الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء المتقدمين
الشيخ نور الدين عبد الرحمن جامي
الجزء الأولص "1الدّرة الفاخرة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
1 - الحمد للّه الّذي تجلّى بذاته لذاته ، فتعيّن في باطن علمه مجالي ذاته وصفاته ، ثم انعكست آثار تلك المجالى إلى ظاهره من الباطن ، فصارت الوحدة كثرة كما تشاهد وتعاين ، والصلاة على من به رجعت تلك الكثرة إلى وحدتها الأولى وعلى آله وصحبه الّذين لهم في وراثة هذه الفضيلة يد طولى .2 - امّا بعد ، فهذه رسالة في تحقيق مذهب الصّوفية والمتكلّمين والحكماء المتقدّمين وتقرير قولهم في وجود الواجب لذاته ، وحقائق أسمائه وصفاته ، وكيفيّة صدور الكثرة عن وحدته ، من غير نقص في كمال قدسه وعزته ، وما يتبع ذلك من مباحث أخر يؤدى إليه الفكر والنظر ، والمرجو من اللّه سبحانه أن ينفع بها كل طالب منصف ، ويصونها عن كل متعصّب متعسف ، وهو حسبي ونعم الوكيل . 3 - تمهيد اعلم أن في الوجود واجبا ، وإلّا لزم انحصار الموجود في الممكن ، فيلزم أن لا يوجد شيء أصلا . فإن الممكن ، وإن كان متعددا ، لا يستقل بوجوده في نفسه ، وهو ظاهر ، ولا في إيجاده لغيره ، لانّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود ، وإذ لا وجود ولا إيجاد فلا موجود ، لا بذاته ولا بغيره . فإذن ثبت وجود الواجب . ص "2" 4 - ثم الظاهر من مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعري وأبى الحسين البصري من المعتزلة أن وجود الواجب بل وجود كل شيء عين ذاته ذهنا وخارجا ، ولما استلزم ذلك اشتراك الوجود بين الوجودات الخاصّة لفظا لا معنى ، وبطلانه ظاهر كما بيّن في موضعه لعدم زوال اعتقاد مطلقه عند زوال اعتقاد خصوصيّته ولوقوعه موردا للتقسيم المعنوي ، صرفه بعضهم عن الظاهر بأنّ مرادهما بالعينية عدم التمايز الخارجي أي ليس في الخارج شيء هو الماهية وآخر قائم بها قياما خارجيا هو الوجود كما يفهم من تتبع دلائلهم . 5 - وذهب جمهور المتكلّمين إلى أن للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات ، وذلك المفهوم الواحد يتكثر ويصير حصة حصة بإضافته إلى الأشياء كبياض هذا الثّلج وذاك وذاك ، ووجودات الأشياء هي هذه الحصص ، وهذه الحصص مع ذلك المفهوم الداخل فيها خارجة عن ذوات الأشياء زائدة عليها ذهنا فقط عند محقّقيهم وذهنا خارجا عند آخرين . 6 - وحاصل مذهب الحكماء أنّ للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات ، والوجودات حقائق مختلفة متكثّرة بأنفسها لا بمجرّد عارض الإضافة لتكون متماثلة متّفقة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها بل هو عارض لازم لها ص "3" كنور الشّمس ونور السّراج ، فإنهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركان في عارض النور ، وكذا بياض الثّلج والعاج بل كالكمّ والكيف المشتركين في العرضيّة بل الجوهر والعرض المشتركين في الإمكان والوجود ، إلّا أنه لمّا لم يكن لكل وجود اسم خاصّ كما في أقسام الممكن وأقسام العرض توهّم أنّ تكثّر الوجودات وكونها حصة حصة إنما هو بمجرّد الإضافة إلى الماهيات المعروضة لها كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك ، وليس كذلك بل هي حقائق مختلفة متغايرة مندرجة تحت هذا المفهوم العارض الخارج عنها ، وإذا اعتبر تكثّر ذلك المفهوم وصيرورته حصة حصة بإضافته إلى الماهيات فهذه الحصص أيضا خارجة عن تلك الوجودات المختلفة الحقائق . 7 - فهناك أمور ثلاثة : مفهوم الوجود ، وحصصه المتعيّنة بإضافته إلى الماهيات ، والوجودات الخاصّة المختلفة الحقائق .فمفهوم الوجود ذاتىّ داخل في حصصه وهما خارجان عن الموجودات الخاصّة ، والوجود الخاصّ عين الذّات في الواجب تعالى وزائد خارج فيما سواه . 8 - تفريع . إذا عرفت هذا فنقول : كما أنّه يجوز أن يكون هذا المفهوم العام زائدا على الوجود الواجبي وعلى الوجودات الخاصّة الممكنة على تقدير كونها حقائق مختلفة يجوز أن يكون زائدا على حقيقة واحدة مطلقة موجودة هي حقيقة الوجود الواجب تعالى ، كما ذهب إليه الصّوفية القائلون بوحدة الوجود ، ويكون ص "4" هذا المفهوم الزائد أمرا اعتباريّا غير موجود إلّا في العقل ويكون معروضه موجودا حقيقيا خارجيا هو حقيقة الوجود. 9 - و التّشكيك الواقع فيه لا يدلّ على عرضيّته بالنسبة إلى أفراده فإنّه لم يقم برهان على امتناع الاختلاف في الماهيّات والذاتيّات بالتّشكيك ، وأقوى ما ذكروه أنّه إذا اختلفت الماهيّة أو الذاتىّ في الجزئيّات لم تكن ماهيّتها واحدة ولا ذاتيها واحدا . وهو منقوض بالعارض ، وأيضا الاختلاف بالكمال والنّقصان بنفس الماهيّة كالذّراع والذّراعين من المقدار لا يوجب تغاير الماهيّة . 10 - قال الشّيخ صدر الدين القونوى قدّس اللّه سرّه في رسالته الهادية :إذا اختلفت حقيقة بكونها في شيء أقوى أو أقدم أو أشدّ أو أولى فكل ذلك عند المحقّق راجع إلى الظّهور دون تعدّد واقع في الحقيقة الظّاهرة أىّ حقيقة كانت من علم ووجود وغيرهما ، فقابل يستعدّ لظهور الحقيقة من حيث هي أتمّ منها من حيث ظهورها في قابل آخر مع أن الحقيقة واحدة في الكلّ .والمفاضلة والتّفاوت واقع بين ظهوراتها بحسب الأمر المظهر المقتضى تعيّن تلك الحقيقة تعيّنا مخالفا لتعيّنه في أمر آخر ، فلا تعدّد في الحقيقة من حيث هي ولا تجزئة ولا ص "5" تبعيض و أما ما قيل لو كان الضّوء والعلم يقتضيان زوال العشى ووجود المعلوم لكان كلّ ضوء وعلم كذلك فصحيح لو لم يقصد به الحكم بالاختلاف في الحقيقة . 11 - ثم إنّ مستند الصّوفية فيما ذهبوا إليه هو الكشف والعيان لا النّظر والبرهان ، فإنّهم لمّا توجّهوا إلى جناب الحقّ سبحانه بالتعرية وتفريغ القلب بالكليّة عن جميع التعلّقات الكونيّة والقوانين العلمية مع توحّد العزيمة ودوام الجمعيّة والمواظبة على هذه الطّريقة دون فترة ولا تقسيم خاطر ولا تشتّت عزيمة ، منّ اللّه سبحانه عليهم بنور كاشف يريهم الأشياء كما هي ، وهذا النّور يظهر في الباطن عند ظهور طور وراء طور العقل ، ولا تستبعدنّ وجود ذلك فوراء العقل أطوار كثيرة يكاد لا يعرف عددها إلا اللّه تعالى . 12 - ونسبة العقل إلى ذلك النّور كنسبة الوهم إلى العقل ، فكما يمكن أن يحكم العقل بصحّة ما لا يدركه الوهم كوجود موجود مثلا لا يكون خارج العالم ولا داخله ، كذلك يمكن أن يحكم ذلك النّور الكاشف بصحّة بعض ما لا يدركه العقل ص "6" كوجود حقيقة مطلقة محيطة لا يحصرها التقيد ولا يقيّدها التعيّن مع أنّ وجود حقيقة كذلك ليس من هذا القبيل ، فإنّ كثيرا من الحكماء والمتكلّمين ذهبوا إلى وجود الكلّىّ الطّبيعى في الخارج ، وكلّ من تصدّى لبيان امتناعه بالاستدلال ، لا يخلو بعض مقدّماته عن شائبة اختلال ، والمقصود هاهنا رفع الاستحالة العقليّة ، والاستبعادات العاديّة ، عن هذه المسألة ، لا إثباتها بالبراهين والأدلّة ، فإنّ الباحثين عنها تصحيحا وتزييفا ، وتقوية وتضعيفا ، ما قدروا إلا على حجج ودلائل غير كافية ، وشكوك وشبه ضعيفة واهية . 13 - فمن الأدلّة الدالّة على امتناع وجود الكلّى الطبيعي ما أورده المحقّق الطّوسى في رسالته المعمولة في أجوبة المسائل الّتي سأله عنها الشّيخ صدر الدّين القونوى قدس سرّه وهو أنّ الشّيء العينىّ لا يقع على أشياء متعددة ، فإنّه إن كان في كلّ واحد من تلك الأشياء لم يكن شيئا بعينه ، بل كان أشياء ، وإن كان في الكلّ من حيث هو كل ، والكلّ من هذه الحيثيّة شيء واحد ، فلم يقع على أشياء ، وإن في الكلّ بمعنى التّفرّق في آحاده كان في كلّ واحد جزء من ذلك الشّيء ، وإن لم يكن في شيء من الآحاد ولا في الكلّ لم يكن واقعا عليه . 14 - وأجاب عنه المولى العلّامة شمس الدّين الفناري في شرحه لمفتاح الغيب باختيار الشّق الأوّلوقال : معنى تحقّق الحقيقة الكليّة في أفرادها تحقّقها تارة متّصفة بهذا التّعيّن وأخرى بذلك التّعيّن ، وهذا لا يقتضي كونها أشياء كما يقتضي تحوّل الشّخص ص "7" الواحد في أحوال مختلفة بل متباينة كونه أشخاصا .ثمّ قال : فإن قلت : كيف يتّصف الواحد بالذّات بالأوصاف المتضادّة كالمشرقيّة والمغربيّة والعلم والجهل وغيرهما ؟ قلت .هذا استبعاد حاصل من قياس الكلّى على الجزئي والغائب على الشّاهد ولا برهان على امتناعه في الكلّى . 15 - ومنها ما أفاده المولى قطب الدّين الرّازى وهو أن عدّة من الحقائق كالجنس والفصل والنّوع تتحقّق في فرد ، فلو وجدت امتنع الحمل بينها ضرورة امتناع الحمل بين الموجودات المتعدّدة . 16 - وأجاب عنه العلّامة الفناري بأنّه من الجائز أن يكون عدّة من الحقائق المتناسبة موجودة بوجود واحد شامل لها من حيث هي كالأبوّة القائمة بمجموع أجزاء الأب من حيث هو مجموع ، ولا يلزم من عدم الوجودات المتعدّدة عدم الوجود مطلقا بل هم مصرّحون بأنّ جعل الجنس والفصل والنوع واحد . 17 - وأمّا الدّلائل الدّالّة على وجود الكلّى الطّبيعى في الجملة فليست ممّا يفيد هذا المطلوب على اليقين بل على الاحتمال مع أنّها مذكورة في ص "8" الكتب المشهورة مع ما يرد عليها ، فلهذا وقع الإعراض عن إيرادها والاشتغال بما يدلّ على إثبات هذا المطلوب بعينه . 18 - فنقول : لا شكّ أنّ مبدأ الموجودات موجود ، فلا يخلو إمّا أن يكون حقيقة الوجود أو غيره ، لا جائز أن يكون غيره ضرورة احتياج غير الوجود في وجوده إلى غير هو الوجود ، والاحتياج ينافي الوجوب ، فتعيّن أن يكون حقيقة الوجود .فإن كان مطلقا ثبت المطلوب وإن كان متعيّنا يمتنع أن يكون التعيّن داخلا فيه وإلّا لتركّب الواجب ، فتعيّن أن يكون خارجا . فالواجب محض ما هو الوجود والتعيّن صفة عارضة . 19 - فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون التعيّن عينه ؟قلت : إن كان التعيّن بمعنى ما به التعيّن يجوز أن يكون عينه ، لكن لا يضرّنا ، فإنّ ما به تعيّنه ، إذا كان ذاته ، ينبغي أن يكون هو في نفسه غير متعيّن وإلّا تسلسل وإن كان بمعنى التشخّص لا يجوز أن يكون عينه لأنّه من المعقولات الثّانية الّتي لا يحاذى بها أمر في الخارج . 20 - ثمّ إنّه لا يخفى على من تتبّع معارفهم المبثوثة في كتبهم ص « 9 »أنّ ما يحكى من مكاشفاتهم لا يدلّ إلّا على إثبات ذات مطلقة محيطة بالمراتب العقليّة والعينيّة منبسطة على الموجودات الذّهنيّة والخارجيّة ليس لها تعيّن يمتنع معه ظهورها مع تعيّن آخر من التعيّنات الإلهيّة والخلقيّة ، فلا مانع أن يثبت لها تعيّن يجامع التعيّنات كلها ، لا ينافي شيئا منها ، ويكون عين ذاته غير زائد عليه لا ذهنا ولا خارجا ، إذا تصوّره العقل بهذا التعيّن امتنع عن فرضه مشتركا بين كثيرين اشتراك الكلّى بين جزئيّاته لا عن تحوّله وظهوره في الصّور الكثيرة والمظاهر الغير المتناهية علما وعينا وغيبا وشهادة بحسب النّسب المختلفة والاعتبارات المتغايرة . 21 - واعتبر ذلك بالنّفس النّاطقة السّارية في أقطار البدن وحواسّها الظّاهرة وقواها الباطنة بل بالنّفس النّاطقة الكمالية ، فإنّها إذا تحقّقت بمظهريّة الاسم الجامع كان التروص من بعض حقائقها اللّازمة فتظهر في صور كثيرة من غير تقيّد وانحصار ، فتصدق تلك الصور عليها وتتصادق لاتّحاد عينها كما تتعدّد لاختلاف صورها . ص "10" 22 - ولذا قيل في إدريس عليه السلام إنّه هو إلياس المرسل إلى بعلبك لا بمعنى أن العين خلع الصّورة الإدريسية ولبس الصّورة الإلياسيّة وإلا كان قولا بالتّناسخ بل إن هويّة إدريس مع كونها قائمة في أنيّته وصورته في السّماء الرابعة ظهرت وتعيّنت في إنيّة إلياس الباقي إلى الآن ، فتكون من حيث العين والحقيقة واحدة ومن حيث التعيّن الصوري اثنتين كنحو جبريل وميكائيل وعزرائيل يظهرون في الآن الواحد في مائة ألف مكان بصور شتّى كلّها قائمة بهم . 23 - وكذلك أرواح الكمّل كما يروى عن قضيب البان الموصلي رحمة اللّه عليه أنه كان يرى في زمان واحد في مجالس متعددة مشتغلا في كل بأمر غير ما في الآخر ، ولمّا لم يسع هذا الحديث أوهام المتوغلين في الزمان والمكان تلقوه بالرد والعناد ، وحكموا عليه بالبطلان والفساد .وأما الذين منحوا التوفيق للنجاة من هذا المضيق فلمّا رأوه متعاليا عن الزمان والمكان علموا أن نسبة جميع الأزمنة والأمكنة إليه نسبة واحدة متساوية ، فجوّزوا ظهوره في كل زمان وكل مكان بأىّ شأن شاء وبأي صورة أراد . 24 - تمثيل . إذا انطبعت صورة واحدة جزئية في مرايا متكثرة متعددة مختلفة ص "11" بالكبر والصغر والطول والقصر والاستواء والتحديب والتقعير وغير ذلك من الاختلافات فلا شك أنها تكثرت بحسب تكثر المرايا واختلفت انطباعاتها بحسب اختلافاتها وأن هذا التكثر غير قادح في وحدتها ، والظهور بحسب كل واحدة من تلك المرايا غير مانع لها أن تظهر بحسب سائرها .فالواحد الحق سبحانه ، وللّه المثل الأعلى ، بمنزلة الصورة الواحدة والماهيات بمنزلة المرايا المتكثرة المختلفة باستعداداتها .فهو سبحانه يظهر في كل عين عين بحسبها من غير تكثر وتغير في ذاته المقدسة من غير أن يمنعه الظهور بأحكام بعضها عن الظهور بأحكام سائرها ، كما عرفته في المثال المذكور .25 - في وحدته تعالى . لما كان الواجب تعالى عند جمهور المتكلمين حقيقة موجودة بوجود خاصّ ، وعند شيخيهم والحكماء وجودا خاصّا ، احتاجوا في إثبات وحدانيته ونفى الشريك عنه إلى حجج وبراهين كما أوردوها في كتبهم .وأما الصوفية القائلون بوحدة الوجود فلما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود المطلق لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحيده ونفى الشريك عنه فإنه لا يمكن أنص "12" يتوهّم فيه اثنينية وتعدد من غير أن يعتبر فيه تعين وتقيد ، فكل ما يشاهد أو يتخيّل أو يتعقّل من المتعدد فهو الموجود أو الوجود الإضافى لا المطلق ، نعم يقابله العدم وهو ليس بشيء .26 - ثم إن للوجود الحق سبحانه وحدة غير زائدة على ذاته وهي اعتباره من حيث هو هو ، وهي ليست بهذا الاعتبار نعتا للواحد بل عينه ، وهي المراد عند المحققين بالأحدية الذاتية ، ومنها تنتشئ الوحدة والكثرة المعلومتان للجمهور أعنى العدديتين ، وهي إذا اعتبرت مع انتفاء جميع الاعتبارات سميّت أحدية ، وإذا اعتبرت مع ثبوتها سميت واحدية .27 - القول الكلى في صفاته تعالى . ذهبت الأشاعرة إلى أنّ للّه تعالى صفات موجودة قديمة زائدة على ذاته ، فهو عالم بعلم قادر بقدرة مريد بإرادة وعلى هذا القياس ، وذهب الحكماء إلى أنّ صفاته سبحانه عين ذاته ، لا بمعنى أن هناك ذاتا وله صفة وهما متّحدان حقيقة بل بمعنى أن ذاته تعالى يترتّب عليه ما يترتب على ذات وصفة معا ، مثلا ذاتك ليست كافية في انكشاف الأشياء ص "13" عليك بل تحتاج في ذلك إلى صفة العلم التي تقوم بك ، بخلاف ذاته تعالى فإنه لا يحتاج في انكشاف الأشياء وظهورها عليه إلى صفة تقوم به بل المفهومات بأسرها منكشفة عليه لأجل ذاته ، فذاته بهذا الاعتبار حقيقة العلم وكذا الحال في القدرة فأن ذاته مؤثّرة بنفسها لا بصفة زائدة عليها كما في ذواتنا ، فهي بهذا الاعتبار قدرة ، وعلى هذا يكون الذات والصفات متحدة في الحقيقة متغايرة بالاعتبار والمفهوم . 28 - وأما الصوفية فذهبوا إلى أنّ صفاته سبحانه عين ذاته بحسب الوجود وغيرها بحسب التعقل ، قال الشيخ رضى اللّه تعالى عنه : قوم ذهبوا إلى نفى الصفات وذوق الأنبياء والأولياء يشهد بخلافه وقوم أثبتوها وحكموا بمغايرتها للذات حقّ المغايرة وذلك كفر محض وشرك بحت . 29 - وقال بعضهم قدّس اللّه أسرارهم : من صار إلى إثبات الذات ولم يثبت الصفات كان جاهلا مبتدعا ومن صار إلى إثبات صفات مغايرة للذاتفلا يلزم أن يكون على تلك النسبة ، فيمكن أن يكون الصادر أولا بالوجود العيني أكثر من واحد كما ذهب إليه الصوفية الموحّدة قدس اللّه أسرارهم .ص "14" حقّ المغايرة فهو ثنوى كافر ومع كفره جاهل . وقال أيضا : ذواتنا ناقصة وإنما تكمّلها الصفات ، فأما ذات اللّه تعالى فهي كاملة لا تحتاج في شيء إلى شيء ، إذ كل ما يحتاج في شيء إلى شيء فهو ناقص والنقصان لا يليق بالواجب تعالى .فذاته تعالى كافية للكل في الكل ، فهي بالنسبة إلى المعلومات علم وبالنسبة إلى المقدورات قدرة وبالنسبة إلى المرادات إرادة ، وهي واحدة ليس فيها اثنينية بوجه من الوجوه .30 - القول في علمه تعالى . أطبق الكل على إثبات علمه سبحانه إلا شرذمة قليلة من قدماء الفلاسفة لا يعبأ بهم .ولما كان المتكلمين يثبتون صفات زائدة ، على ذاته تعالى لم يشكل عليهم الأمر في تعلق علمه سبحانه بالأمور الخارجة عن ذاته بصور مطابقة لها زائدة عليه .31 - وأما الحكماء فلما لم يثبتوها اضطرب كلامهم في هذا المقام ، وحاصل ما قاله الشيخ في الإشارات أن الأول لما عقل ذاته بذاته وكان ذاته علة للكثرة ، لزمه تعقل الكثرة بسبب تعقله لذاته . فتعقله للكثرة لازم معلول له ، فصور
ص "15"الكثرة ، التي هي معقولاته ، معلولاته ولوازمه مترتبة ترتب المعلولات ، فهي متأخرة عن حقيقة ذاته تأخر المعلول عن العلة ، وذاته ليست متقومة بها ولا بغيرها ، بل هي واحدة وتكثر اللوازم والمعلولات لا ينافي وحدة علتها الملزومة إيّاها سواء كانت تلك اللوازم متقررة في ذات العلة أو مباينة له ، فإذن تقرر الكثرة المعلولة في ذات الواحد القائم بذاته المتقدم عليها بالعليّة والوجود لا يقتضي تكثره . والحاصل أن واجب الوجود واحد ووحدته لا تزول بكثرة الصور المتقررة فيه . 32 - واعترض عليه الشارح المحقق بأنه لا شك في أنّ القول بتقرر لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا ، وقول بكون الأول موصوفا بصفات غير إضافية ولا سلبية ، وقول بكونه محلا لمعلولاته الممكنة المتكثرة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وقول بأنّ معلوله الأول غير مباين لذاته وبأنه تعالى لا يوجد شيئا ممّا يباينه بذاته بل بتوسط الأمور الحالّة فيه إلى غير ذلك ممّا يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء . والقدماء القائلون بنفي العلم عنه تعالى ، وأفلاطون القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها ، والمشّاءون القائلون باتحاد العاقل والمعقول إنما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني .يتبع
كتاب الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء المتقدمين الشيخ نور الدين عبد الرحمن جامي وورد
كتاب الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء المتقدمين الشيخ نور الدين عبد الرحمن جامي PDF
كتاب الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء المتقدمين الشيخ نور الدين عبد الرحمن جامي TXT