي لم تعُدْ ذاتي فإنّ أنفاسي منه . فكلُّ من جابه هذه الأنفاس بأنفاسه فهو كافر “ .
إنّ أسداً قد احتجب في صورة هذا الثعلب . فليس من الجائز التجرؤ في مواجهته “ .
وإنْ أنت لم تؤمن به من ناحية الصورة ، فإنك لن تسمع منه زئير الأسود .
ولو لم يكن نوح أسداً سرمدياً ، فلماذا استطاع أن يخرّب عالماً بأسره ؟



3130   إنه كان آلافاً من الأسود في جسد واحد ! لقد كان مثل النار ، وكان العالمُ كالبيدر ! 
فلما لم يرع البيدرُ حقه في العشُرْ ، فإنه أرسل عليه مثل هذه الشعلة .
فكلّ من فغر فاه بتوقّح أمام هذا الأسد الخفيّ كما فعل ذلك الذئب “ 2 “ ، 
فإنه يمزّقه كما مزّق الأسد الذئب ، ويتلو عليه : “ فانتقمنا منهم “ .
فيا له من أحمق ذلك الذي تجرّأ أمام الأسد ! إنه لمتلقّ من ضرباته قدر ما تلقاه ذلك الذئب .

 

3135   وليت هذا الضرب اقتصر على الجسم ، حتى يسلم الإيمان ويسلم القلب .
إنّ قوتي قد وهنت حينما وصلت إلى هنا . ومن أين لي القدرة على أن أذيع هذا السر ؟
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ ما دمت قد غدوت ميتاً عن حواس أبي البشر “ .
( 2 ) الذئب الذي ورد ذكره في القصة السالفة .

 

“ 383 “

فأهملوا بطونكم أمامه كما فعل ذلك الثعلب “ 1 “ ، ولا تلعبوا أمامه لعبة الثعالب .
ودعوا في حضرته كل ما يتعلق “ بنحن “ و “ أنا “ . إنّ المُلك ملكه ، فأسلموا له الملك .
فإذا ما أقبلتم فقراء على الطريق السويّ ، فإنّ الأسد وصيده ملك لكم .



3140 -  ذَلك لأنه طاهر قدسي الصفات ، وليس به من حاجة إلى نُعمى ولا لُباب ولا قشور .
فكل ما يوجد من الصيد ومن الكرامات ، فهو من أجل عباد هذا المليك .
وهو لا مطمع له ، فقد صنع هذا الملك كله من أجل خلقه . فما أسعد من عرف ! 
وأيّ جدوى من ملك الممالك لمن خلق الملكوت ، وخلق الدنيا والآخرة ؟
فأحسنوا مراقبة قلوبكم في حضرته القدسيّة ، حتى لا تصبحوا من سوء ظنكم في خجل .



3145   فإنّ السرّ والفكر والتدبير يتجلىّ أمامه ، كما تتجلَّى الشعرة في الحليب الصافي .
وكلّ من صفا صدره وخلا من الصور ، أصبح مرآة لصور الغيب ! 
فسرّنا يصبح عنده يقيناً لا شكّ فيه . ذلك لأنّ المؤمن مرآة للمؤمن .
فهو حين يضع زهدنا على المحكّ قادر على أنْ يعرف اليقين من الشكّ .
وما دامت روحه قد أصبحت محكاً ( يختبربه ) النقد ، فإنه يميَّز القلوب ( الصادقة من الزائفة ) .
...............................................................
( 1 ) الثعلب المذكور في القصة السالفة .

 

“ 384 “

كيف يُجلس الملوكُ الصوفيّة العارفين في مواجهتهم
لتستضيء بهم أعين الملوك


3150   إن للملوك مثل هذه العادة - ولعلّك قد سمعتَ بها ، لو أنك تذكر ! 
فالأبطال يقفون عن يسارهم . ذلك لأنّ القلب معلق في الجانب الأيسر ( من الصدر ) .
أما الوزير وأهل القلم فعن يمينهم . ذلك لأنّ اليد اليمنى صاحبة الخطّ والإثبات .
وهم يجعلون للصوفية مكان المواجهة . ذلك لأنهم مرآة الروح ، بل ( هم لها ) خير من المرآة .
لقد صقلوا صدروهم بالتفكر والذكر ، لتستطيع مرآة قلوبهم تقبل الصورة البكر .


3155 -  وكل من ولد من صلب الفطرة جميلًا ، فمن الواجب أنْ توضع المرآة أمامه .
فالوجه الجميل عاشق للمرآة ، وهو صيقل الأرواح ( وموجب ) تقوى القلوب .

 
كيف جاء ضيف لزيارة يوسف عليه السلام
وكيف طلب منه يوسف تحفة وهدية


إنّ صديقاً محبّاً أقبل من آفاق الأرض ، ونزل ضيفاً على يوسف الصدّيق .


“ 385 “

 

لقد كانا صاحبين في عهد الطفولة ، وكانا معاً متكئين على وسادة المودة .
وذَكرّ هذا الصديقُ يوسفَ بجور إخوته وحسدهم . فقال يوسف : “ لقد كان هذا قيداً وكنتُ أسداً “ .

 

3160 -  ولا عار على الأسد من القيد . ولا شكوى من قضاء الحق .
ومهما كبّلت عنق الأسد بالقيود ، فإنه يظلّ أميراً على كلّ من صنعوا هذه القيود ! 
“ فقال الصديق : “ وكيف كان حالك في السجن وفي البئر ؟ “ فقال يوسف : “ كنت كالقمر في المحاق ، وإبّان نقصانه “ .
فإذا كان الهلال قد تقوّس في المحاق ، أفلا يغدو في العاقبة بدراً على السماء ؟
وحبّات اللؤلؤ لو أنها سُحقت ، أفلا تكون نوراً للعين والقلب ( وعونا ) على بعد النظر “ 1 “ .


3165 -  إن حبّة القمح توضع تحت التراب ، فتصنع لها من هذا التراب سنابل .
ومرة أخرى تُسحق بالطاحون ، فترداد قيمتها وتغدو خبزاً يدعم الحياة .
ثم يمضع الخبز بالأسنان ، فيصير للعاقل عقلًا وروحاً وفهماً ! 
وهذا الروح لو صار فانياً في العشق ، يصير بعد الزرع ( نباتاً )” يُعْجبُ الزُّرَّاعَ ““ 2 “ .
ولا نهاية لهذا الكلام ، فعد ( بنا لنرى ) ما كان من حديث لهذا
...............................................................
( 1 ) كان المعتقد أن الدرّ السحيق لو رُكِّب مع العسل كان نوراً للعين ومبعثاً لسرور القلب .
( 2 ) ( سورة الفتح ، 48 : 29 ) . ومعنى البيت أن الروح لو فني في العشق واختلط به اختلاط الحبة بالتراب ، فإن هذا يجعله مثمراً كما تثمر البذور المغروسة في الأرض الطيبة .
 

“ 386 “

الرجل الطيّب مع يوسف .


3170 -  لقد قصِّ يوسف قصّته ثم قال : “ يا فلان ! ماذا أحضرت لي من الهدايا ؟ “ .
إنَّ القادم إلى باب أصدقائه بيد خاوية ، كالذاهب بدون قمح إلى الطاحون .
واللَّه تعالى يقول للناس حين الحشر : أين هديّتكم من أجل يوم النشر ؟
لقد جئتمونا فرادى وبدون زاد ، في ذات الصورة التي خلقناكم عليها “ 1 “ .
ماذا حملتم في أيديكم من هدايا ليوم النشور ؟


3175  - أم أنكم لو تكونوا على أمل في البعث ، فبدا لكم ميعاد هذا اليوم باطلًا ؟
فهل أنت لجهلك - منكر كرم ضيافته ؟ إذن لن تنال من مطبخه سوى التراب والرماد ! 
وإن لم تكن منكراً ، فكيف تقصد باب هذا الحبيب ، وأنت خاوي اليدين ؟
فاقتصد مما تنفقه في النوم والطعام ، واحمل معك هدية لملاقاته .
كن قليل النوم مثل الذين كانوا قليلًا ما يهجعون ، وكن في الأسحار ممن يستغفرون “ 2 “ .

 
3180 -  وأقلل من الحركة مثل الجنين ، حتى توهب الحواسّ المبصرة .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنا كم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم “ . ( الأنعام ، 6 : 94 ) .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آثاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون “ .  ( الذاريات ، 51 : 15 - 18 ) .



“ 387 “


فإذا ما خرجت من هذا العالم الشبيه بالرحم ، فإنك تخرج من الأرض إلى رحاب واسعة .
واعلم أنَّ الذين قالوا : “ أرض اللَّه واسعة “ ( كانوا يشيرون ) إلى الرحاب التي دخلها الأولياء .
إنّ القلب لا يضيق بتلك الرحاب الفساح ، فهناك لا يصير النخيل المخضلّ ذابل الغصون .
إنك الآن حاملُ عبء حواسِّك ، ولهذا تغدو متعباً مرهقاً منقلب الرأس .
 

3185 -  ولما كنت في وقت النوم تصبح محمولًا لا حاملًا ، فإنّ الضنى يزول عنك ، وتغدو خالياً من الألم والعذاب .
واعلم أنّ حال النوم لا يعدو أنْ يكون تذوّقا ( بسيطاً ) أمام حال الأولياء ، حين يُحملون ( إلى عالم الروح ) .
والأولياء ، هم أصحاب الكهف ، أيها العنيد ! إنهم في قيام وتقلب ورقود “ 1 “ .
والحقّ يقلبهم “ ذات اليمين وذات الشمال “ بدون وعيٍ منهم ولا تكلف في الفعال “ 2 “ .
وما “ ذات اليمين “ ؟ إنها الفعل الحسن ! وما “ ذات الشمال “ ؟ إنها أفعال البدن !


3190 -  وهذان النوعان من الفعل يصدران عن الأولياء بدون قصد ، كما ينبعث الصدى .
فإذا كان الصدى يسمعك الخير والشرّ . فإنّ ذات الجبل لا علم لها بأيّ منهما !
...............................................................
( 1 ) في هذا البيت إشارة إلى قصة أهل الكهف وقوله تعالى : “ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال “ . ( الكهف ، 18 : 18 ) .
( 2 ) في هذين البيتين إشارة إلى قصة أهل الكهف وقوله تعالى : “ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال “ . ( الكهف ، 18 : 18 ) .
 

“ 388 “
 

كيف قال الضيف ليوسف :
"لقد حملت إليك مرآة أهديها إليك لتذكرني كلما نظرت فيها ورأيت وجهك الجميل"

قال يوسف : “ هيّا أعطني الهدية “ . فتأوّه الضيف خجلا من مطالبة يوسف .
وقال : “ لكم فتشت من أجلك عن الهدايا ، فما راقت عيني إحداها ! 
وكيف أحمل حبة ( من الذهب ) إلى المنجم ؟ أم كيف أحمل قطرة ( ماء ) إلى بحر عمان ؟


3195   ولو أنني حملتُ إليك قلبي وروحي ، لكنت كحامل التمر إلى إلى هجر “ 1 “ .
فليس من حبة لا تكون بهذا المخزن إلا حسنك الذي هو أمر منقطع النظير .
ولقد رأيتُ من اللائق أن أحضر لك مرآة مضيئة كنور الصدر .
حتى ترى فيها وجهك الجميل ، يا من أنت كالشمس شمعة للسماء ! 
لقد أحضرت لك مرآة أيها النور ، لتذكرني كلما رأيت وجهك “ .


3200 -  وسحب مرآة كان يتأبطها . إنّ الجميل لذو تعلق بالمرآة .
فما هي مرآة الوجود ؟ إنها العدم ! فإن لم تكن أحمق فاحمل العدم ( ليكون هدية اللقاء ) “ 2 “ .
فالوجود لا يمكن إظهاره إلا بالعدم . كالغنّي لا يظهر جوده إلا الفقير “ 3 “ .
والجائع هو المرآة الصافية للخبز ، كما أنّ الوقود مرآة الزناد .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ لكنت كحامل الكمون إلى كرمان “ .
( 2 ) إن لم تكن أحمق فلتكن هديتك من الطاعات التي تحملها معك يوم النشور إفناء الذات أمام الخالق .
( 3 ) حرفياً : “ فالأغنياء يجودون على الفقراء “ .

.


يتبغ

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Empty
مُساهمةموضوع: كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي    كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Emptyالأربعاء أغسطس 19, 2020 6:23 am

كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )    

 كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد
“ 389 “
 
وحيثما ظهر النقصان والعدم ، كانا مرآة الجمال لكلّ فنّ وحرفة .
 
3205 -  وكيف يظهر فنُّ الحائك إذا ( قدّمت له ) ثوباً نظيفاً جيّد الحياكة ؟
وجذوع ( الأشجار ) يجب ألا تكون محفورة ، ولا مُشكَّلة ، حتى يشكلّ النجَّار الأصل والفروع “ 1 “ .
وطبيب العظام يذهب إلى حيث تكون الساق المنكسرة .
وكيف يتضح جمال صناعة الطبّ ، حين لا يكون هناك مريض عليل ؟
ومتى كان الإكسير يظهر ، لو لم تذع بين الناس خسّة النحاس وضعته ؟
 
3210 -  إن النقائص هي المرآة التي تجلو صفات الكمال . كما أنّ الحقارة مرآة العزَّة والجلال .
ذلك لأنّ الضدّ يظهر ضدّه يقيناً . فالعسل - إلى جانب الخلّ - بَيّنُ الحلاوة .
فكلّ من رأى نقص ذاته وعرفه ، فقد انطلق بجوادين نحو استكمالها .
وليس ينطلق محلِّقاً نحو ذي الجلال ، من توهمّ ذاته مفعمة بالكمال .
فيا أيها المُدلُّ بذاته ! إنّ الروح لا تصاب بعلة أسوأ من توهمّ الكمال !
 
3215 - فلا بدّ من أنْ يفيض قلبك وعيناك بدم كثير حتى يخرج منك هذا العُجْب .
لقد كانت علّةُ إبليس ( في قوله ) أنا خير ( من آدم ) . وهذه العلّة كائنة في نفس كلّ إنسان .
فإنْ كان المرء يرى نفسه شديد الانكسار ، فاعلم أنّ هذا هو الماء الصافي الذي يكمن البعر تحته في قاع النهر “ 2 “ .
...............................................................
( 1 ) يجب أن يقدم الخشب للنجار في صورته الطبيعة حتى يقوم بتشكيله واستخدامه على الوجه الذي يراه والصورة التي يرتضيها فنه .
( 2 ) اعلم أن هذا التواضع الذي يظهر عند بعض الناس قد لا يكون أكثر من مظهر خارجي ، كماء النهر يبدو صافياً ، ولكنه يخفي تحته ما كمن في قاع النهر من أقذار .
 
“ 390 “
 
فإذا أثارك أحد - على سبيل الامتحان - صار لون الماء في الحال كلون البعر “ 1 “ ! إنّ البعر ( كامن ) في قاع النهر - أيها الفتى - مع أنّه يبدو لك من السطح صافي الماء !
 
 3220 -  والشيخ الحاذق الفطن ، العارف بالطريق ، هو الذي يطّهر أنهار النفوس والأبدان “ 2 “ .
فهل يستطيع ماء النهر أنْ يطهِّر البعر ؟ أم هل يستطيع علم المرء أنْ يزيح جهالة نفسه ؟
وهل في إمكان السيف أن يصوغ قبضته ؟ ألا فاذهب واعهد بجرحك هذا إلى جرّاح ! إن الذباب ليجتمع فوق كل الجراح ؛ وإذ ذاك لا يرى قبح جرحه أحد .
وهذا الذباب ليس سوى هو اجسك وحالك ، وأما جرحك فهو ظلمة أحوال روحك !
 
3225 - فلو أن الشيخ وضع فوق جرحك هذا مرهماً ، لسكن - في الحال - هذا الألم والنحيب ، حتى أنك تحسب أن الجرح قد التأم ، ( وماذا إلا ) شعاع المرهم وقد لمع فوق الجرح .
فلا تُعرض عن المرهم ، أيها الجريح الظهر ! واعلم أنّ ( الشفاء ) من شعاع المرهم ، وليس من جوهر ذاتك !
...............................................................
( 1 ) فإذا أثارك أحد زال عنك في الحال هذا التواضع والرقة السطحية ، وظهرت في الحال على حقيقتك .
( 2 ) هنا يعود الشاعر إلى الحديث عن ضرورة الشيخ المرشد لتربية المريد .


 
 
“ 391 “
 
كيف ارتد كاتب الوحي لأن شعاع الوحي تجلى عليه بإحدى الآيات 
قبل أن يتلوها الرسول عليه السلام فقال : "وأنا أيضاً ينزل عليّ الوحي"
 
كان للوحي كاتب قبل عثمان . وكثيراً ما أظهر الجد في كتابة الوحي .
فبينما كان الرسول ينطق بالوحي ، كان هذا يسارع فيسجله على الورق .
 
3230 -  وكان شعاع هذا الوحي يشرق عليه - وإذ ذاك كانت تتجلى الحكمة في باطنه .
( وحدث ) أن الرسول كان يملي هذه الحكمة ذاتها . فبهذا القدر ( من الحكمة التي تجلّت له ) ضلّ هذا الفضولي .
( فحدّث نفسه قائلًا ) : إن هذا الذي ينطق به الرسول المستنير ، قد تجلّت لي حقيقته في الضمير ! “ وانكشف شعاع تفكيره للرسول ، وحل قهر الحقّ بروح هذا الكاتب .
فترك النسخ وخرج عن الدين ، وصار عدواً مرّ العدواة للمصطفى ودينه .
 
3235 - فقال المصطفى ، “ أيها الكافر العنيد ! لو أنَّ النور كان منك فكيف أصبحت مظلماً ؟
إنك لو كنت ينبوعاً إلهيّاً لما فاضت منك هذه المياه السوداء ! “ ولقد أغلق هذا المغرور فمه ، حتى لا يتحطّم غروره أمام هذا وذاك ! لقد أظلم باطنه ، ولهذا لم يستطع أنْ يتوب . فياله من عجب ! وكان يتأوِّه ، ولكن التأوَّه لم يُجده نفعاً ، حين جاء السيف واحتزّ رأسه .
 
3240  - إن اللَّه قد جعل الغرور ( قيداً يزن ) مائة منّ من الحديد . وكم هناك من مقيّد بهذا القيد الخفي ! فالكبرياء والكفر يغلقان الطريق على هذه الصورة ، فلا يستطيع المذنب أن يتأوه ( ندماً ) .
 
“ 392 “
 
قال تعالى :” إنَّا جَعَلْنا في أَعْناقهمْ أَغْلالًا ، فَهيَ إلَى الْأَذْقان فَهُمْ مُقْمَحُونَ ““ 1 “ .
وليست هذه الأغلال مما يقّيد ظاهرنا .
( وقال أيضاً ) :” وَجَعَلْنا منْ بَيْن أَيْديهمْ سَدًّا وَمنْ خَلْفهمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصرُونَ ““ 2 “ ، وهذا الأعمى لا يبصر السد وراءه ولا أمامه ! فهذا السد الذي قام ، قد اتخذ صورة الصحراء ، ( ولهذا ) فإنه لا يعلم أن السد ( الذي يواجهه ) إنما هو سدّ القضاء “ 3 “ .
 
3245 - إن محبوبك ( الصوري ) سدّ يحجب وجه محبوبك ( الروحي ) ، ومرشدك ( الحسّيّ ) سد أمام حديث مرشدك ( الروحي ) .
وكم من كافر مولع بالدين ، وما صدّه عنه إلا الغرور والكبر ، وما شابههما .
فهذا قيد خفيّ ، ولكنه أقوى من الحديد ، فقيد الحديد تحطمه الفأس .
وقيد الحديد من المستطاع إبعاده ، وأما القيد الغيبي فلا يعرف أحد له دواء .
فلو أن المرء لدغه زنبور بإبرته ، فإنه يخرج من جسمه إبرة هذا الزنبور .
 
3250 - أما إذا كان وخز الإبرة من وجودك ذاته ، فإن الهم يكون قوياً والألم لا يهون ! إن شرح هذه ( الأمور ) يتوثب من صدري ، ولكني أخشى أن يصبح باعثاً على اليأس .
...............................................................
( 1 ) ( سورة يس ، 36 : 8 ) . ولفظة مقمحون ، في الآية ، معناها : “ رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم “ .
( 2 ) ( سورة يس ، 36 : 9 ) .
( 3 ) إن مثل هذا السد معنوي ، لا يبدو لعينيه حسياً كالسدود التي يعرفها . الأرض أمامه منبسطة كالصحراء ، ومع ذلك فإنه لا يرى . الأمور سهلة ميسورة الفهم ومع ذلك يستعصي عليه الفهم لأن سداً نفسياً يقف حائلًا بينه وبين ذلك .


 
“ 393 “
 
لا ! لا تكن يائساً ، بل كن سعيد النفس . واهتف باستغاثتك أمام هذا المغيث ! ( قائلًا ) : “ يا محبّ العفو ! اعف عنا ، أيها المداوي لعناء جرحنا القديم ! “ إن خيال الحكمة أضلّ ذلك الشقي “ 1 “ . فلا تكن مغروراً وإلا جعل منك غباراً سحيقاً .
 
3255 - أيها الأخ ! إن الحكمة منطلقة إليك . وإنها من الأبدال عارية لديك .
إن المنزل “ 2 “ لو رأى النور يعم أرجاءه ، فإن هذا النور قد أشرق عليه من جار منير .
فكن شاكراً ، ودع خداع النفس ، ولا تشمخ بأنفك ! وأحسن الإنصات ، ولا تُصَبْ قطّ بالغرور ! فوا أسفاه ! وأسفاه مائة مرة ، أنّ هذا ( الأمر ) العارض “ 3 “ قد دفع الأمم بعيداً عن الوحدة .
إنني لعبد لهذا الذي لا يعدّ نفسه - في كل رباط - واصلًا إلى السماط “ 4 “ .
 
3260 - وما أكثر الربط التي لا بدَّ للمرء أن يمرّ بها ، حتى يصل - ذات يوم - إلى مسكنه “ 5 “ .
إنَّ الحديد - وإنْ أصبح أحمر اللون - فليست الحمرة لون ، وما شعاعه إلا عارية من نار تصليه .
...............................................................
( 1 ) الإشارة هنا إلى كاتب الوحي الذي ارتد .
( 2 ) يرمز بالمنزل هنا إلى قلب الإنسان أو باطنه .
( 3 ) الغرور .
( 4 ) يقول الشاعر إنه عبد لذلك الرجل المتواضع الذي لا يعتبر نفسه واصلًا إلى الحقّ في كل مرحلة من مراحل تطوره الروحي .
( 5 ) ما أكثر المراحل الروحية التي يمربها الإنسان حتى يتحقق له الوصول .


 
“ 394 “
 
وإذا امتلأت بالنور نافذة أو دار ، فكنْ لعى يقين أنه ليس من مضيء سوى الشمس ! فكلّ حائط وكل باب يقول : “ إنني مضيء ( بذاتي ) ولست مستعيراً نور غيري ، بل ذلك نوري ! فتقول له الشمس : “ أيها الخالي من الرشد ! إنّ الأمر سيتضح لك حين أغيب “ .
 
3265 - والنبات الأخضر يقول : “ إنني أخضر بنفسي ! إنني سعيد ضاحك سامق منذ القدم “ .
فيقول فصل الصيف : “ يا أمم النبات ! سترون أنفسكم حين أذهب ! “ إنّ الجسم يتيه بحسنه وجماله ، أما الروح فقد أخفى جلاله ، وقوادمه وخوافيه .
يقول للجسم : “ من أنت أيها المزبلة ؟ إنك تعيش بأشعتي يوماً أو يومين ! والعالم لا يتسع لغنجك ودلالك ! ( لكن ) مهلًا حتى أفلت منك !
 
3270 - فالذين أدفؤوك ( بالحبّ ) سيحفرون لك قبراً ، ويجعلونك طعمة للنمل والزواحف ! وذلك الذي كثيراً ما قتله عشقك ، سوف يسدّ أنفه من رائحتك المنتنة ! إنِّ أشعة الروح هي النطق والعين والأذن ، كما أنَّ أشعة النار تكون في غليان الماء .
وكما ( تشرق ) أشعة الروح على الجسد ، فإنّ أشعة الأبدال ( تشرق ) على روحي .
فإذا ما فارق الروحَ روحُ ، الروح ، فاعلم أنه يصير مثل جسد بلا روح .
 
3275 - ولهذا السبب أضع رأسي على الأرض ( خاشعاً ) ، حتى تكون الأرض شاهدي يوم الدين .
 
“ 395 “
 
ففي يوم الدين - حين تزلزل الأرض زلزالها - تكون هي الشاهد على أحوالها “ 1 “ .
فإنها” يَوْمَئذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ““ 2 “ فينطق بالقول التراب والأحجار .
والمتفلسف منكر لهذا بفكره وظنِّه . فقل له : “ اذهب ، واضرب بر أسك هذا الحائط “ .
إنّ نطق الماء ، ونطق التراب والطين ، كل أولئك مما تدركه حواسّ أهل القلوب !
 
3280 - والمتفلسف ، الذي ينكر الجذع الحنّان “ 3 “ غريب عن حواسّ أهل القلوب ! 
إنه يقول إنَّ أشعة أحزان البشر تلقي في أذهانهم بكثير من الأوهام .
بل الأمر على عكس فساده وكفره . فإنَّ خياله الجاحد قد أثرَّ فيه .
إنِّ المتفلسف ينكر الشيطان ، وهو في الوقت ذاتهُ مسَخرَّ للشيطان ! 
فإنْ لم تكن قد رأيت الشيطان ، فانظر إلى نفسك . إنَّ زرقة الجبين لا تكون بدون جنون .
 
3285  - وكلّ من كان في قلبه شك والتواء ، فهو في هذا العالم فيلسوف مستتر !
إنه يتظاهر بالاعتقاد ، لكنِّ عرق الفلسفة يسوّد وجهه بين حين وآخر ! 
فحذار أيها المؤمنون ، فإنَّ هذا ( العرق ) كامن فيكم ، كما أنّ بكم عوالم كثيرة لا تحدّ !
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان مالها . يومئذ تحدث أخبارها “ . ( 99 : 1 - 4 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ إذا زلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان مالها . يومئذ تحدث أخبارها “ . ( 99 : 1 - 4 ) .
( 3 ) إشارة إلى قصة سبق ورودها في المثنوي ( انظر الأبيات 2113 - 2120 ) .


 
“ 396 “
 
وفيكم جملة الملل الإثنتين والسبعين “ 1 “ ، فواهاً لو أنها تمكنت منكم ذات يوم ! فكل من كان له نصيب من الإيمان ، فإنه يرتعد من خوف هذا ( الشك ) ، كورقة الشجر .
 
3290 - إنك قد سخرت من إبليس والشيطان ، لأنك رأيت نفسك رجلًا طيّباً .
ولو أن نفسك أظهرت دخليتها “ 2 “ فكم من صيحة استنكار تنتزعها من أهل الدين ! ففي الدكان يضحك كل ما اتخذ مظهر الذهب “ 3 “ ، ذلك لأن محك الامتحان يكون مختفياً .
فلا تكشف سترنا ، أيها الستّار ! وكن لنا مجيراً يوم الامتحان .
إنّ النقد الزائف ليطاول الذهب في جنح الدجى ، فينتظر الذهب النهار .
 
3295  - ويقول له الذهب بلسان الحال : “مهلًا - أيها المزوّر - حتى ينبثق النهار."!
إن إبليس اللعين كان من الأبدال آلاف السنين ، بل إنه كان أمير المؤمنين ! 
فسوَّل له غروره أنْ يضرب بقبضته آدم ، فافتضح كما يفتضح البعر في وقت الضحى .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى الحديث الذي ينسب إلى الرسول أنه قال إن الأمة تنقسم من بعده إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهو حديث مشهور يكثر ذكره في كتب الفرق . والاثنتان وسبعون ملة التي ذكرها الشاعر هي الفرق الهالكة .
( انظر : الشهرستاني ، الملل والنحل ، ص 21 ) .
( 2 ) حرفياً : “ ولو أن نفسك قلبت ثوبها “ .
( 3 ) أي أن المعادن الشبيهة بالذهب ، المعروضة في الدكان ، تبتسم ما دام المحك بعيداً عنها ، فتخدع الناس ببريقها .


 
“ 397 “
 
كيف دعا بلعام بن باعور اللَّه ( قائلا ) " يا رب !
ردّ موسى وقومه بدون مرادهم عن تلك البلدة التي حاصروها "
 
إنّ أبناء الدنيا خضعوا لبلعم بن باعور “ 1 “ ، فقد كان كعيسى في زمانه .
فما سجد الناس لأحد سواه . وكان سحره ( يردّ ) الصحة للمريض !
 
 3300 - وقد دفعه الكبر والكمال إلى التهجّم على موسى ، فكان أن صار حاله إلى مثل ما سمعتَ به ! .
وكم في الدنيا من ألوف مثل إبليس وبعلم ، سواء منهم من كان ظاهراً أو مستتراً .
وقد صيرّ اللَّه هذين مشتهرين ، ليكونا شاهدين على الآخرين .
لقد علّق هذين اللصين فوق مشنقة عالية ، ولولا ذلك لحلّ قهرُه بكثير من اللصوص “ 2 “ .
لقد جرّ هذين من شعرهما نحو المدينة ( مشهّراً بهما ) . ( ولولا ذلك ) ما استطاع أحد أن يحصي صرعى غضب اللَّه .
...............................................................
( 1 ) كان بعلم باعوراء أحد علماء بني إسرائيل . وقد ورد ذكره في تفسير قوله تعالى : “ وأتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين “ . ( الأعراف ، 7 : 175 ) . قال بعض المفسرين إن المقصود هنا هو بلعم بن باعوراء الذي دعا على موسى فأوقعه في التيه . فلما سأل موسى ربه عن سبب وقوعه في التيه ، أجابه إن ذلك كان بدعاء بعلم . فقال موسى ربه عن سبب وقوعه في التيه ، أجابه إن ذلك كان بدعاء بعلم . فقال موسى : “ اللهم كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه “ ، فخرجت الحكمة من صدره كحمامة ببضاء .
وهناك صور أخرى لهذه القصة عن ابن مسعود وابن عباس في تفسير الطبري وغيره .
( 2 ) أي أن إبليس وبعلم عوقبا بصورة علنية فاشتهر أمرهما ، ولولا ما اشتهر من هذه العقوبة ، لوقع في الإثم كثيرون من أمثالهم ، ولكن العظة المستفادة من عقوبة كل من إبليس وبلعم كانت رادعاً للكثيرين .


 
 
“ 398 “
 
3305  إنك وليّ مدلّل في حدودك . فاتّق اللَّه ، ولا تتجاوز حدودك ! فإنْ طعنت في من هو أكثر منك دلالًا ، أنزلك اللَّه إلى حضيض الأرض السابعة ! وما جدوى قصة عاد وثمود ؟ لتعلم أن للأنبياء حظوة ( عند اللَّه ) .
فهذه العلامات من خسف وقذف وصواعق ، جاءت بياناً لعزّة النفس الناطقة .
فاقتل جميع الحيوانات من أجل الإنسان . واقتل كل البشر من أجل العقل .
 
3310 - فما العقل ( الكلّي ) ؟ إنه ذهن كل عاقل . والعقل الجزئيّ يكون عقلًا ( أيضاً ) ، ولكنّه ضعيف .
إنّ جميع الحيوانات المستوحشة من الإنسان أقلّ قيمة من الحيوانات المستأنسة .
فهي إذ لم تجىء قابلة ( مسخّرة ) لأعمال الإنسان ، فإنّ دماءها حلال له .
لقد سقطت عزّة هذه الوحوش ، لأنها جاءت مخالفة للَإنسان .
وأيّ عزة تبقى - يا نادرة الزمان - إذا أصبحت كالحمر المستنفرة “ 1 “ ؟
 
3315 -  فالحمار لا يجوز قتله لأنه نافع ، فإذا أصبح وحشيّاً فدمه مباح .
ومع أنّ الحمار ليس له علم يردعه ، فإنه لا يلقى عند الودود عذراً “ 2 “ .
فإذا استوحش الإنسان ( ونفر ) من تلك الكملة “ 3 “ ، فكيف يكون معذوراً ، أيها الرفيق النبيل ؟
...............................................................
( 1 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ كأنهم حمر مستنفرة ، فرّت من قسورة “ . ( المدثر ، 74 : 50 - 51 ) . وهذه الآية تصف الكفار الذين يهربون من سماع كلام اللَّه كأنهم حيمر نافرة ، فرّت من أسد يطاردها .
( 2 ) إن الحمار الأهلي إذا انقلب وحشياً حل بذلك قتله . هذا مع أن الحمار لا عقل له يردعه ويجعله مختاراً فيما يعمل .
( 3 ) الدعوة الإلهية .




 
 
“ 399 “
 
فلا جرم أنّ دماء الكفار أصبحت - كدماء الوحوش - مباحة للسهام والرماح .
ونساؤهم وأولادهم كلّهم سبيُ حلال ، ذلك لأنهم مستوحشون نافرون من العقل الجليل .
 
3320 - فالعقل الذي يفرّ من عقل العقول ، ينتقل من مرتبة التعقل إلى مرتبة الحيوان .
 
كيف اعتمد هاروت وماروت على ما كان لهما من عصمة
وطلبا الاختلاط بأهل الدنيا فافتتنا
 
مثل هاروت وماروت الشهيرين ، اللذين أصابهما البطر بسهم مسموم .
لقد كان معتمدين على ما لهما من قداسة . وأيّ اعتماد للجاموس على الأسد “ 1 “ ؟
فهو يحتال في النطاح بمائة طريقة - ومع ذلك يمزّقه الأسد الضاري إرباً إرباً .
ولو صار مكسواً بالقرون كأنه قنفد ، فإن الأسد لا محالة قاتله!
 
  3325- إنّ الريح الصرصر تقتلع الكثير من الأشجار ، وهي - مع ذلك - تبث النضرة في جميع الأعشاب .
فهذه الريح العاتية ترحم ضعف الأعشاب ، فلا تكن مزهوّاً بقوتك أيها القلب ! وهل تخاف الفأس من كثافة أغصان الشجرة ؟ إنها تُحيلها قطعاً مبدّدة .
...............................................................
( 1 ) إذا اغتر الإنسان بنفسه ، وظن نفسه مقدّساً ، معصوماً ، لم ينفعه ذلك أمام جموح الشهوات . فالشهوة تقضي على التدين الغافل ، كما يفترس الأسد الجاموس .


 
 
“ 400 “
 
لكنها لا تلقي بثقلها فوق إحدى الأوراق . فحّدها ليس يدق إلا حدّاً ( صلبا ) .
وأيّ خوف للشعلة من كومة الحطب ؟ ومتى يفرّ القصّاب من قطيع الغنم ؟
 
3330   فما الصورة أمام المعنى ؟ إنها لضعيفة واهية ! وما جعل الفلك منقلباً منكّساً “ 1 “ سوى معناه .
فاتخذ من الفلك الدوّار قياساً ! فمن ذا الذي يديره ؟ إنه العقل المدبر ! يا بنّي ! إن الروح المستتر هو الذي يدير هذا الجسم ، الذي هو شبيه بالدرع .
وأما دوران هذه الريح فمن معناها . فهي مثل العجلة التي تكون أسيرة لماء النهر .
وهذا الجرّ والمدّ ، ودخول هذا النَفَس وخروجهَ ، مَنْ الباعث عليه ، سوى هذا الروح المفعم بالحماس !
 
 3335 - وهو حيناً يجعل ( هذا النَفَس ) “ جيماً “ وحيناً “ حاء “ وحيناً “ دالًا “ “ 2 “ . وحيناً يجعله صلحاً وحيناً جدالًا .
وهكذا كان اللَّه قد أطلق هذه الريح كالتنّين على قوم عاد ! ولكنه جعل الريح ذاتها سلاماً على المؤمنين ورعاية وأمناً ! لقد قال شيخ الدين : “ إنّ اللَّه هو المعنى . بل إن ربَّ العالمين بحر المعاني ! “ فكل طباق الأرض والسماء ، ليست سوى قش في ذلك البحر الفيّاض .
 
3340 - وتدافع القش ورقصه فوق الماء ، إنما يجيء من الماء حين يجيش .
فإذا أراد الماء أنّ يكون هذا القش ساكناً لا يماري ، فإنه يلقي به فوق الساحل .
...............................................................
( 1 ) شبَّه الفلك بإناء مقلوب .
( 2 ) الحروف المذكورة في الشطر الأول من البيت هي التي يتكون منها الفعل “ جحد “ .

 
“ 401 “
 
وحينما يجذبه من الساحل إلى منطلق الأمواج ، فإنه يفعل به ما تفعله الريح الصرصر بالعشب .
وليس لهذا الحديث نهاية ، أيها الفتى ! فلتسرع ثانية نحو قصة هاروت وماروت !
 
بقية قصة هاروت وماروت وكيف حلت بهما العقوبة
والنكال بهذه الدنيا في بئر بابل
 
حينما أصبحت آثام أهل الدنيا ومعاصيهم ظاهرة لهذين من نافذة ( السماء ) .
 
3345 - أخذا - من الغضب - يعضّان على أيديهما ، ولكنهّما لم يبصرا عيبهما .
( فهما مثل ) رجل قبيح رأى وجهه في المرآة ، فغضب وحوَّل وجهه عنها ! والمغرور إذا رأى شخصاً يرتكب أحد الذنوب شبّت بنفسه نار مثل نار جهنّم .
وهو يسمّي هذا الكبر حميّة دينيّة ولا يبصر في ذاته النفس المتكبرة .
فحميّة الدين لها ظواهر أخرى . إنّ العالم مخضلّ بنار تلك الحميَّة !
 
3350 - ولقد قال الحق لهما : إنْ كنتما من النور فلا تنظرا إلى سواد فعل ( هؤلاء ) الغافلين ! يا جنود السماء وخُدّامها ! كونوا للَّه شاكرين ، لأنكم قد نجوتم من الشهوة والفرج .
فلو أنني ركبّت فيكم هذه الطبيعة ، لما بقي لكم مكان في السماء “ 1 “ .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ لما بقيت السماء متقبلة لكم “ .


 
 
“ 402 “
 
فهذه العصمة التي بأجسامكم ، إنما هي ظلّ لعصمتي وحفظي .
حذار ، حذار ! واعلموا أنّ تلك العصمة مني لا منكم حتى لا يغلبكم الشيطان اللعين .
 
3355 -  فهكذا كان كاتب وحي الرسول ، الذي أبصر في ذاته الحكمة والنور الأصيل .
لقد حسب نفسه قريناً لطيور اللَّه في ألحانها ، وما كان لحنه إلا صفيراً كالصدى ! فإنْ أنت غدوت مقلّداً ألحان الطيور ، فأنّى لك أن تكون واقفاً على مرادها ؟
وإنْ أنت تعلمّت صفير البلبل ، فأنّى لك أنْ تعرف ماذا يحمل للوردة ( من شعور ) ؟
وحتى لو عرفت ، فما ذلك إلا من قبيل القياس والظنّ . كما يكون الحدس للصمّ من تحرك الشفاه .
 
قصة الأصمّ الذي ذهب ليعود جاره المريض
 
3360 -  قال أحد الفضلاء لذلك الأصمّ : “ إن جارك مريض “ .
فحدّث الأصمّ نفسه ، قائلًا : “ ما الذي سأسمعه بهاتين الأذنين الكبيرتين من كلام ذلك الشاب ؟
وخاصّة أنه مريض ، وقد ضعف صوته ! لكنّ واجبي أنْ أذهب ، ما من ذلك بدّ ! وحينما أرى شفتيه تتحركان ، أقيس حالهما على حالي .
فإذا قلت له : “ كيف حالك أيها ( الصديق ) الممتحن ؟ “ فإنه سيقول : “ حالي طيّب أو حسن ! “




 
 
“ 403 “
 
3365 -  فأقول له : “ شكراً للَّه ! وأيّ غذاء تتناول ؟ “ فيقول : “ شراباً أو عدساً “ .
فأقول له : “ شراب هنيء ! ومن من الأطباء يعودك ؟ “ فيقول :
“ فلان “ .
فأقول له : “ إنه مبارك المقدم . وما دام قد عادك فسيحسن حالك .
ولقد جربنا مقدمه ، فهو حيثما ذهب ، صح الرجاء ! “ .
وهكذا أعدّ الرجل الطيّب هذه الأجوبة القياسيّة ، وذهب ليعود ذلك المريض .
 
3370  - فقال : “ كيف أنت ؟ “ فقال المريض : “ لقد مت ! “ فقال :
“ شكراً للَّه ! “ ، فامتلأت نفس المريض - من ذلك - ألماً واستنكاراً .
( وحدَّت نفسه قائلًا ) : “ ولماذا هذا الشكر ؟ إن هذا الرجل عدّوي “ . لقد استخدم الأصمّ القياس فجاء قياسه معوجّاً ! وبعد ذلك قال الأصمّ : “ ماذا شربت ؟ “ فقال المريض : “ سمّاً “ فقال الأصم : “ هناء وشفاء “ ، فاحتدم غضب المريض .
وأردف الأصمّ قائلًا : “ ومن من الأطباء يعودك لعلاجك ؟ “ .
فقال المريض : “ عزرائيل يعودني ، فاذهب عني ! “ فقال الأصمّ : “ إنّ مقدمه لعظيم البركة ، فهنيئاً لك !
 
3375 - وخرج الأصمّ سعيداً ، وهو يقول : “ شكراً للَّه ، فقد قضيت في مجاملته برهة من الزمن “ 1 “ ! “ أما المريض فقد قال : “ إنّ هذا الرجل عدوّ روحي ، وما كنت أدري أنه معدن الجفاء !
...............................................................
( 1 ) الشطر الثاني من هذا البيت ، كما ورد في نص طبعة نيكولسون غير واضح المعنى .
وقد فضلنا رواية أخرى ورد فيها هذا الشطر بصورة أوضح وأجمل وهي :
“ شكركش كردم مراعاة آن زمان “ .


 
 
“ 404 “
 
وكان خاطر المريض ينشد من القول كل سقط ، ليبعث إليه برسالة حوت كل نمط .
فقد كان كرجل أكل طعاماً فاسداً . فهذا الطعام يمعن في إيلام المعدة حتى ترجعه .
وهكذا كظم الغيظ . فلا تدع الغيظ ينبثق من باطنك كالقيء .
وإنك لمُلاق حسن الثناء جزاء لذلك .
 
3380 - إنْ هذا المريض كان نافد الصبر ، فأخذ يتلوّى قائلًا : “ أين هذا الكلب . . “ 1 “ 
حتى أمطره بمثل ما قال لي . إن أسد ضميري كان حينذاك غافياً ! “ فالعيادة هي لبثّ الطمأنينة في القلب . 
فليست هذه بعيادة ، بل رغبة عدوّ ، يريد أن يرى عدوه ذابلًا ذاوياً ، فيقر بذلك خاطره القبيح ! “ فما أكثر الناس الذين يؤدون العبادات ، وقد علّقوا قلوبهم بالرضوان والثواب .
 
3385 -  فهذه العبادات - في حقيقتها - معصية خفيّة ! إنها كَدَرُ يظنّ به الصفاء ! ومن هذا القبيل ذلك الأصم ، الذي كان يظن أنه أحسن صنعاً ، فجاء الأمر على عكس ذلك .
لقد جلس سعيداً ( وقال ) : “ هأنذا قد زرت جاري ، وقمت بواجبي نحوه “ .
على حين أنه قد أشعل لنفسه في قلب المريض ناراً ، واحترق بها .
فاتقوا النار التي أو قدتموها يا من أمعنتم في المعاصي “ 2 “ !
...............................................................
( 1 ) بالغ الشاعر هنا في تصويره الواقعي ، فأورد على لسان المريض سباباً فاحشاً رأينا من المناسب حذفه .
( 2 )فاتقوا النار التي أو قدتمو * إنكم في المعصية ازدتمووقد رأينا نثره مجاراة لأسلوب الترجمة .


 
 
“ 405 “
 
3390 - فقد قال الرسول لرجل من الأعراب : “ صلّ ، فإنك لم تصلّ يا فتى ! “ “ 1 “ .
فمن أجل علاج تلك المخاوف ، جاءت كلمة “ اهدنا “ في كل صلاة .
( ومعناها ) “ يا إلهي ! لا تخلط صلاتي بصلاة الضَّالين ، وأهل الرياء “ .
فبهذا القياس الذي اختاره الأصم بطلت صحبة سنوات عشر .
وشر القياس - أيها السيدّ - قياس الحسّ الوضيع بذلك الوحي الذي فاق كل الحدود .
 
3395 - فإنْ كانت أذنك الحسيّة قابلة للحروف “ 2 “ ، فاعلم أنّ أذنك التي تستمع إلى الغيب صمّاء .

 
.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Empty
مُساهمةموضوع: شرح كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي    كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي  Emptyالأربعاء أغسطس 19, 2020 6:24 am

شرح كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي 

مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )    

 كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
شرح كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد
( 3013 ) هذه القصة التي يقصها الشاعر في الأبيات التالية من القصص المعروفة . لكن الشاعر أضفى عليها مغزى صوفياً جعلها تتخذ طابعاً مختلفاً ، وتعبّر عن معانية الصوفية بصورة رائعة . وممن ذكر هذه القصة أبو الفرج بن الجوزي . قال : “ زعموا أن أسداً وثعلباً وذئباً اصطحبوا فخرجوا يتصيدون ، فصادوا حماراً وظبياً وأرنباً . فقال الأسد للذئب : 
اقسم بيننا صيدنا . فقال : الأمر أبين من ذلك ، الحمار لك ، والأرنب
 
“ 586 “

لأبي معاوية ، والظبي لي . فخبطه الأسد فأطاح رأسه . ثم أقبل على الثعلب ، وقال : قاتله اللَّه ! ما أجهله بالقسمة ! هات أنت يا أبا معاوية : فقال الثعلب : يا أبا الحارث ! الأمر أوضح من ذلك : الحمار لغدائك ، والظبي لعشائك ، والأرنب فيما بين ذلك . فقال الأسد : قاتلك اللَّه ! ما أقضاك ! من علمك هذه الأقضية ؟ قال : رأس الذئب الطائح عن جثته “ . 
والشاعر قد صرف هذه القصة عن معناها الظاهر وأضفى عليها مغزى صوفياً . 

( 3029 ) الاستقامة ، لا تقف عند حدّ الأعمال ، ولكن لا بدّ من نقاء الكفر ، وصفاء الروح . 

( 3035 ) كيف يظن الإنسان باللَّه ظنّ السوء مع أنه هو الذي وهبه الصورة والفكر ؟ 

( 3040 ) الجاهل ينخدع بكثيرة ماله فيظن ذلك من علامات رضى اللَّه عنه . 

( 3050 - 3051 ) في هذين البيتين يتضح مغزى القصة . فوجود الإنسان يجب أن ينتفي أمام الخالق . 

( 3052 ) السبيل الوحيد للبقاء هو الفناء في اللَّه . فمن فني في اللَّه تحقق له البقاء . وقد قال تعالى :” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ “. فليس لأحد سبيل إلى البقاء إلا إذا كان ضمن هذا الوجه . 

( 3053 ) من تحقق له الفناء في اللَّه فهو ليس من الهالكين ، لأنه يصبح حياً باقياً خالداً . 

( 3054 ) قوله : “ فإنه قد أصبح ضمن إلا . . . “ معناه : “ أصبح ممن ينطبق عليهم الاستثناء من الهلاك ، الذي أخبر به اللَّه في قوله :” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ “، وبهذا يخلص من الهلاك ، ويتحقق له البقاء “ . 

( 3055 ) “ أما كل من يقصد باب اللَّه ، بدون أن يتخلى عن اعتداده بذاته

“ 587 “

الإنسانية ، فإن هذا الاعتداده لا يجديه نفعاً ، لأن مثله لا يقبل ، فيكون جزاؤه الفناء المحقق . 

( 3063 ) هذه القصة تدور حول معنى القول الصوفي المشهور :أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا 
فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا

( 3064 ) من سعى إلى الاتحاد وهو محتفظ بأنانيته ، مؤكد ذاتيته ، شبيه بخيط مزدوج يراد إدخاله في سم الخياط . العشق وحده هو سبيل الاتحاد ، وليس العشق مصحوباً بالأنانية . 

( 3065 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى :” إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ “. ( الأعراف 7 : 40 ) . 

( 3066 ) القوة الحسية الطاغية ، التي تحجب الروح ، لا يمكن التخلص من طغيانها بدون الرياضات ، والسعي الحثيت لإخضاعها ، وبذلك يتوصل الإنسان للسيطرة عليها . 

( 3069 ) إشارة إلى معجزات جرت على يد المسيح ، بقدرة اللَّه ، فاستعظمها الناس مع أنها ليست سوى أُمور يسيرة بالقياس إلى إمكانات القدرة الإلهية . وقد جاء في القرآن الكريم أن عيسى قال :” وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ “. ( آل عمران ، 3 : 49 ) . 

( 3078 - 3080 ) إن ارتباط روحين مؤمنين يجعل منهما وحدة متماسكة ، فالكاف والنون ( الحرفان اللذان يتكون منهما الفعل الذي ينطق به الخالق عند إرادة الخلق ) ، حينما يرتبطان يصبحان وحدة ، يكون أثرها انتقال الكائنات من عالم الإمكان إلى عالم الوجود . فكأن هذه الكلمة وهق جذب هذه الكائنات وأدخلها عالم الخطوب ، وهو العالم الدنيوي الحافل بمختلف أنواع الصراع . وهذا الوهق المعنوي الذي يجذب المخلوقات من عالم الإمكان إلى عالم الوجود شبيه بالوهق الحسي ( وهو عبارة عن حبل مزدوج يطرح على الحيوان الشارد ،

“ 588 “

للإمساك به ) . ومع أن الوهق حبل مزدوج إلا أنه يؤدي عملًا واحداً . 

( 3087 - 3090 ) انتقل الشاعر هنا إلى تنبيه مستمعيه إلى وجوب اليقظة لاستماع أقواله والتنبيه لمعانيها . وقد شبه اللسان الناطق بالحكمة الروحية بحجر الطاحون . فهذا اللسان ينطق بحكمة أوحى بها العقل الكلي . وماء النهر هنا رمز للعقل الكلي . فهذا الماء يدخل في الطاحون ليحركه وكذلك العقل الكلي يُنطق اللسان . ودوران الطاحون يهييء الغذاء الحسي ، أما نطق اللسان بالحكمة فهو وسيلة لإمداد الناس بغداء روحي . وكما أن مرور ماء النهر بالطاحون لمصلحة خاصة ، هي إدراة الطاحون وإنتاج الدقيق ، فكذلك مرور الحكمة العلوية على اللسان ، الهدف منه تيسير هذه الحكمة الروحية لمن لا سبيل لهم إليها . 
ولولا هذه المصلحة لكان الطبيعي أن يجري ماء النهر في النهر لا في الطاحون ، وأن تظل الحكمة الروحية كامنة في العقل الكلي ، لا جارية على اللسان . فإذا لم يتنبه أصحاب الطاحون لإدارته ، بل غفوا عنه ، فلا سبيل لمرور ماء النهر فيه . 
وكذلك إذا لم يلتمس الناس الحكمة الروحية من المرشدين ، ولم يوجد من يستمع إليها ، فلا سبيل إلى جريانها على اللسان . لقد أُجريت على اللسان من أجل الحريصين عليها من طلابها ، وإلا فإنها تبقى في مجراها الأصلي حيث كنوز الحكمة الروحية المكنونة ، في عالمها المنفصل عن عالم الحس . 

( 3091 ) حديث الحكمة الروحية ، له عالمه الروحي المجرد ، بما يشيع فيه من جمال وبهاء ، وهناك ينطلق هذا الحديث من غير أن تكبله الحروف والأصوات ، ويُستوَعبُ بدون جاجة إلى شرح ولا تكرار ، لأنه هناك لغة مفهومة واضحة . 

( 3092 - 3093 ) يا إلهي ، أظهر للروح ذلك العالم الروحي الذي احتجب عنها أثناء مقامها في هذه الدنيا . فهناك الكلام المطلق ، الذي تجرّد من الحرف والصوت . فالروح حين تشهد مباهج هذا العالم لن تتوانى عن السعي إلى رحابه . 

( 3094 ) عالم الروح ممتد واسع الأرجاء ، ومنه يغتذي خيالنا ، حين ينطلق إلى رحابه ، وهناك يخلص من قيود الواقع الحسي . وكذلك يُستمد منه

“ 589 “

وجودنا ، لأن الروح صادرة عن ، وهي التي تشكل وجودنا الحقيقي . 
( 3095 ) الخيال أضيق من عالم الروح . ومن جرّاء هذا الضيق الذي يعانيه يكون الخيال مسبباً للهموم والأحزان . وضيق الخيال ناشىء من أن الواقع المحسوس يقيده بصوره وتجاربه فيحد من انطلاقه . 

( 3096 ) عالم الوجود الممكن أضيق من عالم الغيب المجرّد . ولهذا يعتري النقص بعض إمكاناته . ويكون ما يتحقق منه في الوجود المحسوس أقل مثالية مما يمكن أن يتصور . 

( 3097 ) أما الوجود المادي المحسوس فهو أضيق من الوجود الممكن . 
وهو - في نظر الشاعر - لا يعدو أن يكون سجناً ضيقاً . وقد صور الشاعر هذه المعاني بأسلوب رائع في الأبيات التالية : 
لو أن إنساناً قال الجنين في الرحم : “ إن خارج هذا المكان عالماً بديع التنسيق : 
أرضاً بديعة ذات عرض وطول ، حافلة بالعنم والكثير من المآل ! وجبالًا وبحاراً وسهولًا ، وبساتين عطرة وحدائق ، وحقولًا حافلة بالغراس ! وسماء عالية مشرقة بالضياء ، وشمساً وقمراً وكثيراً ومن النجوم ! عجائبها لا يحيطبها الوصف . فلماذا أنت في هذه الظلمة أسيرُ للمحن ؟ 
تحتسي الدماء وقد صُلبت في هذا المكان الضيق ، يرهقك الحبس والنجس والعناء ! “ لكان الجنين - بحكم طبيعته - منكراً هذا القول ، معرضاً عن هذا الحديث ، كافراً به . 

فعنده أن هذا الحديث محال وخداع وغرور ، ذلك لأن الأعمى لا خيال له ! وفي عالمنا هذا حين يتحدث العارفون إلى عامة الخلق قائلين :
 
“ 590 “

إن هذا العالم بئر شديد الظلمة والضيق ، ولكن خارجه عالماً خلا من اللون والرائحة . 
لا يصغي إليهم الجهلاء . فإن الطمع يقف أمامهم سداً منيعاً هائلًا ، كالجنين الذي كان حرصه على الدماء التي يغتذي بها في مقره الخسيس ، حجاباً له عن إدراك العالم الخارجي ، لأنه لم يعرف غذاء سوى الدماء “ .  (المثنوي ، ج 3 ، 53 - 68 ) . 

( 3100 ) إن أمر “ كن “ لا يعدو أن يكون فعلًا ، من الناحية الفظية ، لكنه - مع ذلك - يعني قدرة اللَّه الخالقة . فهذا الفعل المكون من حرفين وسع من المعنى مالا يحد . 

( 3120 ) إشارة إلى الحديث الذي ينسب إلى الرسول قوله : “ أُمتي هذه أُمة ، مرحومة ، ليس عليها عذاب في الآخرة “ . 

( 3124 ) “ إنني في الظاهر لا أختلف عن أي إنسان فانٍ ، لكني أستند إلى قوة اللَّه الذي اختارني وبعثني رسولًا “ . 

( 3125 ) يشير الشاعر هنا إلى مفهوم الحديث القدسي الذي يروي عن الخالق تعالى قوله : “ ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء فرائضي ، وإن عبدي ليتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحبيته كنت سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر ، ويده التي بها يبطش ، ورجله التي بها يمشي ، ولسانه الذي به ينطق ، وفؤاده الذي به يعقل “ . وهو حديث كثير الورود في كتب الصوفية ويروي بأسانيد مختلفة . انظر : 
( الترمذي : الرياضة ، ص 110 ) - ( السراج : اللمع ص 463 ) - ( ابن العربي ، فصوص ، ص 107 ) . وقد سبق أن ذكرنا هذا الحديث بصورة تختلف قليلًا عن هذه الرواية . ( انظر نص الترجمة ، رقم 1937 وحاشيته ) . 

( 3126 ) وما دمت قد تخليت عن ذاتي ، وأصبحت ناطقاً بأمر اللَّه فكل من حاربني فقد حارب اللَّه “ .

“ 591 “

( 3127 ) إن قوة إلهيّة قد احتجبت وراء هذا المظهر البشري المتواضع . 

( 3128 ) لكي يستطيع الإنسان أن يدرك رسالات اللَّه ، لا بدّ له أن يصدق جملة هذه الرسالات . فهذا التصديق مقدّمة لا بدّ منها لسماع كلمات اللَّه . 

( 3129 ) ولو لم يكن نوح منطوياً على قوة هائلة ، أيده بها الخالق ، لما استطاع بدعائه أن يغرق العالم بطوفانه . 

( 3131 ) لما لم يراع له الناس ما هو أهل له من الطاعة ، سلط عليهم الطوفان الذي أغرقهم . “ والعشر “ المذكور في البيت هو الخراج الذي كان يُجبي لبيت المال على نوع من الأراضي الزراعية . وكذلك على الواردات من بضاعة غير المسلمين ويرمز بالعشر هنا إلى ما كان لنوح من حق على الناس . 

( 3137 ) “ تخوا في حضرته عن شهوات الحس ، ودعوا طباع الثعالب كما ضع ذلك الثعلبب المذكور في القصة السالفة “ . 

( 3146 ) الإنسان الكامل الذي صفا قلبه من الصور الحسية ، وتوجه بروحه إلى عالم الغيب ، يصبح وكأنه مرآة تنعكس عليها صور الغيب . 

( 3148 ) ذلك الإنسان الكامل نافذ البصيرة ، وهو ببصيرته النافذة قادر على أن يميز الزهد الصادق من الرياء .

[ شرح من بيت 3150 إلى 3300 ] 
( 3151 ) القلب موطن الشجاعة ، وهو في الجانب الأيسر من الصدر ، لهذا كان الملوك يوقفون الأبطال عن يسارهم . 

( 3153 ) قوله : “ ذلك لأنهم مرآة الروح ، بل ( هم لها ) خير من المرآة “ ، يعني أن الصوفية لا يقف أثرهم عند بيان حقيقة الروح ، بل هم يعملون على صقلها . 

( 3154 ) “ الصورة البكر “ هي الوحي الأصيل الذي يهبط على قلوبهم .

“ 592 “

( 3155 ) كلّ جميل الروح صافيها يعشق من كان مثله جميل الروح ، فيكون كلّ منهما مرآة يرى صاحبه فيها حقيقة حاله . 

( 3156 ) هذا التعاطف والتلافي بين العارفين ناشىء من أن كلا منهما جميل الروح ، ينشد عند صاحبه مرآة لحقيقة حاله ، كما أنه يشهد من جمال الروح صاحبه ما يزيد روحه صفاء وقربا من اللَّه . 

( 3161 ) مهما آذيت الجسد ، فإن الروح يبقى متعالياً مستعصياً على الأذى . 

( 3163 - 3164 ) إن ما يصيب الظاهر من الأذى لا يغير من الحقيقة والجوهر . 

( 3165 ) فحبّة القمح التي توضع تحت التراب ، ليس يضيرها هذا ، بل إنها تنمو وتصنع من هذا التراب سنابل . 

( 3166 - 3167 ) وتُطحن حبات القمح فتزيد بذلك قيمتها ، إذ تغدو خبزاً يغذي الكاون الحيّ ، ثم يمضع الخبز ، فلا يقضي ذلك على جوهره بل يزداد هذا الجوهر وضوحاً ، إذ يتحول إلى طاقة وحياة في جسم الكائن الحي . 

( 3168 ) والروح لو تلاشت في العشق ، وغُرست في رحابه ، كما تغرس حبة القمح في الأرض ، فإنها تنمو وتزدهر وتصبح كالزرع اليانع الذي يعجب الزراع نباته . 

( 3172 ) اتخذ الشاعر من الهدايا التي يحملها الناس إلى الأصدقاء والأحباء عندما يتوجهون لزيارتهم ، رمزاً للعمل الصالح الذي يحمله المؤمن معه ، ويلاقي به ربه يوم الحشر . 

( 3173 ) “ لقد جئتمونا مجرّدين من الأعمال الصالحة ، ولم تتزودوا للقاء يومكم هذا ، فكأنكم لم تنتفعوا بشيء من حياتكم الدنيوية ، بل خرجتم منها كما دخلتموها ، وجئتمونا على هذا النحو “ . 

( 3175 ) أم أن هذا التراخي من جانبكم ، في القيام بصالح الأعمال

“ 593 “

كان نتيجة الشك في البعث وملاقاة اللَّه “ . 
( 3178 ) إن حياتك ثروة في يديك ، فلا تنفقها كلها في النوم والطعام ، بل اقتصد من هذه الحياة ما تنفق في صالح الأعمال ، فيكون هذا كالهدية ، تحملها إلى اللَّه يوم ملاقاته . 

( 3180 ) “ لا تكثر من الانغماس في خطوب الحياة المادية ، واسكن إلى حياة التأمل والتفكر حتى توهب الحواس المبصرة “ . والجنين في الرحم يكون في الأشهر الأولى ساكنا ، فإذا ما بدأ في الحركة كان ذلك دليلًا على اكتسابه الحواس . 

( 3181 ) أنظر التعليق على البيت 3097 . 
( 3182 ) وردت عبارة :” أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً “ *في عدد من آيات القرآن الكريم . فمما ورد من ذلك قوله تعالى :” إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْقالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها “. ( النساء ، 4 : 97 ) . 
والذين قالوا” أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً “ *، في هذه الآية هم الملائكة . ولعل الشاعر يعني أن الملائكة أشاروا بقولهم” أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً “ *إلى رحاب اللَّه الواسعة التي يدخلها الأولياء . 
ووردت عبارة” أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً “ *في قوله تعالى :” قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ( الزمر ، 39 : 10 ) . 

والقول هنا جاء ضمن خطاب اللَّه لعباده . وتأويل المعنى على طريقة الصوفية هو أن “ الأرض الواسعة “ ، تعني رجاب العالم الروحي الذي لا تحده الحدود ، كما هو الحال بالنسبة للعالم الحسي . 

( 3184 ) المتيقظ لأحوال العالم الحسي حامل أعباء حواسه ، لأن كل جارحة من جوارحه متعلقة بمستلزمات هذا العالم . 

( 3185 ) يقول الشاعر في هذا البيت إن النوم يمثلّ لونا من تذوّق
 
“ 594 “

حياة الروح ، حيث تفلت الأرواح من أسر الجسد ساعة النوم . ولهذا فإن النائم لا يشعر بالآلام التي ترهق حواسه في ساعات اليقظة . يقول الشاعر في أبيات أخرى : 
“ لقد بقيت آلاف السنين أحلق هنا وهناك - بدون مشيئة - مثل ذرات الهواء . 
فإن كنت قد نسيت هذا الزمن وتلك الحال ، فإن رحلتي ساعة النوم تعود بهما إلى ذاكرتي . 
ففي ساعة النوم أنطلق من هذا الصليب ذي الشعب الأربع “ 1 “ ، وأقفز من هذا القيد إلى سهوب الروح الفساح “ . ( المثنوي ج 6 ، 220 - 222 ) . 
وقد عبر الغزالي عن مثل هذا المعنى بقوله : “ وأما انفتاح باب ( القلب ) إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل من عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 21 ) . 

( 3188 ) هؤلاء الأولياء تخلّصوا من إرادتهم تخلصاً كاملًا في جيمع أفعالهم ، فلم يبق لهم من محرّك سوى إرادة اللَّه . 

( 3190 - 3191 ) أصبح هؤلاء الأولياء - لفناء إرادتهم في إرادة اللَّه - مجرّد صدى لتلك الإرادة . إن الإرادة الإلهية تتجلى فيهم ، فلا شأن لهم بما يصدر عنهم مما قد يسرّك أو يسوءك ، شأنهم في ذلك شأن صدى الصوت المنعكس فوق الجبل ، يتردّد على هذا النحو أو ذاك من غير أن يكون للجبل دخل فيما يحمله الصدى من المعنى .
............................................................... 
( 1 ) الصليب ذو الشعب الأربع هو وجود الإنسان الحسي ، ويتمثل هذا في جسده المكون من العناصر الأربعة .

“ 595 “

( 3195 ) “ لو أنني قدمت إليك قلبي وروحي لما كان تقديمهما إليك بالأمر الكبير ، فهما لا يعدّان شيئاً إذا قيسا بجمال قلبك وروحك “ . 

( 3201 ) الوجود المقصود هنا هو الوجود الحقّ . ومرآة هذا الوجود ، التي تجلوه وتظهره ، هي العدم . فعليك أن تفنى عن ذاتك الحسية لتصبح مجلى للوجود الحق . ولتكن الهدية التي تتزود بها للقاء الحقّ ، هي أن تلقاه وقد نفيت من روحك كل إحساس بالذاتية . 

( 3202 - 3212 ) يقدم الشاعر هنا نماذج من المتناقضات والأضداد التي يظهر بعضها بعضاً . والفكرة الأساسية التي تدور حولها مظاهر التضادّ - في هذه الأبيات - النقص والكمال . وينطلق الشاعر من هذا إلى القول بأن الإنسان لا يستطيع أن يبلغ الكمال إلا إذا عرف جوانب النقص في ذاته ، وعمل على التخلص منها . وكل من أدرك بحق جوانب النقص ، فإنه لا محالة مندفع في سعيه ، باذل جهده لا ستكمال نفسه . 

( 3213 - 3215 ) من توهم بنفسه الكمال - من غير أن يبذل أي جهد لتحقيق ذلك - فإن هذا يقعده عن السعي نحو خالقه . إن مثل هذا يكون مصاباً بالغرور ، وهذا أكبر علة تحلّ بالروح . وللتخلص من هذه العلة لا بد من الرياضات الكثيرة وإدامة التفكر والحزن ، وغسل العينين والقلب بدموع الندم . 

( 3223 - 3224 ) كثيراً ما ينشغل المرء بماله وبأسبابه الدنيوية عن تأمل حقيقة روحه التي تكون معتلة مريضة . فالمال والمتاع الدنيوي حجب عنه علته الروحية ، كما يحجب الذباب جرحاً عن بصر صاحبه ، فيتوارى قبح الجرح ، لكنه يزداد سوءاً بتراكم الذباب عليه . ومثل هذا العليل بحاجة إلى طبيب روحي هو المرشد الكامل.
 
( 3228 - 3239 ) قصّ الشاعر في هذه الأبيات - حكاية كاتب الوحي


“ 596 “

الذي ارتد لغروره . وقد جعل من هذه الحكاية منطلقاً إلى الحديث عن الغرور وبيان أضراره العظيمة . 
ويروى أن كاتب الوحي الذي ارتدّ هو عبداللَّه بن سعد بن أبي سرح . 
وقد ذكر ذلك البيضاوي في تفسيره لسورة المؤمنين . وتذهب الرواية إلى أن النبي كان يملي آيات من سورة المؤمنين ، هي قوله تعالى :” وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ “. ( المؤمنون ، 23 : 12 - 14 ) . 

فنطق كاتب الوحي من تلقاء نفسه ، قبل إملاء النبي :” فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ “. فقال النبي : “ اكتب ، هكذا نزلت “ . فكان أن تولاه الغرور ، وارتد ، وعاد إلى قريش يؤازرها في حرب الرسول . وكان يقول : “ إني كنت أصرف محمداً حيث أريد “ . 
ويروى أن النبي - حين دخل مكة - أمر بقتل عبد اللَّه بن سعد هذا ، ولكن عثمان بن عفان شفع ، له ، وكان عثمان أخاً له في الرضاعة . والمعروف أن عبد اللَّه بن سعد قد علا أمره في الإسلام ، وأصبح حاكماً لمصر في عهد الخليفة عثمان . 

يقول البلاذي : “ وكان محمد بن أبي بكر بن قحافة ومحمد بن أبي حذيفة خرجا إلى مصر عام مخرج عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح إليها ، فأظهر محمد بن أبي حذيفة عيب عثمان والطعن عليه ، وقال : استمعل عثمان رجلًا أباح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دمه يوم الفتح ونزل القرآن بكفره حين قال : “ سأنزل مثل ما أنزل اللَّه “ . ( أنساب الأشراف ، ج 5 ، ص 49 ، 50 ، القدس ، 1936 ) . 

والقصة كما رواها جلال الدين لم يُذكر بها اسم كاتب الوحي المرتد . وذُكر أن هذا الكتاب المرتد قد قُتل . ولعل الشاعر لم يكن يريد أن يذكر القصة بصورتها التاريخية . أو لعله الطلع على بعض الروايات المتأخرة

“ 597 “

التي ذكرت أن كاتب الوحي المرتد قد قتل بعد فتح مكة . ومن أمثلة ذلك ما ذكره محمد بن طيفور السجاوندي ( من رجال القرن السادس الهجري ) في تفسيره المسمى “ عين المعاني في تفسير السبع المثاني “ . 

وقد لخّص نيكولسون ما كتبه شراح المثنوي عن ذلك في تعليقاته على هذه القصة . 
( 3240 ) تصوير رائع للغرور ، فهو القيد الثفيل الذي لا يُرى - ومع ذلك - يكون في سيطرته على صاحبه ، وتقييده لأعماله ، أكبر أثراً من قيد حديدي زنته مائة منّ . 

( 3251 - 3252 ) يبيّن الشاعر الصعوبات التي تواجه من يحاول أن يتخطى عقباب الحسّ ، ويتغلب على نوازع الكبر والغرور . ولكنه يقول إنه يخشى الإفاضة في شرح هذه العصوبات ، خشية أن يؤدي ذلك إلى إيقاع اليأس بالنفوس . ثم لا يلبث أن ينتهي إلى التفاؤل ، فيؤكد أن باب الأمل مفتوح ، فعلى الإنسان أن يكون دائم البشر بهذا الأمل ، وأن يلتجيء إلى اللَّه ، فهو المغيث لكل من لجأ إليه . 

( 3255 ) يمكنك أن تقتبس الحكمة من أهل الكمال الروحي . 
فهؤلاء لا يبخلون على أحد بالإرشاد . ولكن عليك أن تكون يقظاً حتى لا تصاب بالغرور ، وتحسب أن هذه الحكمة نابعة من نفسك ، وتنسى أنك قبستها من سواك “ . 

( 3273 - 3274 ) إن أشعة روح المرشد الكامل تشرق على أرواح المريدين ، كما يشرق الروح على الجسد ، فيبعث فيه الحياة . فإذا افترقت أشعة أرواح المرشدين عن أرواح المريدين أصبحت هذه كأنها أجساد خلت من الروح ، وفارقتها الحياة . 

( 3277 ) اتخذ الشاعر من الآيات التي أشار إليها دليلًا على إمكان نطق الجماد . 

( 3281 ) ينسب إلى الفلاسفة أنهم يقولون إن المخاوف والأحزان
 

“ 598 “

تُلقي في نفوس الناس بكثير من الأوهام ، فيعتقدون بوجود كائنات لا وجود لها . 
( 3282 ) إن خياله الجاحد قد سيطر عليه ، وجعله غير قادر على إدراك الحقائق . 
( 3208 ) النفس الناطقة “ هي نفس النبي المرسل . 

( 3209 ) إن البشر الذين خرجوا عن حدود الإنسانية ، أصبحوا كالحيوانات المتوحشة . وعلى هذا الأساس جاز قتلهم . وقد زاد الشاعر هذا المعنى إيضاحاً في البيتين 
( 3319 - 3320 ) ، وفيهما قال : “ إن دماء الكفار أصبحت - كدماء الوحوش - مباحة للسهام والرماح . . . وذلك لأنهم مستوحشون نافرون من العقل الجليل “ .

[ شرح من بيت 3300 إلى 3450 ] 
( 3315 ) في هذا البيت إشارة إلى حكم الشريعة ، الذي يحرّم أكل الحمار الأهلي ، ويجيز أكل حمار الوحش . 

( 3321 - 3354 ) قصّ الشاعر هنا قصة هاروت وماورت ، واتخذ منها إطاراً لبث آرائه عن مضارّ الغرور ، والاعتداد بالذات . وخلاصة هذه القصة ، كما رواها الثعلبي ، “ أن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة ، وذلك في زمن إدريس النبي ، عيّروهم بذلك وأنكروا عليهم ، وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم خلفاء في الأرض واخترتهم ، فهم يعصونك . فقال اللَّه تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبّت فيكم ما ركبّت فيهم لفعلتم مثلما فعلوا . 
قالوا سبحانك ربنا ، ما كان ينبغي لنا أن نعصيك . 
قال اللَّه تعالى : “ اختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض . فاختاروا هاروت وماروت ، وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم . . فركبّ فيهما الشهوة التي ركبّها في بني آدم ، وأهبطهما إلى الأرض وأمر هما أن يحكما بين الناس بالحقّ ، ونها هما عن الشراك والقتل بغير الحق ، والزنا وشرب الخمر . . فإنهما ثبتا على ذلك يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا ما أمسيا ذكر اسم اللَّه تعالى الأعظم وصعدا إلى السماء . قال قتادة : فما مرّ عليهما شهر حتى افتتنا ، وذلك أنه


“ 599 “

اختصم إليهما ذات يوم الزهرة ، وكانت من أجمل النساء . . فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ، ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك . فقالت لا ، إلا أن تعبدا ما أعبد ، وتصلّيا لهذا الصنم ، وتقتلا النفس ، وتشربا الخمر . فقالا : لا سبيل إلى هذه الأشياء ، فإن اللَّه قد نهى عنها . 
فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر ، وفي نفسها من الميل إليهما ما فيها ، فراوداها عن نفسها فأبت ، وعرضت عليهما ما قالت بالأمس . 
فقالوا : الصلاة لغير اللَّه أمر عظيم ، وقتل النفس عظيم ، وأهون الثلاثة شرب الخمر . فشربا الخمر فانتشيا ، ووقعا بالمرأة فزنيا بها ، فرآهما إنسان فقتلاه . . وسجدا للصنم ، فمسخ اللَّه الزهرة كوكباً . . “ ( بتصرف عن : قصص الأنبياء ، ص 51 ) . 

( 3325 ) إن الجبروت الإلهي يحطم الطغاة والمستبدين ، على حين هو يرحم المتواضعين ، المدركين لضعفهم البشري أمام خالقهم . بل إن اللَّه يزيد هؤلاء المتواضعين قوة وتأييداً . ومثل هؤلاء الطغاة كمثل الأشجار العاتية ، تعاند الريح ، فتقتلعها الريح من أصولها . أما المتواضعون فهم كالأعشاب ، تنحني للرياح فتزيدها هذه نضرة وازدهاراً . 

( 3330 ) كل هذا الكون بمظاهره المتعددة ، لا يعد شيئاً مذكوراً أمام قدرة اللَّه . وهذه القدرة هي التي جعلت الفلك يبدو منقلباً منكسّاً . 

( 3331 ) اجعل من هذا الفلك الدوار مثالًا تقيس عليه حالك . فهذا الفلك يديره العقل المدبر ، الذي خطّ مقادير هذا العالم . 

( 3332 ) وهكذا يدير الروح الجسم . وقد احتجب الروح في الجسم كما يتحجب المحارب وراء المجنّ ، على حين أنه يديره إلى حيث يشاء . 

( 3333 ) ولكن هذه الروح الشبيهة بالريح المتحركة ، من ذا الذي يديرها ؟ إن طبيعتها التي أضفاها عليها خالقها هي التي تجعلها متحركة ، ومع ذلك ، فحركتها مقتبسة من الخالق ، محرّك الأرواح . فهي كالدولاب


“ 600 “

في مجرى النهر ، يكون دائم الحركة لا ستدراته من ناحية ، ولجريان ماء النهر من ناحية أخرى . 
( 3335 ) إن الروح هي التي تنطق اللسان بما تشاء ، وتحرك الجسم كيفها أرادت . فحينماً تجعله ميالًا إلى الوئام ، وحيناً تجعله مندفعاً نحو الشقاق والخصام . 

( 3336 - 3337 ) عادُ هم قوم هود . وقد أهلكهم اللَّه بريح هبّت عليهم . 
لكن هذه الريح يلم تؤذ هوداً ولا من آمنوا ( انظر المثنوي ، ج 1 ، رقم 855 ، 856 ) . ولعل الشاعر قد استخدم الريح هنا رمزاً لأعمال البشر . فمنها ما كانت حركتها للخير والسداد ، ومنها ما كانت حركتها للشر والعناد . 

( 3338 ) شيخ الدين هو العارف الكامل . وقد حاول بعض الشراح أن يذكر شخصاً معيناً على أنه المقصود من قول الشاعر “ شيخ الدين “ . 
وممن ذكر في هذا الصدد صدر الدين القونوي ، الذي كان تلميذاً لمحيي الدين ابن العربي . وكان صدر الدين صديقاً لجلال الدين ، وتوفى بقونيه في عام 673 ه ، بعد جلال الدين بفترة وجيزة . وتعيين شخص معين مما لا يستلزمه شرح هذا البيت ، لأنه لا ينطوي على رأي خاص . 

( 3339 - 3340 ) في هذين البيتين تعبير عن وحدة الوجود ، حيث تشبّه الذات الإلهية ببحر فياض ، وكل مظاهر هذا الوجود لا تعدو أن تكون قشاً سابحاً في هذا البحر . فكل حركة لهذا القش مصدرها البحر ، أما القش فليست له حركة ذاتية . 

( 3348 ) وردت في بعض نسخ المثنوي روايتان هما “ نفس گبررا “ أو “ نفس گبرما “ بدلًا من “ نفس كبريا “ . ومعناهما “ النفس الكافرة “ أو “ نفسنا الكافرة “ . وعلى هذا تكون ترجمة البيت : “ وهو يسمي هذا الغرور حمية دينية ، لكنه لا يبصر في ذاته النفس الكافرة “ . 

( 3350 ) للشطر الثاني من البيت رواية نصّها :


“ 601 “

“ درسيه كاران مغفلّ منگريد “ والمعنى : “ فلا تنظرا بغفلة إلى هؤلاء الذين اسودّت فعالهم “ . وفي هذا دعوة للملائكة - الذين استقبحوا أعمال البشر - إلى البحث عن العلل الكامنة وراء ارتكاب أهل الدنيا للمعاصي والآثام . وهذا ما يبيّنه الشاعر في البيت التالي . ( انظر رقم 3351 من الترجمة ) . 

( 3379 ) دعا اللَّه إلى كظم الغيظ في قوله :” وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ “. 
(آل عمران ، 3 : 133 - 134 ) . 

 .

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كيف توجه الذئب والثعلب إلى الصيد في معيّة الأسد .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» ذهاب الذئب والثعلب مع الأسد إلى الصيد المثنوي المعنوي الجزء الأول ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
» كيف دعا الوحوش الأسد إلى التوكل وترك السعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
» مقدمة مولانا المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
» شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 01 - 3788 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
» حكاية عشق ملك لاحدى الجواري المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  حضرة مولانا جلال الدين الرومي-
انتقل الى: