كيف جاء الرفاق إلى البيمارستان من أجل ذي النون .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف جاء الرفاق إلى البيمارستان من أجل ذي النون .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافيكيف جاء الرفاق إلى البيمارستان من أجل ذي النون
قدس الله سره العزيز
“ 186 “
وانى لأبدل عادتي حين أشاء . وأقر هذا الغبار الثائر حين أريد .
وأقول للبحر : “ هيا ، كن مليئا بالنار “ . وأقول للنار :
“ اذهبي وكونى بستان ورد “ وأقول للجبل : “ كن خفيفا كالصوف “ “ 1 “ . وأقول للفلك “ كن ممزقا متداعيا أمام العين “ .
1630 وأقول : “ أيتها الشمس كونى مقترنة بالقمر “ ، واجعلهما معا كقطعتين من الحساب الأسود .
ونحن الذين نجفف عين الشمس ، ونجعل بالقدرة عين الدم مسكا .
والشمس والقمر يغدوان كثورين أسودين ، يثقل الاله عنقيهما بالأعباء .
انكار المتفلسف قراءة “ ان أصبح ماؤكم غورا “
كان أحد المقرئين يقرأ من الكتاب ( قوله تعالى ) :” إنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً ““ 2 “ ، يعنى “ لو أنني حبست الماء عن العين ، وحجبت المياه في الأغوار ، وجففت العيون وجعلت الأرض قاحلة ،
.................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ وتكون الجبال كالعهن المنفوش “ . سورة القارعة ، 101 : 5 .
( 2 ) اقتباس من قوله تعالى : “ قل أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين “ . ( سورة الملك ، 67 : 30 ) .
“ 187 “
1635 فمن ذا الذي يعود بالماء ثانية إلى العيون ، سواي أنا ، من تنزه عن مثيل في الفضل والجلال “ .
وكان يمر بجوار المكتب حينذاك متفلسف منطقي مستهان القدر .
فحينما استمع إلى الآية قال ساخرا : “ سوف نحصل على الماء بالمعول .
اننا بضربة الفأس وحدة المعول نخرج الماء من جوف الأرض إلى سطحها “ “ 1 “ .
ونام تلك الليلة ، فرأى في المنام أن رجلا شجاعا ضربه ضربة أعمت كلتا عينيه ،
1640 وقال له : “ أيها الشقي ! ان كنت صادقا فاستنبط بالفأس بعض النور من نبعى عينيك “ .
ونهض الرجل في الصباح فوجد عينيه قد عميتا . ووجد أن النور الفياض قد اختفي منهما !
فلو أنه انتحب واستغفر ربه لرد اليه - بكرم الله - ما فارقه من نور البصر !
لكنه لم يكن في وسعه الاستغفار فمذاق التوبة ليس نقلا لكل نشوان .
ان قبح أعماله وشؤم جحوده قد أغلقا أمام قلبه سبيل التوبة
1645 ان قلبه بقسوته صار مثل وجه الصخر . فكيف تستطيع التوبة أن تشقه من أجل الغراس .
فأين مثيل شعيب حتى يجعل الجبل بدعائه تربة للزراعة .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ من أسفل إلى أعلى “ .
“ 188 “
ان الأمر الصعب المستحيل قد غدا ممكنا بضراعة الخليل وايمانه .
وكذلك بسؤال المقوقس ، للرسول ، صارت أرض صخرية مزرعة كاملة الصفات !
وعلى العكس من ذلك انكار المرء ، فهو يجعل الذهب نحاسا والصلح حربا !
1650 ان هذا الغش بمثابة كهرباء المسخ ! وانه ليحول الأرض الخصبة إلى حجارة وحصى !
وليس كل قلب بمأذون أن يخر ساجدا ، فجزاء الرحمة ليس نصيبا لكل عامل .
فحذار ، لا تقترف الجرم والاثم مستندا إلى ذلك ، ( قائلا ) :
“ لسوف أتوب ثم ألتجىء إلى الله “ .
فلا بد للتوبة من لهيب وماء ! لا بد للتوبة من برق وسحاب ! ولا بد للثمار من نار وماء .
وتلك الظاهرة يلزم لتحقيقها البرق والسحاب .
1655 فبدون برق القلب وسحاب العينين ، كيف كانت تسكن نار التهديد والغضب ؟
وكيف كانت تنمو خضرة ذوق الوصال ، أم كيف كانت تجيش العيون بالماء الزلال ؟
وكيف كانت حديقة الورد تبوح بسرها للبستان ؟ أم كيف كان البنفسج يرتبط بالعهد مع الياسمين ؟
وكيف كان شجر الغرب يبسط أيديه في الدعاء ؟ أم كيف كانت أية شجرة تعلو برأسها في الهواء ؟
“ 189 “
وكيف كانت البراعم ذات الأكمام الحافلة بالنثار تنفض أكمامها أيام الربيع ؟
1660 ومتى كانت خدود الأقاحى تشتعل بلون الدماء ؟ ومتى كان الورد يبرز العسجد من أكياسه ؟
ومتى كان البلبل يأتي ويشم عبير الورد ؟ ومتى كانت الفاختة تهتف “ كوكو “ كأنها تقول “ أين ؟ أين ؟ “ “ 1 “ .
ومتى كان اللقلق يهتف بروحه “ لك لك “ ؟ وماذا تعني “ لك “ ؟
انها تعنى : “ لك الملك أيها المستعان “ .
وكيف تظهر الأرض أسرار الضمير ؟ وكيف يغدو البستان منيرا كالسماء ؟
ومن أين قد جاءا بهاتيك الحلل ؟ انها كلها من كريم رحيم .
1665 فهذه اللطائف كلها علامة للشاهد . انها آثار القدم ( يقتفيها ) الرجل العابد .
وليس يسعد بالأثر الا من رأى المليك . أما من لم يره فليس له انتباه إلى ذلك .
فروح ذلك الانسان الذي في ساعة “ ألست “ ، رأى ربه ، وغدا ذاهلا ثملا ، هو الذي يعرف رائحة الخمر ،
لأنه قد احتسى الخمر . ومن لم يكن قد احتساها فإنه لا يعرف شذاها .
ذلك لأن الحكمة مثل الناقة الضالة ، لكنها كالمنادى ، دالة للملوك .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ومتى كانت الفاختة تهتف ( كوكو ) كأنها طالب“ . و“ كو “ معناها “أين؟“ .
“ 190 “
1670 وانك لترى في منامك وجها لطيفا ، وهذا يعطيك وعدا وعلامة ، ( قائلا ) ان مرادك سوف يتحقق ،
وآية ذلك أن فلانا سوف يزورك في الغد .
ومن علامات ذلك الزائر أن يكون راكبا . ومن علاماته أنه يحتضنك .
ومن علاماته أنه سوف يواجهك مبتسما . ومن علاماته أنه سوف يطوى أمامك ساعديه .
ومن العلامات أنه حين يجئ الغد - فإنك لا فتتانك بهذا الحلم - لا تخبر به انسانا .
1675 ومن تلك العلامات أيضا قول الحق لزكريا :” آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ““ 1 “ .
فالزم الصمت ثلاثة أيام مهما أصابك من خير أو شر . فهذه آية منبئة بأن يحيى سوف يأتي إليك .
ولا تنبس بكلمة طيلة الأيام الثلاثة . فان هذا السكوت آية حصول مرادك .
فحذار ، ولا تبح في القول بتلك العلامة . واجعل هذا الكلام خبيئا في قلبك .
وهكذا يحدثه بهذه العلامات الحلوة كالسكر . بل ماذا تكون هذه ؟ انه ينبئه بمائة أخرى .
1680 فهذه علامة بأنك سوف تتلقى من الله ذلك الملك الذي كنت تنشده –
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة آل عمران ، 3 : 41 .
“ 191 “
ذلك الذي بكيت من أجله خلال الليالي الطوال ! ذلك الذي كنت تتحرق بالضراعة من أجله خلال الأسحار !
ذلك الذي - بدون تحققه - غدا نهارك مظلما ، وغدا عنقك نحيفا كالمغزل !
ذلك الذي قدمت كل ما تملك زكاة في سبيله ، فغذت بضاعتك شبيهة بزكاة الذين يتخلون عن كل شئ .
فتخليت عن متاعك ونومك ولون وجهك ، وجعلت رأسك فداء لمرادك ، وغدوت في نحول الشعرة “ 1 “ !
1685 ولكم ( في سبيله ) جلست في النار مثل العود ، وكم تصديت للسيف مثل الخوذة .
ومن أمثال هذه الاندفاعات - التي لا حيلة فيها - مئات الآلاف ، وكلها من صفات العشاق التي لا يسعها حصر !
وأقبل الصبح بعد أن رأيت في ليلك هذا الحلم ، فغدا نهارك مظفرا بتلك البشائر .
فأدرت عينيك نحو الشمال ونحو اليمين ، متفكرا ، أين تلك الآية وأين هاتيك العلامات ؟
فها أنت ذا ترتعد كورقة النبت ( قائلا ) : “ أواه لو مضى النهار بدون أن تظهر تلك الآية “ .
1690 وها أنت ذا تجرى في الشوارع والأسواق والديار ، كما يجرى رجل قد أضاع عجلا !
.................................................................
( 1 ) يصف هنا الصوفي الذي يتخلى عن كل متع الحياة ومغرياتها المادية .
“ 192 “
خيرا أيها السيد ؟ ولأي شئ جريك هذا ؟ ومن هذا الذي يخصك ، وقد أضعته هنا ؟
فتقول : “ انه خير ، ولكن خيري أنا لا يجوز أن يعرفه أحد سواي ! فلو أنني تحدثت عنه لضاعت مني آيتي .
وان ضاعت الآية ، فقد حان وقت الموت “ .
وها أنت ذا تحملق في وجه كل راكب ، فيقول لك : “ لا تحملق في وجهي كالمجنون ! “
1695 فتقول له : “ انني قد فقدت صاحبا . وقد وليت وجهي لطلبه والبحث عنه .
فيا أيها الراكب ، كن رحيما بالعشاق ، ومهد لهم الأعذار ! أدام الله لك السعادة “ .
فحينما اجتهدت في الطلب تحقق لك النظر . والجدّ لا يخطئ ، كما جاء في الخبر .
فقد أقبل - على غير توقع منك - فارس سعيد ، وإذا به يضمك بقوة إلى صدره .
وإذا بك تفقد الوعي ، وتقع فوق ظهرك . فيقول من لا خبر عنده : “ ان هذا لخداع ونفاق “ .
1700 وأي بصر لهذا بما يداخل سواه من الوجد ؟ انه لا علم له بمن تنبىء بوصاله هذه العلامة .
ان هذه العلامة ذات مغزى لمن أبصرها ( من قبل ) . أما سواه فكيف تتضح له هذه العلامة ؟
“ 193 “
فالمرء تتلقى روحه روحا ، كلما أقبلت من الخالق احدى الآيات .
انها الماء وقد أقبل نحو السمكة المسكينة . فهذه العلامات هي ما يعنيه قوله تعالى :” تلْكَ آياتُ الْكتاب “ *” 1 “ .
وهذه الآيات التي خص بها الأنبياء ، وقف على ذلك الروح الذي يكون من العارفين .
1705 لقد بقي هذا الكلام ناقصا وبدون قرار . فلا طاقة لي فاعذرنى ، انى فقدت فؤادي !
وكيف يستطيع امرؤ أن يعد الذرّات ، وبخاصة من كان قد ذهب بعقله العشق ! فهأنذا أعد أوراق البستان !
وهأنذا أحصى أصوات البط والغربان ! وليس يحصيها عدّ ، لكني أعدها ليكون ذلك سبيلا لرشد المتحن .
ولو أنك عددت نحس كيوان أو سعد المشترى فما للحصر سبيل إلى ذلك .
1710 لكن من الواجب شرح بعض من هذين الأثرين ، أعنى ما ينجم عنهما من نفع أو ضر .
وذلك ليعلم أهل السعد والنحس قدرا يسيرا من آثار القضاء .
فمن كان طالعه المشترى غدا سعيدا بابتهاجه ونباهة شأنه .
ومن كان طالعه زحل ، فلا بد له أن يكون في الأمور محتاطا من كل الشرور .
.................................................................
( 1 ) هذه العبارة وردت في مواضع عدة من القرآن الكريم . انظر مثلا :
سورة يونس ، 10 : 1 .
“ 194 “
ولو أنني حدثت زحلي الطالع عن نار زحل ، لاحترق بها ذلك المسكين !
1715 لقد أذن لنا الله ( أن نذكره ) إذ قال :” اذْكُرُوا اللَّهَ “ *” 1 “ . فقد رآنا في النار فوهبنا النور .
وقال : “ مع أنني منزه عن ذكركم ، ومع أن تصاويركم ليست لائقة بي ،
فإنه لا سبيل - أمام المولع بالتصوير والخيال - إلى ادراك ذاتنا بدون مثال .
وان التصور الجسماني لخيال ناقص . فوصف الجلالة برئ من تلك ( التصورات الحسية ) .
فلو أن شخصا يقول : “ ان المليك ليس بحائك “ . فأي مدح هذا ؟ لا بد أن قائله من الجهلاء .