أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية على مدونة عبدالله المسافر باللهأطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية المثنوي المعنوي الجزء الرابع ترجمة وشرح د. إبراهيم الدسوقي شتا
أطوار خلق الإنسان ومنازلة من البداية
- لقد جاء في البداية إلى إقليم الجماد ، ومن الجمادية انتقل إلى ( المرحلة ) النباتية .
- وعمر في المرحلة النباتية بضع سنوات ، وهو لا يذكر في بحبوحة النباتية شيئا عن الجمادية .
..............................................................
( 1 ) البيت في نسخة جعفري تحت العنوان الذي يتلوه ( ج - 11 / ص 55 )
« 352 »
- وعندما انتقل من المرحلة النباتية إلى المرحلة الحيوانية ، لم يذكر شيئا قط من أحوال المرحلة النباتية .
3640 - اللهم إلا هذا الميل الموجود لديه إلى النبات ، خاصة في وقت الربيع ، وأوان الرياحين .
- تماما كميل الأطفال إلى أمهاتهم ، دون أن يعلموا أن سر هذا الميل هو الرضاع .
- وكذلك الميل المفرط من كل مريد جديد في الطريق ، إلى شيخه فتى الاقبال .
- فهو بمثابة العقل الجزئي والشيخ بمثابة الكلى، وحركته منه كحركة الظل من غصن الورد.
- وفي النهاية يفنى ظله فيه ، فيعلم - من ثم - سر ميله إليه وطلبه إياه .
3645 - ويا أيها المقبل ، متى يتحرك هذا الغصن مرة ثانية إن لم تتحرك الشجرة من أساسها ؟ .
- ثم يجذبه ذلك الخالق الذي تعلمه مرة ثانية من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة الإنسانية .
- وهكذا ، فقد انتقل من إقليم إلى إقليم ، حتى صار الآن عاقلا عالما عظيما .
- ولا يتذكر شيئا عن عقوله الأولى وأنه قابل أيضا للتحول عن هذا العقل الذي هو فيه .
- وإنه عندما يتخلص من هذا العقل الملئ بالحرص والطلب ، يرى مئات الآلاف من العقول العجيبة .
« 353 »
3650 - وإذا كان قد صار نائما وناسيا ما فات ، فمتى يترك نسيانه ذاك .
- إنه يجذب من نومه هذا إلى اليقظة ، بحيث يسخر من أحواله ( السالفة ) .
- متسائلا : أي حزن ذاك الذي أحسه في النوم وكيف نسيت أحوال الصواب ؟ !
- وكيف لم أعلم أن ذلك الحزن والاعتلال هو من فعل النوم . ومجرد خداع وخيال ؟ .
- وكذلك الدنيا ، فهي مجرد حلم نائم ، والنائم يظن أن نومه دائم
3655 - حتى ينبثق على حين غرة صبح الأجل ، فينجو من ظلمة الظن والوهم والخداع .
- فيضحك ساخرا من أحزانه تلك ، عندما يرى نفسه مستقرا في مكانه .
- وكل ما تراه في النوم من خير وشر ، يبدو لك يوم الحشر ظاهرا عملا عملا .
- وكل ما فعلته في نوم الدنيا هذه ، يصبح لك عند اليقظة واضحا عيانا بيانا .
- حتى لا تظنن أن فعل الشر هذا هو مجرد رؤيا نائم ، ولا تفسير لها من أجلك .
3660 - بل إن ذلك الضحك يكون بكاء وعويلا في يوم التعبير يا ظالما للأسير .
- وأعلم أن بكاءك وألمك وحزنك وعويلك ، يصير فرحا وسرورا عند يقظتك .
- وأنت يا من مزقت جلود أمثال يوسف تنهض من نومك هذا ذئبا .
« 354 »
- وصارت كل خصلة من خصالك ذئبا لا يفتأ ينهش أعضاءك غضبا .
- والدم لا ينام بعد موتك من القصاص ، فلا تقل : لقد مت إذن ووجدت الخلاص .
3665 - وإن هذا القصاص ( في الدنيا ) هو جزاء احتيالك ومكرك ، وهو بالنسبة لذلك القصاص ( في الآخرة ) مجرد ألعوبة .
- ومن هنا فقد سمى هذه الدنيا لهوا ولعبا ، ذلك أن هذا الجزاء مجرد لهو ولعب أمام ذلك الجزاء .
- إن هذا الجزاء مجرد تسكين للخصومة والفتنة ، إنه كالختان ، وذاك الجزاء في الآخرة مثل الخصي .
بيان أن أهل جهنم جوعى ومتضرعون إلى الحق قائلين : أكثر أرزاقنا ،
وعجل لنا في إرسال الزاد ، فلم يبق لدينا صبر .
- يا موسى . . هذا الكلام لا نهاية له ، هيا . . ودع هذه الحمر في رعيها !
- حتى تسمن كلها من هذا الرعى الجيد ، هيا ، فإن عندنا ذئابا غاضبة في إنتظارها .
3670 - ونحن نعلم أن ذئابنا آخذه في العواء ، ولنجعل هذه الحمر إذن طعاماً لها .
- وإن تلك الكيمياء طيبة النفس المنبعثة من شفتيك أرادت أن تحول هذه الحمير إلى بشر .
- ولقد دعوت كثيرا باللطف والجواد ، ولم يكن لتلك الحمر طالع ورزق .
- فابسط عليهم إذن لحاف النعم مغطيا إياهم به ، وذلك حتى يخطفهم نوم الغفلة سريعا .
« 355 »
- وعندما تفرغ هذه الجماعة من نوم ( ثقيل ) كهذا يكون الشمع قد انطفأ والساقي قد مضى .
3675 - لقد حيرك طغيانهم ، فدعهم يشعرون بالحسرة عندما يقرأون ( جزاهم ) .
- فما أن يخرج عدلنا بقدمه إلى الوجود ، حتى يعطى لكل عاص الجزاء الجدير به .
- ( ويعلمون ) أن ذلك المليك الذي لم يكونوا يرونه عيانا ، كان موجودا معهم في عالم المعاش مخفيا عن عيونهم
- وما دام العقل موجودا معك مشرفا على جسدك ، لكن رؤيتك كانت قاصرة عن وجوده .
- وبسبب رؤيتك القاصرة يا هذا ، إنه دائما يمتحن حركاتك وسكناتك
3680 - فأي عجب أن يكون خالق ذلك العقل موجودا معك أيضا وكيف لا تجيز هذا الأمر ؟ !
- ألا يكون المرء غافلا عن عقله ويحوم حول الشر ، ثم يلومه عقله فيما بعد ؟ !
- لقد صرت غافلا عن عقلك ، لكن عقلك لم يغفل عنك ، فمن حضوره تكون الملامة .
- وإذا لم يكن حاضرا وكان غافلا ( مثلك ) ، فمتى كان يقوم بصفعك عند اللوم ؟ !
- وإذا لم تكن نفسك غافلة ، فمتى كانت تقوم بكل هذا الجنون والفساد ؟ .
3685 - إذن فعقلك بالنسبة لك ( أيها الإنسان ) كالإصطرلاب ، فمنه تعرف قرب ( سطوع ) شمس الوجود .
« 356 »
- وعقلك قريب منك قربا بلا كيفية ، ليس عن يمينك ولا عن يسارك ولا قدامك أو وراءك .
- فكيف لا يكون للمليك قرب بلا كيفية ، لا يستطيع العقل أن يحدد الطريق إليه أو ماهيته ؟ .
- وليست هذه الحركة في أصبعك أمام هذا الأصبع أو خلفه أو عن يساره أو عن يمينه .
- إنها تمضى عنه عند النوم والموت ، وتكون معه عند اليقظة ( والحياة ) .
3690 - فمن أي طريق تأتى هذه ( الحركة ) إلى إصبعك ، وبدونها لا فائدة من إصبعك
- ونور العين وإنسان العين عندك من أي طريق أتى . . . غير الجهات الستة ؟ .
- إن عالم الخلق ذو اتجاهات وجهات ، لكن فأعلم أن عالم الأمر هو والصفات فوق الجهات .
- وأعلم أن عالم الأمر هو بلا جهات أيها المحبوب ولا جرم أن تكون الجهات أكثر انتقاء عن الآمر .
- وبلا جهة كان العقل ، وعلام البيان أكثر عقلا من العقل وأكثر روحا من الروح .
3695 - ولا يوجد مخلوق قط بلا تعلق أو اتصال به ، لكن ذلك الاتصال بلا كيفية أيها العم .
- ذلك أن الروح لا فصل فيها ولا وصل ، لكن الظن لا يفكر إلا في الفصل والوصل .
« 357 »
- فافهم من الدليل ما هو غير الوصل وغير الفصل ، لكن هذا الفهم لا يشفى الغليل .
- واسع دائما إن كنت بعيدا عن الأصل ، حتى يأتي بك عرق الرجولية إلى الوصل .
- وكيف نفهم العقل هذه الصلة وهذا العقل مرتبط بالفصل والوصل ؟ !
3700 - ومن هنا فإن المصطفى عليه السلام قد نهانا عن البحث في ذات الله .
- ذلك أن ما هو قابل للتفكير في ذاته ، هو في الحقيقة ( في ذات المفكر ) ليس في ذاته هو ( جل وعلا ) .
- إنه ظنه هو ، ذلك أنه في الطريق . . . هناك مئات الآلاف من الحجب . . . حتى الإله .
- وكل إمرىء في حجاب ذي صلة بطبيعته وجبلته ، لكن وهمه ( يملى عليه ) أن هذا الحجاب هو ذات ( الله ) .
- ومن ثم فإن الرسول قد دفع هذا الوهم عنه ، حتى لا يتمادى في تربية الوهم على سبيل الخطأ .
3705 - وذلك الذي يكون في توهمه ترك للأدب ، فإن الله سبحانه وتعالى قد نكس من لا أدب عنده .
- وهذا النكس يكون فحواه أنه يمضى إلى الحضيض بينما يظن أنه منتصر وغالب وسام .
- ذلك أن حد الثمل هو ألا يستطيع التمييز بين السماء والأرض .
- ففكروا إذن فى آلائه وعجائبه ، وتوهوا ( عن ذواتكم ) من العظمة والمهابة .
- وعندما يفقد المرء من ( مشاهدة ) صنعه كبرياءه وإدعاءه « 1 » يعرف حده . . . ويقر بالصانع .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : لحيته وشاربه .
« 358 »
3710 - ولا يهتف من أعماق روحه إلا بلا أحصي ( ثناء عليك ) ، فإن بيان ( تلك العظمة ) خارج عن الحد والحصر .
ذهاب ذي القرنين إلى جبل قاف وسؤاله إن يحدثه عن عظمة صفات الحق ،
وجواب جبل قاف عليه بأن الحديث عن عظمة الحق وصفات عظمة
لا تتأتى في بيان فأمامها تفنى الأفهام وتضرع ذي القرنين إليه قائلا :
حدثني عما تذكر من صنائعه وما ترى قوله سهلا عليك .
- ذهب ذو القرنين إلى جبل قاف ، فرأى إنه من الزمرد الصافي .
- قد أحاط بالعالم إحاطة السوار بالمعصم « 1 » ، فتحير في ذلك الخلق اليسير ( علي الله تعالى ) .
- فقال : إذا كنت جبلا فماذا تكون تلك الجبال الأخرى، إنها بالقياس إلي عظمتك مجرد دمى.
- قال : إن هذه الجبال هي عروقي ، ولا تكون مثلي في الحسن والبهاء .
3715 - إن لي عرقا خفيا في كل مدينة ، وأطراف الدنيا مجموعة بهذه العروق .
- وعندما يريد الحق أن يبتلى إحدى المدن بزلزال، يأمرني بأن أحرك العرق (الخاص بها).
- فأحرك طبقا للقهر ( الإلهى ) ذلك العرق الذي تكون تلك المدينة متصلة به .
- وعندما يقول : كفي تسكن عروقي ، لكن هذا السكون سكون بالعقل وأكون أنا في حركة .
- كالمرهم يكون ساكنا لكنه شديد الفعالية ، كالعقل يكون ساكنا والكلام في حركة منه .
..............................................................
( 1 ) حرفيا : كالحلقة .
« 359 »
3720 - وفي رأى ذلك الذي لا يستطيع عقله أن يدرك هذا الأمر ، أن الزلازل تحدث من أبخرة الأرض ! « 1 »
كانت نملة تسير على « ورقة » فرأت كتابة القلم ، فأخذت في مدح القلم ،
فقالت نملة أحد بصرا : إمداحى الأصابع فإني أرى أن هذا فصلها ،
فقالت نملة أخرى أحد بصرا منها وأنا أمدح الساعد فالأصابع
فرع من الساعد . . . إلى آخره
- رأت نملة صغيرة قلما ( خط ) على ورقة ، فباحت بهذا السر لنملة أخرى .
- قائلة : لقد قام هذا القلم بعجائب الصور والنقوش ، لقد نقش الريحان ومزرعة السوسن . . والورود .
- فقالت تلك النملة : إن الإصبع هي التي قامت بكل هذا الصنع ، والقلم في فعله مجرد فرع وأثر .
- فقالت النملة الثالثة : إن هذا ( من فعل ) الساعد ، فإن الإصبع النحيلة قامت بالتصوير بقوته .
3725 - وهكذا أخذت ( كل نملة ) تمضي إلى ( علة ) أعلى . . حتى رئيسة النمل التي كانت أكثر فطنة بقليل .
- قالت : لا تنظروا إلى هذا الفن من مجرد الصورة فإن هذه الصورة تفقد حسها بالنوم والموت !
- فالصورة كأنها اللباس وكأنها العصا ، وليس إلا بالعقل والروح تتحرك الصور .
..............................................................
( 1 ) . ( 2 ) ج / 11 - 76 : ليس من أبخرة الأرض ، إنه من أمر الحق ومن هذا الجبل المرسل ! !
« 360 »
- لقد كانت ( تلك النملة الذكية ) غافلة أيضا عن أن ذلك العقل والفؤاد هما أيضا دون تقليب الله مجرد جماد .
- وأنه إن صرف عنايته عنه لحظة واحدة ، فإن عقل الذكي يقوم بكثير من البلاهات .
3730 - « 1 » وعندما وجد ذو القرنين ( الجبل ) ناطقا ، قال عندما ثقب جبل قاف در النطق .
- أيها المتحدث الخبير العالم بالسير ، حدثني ببيان ( فصيح ) عن صفات الحق .
- قال : إمض ، فإن هذا الوصف أعظم من أن يستطيع بيان أن يتحدث عنه ،
- أو تكون للقلم جرأه أن يكتب بسنه علي الصحف خبرا ( عن ) هذه الصفات .
- قال : حدثني عن نبذة من عجائب الحق أيها الحبر الطيب .
3735 - قال : هذه صحراء تقطع في ثلاثمائة سنة ، ولقد ملأها المليك بجبال من الثلج .
- جبال من الثلج متراكمة فوق بعضها لا يحدها عد أو حصر ، يصل إليها في كل لحظة مدد من الثلج ،
- يحف جبل من الثلج بجبل آخر من الثلج ، ويوصل الثلج البرودة حتى الثري .
- ولحظة بلحظة يطا من جبل من الثلج جبلا آخر من الثلج ، لحظة بعد أخري في المخزن العجيب الذي لا حد له .
- ولو لم يكن مثل هذا الوادي موجودا أيها العظيم ، لكانت حرارة الجحيم قد قامت بمحوى والقضاء على .
..............................................................
( 1 ) هنا عنوان في نسخة جعفري ( ج - 11 / 80 ) التماس ذي القرنين لجبل قاف ليبن له صنعا من صنائع الله .
« 361 »
3740 - فأعلم أن الغافلين هم بمثابة جبال الثلج ، ذلك لكي لا تحترق حجب العاقلين .
- ولو لم تكن صورة الجهل الناسجة للثلوج ، لاحترق جبل قاف هذا من نار الشوق .
- إن النار في حد ذاتها ذرة من غضب الله وقهره ، وهي بمثابة الدرة من أجل ردع اللؤماء .
- ومع مثل هذا القهر الذي هو مهول ويفوق الحد ، أنظر إلي برد لطفه الذي سبقه .
- إنه سبق معنوي لا مثال له ، ولقد رأيت السابق والمسبوق دون أن تكون هناك إثنينية .
3745 - وإن لم تر هذا فالسبب هو الفهم الدني ، فإن عقول الخلق بالنسبة لهذا المنجم كحبة شعير .
- فاعتبر أن العيب من نفسك لا من آيات الدين ، فمتي يحلق في أفلاك الدين طائر الطين ؟ !
- إن هذه الطيور لا تحلق في مكان أعلي من هذا الفضاء ، ذلك لأن نشأتها ونموها من الشهوة ومن الهوي . . .
- فكن حائرا إذن دون إنكار أو إقرار ، ربما يتقدمك عون من الرحمة ومحمل .
- فما دمت غبيا و ( دون ) فهم هذه العجائب ، تكون قد تكلفت . . إذا أقررت أو أنكرت .
3750 - وإن قلت لا ، فإن لا هذه تضرب عنقك ، ويسد القهر ب - « لا » هذه كوة ( الرحمة ) أمامك .
- إذن فكن حائرا ووالها فحسب ، حتى يأتيك نصر الحق من قدام ومن وراء .
« 362 »
- وما دمت قد أصبحت حائرا مندهشا فانيا فقد قلت بلسان الحال : إهدنا .
- إنها ( حقيقة ) شديدة العظمة وعندما ترتعد أمامها ، تصير تلك العظمة رقيقة مستوية .
- ذلك أن السحنة العظيمة المهابة تكون من أجل المنكر ، لكنك إن أبديت العجز تكون لك لطفا وبرا .
إظهار جبريل عليه السلام للمصطفى صلى الله عليه وسلم لصورته ،
وعندما ظهر جناح واحد من أجنحته السبعمائة سد الأفق
وحجب الشمس بكل أشعتها
3755 - أخذ المصطفى يقول لجبريل ، أظهر لي صورتك كما هي أيها الخليل .
- بحيث تكون محسوسة وظاهرة ، حتى أراك رأي العين .
- قال : إنك لن تتحمل ، فلا طاقة لك بهذا ، فالحس ضعيف ودقيق ، ويشق الأمر عليك .
- قال ( المصطفى ) : فلتبد لي حتى يري هذا الجسد إلي أي مدي هو رقيق ضعيف وبلا مدد .
- فإن حس الجسد في الإنسان سقيم ضعيف ، لكنه ببساطة خلق عظيم
3760 - إن هذا الجسد علي مثال الحجر والحديد ، لكن فيه صفة الزند ( يولد النار ) .
- والحديد والنار هما منشأ إيجاد النار ، ومولد النار القاهرة من هذين الوالدين .
- ثم إن النار مسلطة علي صفة البدن ، فهي قاهرة له مضرمة لهبها فيه !
« 363 »
- ثم إن في بدن الإنسان شعلة كإبراهيم الخليل ، بصير برج النار مقهورا منها « 1 » .
- فلا جرم أن قال ذلك الرسول صاحب الفضائل رمز « نحن الآخرون السابقون » .
3765 - إن ظاهر هذين أي الجسد والحديد أن كليهما ضعيف أمام السندان ، لكنهما في الصفة يزيدان ( في القوة ) عن مناجم حديد .
- فالإنسان في صورته فرع من فروع هذا الكون ، لكن إعلم أنه بصفته أصل هذه الدنيا .
- إن ظاهرة تؤدي بعوضته إلي الدوار حول نفسه ، لكن باطنه محيط بالأفلاك السبعة .
- وعندما ألح عليه ( المصطفى ) أبدي ( جبريل ) قليلا ( من كثير ) وكان لهذا القليل هيبة يندك منها الجبل .
- لقد أبدي جناحا واحدا احتوي الشرق والغرب ومن الهيبة أغمي علي المصطفى .
3770 - وعندما رآه فاقد الوعي من الخوف والرعب ، جاء جبريل وأخذه بين أحصانه .
- قائلا له : إن هذه المهابة هي نصيب الغرباء ، لكن اللطف عندنا مبذول للأحبة دون ثمن .
- إن الملوك عندما يركبون ( في مواكبهم ) تتم لهم الهيبة من القواد والسيوف ( مشرعة ) في أيديهم .
- وصيحات الإبعاد والحراب والسيوف ، بحيث يرتعد الأبطال الشجعان مهابة وخوفا .
..............................................................
( 1 ) هنا زائد في نسخة جعفري ( 11 / 85 ) هو :
إنك أن أخرجت من داخلك نار ( الشهوة ) ، فإن نارك تصير ملكا منقادة إليك .
« 364 »
- وأصوات الحراس وتلك الصولجانات ، التي تهلع الأرواح رعبا منها .
3775 - إن هذا كله من أجل المارين من الخواص والعوام ، بحيث تجعلهم يعرفون أن الملك ( سوف يمر ) .
- تكون هذه المهابة من أجل العوام ، حتى لا ترتدي هذه الجماعة قلنسوة الكبرياء !
- حتى تنكسر نفوسهم وتنسحق ذواتهم ، وتكف نفوسهم المغرورة عن الفتنة والشر .
- ومن هذا تأمن المدينة ، ذلك أن الملك عنده في غضبه الضرب والأخذ والاعتقال .
- فتموت تلك الشهوات في النفوس ، وتمنع هيبة الملك من وقوع هذه ( الفتن ) المنحوسة .
3780 - لكنه عندما يأتي نحو مجلسه الخاص ، متي تكون هناك مهابة أو قصاص ؟ .
- إنه حلم مجسد ورحمة جياشة فوارة ، ولا تسمع صوتا إلا أنغام الصنج والناي .
- إن الطبل والكوس تكون رعبا في أوان الحرب ، لكن عند الله و مع الخواص هناك أنغام الصنج .
- إن ديوان المحاسبات يكون من أجل العوام ، لكن حور الوجوه يكن قريعات الكئوس .
- وذلك الدرع وتلك الخوذة تكونان من أجل الحرب والقتال ، وتلك الأوتار « 1 » وذلك الرود « 2 » من أجل الخميلة .
..............................................................
( 1 ) في النص حرير والمقصود به الأوتار .
( 2 ) اسم آلة موسيقية شبيهة بالعود .
« 365 »
3785 - إن هذا الكلام لا نهاية له أيها الجواد ، فاختمه والله أعلم بالرشاد .
- إن ذلك الحس الذي هو غارب عند أحمد ، قد نام الآن تحت تراب يثرب .
- لكن عظيم الخلق ، ذلك البطل الذي شق الصفوف ، في مقعد صدق لم يطرأ عليه تغير .
- إن أوصاف الجسد هي موضع التغيير ، لكن الروح الباقية شمس ساطعة .
- فلا يطرأ عليها تغيير إذ أنها « لا شرقية » ، ولا يعتريها تبديل إذ أنها « لا غريبة » .
3790 - ومتي تصاب شمس بالدهشة أمام ذره ؟ ! ومتي يصير الشمع فاقد الوعي من الفراشة ؟ !
- لقد كان للجسد صلة بهذا الأمر ، فأعلم أن هذا التغير مرتبط بهذا الجسد فحسب .
- كما يطرأ عليه المرض والنوم والألم ، لكن الروح تكون منفصلة عن هذه الصفات بريئة منها .
- أنني لا أستطيع الحديث عن وصف الروح ولو تحدثت عنها ، لزلزل هذا الكون والمكان زلزاله !
- فلو كان جسده عليه السلام وهو علي مثال الثعلب قد اضطرب للحظة ، أكان أسد الروح قد نام هو الآخر في تلك اللحظة ؟ !
3795 - أيكون ذلك الأسد البريء من النوم والغفلة قد نام ؟ ! هاك إذن أسد مخيف رقيق . !
- إن الأسد ليتظاهر بالنوم بحيث تظن هذه الكلاب أنه قد مات تماما .
- وإلا فمن كان يجرؤ في هذه الدنيا علي اختطاف شيء مهما كان حقيرا « 1 » من أحد الضعفاء ؟ !
..............................................................
( 1 ) حرفيا : تربده وهي نبات مسهل .
« 366 »
- لقد خدش جسد أحمد من تلك النظرة ( إلي جبريل ) ، لكن بحره ( روحه ) من حب الزبد صار شديد الجيشان .
- والقمر في حد ذاته ليس إلا كفا واهبة للنور، وإن لم يكن للقمر هذا الكف . . فقل له لا كنت.
3800 - ولو كان أحمد قد نشر هذا الجناح الجليل ، لا ندهش جبريل إلي الأبد .
- وعندما عبر أحمد السدرة ومرصدها ، وجاوز مقام جبريل وحده ،
- قال له : هيا ، طرفي أثري ، قال له : هيا إمض : إنني لست ندا لك .
- ثم قال له : تعال يا محرق الحجب ، إنني لم أمض إلي أوجي بعد ،
- قال : بعد هذا الحد - يا عظيم المجد - لو خفقت بجناحي لاحترق هذا الجناح .
3805 - إن هذه القصص حيرة في حيرة ، كحيرة الخواص تكون فيما هو أخص .
- وكل أنواع الحيرة هنا عبارة عن ألاعيب . . فكم روحا لديك، إن هنا مقام التضحية بالروح.
- فيا جبرائيل مهما كنت شريفا وعزيزا ، فلست بفراشة . . ولست أيضا بشمعة ؟ !
- والشمع عندما يدعو وهو في ألق ضوئه ، فإن روح الفراشة لا تتوفي الاحتراق .
- فلتدفن هذا الحديث المقلوب في تراب ( النسيان ) واجعل الأسد علي العكس صيدا لحمر الوحش .
3810 - واربط قربة كلامك الذي يتناثر كالبول ، ولا تفتح فوهة هميان عبثك وتخريفك .
« 367 »
- إن ذلك الذي لم تبارح أعضاؤه هذه الأرض ، يكون هذا الكلام أمامه معكوسا ويكون هذرا .
- « لا تخالفهم حبيبي ، دارهم ، يا غريبا نازلا في دارهم .
- أعط ما شاءوا وراموا أرضهم ، يا ظعينا ساكنا في أرضهم » « 1 » .
- وفي الوصول إلي الملك وإلي عزة تواءم أيها الضد مع ضدك « 2 » .
3815 - ويا موسي . . ينبغي لك أمام فرعون العصر . . . أن تتحدث هونا وأن تقول قولا لينا .
- فإنك إن وضعت الماء في الزيت المغلي ، فإنك تحطم الأثافي وتحطم القدر .
- تحدث هونا ، لكن لا تقل غير الصواب ولا تتبع الوسوسة في لين الخطاب .
- لقد حان وقت العصر فاقصر الكلام ، يا من بيانك منبه ومخبر لأهل العصر .
- وقل لآكل الطين أن السكر أفضل ، ولا تلن له في الفساد ولا تعطه الطين .
3820 - إنك « يا حسام الدين » روضة الروح لنطق الروح ، هذا إن استغنيت عن الحرف والصوت .
- إنه ( أي الحرف والصوت والحكايات ) أشبه برأس حمار في مزرعة قصب ، وما أكثر الناس الذين كانت لهم شوكا « في الطريق » .
- إنه يظن من بعيد أن الأمر هكذا فحسب ، فأخذ يتقهقر كأنه كبش مغلوب .
..............................................................
( 1 ) بالعربية في المتن .
( 2 ) حرفيا : تواءم أيها الرازي مع المروزي .
« 368 »
- فأعلم أن صورة الكلام هي رأس الحمار يقينا ، في كرم المعني والفردوس الأعلي .
- فياضياء الحق يا حسام الدين نصب رأس حمار في مزرعة الشهد هذه .
3825 - فما دامت رأس الحمار هذه قد ماتت وسلخت عن جسدها فإن هذا الوضع يهبها حياة أخري .
- هيا فمنا الصورة ومنك الروح . . لا أن هذا خطأ ، فكلاهما منك .
- إنك محمود علي الفلك . . أيتها الشمس المنتشرة ، فلتكن محمودا إلي الأبد فوق الأرض .
- حتى يصير الأرضي شريكا مع السماء العالية في القلب والقبلة والطبع .
- فتنتهي التفرقة والشرك والاثنينية ، ذلك أن الوحدة في الوجود المعنوي .
3830 - فما دامت روحي تعرف روحك ، فإنهما يعرفان معا ذلك الاتحاد الذي حدث .
- وموسي وهارون يصيران ممتزجين معا في الأرض كما يمتزج اللبن والعسل .
- وعندما تفهم روحي قليلا من الأمر وتنكر ذلك ، يصير الإنكار حجابا ساترا علي الحقيقة .
- ورب عارف قد حول وجهه ( عن الحقيقة ) ، وأغضب من حجوده ذلك القمر .
- ومن ثم فإن الروح الشريرة جهلت روح النبي ونبذتها وراء ظهرها .
3835 - لقد قرأت كل هذا فأقرأ أيضا «لم يكن» حتى تعلم عناد ذلك المجوسي القديم العنيد.
« 369 »
- وقبل أن تظهر صورة أحمد بمجدها ، كان ذكره تعويذة عند كل كافر .
- وكانت قلوبهم تخفق من مجرد تصور ظهور مثل هذا الشخص ووجوده ومن تخيل وجهه .
- كانوا يسجدون قائلين : يا رب البشر ، إيت به عيانا بأسرع ما يمكن .
- وعندما كانوا يستفتحون باسم أحمد ، كان طغاتهم ينقلبون .
3840 - وكلما حدثت حرب ضروس ، كان ذكر أحمد عونا لهم عليها .
- وحيثما كان هناك مرض مزمن ، كان ذكرهم له هو الدواء الشافي .
- كانت صورته تطوف في طرقهم وفي قلوبهم وفي آذانهم وفي أفواههم .
- ومتي يدرك كل من هو ( في طبع ) ابن آوي صورته ، بل فرعا من صورته أي خيالها .
- وإن صورته لو وقعت علي جدار لتساقط من قلب الجدار دم القلب .
3845 - ولصارت صورته مباركة بالنسبة للجدار ، ولتخلص من حالة كونه ذي وجهين .
- واتصافه بأنه ذو وجهين عيب عند إخوان الصفاء والذين يتميزون بأنهم ذوو وجه واحد .
- وكل هذا التعظيم والتفخيم والوداد ، ذهب كله إدراج الرياح عندما رأوه بصورته .
- لقد تعرض الزيف للنار فاسود لوقته ، ومتي كان للزيف طريق إلي القلب ؟ !
- وإن الزيف لينفج بشوقة إلي المحك ، حتى يلقي بالمرتدين في ( هاوية ) الشك .
3850 - ويسقط الخسيس في شباك مكره ، وهكذا يصدر هذا الظن عن كل خسيس ،
« 370 »
- ( إذ يظن ) قائلا : إن لم يكن هذا ذهبا خالصا متي كان ليرغب في حجر المحك .
- إنه يريد المحك ، لكن بحيث لا يبدو زيفة للعيان من هذا المحك .
- وذلك المحك الذي يخفي الصفات لا هو بالمحك ولا هو بنور المعرفة .
- والمرآة التي تخفي عيوب الوجه رعاية لخاطر كل ديوث .
3855 - لا تكون مرآة . . بل موجود منافق ، فلا تبحث عن مثل هذه المرآة ما استطعت . « 1 »
..............................................................
( 1 ) ج / 11 - 89 :
- أبحث عن مرآة صادقة القول لانفاق عندها واختم والله أعلم بالوفاق .
- حتى يصنع الله تعالى مرآتك نفسها بحيث تبدي العرش وكأنه السها .
- أي عرش . . وأي ملك يا ذا اللباب ، إفهم والله أعلم بالصواب .
.