كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه . الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
كيف بصق أحد الخصوم في وجه علّي كرّم اللَّه وجهه
في بيان أن طلب الرسول عليه السلام
فتح مكة وغير مكة لم يكن لأنه أحب ملك الدنيا
فقد قال عنها : “ الدنيا جيفة “ وإنما كان ذلك الفتح بأمر ( من اللَّه )
وهكذا جهد الرسول لفتح مكة . وكيف يكون الرسول متهماً بحب الدنيا ؟
وهو الذي أغلق عينيه وقلبه - يوم الامتحان - عن خزائن السماوات السبع .
3950 - لقد حفلت آفاق السماوات السبع بالحور والجان الذين احتشدوا لمشاهدته ،
وكل منها قد اتخذ زينته من أجله . وأنى تكون له عناية بغير الحبيب ؟
لقد أصبح مفعم القلب بإجلال الحقّ ، إلى الحدّ الذي لم يدع للمقربين إلى الحق سبيلًا إلى قلبه .
“ 457 “
لا يسع فينا نبي مرسل * والملك والروح حقاً فاعقلوا “ 1 “
3955 - إنّ ( بصرنا ) ما زاغ عن ( سبيل الروح ) ، فلسنا كالغراب “ 2 “ ( ننشد الجيف ) .
نحن سكارى بمن صبغ البستان ، ولسنا سكارى بألوانه ! ولما كانت خزائن الأفلاك والعقول قد بدت
( عديمة القيمة ) كالقشّ أمام عين الرسول ، فماذا تكون مكة والشام والعراق ، حتى يظهر في سبيلها الصراع والحرص ؟
فهذا التصوّر والظنّ إنما هما للمنافق ، الذي يتخذ من روحه الشرير قياساً .
إنك لو جعلت أمام وجهك زجاجة صفراء ترى جملة نور الشمس أصفر اللون .
3960 - فلتكسرن تلك الزجاجات ذات اللون الأزرق والأصفر ، حتى تتبيّن الغبار والرجل ( المتحجب وراءه ) .
إن الغبار قد تصاعد برأسه حول الفارس ، فظننت هذا الغبار رجل اللَّه .
لقد رأى إبليس الغبار فقال : “ كيف يتفوق سليل الطين هذا عليّ ، أنا الناريّ الجبين ؟ “ فما دمت ترى الأعزاء ( من الأنبياء والقديسين ) بشراً ( كعامة الناس ) ، فاعلم أن نظرك هذا إنما هو ميراث إبليس اللعين !
...............................................................
( 1 ) هذا البيت عربي في الأصل . ويلحظ فيه ضعف عبارته . وقوله :
“ لا يسع فينا “ يقصد به “ لا نتسع ، أو لا مجال عندنا “ . والمعنى الكلي للبيت : “ ليس هناك مجال عندنا لنبيّ مرسل ولا ملك ولا روح ، وإنما نحن مع اللَّه وحده “ . وفي هذا البيت والبيت السابق له إشارة إلى حديث نبوي نصه :
“ لي مع اللَّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل “ .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ ما زاغ البصر وما طنعى “ . ( 53 : 17 ) ، وفيه جناس بين كملة “ زاغ “ في الآية ، وكلمة “ زاغ “ الفارسية بمعنى “ غراب “ .
“ 458 “
فلو لم تكن سليل إبليس - أيها العنيد - فكيف وصل إليك ميراث ذلك الكلب ؟
3965 - وإني لست بكلب ، بل أنا أسد الحق ، الذي يعبد الحق . وما أسد الحق إلا من خلص من الصورة .
إن أسد الدنيا ينشد الصيد والغذاء ، وأما أسد المولى فينشد التحرر والموت !
فهو حينما يرى في الموت مائة وجود ، فإنه يحرق وجوده مثل الفراشة .
لقد أصبح حب الموت قرين الصادقين ، ولقد كانت هذه الكلمة امتحاناً لليهود “ 1 “ .
لقد قال تعالى لليهود في القرآن ( ما معناه ) : “ يا قوم اليهود إن الموت للصادقين كنز وربح “ 2 “ .
3970 - فكما أن أمل الربح كائن ( في قلوب البشر ) ، فإن أمل الفوز بالموت خير من هذا الأمل .
أيها اليهود ! لتجروا على ألسنتكم ذلك التمني ، حتى تفوزوا بشرف الإنسانية “ 3 “ .
فلم يكن ليهودي هذا القدر من الشجاعة ، حين رفع محمد علم ( الدعوة ) .
فقال : “ إنهم لو أجروا هذا القول على ألسنتهم ، لما بقي في العالم يهودي واحد “ “ 4 “ .
...............................................................
( 1 ) : إشارة إلى قوله تعالى : “ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم واللَّه عليهم بالظالمين “ . ( 62 : 6 ، 7 ) .
( 2 ) : إشارة إلى قوله تعالى : “ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم واللَّه عليهم بالظالمين “ . ( 62 : 6 ، 7 ) .
( 3 ) : إشارة إلى قوله تعالى : “ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء للَّه من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم واللَّه عليهم بالظالمين “ . ( 62 : 6 ، 7 ) .
( 4 ) يروى عن الرسول أنه قال : “ لو تمنى اليهود الموت لم يبق يهودي على وجه الأرض “ . ( المنهج القوي ) . وقد أورد البيضاوي هذا الحديث في تفسيره لقوله تعالى : “ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند اللَّه خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم واللَّه عليم بالظالمين “ . ( 2 : 94 ، 95 ) .
“ 459 “
ولقد حمل اليهود المال والخراج ( إلى الرسول ) قائلين : “ لا تفضح أمرنا ، أيها السراج ! “
3975 - وليس لهذا الكلام نهاية ظاهرة . فلتعطني يدك ، ما دامت عينك قد أبصرت الحبيب .
كيف قال أمير المؤمنين عليّ كرم اللَّه وجهه لخصمه :
“ إنك حينما بصقت في وجهي تحركت نفسي “
فلم تعد مخلصة في عملها وقد صار هذا مانعاً لقتلك “
قال أمير المؤمنين لذلك الشاب : “ إنه في وقت القتال ، أيها البطل .
حينما بصقت في وجهي ، تحرّكت نفسي ، ففسد طبعي .
فأصبح نصف ( قتالي ) من أجل الحق ، ونصفه من أجل الهوى ! وأنت من تصوير كف الخالق . إنك من صنع الخالق ، ولست من صنعي .
3980 - وكسر تصوير الحق ، ولا يكون إلا بأمر الحق وحده . وضرب زجاجة الحبيب ، لا يكون إلا بحجر الحبيب “ 1 “ .
لقد سمع المجوسي هذا ( القول ) ، فتجلى النور في قلبه ، فمزّق زناره .
وقال : “ لقد كنت أغرس بذور الجفاء ، وكنت أحسبك نوعاً آخر ( من البشر ) !
على حين أنك كنت ميزان صفة الوحدانية ! بل إنك كنت اللسان المعبر عن كل ميزان .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ فاكسر تصوير الحق بأسر الحق وحده ، واضرب زجاجة الحبيب بحجر الحبيب “ .
“ 460 “
إنك كنت جنسي وأصلي وصاحب قرباي ! إنك كنت النور الذي ينبعث من شمع عقيدتي !
3985 - فأنا عبد لذلك السراج الذي يبحث عن العين ، ذلك السراج الذي اقتبس النور منه سراجك .
إني عبد لأمواج ذلك البحر من النور ، الذي دفع مثل هذا الجوهر إلى الظهور .
فلتعرض عليّ الشهادة ، فإني قد رأيتك مفخرة الزمان “ .
واتجه نحو الدين بمحبة واشتياق قرابة خمسين من ذوي قرباه وقومه .
فعليّ - بسيف حلمه - قد اشترى من السيف كثيراً من الرقاب ، لكثير من الخلق .
3990 - وإن سيف الحلم لأحدّ من سيف الحديد ! بل إنه لأقدر على تحصيل الظفر من مائة جيش ! فوا أسفاه أن لقمة أو لقمتين قد أكلتا . فتجمد من تناولهما جيشان الفكر .
إن حبة من القمح قد كسفت شمس آدم كما أن ( سقوط ) الذنب “ 1 “ يكون خسوفاً لا لتماع البدر .
فتأمل لطف القلب ، وكيف يصير ، بَدْرُه بقبضة من الطين مقتطع النور كأنه أنجم الثور “ 2 “ .
فحينما كان الخبز معنوياً ، كان تناوله نافعاً ، ولكنه حين أصبح صورياً أثار الجحود !
...............................................................
( 1 ) عقدة الذنب وعقدة الرأس هما النقطتان اللتان يتلاقى عندهما مدار كل من الشمس والقمر . ويحدث الكسوف والخسوف عند أية نقطة من هاتين النقطتين .
( 2 ) مجموعة من النجوم الصغيرة تبدو وهي مجتمعة على صورة الثور ، وتمثل منزلا من منازل القمر . فمعنى البيت أن المطامع المادية تبدد نور القلب فتجعله يبدو مشتتاً كنور الأنجم الصغيرة المبعثرة بعد أن كان كالبدر مجتمع النور .
“ 461 “
3995 - فهو مثل الأشواك الخضراء التي تأكلها الجمال ، فتجد في تناولها مائة نفع ولذة .
فإذا ما ذهبت خضرتها وجفت ، فإن الجمال حين تأكلها في الصحراء ، تمزق أفواهها وأشداقها .
فوا أسفاه أن هذا الورد المغذي “ 1 “ قد أصبح سكيناً .
فالخبز - حينما كان معنوياً - كان شبيهاً بذلك الشواك الأخضر .
فلما أصبح صورياً فإنه الآن يابس غليظ ! وأنت على تلك العادة : فكما كنت قد أكلته من قبل ، أيها الكائن الرقيق !
4000 - فإنك تأكل اليوم ذلك اليابس ، ( وفي أنفك ) ذات الرائحة ، بعد بعد أن امتزج المعنى بالتراب .
لقد أصبح ( خبزك ) مختلطاً بالتراب ، يابساً ، يمزق اللحم ، فلتعف الآن عن ذلك العشب ( اليابس ) ، أيها الجمل ! إن الكلام يجيء وهو شديد التلوث بالتراب ! وها قد تعكر الماء ، فلتغلقن فوهة البئر .
حتى يعيده اللَّه ماء صافياً عذباً . وإن الذي عكره ليجعلنه صافياً .
والصبر هو الذي يحقق الأمل ، لا التسرع . فكن صابراً ، واللَّه أعلم بالصواب .
(تمت ترجمة الكتاب الأول من المثنوي)
...............................................................
( 1 ) يقصد الشوك الأخضر الذي كان طعاماً سائغاً نافعاً للإبل .
.