ثالثاً: الغزالي وعلم الفقه:
كان الإمام الغزالي متبعاً لمذهب الإمام الشافعي في الفقه، وقد دافع عن تقديمه للشافعي على غيره من الأئمة في كتابه المنخول.ولكنه لم يكن متبعاً للشافعي بدون دليل فهو أحياناً يختار رأياً يخالف فيه ظاهر المذهب، وهذا يدل على أنه كان إذا ظهر له الدليل فهو معه سواء أكان مخالفاً للشافعي أو موافقاً له. يقول الشيخ أبو زهرة: ( قد يقول القائل: إن الغزالي كان شافعياً وقد اختار أن يكتب فقه الشافعي ويدونه، أهو مقلد أم غير مقلد؟. ونقول في الإجابة عن ذلك: ( إن الغزالي كان شافعي المذهب لاشك في ذلك، ولكن الفارق بينه وبين غيره أنه لم يقبل أقوال الشافعي إلا أنه قد ارتضى منهاجه، فقد ارتضى الأصول التي قررها، وصدقه في الروايات التي رواها، لأنه عدل ثقة، وارتضى منهاجه في الاستنباط، ووجد الأقيسة التي انتهى إليها صحيحة سليمة من كل الوجوه، فكان لابد أن يسلم معه بالنتائج التي وصل إليها، وبذلك لا يكون قد قبل بلا حجة، بل قبله بحجة ودليل ).وقد كتب الغزالي في آخر كتابه ( المستصفى ) فصلاً في ( وجوب الاجتهاد على المجتهد، وتحريم التقليد عليه ) فهو يشعر بأنه كان يذهب إلى ما ذهب إليه الشافعي عن اجتهاد واقتناع. وقد ألف الغزالي في المذهب الشافعي عدة كتب منها: البسيط في المذهب. والوسيط المحيط بآثار البسيط. والوجيز في الفقه. وخلاصة المختصر. وتعد كتبه الفقهية الحلقة الوسطى في تطور التصنيف في المذهب الشافعي، فمن المعلوم أن كتب الشافعية عبارة عن حلقات متصلة:
أولها: كتب الشافعي وأصحابه كالمزني والبويطي.
والثانية: كتب إمام الحرمين الجويني وتلميذه الغزالي.
والثالثة: كتب الشيخين الرافعي والنووي.
الرابعة: كتب أصحاب الشروح والحواشي من المتأخرين .
وقد سجل أبو جعفر الطرابلسي هذا المعنى بقوله: هذب المذهب حبرٌ أحسن الله خلاصه ببسيط وسيــط ووجيز خلاصتـه. وفي فترة عزلة الغزالي، وهي الفترة التي ألف فيها الإحياء جاء بأسلوب جديد في الفقه خرج فيه عن الأسلوب التقليدي فقد مزج بين الفقه والسلوك في آن واحد، فالصلاة عنده ليست مجرد ركوع وسجود، ولكنها أيضاً خشوع بين يدي الله تعالى. والمعاملات ليست مجرد بيع وشراء وربح ولكنها قضاء لحوائج المسلمين ونصح لهم. وبهذا خطا الغزالي خطوة واسعة في كتابة الفقه بأسلوب جديد يستشعر القارئ معه النظرة الكلية للفقه الإسلامي تلك النظرة التي تتعامل مع الإنسان كله: جسماً وروحاً، عقلاً وفكراً. كما أن الغزالي خالف إمامه الشافعي في بعض المسائل في كتابه الإحياء: فقد رجح مذهب مالك في أقسام المياه على مذهب الشافعي وأيده بثمانية أدلة. كما أنه رجح جواز بيع المعاطاة خلافاً للشافعي .
رابعاً: الغزالي وعلم الأصول:
سأفرد له إن شاء الله بحثاً كاملاً. خامساً: الغزالي والتصوف: قال الغزالي في المنقذ: (ثم إني ، لما فرغت من هذه العلوم ، أقبلت بـهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس. والتنـزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل بـها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله ). (وكان العلم أيسر عليّ من العمل. فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل: ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي ( رحمه الله ) وكتب ( الحارث المحاسبي ) ، والمتفرقات المأثورة عن (الجنيد) و ( الشبلي ) و ( أبي يزيد البسطامي ) [ قدس الله أرواحهم ] ، وغيرهم من المشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات) . وقال: (فعلمت يقيناً أنـهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال. وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبقَ إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم ، بل بالذوق والسلوك.). ويقول: (وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال،والهرب من الشواغل والعلائق).
المطلب الثاني: موقفه من الفلاسفة والباطنية:
أولاً: موقفه من الفلسفة والفلاسفة: لم يتهور الغزالي في الهجوم على الفلسفة، ولم يكن في نقده لها مقلداً لغيره ولا ضيق الفكر، إنه درس الفلسفة أولاً وكان يؤمن بأنه: ( لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ). وبعد اطلاعه على علوم الفلاسفة وتعمقه بها ألف كتابه مقاصد الفلاسفة ذكر فيه المصطلحات والمباحث الفلسفية من غير تعليق أو نقد، وعرض الفلسفة كأحسن ما يعرفها رجال الفلسفة. وبعد أن انتهى من هذا العمل شرع في عمله الثاني الذي استحق به أن يلقب حجة الإسلام وهو نقد الفلسفة والهجوم عليها فألف كتابه (تهافت الفلاسفة). وبعد رحلته مع الفلسفة توصل إلى أن الفلسفة تحمل العقل أكثر مما يحتمل وتزج به إلى ما وراء حدود قدراته ولا سيما بصدد الوصول إلى كنه الحقائق الإلهية، ويثبت الغزالي ولاسيما بصدد الوصول أن الإسراف في جر العقل إلى متاهات ما وراء الطبيعة يوقع صاحبه لا محالة فيه قدر كبير من اللاعقلانية، إذ يتخلى العقل عنه، ويتركه وحيداً في بيداء الأخيلة التي يقيمها الوهم، ظناً منه بأنه إنما يبنيها ويقيمها على العقل.
ثانياً: موقف الغزالي من الفرق المنحرفة: وقف الغزالي رحمه الله سداً منيعاً في وجه الباطنية وفرقها الضالة ورد على أباطيلها، ولم يتسرع بالرد عليهم بل درسهم دراسة وافية. يقول في المنقذ من الضلال: (وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، فعنّ لي أن أبحث في مقالاتـهم ، لأطّلع على ما في كنانتهم. ثم اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم. فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثاً من خارج ، ضميمة للباعث من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتـهم. وكذلك قد بلغني بعض كلماتـهم المستحدثة التي ولدتـها خواطر أهل العصر ، لا على المنهاج المعهود من سلفهم. فجمعت تلك الكلمات ، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها). ويقول: ( والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان ). واقتنع بأنه: ( لا حاصل عند هؤلاء ولا طائل لكلامهم، ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل، لما انتهت تلك البدعة مع ضعفها إلى هذه الدرجة ). ويقول في النهاية: (فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تَقْلُهم لما خبرناهم نفضنا اليد عنهم أيضاً ). وقد ألف الغزالي للرد على الباطنية كتاباً أسماه ( المستظهري ) وكان ذلك باقتراح الخليفة المستظهر بالله حين كان الغزالي يدرس في النظامية . كما ألف كذلك: - قواصم الباطنية. فضائح الباطنية.
المطلب الثالث: شيوخه وتلامذته:
أولاً: شيوخه:
1- إمام الحرمين الجويني: هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ت ( 478هـ ) نسبة إلى جوين بنواحي نيسابور، أحد كبار فقهاء الشافعية، ومجدد المذهب الأشعري مضموناً ومنهجاً، درس على أبيه أبي محمد الجويني وأتى على جميع مصنفاته ، وعندما توفي أبوه جلس مكانه في التدريس وكان عمره عشرين سنة ، ثم رحل إلى بغداد ثم مكة ودرَّس فيها، ثم عاد إلى نيسابور فبنى له نظام الملك المدرسة النظامية فيها من تصانيفه: - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد. - نهاية المطلب في دراسة المذهب. - الأساليب في الاختلاف. - البرهان والتحفة في أصول الفقه. - الشامل والإرشاد في أصول الدين. - الورقات في أصول الفقه. - غياث الأمم في التياث الظلم. - مغيث الخلق.
2- أحمد بن محمد الطوسي الراذكاني: وهو أول مشايخ الغزالي في الفقه، تفقه عليه في طوس قبل رحلته إلى إمام الحرمين
3- أبو علي: الفضل بن محمد بن علي الفارمذي: من أهل طوس، وفارمذ إحدى قراها، شيخ خراسان في عصره، دخل نيسابور وصحب أبا القاسم القشيري، وأبا منصور التميمي وكان عالماً شافعياً عارفاً بمذاهب السلف ذا خبرة بمناهج الخلف، وهو شيخ الغزالي في التصوف . سافر إلى عدة بلاد للوعظ والتذكير، توفي بطوس سنة 477هـ.
4- أبو سهل محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزي الحفصي: راوي صحيح البخاري عن الكشميهني، وقد كان رجلاً مباركاً حدَّث صحيح البخاري في الناظمية وسمع منه عالمٌ لا يحصون وقد أكرمه نظام الملك و أجزل له الصلة، توفي سنة 465هـ.
5- الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي: ولد قبل سنة 410هـ شيخ المذهب الشافعي بالشام، تفقه على سليم الرازي وأقام ببيت المقدس مدة، ثم قدم دمشق فسكنها، وعظم شأنه في العبادة والزهد والصدق والورع والعلم والعمل، ولما قدم الغزالي دمشق اجتمع به واستفاد منه، وكان يكثر الجلوس في زاويته، وتفقه به جماعة من دمشق وغيرها توفي في دمشق سنة 490هـ . من تصانيفه: التهذيب، كتاب التقريب، كتاب الكافي، كتاب الانتخاب، كتاب الحجة على تارك المحجة، مناقب الإمام الشافعي.
6- أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني : من أهل بيت علم وفضل ورياسة بجرجان،كان صدراً وإماماً وفقيهاً شافعياً محدثاً وعالماً كبيراً، وواعظاً بليغاً كان يعرف الأدب وله يد في النظم والنثر، وكانت داره مجمعاً للعلماء، توفي بجرجان سنة 477هـ . بعد أن عاش سبعين سنة. 7- أبو الفتيان الرؤاسي: هو عمر بن عبد الكريم بن سعدويه الدهستاني، حافظ محدث، جامع مصنف، جوَّال، ولد بدهستان سنة 428هـ، وسمع من شيوخ كثيرين بعدة بلدان مثل: نيسابور ودمشق ومصر وحران، روى عنه أبو حامد الغزالي، والفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي وغيرها، توفي بسرخس سنة 503هـ.
ثانياً: تلاميذه:
1- أبو الحسن، جمال الإسلام، علي بن المسلم السلمي الدمشقي الفرضي: مفتي الشام في عصره، وهو أول من درَّس بالأمينية المنسوبة لأمين الدولة، وكذلك درس في الزاوية الغزالية في دمشق، تفقه على عبد الجبار المروزي ثم على نصر المقدسي وبرع في المذهب، ولزم الغزالي مدة مقامه في دمشق ودرس في حلقته، كان ثقة ثبتاً عالماً بالمذهب والفرائض ملازماً للتدريس والإفادة وحسن الأخلاق. توفي في دمشق سنة 533هـ وهو ساجد في صلاة الفجر.صنف في الفقه والتفسير ومن تصانيفه: كتاب أحكام الخناثي.
2- القاضي أبو بكر، محمد بن عبد الله محمد، المعروف بابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي: ولد سنة 468هـ بإشبيلية، وكان أبوه من كبار أصحاب ابن حزم الظاهري، بخلاف ابنه القاضي، رحل مع أبيه إلى المشرق لتلقي العلم هناك فدرس بالشام وبغداد ومكة ومصر على كبار علماء العصر ومنهم: الطرطوشي في الشام، والغزالي والشاشي في بغداد، وعندما عاد إلى إشبيلية أسندت إليه مناصب كبيرة حتى وصل إلى قاضي القضاة، توفي سنة 543هـ ودفن بمدينة فاس. وقد بدا تأثره الكبير بالغزالي في كثير من علومه ومؤلفاته، كما في أخلاقه. وكان لقاؤه الثاني مع الغزالي في موسم الحج سنة 489هـ وله مؤلفات كثيرة منها : - عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي . - أحكام القرآن. - المحصول في الأصول. - الإنصاف في مسائل الاختلاف. - ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك. - العواصم من القواصم. - شرح الجامع الصحيح للبخاري.
3- علي بن المطهر بن مكي الدينوري: كان من تلاميذ الغزالي، وسمع الحديث من نصر بن البطر وطبقته، وروى عنه ابن عساكر. توفي في سنة 533هـ.
4- أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان المعروف بابن الحمامي: تفقه على إلكيا الهراسي والغزالي والشاشي وبرع في المذهب والأصول حتى رجحوه على الشاشي، وكان ذكياً يضرب به المثل في حل الإشكال، يكاد لا يسمع شيئاًَ إلا حفظه. توفي سنة 518هـ.
5- أبو منصور محمد أسعد بن محمد الطوسي: من أهل نيسابور، تفقه بطوس على الغزالي، و بمرو على الإمام أبي بكر السمعاني. و بمروالروذ على الحسين بن مسعود والفرَّاء البغوي أتقن المذهب الشافعي والأصول والخلاف، وكان من أئمة الدين وأعلام الفقهاء المشهورين، توفي سنة 573هـ .
6- القاضي أبو نصر أحمد بن عبد الله الخمقري: تفقه على الغزالي بطوس، وعلى أسعد الميهني و أبي بكر السمعاني وفقهاء متعددين. كان إماماً فاضلاً متفنناً مناظراً مبرزاً عالماً بالأدب واللغة توفي سنة 544هـ.
7- الإمام أبو سعيد: محمد بن يحيى بن منصور النيسابوري: كان إماماً بارعاً في الفقه والزهد متقناً متقدماً، ويعد من أشهر تلاميذ الغزالي وأكبرهم، وكان يقول: ( لا يعرف الغزالي وفضله إلا من بلغ الكمال في عقله ). توفي في سنة 548هـ.ومن مصنفاته: المحيط في شرح الوسيط للغزالي في ثمانية مجلدات.
8- أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن بَرْهان: فقيه أصولي ولد سنة 479هـ كان حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، وتفقه على الشاشي والغزالي وغيرهما. توفي سنة 518هـ .
ثالثاً: الغزالي وعلم الفقه:
كان الإمام الغزالي متبعاً لمذهب الإمام الشافعي في الفقه، وقد دافع عن تقديمه للشافعي على غيره من الأئمة في كتابه المنخول.ولكنه لم يكن متبعاً للشافعي بدون دليل فهو أحياناً يختار رأياً يخالف فيه ظاهر المذهب، وهذا يدل على أنه كان إذا ظهر له الدليل فهو معه سواء أكان مخالفاً للشافعي أو موافقاً له. يقول الشيخ أبو زهرة: ( قد يقول القائل: إن الغزالي كان شافعياً وقد اختار أن يكتب فقه الشافعي ويدونه، أهو مقلد أم غير مقلد؟. ونقول في الإجابة عن ذلك: ( إن الغزالي كان شافعي المذهب لاشك في ذلك، ولكن الفارق بينه وبين غيره أنه لم يقبل أقوال الشافعي إلا أنه قد ارتضى منهاجه، فقد ارتضى الأصول التي قررها، وصدقه في الروايات التي رواها، لأنه عدل ثقة، وارتضى منهاجه في الاستنباط، ووجد الأقيسة التي انتهى إليها صحيحة سليمة من كل الوجوه، فكان لابد أن يسلم معه بالنتائج التي وصل إليها، وبذلك لا يكون قد قبل بلا حجة، بل قبله بحجة ودليل ).وقد كتب الغزالي في آخر كتابه ( المستصفى ) فصلاً في ( وجوب الاجتهاد على المجتهد، وتحريم التقليد عليه ) فهو يشعر بأنه كان يذهب إلى ما ذهب إليه الشافعي عن اجتهاد واقتناع. وقد ألف الغزالي في المذهب الشافعي عدة كتب منها: البسيط في المذهب. والوسيط المحيط بآثار البسيط. والوجيز في الفقه. وخلاصة المختصر. وتعد كتبه الفقهية الحلقة الوسطى في تطور التصنيف في المذهب الشافعي، فمن المعلوم أن كتب الشافعية عبارة عن حلقات متصلة: أولها: كتب الشافعي وأصحابه كالمزني والبويطي.
والثانية: كتب إمام الحرمين الجويني وتلميذه الغزالي.
والثالثة: كتب الشيخين الرافعي والنووي. والرابعة: كتب أصحاب الشروح والحواشي من المتأخرين . وقد سجل أبو جعفر الطرابلسي هذا المعنى بقوله: هذب المذهب حبرٌ أحسن الله خلاصه ببسيط وسيــط ووجيز خلاصتـه. وفي فترة عزلة الغزالي، وهي الفترة التي ألف فيها الإحياء جاء بأسلوب جديد في الفقه خرج فيه عن الأسلوب التقليدي فقد مزج بين الفقه والسلوك في آن واحد، فالصلاة عنده ليست مجرد ركوع وسجود، ولكنها أيضاً خشوع بين يدي الله تعالى. والمعاملات ليست مجرد بيع وشراء وربح ولكنها قضاء لحوائج المسلمين ونصح لهم. وبهذا خطا الغزالي خطوة واسعة في كتابة الفقه بأسلوب جديد يستشعر القارئ معه النظرة الكلية للفقه الإسلامي تلك النظرة التي تتعامل مع الإنسان كله: جسماً وروحاً، عقلاً وفكراً. كما أن الغزالي خالف إمامه الشافعي في بعض المسائل في كتابه الإحياء: فقد رجح مذهب مالك في أقسام المياه على مذهب الشافعي وأيده بثمانية أدلة. كما أنه رجح جواز بيع المعاطاة خلافاً للشافعي .
رابعاً: الغزالي وعلم الأصول: سأفرد له إن شاء الله بحثاً كاملاً.
خامساً: الغزالي والتصوف:
قال الغزالي في المنقذ: (ثم إني ، لما فرغت من هذه العلوم ، أقبلت بـهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس. والتنـزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل بـها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله ). (وكان العلم أيسر عليّ من العمل. فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل: ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي ( رحمه الله ) وكتب ( الحارث المحاسبي ) ، والمتفرقات المأثورة عن (الجنيد) و ( الشبلي ) و ( أبي يزيد البسطامي ) [ قدس الله أرواحهم ] ، وغيرهم من المشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات) . وقال: (فعلمت يقيناً أنـهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال. وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبقَ إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم ، بل بالذوق والسلوك.). ويقول: (وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال،والهرب من الشواغل والعلائق).
المطلب الثاني: موقفه من الفلاسفة والباطنية:
أولاً: موقفه من الفلسفة والفلاسفة: لم يتهور الغزالي في الهجوم على الفلسفة، ولم يكن في نقده لها مقلداً لغيره ولا ضيق الفكر، إنه درس الفلسفة أولاً وكان يؤمن بأنه: ( لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ). وبعد اطلاعه على علوم الفلاسفة وتعمقه بها ألف كتابه مقاصد الفلاسفة ذكر فيه المصطلحات والمباحث الفلسفية من غير تعليق أو نقد، وعرض الفلسفة كأحسن ما يعرفها رجال الفلسفة. وبعد أن انتهى من هذا العمل شرع في عمله الثاني الذي استحق به أن يلقب حجة الإسلام وهو نقد الفلسفة والهجوم عليها فألف كتابه (تهافت الفلاسفة). وبعد رحلته مع الفلسفة توصل إلى أن الفلسفة تحمل العقل أكثر مما يحتمل وتزج به إلى ما وراء حدود قدراته ولا سيما بصدد الوصول إلى كنه الحقائق الإلهية، ويثبت الغزالي ولاسيما بصدد الوصول أن الإسراف في جر العقل إلى متاهات ما وراء الطبيعة يوقع صاحبه لا محالة فيه قدر كبير من اللاعقلانية، إذ يتخلى العقل عنه، ويتركه وحيداً في بيداء الأخيلة التي يقيمها الوهم، ظناً منه بأنه إنما يبنيها ويقيمها على العقل. ثانياً: موقف الغزالي من الفرق المنحرفة: وقف الغزالي رحمه الله سداً منيعاً في وجه الباطنية وفرقها الضالة ورد على أباطيلها، ولم يتسرع بالرد عليهم بل درسهم دراسة وافية. يقول في المنقذ من الضلال: (وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بني الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، فعنّ لي أن أبحث في مقالاتـهم ، لأطّلع على ما في كنانتهم. ثم اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم. فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثاً من خارج ، ضميمة للباعث من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتـهم. وكذلك قد بلغني بعض كلماتـهم المستحدثة التي ولدتـها خواطر أهل العصر ، لا على المنهاج المعهود من سلفهم. فجمعت تلك الكلمات ، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها). ويقول: ( والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان ). واقتنع بأنه: ( لا حاصل عند هؤلاء ولا طائل لكلامهم، ولولا سوء نصرة الصديق الجاهل، لما انتهت تلك البدعة مع ضعفها إلى هذه الدرجة ). ويقول في النهاية: (فهذه حقيقة حالهم فأخبرهم تَقْلُهم لما خبرناهم نفضنا اليد عنهم أيضاً ). وقد ألف الغزالي للرد على الباطنية كتاباً أسماه ( المستظهري ) وكان ذلك باقتراح الخليفة المستظهر بالله حين كان الغزالي يدرس في النظامية . كما ألف كذلك: - قواصم الباطنية. فضائح الباطنية.
المطلب الثالث: شيوخه وتلامذته:
أولاً: شيوخه:
1- إمام الحرمين الجويني: هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ت ( 478هـ ) نسبة إلى جوين بنواحي نيسابور، أحد كبار فقهاء الشافعية، ومجدد المذهب الأشعري مضموناً ومنهجاً، درس على أبيه أبي محمد الجويني وأتى على جميع مصنفاته ، وعندما توفي أبوه جلس مكانه في التدريس وكان عمره عشرين سنة ، ثم رحل إلى بغداد ثم مكة ودرَّس فيها، ثم عاد إلى نيسابور فبنى له نظام الملك المدرسة النظامية فيها من تصانيفه: - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في الاعتقاد. - نهاية المطلب في دراسة المذهب. - الأساليب في الاختلاف. - البرهان والتحفة في أصول الفقه. - الشامل والإرشاد في أصول الدين. - الورقات في أصول الفقه. - غياث الأمم في التياث الظلم. - مغيث الخلق.
2- أحمد بن محمد الطوسي الراذكاني: وهو أول مشايخ الغزالي في الفقه، تفقه عليه في طوس قبل رحلته إلى إمام الحرمين
3- أبو علي: الفضل بن محمد بن علي الفارمذي: من أهل طوس، وفارمذ إحدى قراها، شيخ خراسان في عصره، دخل نيسابور وصحب أبا القاسم القشيري، وأبا منصور التميمي وكان عالماً شافعياً عارفاً بمذاهب السلف ذا خبرة بمناهج الخلف، وهو شيخ الغزالي في التصوف . سافر إلى عدة بلاد للوعظ والتذكير، توفي بطوس سنة 477هـ.
4- أبو سهل محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزي الحفصي: راوي صحيح البخاري عن الكشميهني، وقد كان رجلاً مباركاً حدَّث صحيح البخاري في الناظمية وسمع منه عالمٌ لا يحصون وقد أكرمه نظام الملك و أجزل له الصلة، توفي سنة 465هـ.
5- الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي: ولد قبل سنة 410هـ شيخ المذهب الشافعي بالشام، تفقه على سليم الرازي وأقام ببيت المقدس مدة، ثم قدم دمشق فسكنها، وعظم شأنه في العبادة والزهد والصدق والورع والعلم والعمل، ولما قدم الغزالي دمشق اجتمع به واستفاد منه، وكان يكثر الجلوس في زاويته، وتفقه به جماعة من دمشق وغيرها توفي في دمشق سنة 490هـ . من تصانيفه: التهذيب، كتاب التقريب، كتاب الكافي، كتاب الانتخاب، كتاب الحجة على تارك المحجة، مناقب الإمام الشافعي.
6- أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني : من أهل بيت علم وفضل ورياسة بجرجان،كان صدراً وإماماً وفقيهاً شافعياً محدثاً وعالماً كبيراً، وواعظاً بليغاً كان يعرف الأدب وله يد في النظم والنثر، وكانت داره مجمعاً للعلماء، توفي بجرجان سنة 477هـ . بعد أن عاش سبعين سنة.
7- أبو الفتيان الرؤاسي: هو عمر بن عبد الكريم بن سعدويه الدهستاني، حافظ محدث، جامع مصنف، جوَّال، ولد بدهستان سنة 428هـ، وسمع من شيوخ كثيرين بعدة بلدان مثل: نيسابور ودمشق ومصر وحران، روى عنه أبو حامد الغزالي، والفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي وغيرها، توفي بسرخس سنة 503هـ.
ثانياً: تلاميذه:
1- أبو الحسن، جمال الإسلام، علي بن المسلم السلمي الدمشقي الفرضي: مفتي الشام في عصره، وهو أول من درَّس بالأمينية المنسوبة لأمين الدولة، وكذلك درس في الزاوية الغزالية في دمشق، تفقه على عبد الجبار المروزي ثم على نصر المقدسي وبرع في المذهب، ولزم الغزالي مدة مقامه في دمشق ودرس في حلقته، كان ثقة ثبتاً عالماً بالمذهب والفرائض ملازماً للتدريس والإفادة وحسن الأخلاق. توفي في دمشق سنة 533هـ وهو ساجد في صلاة الفجر.صنف في الفقه والتفسير ومن تصانيفه: كتاب أحكام الخناثي.
2- القاضي أبو بكر، محمد بن عبد الله محمد، المعروف بابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي: ولد سنة 468هـ بإشبيلية، وكان أبوه من كبار أصحاب ابن حزم الظاهري، بخلاف ابنه القاضي، رحل مع أبيه إلى المشرق لتلقي العلم هناك فدرس بالشام وبغداد ومكة ومصر على كبار علماء العصر ومنهم: الطرطوشي في الشام، والغزالي والشاشي في بغداد، وعندما عاد إلى إشبيلية أسندت إليه مناصب كبيرة حتى وصل إلى قاضي القضاة، توفي سنة 543هـ ودفن بمدينة فاس. وقد بدا تأثره الكبير بالغزالي في كثير من علومه ومؤلفاته، كما في أخلاقه. وكان لقاؤه الثاني مع الغزالي في موسم الحج سنة 489هـ وله مؤلفات كثيرة منها : - عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي . - أحكام القرآن. - المحصول في الأصول. - الإنصاف في مسائل الاختلاف. - ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك. - العواصم من القواصم. - شرح الجامع الصحيح للبخاري.
3- علي بن المطهر بن مكي الدينوري: كان من تلاميذ الغزالي، وسمع الحديث من نصر بن البطر وطبقته، وروى عنه ابن عساكر. توفي في سنة 533هـ.
4- أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان المعروف بابن الحمامي: تفقه على إلكيا الهراسي والغزالي والشاشي وبرع في المذهب والأصول حتى رجحوه على الشاشي، وكان ذكياً يضرب به المثل في حل الإشكال، يكاد لا يسمع شيئاًَ إلا حفظه. توفي سنة 518هـ.
5- أبو منصور محمد أسعد بن محمد الطوسي: من أهل نيسابور، تفقه بطوس على الغزالي، و بمرو على الإمام أبي بكر السمعاني. و بمروالروذ على الحسين بن مسعود والفرَّاء البغوي أتقن المذهب الشافعي والأصول والخلاف، وكان من أئمة الدين وأعلام الفقهاء المشهورين، توفي سنة 573هـ .
6- القاضي أبو نصر أحمد بن عبد الله الخمقري: تفقه على الغزالي بطوس، وعلى أسعد الميهني و أبي بكر السمعاني وفقهاء متعددين. كان إماماً فاضلاً متفنناً مناظراً مبرزاً عالماً بالأدب واللغة توفي سنة 544هـ. 7- الإمام أبو سعيد: محمد بن يحيى بن منصور النيسابوري: كان إماماً بارعاً في الفقه والزهد متقناً متقدماً، ويعد من أشهر تلاميذ الغزالي وأكبرهم، وكان يقول: ( لا يعرف الغزالي وفضله إلا من بلغ الكمال في عقله ). توفي في سنة 548هـ.ومن مصنفاته: المحيط في شرح الوسيط للغزالي في ثمانية مجلدات. 8- أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن بَرْهان: فقيه أصولي ولد سنة 479هـ كان حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، وتفقه على الشاشي والغزالي وغيرهما. توفي سنة 518هـ .
أبو ياسر الشامي