لأبي حفص عمر بن الفارض سلطان العاشقين (576-632=1181-1235)،
مكانة عزيزة عند السالكين إلى رب العالمين ولاسيما المتصوفون؛ إذ نشأ بأسرة كريمة تصون العلم بالعمل،
فسبق منذ شب إلى طلب علوم الحقيقة ثم علوم الطريقة، وحببت إليه العزلة
حتى إنه رحل إلى مكة المكرمة -شرفها الله!- غيرَ حاج، وبقي فيها خمسة عشر عاما،
معتزلا الناس، ثم عاد إلى مصر بعدما تفجرت منه قصائده في عزلته تلك، مثلما يتفجر الماء من ينبوعه والغناء من عصفوره!
وهل يرجو الناس إلا أن يرزقوا شاعرا مثله، تعلم فسلك، وتعفَّف فاستغنى، وأنصت فغنَّى-
حتى تتعلق أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم، فيعوا ما لم يعوا، ويروا ما لم يروا، ويسمعوا ما لم يسمعوا:
قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّكَ مُتْلِفِي رُوحِي فِدَاكَ عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقَّ هَواكَ إِنْ كُنْتُ الَّذي لَمْ أَقْضِ فيهِ أَسًى وَمِثْلِيَ مَنْ يَفِي
مَا لِي سِوَى رُوحِي وَبَاذِلُ نَفْسِهِ فِي حُبِّ مَنْ يَهْوَاهُ لَيْسَ بِمُسْرِفِ
فَلَئِنْ رَضِيتَ بِها فَقَدْ أَسْعَفْتَني يَا خَيْبَةَ الْمَسْعَى إِذَا لَمْ تُسْعِفِ
يَا مَانِعِي طِيبَ الْمَنامِ وَمانِحِي ثَوْبَ السَّقامِ بِه وَوَجْدِي الْمُتْلِفِ
عَطْفًا عَلَى رَمَقِي وَمَا أَبْقَيْتَ لِي مِنْ جِسْمِيَ الْمُضْنَى وَقَلْبِي الْمُدْنَفِ
فَالْوَجْدُ بَاقٍ وَالْوِصَالُ مُمَاطِلِي وَالصَّبْرُ فَانٍ وَاللِّقاءُ مُسَوِّفِي
لَمْ أَخْلُ مِنْ حَسَدٍ عَلَيْكَ فَلا تُضِعْ سَهَرِي بتَشْنِيعِ الْخَيَالِ الْمُرجِفِ
وَاسْأَلْ نُجُومَ اللَّيْلِ هَلْ زَارَ الْكَرَى جَفْنِي وَكَيْفَ يَزُورُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ
لَا غَرْوَ إِنْ شَحَّتْ بِغُمْضِ جُفُونِها عَيْنِي وَسَحَّتْ بِالدُّمُوعِ الذُّرَّفِ
ولعله عرف من نفسه قدرته على إغراء المتصوفين، فاشتغل بتعليمهم وتأديبهم،
حتى لقد نظم لهم السلوك دستورا يتطلعون إليه هم وغيرهم عجبا، ويتعلقون به طربا، ثم يستقل به المتصوفون دون غيرهم علما وعملا:
سَقَتْنِي حُمَيَّا الْحُبِّ رَاحَةُ مُقْلَتِي وَكَأْسِي مُحَيَّا مَنْ عَنِ الْحُسْنِ جَلَّتِ
فَأَوْهَمْتُ صَحْبِي أنَّ شُرْبَ شَرَابِهِمْ بِهِ سُرَّ سِرِّي فِي انْتِشَائِي بِنَظْرَةِ
وَبِالْحَدَقِ اسْتَغْنَيْتُ عَنْ قَدَحِي وَمِنْ شَمَائِلِهَا لَا مِنْ شَمُولِيَ نَشْوَتِي
فَفِي حَانِ سُكْرِي حَانَ شُكْرِي لِفِتْيَةٍ بِهِمْ تَمَّ لِي كَتْمُ الْهَوَى مَعَ شُهْرَتِي
وَلَمَّا انْقَضَى صَحْوِي تَقَاضَيْتُ وَصْلَها وَلَمْ يَغْشَنِي فِي بَسْطِهَا قَبْضُ خَشْيَةِ
وَأَبْثَثَتُهَا مَا بِي وَلَم يَكُ حَاضِرِي رَقِيبٌ لَهَا حَاظٍ بِخَلْوَةِ جَلْوَتِي
وَقُلْتُ وَحَالِي بِالصَّبَابَةِ شَاهِدٌ وَوَجْدِي بِهَا مَاحِيَّ وَالْفَقْدُ مُثْبِتِي
هَبِي قَبْلَ يُفْنِي الْحُبُّ مِنِّي بَقِيَّةً أَرَاكِ بِهَا لِي نَظْرَةَ الْمُتَلَفِّتِ
وَمُنِّي عَلَى سَمْعِي بِلَنْ إِنْ مَنَعْتِ أَنْ أَرَاكِ فَمِنْ قَبْلِي لِغَيْرِيَ لَذَّتِ
فَعِنْدِي لِسُكْرِي فَاقَةٌ لِإِفَاقَةٍ لَهَا كَبِدِي لَوْلَا الْهَوَى لَمْ تُفَتَّتِ
قصيدة طويلية تائية في وَاحِدٍ وستين وسبعمئة بيت، ملأت الدنيا وشغلت الناس، حتى تَقرَّاها الشعراء على الزمان؛
فكان منهم من قاربها، وكان منهم من باعدها،
حتى وضع فيهم محمد بو ذينة كتابه "تائية ابن الفا ض ومعارضاتها"- سُميت التائية الكبرى، تمييزا لها من تائيته الصغرى:
نَعَمْ بِالصَّبَا قَلْبِي صَبَا لِأَحِبَّتِي فَيَا حَبَّذَا ذَاكَ الشَّذَا حِينَ هَبَّتِ
سَرَتْ فَأَسَرَّتْ لِلْفُؤَادِ غُدَيَّةً أَحَادِيثَ جِيرَانِ الْعُذَيْبِ فَسَرَّتِ
مُهَيْمِنَةٌ بِالرَّوْضِ لَدْنٌ رِدَاؤُهَا بِهَا مَرَضٌ مِنْ شَأْنِهِ بُرْءُ عِلَّتِي
لَهَا بِأُعَيْشَابِ الْحِجَازِ تَحَرُّشٌ بِهِ لَا بِخَمْرٍ دُونَ صَحْبِيَ سَكْرَتِي
تُذَكِّرُنِي الْعَهْدَ الْقَدِيمَ لِأَنَّهَا حَدِيثَةُ عَهْدٍ مِنْ أُهَيْلِ مَوَدَّتِي
أَيَا زَاجِرًا حُمْرَ الْأَوَارِكِ تَارِكَ الْمَوَارِكِ مِنْ أَكْوَارِهَا كَالْأَرِيكَةِ
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ أَوْضَحْتَ تُوضِحَ مُضْحِيًا وَجُبْتَ فَيَافِي خَبْتِ آرَامِ وَجْرَةِ
وَنكَّبْتَ عَنْ كُثْبِ الْعُرَيْضِ مُعَارِضًا حُزُونًا لِحُزْوَى سَائِقًا لِسُوَيْقَةِ
وَبَايَنْتَ بَانَاتٍ كَذَا عَنْ طُوَيْلِعٍ بِسَلْعٍ فَسَلْ عَنْ حِلَّةٍ فِيهِ حَلَّتِ
وَعَرِّجْ بِذَيَّاكَ الْفَرِيقِ مُبَلِّغًا سَلِمْتَ عُرَيْبًا ثَمَّ عَنِّي تَحِيَّتِي
التي كانت في ثلاثة ومئة بيت، انفرد بها التصوف العملي؛ فكأنه نظمها من قبل تائيته الكبرى، أو من بعدها؛
فإذا كان قد نظمها من قبلها فقد رغب في مزج التصوف العملي بالتصوف النظري تلطُّفًا.
وإذا كان قد نظمها من بعدها فقد رغب في إفراد التصوف العملي عن التصوف العلمي تخفُّفًا.
نعم؛ لقد كان ابن الفارض من التملؤ بعلم التصوف والتمكن من فن الشعر،
بحيث اجترأ على التغني بمبادئ التصوف ومنازله وغاياته ومقاماته وأحواله ومصطلحاته، متنقلا من من أوضحها إلى أغمضها،
ومن أسهلها إلى أصعبها، غير متحرج من العامة ولا متذمم من الخاصة،
فاستحدث ما ربما كان هو الذي حمل بعض الباحثين عن أدب زمانه وما بعد زمانه،
على أن يجعلوه نوعا من الشعر، سموه التائي، ثم جعلوا تائيته الكبرى غاية ما بلغه.
وعلى رغم ما في تصنيف الشعر بأروية قوافي قصائده من تَبَسُّط، يجب ألا ننكر أثر هذه القافية التائية المبذولة
لكل من أرادها على كل ما يخطر له، في نشأة كلمات جديدة جديرة بالتأمل،
وترويج أخرى قديمة، وسواء أصُنفت في مصطلحات التصوف العلمي، أم صُنفت في صفات التصوف العملي!