مبحث صوفي :
في ( وحدة الوجود ) عند الشيخ الأكبر ابن عربي
قدمت الدكتورة سعاد الحكيم عرضاً موجزاً رائعاً
عن مصطلح ( وحدة الوجود ) عند الصوفية بشكل عام
وعند الشيخ الأكبر ابن عربي بشكل خاص نذكره هنا لعظم فائدته وموضوعيته بشيء من التصرف والاختصار الذي يناسب مصنفنا هذا
تقول أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية :
إن عبارة وحدة الوجود لا تدخل ضمن مصطلحات ابن عربي
إذ أنها من ناحية لم ترد عنده مطلقاً
ومن ناحية ثانية هي تشكل تياراً فكرياً له جذوره البعيدة في تأريخ النظريات الفلسفية ولكننا لم نستطع أن نتغافل عن بحثها بحجة أنها تدخل ضمن نظريات شيخنا الأكبر بالنظر لأهميتها عنده
إذ فيها تتبلور مصطلحاته وتتكشف ويتجلى وجه ابن عربي الحقيقي فنلمس فيه الفكر والمنطق إلى جانب الشهود والتصوف
إن عبارة ( وحدة الوجود ) ابتدعها دارسو ابن عربي
أو بالأحرى صنفوه في زمرة لقائلين بها
إذ أن الباحث لا يلتقط فكر مفكر إلا بتحليله إلى عناصره البسيطة وإعادة تركيبه تركيباً يتلاءم وينضبط مع التيارات الفكرية المعروفة وبالتالي استدل الملتمس وجه ابن عربي من جمل أمثال :
( الوجود كله واحد ) ( ما ثمة إلا الله ) ( ما في الوجود إلا الله )
إلى القول بأنه من وحدة الوجود وحدة تفارق وحدة الماديين بتغليب الجانب الإلهي فيها
ولكن ما حقيقة موقف ابن عربي من الوحدة الوجودية ؟
وما نسبة التفكير النظري إلى الشهود الصوفي فيها ؟
( وحدة وجود ) أم ( وحدة شهود ) ؟
كثيراً ما يتوقف الباحث أمام نتائج ابن عربي متسائلاً :
أوحدة وجود عنده أم وحدة شهود ؟
ثم لا يلبث ان يقرر انها وحدة وجود من حيث أنها لم تبرز في صيحة وجد بل كانت نتيجة باردة لتفكير نظري ويعود تردد الباحث بين الوحدتين إلى أنهما يتطابقان في النتيجة فكلتاهما ترى :
إن الوجود الحقيقي واحد وهو الله
ولكن صاحب وحدة الشهود يقولها في غمرة الحال على حين يدافع عنها ابن عربي في صحو العلماء وبرود النظريين
والحقيقة أن وحدة ابن عربي تختلف عن وحدة شهود غيره
بسبب جوهري وهو أن الشيخ الأكبر لم يقطفها ثمرة فيض فناء في الحق فناء افناه عن رؤية كل ما سوى الحق فقال بعدم كل ما سواه كلا
إن ابن عربي يرى الكثرة وشهوده يعطيه الكثرة وبصره يقع على الكثرة إذن الكثرة عنده موجودة
وهنا نستطيع ان نقول : أن ( وحدته ) على النقيض من وحدة الشهود تعطي : كثرة شهودية فالنظر يقع على كثرة عنده وهذا ما لا يمكن أن ينطبق على وحدة الشهود
ولكن ابن عربي لا يقف مع الكثرة الشهودية أو - بتعبير أدق - المشهودة بل يجعلها ( كثرة معقولة ) لا وجود حقيقي لها
وهي - إذا أمكن التعبير بلغتنا - خداع بصر
وبلغة ابن عربي : خيال
هذا ويستحسن أن لا نفهم موقف ابن عربي على أنه نظرية فلسفية قامت على دعائم منطقية ومقدمات فكرية فهو وإن كان جعل الكثرة : معقولة مشهودة وغير موجودة فهذا الإرجاع ليس تعملاً فكرياً كما يظن البعض
ونقول رداً على من جعل وحدة ابن عربي الوجودية نظرية فلسفية تقررت باستدلال نظري أن الواقع عكس ذلك لأن النظر الفكري كما يقول شيخنا الأكبر يعطي : وجود مخلوقات التي من شأنها أن تكثر الوجود فعلى الأقل تحدده بثنائية كلاسيكية :
حق
خلق
وإن الذي يعطي الوحدة الوجودية هو الشهود
وهنا نلاحظ أن ابن عربي قد باين ( وحدة الشهود )
بإثباته ( الكثرة المشهودة ) المرئية
ومن ناحية ثانية وَصَلَ بالشهود إلى تقرير : الوحدة الوجودية
وكان الشهود الأول رؤية عادية على حين إن الشهود الثاني هو مرتبة من مراتب الكشف الصوفي
ونستطيع أن نلخص موقفه قائلين : إنه شهود لوحدة الوجود
ويستشف من هذه العبارة أن الشيخ الأكبر زاوج بين الفكر والتصوف في ذاته فاتحدا بحيث يشرف كل منهما على الآخر وليس هذا غريباً على القائل بعلم اليقين و عين اليقين فهو وإن كان توصل إلى الوحدة الوجودية بعلم اليقين غير أن دعائمها لم ترسخ إلا في عين اليقين
ونوضح كلامنا بأن نقول :
إن وحدة الوجود عند ابن عربي ان كانت ثمرة فكر نظري أرجع الكثرة المشهودة إلى حقيقتها الواحدة فهي في اللحظة الثانية ( شهود ) لهذا النظر الفكري ولكن تألف الفكر مع الشهود فدعم كل منهما الآخر حتى صعب التفريق بين حدود كل منهما وان كنا نظن بأسبقية الفكر على الشهود أسبقية يتطلبها منطقه في تقديم علم اليقين على عينه ولكن ( علم اليقين ) هذا ليس ثمرة التفكر الفلسفي الحر فالواقع ان ابن عربي مفكر مقيد بالكتاب والسنة ولا يمكن أن يقال عنه ( مفكر حر ) فعلم اليقين عنده : هو ثمرة التفكر في الكتاب والسنة
فتكون وحدة الوجود عنده ثمرة تفكره في الكتاب والسنة ثم شهوده لهذا التفكر صورة وحدة الوجود
حاول كل من خاض غمار فكر الشيخ الأكبر أن يظهر غموض الكثرة الوجودية
فقال بعضهم : ان مفتاح هذا الغموض في تفسير ( سورة الانشراح ) للقاشاني إذ تتكرر في هذه السورة الآية :
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً مرتين على التتالي
ويشرح المفسرون بلسان الظاهر هذا التكرار على أنه : توكيد وتأكيد غير أن القاشاني يشير بوضوح إلى تعلق هاتين الآيتين بمرحلتين من مراحل التحقق الروحي
للنبي : الصعود والنزول وهما ( للولي ) إذ لا يصل إلى مقام ( الوارث الكامل ) للنبي إلا بتحققه بهما وهذه حالة ابن عربي
في مرحلة التحقق الصاعدة يكون النبي ( محجوباً ) بمعرفة الكثرة وهذا أول ( احتجاب ) واول ( عسر ) وعندما يصل إلى معرفة الواحد يكون بالنسبة له أول ( يسر ) وهنا معرفة الله تحجب عنه معرفة الكثرة
وهذا ثاني ( احتجاب ) وثاني ( عسر ) إذ هو هنا محجوب بالحق عن الخلق ولا يستطيع أن يحتمل عبء النبوة فيشرح الله صدره ويزيل الاحتجاب الثاني بالحق عن الخلق أي ( العسر ) الثاني
ويحصل ثاني ( يسر ) ويستطيع كونه أن يجمع : الواحد والكثير ويسع صدره : الحق والخلق ببعد يسميه القاشاني : الوجود الموهوب الحقاني
ومعرفة النبي هنا كاملة : معرفة الكثير بمعزل عن الواحد ومعرفة الواحد بمعزل عن الكثير ومعرفة جامعة للواحد والكثير وهذه المعرفة الجامعة هي معرفة الوارث الكامل أو الإنسان الكامل
وهنا يكمن تفسير ( وحدة وجود ) ابن عربي كما تتجلى في فصوص الحكم وغيره من كتبه
إما النابلسي فيرى أن مفتاح ( وحدة الوجود ) يكمن في مفهوم : الوجود الحقيقي فالممكن لا وجود له مستقل عن الحق إذن يحاول النابلسي أن يحل معضلة وحدة الوجود على مستوى مفهوم ( الوجود ) بتحديده بالحق دون الخلق
و يتضح موقف النابلسي إذا اعطينا الاسم الالهي ( القيوم ) مثلاً
فالحق هو : القيوم في صور الخلق والممكنات : لا تقوم بذاتها
بل تقوم ( بالقيوم ) إذن الوجود واحد هو الحقيقي الذي تتقوم به الممكنات
والواقع أن وحدة الوجود هذا إذا كان التعبير ينطبق على وحدة ابن عربي هي ثمرة من ثمار التوحيد عند شيخنا الأكبر فالتوحيد أعم مفهوم في الفكر الإسلامي من حيث أنه ركيزة العقيدة بل هو العقيدة ذاتها ولذلك باشره كل فرد من أفراد المسلمين على قدر طاقته واستعداده و ابن عربي بالذات لا بد أنه مر بأكثر من توحيد أو بالأخرى بأكثر من صيغة ومفهوم للتوحيد في تاريخ حياته السلوكية الفكرية ولذلك لا نستطيع أن نقول عن توحيد شيخنا الأكبر انه فكري نظري فلسفي ومن ثم نبحثه على صعيد الفكر والنظريات
وكما أنه لم يغرق - ابن عربي - في غيبة الشهود ويتكلم تحت وطأة الوجد فنقول : أن توحيده توحيد الفانين
كلا : لقد كان توحيده توحيد المشاهد الصاحي
ومن هنا نشأ الخلاف بين دارسيه فجعل البعض نتائجه نظرية فلسفية والبعض الآخر جعلها ثمرة سلوك والأجدى أن نعترف بتكامل الشيخ الأكبر تكاملاً يضم في حناياه الفناء والبقاء فلا نغلب حالا على حال
فالتوحيد ونظرة ابن عربي إليه وفهمه له هما مفتاح وحدة الوجود عنده إذ لو استقل الممكن بالوجود ولو للحظة لاستغنى في هذه اللحظة عن الخالق أي الحق وشاركه من حيث الغنى بالألوهية
إذن توحيد الألوهية يقتضي عند ابن عربي توحيد الوجود
وتتلخص وحدة وجود الشيخ الأكبر في نقاط متعددة نشير إلى أهمها :
1- الممكن
إن الممكن قد يطلق عليه ابن عربي اسم ( الموجود )
ولكن لا ينعته أبداً بالوجود بل يجعله ثابتاً في العدم
وكما يقول : الممكن لم يشم رائحة الوجود
إذن وحدته الوجودية ليست قائمة على رؤية الوحدة في كثرة المظاهر
بل على نفي وجود الكثرة
فالكثرة : مشهودة معقولة غير موجودة
2- الحق
إن الحق هو الظاهر في كل صورة والمتجلي في كل وجه
وهو ( الوجود الواحد ) والأشياء موجودة به معدومة بنفسها
ولكن لا ينحصر وجود الحق ويتحدد بظهوره في المظاهر
بل له وجود متعال خاص به
وبهذا الوجود المتعال للحق يفارق ابن عربي عن وحدة الوجود الملحدة فالحق عند ابن عربي مطلق ليس بالإطلاق الإضافي المقابل للتقييد
ولكن بالإطلاق الحقيقي
3- الخلق
لم يحدث فعل الخلق في زمن معين ويوجد المخلوقات
بل هو فعل مستمر دائم مع الأنفاس
وهو تجلي الحق الدائم في صور المخلوقات فالمخلوقات في افتقار دائم للحق إذ أن لها العدم من ذاتها ففي كل نفس ترجع إلى عدمها الأصيل وفي كل نفس يوجدها الحق بظهوره فيها وهكذا
4- الحق والخلق
ويظهر غنى شيخنا الأكبر في الصور التمثيلية المتعددة التي حاول بها أن يقرب إلى الأذهان علاقة الحق بالخلق
في مذهب يلغي وجود أحدها على شهوده
5- حقيقة وحدة الوجود
إن ابن عربي نفسه وإن كان قد لامس وحدة الوجود إلا أنه في حيرة أمام حقيقتها فنراه يتساءل :
هل الموجودات انتقلت من حال العدم إلى حال الوجود ؟
أم هل أدركت أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة وجود الحق وهي على ما هي عليه من العدم ؟
أم هل أدركت بعضها البعض عند ظهور الحق فيها فظنت أنها استفادت الوجود وليس إلا ظهور الحق ؟
وهكذا نرى ابن عربي في حيرة أمام طبيعة إدراك الأعيان الثابتة لذاتها وإدراك بعضها البعض
إلا أنه لم يشك لحظة في أنها : معدومة العين ثابتة في العدم
مهما كانت صيغة إدراكها لوجودها
موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان
للشيخ محمد عبد الكريم الكسنزان