مقدمة المترجم وفهرس المحتويات المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
مقدمة المترجم وفهرس المحتويات على مدونة عبدالله المسافرمقدمة المترجم وفهرس المحتويات .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي
مقدمة المترجم وفهرس المحتويات
“ 2 “
“ 3 “
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني
( مثنوي جلال الدين الرومي شَاعِرُ الصّوفيَّة الأكْبَر الكِتابُ الثاني ترجمَة وشرح وَدراسَة للدكتور محمّد عبد السّلام كفافي أستَاذ آداب الأمَم الإسْلاميَّة بجَامِعَة القَاهِرَة عَمِيد كُليّة الآدابْ بجَامِعَة بَيرُوت العَربيَّة المكتَبة العصْرَّية صَيدْا - بَيروت )
“ 4 “
.
“ 5 “
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
“ 6 “
الأهداءُ
إلى ذكرى والدي عبد السلام كفافي 1890 - 1937 وشقيقي المهندس الشاب عصام كفافي 1935 – 1960
“ 7 “
تصْدير
يسعدني أن أقدم إلى الباحثين والدارسين ، وإلى قراء العربية عامة الكتاب الثاني من المثنوى . وقد سلكت في اعداده ذات النهج الذي سلكته في الكتاب الأول ، فكتبت له مقدمة ، وأعددت له شروحا ودراسات ، وزودته بما يعين على ايضاح معالمه من الفهارس والكشافات .
وهذا نهج سآخذ نفسي به في بقية أقسام المثنوى ، إن شاء الله .
وكان هذا الكتاب قد قطع شوطا بعيدا في طباعته ، حين وقعت حوادث يونيو ( حزيران ) الأليمة ، وما تبعها من نكسة أصابت أمتنا العربية .
وأخذت كغيرى من المواطنين أتأمل أسباب ما أصابنا . والشدائد - حين تقع - توقظ الروح ، وتجعل الانسان أكثر احساسا بها ، وادراكا لجوهرها ، يحاول أن يسمع منها جوابا لما خفى عليه علمه .
وكنت أجد عند شاعرنا الحكيم - حين قيامي بمراجعة الكتاب في تلك الظروف - كثيرا مما يجيب على تساؤلى . وآمنت ايمانا لا يشوبه أي شك بأننا في أمس الحاجة إلى بناء روحي جديد ، يكون أساسا لكل بناء حضارى أو مادي نسعى إلى اقامته .
“ 8 “
نحن في حاجة إلى شئ من التصوف البناء ، الذي يعيد الحياة إلى الروح العربي الأصيل ، ويكشف عن جوهره ما غشيه من غبار السنين .
حينذاك نبلغ القوة المنشودة ، ولا تعصف بنا مخاوف الحرمان من ترهات الترف الزائف . فمن التصوف أن يتغلب المرء على شهواته .
ومن التصوف أن يستهين المرء بالحياة في سبيل أسمى الأهداف . ومن التصوف أن يكون المرء مثاليا في ما يعتقد وما يقول وما يعمل . وكل أولئك ضروري لنا في موقفنا الحالي .
ان عودة الروح هي العودة الحقيقية التي تتبعها بالضرورة عودة الكرامة ، وعودة الأرض .
ولو نجح هذا الكتاب في أن يسرى عن محزون ، أو يعين متفكرا ، أو يوقظ ضميرا ، أو يبعث همة ، فقد نجح في أداء مهمة لا تقل مكانة عن مهمته العلمية ، والله هو الهادي والموفق .
محمد كفافي بيروت في 15 يوليو ( تموز ) سنة 1967
“ 9 “
فهْرسُ المحُتوَيات
صفحة ( الاهداء )
( تصدير )
المقدمة :
القصة والحوار في المثنوى المثنوي
( نص الترجمة )
مقدمة الكتاب 18
المقدمة المنظومة 20
الرجل الذي توهم رؤية الهلال في عهد عمر 29
المشعوذ الذي سرق حية من مشعوذ آخر 31
الأبله الذي التمس من عيسى احياء العظام 32
الصوفي والخادم والحمار 33
ظاهر الحكاية وحقيقتها 36
كيف ظن أهل القافلة أن حمار الصوفي مريض 37
الملك والباز 48
الشيخ أحمد بن خضرويه وغرماؤه 53
الزاهد الباكي 60
تمام قصة بعث العظام بدعاء عيسى 61
الفلاح الذي ذلك أسدا في الظلام 65
الصوفية الذين باعوا بهمية المسافر 67
“ 10 “
صفحة
كيف بعث القاضي بالمنادين للطواف بمفلس حول المدينة 73
أهل السجن يشكون المفلس إلى وكيل القاضي 76
الرجل الذي قتل أمه 91
الملك وغلاماه 97
الملك يسائل أحد الغلامين 99
الغلام الطاهر الظن يقسم على صدق رفيقه 103
الملك والغلام الآخر 112
كيف حسد خدم الملك غلامه الخاص 116
الظامىء فوق الجدار 128
الوالي والرجل الذي زرع الشوك فوق الطريق 132
ذو النون في البيمارستان 146
كيف أدرك المريدون أن ذا النون تظاهر بالجنون 151
عود إلى حكاية ذي النون 152
لقمان وسيده 154
كيف ظهر فضل لقمان وحكمته 158
تتمة قصة الحسد الذي أضمره الخدم لغلام السلطان 163
بلقيس والهدهد ، رسول سليمان 167
المتفلسف وشكوكه 170
موسى والراعي 178
كيف عاتب الحق موسى من أجل الراعي 181
الوحي يوضح عذر الراعي 183
موسى يسأل الله عن سر غلبة الظالمين 187
الأمير والرجل الذي ابتلع الحية 193
الاعتماد على تودد الدب 198
السائل الأعمى 204
“ 11 “
صفحة
تتمة حكاية الدب وصاحبه 206
موسى وعابد العجل 208
الناصح ينصرف عن المغتر بالدب 211
جالينوس والمجنون 214
الطائر الذي طار مع رفيق من غير جنسه 215
تتمة قصة الدب وصاحبه 217
المصطفى والصحابي المريض 219
الحق يوحى إلى موسى سائلا : “ لماذا لم تحضر لعيادتي ؟ “ 220
البستاني وقصته مع الصوفي والفقيه والعلوي 221
عود إلى قصة الصحابي المريض 226
قصة أبى يزيد مع أحد الشيوخ 226
الرسول يخبر الصحابي بسر مرضه 229
الفتى المستهتر والرجل الفاضل 236
العاقل المتظاهر بالجنون 237
الكلب والسائل الأعمى 239
السكران والمحتسب 242
عود إلى قصة العاقل المتظاهر بالجنون 243
نصيحة الرسول للصحابى المريض 248
الرسول يعلم المريض الدعاء 257
إبليس ومعاوية 262
القاضي يشكو من آفة القضاء 275
عود إلى قصة إبليس ومعاوية 277
فضيلة تحسر الأتقياء على فوت الصلاة 278
تتمة اقرار إبليس بمكره 279
اللص وصاحب المنزل 280
“ 12 “
صفحة
قصة المنافقين وبنائهم مسجد الضرار 283
المنافقون يدعون الرسول إلى مسجدهم 286
كيف تفكر أحد الصحابة ، منكرا على الرسول موقفه من المنافقين 289 قصة الباحث عن جمله الضال 292
التردد بين المذاهب المختلفة ، وطريقة الخلاص من ذلك 293
حول امتحان كل شئ حتى يظهر ما فيه من خير وشر 295
شرح الفائدة من حكاية الباحث عن جمله الضال 298
كل نفس منطوية على فتنة مسجد الضرار 302
حكاية الهندي ورفيقيه 303
كيف قصد الغز أن يقتلوا رجلا ليخيفوا سواه 305
المغرورون الذين لا يستشعرون نعمة وجود الأنبياء والأولياء 306
الطبيب والشيخ المريض 309
جحى والطفل الذي كان ينوح أمام نعش أبيه 311
الصبى والمخنث الغليظ الجسد 315
النبَّال والفارس 316
الأعرابي والفيلسوف 317
كرامات إبراهيم بن أدهم 320
بداية استنارة العارف 323
كيف طعن غريب في أحد الشيوخ 329
بقية قصة إبراهيم بن أدهم 332
كيف ادعى رجل أن الله لن يأخذه بالاثم ، وكيف أجابه شعيب 335
بقية قصة الغريب ، وطعنه في الشيخ 338
عائشة تسأل الرسول عن سر أدائه الصلاة في كل مكان
“ 13 “
صفحة
بدون مصلى 341
الفأر الذي سحب مقود الجمل 342 كرامات صوفي اتهم بالسرقة 346
الصوفية ورفيقهم الثرثار 349
بيان تلك الدعوى التي تكون ذاتها دليل صدقها 355
كيف سجد يحيى في بطن أمه للمسيح 358
قول الكلام بلسان الحال 360
كيف يلقى كلام الباطل قبولا في قلوب أهل الباطل 361
البحث عن شجرة الخلد 362
كيف شرح الشيخ سر هذه الشجرة للطالب المقلد 364
التنازع حول الأسماء 366
ارتفاع الخلاف والعداوة من بين الأنصار ببركات الرسول 369
قصة أفراخ البط التي ربتها الطيور الأليفة 374
كرامات زاهد منفرد في البادية 376
شروح ودراسات
الأبيات 1 - 500 381 - 424
الأبيات 501 - 1000 425 - 449
الأبيات 1001 - 1500 449 - 478
الأبيات 1501 - 2000 478 - 504
الأبيات 2001 - 2500 505 - 528
الأبيات 2501 - 3000 529 - 551
الأبيات 3001 - 3500 551 - 573
الأبيات 3501 - 3810 573 – 585
فهارس الكتاب
كشاف الاعلام والجماعات والأماكن 589 - 598
كشاف الموضوعات 599 - 618
“ 14 “
.
“ 15 “
المقَدّمة
القصّة وَالحوارُ فيْ المثنوي
يهدف هذا البحث إلى تقديم دراسة موجزة لفن القصة والحوار في المثنوى . ومما يجعلنا نبادر بتقديم هذه الدراسة على سواها أن المثنوى - في ظاهره - يدور حول مجموعة من القصص التي يرويها الشاعر ، ويبث من خلالها نظراته الصوفية وفلسفته الأخلاقية .
ومن المستطاع أن يُستخلص من كل قصة مضمونها الفكري أو الأخلاقي ، وإذ ذاك يتضح البناء الفكري للمثنوى ، ذلك البناء الذي أراد الشاعر أن يخفيه وراء هذه المجموعة من القصص ، وبهذا عبر عنه تعبيرا رمزيا ، وجعل عمله يدخل بجدارة واصالة ضمن نطاق الفن ، إلى جانب ما أسهم به من مضمون فكرى وأخلاقي نادر المثال .
ان جلال الدين قد أوتى مقدرة رائعة في الأداء القصصى ، وكذلك في صياغة الحوار . وقد استعان بهذه القصص في تصوير أفكاره وتقريبها إلى مستمعيه . لكنه لم يترك في ذهن المستمع أو القارئ أي شك في أن هذه القصص انما سيقت من أجل مضمونها الفكري أو الأخلاقي . ومن هنا لم يحرص الشاعر - برغم مقدرته في الأداء القصصى - على تماسك القصة ووحدتها ، بل كثيرا ما كان يوقف سرد القصة ليعلق على احدى
“ 16 “
وقائعها ، ثم يعود من جديد فيستأنف رواية القصة . وربما توقف على النحو ذاته للمرة الثانية أو الثالثة ، كلما شعر بالحاجة إلى هذا التوقف ، للتعبير عن فكرة أو لتقرير معنى .
ومع ذلك فقد كان جمال الأداء دافعا إلى اهتمام الدارسين بقصص المثنوى ، فحاول بعضهم فصلها عما أحاط بها من تفصيل وتحليل وحكمة بثها الشاعر في ثناياها . وممن فعل ذلك من الدارسين المحدثين المستشرقان نيكولسون وآربرى . فأما أو لهما فقد نشر مختارات من هذه القصص في كتابه .TALES OF MYSTICMEANINg( قصص ذات معنى صوفي ) . وقد نشر في عام 1931 .
أما آربرى فقد نشر قصص المثنوى في مجلدين ظهرا بين عامي 1961 ، 1963 “ 1 “ ، وأدرجا ضمن مجموعة المؤلفات التي تنشرها هيئة اليونسكو للتعريف بآداب الأمم المختلفة .
.( UNESCO cOLLECTION OF REPRESENTATIv EWORKS )وفي عام 1953 نشرت قصص المثنوى في إيران بعنوان : ( بأنك ناى : داستانهاى مثنوى مولوى ) . وقد قام بهذا العمل محمد على جمال زاده “ 2 “ .
لقد اشتمل المثنوى على نحو 275 قصة ، نجح الدارسون في رد كثير منها إلى أصول سابقة . وتتضمن حواشي نيكولسون ، ودراسة فروزانفر “ 3 “ ، وحواشي هذا الكتاب جهودا في هذا السبيل .
وما دمنا قد أشرنا إلى الأصل القديم لهذه القصص ، فلعلنا تنساءل ، من أي المصادر استمدها الشاعر ؟
.................................................................
( 1 ) .ARBERRY : TALES FrOM ThE MASNAvI , LONDON , 1961 ARBERRY : MORE TALES FROM ThE MaSNavI , LONDON , 1963. ( 2 ) من منشورات : انجمن كتاب ، طهران ، 1953 .
( 3 ) مآخذ قصص وتمثيلات مثنوى ، طهران ، 1954 .
“ 17 “
لقد كانت مصادر الشاعر متعددة إلى أبعد الحدود . ويرجع تعدد هذه المصادر إلى تعدد المناسبات التي كان الشاعر يلجأ فيها إلى ايضاح أفكاره بالقصص والتمثيل . ويمكننا أن نشير على سبيل المثال ، لا على سبيل الحصر ، إلى بعض هذه المصادر .
أول هذه المصادر بدون شك هو القرآن الكريم ، وقصص الأنبياء .
وقد كان الشاعر لا يتخذ أحد الرسل موضوعا لاحدى قصصه ، وانما يقتبس هذا الموقف أو ذاك من حياته ، ثم يصوغه في صورة قصصية ، ويستخرج بعد ذلك من الموقف ما شاء من فلسفة خلقية . فاختيار الموقف يُبنى - قبل كل شئ - على صلاحيته لا يضاح جانب من تفكير الشاعر . وقد يرد ذكر أحد الأنبياء في مواضع متفرقة ، وفي كل مرة يقص الشاعر حكاية مختلفة عنه . فاستخدام الشاعر لقصص الأنبياء يسير على نهج ما جاء في القرآن الكريم ، من ورود قصص الأنبياء في مواضع مختلفة من الكتاب الكريم . فموسى قد ورد في مواضع متعددة من المثنوى ، وكذلك سليمان وغيرهما من الرسل والأنبياء . وليس من الضروري أن يقتصر اقتباس الشاعر على ما ورد في القرآن عن هؤلاء الأنبياء .
وبعض هذه القصص يتعلق بطرف من سير كبار الصحابة أو الصوفية أو الزهاد . وكان هناك معين لا ينضب لمثل هذه القصص ، اشتملت عليه كتب التصوف والوعظ التي حفل بها العالم الاسلامي قبل جلال الدين .
فنجد في مثل هذه القصص ما يتعلق بذى النون أو إبراهيم بن أدهم أو أو غيرهما من الصوفية .
وبعض قصصص المثنوى يتعلق بسير الملوك والخلفاء . وقد يعين الشاعر اسم الملك ، وقد لا يذكر شيئا عن شخصه ، وانما يقتصر على تعيين مكانه . وإلى جانب قصص الملوك هناك قصص الوزراء وغيرهم من ذوى السلطان .
ومن بين قصص المثنوى ما يتعلق بسيرة الحكماء أو الفلاسفة أو
“ 18 “
الأطباء . ومنها ما يتعلق بالفقهاء والمتكلمين ، وبخاصة في معرض المحاورات التي يناقش فيها أساليبهم في الفكر والنظر .
ومن القصص ما يتعلق بالجواري والعبيد . ومنها ما هو مقتبس من كتاب كليلة ودمنة أو غيره من الكتب التي سارت على نهجه .
وكان للقصص الشعبي أيضا نصيبه في المثنوى حيث تناول الشاعر بأسلوبه بعض قصص ألف ليلة وليلة ، وبعض النوادر الشائعة على نطاق شعبى ، كنوادر جحا .
وكان بعض هذه القصص لا يعدو أن يكون مجرد رواية لاحدى المعجزات ، ووصفا للصورة التي تمت بها هذه المعجزة . وربما اكتملت رواية القصة في أبيات قليلة ، ثم يتخذ منها الشاعر تمثيلا لفكرة يتحدث عنها ، أو تجسيدا لفلسفة يريد ايضاحها .
ولقد كان لتنوع المصادر التي اقتبس الشاعر منها قصصه ، ولتعدد المواقف التي عالجها ، أثر كبير في ربط المثنوى بالحياة ، وبالمجتمع البشرى ، فأصبح ملحمة خالدة ، توفر لها من عناصر البقاء ما جعلها مرآة لكل عصر . فالغرائز البشرية ، والفضائل والمثالب ، والناس في أسمى صورهم وفي أحطها ، أو في أرفع درجاتهم وأدناها قد ظفروا بتصوير بارع ، جعل منهم نماذج وأنواعا تصدق أوصافها في كل عصر ، وتتحقق سماتها في كل زمان ومكان .
ولكن تناول جلال الدين لهذه القصص لم يكن مجرد رواية لها ، بل إنه أضفي عليها جدة ، وعبر عنها بأصالة ، فأصبحت القصص كأنها من صنعه .
ان المادة القديمة التي تناولها جلال الدين ، قد كسبت بفنه حياة جديدة ، وقوة أداء ، ووضعت في اطار لم يسبق لها أن وضعت فيه .
نذكر من ذلك على سبيل المثال قصة “ معاوية والشيطان “ . والأصل الذي يمكن أن تستند اليه هذه القصة نص صغير ورد في قصص الأنبياء للثعلبي على الوجه الآتي :
“ 19 “
“ يروى أن رجلا كان يلعن إبليس كل يوم ألف مرة . فبينما هو ذات يوم نائم إذ أتاه شخص فأيقظه وقال : قم فان الجدارها هو يسقط .
فقال له : من أنت الذي أشفقت علىّ هذه الشفقة . فقال له : أنا إبليس .
فقال : كيف هذا وأنا ألعنك كل يوم ألف مرة . فقال : هذا لما علمت من محل الشهداء عند الله ، فخشيت أن تكون منهم فتنال معهم ما ينالون “ .
( عن قصص الأنبياء للثعلبي ، ص 36 . انظر أيضا : فروزانفر : مآخذ قصص ، 72 - 73 ) .
لقد عالج الشاعر هذه القصة في أبيات تبلغ المائتين تقريبا ، تكاد تكون ملحمة صغيرة ، اختار لها الأشخاص وصاغ لها حوارا رائعا . وقد أقام جلال الدين عمله على حوار بين معاوية بن أبي سفيان والشيطان .
يمثل معاوية المؤمن الذي يقاوم خداع الشيطان ، ويفلح في اكتشاف مكره بعد حوار طويل ، دافع فيه الشيطان عن نفسه ، وحاول أن يقدم تبريرا خلقيا لأعماله . ونلحظ هنا المقدرة الدرامية في اختيار الشخصية التي وضعها في مواجهة الشيطان . فاختيار معاوية لهذا الدور لم يكن لمجرد أنه واحد من الصحابة المؤمنين ، بل لما اتصف به من دهاء يجعله قادرا على متابعة الحوار مع الشيطان ، ويتيح القدر الضروري من الصراع الذي ينبغي توفره في مثل هذا العمل الفنى . وقد أتاح الشاعر للشيطان كل امكانات الدفاع عن النفس ، وأورد على لسانه كل ما يمكن من الحجج لتبرير موقفه ، ولم يصل به إلى موقف الهزيمة الا بعد أن أتاح له بيان أسباب سقوطه ومواقفه الأخلاقية .
ونحن نلمس كيف نجح الشاعر في صوغ الحوار ، وتصوير كل من طرفيه . ولن نستطيع هنا أن نورد كثيرا من نصوص هذا العمل الفنى ، ولا بد من الاكتفاء باقتباس قليل من أبياته .
تبدأ القصة في قصر معاوية ، حيث كان هذا الخليفة نائما ، والقصر موصد الأبواب ، فيوقظه رجل ، يعترف له بأنه إبليس . وحين يسأله معاوية عن السبب الذي دعاه إلى أن يقطع عليه سباته يجيبه إبليس بقوله :
“ 20 “
“ ان ميقات الصلاة قد أو شك على الانتهاء ، فيجب عليك ان تهرع مسرعا إلى المسجد “ “ 1 “ .
حينذاك يردعه معاوية قائلا : ان الخير لا يكون من مقاصد الشيطان ، فيدافع الشيطان عن نفسه بقوله :
“ لقد كنت في بداية أمرى ملكا ، وما أكثر ما سلكت بالروح سبيل الطاعة ! لقد كنت أمين سر السالكين بهذا الطريق ، كما أنني كنت رفيقا لسكان العرش .
فكيف يخرج من قلب الانسان شغله الأول ، وكيف يفترق عن فؤاده أول حب ؟
وانك لو شهدت في سفرك بلاد الروم أو الختن ، فكيف يذهب من قلبك حب الوطن ؟
لقد كنت أنا أيضا من سكارى هذه الخمر ، وكنت في حضرته من العشاق ! وانني قد استقبلت الحياة على محبته ، كما أن عشقه كان قد غُرس في روحي .
ولقد لقيت من الزمان أياما طيبة ، كما أنني احتسيت مياه الرحمة ابان ربيعى ! ألم تكن يد فضله هي التي غرستنى ؟ أليس هو الذي قد أخرجني من العدم ؟
وما أكثر ما كنت قد شهدت من ألطافه ! ولكم تجولت في بستان رضاه ! انه كان يضع فوق رأسي يد رحمته . وكم كان يفيض ينابيع اللطف منى !
.................................................................
( 1 ) المثنوى ، 2 : 2612 - 2792 .
“ 21 “
وفي وقت طفولتى ، حينما كنت رضيعا ، من ذا الذي كان يهز مهدى ؟
انه هو ! وأيان كان لي حليب أحتسيه غير حليبه ؟ ومن ذا الذي رعانى غير تدبيره ؟
وكيف يمكن أن تفصل عن المرء تلك الخليقة التي دخلت كيانه مع الحليب ؟
فلئن كان بحر الكرم قد عاتبني ، فمتى كانت توصد أبواب كرمه ؟
فأصل نقده عطاء ولطف وسخاء ، وما القهر فوق أولئك الا كالغبار الذي يغشى النقد ! “ وهكذا يمضى إبليس في الدفاع عن نفسه ، فيواجهه معاوية ، ويعدد له أفعاله القبيحة التي اقترفها خلال القرون ، وما أدت اليه من هلاك أصاب أجيالا من الناس .
يقول معاوية مخاطبا الشيطان :
“ فأنت النار والنفط ، وانك لتحرق ، ولا حيلة لك في ذلك ! ومن ذا الذي لم تمزق يداك له ثيابه ؟
ان لعنة الله هي التي جعلتك تحرق ، وهي التي جعلتك أستاذا لكافة اللصوص .
لقد تحدثت إلى الله واستمعت منه وجها لوجه . فمن أكون أنا أمام مكرك أيها العدوّ ! “ ويدافع إبليس عن نفسه بقوله :
“ ألا فلتحل هذه العقدة ! انني أنا المحك للنقد الزائف والصحيح ! فالحق هو الذي جعلني فيصلا بين الأسد والكلب . والحق هو الذي جعلني فيصلا بين صحيح النقد وزائفه .
ومتى كنت أنا الذي جعل الزائف أسود الوجه ؟ انني أنا الصيرفي الذي حدد قيمته !
“ 22 “
أنا الذي أظهر السبيل للطيبين ! وأنا الذي أستأصل ذابل الأغصان .
ومع أن الخير والشر مختلفان ، فإنهما مشتغلان بعمل واحد .
وكيف أجعل من الخيِّر شريرا ؟ انني لست الها ! ان أنا الا داع ، ولست خالقا لهما ! وهل أجعل من الجميل قبيحا ؟ انني لسب ربا ، وما أنا الا مرآة للقبح والجمال ! “ وحين يصرّ معاوية على مقاومة خداع الشيطان ، ويبدي شكه في قوله ، يقول له إبليس :
“ ان الرجل السىّء الظن لا يستمع إلى الصدق ، ولو كانت له مائة علامة ! فكل فؤاد أصبح متفكرا بالخيال يزداد خياله كلما أتيته بدليل ! فحينما يدخله الكلام يصير علة ، مثل سيف الغازي حين يصبح سلاحا للسارق ! فمثل هذا يُردّ عليه بالسكوت والسكون ، ذلك لأن التحدث إلى فاقد العقل جنون .
فلماذا تضرع إلى الحق منى أيها الغرّ ! اضرع اليه من شر تلك النفس اللئيمة ! فليس من ذنب إبليس ، بل من ذنبك - أيها الغوىّ - أنك كالثعلب تعدو وراء أذناب الخراف الدسمة ! فلا تطرح اثمك فوقى ، ولا تبصر الأمور معكوسة ، فانى برئ من الشر والحرص والضغينة ! لقد اقترفت الاثم ولكنني الآن نادم ! وانى لمنتظر أن ينبثق من ليلى نهار ! “ وهكذا يمضى الحوار ، ويصل إلى مداه ، ويعترف إبليس في نهاية الأمر بما انتواه من الخداع .
“ 23 “
ولكننا نلمس كيف أتاح الشاعر لا بليس كل مجال للدفاع عن أفعاله وكيف جعله يقوم بدوره في الحوار على أكمل صورة .
فهذه الأسطر القليلة التي تمثل أصل القصة قد عبر عنها الشاعر بنحو مائتي بيت حوت كثيرا من الحوار الفكري ، وتو فرت لها مواقف درامية لم تكن موجودة فيها ، ودار حول وقائعها كثير من التحليل النفسي والفلسفة الأخلاقية .
وإلى جانب البناء الفنى الجديد يضيف الشاعر إلى القصة - في غالب الأحيان - تفسيرا جديدا ، ويعرضها من وجهة نظر ربما لم تكن خطرت على بال واضع القصة من قريب أو بعيد . ومن أمثلة ذلك قصة الأسد والذئب والثعلب ، حين اصطحبوا للصيد “ 1 “ فصادوا ثورا ووعلا وأرنبا . فأمر الأسد الذئب بتقسيم الصيد فأشار بأن يكون الثور نصيب الأسد وبأن يختص هو بالوعل ، أما الأرنب فهو نصيب الثعلب . وهنا قتل الأسد الذئب ثم أمر الثعلب باجراء القسمة ، فما كان منه الا أن قال :
أما الثور فهو لا فطارك أيها الملك ، وأما الوعل فلعشائك ، والأرنب لمنتصف النهار . فلما أبدى الأسد اعجابه بقسمة الثعلب ، ورسأله عمن علمه مثل هذه القسمة ، قال : “ رأس الذئب الطائح عن جسده “ . فحين تناول الشاعر هذه القصة جعل لها مغزى رمزيا . فالاسد رمز الله ، والذئب رمز لانسان أحس لنفسه وجودا ذاتيا أمام الله فكان جزاؤه الهلاك . أما الثعلب فرمز لانسان لم يستشعر وجوده في حضرة الخالق ، فكان أن غمره الخالق بالهبات . فالأسد - حين قضى الثعلب له بكل الصيد - وهب الصيد كله للثعلب . وفي هذا تعبير رمزى عن المضمون الذي يفهمه الصوفية من قول الرسول : “ من كان الله ، كان الله له “ .
اما قتل الذئب على هذا النحو ، ونجاة الثعلب ، فقد تطرق الشاعر منه إلى الحديث عن معنى نجاة الأمة الاسلامية ، وهي ما عبر
.................................................................
( 1 ) المثنوى ، 1 : 3013 وما يليه .
“ 24 “
عنه الرسول بقوله : “ أمتي هذه أمة مرحومة “ . فالرحمة - كما يرى الشاعر - جاءت من أن الأمة الاسلامية ، ظهرت على مسرح التاريخ بعد غيرها من الأمم ، ورأت ما حاق بهذه الأمم القديمة لطغيانها وعصيانها ، فاتعظت بما رأت ، وكان هذا فضلا من الله ، ورحمة تحققت للمسلمين بوصفهم أمة خاتم النبيين .
وإذا أخرجنا المضمون الديني من تقديرنا لهذه القصة ، وقصرنا هذا التقدير على الجانب الفنى وحده ، فإننا نعجب بمقدرة الشاعر على وضع هذا المضمون في ثنايا قصة بسيطة ، قد تروى للأطفال في معرض الوعظ والتعليم .
هذا الاستخدام الأخلاقي للقصص ليس مما ابتدعه الشاعر فقد سبقه إلى ذلك كثير من الكتاب والشعراء . ولكن فنّ جلال الدين يتجلى في البناء الذي يقيمه على قصة صغيرة شائعة فيجعل منها عملا فنيا ناضجا . انه يجدد شكل القصة ، إذ يرويها بأسلوبه الخاص ، ويخلق لها المواقف الدرامية ، ويضع لها الحوار ، ثم يخلع عليها مضمونا جديدا ، بأن يفسرها على طريقته ، ويخرج منها بمفهومات ومبادئ جديدة ، لم تكن من قبل مرتبطه بها ولا مفهومة منها .
وينبغي ألا يغيب عنا ونحن ندرس الفن القصصى عند الشاعر أنه لم يكن يهدف اليه كغاية ، وانما كان يستخدم القصص كوسيلة لا يضاح آرائه وأفكاره . وكان هذا الأمر سببا في أن الشاعر استخدم المادة القصصية الشائعة من جهة ، وفي أنه لم يكن يسرد القصة كوحدة متماسكة ، بل كثيرا ما كان يصل إلى نقطة منها ، ثم يستطرد من هذه النقطة معلقا عليها ، مستخلصا الحكمة التي تنطوى عليها ، ثم يعود من بعد الاستطراد لرواية القصة . بل إن الظاهر أنه كان يتخذ القصة وسيلة لتشويق المستمع لمتابعة آرائه . وفي بعض الأحيان عبر عن ضيقه لأن المستمع ينشغل قلبه بحوادث القصة عن متابعة مغزاها .
ففي قصة “ الصوفي والخادم والحمار “ نراه يبدأ رواية القصة ، ثم
“ 25 “
ينصرف عنها إلى ذكر أخلاق الصوفية . ويطول به الابتعاد عن القصة ، فيتوقف عن متابعة الموضوع الذي كان ماضيا فيه ثم يقول :
“ استمع الآن إلى المانع الذي حدث ، فأصبح مدعاة للتوقف . ان قلب المستمع قد مضى إلى مكان آخر ! لقد اتجه خاطره إلى ذلك الصوفي المقيم ، وغرق في تلهفه على القصة حتى عنقه .
فوجب الآن أن نرجع من هذا المقال ، إلى تلك الحكاية لنصف وقائعها .
فاستمع الآن إلى صورة هذه الحكاية ، ولكن ، كن يقظا وافصل ما بها من قشر عن اللباب “ “ 1 “ وعلى الرغم من هذا العيب في رواية القصص ، فقد استطاع الشاعر أن يبعث فيها حياة جديدة بما كان يخلقه لها من مواقف وبما كان يصوغه لها من حوار بارع .
بل إن الشاعر تناول بسخريته من يتمسكون بظاهر القصص ، كما سخر من المتمسكين بالمعاني الحرفية ، الذين يقفون عند ظاهر اللفظ ، ويغفلون عن حقيقة معناه ، وجوهر مفهومه . يقول :
( ولا تكن ) كمن سمع بعض الأقاصيص ، فتمسك بحرفيتها تمسك “ الشين “ بلفظة “ نقش “ .
( قائلا ) : كيف تكلَّم كليلة هذا بدون لسان ؟ وكيف استمع إلى كلام دمنة ، وقد كان ذلك عاجزا عن البيان ؟
وهب أن كلا منهما كان يفهم لحن الآخر ، فكيف استطاع البشر أن يفهموا هذا ، وهو ليس بنطق ! وكيف استطاع دمنة أن يكون رسولا بين الأسد والثور ، ويسمع كلا منهما بيانه ؟
.................................................................
( 1 ) المثنوى ، 2 : 196 - 198 ، 202 .
“ 26 “
وكيف صار ذلك الثور النبيل وزيرا للأسد ؟ وكيف صار القيل وجلا من خيال القمر ؟
ان كليلة ودمنة هذا كله افتراء ، والا فكيف وقع الجدال بين الغراب واللقلق ؟
يا أخي ! ان القصة مثل المكيال ، والمعنى فيها مثل الحب في المكيال .
فالرجل العاقل يأخذ حصاد المعنى ، ولا ينظر إلى المكيال ، وان كان ( وسيلة ) النقل .
فاستمع إلى ما يدور بين البلبل والوردة ، مع أنه ليس هناك كلام صريح ! استمع أيضا لما يدور بين الشمعة والفراشة ، واقتبس معناه ، أيها المليح .
فمع أنه ليس هناك قول مسموع ، فهناك سر القول ، فتنبه وحلق نحو القمم ، ولا تنهاو كالبومة في طيرانك ! لقد قال لا عب الشطرنج : “ هذا بيت الرخ “ ، فأجابه ( المتمسك بالحرفية ) : “ ومن أين له هذا البيت ، وكيف امتلكه ؟ “ “ هل اشترى هذا البيت أم حصل عليه بالإرث ؟ “ فما أسعد ذلك الرجل الذي يسارع إلى المعنى “ 1 “ ! ولقد تجلت عبقرية الشاعر في فن الحوار إلى حد بعيد . وكان الحوار في قصصه متنوعا بتنوع الموضوعات . فبينما كان في بعض القصص يتناول أعمق المسائل الفكرية ، كالجبر والاختيار ، والقضاء والقدر ، إذا به في مواقف أخرى يتناول الحياة العادية ومشكلاتها .
.................................................................
( 1 ) المثنوى ، 2 : 3616 - 3628 .
.
يتبع