منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:44 pm

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ ابن العربي مع شرح ست العجم بنت النفيس البغدادية

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهدني الحق بمشهد نور المطلع “ 1 “ ، وطلوع نجم الكشف .
وقال لي : من الحدّ ارتقيت ، ولا تفارقه . فلولا الظهر ما عرف البطن ، ولولا الحدّ ما شوهد المطلع . 
فطلوع النور شهدت له الظلمة ، وطلوع البدر شهدت له الشمس .
ثم قال لي : من المطلع نزل من نزل ، ومنه علا من علا . 
فاحذرني في المطلع فإن رأيت ظاهر سورك جاز الحد ، أنزلتك عن المطلع إلى الظهر ، وإن بقيت مع الحد ، رغب المطلع في مقامك .
ثم قال لي :
- طلع العز في القرب ، فشهد له كبرياء الكون .
- وطلع الوقت في الوقفة ، فشهد له بحر الرحمانية .
- وطلع أدب العارف ، وشهد له عز الأعمال تذكره أمر المطلع .
- وطلع له المطلع ، وشهد له الحد .
- وطلع الموت ، وشهد له عز التقرير .
- وطلع الرفق ببينة الحياء ، وشهد له ظهور النطق .
- وطلع له الاسم ، وشهد له الحجاب .
- وطلع التبرؤ “ 2 “ ، وشهدت له الرؤية .
- وطلع عين البصيرة ، وشهد له الكشف .
- وطلع الدعاء ، وشهد له البعد .
..................................................
( 1 ) يعنون به : حضرة الجمال ، أو الحضرة الجلال ، أو الحضرة الجامعة بينهما وهي حضرة الكمال انظر المقدمة في هذا الكتاب أثناء شرح العنوان ففيه الكلام حول المطلع . ( المحقق ) .
( 2 ) في نسخة الأصل : ( التبري ) وكذا النسخة : ( ط ) والمقصود طبعا التبرؤ من الحول والقوة .

“ 69 “


- وطلع الصفح ، وشهد له الذنب .
- وطلع ما لا يكشف ، وشهدت له الولاية .
- وطلع ما فوق العرش وشهدت له دلالة الحق .
- وطلع بحر الرجوع ، وشهد له فقد النور .
- وطلعت المسكنة ، وشهدت لها ظهور الإنية .
- وطلعت العظمة ، وشهدت لها الهوية .
- وطلع التيه ، وشهدت له الماهية “ 1 “ .
- وطلع الحجاب ، وشهدت له اللمية .
- وطلع الثوب ، وشهدت له الكمية .
- وطلعت الوحدانية ، وشهد لها العدم .
- وطلع الاختيار ، وشهد له العهد .
- وطلع ما لديه ، وشهدت له المنازل .
- وطلعت السكينة ، وشهد لها التمكين .
- وطلع القلب ، وشهد له النظر .
- وطلعت معرفة العهد ، وشهد له الأدب .
- وطلع الليل الناطق ، وشهد له البهت .
- وطلعت العبودية ، وشهد لها الوقوف .
- وطلعت الحروف ، وشهدت لها الاعتبارات .
- وطلعت القوة ، وشهد لها الإقبال .
...............................................
( 1 ) ( الماهية ) : هي الحقيقة ، وهي العين الثابتة أيضا . سميت ماهية لما سأل عنها بما هو زائد فيها هاء السكت ، وشددت ياؤها لتصير علما لتلك الهوية ، وجميع الماهيات أمور نسبية معدومة لأنفسها لا وجود لها ، لأنها أعني الماهيات التي للأعيان الثابتة ليست سوى تعينات الحق الكلية والتفصيلية . ومعلوم أن التعين لا يصح أن يزيد على العين بالعين .
انظر : القاشاني لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام 2 / 264 .
بتحقيقنا طبعة دار الكتب المصرية .


“ 70 “


- وطلعت الرعدة وشهدت لها العبادة .
- وطلع إدراك الصديقية ، ثم شهد له إسلام الجناح .
“ فلما رأيت المطالع تتوالى والشواهد تترادف ، قلت : ألهذا منتهى ؟
قال لي : لا . ما دامت الديمومية دائمة “ “ 1 “ .
ثم قال لي : كل ما اطلعت عليه ، وكل ما غاب عنك ، ويرد عليك فهو لك ، ومن أجلك ، وفيك . ولو كشفت لك عن أدنى سر من أسرار توحيد الألوهية التي أودعته فيك ، ما أطقت حمله ، ولاحترقت . وكيف ما هو مني أو تتصف به ذاتي . دم ما دامت ديموميتي لا ترى إلّا نفسك في كل مقام . وفي أسرع من لمح البصر ترتقي مقامات لم ترها قط ، ولا تعود إليها ، ولا تزول عن نفسك ولا تتعدى قدرك . لو قدرت قدرك لتناهيت “ 2 “ ، وأنت لا تتناهى . فكيف تقدر قدرك ، فإذا عجزت - ويحق لك العجز - أن تقدر قدرك ؟ فتأدب ، ولا تطلب قدري ، فإنك لن تدركه وأنت أكرم موجود في علمي .
ثم قال لي : اعلم أن قلب العارف “ 3 “ يمر عليه - في كل
..........................................................................................
( 1 ) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل المخطوط ومستدرك على الهامش الأيسر للنسخة مقابلة وتصحيحا .
( 2 ) في النسخة ( خ ) : ( لا نتهت ) . وفي النسخة ( ط ) : ( لا نتهت ، وأنت لا تنتهي ) .
( 3 ) ( قلب العارف ) : فقلب العبد الخصوصي : بيت اللّه ، وموضع نظره ، ومعدن علومه ، وحضرة أسراره ، ومهبط ملائكته ، وخزانة أنواره ، وكعبته المقصودة ، وعرفاته المشهودة ، رئيس الجسم ومليكه . وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 1 ) مع السلامة من الآفات ، وزوال الموانع ، بصلاحه صلاح الجسد ، وبفساده فساده . ليس لعضوه ولا جارحه حركة ، ولا ظهور ، ولا كمون ، ولا حكم ، ولا تأثير إلا عن أمره . وهو محل القبض والبسط ، والرجاء والخوف ، والشكر والصبر ، هو محل الإيمان والتوحيد ، ومحل التنزيه والتجريد . وهو الموصوف بالسكر والصحو ، والإثبات والمحو ، والإسراء والنزول . هو ذو الجلال والجمال ، والأنس والهيبة ، والتجلي والمحق .
هو صاحب الهمة والمكر ، والحرية والوجود ، وعين التحكيم والانزعاج ، والعلة والاصطلام ، والتداني والترقي ، والتدلي والتلقي ، والأدب والسر ، والسنة ، والوصل والفصل ، والغيرة والحيرة .
هو حامل المعاني ، ومدبر المغاني . كما أنه صاحب الجهل والغفلة ، والظن والشك ، والكبر

“ 71 “


يوم “ 1 “ - سبعون ألف سر من أسرار جلالي لا يعودون إليه أبدا . لو انكشف سر منها لمن هو في غير ذلك المقام ، أحرقه .
ثم قال لي : لولاك ما ظهرت المقامات ، ولا ترتبت المنازل ، ولا كانت الأسرار ، ولا أشرقت الأنوار ، ولا كان ثمّ ظلام ، ولا كان اطلاع ولا حد ، ولا ظاهر ولا باطن ، ولا أول ولا آخر . فأنت أسمائي ودليل ذاتي ، وصفاتك صفاتي . فأبرز في وجودي عني ، وخاطبهم “ 2 “ بلساني وهم لا يشعرون . يشهدونك متكلما ، وأنت صامت . ويشهدونك عالما ، وأنت معلوم . يشهدونك قادرا ، وأنت مقدور . من رآك ، فقد رآني . ومن عظمك ، فقد عظمني . ومن أهانك نفسه أهان . ومن أذلك نفسه أذل .
تعاقب من تريد ، وتثيب من تريد بغير إرادة منك . أنت مرآتي ، وأنت بيتي ، وأنت مسكني وخزانة غيبي ، ومستقر علمي . لولاك ما علمت ، ولا عبدت ، ولا شكرت ، ولا كفرت . “ إذا أردت أن أعذب أحدا كفر بك “ “ 3 “ وإذا أردت أن أنعمه شكرك ، سبحانك وتعاليت .
أنت المسبح ، والممجد ، والمعظم . وغاية العلم والمعرفة أن تتعلق بك .
أوجدت فيك من الصفات والنعوت ، وما أردت أن تعلمني بها . فغاية معرفتك على قدر ما وهبتك ، فما عرفت إلا نفسك . انفردت أنا بصفات الجلال والجمال لا
.................................................................
- والكفر ، والنفاق والرياء ، والعجب والحسد ، والشوب والهلع ، ومحل الأوصاف المذمومة كلها .
إذا لم ينظر اللّه إليه ولا أدناه منه ، حرمه التوفيق والهداية ، وخيبته في الأزل العناية .
هو رسول الحق إلى الجسم ، فإمّا صادق وإمّا دجّال ، إمّا مضلّ وإمّا هاد .
فإن كان كريما أكرم ، وإن كان لئيما أسلم . فإن كان رسول خير ، وإمام هدى حرّك أجناده بالطاعة ، وتوجهت سفراؤه إلى أمرائه العشرة ، من عالم الغيب التي هي حضرته ، وعالم الشهادة التي هي باديته . يكتب الاستقامة على السنة والجماعة ، لكل أمير بما يليق به من التكليف تقتضيه حقيقته .
انظر : كتاب : ( مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم ) الفلك القلبي . بتحقيقنا . قيد النشر .
( 1 ) هذه الجملة الاعتراضية سقطت من النسخة ( خ ) ومستدركة على الهامش تصحيحا .
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( تخاطبهم ) .
( 3 ) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة الأصل المخطوط ، وهو من النسخة ( ط ) .

“ 72 “
يعلمها أحد غيري . لو علم علمي وإرادتي وجميع صفاتي إذ ليس لها جمع ولا يأخذها حد . لم تكن إلها ، ولا كنت خالقا . وكل تنزيه ينزهني ، عليك يعود . فإنما يبعد عن النقائص ويقدس عنها من اتهمت فيه ، أو جوزت عليه . تعاليت في نفسي لنفسي بنفسي علوا كبيرا لا يدرك ولا يحس . الأبصار قاصرة ، والعقول حائرة ، والقلوب في عماية والعالمون في تيه الحيرة تائهون . الألباب حائرة عن إدراك أدنى سر من جلي كبريائي “ 1 “ كيف تحيط به ، علمكم هباء منثورا “ 2 “ ؟ وصفاتكم عدم ، وحقيقتكم مجاز ، في ركن وجودي . ارجع وراءك لن تعدو قدرك .
كلكم جاهل عيي “ 3 “ ، أخرس ، أعمى ، عاجز ، قاصر ، صامت ، حائر .
لا يملك قطميرا ، ولا فتيلا ، ولا نقيرا . لو سلطت عليكم أدنى حشرات المخلوقات ، وأضعف جندي لأهلكتكم “ وتبرتكم ودمرتكم “ “ 4 “
.....................................................................
( 1 ) ( جلي الكبرياء ) ظهور رداء الكبرياء : كما في الحديث المشهور الذي رواه الإمام البخاري وغيره ، وقد أوردت هنا رواية البخاري وهي : الحديث رقم ( 3567 ) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال اللّه عز وجل : ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار ) . والكبر : ما ظهر عن دعاوى الخلق في حضرة الربوبية .
والرداء عند الصوفية : الرداء : العبد الكامل المخلوق على الصورة الجامع للحقائق الإمكانية والإلهية وهو المظهر الأكمل الذي لا أكمل منه ، لكمال وجود الحقائق كلها فيه ، وهو العبد الذي ينبغي أن يسمى خليفة ونائبا ، وله الأثر الكامل في جميع الممكنات وله المشيئة التامة وهو أكمل المظاهر ورداؤه الذي تلبسه عقول العلماء به وجعلها رداء ولم يجعلها ثوبا فإن الرداء له كمية واحدة والثوب مؤلف من كميات مختلفة ضم بعضها إلى بعض كالقميص . انظر إجابة السؤال الأول من أسئلة الحكيم الترمذي . الجواب المستقيم فيما سأل عنه الترمذي الحكيم بتحقيقنا . قيد النشر .
( 2 ) انظر : الآية رقم ( 23 ) من سورة الفرقان . ونصها : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ( 23 ) وانظر إشارتها إلى أن كل عمل من غير الحق يصير هباء منثورا ، أي لا قيمة له .
( 3 ) في النسخة : ( ط ) ( غيبي ) ، وفي النسخة ( د ) : ( عي ) وربما كانت غبي أثناء القراءة . والذي نراه أنها عيي . والعي : هو الذي لا يقدر على الكلام . فكلمة غبي تناسب الجهل ، ولكن كلمة عيي تناسب الخرس المذكور هنا وهو الأقوى . ( المحقق )
( 4 ) ما بين المعقوفتين سقط من النسخة : ( ط ) . . والتتبير كما ورد في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء آية رقم ( 7 ) ونصها : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ -

“ 73 “
 
ومزقتكم “ 1 “ ، فكيف تدعون أن تقولوا بأنكم أنا أو أنا أنتم ؟ ادعيتم المحال وعشتم في ضلال ، فتفرقتم أحزابا ، وصرتم أشتاتا .كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” 2 “ والحق وراء ذلك كله . 
يا عبدي وموضع نظري ، من حقائقي بلغ عني حقا وأنا الصادق ، وعزتي وجلالي ، وما أخفيته من سنيّ علمي . لأعذّبن عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين من كذب رسلي “ 3 “ وكذب اختصاصي لهم من سائر العباد ، وكذب بصفاتي ، وادعى أنه ليس لي صفة ، وأوجب عليّ ، وأدخلني تحت الحصر ، وكذب كلامي ، وتأوله من غير علم به ، وكذب بلقائي ، وقال إني لم أخلقه ، وإني غير قادر على بعثه كما بدأته ، وكذب بحشري ، ونشري ، وحوض نبيي ، وميزاني ، وصراطي ، ورؤيتي ، وناري ، وجنتي وزعم أنها أمثلة وعبارات المراد بها أمور فوق ما ظهر ، وعزتي وجلالي ليردّون ويعلمون من أصحاب الصراط السويّ ومن اهتدى “ 4 “ . 
“ ولأنتقمن في دار الخزي “ “ 5 “ والعذاب منهم على ما أخبرت في كتبي كذبوني وصدقوا أهواءهم “ ونفوسهم “ “ 6 “ سولت لهم الأباطيل وشياطينهم لعبت بهم إنّكم
....................................................................
-أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً( 7 ) . 
( 1 ) زيادة من النسخة : ( ط ) . 
( 2 ) الآية رقم ( 53 ) من سورة المؤمنون ونصها :فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ( 53 ) . 
( 3 ) في النسخة ( ط ) : ( ولكن من كذب رسلي ) . وواضح أنه تحريف متعمد . 
إذ المعنى واضح لا يحتاج لشيء . 
( 4 ) انظر الآية رقم ( 135 ) من سورة طه ونصها :قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى( 135 ) . 
( 5 ) ما بين المعقوفتين سقط من النسخة ( ط ) . وواضح طبعا أنه تحريف لأنها عبارات مقصودة بعينها ربما دلت على إفساد النص وتوجيهه غير وجهته الصحيحة باختيار ما لا يريده المؤلف . ( المحقق ) . 
( 6 ) ما بين المعقوفتين سقط من النسخة ( ط ) .

“ 74 “
 
وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ( 98 ) “ 1 “ يا عبدي : 
قف عند حدي وانظر في كتابي ، فهو النور الجلي ، وفيه السر الخفي . صراطي ممدود على ناري ، فالويل ثم الويل لمن كذبني . 
يا عبدي : هل حجبت سرك عني ، وعن معرفتي ، وعن التصرف في ملكي وملكوتي ، في دنياك ببقاء جسمك ، وعذابك ، وتصرفك مع أبناء جنسك ؟ ألم تعلم أن العارفين كما هم اليوم كذلك يكونون غدا ، أجسامهم في الجنان وقلوبهم في حضرة الرحمن .كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” 2 “ وكلّ له شرب معلوم “ 3 “ وسيردّون فيعلمون ، كأنهم ما سمعوا يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ” 4 “ .
.............................................................
( 1 ) الآية رقم ( 98 ) من سورة الأنبياء . 
( 2 ) الآية رقم ( 53 ) من سورة المؤمنون . 
( 3 ) انظر الآية رقم ( 155 ) من سورة الشعراء قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ( 155 ) . 
( 4 ) الآية رقم ( 42 ) من سورة القلم .

.

مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية Word
مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية PDF
مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية TXT
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية Word
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية PDF
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية TXT

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:44 pm

شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍
“ 233 “
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المشهد السادس
قال الشيخ رحمة اللّه عليه :
( ص ) [ قوله : ( أشهدني الحق بمشهد نور المطلع وطلوع نجم الكشف ) ] .
( ش ) أقول : إنه قد تقدم شرح قوله : ( أشهدني ) في عدة مواضع ومراده في الجميع واحد فلا فائدة للتكرار قوله : ( بمشهد نور المطلع ) يريد به شهود ذات الحق في محل فيض النور ، فإن هذا المحل منبع الطوالع النورانية ، وهو فيض من الذات بغير واسطة لأنه ليس بين النور والظلمة صفة سوى الإرادة ، وهي ليست واسطة ، لكنها صورة تكوين العلم ، فإذا شوهد الفاعل في ظلمة ويكون هذا الشهود في محل المطلع كان الشاهد واقفا في الحد بين الظلمة والنور متصفا بالصفتين ناظرا إليها ، ولهذا قال : ( أشهدني ) وهذا المحل هو موضع المقابلة [ التي هو ] “ 1 “ الخلق على الصورة ، فإنه من حين أن يريد اللّه الاتصاف بالتقييد يظهر بالنور ، ويجعله مرآة لذاته المتصفة ، فيكون المنطبع فيها صورة الكامل ، فمن حيث وقع التمييز بواسطة النور شهد كل واحد من المميزين صاحبه وصار كل واحد منهما مشهودا للآخر ، فالشهود لكليهما يكون في محل المطلع المذكور فهاهنا يشاهد الحادث الحدوث ، فإن تيّقن بالاتصاف الذاتي استشرف إلى علم القدم المختص بالذات ، فإذا ظهر عليه الاتصاف كان قد وصل إلى غاية مقصوده الذي استشرف إليه ، وصار له مشهودا عيانا وإدراكا ، فإذا اتصف بالفناء كان هذا الاتصاف في ذات القديم ، وكل هذا يشهده العارف في وقوفه بين صفتي القدم والحدوث ، فالظلمة للقدم ، والنور للحدوث ، وما دام واقفا يكون له نور الحدوث محلا ، وتترادف عليه الطوالع ويتميز بنورانية ألطف من نورانية المحل ، فهذه اللطيفة تسمى نور المطلع لأنها تميز نور الكثيف الجسماني ، وهاهنا يقف الشاهد على صورة تكوين الوجود وكيفية الخلق وصورة الفيض ، وكيفية تمييزه على اختلاف أنواعه ، فكل هذا التمايز يكون في هذا المحل المنسوب إلى المطلع والشاهد في الحد المذكور ، فإذا انتقل من الحد تكون النقلة منه مائلة إلى جهة التقييد ،
.............................................................................
( 1 ) كتب بالهامش ( قوله هو : ذكر الضمير باعتبار الخبر على حد قوله تعالى : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ الأعراف : 56 ] ، فذكر الخبر لأن فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث أه . كاتبه ) .

“ 234 “


فيصدق عليه الوجود المقيد .
وقوله : ( وطلوع نجم الكشف ) يريد به الاطلاع على صورة الأولية ، فإنه لما كان واقفك في الحد المذكور كان ناظرا إلى الأولية بعين الإطلاق القلبية ، وإلى الوجود المقيد بالعين الظاهرة المقيدة ، وكلا الشهودين في المحل الموري عنه بالمطلع ، ثم إنه جرى في هذا الشهود إلى شهود آخر مائلا إلى الجهة الأولية ، مستشرفا إلى التمكين في الاتصاف بما قد حصل له من الشهود ، فعارضه في هذا الجري طالع نجم التمكين المقصود ، وتوريته عنه بالطالع لأنه يلحظ منه معنى السعادة بالتمكين المذكور ، وأيضا فإنه يظهر لا للتمييز لكن للتمكين كما قلناه فيما سلف من الشاهد ، فمن حين ظهوره يتيقن الشاهد الاتصاف المذكور ، وهو يظهر شبيها بالنجم ، ولهذا يوري عنه بالطالع صورة ، ومعنى ، وإضافة هذا الطالع هاهنا إلى الكشف لكونه يظهر بغتة ويتعقل الشاهد نفسه في صورة الخلع ، ويشهد كيفيته ويدرك صورة خروجه من الظاهر إلى الباطن فهذا الشاهد قد فاجأه هذا الطالع في جريه من الظاهر إلى الأولية بالنسبة إلى الظاهر غيب ، والكشف عبارة عن الخروج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، ونور هذا الطالع المختص بالأولية هو ألطف من نور الطوالع الماضية ، لكن المعنى في اسم الطالع واحد والإضافات مختلفة ، فكأنه قال : أشهدني الحق ذاته في محل فيض الطوالع ومكّن لي الشهود بطلوع نجم الأولية الموري عنه بالكشف .
( ص ) [ قوله : ( وقال لي : من الحد ارتقيت ولا تفارقه ، فلو لا الظهر ما عرف البطن ، ولولا الحد ما شوهد المطلع ، فطلوع النور شهدت له الظلمة ، وطلوع البدر شهدت له الشمس ) ] .
( ش ) أقول : مراده بهذا الخطاب دوام نظر الشاهد في محله اللائق بهذا الشهود بالأمر فإننا قلنا قبل هذا إنه في حال اطلاعه إلى الأولية وما بعدها من الحضرات كان واقفا في الحد ، ومحال أن يشهد حضرتين متميزتين إلا والشاهد واقف في الحد حتى يشهد كلا الحضرتين إدراكا وعيانا ، وقلما ينقل منه إلا إلى الحضرة الثانية بعد الأولية ، وهي الحضرة المسماة بالظاهر لأن النقلة في الحقيقة من الأولية إليها ، والحد هو الفاصل بينها وبين الأولية ، بل كل حضرتين متميزتين يكون بينهما فاصل يسمى ذلك حدا بشرط الاشتراك ، فذلك المشترك هو الحد ، وهذا يكون بين الأول والظاهر وبين الظاهر والباطن ، وبين الباطن والآخر ، وليس بين الأول والآخر حد مشترك ، وقد أوضحنا هذا في كتاب الختم صورة ومعنى .

“ 235 “


فقوله : ( من الحد ارتقيت ) يريد به انتقاله في حال هذا الشهود وارتقاؤه إلى حضرة الظاهر ، فإنه قد افتتح خلع هذا الشهود بوقوفه في الحد ، واطلاعه على الحضرتين المذكورتين ثم إنه جرى آتيا إلى حضرة الظاهر آخذا في جريه من الحد ، فلهذا قال له : من الحد ارتقيت .
وقوله : ( ولا تفارقه ) يريد به إظهار حقيقة الاتصاف المختص بهذا العارف الشاهد ، فإنه من حيث اتصافه بمجموع الحضرات يقال : إنه في إحداهن ، وإن قيل : إنه في الحد كان هذا القول حقا أيضا ، ويقال : إنه محمول فيكون قد اتصف بأوصاف التنزيه ، وهو حق أيضا ، فإنه من حيث اتصافه لا يفارق إحدى الحضرات ، ولا الحدود ، ولا المحيط إحاطة ، وكمونا ، واستعلاء ، فالإحاطة للظهور ، والكمون للفناء في ذات المسمى ، والاستعلاء للاتصاف بالتنزيه ، فكأنه قال له : ما دمت متصفا فلن تفارق الحد ، ولا المتميزات به .
قوله : ( فلو لا الظهر ما عرف البطن ) يريد به إظهار معنى الأولية ، فإن الأولية بالنسبة إلى الحضرات بمنزلة الظهر لأن الإقبال منهما آتيا على سبيل الأمام ، والأمام بمنزلة البطن ، ومحال أن يكون نقله إلا ناشئة عن الأولية ، فلو لا الأولية لما عرفت الموجودات الموري عنها بالبطن ، والحد في الحقيقة بين هاتين الحضرتين التي هي الأول والظاهر ، لأنه نقله من خفاء إلى ظهور والحد بينهما هو العدم ، فإن مال المنتقل إلى الظاهر أطلق عليه الوجود ، وإن مال إلى الأولية أطلق عليه العدم النسبي ، وهو الخفاء ودام في محله العلمي إلى حين رجوعه من هذا الخلع ، فالحاصل من هذا الخطاب هو أنه لولا الأول لما علم وجود باقي الحضرات .
وقوله : ( ولولا الحد لما شوهد المطلع ) يريد به أنه لولا وقوف الشاهد في هذا المحل الموري عنه بالحد لما شهد المطلع ، وهو محل فيض الأنوار ، فإن عموم الفيض يسمى محل النقلة وصورتها ، إلا فيض الأنوار ، فإنه يسمى المطلع لأنه يشهد فيه اختلاف الأنوار المميزة والمتميزة والظاهرة والخافية ، وكل ذلك يشهده العارف ، وهو واقف في الحد ، وهذا المطلع مختص بالذّات مباين لإحدى الحضرات ، ولهذا لا يشهد إلا في الأولية ، لأن الفيض من الذات إليها فتصير صورة الفيض علما ومعناه معلوما ، ثم إنه ينتقل من الأولية إلى الظاهر فيسمى ظهور المعلومات وتمكين تمايزها ، ولا يجوز أن يقال على إحدى الحضرات فيض ، ولا مطلع أيما حضرة كانت إلا الأولية ، فإن الفيض من الذات عليها

“ 236 “


والنقلة منها إلى باقي الحضرات واحدة فواحدة ، وعند الوقوف في هذا الحد تدرك كيفية الفيض ويشهد صورة الانتقال إلى الظاهر ، فإنه على الواقف في الحد يمر المنتقلون عليه آن وقفته ، فيشهد صورة النقلة اضطرارا ، ومن حين اتصافه وإحاطته بالمجموع يدرك كيفية الفيض إدراكا ، وكل هذا الاطلاع والشهود والإدراك بواسطة الحد المختص بالأولية ، ولهذا قيل له : لما شوهد المطلع .
وقوله : ( فطلوع النور شهدت له الظلمة ) يريد به إظهار حقيقة الفناء في عين المتميزات ، فإن النور هو المميز ، وذات الظلمة هي المتميزة ، فاضطرارا شهد لنفسها بالتمييز إذا اتصفت بالتقييد ، ولولا النور كان يصدق الكمال في الوجود لأنه لم يتصف بالتقييد إلا بوجود النور المميز ، فمن حين افتقار الوجود إلى الاتصاف بالتقييد يشهد لطلوع النور ، لأنه مكمل بالتمايز ، والظلمة هي الإطلاق صفة ، والنور صفة التقييد ، وكمال الوجود عبارة عن صفتي إطلاق وتقييد ، والأصل هو الإطلاق وهو المعبّر عنه بالظلمة ، فلا يتمكن النور حتى يشهد له هذه الظلمة بالظهور ، وظهوره عين فيضه منها ، فلما كان هذا الشاهد قد ابتدأ بالمطلع في هذا المشهد ، قيل له : إن طلوع هذا النور الذي قد شهدته شهدت له الظلمة الأصلية حتى يتمكن له الشهود اتصافا وعيانا .
وقوله : ( وطلوع البدر شهدت له الشمس ) يريد بالبدر الطالع المعبر عنه بنجم الكشف لأن الطالع المذكور كامل ، ولهذا كان ممكنا لا مميزا لأجل كماله ، إذ لو كان لافتقر إلى التمييز ، وقد قلنا : إنه يظهر لا للتمييز ، والبدر عبارة عن تمام القمر ، ولهذا لا يفتقر إلى زيادة نور بعد اتصافه بهذا الوصف ، فإذا شهد الكامل للكامل بالكمال كان ذلك هو الكمال المطلق ، فالشمس حقيقة الشاهد الفانية في ذات اللّه الكاملة الفياضة ، والبدر هو الطالع المذكور ، فلما شهد اللّه تعالى أن هذا الطالع حقا يمكن هذا الشهود ، فقال له : ( وطلوع البدر شهدت له الشمس ) .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : من المطلع نزل من نزل ، ومنه علا من علا فاحذرني في المطلع ، فإن رأيت ظاهر سورك جاز الحد ، أنزلتك عن المطلع إلى الظهر ، وإن بقيت مع الحد ، رغب المطلع في مقامك ) ] .
( ش ) أقول : مراده بهذا التنزل إظهار حقيقة مقام الجاهل والعالم لأنه من حين علم الجاهل والعالم تحقق لهما مقامان علويا وسفليا ، فالعالم في المقام العلوي والجاهل لانخفاضه هبط مقامه السفلي ، وكل هذا تمييز من الأولية المعبر عنها بالمطلع الذي هو

“ 237 “


محل الفيض ، فإن كان أحدهما مقابلا كان واقفا في الحد متصفا بأوصاف المماثلة ويعود الفيض عليه ، ومنه إلى جانب الوجود الظاهر ، فإذا صدق عليه ضد الفيض يسمى عارفا ، وعرفنا أنه قد اتصف بمجموع الصفات والأسماء ، فهذا يكون قد استعمل قبل الظهور به إلى حضرة الظاهر ، فيكون من القبضة السعيدة التي تنسب إلى اليمين والهابط وهو صاحب المقام المستعلي يكون قد استقر فيه من حين وجوده في الأولية وقد صدق عليه وصف القبضة الأخرى ، فلما كان الوجود يستند إلى قبضتين وري عن كل من نسب إليهما بالعلو والنزول .
وقوله : ( فاحذرني في المطلع ) يريد به استنطاق ما في ذات العارف من المعلومات التي لم يصدق عليها العلو والانخفاض ، فإنها ما دامت غير متمايزة لا يتصف بهذا الوصف ، وقد عرفنا أنه من حين كماله وفنائه في ذات اللّه تعالى عاد عالما بمعلومات متميزة ، وعلم غير متميز ، فالمتميز قد صدق عليه العلو والانخفاض ، والذي لم يتميز لم يصدق عليه هذا الحكم لكنه مائل إليه ، فتحذيره من المطلع خوفك المعلوم الذي لم يصدق عليه التمييز ، لأن ذات العارف تحتوي على عالم وجاهل ، وما دونهما وعكسهما .
وقوله : ( فإن رأيت ظاهر سورك جاز الحد ، أنزلتك عن المطلع ) يريد بظاهر السور المحيط الذي يحصر صورة العارف الجسمية ، وهذا السور هو محيط حضرة الظاهر إذ الظاهر نصيب جسمه رضي اللّه عنه ، فإذا جاز محيط الحضرة المذكورة حده الفاصل بينه وبين حضرة الأولية مال الشاهد إلى الأولية اضطرارا ، وكذلك أي حضرة من الحضرات جاز سورها الحد ، فإنها تميل إلى الجهة التي قد مال إليها المحيط ، لكن هذا الشاهد قد سمع هذا الخطاب ، وهو في الحد الذي بين الظاهر والأولية إذ بدا في شهوده هذا بالمطلع كما قررناه ، فيكون في الأولية إذ هي محل القبض ، فلما كان هذا الشهود في الحد المذكور ، قيل له : إن رأيت ظاهر سورك جاز الحد ، ويريد بظاهر السور هاهنا محيط حضرة الظاهر .
وقوله : ( إلى الظهر ) يريد به الأولية فإنه إذا اجتمعت الأولية والظاهر ، كانت الأولية ظهرا والظاهر بطنا ، لأن المظاهر فيه مائلة إلى الوجود .
وقوله : ( إلى الظهر ) يريد به نقلته من الحد إلى جهة الأولية ، فإنها كما قررناه بمنزلة الظهر ، إذ منها الإقبال وعنها الإدبار .
قوله : ( وإن بقيت مع الحد رغب المطلع في مقامك ) يريد به دوامه على هذا النمط من الحمل على مجموع الحضرات الأربعة ، فإننا إذا قلنا : إن العارف واقف لا يريد

“ 238 “


به وقفة تنافي الجري ، وإنما يريد بوقفته الثبوت على منهاج الكمال ، وإن جرى أو ظهر أو شهد أو نطق أو خوطب ، فيكون الجري له مثل التحول في الصور ، والنطق مثل القول على لسان العبد ، والظهور بالتقييد هو مثل النزول في الثلث الآخر من الليل ، والشهود مثل قوله :
“ اعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك “
ويكون الخطاب له مثل
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ إن المصلي يناجي ربه “
، وكقوله تعالى : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [ النساء : 164 ]
، فكل هذه الأوصاف المختصة باللّه تعالى اتصف بها العارف في حال فنائه ، فثبوته الموري عنه بالوقفة هو دوامه في أوصافه وكماله ، فإذا قلنا : إنه في الحد أو في إحدى الحضرات أو واقفا يريد به ثبوته محمولا على جميع الحضرات ، وإذا كان محمولا ، وقيل عنه : إنه في الحد جاز لأنه لا خروج له عن الحد .
فقوله : ( وإن بقيت مع الحد رغب المطلع في مقامك ) يريد به الترغيب في دوامه السرمدي محمولا متصفا ، فإذا كان متصفا افتقر إليه محل الفيض اضطرارا لأنه مقابل للفيّاض ، وافتقاره إليه من أجل أنه يفيض عليه أعني على العارف ، ويفيض العارف على سائر الموجودات مظاهر وصفات مختلفة ومؤتلفة ، وليس لهذا الفيّاض محل كفؤ قابل للفيض إلا هذا المقابل المخلوق على الصورة فاضطرارا يرغب محل الفيض الذي هو المطلع في مقام هذا المقابل الذي هو العارف .
( ص ) [ ( قوله : ثم قال لي : طلع العز في القرب ، فشهد له كبرياء الكون ، وطلع الوقت في الوقفة ، فشهد له بحر الرحمانية ) ] .
( ش ) أقول : إن مراده بهذا الخطاب إظهار حقيقة العزة على لسان هذا المعبر ، ولهذا قال له : فشهد له كبرياء الكون لأن هذا الشاهد عبارة عن مجموع الكون فهو شاهد للعزة على الحقيقة ، وإنما ورد هذا الاسم في هذا الخطاب ، لأن الشاهد ناظر إلى المطلع مطلع على كيفية المظاهر ، وقلما شهد مظهرا لا مقيدا ، وإذا صدق التقييد تسمى اللّه تعالى بالعزيز ، فأول اسم صدق عليه بعد اتصافه بالتقييد هو هذا الاسم ، فلما كان هذا الشاهد ناظر إلى جهة الفيض ثابتا في الحد مطلعا على تقييد المظاهر مع اختلافها قيل له : ( طلع العز في القرب ) أي ظهر لك ، وأنت قريب يكاد قربك يفضي إلى الاتحاد ، لأنه إذا انتقل من الأولية إلى المسمى صدق عليه الاتحاد ، فلما كان في الحد كان قريبا من الاتحاد وظهر له التقييد ، وكان التقييد عين تمكين العزة ، ولما كان هذا الشاهد متصفا مقابلا للذات الفيّاضة أي محاذيا لها ، كان شاهدا لها بالعزة ، وهو مجموع الكون ، فكأنه قال له : طلع

“ 239 “


طالع عزتي في المظاهر المقيدة ، وشهدت له أنت إذ صورتك عبارة عن مجموع الكون .
قوله : ( وطلع الوقت “ 1 “ في الوقفة ، فشهد له بحر الرحمانية ) أقول : مراده بالوقت هو الزمان الفاصل بين الأولية والظاهر زمان يتميز فيه العلم بشرط سلب الأولية وخفاء الظاهر إلى حين ظهور المتميزات فيه ، فيكون العلم المميز في هذا الزمان المذكور ليس له اطلاع إلى الأولية ، ولا إلى الظاهر ، ولهذا سمي محله حدا ، وذات الحد من حيث هي ليس لها نظر لكن النظر للثابت في هذا الحد ، فهذا الوقت عبارة عن زمان هؤلاء للثابتين في الحد ، بشرط سلب الأولية ، وعدم النظر إلى الظاهر ، فهذا يسمى وقتا ، ولما كان هذا الشاهد ناظر إلى المطلع ظهر له في هذا الزمان المعبّر عنه بالوقت في صورة طالع حتى تمكن له الديمومة ، ولهذا ووري عن ظهوره بالطلوع .
وقوله : ( في الوقفة ) يعني به أنه شهد ظهوره هذا الطالع وهو واقف في الحد ، فإن الحد محل الوقفة وطلوعه هاهنا ضروري لأن الزمان المعبر عنه بالوقت هو حاجز كما قررناه ، فمن لم يكن في الحد لا يشهد هذا الطالع ، والثابت في الحد يشهده اضطرارا لاطلاع الشاهد الواقف على الجهتين .
فقوله : ( فشهد له بحر الرحمانية ) يريد به شهادة هذا العارف للطالع لأن حقيقة هذا العارف على اسم الرحمانية وسعته هي البحر المذكور الذي يستمد منه الحياة ، فذاته تستمد من هذا البحر ، وقلبه منبهه ، وعبارة فيضه وصورته مقتسمة مستقلة به ، فإذا شهد هذا العارف الطالع المذكور الموري عنه بالوقت كان مجموع الرحمة قد شهد له ، وإنما
......................................................................................
( 1 ) الوقت : عبارة عن حالك ، وهو ما يقتضيه استعدادك لغير مجهول ، في زمن الحال الذي لا تعلق له بالماضي والمستقبل فلا يظهر فيك من شؤون الحق الذي هو عليها ، في الآن ، إلا بما يطلبه استعدادا ، فالحكم للاستعداد وشأن الحق محكوم عليه . هذا هو مذهب التحقيق ، فظهور الحق في الأعيان بحسب ما يعطيه استعدادها ، فلذلك ينبوع فيها فيض وجود الحق ، وهو في نفسه على وحدته الذاتية ، وإطلاقه وتجرده ، وتقدسه غنى عن العالمين ، فالوقت هو الحاكم والسلطان ، فإنه يحكم على العبد فيمضه على ما يقتضيه استعدادا ، ويحكم على الحق بإفاضة ما سأله العبد منه بلسان استعداده في زمن الحال ، إذ من شأن الجواد التزام توفيه استحقاق الاستعدادت كما ينبغي ، وفي قوله تعالى : وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [ القصص : 68 ] . 
تأييد لهذا التحقيق إن كانت “ ما “ موصولة في موضوع النصب على أنه مفعول مختار ، ومن كان يحسب ما خاطبه به الشرع في كل حال ، فهو في الحقيقة صاحب وقته ، فإنه قام بحقه ، ومن كان هكذا فهو عند ربه من السعداء .

“ 240 “


ووري عنها بالبحر لأن الوجود صادر عنها ، ومجموعه حي ، وقد قال تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : 30 ] ، فتسميته لها بالبحر مناسبة مماثلة .
( ص ) [ قوله : ( وطلع الأدب “ 1 “ في العارف “ 2 “ ، فشهد له عن أعمال تذكره أمر المطلع ، وطلع له المطلع وشهد له الحد ) ] .
( ش ) أقول : مراده بطالع الأدب في العارف هو الذي على العارفين من اللطفة والرأفة والرحمة وعدم الخصوص ، وهذا بالنسبة إلى الظاهر أدب ويفضي أيضا إلى حسن السيرة في المعاش الدنيوي ، لكن لا يظهر هذا على العارف إلا بعد اتصافه بمجموع ما تحتوي عليه المعرفة ، فإن كل علم من العلوم يختص بما يفتقر إليه أوصاف هذا الأدب المذكور ، فباتصافه بالأحدية يظهر عليه عدم الخصوص ، وباتصافه بالتفريق المفتقر إلى الجمعية يظهر عليه اللطف والرأفة ، وباتصافه بالجمعية مع ثبوت التفريق يظهر عليه الرحمانية ، فإذا اتصف بعد تمكين الفناء بالذات عاد فياضا ، واختفت هذه الأوصاف كلها كامنة ظاهرة في ذاته ، فهو يمد المفتقرين إلى هذه الأوصاف كلا بحسب افتقاره وقدر سعته ، فالمستمدون من حيث شهودهم للكثرة وتيقنهم للبعد يرون هذا أدبا لائقا بالسيرة ، فمنهم من يحصل له غيرة تفضي به إلى الحزن والعزاء ، فيكون عن عزائه شهادة على هذا الأدب الذي قد ظهر على هذا العارف .
فقوله : ( فشهد عزاء أعمال تذكره أمر المطلع ) يريد به شهادة الفيض الذي هو بغير واسطة فإنه يسمى أمر المطلع وأعماله ما يصدر عنه من المظاهر المتنوعة فمن حيث هي كامنة في ذات هذا العارف يشهد له بما يظهر عنه ، وذاته تحتوي على حاسد حزين صفته العزاء ، وأول ما يشهد للعارف من ذاته هي الصفة المنسوبة إلى الحسد وهذا نجده في الظاهر في أنفسنا ظاهرا ، فنجد ذاتنا تحسد بعضها بعضا على مجموعها وقد عرفنا أن الذات من حيث هي لا تحتوي من ذلك شيئا ، فعلمنا أنها صفات تشتمل هذه الذات عليها كالرحمة والانتقام ، فإن كليهما يغار من الآخر والذات الجامعة نفس كلا الصفتين
..........................................................................................
( 1 ) الأدب : وقت يريدون به أدب الشريعة ، وهو أدب إلهي يتولى تعليمه الوحي كما قال صلى اللّه عليه وسلم : “ أدبني ربي فأحسن تأديبي “ .
( 2 ) هكذا في أصل المشاهد ، أما في الشرح : الأدب في المعارف ، وصحفت عزاء إلى عن في نسخ .

“ 241 “


ويجبرهما على الاجتماع فيها بميزان العدل ، فيجتمعان اضطرارا وكل منهما يباين الآخر طبعا ووضعا ، فعز أمر المطلع هو ما صدر عن هذا الأمر من الصفات المنسوبة إلى الغير ، فكأنه قال : طلع الأدب في محال المعارف الممكنة في ذاتي فشهدت له ذوات الحسد الكامنة فيها أيضا .
قوله : ( وطلع له المطلع ، وشهد له الحد ) أقول : إنه يريد بالمطلع النور الذي ظهر اللّه به أولا وجعله محلا للأنوار والمظاهر والصفات والأسماء ، فذات المطلع من حيث هي لا تسمى طالعا ، فتسميته لها بالطالع غلط إن كان مراده المطلع المنسوب إلى الأولية ، وإن كان مراده المطلع المنسوب إلى الأزل ، فجائز تقريبا لأن المطلع من حيث هو لا يسمى طوالع إذ لا يطلع أبدا لأنها محل الطوالع .
وقوله : ( فشهد له الحد ) مناسب أن لو كان طلوع المطلع خفاء لأنه أول الشاهد للمطلع هو الحد ، وليس يشهد صورته ، وإنما يشهد أفعاله وما يظهر فيه من الطوالع وأيضا فإن الحد فاصل بينه وبين الحضرة التي يزيد القبض “ 1 “ عليها فيشهدها صورة اضطرارا ويشهد لها بالأفعال .
( ص ) [ ( قوله : ( وطلع الموت ، وشهد له عزاء التقدير ، وطلع الرفق ببينة الحياء ، وشهد له ظهور النطق ) ] .
( ش ) أقول : مراده بطالع الموت المبشر بالنقلة من حضرة إلى حضرة ، وهو بعينه يمكن للمنتقل فيها الاتصاف بالنقلة فطالع الموت هو شيخ الروحانية يتراءى في قهر
..............................................................................
( 1 ) القبض : اعلم أن الزمان في مقام القبض لا يصلح إلا للحال ، أو لا تعلق له بالماضي ، والمستقبل ، والنفس إنما تتعلق بالماضي تأسفا ، وبالمستقبل خوفا وحذرا .
قال قدس سره : “ القبض في الحقيقة تجلي الحق لكل معتقد في صورة اعتقاد “ فصار الحق كأنه محصور ، ومقبوض عليه بالاعتقادات ، وهي العلامة التي بين اللّه تعالى ، وبين عباده العامة ، ولا بد له في كونه إلها يتصف بهذه الصفة ، والعالم متباين الاستعداد ، ولا بد من الاستناد إليه ، فلا يزال يعبد كل جزء إلهه من حيث استعداده فلا بد أن يتجلى له كل شيء بحسب اقتصار استعداده ، ويقع منه القبول ، فما من شيء إلا وهو يسبح بحمده .
وقيل : “ وارد يرد على القلب من الغيب توجيه إشارة إلى عتاب وزجر ، وتأديب ، حين يقع السالك في الهفوات الموجبة للتقاعد والفترة “ .
وقيل : “ أخذ وارد الوقت بغشيان أثر الكون على القلب ، وانطباع صوره فيه “ .

“ 242 “


الحسد ، فيحصل المراد للنقلة علم اليقين بها ويكون الطالع قد ظهر في باطنه ولا يشهده عيانا ، فإذا الحكم القهر في الحسد ومازجه ممازجة الاتحاد ومالت النفس إلى جهة الحضرة المقابلة التي هي حضرة الباطن ، فتعود الروحانية المترائية شبحا أكثف مما كانت عليه قبل الميل إلى الحضرة المذكورة ، لأنها تكون قد أخذت من الحسد الظاهر شيئا ، فإذا ظهرت هذه الكثافة المذكورة عليها يأخذ الطالع في الظهور من قلب المنتقل إلى نظره الباصر ، فلا يزال روحانية التي قد ظهرت عليها الكثافة يحدث المنتقل وبقدر حدها تأخذ منه كثافة ، وبحسبه يميل الطالع إلى الظهور حتى يصير المنتقل في الحد الفاصل بين الباطن والظاهر ، فيظهر الطالع من قلبه ويتراءى له في حضرة الباطن ، فيتيقن المنتقل حين رؤيته للطالع بالموت ، فيشهد القدر لهذا الطالع لأن كل مخلوق يتيقن أنه قد قضي عليه بالموت ، لكن لا يشهده القضاء حقيقة ، فعند ظهور هذا الطالع يشهده حقيقة ، وتعود صفات المنتقل في الظاهر ذات عز وهي بعينها كانت مسببة للانتقال ، فينتقل صاحب هذه الأوصاف من الحد إلى الباطن ، فيعود مشاهد الطالع الموت عيانا واتصافا ، فيحصل له عين اليقين بالموت وطالع الموت هو الذي يمكن للروحانية الكمال ، فيدوم هذا المنتقل في الباطن آنا واحدا وينتقل إلى الآخر ، فيحصل له اليقين بالحياة التي كان يظنها موتا .
قوله : ( وشهد له عزاء التقدير ) .
يريد به أوصاف المتخلفين في حضرة الظاهر بعد المنتقلين فإن حقائقهم فاعلة للنقلة ، وصورهم مفتقرة إلى التسلية عما نقص منهم ، فلا يزالون في عزاء مفتقرين إلى التسلية إلى حين أن يرد على الحضرة مظهر مكمل للنقص ملائم لطبائعهم ، فيعودون في حال كمالهم متصفين بالتقدير .
وقوله : ( وطلع الرفق ببينة الحياء ، وشهد له ظهور النطق ) . أقول : معنى الرفق هو تمكين المهلة وطالعه ممكنه ، فإذا علم المطلق بعد تقييده أن عين هذا التقييد هي حقيقة الإطلاق ، وصدر من بعض المقيدات إلى بعضها ما تعافه نفس المقيد ، فيظهر صفة الإطلاق له في هذا الآن على سبيل التذكير ، فينشأ عن الصفة الظاهرة صفة الرفق المذكورة ، وتكون نشأتها مماثلة للطالع ، فيردع المتصف بها صفة الانتقام التي كانت نشأت عما عافته نفسه ، فيتمكن الرفق المذكور إلى حين أن تصير مهلة ، ثم إنه يظهر بطالع هذه المهلة ، فيتمكن ويصير بمعنى الرفق ، وكون هذا الطالع ظهر ببينة الحياء هو ظهور مناسب ، ومحل قابل لهذا الطالع ، لأن موجبه استحياء من المقيدات في حال صدور

“ 243 “


الأذية التي تعافها ذات القيد ، فلما كان الحياء موجبا صار محلا لهذا الطالع المذكور ، قوله :
( وشهد له ظهور النطق ) يريد بالنطق هاهنا ترجمان الفهوانية الواردة على محل المعاني الذي هو القلب ، فلما كان هذا الرفق وارد على سبيل العلم للعالم تعالى ، وكان يشبه الفهوانية في ورودها فافتقر إلى النطق كافتقار الفهوانية إلى الترجمان كان عين افتقارها شاهدا لها ، ونشأ النطق عن الافتقار ، فكان شاهدا لورود الرفق المذكور صفة كان أو فعلا وأيضا فإنه لا يعلم وارد قلبي إلا بالعبارة عنه رفقا كان أو حياء أو طالعا أو فهوانية .
( ص ) [ قوله : ( وطلع له الاسم وشهد له الحجاب وطلع التبري ، وشهدت له الرؤية ، وطلع عين البصيرة ، وشهد له الكشف ، وطلع الدعاء ، وشهد له البعد وطلع الصفح ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالاسم صفة من صفات التقييد لا يتسمى إلا بعد ظهور التقييد ولا يتقيد إلا بعد ظهور الأسماء ، وكلاهما مفتقران كل واحد منهما إلى الآخر لكن افتقار التقييد إلى الأسماء أشد ضرورة منها إلى التقييد ، لأن التقييد عرف بالأسماء والرسوم والحدود والكثرة المتميزة إلى غير ذلك ، فكل هذا يعرف بالأسماء ولا تعرف الأسماء به ، وبالحقيقة فإن نشأة الأسماء للتعريف ، ولا تؤخذ معانيها من أفعالها ، وإنما تؤخذ من ألفاظها ، وجمعية تراكيبها ، فمن حين ظهر اللّه تعالى بالمقيدات اختصر لطائفها من كثائفها ، وجعل اللطائف أسماء ظاهرة وهي خافية عن الكثائف .
قوله : ( وشهد له الحجاب ) معناه مناسب بل ضروري التركيب لأنه من حين عرفت الأشياء بالأسماء ، بل من حين تقييدها اتصف الظاهر بها بالاحتجاب ، ومن هاهنا جعل واحدا من الجملة ، لكنه منزه عن المماثلة والشركية في الأفعال ، فمن حين تقيد تسمى حتى يعرف التقييد ، ومن تسمى احتجب واتصف بالاحتجاب فتسمى بالعزة وهي عين تمكين الاحتجاب ، فشهود الحجاب للاسم ضروري لأن الأسماء معاني الحجب المتفرقة ، وألفاظها تقييد المفترقات ، فلهذا كان المستقل باسم من الأسماء ذاكرا أو متصفا محجوبا .
قوله : ( وطلع التبري وشهدت له الرؤية ) أقول : مراده بالتبري حقيقة التمييز لأن معناه مأخوذ من اسمه ، فإنه من حين صدق التمييز على الموجودات افتقرت المتميزات إلى السمع والبصر والنطق والإدراك المتجزئ بحسب اختلافه ، وموجب هذا الافتقار حقيق التمييز ، فالنطق اتصال المعاني إلى الأسماع ذات القبول ، والسمع مرتبط لتمكين التمييز والإدراك المتجزئ لتحقيقه ، فالممكن للتمييز من هذه الأوصاف هو البصر لأن النور مميز

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:45 pm

شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍
“ 244 “ش


للأشياء بواسطته ، فشهادة الرؤية للتبري ضرورة ، ولهذا من حكم على بصره بأحديته بريء عن التبري المذكور ، وأمكن النور المميز في قلبه ، فيعود ظاهره ظلمانيا لمحو الكثرة وباطنه نورانيا لتمييز المعاني الواردة من الخطاب السرياني وألسن الفهوانية ، فالخطاب السرياني هو خطاب الحق للشاهد ، والفهوانية هي الموارد التي ترد على القلب بغير فكر ولا داع ، ولا موجب .
قوله : ( وطلع عين البصيرة ، وشهد له الكشف ) أقول : مراده بعين البصيرة شهود الشاهد للحق بغير حجاب ولا ظن ولا امتراء ، ومن هذا الشهود يظهر الفرقان بين النوم والكشف ، والموت والنوم يباين الكشف بالنقل والغفلة ، وعدم الحصر والحفظ والانطباع الثابت في مرآة القلب ، وكل هذه أوصاف لكشف يباين بها النوم ، فإذا حصلت البصيرة في النوم عرفنا أن مقام الشاهد لها برزخي بين الموت والحياة ولا تسمى هذه بصيرة لأنها لا تحقيق فيها ، وأما البصيرة فيشترط فيها التحقيق لكنها أعني النومية تسمى اسم استناد ، اسم اللّه المدبر إلى ذاته ، وحظ صاحب هذا المقام
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا
“ 1 “ “ ، وهذا مقام لا ينسب إلى المعرفة ولا إلى العلم لأن صاحبه عامل قائم أبدا .
وأما صورة الكشف فيباينه بالأوصاف المذكورة أولا ويضاف إليها ( البسط ) “ 2 “ أيضا ، واليقين بأن لا موت ولا حياة ظاهرة ، فتظهر البصيرة لصاحب هذا المقام ، فيتيقن أنه لم يكن مات ولا كان حيا بالحياة التي عاد إليها فإذا صار هذا المقام لصاحبه وصفا سمي صاحب الحال ، وإذا أفضى هذا الحال إلى فعل كان مقاما ظاهرا بخفاء الحال ، وأما
...............................................................................
( 1 ) رواه البيهقي في الزهد الكبير ( 2 / 207 ) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ( 7 / 52 ) .
( 2 ) البسط : هو عندنا من يسع الأشياء ، ولا يسعه شيء إن واسع المغفرة ما ستر عدمية ماهيات الأشياء ، وهو الوجود العام المسمى بالرحمة العامة المطلقة ، التي وسعت كل شيء ، فمن تحقق بها كان رحمة للعالمين ، أصالة كالحقيقة السيادة ، ووراثة ، كمن يكون قلبه على القلب السيادي فيسع الأشياء ، ولا يسعه شيء يختص بدقيقة منها ، والقلب على الجملة إذا انتهى بسر
“ وسعني قلب عبدي المؤمن “
، حاز مقام البسط ، وقيل : هو الرجاء في الوقت الحاضر يقابل كون القبض حال الخوف في الوقت الحاضر ، وقيل : “ هو وارد في جهة إشارة إلى قبول ورحمة وأنس إما بمنة الحق ، أو بأدب وعمل موجب “ ، والعارف مبسوط في قبضه ، مقبوض في بسطه .
وصاحب الحال إذا كان مقبوضا لا ينبسط ، وإذا كان مبسوطا لا ينقبض ، فشأن العارف أن يكون كالمعروف ، يجمع بين الضدين .

“ 245 “


مباينة هذين المقامين للموت فتيقن المنتقل في الآخرة دائما بلا شهود حدوث ولا غاية ولا نظر إلى محله الذي كان فيه ، بل تيقين الأكوان ظاهر ، فهذا قد بينا مباينة هذه الأمور بعضها البعض فلا يشهد لتحقيق البصيرة سوى الكشف وجعل هذا الشاهد للكشف شاهدا للبصيرة في غاية النسبة لأنه بواسطة الكشف حصلت البصيرة ، وبواسطة البصيرة حصل الاتصاف ، وبواسطة الاتصاف تمكنت المعرفة ، والكشف أصل هذه كلها وهو شاهد لها .
قوله : ( وطلع الدعاء ، وشهد له البعد ) أقول : مراده بالدعاء ظهور حقيقة الافتقار في عين معناه ، لأنه إذا حصل الافتقار لبعض المحصورات المسلمة المؤدية إلى الألوهية حقها يكون حقيقة الدعاء عين التسليم لكن الدعاء تسليم بصفة أخرى ، وهذه الصفة صورة جذب مراد لتكميل النقص الذي هو الافتقار فعين المألوه لا يجاب داعيا بل يسمع دعاءه ، لأنه يشترط في الدعاء التسليم والداعي بالضرورة يكون مثبتا للثنوية ، والثنوية تقتضي البعد والقرب ، وخصوصا إن كان الداعي منزها فيكون قاطعا بالبعد بشرط تسليم المذكور الذي به يتحقق الألوهية ، فقد يوجد عبد غير مألوه ولا يوجد مألوه إلا عبدا فالداعي المجاب بالضرورة يكون مألوها ، وغير المألوه قد لا يصدر عنه دعاء ، وإن دعا فإنه لا يجاب ، فحقيقة الدعاء صادرة من المألوه المنزه القاطع بالبعد وعدم المماثلة والعجز والذلة والقيام بأمر الأولية من الحمد والتنزيه ، وما أشبهه ، فإذا اتصف الداعي بهذه الأوصاف كلها ظهرت حقيقة الدعاء ظهور نشأة منه .
قوله : ( وشهد له البعد ) يريد به النسبة ، وهي ضرورية لأن من شروط الداعي التيقن بالبعد والتنزيه كما قلناه ، فعين يقينه هذا ينتج منه حقيقة البعد ، فاضطرارا يشهد الدعاء حال الافتقار والإجابة .
( ص ) [ قوله : ( وطلع الصفح وشهد له الذنب ، وطلع ما لا يكشف ، وشهدت له الولاية ، وطلع ما فوق العرش ، وشهدت له دلالة الحق ، وطلع ما فوق الرجوع ) ] .
( ش ) أقول : مراده إظهار حقيقة العفو ، وقد ظهرت هذه الحقيقة ظهور وارد ، ولهذا عبّر عنها بالطلوع لأن مجموع هذا المشهد قد ورد على هذا الشاهد ، وهو محمول على الحد الفاصل بين المطلع والظاهر ، فلهذا وري عن الموارد بالطوالع لأنها واردة عليه في صورة فيض ، والفيض يجسد المعاني آن كونها مفاضة ، ثم يلقيها الفيّاض في محلها القابل المفتقر أو الجاذب أو المعطي ، فمن حيث هي مجسمة في حال الفيض يجوز أن يعبر عنها

“ 246 “


بالطوالع ، لأن حقيقة الطالع جسمانية نورانية ، لكن تباين هذه المجسمات بالنور ، فإن حقيقة الطلوع هي للأجسام النورانية ، فلما كانت هذه الموارد تحكي الطوالع جاز أن يعبّر عنها بالطوالع للمشاركة الجسمية ، وأيضا فإنها ظاهرة من محل ظهور الطوالع ، ففي تسميته لها بالطوالع مناسبة ما ، فمن حيث تجسيم المعاني شهد طلوع الصفح في صورة جسمانية ، والذنب لازم له سواء إن كانت حقيقته مقدمة في الطلوع أو مؤخرة ، فبالتزامه لها ، شهد لها اضطرارا أعني حقيقة الذنب .
وقوله : ( وطلع ما لا يكشف ، وشهدت له الولاية ) أقول : مراده بما لا يكشف حقيقة الاتصاف بشرط فناء الموجودات في ذات المتصف لأنه قلما يعبر عن أوصافه خوفا من الظاهر المتجزئ المتصف بالافتقار ، وإصدار الأذية والعلو والانخفاض والحسد والحماقة ، فكل هذه الأوصاف يقدر العارف الكامل على دفعها بأضدادها ، ويبوح بما يريد إظهاره ويكتم ما يؤثر كتمانه ، لكنه التزم إظهار هذه الأوصاف الصادرة عن الظاهر لأداء حقه لأنه رفع الوجود على الإطلاق ، فمتى أخفى حقيقة من حقائقه المختصة به كان مبطلا لشيء من الموجود الظاهر ، وهذا على العارف محال لأن من شروط كماله ترك الأشياء جارية على منهاج فيضها وطبائعها ، ويلتزم أن يضعها في محالها اللائقة بها عنده ، فلما كان هذا الشاهد رضوان اللّه عليه متصفا بالأوصاف المذكورة إلى غير ذلك مما يليق به ترك الأشياء جارية على قدر فيضها وورى بما يليق بحقائقها وحيث كان في هذا المحل المذكور كانت موارد الفيض آتية إليه ومفاضة عليه بعد إتيانها ، فظهر له ما لا يكشف في فيض من الجملة وحقيقته صورة الاتصاف لأننا قلنا : إن الاتصاف من حيث هو لا يمكن كشفه لأجل ضيق محل القبول عند السامعين ، وتيقن أن يكون عند الكامل إما قصور في العبارة ، وإما شح لأجل المصلحة أو لأجل الخوف ، ولا يمكنه ستر الأشياء الواردة إليه ، فيعبر عنها بما هو أغمض منها ، فيزداد بها تحيرا ، والأولى ستر هذه الأشياء إذا لم يكن المعبر قادرا عن اتصال المعاني ، وأقرب ما يوصل به الاتصاف إلى الفهوم قول العارف : إنني متصف بمجموع الوجود ، وأنا فان في ذات اللّه .
فقوله : ( طلع ما لا يكشف ) يريد به أنه قد ظهرت أوصافه المختصة به في صورة طالع لأجل وقوفه في هذا المحل وأراد العبارة عنه ، فزاده إغماضا ، وهذه الأوصاف المختصة به هي فناؤه في ذات اللّه وبقاؤه متصفا بمجموع الأوصاف ، فإذا كان في هذا الحكم صادقا عليه كان مسمى بمجموع الأسماء وأخصها بالأحدية ثم يظهر معنى هذا

“ 247 “


الاتصاف عليه ويختص له من المعنى اسما ، فيقال : قطب وهي مناسبة حقيقية لمراد أمر الوجود عليه من حين اتصافه بمجموعه ، فمن حين الاتصاف المذكور يتصف بالولاية ، لأن الولاية مرجع الأمور إلى ذات المتصف بها وهو من حيث فناؤه به في ذات اللّه احتوى على الأسماء والأوصاف والولاية يومئذ للّه ، وهو متصف بها من حيث الفناء المذكور ، فهي كامنة في ذاته ، فلما ظهرت له أوصافه التي ووري عنها بما لا يكشف شهدت له الولاية الكامنة في ذاته ، فكأنه قال : أظهرت أوصافي المختصة بي فتيقنت أن ملجأ الأمور إلي ، والشاهد هاهنا هو اليقين .
قوله : ( وطلع ما فوق العرش وشهدت له دلالة الحق ) أقول : يريد به بما فوق العرش اسم اللّه الرحمن ، فإنه كل ما مر على الشاهد الواقف في هذا الحد ما به فيض نشأة الرحمة ، فكانت فيضا جديدا خصوصا إن كان الشاهد مستحضرا في الآن للإحاطة ، فتظهر له الرحمة في صورة جسمانية كشهود الرحمن على العرش واستوائه وما أشبه ذلك لكن لا تظهر الرحمة جسمانية كانت أو لطيفة إلا في صورة المسمى فقد شهد هاهنا صورة الرحمة طالعة في حقيقة مسماها مستعلية على الإحاطة ، ولهذا قال : ما فوق العرش .
وقوله : ( فشهدت له دلالة الحق ) يريد بدلالة الحق هاهنا الإحاطة لأنه لا يشهد الرحمة إلا بها لأن العلم الذي يحاط به تنشأ عنه الرحمة ، فاضطرارا يشهد الإحاطة للعلم لأجل نشأة الرحمة عنه ، وتوريته عنها بدلالة الحق لأن الإحاطة تمكن التحقيق بفناء الأشياء وبقائها فهي اسم للتمكن ، وهي لازمة وأدل ما على الحق من الأوصاف هي الإحاطة لأنه من حين يتصف الشاهد بها يتيقن أنه قد اتصف بمجموع أوصاف الحق إذ الإحاطة للّه ، فإذا أحاط الشاهد بكل شيء علما وعملا تيقن أنه فان في ذات اللّه تعالى ، وحصل له الاتصاف ، فالإحاطة دليل على حقيقة اللّه ، فلما كان الرحمن محيطا بالأشياء من حيث الاستواء ، كانت عين إحاطته شاهدة على طلوعه .
( ص ) [ قوله : ( وطلع بحر الرجوع ، وشهد له فقد النور ، وطلعت المسكنة وشهدت لها ظهور الآنية ، وطلعت العظمة ، وشهدت لها الهوية ) ] .
( ش ) أقول : يريد ببحر الرجوع صفة فنائه في الذات ، لأنه بالنسبة إلى المقيدات راجعة إلى الظاهرة بها وتوريته عنها بالبحر من أجل سعتها واطلاعها وعدم حصرها وكونها مادة للحياة ، لكنها غير متجزئة وهي عدم على الإطلاق ، فالمتصف بها على

“ 248 “


الإطلاق معدوم فيها ، ظاهر لعينه فناؤه ، لكنه يزيد على هذا الفناء باسم البقاء “ 1 “ أبدا وأزلا ، فالأزل يتصف به من حين شهوده للرجعة ، والأبد من حين اتصافه بالبقاء الدائم السرمدي الذي لا انقضاء له ، فالرجعة للاتصاف بالأزل ، وتوريته عن طالعها بالبحر لأجل الحياة الدائمة ، فبحر الرجوع صورة سعة الإطلاق بشرط الحياة الدائمة الممدة الغير مستمدة ، والفياضة الغير مفاضة .
فقوله : ( وشهد له فقد النور ) يريد به إظهار هذه الحقيقة على حقيقتها بغير خفاء فإنه لا يحصل الاتصاف بالرجعة التي هي حياة الأزل الدائمة ، وبحرها الذي هو حياة الأبد إلا بفقد النور ، لأنه إذا فقد النور ، فقد الحد به والتمييز والاختلاف والأنواع المتعددة ، بل حقيقة الإطلاق وصورته الفناء في ذات اللّه تعالى ، وكيفيته محو الأشياء وبقاء الإدراك الأحدي من غير مدرك ولا مدرك لكنه مدرك لذاته فقط ، وتحقيق هذه الصفة أعني الإطلاق تنشأ عن فقد النور المذكور .
وقوله : ( وطلعت المسكنة وشهد لها ظهور الآنية ) أقول : مراده بالمسكنة ظهور حقيقة الافتقار ، وشرط وصف من أوصاف الذل ، فيكون هذا الوصف مخصوصا بالمفتقر لخصوص الناطق بالآنية بنفسه ، فلما تجسدت المعاني لهذا الشاهد ظهرت المسكنة له في صورة جسمانية ، وإن كانت معنى وليس ظهور المسكنة مثل ظهور باقي المعاني المتجسدة ، فإن المعاني المتجسدة ، يظهر كل منها مرة واحدة ، والمسكنة تلتزم كل مظهر مقيد فتباين باقي المعاني بالترداد الناشئ من حقيقة الإرادة للتقييد ، وليس تردادها تكرارا ، وإنما هي نشأة حادثة تحدث مع كل مظهر صادر مفاض عن الذات الفعّالة ، فكلما ورد على هذا الشاهد وهو في هذا المقام تكون المسكنة لازمة له لكنه قد أضرب عنها صفحا لما رآه من المصالح وعدم الفائدة في التكرار .
وقوله : ( وشهد لها ظهور الآنية ) يريد بالآنية هاهنا تحقيق الثنوية ليصدق التقييد ، فالآنية معنى صادق على واحد من المقيدات يفهم من لفظه خصوصه لنفسه ، ومتى حصل
.......................................................
( 1 ) البقاء : رؤية العبد قيام اللّه تعالى على كل شيء ، والبقاء والفناء : متلازمان ، فإن الفناء عن كذا من النسب الكونية ، مستلزم للبقاء بكذا ، من النسب الخفية ، كفناء العبد عن فعله ، مستلزم لبقائه بفعله تعالى .
فيقال إذن : إنه قائم على كل شيء بفعل الحق لا بفعل نفسه ، وفناؤه عن وصفه يستلزم بقاءه بوصفه تعالى ، وكذلك فناؤه عن ذاته ، بقاؤه بذاته تعالى .

“ 249 “


الخصوص أو النطق أو السماع وجب ظهور حقيقة التقييد المراد لإثبات الثنوية بل الكثرة مطلقا لكن الآنية يكتفي فيها بوجود اثنين ، فالظاهر تحقيقها متصفا بمعناها يكون ناطقا حتى يحصل له الخصوص بنفسه بشهادة السامع الآخر ، فمراده ( بشهادة ظهور الآنية ) إثبات حقيقة الثنوية التي نشأ عنها الافتقار ، لكن الافتقار سابق هاهنا على الثنوية المذكورة ، وينبغي أن تكون الثنوية سابقة عليه ، لكن لسبقه عليها وجه إلى الحقيقة ، وهو أنه لما كان الشاهد متصفا بمجموع الأوصاف وهو في هذا المحل اللازم لهذا الشهود ، وليس يظهر عليه وصف من الأوصاف سوى كونه شاهدا ، وهو متصف بالآنية من حيث كونه مقيدا حتى يكون شاهدا لمشهود ، فلما ظهرت حقيقة الافتقار الموري عنها بالمسكنة شهدت لها الآنية التي ظاهره عليه من حيث كونه شاهدا لمشهود ، فالثنوية حاصلة هاهنا ، والآنية وصف لواحد من الاثنين كما قررناه .
وقوله : ( وطلعت العظمة وشهدت لها الهوية ) أقول : مراده بالعظمة الحقيقة الجامعة بمجموع الأشياء عموما بغير خصوص ، فهي صفة تظهر على الأشياء في حال الافتقار إلى الجمعية فينشأ عنها الاسم الجامع فيجمع الأشياء بشرط بقاء أعيانها بائنة متعددة ، وهذا ضد جمعية الفناء ، فإذا صدق على الكثرة هذا الخلع مع بقاء الأعيان ظهرت العظمة مرة ثانية حتى ينشأ عنها الاسم العظيم ، فإذا شوهدت العظمة ظاهرة أو طالعة أو مفاضة تكون قد شوهدت حقيقة الجمع ، فكأنه شهد فيض ذاته هاهنا مع مجموع الوجود ، لأن العظمة تشتمل على المجموع وعلى الفاعل أيضا ، فإذا شهد الشاهد ظهور هذه العظمة يكون قد شهد صورة فيضه بمنزلة الجري .
وقوله : ( وشهدت لها الهوية ) يريد بالهوية تمكين الاسم العظيم ، لأن حقيقتها عظيم متمكن ، وأيضا فإن الهوية اسم للذات بشرط بقاء اسم بقاء الأعيان ، والعظمة اسم للهوية بالشرط المذكور فهما اسمان ناشئان من محل واحد دالّان على معنى واحد لكن الهوية اسم للذات والعظمة تنشأ عن هذا الاسم ، فالهوية تعرف به والذات تعرف بها ، فلما كان هذان الاسمان مرتبطين أعني : العظمة والهوية شهد واحد منهما للآخر اضطرارا ، فالهوية سابقة للكمون في ذات هذا الشاهد على طلوع العظمة وسبقها في ذاته من حيث المماثلة والانقسام والخلق على الصورة ، فمن حيث صورته الكاملة كانت الهوية كامنة فيها ، فلما ظهرت حقيقة العظمة شهدت لها الهوية شهادة التزام .
( ص ) [ قوله : ( وطلع التيه وشهدت له الماهية ، وطلع الحجاب وشهدت له اللمية ، وطلع الثوب وشهدت له الكمية ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالتيه ظلمة الفناء بشرط بقاء الحياة ، فإذا ولج الشاهد في هذه

“ 250 “


الظلمة وصورته باقية سميت هذه الظلمة تيها ، لأنه إذا استقر فيها لا يجد لذاته مخرجا ولا مستندا ، ولا نهاية ولا فروجا لمخرج ، فيظهر عليه الحيرة ، فلما كان هذا الشاهد متيقنا بالثنوية هاهنا شاهدا للفيض ، وظهرت له هذه الظلمة سماها تيها لو لوجه فيها مع بقاء صورته وهذه الظلمة الفناء الحقيقي تظهر للشاهد في كل مرة حتى تفنى الأشياء فناء جديدا ، وهذا الفناء ليس فناء ضروريا ، وإنما هو عارض ، فلأجل هذا يسمى تيها ؛ لأن الشاهد باقية صورته ، فلا تزداد فيه سوى الحيرة لكن لكماله السابق ينجو منها في آن ظهورها قوله : ( وشهدت له الماهية ) يريد بالماهية هاهنا معنى من معاني الذات وهي حقيقة التيه ، فإن الذات تظهر للشاهد بأوصاف مختصة بها ومجموع مظاهرها ظلمانية ، فالمظهر الذي يفنى فيه حقيقة الشاهد يسمى محوا ، والمظهر الذي يفنى فيه تمييزه ويبقى إدراكه متجزئا يسمى فناء صوريا والمظهر الذي يفنى فيه الأشياء له وتبقى صورته يسمى تيها ، فهذه مظاهر الذات بشروطها المذكورة ، فلما كان هذا الشاهد هاهنا في مقام الثنوية ظهرت له الذات بصفة التيه لتبقى صورته الشاهدة ، فكأنه قال : طلعت الظلمة المفنية وشهدت لها ذاتها .
قوله : ( وطلع الحجاب وشهدت له اللمية ) أقول : مراده بالحجاب حد التجزؤ بشرط إرادة الكمال ؛ لأن التجزؤ على الإطلاق مفتقر إليه لأجل الكمال ، فلما كان ضروريا كان الحجاب حده ، لأن حده تفصيل الكثرة بعضها عن بعض ، فمتى حصل التمييز واليقين بالبعد والقرب ظهرت العزة متمكنة بالحجاب ، فلما تمكنت العزة كان تمكينها عين الحد المذكور وهو ضروري الظهور مفتقر إليه في كمال الذات ، لأنها آنا يتصف به وتمكن الحد المذكور إلى حيث تصير حجابا وآنا يتصف بالإطلاق فتمحو هذه الكثرة مع ما حصل من الحجب ، ويفنى النور المميز للمتجزئات ، فيعود الوجود ظلمانيا وهي حقيقته على الإطلاق .
قوله : ( وشهدت له الكمية ) يريد بالكمية عليه الشهود وحقيقتها معنى الافتقار إلى الكمال وصورتها التكثر فكونها علة ضروري ، لأن الذات لا تفتقر إليها طبعا ، وينشأ عن هذا الافتقار من الأفعال الإرادة ، وينشأ عن الإرادة العلم ، ثم يظهر من العلم حقيقة النور ، فيميز حقائق المعلومات ، فيحصل التجزؤ المشارإليه بالحجاب ، ويظهر التيه عليه ، ومعناها حقيقة الافتقار ، وإنما شهدت الكمية للحجاب لأن الوجود ظاهر بصفة التكثر والحجب فيه متمكنة ، والمتجزئات فانية في حقائقها ، فمن حيث فناؤها يفحص عن هذا التكثر ويستكشف عن موجبه ، فموجبه الكمال وهو حقيقة الكمية .

“ 251 “


قوله : ( وطلع النور وشهدت له الكمية ) أقول : مراده بطالع النور حقيقة التمييز ، والطلوع هو النور على الحقيقة ، فمن حين يظهر النور يتميز الوجود ويتمكن حصره في عين التحري ومنشأ هذا النور من إرادة الذات المطلقة ، فأول ما يميز هذا النور المعلومات في العلم ويكون ألطف مما هو عليه ، فإذا ظهر الفاعل به ازداد كثافة ، وتميزت به المعلومات أيضا ، وأطلق النور أيضا خصوصا إذا ظهر في صورة طالع فيكون نورا متميزا بنور ألطف منه ، فالنور الطالع هاهنا هو النور المميز في حضرة الظاهر ، وهو عندنا أكثف الأنوار ، والمتميزات به أكثف الأجسام .
وقوله : ( وشهدت له الكمية ) يريد بالكمية حقيقة الحصر التي هي محل مستند المتحريات ، لأن صفتها معنى النور ، ومرجع حكمها إلى الذات المطلقة الظاهرة بالنور المميز لها فكميته حد حضرة من الحضرات ، وهي التي ظهرت مفاضا إليها ، فكأنه قال ظهر النور ، وشهد له حد الإحاطة به ، وحد الإحاطة هي مقدار حضرة الظاهرة ، فإذا أفاض الفاعل إليها نورا لا يشهد له حضرة أخرى ، وإنما يشهد له محيطها أعني المفاض إليها ، فمحيطها كميتها ، فالنور الطالع هاهنا نور حضرة الظاهر ، ومحيطها هو الشاهد له وهي الكمية المذكورة شاهدة .
( ص ) [ قوله : ( وطلعت الوحدانية وشهد لها العدم ، وطلع الاختيار وشهد له العهد ، وطلع ما لديه وشهدت له المنازل ، وطلعت السكينة وشهد لها التمكين ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالوحدانية ضد الثنوية وهي حقيقة التفرد بشرط شاهد ومشهود ، لأن الشاهد هاهنا بمنزلة الصفة والمشهود لمنزلة الموصوف بها ، فتكون الصفة تشهد موصوفها وعين شهودها أن لا ثاني متصفا بها ، فيحصل للموصوف التفرد بضد الثنوية ، ويحصل للصفة التفرد بهذا الشهود ، فكلا الصفة والموصوف متصفان بالتفرد ، وقد يكون هذا التفرد على ضربين : تفرد عموم ، وتفرد خصوص ، فتفرد العموم ، هو ضد الثنوية كما قلناه ، وتفرد الخصوص قد يكون فيه ثنوية وأحد الموصوفين متفردا بما ليس هو في الآخر ، وليس مراده هذا ، وإنما مراده تفرد العموم الذي هو ضد الثنوية ، ولهذا قال : ( وشهد لها العدم ) لأن الواحد المنفرد هاهنا ليس له ثان ، وليس لوجوده ضد سوى العدم وهو ممكن في ذاته [ إمكان “ 1 “ ] سعة واحتواء والشاهد على هذا قوله تعالى : وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [ طه : 98 ] ، والعدم يصير شيئا يتصوره على رأي الجاهل القائل به ، فإذا صار
...............................
( 1 ) صحفت في الأصل إلى أكمان ، والصواب ما أثبت كما في نسخة من الشرح .

“ 252 “


شيئا وسعه علم اللّه ، وليس مراده العدم الذي ينطق به ، فإنه عندنا محال ، وإنما مراده عدم الأشياء أعني فناءها في عين البقاء ، فلما ظهر التفرد له في صورة طالع شهد له عدم الأشياء الممكن له ، لأنه إذا عادت الأشياء واحدة بعد فنائها فهو العدم المشارإليه ، فيحصل لهذا الواحد التفرد بشهادة العدم المذكور الذي هو محو الأشياء .
قوله : ( وطلع الاختيار وشهد له العهد ) أقول : مراده بالاختيار المشيئة ، إذ الاختيار والمشيئة والإرادة أوصاف تميل بالذات إلى التقييد وحقيقة هذه الأوصاف الثلاثة هي المشيئة والباقي ناشئ عنها ، فلما كانت الأشياء المقيدة ظاهرة بالإرادة إلى الأزل وهو محل أخذ العهد كأن كل مشيئة تصدر مصدرا من المظاهر يشهد لها المظهر السابق عليها في المحل الأزلي المذكور ، وشهود العهد له ضروري ، لأن كل مظهر وارد صادر عن المشيئة والعهد بواسطتها صدر لتمكين حكم الرب ، وكلا الشاهد والمشهود له صادران عنها والعهد سابق على الاختيار والسابق يشاهد اللاحق .
قوله : ( وطلع ما لديه وشهدت له المنازل ) أقول : يريد بما لديه الأشياء المحصورة في إحاطة العلم بشرط إحصائها ظاهرا وخافيا ، فاستحضارها في عين إحصائها هو ما لديه لأنه إذا كان قد أحصى كل شيء عددا ، فالأشياء حاضرة له من قوله تعالى : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ قّ : 23 ] ، وهو معنى الإحصاء ، فكأنه قال : ظهر لي كل شيء أحصى اللّه عددا ، وهذا يأخذه الشاهد من حين اتصافه بمجموع الوجود ، لأنه إذا حصل له الاتصاف المذكور ، كان قد حصلت له الإحاطة بكل شيء بواسطة الاتصاف .
وقوله : ( وشهدت له المنازل ) يريد بالمنازل محال المقيدات المحصورة عددا فبقدر نشأتها وتميزها تحمل في محال مختلفة تعرف بها كالأعلام المعرفة ، وإنما جعلت منازل متعددة لاختلاف أنواع المتميزات وبقدر اختلافها اختلفت المحال الموري عنها بالمنازل ، فكأنه قال : طلعت صور المتعددات المحصورة وشهدت لها محالها .
وقوله : ( وطلعت السكينة وشهد لها التمكين ) أقول : مراده بالسكينة الصفة التي يظهر بها وقار النفس بشرط ظهور الجلالة ، فإذا ظهرت الجلالة في صورة صفة تمكنت من حين ظهورها وصارت أسماء بمنزلة الضد ناشئا عن الطيش ، فيكون قد قابله معنى الوقار الذي ظهر على النفس مع الجلالة المذكورة ، فيصير المقابل الذي قد أكمن بظهور الجلالة شاهدا عليها بعد ظهوره بصفة بالتمكين ، فالتمكين على الإطلاق هو الذي ينشأ عنه الوقار المذكور ويعود فعلا بالمشيئة ، وأصل نشأته التي هي التمكين شاهد عليه ، لأنه عنها صدر .

“ 253 “


( ص ) [ قوله : ( وطلع القلب وشهد له النظر ، وطلعت معرفة العهد وشهد له الأدب ، وطلع الليل الناطق وشهد له البهت ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالقلب بيت العلم وهو قلب المجموع وهو على الحقيقة قلب المختصر ، فإنه وسع العلم والعالم فهو بيت الوجود والعلم المختص باللّه تعالى ، وهو محمول على أربعة أركان وله أربعة أوجه كل وجه منه بمنزلة المرآة ، فالوجه الأول منها وهو ما يلي الظهر بالتقريب إلى جهة الأولية ، والمحيط الفاصل بينه وبين الأولية هو جسم الحد الذي هو محل الأزل ، وقد قلنا : إن الوجه بمنزلة المرآة فمن حين تنشأ الإرادة عن الذات الفاعلة يصير بمنزلة اسم العلم والمعلومات فيه خافية غير متميزة ، فإذا قابلت هذا الوجه الذي يحاكي المرآة في انطباع الصورة ، فتنطبع فيه المعلومات الكامنة في الاسم العالم ، وتصير فيه متميزة لطيفة الجسم ، وحقيقة هذا الانطباع ظهور وكيفية نقله ، ثم إن الوجه المقابل وهو ما يلي الوجود الظاهر وهو ثاني وجوه المرآة القلبية التي تنطبع في الوجه الأول ، فيكون فيه انطباع مماثلة وخلق صوري ، ويتمكن هذا الانطباع ، فيكونان أعني الوجهين المذكورين بمنزلة الحدود ، ويبقى ما يخلف بين الحدّين فيسمى محل تمييز المعلومات الخافية والمحل بالحقيقة خاف أيضا ، ثم إن الوجهين الآخرين المتقابلين يصدق عليهما الانطباع من أجل الإحاطة لكن هذان الوجهان الأوّلان أمكن في الشرف والتقديم ، إذ عنهما يصدر الوجود ، وهذان الأخيران الواحد منهما بمنزلة اليمين يصدر عنه القهر والقوة وما أشبههما من الأسماء ، والذي هو بمنزلة الشمال ، ويصدر عنه النقمة ولا يشوبها شيء من الرحمة ، ومنها صدرت حقيقة إبليس وهي بيته على الإطلاق ، ومحيطها يسع فروعه ، والمعلومات التي تختص بالاسم المنتقم ، فما ينطبع في الوجه المقابل للأول من الشمال ، فيكون حقيقة النار المهيأة للعذاب ، ولها سبيل ناشئ في محل إبليس ، وهو ظاهر في الحد الذي هو بيته إلى أن يوارى الركن الذي هو شمال الوجه الرابع الذي هو الوجه الظاهر ، فعند هذا الركن تستقر معلومات إبليس في سعته التي هي النار ، وأما الوجه الذي هو بمنزلة اليمين ، فهو البيت المختص لإبليس في النشأة والصورة والمعنى ، وأفعاله صادرة عنه مقابلة بالتضاد لأفعال لإبليس ، وله سبيل إلى الركن الأيمن من الوجه الذي ينظر إلى الوجود الظاهر ومعلوماته كامنة فيه ، وسعته حقيقة الجنة التي هي دار السعادة ومعلوماته كامنة فيها إلى حيث انتقاله ، ويمتاز مرتفعا على مقام إبليس بسبيل آخر ينشأ من حقيقة المدّبر ويسري التدبير فيه إلى الوصول إلى دار السعادة المذكورة وهو متحد في المنظر متجزئ في المخبر بمنزلة المنازل على قدر السعة والضيق ، فقد بان لك هيئة القلب على حقيقته ، فلما ظهر المختص متصفا بالأوصاف المذكورة جعل قلبه بيتا لهذا القلب

“ 254 “


المذكور ، وجثمان هذا القلب هو الاسم الجامع وصورته الرحمانية ، فجعل قلب المختص خزانة لهذه الصورة ، فهذه نسميها قلب الوجود ، فإذا أطلقنا على الإنسان القلب يكون قد انسحب حكم هذه اللفظة على القلبين وهو الخزانة والمختزن فيها ، فمراده بهذا الطالع القلبي المختزن لا الخزانة ، فإن قلب هذا الشاهد على الحقيقة هي الخزانة ، فوجب أن يكون الطالع هو القلب المختزن في قلبه لأن الموارد تنشأ عن هذا الكامن ويفاض إلى الخزانة المذكورة ، فيظهرها المختصر إلى وجودها الذي هو بمنزلة المحل ، فلما كانت الموارد على هذا النمط وجب أن يطلع القلب له كم جملة الطوالع اللائحة له وحقيقة هذا القلب هو المختزن كما قلنا ، وقد بينا هذا بيانا كافيا في كتاب الختم في فصل عرش الإنسان .
وقوله : ( وشهد له النظر ) يريد بالنظر هاهنا القوة العقلية المكمنة في ذات الإنسان ، فإنه كما قلنا : إن القلب خزانة ، فإذا اختزن فيها شيء كان الخازن هو الاسم المدبر ، وهو القوة العقلية المعبر عنها بالقوة النظرية ، فهي بمنزلة الحجاب على المخزون فاضطرارا يشهد له لأجل دوام المجالسة ، وأيضا من أجل الإحاطة ، فإن التدبير هو لطف سار في الوجود ، فلأجل سريانه يحصل له الإحاطة اضطرارا ، فلما كان هذا الاسم يتولى هذا الأمر من المختزن والخزانة والإحاطة كان شاهدا على القلب إذ هو العقل الموري عنه بالنظر ، فالنظر ضروريا يشهد لمحيطه خصوصا لما أكمن في المحيط وهو القلب المشارإليه بقوله :
( وطلعت معرفة العهد وشهد له الأدب) .
أقول : مراده بمعرفة العهد تحقيق العبودية ، لأن عهد الرب إلى عباده بنفوذ الحكم في ذواتهم فصدر من هذا الحكم الاسم المذل ، وكان ظهور هذا الاسم ممكنا للحكم المذكور ووقر العهد في أسماع الذوات المحكوم عليها وقر إدراك وانتقاش طبيعي لا يعمل فيه ولا يدرك إلا بظهور الذلة على المربوبين ظهور عجز وحصر وعدم سعة وقلة إطلاق وكثرة نور مميز يميل بالشاهد له إلى الحصر ، فهذه كلها أوصاف يتلبس بالمعهود إليه قبل وجود عقله في ذاته الصورية ، فإن كان مراد التحقيق العبودية الناشئة على العهد يتنبه تنبيه إلهام طبيعي بغير وحي ولا تعليم لكن بوحي ذاتي جزئي الانتقاش طبيعي الجري والمبعث ، فإذا ظهرت على المتصف به هذه الأوصاف يتيقن أنه قد ألهمه اللّه من اسمه الرب جملة ، فيتجلى له محمولا تجليا ربانيا ، فيتحقق لهذا العبد المراد عبوديته ، فإن كان مرادا للكمال أشهد مقام أخذ العهد وكيفيته وعلته وماهية نفسه في آن العهد المذكور من السامع والمسمع والزمان الذي كان العهد فيه ، واسم ذلك الزمان وآنيته وما يضاده من الأزمان الظاهرة المتفرعة عنه وقد أقيم العارف الكامل سهل بن عبد اللّه التستري في هذا المقام

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:45 pm

شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍
“ 255 “


فقال في جواب من سأل عن حقيقة العارف : هو من سمع قول اللّه تعالى في الأزل ألست بربكم ؟ وقال : بلى ، قيل له : يا أبا محمد فأنت تعرف ذلك ؟ قال : نعم أعرف ذلك وأعرف من كان عن شمالي ، فكل عبد مراد للكمال لابد له من الوقوف في هذا الموقف مرة ثانية حتى تتحقق له الأوصاف المذكورة ، وأنا جملة من وقف فيه وشهد الأوصاف المذكورة ، وهذا الشاهد رحمه اللّه قد ظهر له هذا المحل في صورة ولا يبعد أنه وقف عليه قبل هذا الطالع وقوفا ثانيا ، وقلّما يظهر هذا المحل إلا في صورة العهد لأنه منه نشأ ، ومن نفوذ الحكم أتى جثمانه ، ومن نفوذ العهد في الأسماع كان سرعة جريه ، فكل طالع يطلع وكل فيض يفاض ، بل كل شيء يتراءى يتقدم عليه هذا المحل المذكور ، إما في صورة طالع وإما صورة مكان ، وهذا الشاهد رحمه اللّه قد ظهر له في صورة مكان ظاهر بفعله هو العهد المذكور .


وقوله : ( وشهد له الأدب ) يريد بالأدب صفة الناطق المكمن في ذاته ، لأن العارف من حين يصدق عليه الكمال ينتفي عنه حكم الرب حتى لا يكون مربوبا ، لأن المربوب محكوم عليه ومستعل ، وهذا الكامل قد تفرد بالفناء الذي أفضى به إلى الاتصاف بالأسماء والصفات ، حتى أنه يقال فيه : إنه اسم اللّه الأعظم في الوجود ، هذا إذا كان صفة ، وأما إذا كان موصوفا كان مسمى ، فمن أجل تفرده لا ثاني يتخصص بالآنية عليه ، ومن حيث استعلاؤه لا أحد يستعلي عليه ، فيكون حاكما ومن أجل قيوميته ، قد حكم على الأسماء كلها عامة ، ومن حيث اتصافه بالحياة الدائمة الأزلية والأبدية قد صار ممدا للحياة لكل حي والمجموع حي ، فهو ممد الأشياء والفاعل لها ، فهذه صفات تباين العبودية ، والحامل لها أحدي الصفة ذاتي الشكل ظلماني الزمان ، وكل هذه أوصاف التفرد مكمنة في ذات الكامل ، فإذا تنازل حتى يصدق عليه التقييد يظهر بصفة الأدب ، ورأى أن العبودية في الوجود حقا لمن دونه إذ كان بمنزلة الفاعل والربوبية حق له ، إذ كان مخلوقا على الصورة وأيضا من أجل الاقتسام ، فإذا نطق بالعبودية كان ناطقا بألسن الموجودات ، ولسانه يوري عنه بصفة الأدب لأجل اتصافه بالتقييد في حال التنازل ، فلأجل ظهور هذه الصفة عليه اضطرارا أعني صفة الأدب شهدت لتحقيق العبودية التي هي العهد .


وقوله : ( وطلع الليل الناطق وشهد له البهت ) أقول : مراده بالليل الناطق بصفة المحو ، وهو العدم المنطوق به على ألسن العوام وتوريته عنها بالليل ، لأنها ظلمانية . وعبارته عنها بأنها ناطقة لأجل بقاء الإدراك وسريان الحياة ، ومن شروط الإنسان الحيوانية والنطق ، فلما كانت هذه الحياة سارية في هذه الصفة المورى عنها بالليل وكان الشاهد لها متصفا

“ 256 “


بها وهو ناطق ، كانت الصفة في حال انفرادها ناطقة بلسان المتصف بها في حال فنائه ، لأنه إذا شوهدت هذه الصفة ناطقة يكون الشاهد لها صامتا شهدها وهو ناطق كانت هي صامتة لأنها من حيث حقيقتها ليس فيها ثنوية يقتضي مخاطب ومخاطب ، فإذا حصل النطق بينها أو بين المتصف بها يكون ذلك نطقا طبيعيا من غير خطاب ، فهذا الشاهد قد شهد هذه الصفة ، وهو صامت ، وحقيقة نطقه فانية في صمته ، ثم إن حقيقة هذا الصمت انفردت عنه متباينة في الصفة المذكورة ، فلما شهدها رآها ناطقة بلسانه الطبيعي فووري عن حقيقتها بالليل وعن صفتها بالنطق ، قوله : ( وشهد له البهت ) مراده ( بالبهت ) حقيقة صمته لأنه إذا اتصف الشاهد بالبهت يكون في حال هذا الاتصاف صامتا ، فاضطرارا يشهد صمته لهذا الليل المذكور الذي قد سلب عنه نطقه ، وأيضا فإن حقيقة هذه الظلمة صامتة لأجل براءتها عن الثنوية ولهذا اتصف الشاهد فيها في حال فنائه برئ عن النطق والنظر والسمع والبصر ، ويبقى حقيقته إدراكا فقط ويدوم في هذا الشهود باهتا إلى حين رجوعه من هذا الخلع الذي ليس هو في الحقيقة رجوعا فناؤه الذي ينشأ عنه البهت ، الذي شهد لهذا الليل بالطلوع إذ هو صفته .


( ص ) [ قوله : ( وطلعت العبودية وشهد لها الوقوف ، وطلعت الحروف وشهدت لها الاعتبارات ) ] .


( ش ) أقول : مراده بحقيقة العبودية حقيقة الحكم عن الوجود ، فلما ثبت هذا الحكم صارت الموجودات مبهوتة ، فالحاكم رب والمحكوم عليه عبد ، وصورة الحكم عبودية وهو ذلة وخوف كما قلناه في شرح العهد ، فكأنه قد ظهرت له الذلة والخوف في صورة جسمانية مفاضة فووري عنها بالطلوع لأنها واردة من محل الفيض .


قوله : ( وشهد لها الوقوف ) يريد به صورة الإصغاء في آن العهد لأن السمع يفتقر إلى آن حتى يتنفس فيه ما يفاض عليه من الخطاب الرباني ، فهذا الآن يسمى آن وقوف ، والأسماع فيه متلقية قابلة للموري اللائق بالوقفة “ 1 “ فالعبودية هي صورة الحكم والوقفة هي صورة تلقي السماع سيما وقد حصل معه شهود عياني ، والناظر لابد له من وقفة حتى يأخذ من المنظور نصيب بصره فشهود الوقفة للربوبية مناسبة حقيقة .
...............................................................
( 1 ) الوقفة : الحبس بين المقامين ، وذلك لعدم استيفاء حقوق المقام الذي خرج عنه وعدم استحقاق دخوله في المقام العلي ، فكأنه في التجارب بينهما .

“ 257 “


قوله : ( وطلعت الحروف وشهدت لها الاعتبارات ) أقول : مراده بالحروف تجسيد المعاني اللطيفة “ 2 “ لأنها من حين تتميز في العلم يصدق عليها التجسد على اختلاف صورها وكبرها وصغرها ، فالوجود كله على هذا النمط بل المعلومات كلها ، فإذا صدق وجود هذا الحكم تسمى الحروف منه تجسد المعاني ومعانيها الدالة عليها لطائفها ، ويحكم على أسمائها بتفريق المعاني المميزة ، فما تباين منها فالألف يجمعه بأحديته ، وما اجتمع منها فاختلافها بفرقة إلى ما تدل عليه من المعاني في الناشئة من محلها التي نشأت عنه أولا ، ولهذا لا يخالف المعنى في الحقيقة ، وإن اختلف في الظاهر كان على قدر العبارات المختلفة ، وموجب اختلاف العبارات هو اختلاف صور الحروف والمعنى واحد ، ولهذا وجد فيها أحرف متشابهة ، فما تشابه منها في الصورة يكون قد انتقش للواضع لها أولا الحرف وظله ، فجعل الأظلال حروفا مماثلة لظلها الصوري وموجب هذا السبق واللحوق والتقديم والتأخر ، فإنه أول ما ظهر من الحروف الألف قبل ظهور الماء إلى الوجود الظاهر ، ثم إنه لبث في الظهور ألف سنة معنى وزمانا أما المعنى فالزمان الذي ظهر فيه هو مأخوذ من زمان اللّه الذي كان فيه ولا شيء فلما ظهر هذا الألف في هذا الزمان المذكور دل على حقيقة اللّه والعماء الذي كان فيه وسعة الإحاطة ، وكيفية الإطلاق وصورة الأحدية ، فهذه كلها معان يجمعها معنى واحد يتلفظ به في استحضار الألف ، وأما الزمان فهو المدة المحصورة التي كملت صورة الألف فيها مثل خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام والقدرة بخلاف ذلك فلما كملت صورة الألف في زمان محدد مباين للأزمان السابقة واللاحقة وكان محل نشأته في الحد بين الإطلاق والتقييد ، فجعل الحد صورة حصر ومكانه دالا على زمانه والزمان عبارة عن مقيد محصور ، فكانت نشأته أعني الألف مع اصطحاب اسمه دالة على زمانه وصورته دالة على معناه ، فحصرت له هذه المدة لأجل جمعيته للمعاني كلها مماثلة ومختلفة ، فكان مقدار هذا الحصر ألف سنة كما قلناه ، ثم إنه ظهر اللّه تعالى بالحرف التالي للألف في الحد الفاصل بين الأولية والظاهر وجعله مخالفا لصورة الألف لأجل استعلائه وجمعيته للأشياء وإحاطته بها ، وكان ظهور هذا الحرف الثاني فيضا عن الألف ، ثم إنه استمر الفيض عن الألف فما تشابه من الحروف
...................................................................
( 2 ) اللطيفة : كل إشارة دقيقة المعنى تلوح للفهم لا تسعها العبارة ، وهي علوم الأذواق ، والأحوال للأفهام الثاقبة ، المتأيدة بالأشراف الغيبية ، ولا تنتهي إلى حد يضبطها العدل به ، فيؤديها الناطقة بعبارة يفهم منها حقيقتها كما هي ، وقد يطلق بإزاء النفس التي جعل محل تدبير والآلات تحصيل معلوماتها المعنوية والحسية والمثالية .

“ 258 “


كان ظهوره في فيض واحد فكملت الحروف في الظهور إلا ثلاثة أحرف ، وكان هذا الكمال في مدة قطع الأسماء الحسنى عددا وما يختلف منها وهي الثلاثة أحرف ظهرت آخرا وهي الصاد غير العجمة والدال غير المعجمة والميم فكان ظهور هذه الحروف مكملا لمجموع الحروف صورة ومعنى وصار ظهورها دالا على اللّه لها بالاعتبارات مقرونة بهذا الكمال ولاختلاف صورها كانت الاعتبارات مختلفة ومع اختلافها كان اعتبار الألف يمازجها لأنه مع كل حرف بصورته ، فوجب أن يكون معناه أيضا بل مع كل متميز حرفا كان أو غير ذلك من المتميزات ، بل هو محيط بمجموع الوجود ، فإذا انفرد بذاته كان فيه مجموع الحروف ، وإذا انفردت الحروف كل واحد برأسه فليس فيه المجموع ، وإن كان الألف مخالطا لها فإن مخالطته صورية ، والصور من شروط التقييد والتقييد دليل على النقص ، فإذا كان ممازجا لآحاد الحروف تكون إحاطته وجمعيته ناقصتين لأنه هو وقرينه مقتسمان بالإحاطة فلكل واحد منهما من الجمعية نصفها ، فإذا انفرد بذاته كانت الجمعية كاملة فيه وله فهو في كل شيء منفرد على سبيل المعية وكل شيء فيه على سبيل الجمعية المائلة باسمها مع الأشياء إلى الفناء ، فإذا ظهرت الحروف بصورها متمايزة كان ظهورها مقرونا باستحضار الاعتبارات للشاهد ، ولهذا يظهر صورة ومعنى خصوصا إن كان الشاهد رضي اللّه عنه ، فإنه لا يخفى عنه من أمر الفيض شيء صورة ومعنى ولا سيما الحروف ، فإن صورها تدل على معانيها ضرورة على نشأتها وكميتها ويتفق أن يكون الشاهد قد أكمن الكمال في ذاته إما ظاهرا وإما خافيا ، فإن كان ظاهرا تلقاه بالاعتبار الظاهر على سبيل الاقتران ، وإن كان خافيا تلقاه بمرآة القلب المميز للمعلومات فتنتقش في هذه المرآة إلى حين ظهور الكمال عليه إما برجوعه من هذا الخلع ، وإما بظهور حقيقي ، فلما كان هذا الشاهد مطلعا على محل الطوالع المذكورة والأشياء كلها تتجسد له صورا حتى يشهدها كانت الحروف أيضا متجسدة له كالحال في الأشياء ، لكن الحروف دالة على معانيها وهو خصوص بها .


قوله : ( وشهدت لها الاعتبارات ) يريد بالاعتبارات التدبر والارتباط مقرونا بمعانيها فتظهر بظهور هذه المعاني ، وتصير الدلائل شاهدة على الصور الحرفية ، وهذه شهادة ضرورية لأنه أقرب من المعنى إلى الأشياء الواردة التي هي بمنزلة الدلائل على هذه المعاني ، فالاعتبارات التي تظهر بواسطة التدبير تشهد الدلائل التي هي الصور ، وإن كانت الصور سابقة عليها ، لكن الاعتبارات من حيث كمونها في ذات الشاهد تكون للدلائل التي هي الحروف كالأعلام المعرّفة ، فلو لا أننا نعرف المعاني ونحصرها لما كنا عرفنا الصور التي هي الدلائل في حال ظهورها ، فإذا صدق هذا الحكم على العارف يعود مظاهر الموارد لتشهدها المعاني الكامنة في ذاته .

“ 259 “


( ص ) [ قوله : ( وطلعت القوة وشهد لها الإقبال ، وطلعت الرعدة وشهدت لها العبادة ، وطلع إدراك الصديقية ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالقوة ظهور صفة إصدار ما يقهر الأشياء قهرا طبيعيا على سبيل الانطباع ، لأن محال الانطباع بالمرصاد ليلقي ما يفاض عليها على تقدير الانطباع وأن لا حاجز بينها وبين الفيض فهي تجذب المنطبع فيها بقوة ، بل تكون القوة واسطة بينها وبين المظاهر المتميزة فهي تجذبها بالواسطة المذكورة ، وكذلك المظاهر تنطبع بقوة فيكون إصدار هذه القوة طبيعيا ، ولهذا ما ينتج عنها يكون أيضا طبيعيا ، فهو اسم سابق على القهر أعني القوة ، فلما تمكنت ظهر القهّار ، فالقوة تعطي المتجزئات صلابة وشدة وتفريقا في المعنى وأخذا وعطاء أو لهذا كان الفيض مستديرا لأن القوة في المتجزئات تقتضي الالتزام ، وهي ضد الضعف واللين ، وقلّما يظهر بصورة حقيقية القوى .


وقوله : ( وشهد لها الإقبال ) يريد بالإقبال صورة الجذب وقد قلنا : إنه بواسطة القوة ظهر ، فاضطرارا يشهد هذا الجذب الموري عنه بالإقبال للقوة التي هي واسطة له في الظهور .
وقوله : ( وطلعت الرعدة وشهدت لها العبادة ) أقول : مراده بالرعدة ظهور صفة الخوف متمكنة مقرونة بالحياة ، لأن الخوف من صفات الأحياء ، ولهذا ما ليس بحي لا يصدق عليه هذا الخوف في الظاهر فهو من صفات العباد الأحياء على سبيل الشرطية لكنها قد تظهر على قوم دون قوم بصورة ما عبرّ عنها من الرعدة إما لحال ، وإما لتحقيق العبودية بغير حال ، وإما لضعف قلبي لأجل تيقن البعد والقرب وعدم العصمة وكل هذه محال غير متمكنة ، وأمكن محل لها هو الخائف فهي تظهر فيه ظهورا حقيقيا ؛ لأن الخائفين هم المستقلون بهذا المظهر دون بني جنسهم ، فاضطرارا تظهر عليهم هذه الصفة ، فإن تزيدت آلت زيادتها إلى زوال العقل والحركة المعهودة والمعيشة المرادة بتقويم الظاهر ، فظهور هذه الصفة على هذا الحامل يكون غير مقترن بصفة أخرى ، وقلّما يظهر الحامل المراد للحمل بصفتين كالإنسان يعبّر عنه بالحيوانية والنطق ، فهذا الحامل الزائل العقل الظاهر بحقيقة الرعدة يكون مثل الإنسان العديم للنطق ، فهذه عوارض تعرض على الإنسان لتظهر حقيقة المعاني كالرعدة ، وما أشبهها وموجبها الخوف .


قوله : ( وشهدت لها العبادة ) يريد بالعبادة إعطاء الربوبية حقها طبعا وتسليما لتمكن الألوهية ، فإن الإله هو الرب المعبود متمكنا بالتسليم والرعدة المذكورة حال يظهر على العابد بشرط الخوف المذكور ، فشهود العبادة للرعدة شهود نسبة لا شهود ضرورة ، لأننا قلنا : إن الرعدة موجبها الخوف والخوف ناشئ عن حقيقة العبودية ، فإذا صار العبد عابدا

“ 260 “


أي ينقاد بالإرادة حتى يظهر عليه هذا الحال شهدت عبادته لهذه الرعدة .
قوله : ( وطلع إدراك الصديقية ) أقول : مراده بإدراك الصديقية إلهام الإنسان بالتصديق بشرط الإحساس الذي هو الذّوق “ 1 “ من غير تعمل كحال أبي بكر رضي اللّه عنه مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ولهذا أذعن بالتصديق في حال نزول الوحي على صاحبه ، وهذا إدراك حسي لا تعمل فيه ، ولهذا
قال صلى اللّه عليه وسلم في حقه : “ ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره “
، فهذا الذي وقر هو إلهام من اللّه تعالى له بالتصديق ذوقا إدراكيا ، وهو ذوق مختص بالصديق المقرونين بالرسل ، ولهذا ذكر الشيخ رضي اللّه عنه فيه إسلام الجناح لأن إسلام الجناح دخول تحت الطاعة والقهر والذلة والخفض طبعا ، وكل هذه الشروط تقترن بظهور المرسلين ، ويكون الحامل لها سابق بحملها على حقيقة الإرسال ، وهي مكمنة في ذاته تظهر في حال نزول الوحي على الرسول .
( ص ) [ وقوله : ( ثم شهد لها إسلام الجناح ، فلما رأيت الطوالع تتوالى ، والشواهد تترادف على ظهوره قلت : ألهذا منتهى ؟ قال : لا ، ما دامت الديمومية دائمة ) ] .
( ش ) يريد به الشروط التي ذكرناها من الدخول تحت الطاعة إلى غير ذلك فإنه اتصف بهذه الأوصاف طبعا واختيارا فاضطرارا لسبق هذه الأوصاف فيه على ظهور الإرسال تشهد لتصديقه بها .
قوله : ( فلما رأيت الطوالع تتوالى ، والشواهد تترادف على ظهوره قلت : ألهذا منتهى ؟ قال : لا ، ما دامت الديمومية دائمة ) أقول : مراده بهذا الخطاب أن يعبر عن كل ما شهد من الطوالع حال وقّفته في هذا لأنه شهدها شيئا فشيئا مفاضة دائمة الظهور في الآن المذكور ، فالطالع ما ظهرت له من المطلع في صورة الفيض ، والشواهد هي التي كانت
......................................................................
( 1 ) الذوق : أول مبادئ التجليات الإلهية ، وهو حال يفجأ القلب ، فإذا مكث نفسين فصاعدا سمي شربا ، ومن أثبت الغاية ، قال بالرأي .
وقوله : مبادئ التجليات . مشعر بأن لكل تجل مبدءا وجد أنه ذوق قال قدس سره : “ هذا إنما يكون في تجلي المبدأ يقبل المبدأ والوسط والغاية “ وذلك هو التجلي في الصور والحقائق ، وأما التجلي في عين المعنى المجرد عن العوارض فمبدؤه عين غايته ، فصاحب المعنى يجد عين كل شيء ، وغايته في مبدئه وجدانا كليا ، ثم يفصله في التعبير عن ذلك كيفما أمكن .
وعلى هذا قال قدس سره : “ حين بدت للعين سبحة وجهه ، وإلى علم لم يكن إلهيا “ .
فالتجلي إن كان في الصورة ، فالذوق خيالي ، وإن كان في الحقائق الإلهية والكونية فالذوق عقلي ، وإن كان في المعنى المجرد ، فذاتي . . فافهم .

“ 261 “


مكمنة في ذاته كالأعلام المعرّفة وجعل اسمها ممكنا لما ظهر من الطوالع ، ولهذا عبّر عنها بالشواهد وكونها مترادفة لأنها ظاهرة شيئا فشيئا دالة على معنى واحد ، وكذلك توالي الطوالع ، فإنه بهذه المثابة في المعنى ، وكونه سأل عن منتهاها لأنه آن وقوفه في هذا المحل كان شاهدا لمشهود ، والشاهد لا يكون إلا في صورة ، والتصوير من صفات التقييد والتقييد إذا استقل كان حكمه النقص وكأنه لما اتصف بهذه الصفات كان ناقصا عن إدراك النهاية والعلم بها من حيث كونه صورة ، فلما سأل أجيب بجذبة للكمال الممكن في ذاته والسائل والمسؤول في حال وقوعه ، لأن كليهما مقتسمان بالكمال كالخلق على الصورة ورؤية المحتجب للكامل وما أشبه ذلك ، وكانت حقيقة السؤال مظهرة للعبادة عن نهاية هذه الطوالع بل عن حقيقتها والشاهد والمشهود في حال اطلاعها كل واحد منهما على الآخر ينبغي أن يكون المشهود أعلم من الشاهد وخصوصا إن كان بمنزلة الفاعل ، أو فّياضا ، أو ميزها محمولا فيكون ما دام صورة عالم الغيب والشهادة إلى غير ذلك من مفاتح الغيب ، فلهذا يكون الشاهد سائلا والمشهود مسؤولا ، وقد يكون بالعكس ، وهذا العكس حصل لهذا الشاهد في أول مشاهدة في قوله : ( وقال : من أنت ؟ فقلت : العدم الظاهر ) ، فقد كان الشاهد هاهنا مسؤولا والمشهود سائلا ، وأنا ممن حصل له هذا الخطاب في عدة مشاهد ، فظهرت حقيقة عدم النهاية في قوله : ( لا ) .


وقوله : ( ما دامت الديمومة ) يريد به دوامه فياضا ، والديمومة زمان اللّه بشرط معية الموجودات ، فكأنه قال : لا نهاية لهذا الفيض ما دمت موجودا مع الموجودات .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : كلما اطلعت عليه ، وكلما غاب عنك ويرد عليك فهو لك ، ومن أجلك وفيك ، ولو كشفت لك عن أدنى سر من أسرار سر توحيد الألوهية الذي أودعته فيك ما طقت حمله ، ولاحترقت ) ] .


( ش ) أقول : مراده بهذا الخطاب تكميل النقص الذي ظهر في حال السؤال عن المنتهى ، وإظهار الحقائق الكامنة في ذات الشاهد .


فقوله : ( كلما اطلعت عليه ) يريد به الطّوالع المتتالية في حال وقوفه في المحل الذي يطلع فيه على الفيض ، قوله : ( وما غاب عنك ) يريد به إخفاء الحضرتين اللتين هما من الوجود على النصف وهما الباطن والآخرية ، فإنه ما دام الشاهد في الحد الذي بين الأولية ، والظاهر تكون هاتان الحضرتان اللتان هما الباطن والآخر خافيتين على سبيل الكمون في ذاته وهو لا يدركهما إلا من حين الاتصاف والإدراك هاهنا متجزئا لأجل الوقوف وأيضا

“ 262 “


من أجل شاهد ومشهود ، فهو يدركهما إدراكا متجزئا ، ولا يشهدهما عيانا فهما خافيتان عن بصره ، والطوالع المتوالية ظاهرة لعينه فهي التي اطلع عليها وهاتان الحضرتان هما الخافيتان عنه في هذا الشهود ، وهما أعني الحضرتين ومحله الذي هو فيه ، ومحل الفيض الذي هو المطلع عبارة عن مجموع الوجود المعبّر عنه بالغيب والشهادة ولهذا قيل له : كل ما اطلعت ، وما غاب عنك .


قوله : ( ويرد عليك ) يريد به الموارد القلبية في الباطن والموارد الفيضية عليه اضطرارا لأن محله هاهنا هو الحد ، والموارد لا تتجاوز الحد في الورود عليه ، وأما الموارد القلبية التي هي العبارة ، فمن حيث هو متصف بعلم الغيب والشهادة ، ولكل علم فيض فللغيب فيض خاف وهي العبارة الموري عنها بالفيض القلبي ، وللشهادة فيض وهو المطّلع عليه في حال وقفته فكأنه قال له : كلما أشهدته من الفيض الظاهر وما خفي عنك من الحضرات ، وما يرد عليك من العبارة فهو لك .


وقوله : ( من أجلك وفيك ) معناه أن المظاهر والشؤون يظهر من الفاعل لها لأجل الإنسان الكامل الذي هو على الصورة حتى يقع الاعتبار له منه لها ، ومحل فيض هذه المظاهر والشؤون هو قلب الإنسان المذكور ، وهذا معنى قوله : ( وفيك ) .


وقوله : ( ولو كشفت لك عن أدنى سر من أسرار سر توحيد الألوهية الذي أودعته فيك ) يريد به كمون المعاني جمعية الوجود فيه وهو أدنى سر من أسرار توحيد الألوهية المذكور لأنه هو الجمعية ، وهو أقرب الأسرار إلى الفهوم ، وتوحيد الألوهية هو أحد الوجود وأسراره مختلفة كثيرة العدد وشؤونه مؤتلفة أحدية المظهر ، وكل هذه أسرار لا يطاق حملها ولا يقرب إلى المفهوم سوى الجمعية المذكورة ، فإن سرها محتمل الفهوم على سبيل المجاز ، ومجموع الأسرار لا يحمله إلا المتصف بها في حال تفرده بالوحدانية ، وبقائه في الظلمة وإدراكه الخافي ، وعدم الشاهد والمشهود بل التقييد كله ، فإذا انفرد في صورة انتفت عنه الأوصاف المذكورة ، وعاد لا يطيق حمل سر من الأسرار المذكورة ، وهذا الشاهد في حال قيامه في الصورة اتصف بهذه الصفة ، وانتفت عنه الأوصاف المذكورة ، ولهذا قيل له : ( لما أطقت حمله ) لأنه في صورة تعرف يشاهده ولهذا وصف المشهود نفسه بالفاعل في قوله : ( لو كشفت لك ) .


وقوله : ( ولاحترقت ) معناه أنني لو كشفت لك السر المذكور لأفنيت بكشفه صورتك إلى حين محوها ، لأن الاحتراق عبارة عن محو الصورة إلى حين جعلها تربة فانية

“ 263 “


في مجموع التراب ، فالأسرار كلها كامنة في ذات الشاهد بشهادة قوله : ( أودعته فيك ) فإذا انفرد الشاهد دون المشهود وقام في صورة كان المشهود له بمنزلة الفاعل للكمون المعبّر عنه بالإيداع ، فإذا فني أحدهما بقي الآخر ظاهرا بالأسرار المذكورة متصفا بها وإلا في حال كونه صورة لا يطيق حمل واحد منها ، ومتى ظهر له أحرقه أي : أفناه في ذات المشهود .
( ص ) [ قوله : ( فكيف ما هو مني ، أو متصف به ذاتي ، دم ما دامت ديمومتي لا ترى إلا نفسك في كل مقام ، وفي أسرع من لمح البصر ترتقي مقامات لم ترها قط ولا تعود إليها ، ولا يزول عن نفسك ولا تتعدى قدرك ولو قدّرك لانتهيت ) ] .


( ش ) أقول : يريد بهذا الخطاب إظهار حقائق صفات الذات المختصة بها ، وهي ثلاثة : الهوية ، والأحدية ، والإطلاق فهذه صفات حقيقية تختص بالذات ، ولا يكشف منها للشاهد شيء ما دام شاهدا أو مشهودا ولا يشهد عيانا ولا نظرا عقليا ، لكن يتصف الكامل بها اتصافا لا عيانا ، ولهذا لا يشهد حقائقها متباينة عنه من أجل اتصافه بها ، فكيف إذا حضر الشاهد والمشهود في مقام واحد ، فتكون هذه الصفات بالنسبة إلى هذا الحضور المقيد في غاية الخفاء ، وربما التحق خفاؤها بالعدم ، فالشاهد الممتاز في شهوده عن المشهود قد أبان له المشهود أنه لا يطيق حمل سر الهوية المورى عنه بتوحيد الألوهية ، وهو أقرب صفات الذات إلى التقييد والشاهد مقيد ، فلو كانت المقيدات تطيق حمل هذا السر الذي هو سر التوحيد لأمكن لها إطاقة حمل الأسرار الباقية المختصة بالذات ، فكيف يطيق المقيد حمل أسرار المطلق كلا هذا محال ما دام في التقييد أو متصفا به ، أو مائلا إليه ، أو واقفا في الحد الفاصل بين الإطلاق والتقييد إلا أن يفنى تقييده وينزع من هذه المحال المذكورة ، ويفنى في ذات المطلق المتضمنة بالصفات الثلاثة ، فإذا وصل إلى هذا المقام عاد متصفا بها من حين فنائه فيها أعني الذات ، فلا يمكنه من هاهنا شهود الصفات المذكورة متباينة عنه ، لأنها تعود له بمنزلة الأسماء والصفات وما أشبهها ، فلهذا قال له :


( فكيف ما هو مني أو متصف به ذاتي ) والإشارة هاهنا إلى الاتصاف المذكور عند فناء العارف ، فإذا ظهر له سر من الأسرار الكامنة في ذاته يكون قد تقيد وانتفى عنه الإطلاق ، وهذا معنى قوله في الفصل السابق : ( لما أطقت حمله ولاحترقت ) فهذه الأسرار المتصفة ذاته لا ينفرد عنها ليشهدها الشاهد متباينة ولهذا لا تظهر له ، ولهذا قال رحمه اللّه في بعض كتبه : إن اللّه لا يتجلى لأحد مرتين فإنه آن فناء العارف تجلى بمجموع الصفات والأسماء ،

“ 264 “


بل بحقيقة ذاته ففني العارف في هذا الآن المقرون بهذا التجلي ، واتصف بمجموع الأسماء والصفات ، ولم يبق له اتصاف آخر بعد هذا الفناء ليتجلى اللّه له مرة ثانية من هذا الاسم ، وإن كان التجلي والشهود له دائما ، فإنه من الأسماء الباقية ، والصفات وأسماء اللّه وصفاته لا تتناهى ، وإنما كان التجلي المعني من اسم اللّه لأنه اسم جامع إذا ظهر استهلك حقائق الأسماء والصفات والاستهلاك هاهنا بمنزلة الأكمان حتى تظهر حقيقته ويسمى جامعا .
وقوله : ( دم ما دامت ديمومتي ) يريد بدوام الشاهد هاهنا بقاؤه في الفناء ، ودوام الديمومة هو بقاء المقيدات الصادق عليها الفناء مع اللّه لأن الديمومة هو زمان اللّه بمعية الوجود ، فإذا أفنى الوجود كانت الديمومة دائمة أي متصفة بالبقاء ، فلما فني هذا الشاهد فناء حقيقيا ، صار دائما بدوام الديمومة المذكورة بالأمر حتى تحقق على نفسه العبودية ، لأنها تلزم الكامل التزاما كما تلزمه الربوبية .


وقوله : ( لا ترى إلا نفسك في كل مقام ) يريد به تأييد ما ذكرناه من الاتصاف بالأسماء والصفات والمقامات والمحال والحدود والإحاطة التي لا مقام فوقها ، فالمقامات هاهنا ليست هي المقامات المذكورة بلسان الصوفية ، لأن العارف من حيث كماله لا مقام له ولا حال ، بل الأحوال والمقامات المعهودة تضاده مضادة كلية ، وإنما المقامات التي أشرنا إليها هي الحضرات الأربعة المورى عنها بالأسماء وهي الأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، وحدودها التي تفصل بين أسمائها ، فهذه تسمى مقامات عند حلول العارف بها وحلوله فيها حلول محلول هذا في حال تقييده ، وأما حال إطلاقه فلا اسم ، ولا حضرة ، ولا مقام ، ولا حد ، فإذا تقيد وتميزت هذه الأسماء المذكورة كان محمولا عليها متفردا بالحمل محيطا بمجموعها ، ولهذا قال له : ( لا ترى فيها إلا نفسك ) فتمييز الأسماء في حال تقييده الذي أفضى به إلى حمله كانت له بمنزلة الأسماء كامنة في ذاته غير ظهوره .
وقوله : ( وفي أسرع من لمح البصر ترتقي مقامات لم ترها قط ) يريد به كيفية الخروج من الظهور إلى الخفاء ، وليس هو من التقييد إلى الإطلاق ، لكنه من الأشياء إلى أظلالها الخافية من الظاهر إلى الباطن ، ومن الأولية إلى العلم أو من الآخرية إلى الحد الذي هو البرزخ ، فهذه مقامات لم يرها الشاهد قبل دخوله في حكم الشهود لما كان في حكم الجاهلين ، فإن هذا الخطاب من الشهود الذي لا يدل على الكمال لكنه يدل على الشهود الصوري فقط ، بل الشهود كله المذكور فيه قال لي وقلت له ، مما يدل على الكمال ، لكن هذا الشاهد رحمه اللّه تعالى قد حصل له شيء من هذه المشاهد قبل كماله وشيء بعد

“ 265 “


وأضاف ما حصل له بعد الكمال إلى ما حصل له قبله إضافة امتزاج وترتيب ألا تراه في كل مشهد كيف يختم بأول الآخر هذا مع ترتيب المطالع في أول كل مشهد فهذه كلها دلائل على اختيار الترتيب والإضافة ، ونحن نعلم مقصوده بهذا ما هو ، دون غيرنا من الناظرين في هذا الكتاب والمدّعين له افتراء ، فهذا الخطاب هاهنا ، وهو قوله : ( في أسرع من لمح البصر ترتقي مقامات لم ترها ) مما حصل له قبل الكمال ، ولولا خوف التطويل الذي يعرى عن الفائدة ، لكنا نميز في هذا الشرح بين ما شهده أولا وثانيا في محاله اللائقة به تمييز قدرة ومعرفة وضع ، ويستدل عليها بدلائل مقصودة لصاحب الكتاب بحيث لا يمتري في ذلك ذو عقل ، لكن الاختصار على بيان المقصود أوجب الصفح عن مثل هذا إلى وقت الحاجة ، فمن ادعى الكمال عرف ضرورة إن كان صادقا ما أشرنا إليه وظهر له ما شهده الشيخ من هذه المشاهد قبل كماله وبعده وجب عليه أن يظهر ذلك كما تيسر لنا إظهار بعض ذلك ، وليس يكتفي في الكمال بالشهود والاطلاع ولا يقول : قال لي ، وقلت له ، بل ليس هو من شروط الكمال ، وإن ظهر على لسان الكامل ، ومن هاهنا يحكم لصاحب المشاهد الذي اقتصر عليها فقط بالنقص لصاحب المواقف وغيره من الشاهدين أولى بالخطاب ، فإن شروط الكمال مفهومة لها محصورة عندنا بدلائل وبراهين تظهر في حال نزاع المفترين المدعين للمقابلة ، ونعود من وراء التطويل إلى شرح المقصود ، فالمقامات لم يرها العارف قبل كماله التي هي أضلال الحضرات المذكورة ، وهي غيب بالنسبة إلى ظهوره ، ففي آن واحد يلج فيها ولوج جري ، وشهود وتحقيق ، وفي آن آخر يفنى ويفني ما ولج فيه من الحضرات الموري عنها بالأظلال ، وكذلك عند تمام غاية الكمال فإنه في آن واحد يتصف بمجموع الأسماء والصفات والبقاء الناشئ من الأزل متسرمدا إلى حين اتحاده بالأبد ، فمن هاهنا لا ينسب إلى العارف مقام ، لكن من الجهل هاهنا قد قطع العارف مقامات ومحالا وحدودا كثيرة ، ومن هاهنا قال : الإمام العارف الكامل أبو يزيد رحمه اللّه : ( خضت بحرا ، وقف الأنبياء على ساحله ) فانظر إلى قوله : خضت ماضيا ولم يقل : أنا خائض حالا ومستقبلا فهذه كلها دلائل على أن العارف بعد كماله قد قطع المقامات بأسرها وأفناها ، فلا مقام له الآن ، وإنما ورد الخطاب إلى هذا الشاهد ، وذكر فيه المقامات لأنه مما ورد قبل الكمال كما ذكرناه .


قوله : ( ولا يعود إليها ، ولا تزول عن نفسك ، ولا تتعدى قدرك ) يريد به معنى ضروريا لازما للكمال المنتظر البائن للمقام ، لأنه إذا قطع مقاما وولج في الآخر ولوج

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:46 pm

شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍
“ 266 “


استعلاء ، فلا يعود آخذا في الهبوط ليطأ المقام الأول ، فإذا صدق عليه الكمال لا يعود إلى النقص ولا يلج في المقامات السفلية التي كان قطعها ، وهي محفوظة عنده معلومة له وهو محيط بها ، ولهذا قال له : ( لا تزول عن نفسك ) لأن نفسه الحافظة للمقامات هي منزلة المدبّر ، فمتى أخل بشيء مما أحاط به كان التدبير ناقصا ، والعارف بعد كماله مفتقر إلى التدبير لكونه متكفلا بالوجود كالخلافة وما أشبهها من المماثلة إلى غير ذلك ، ولهذا قال :
( ولا يتعدى قدرك ) ، فقدره هاهنا تحقيق المماثلة إذ الخليفة مماثل للمستخلف ، هذا في الظاهر ، وأما في الحقيقة فلأنه مخلوق على الصورة والناظر مماثل للمنظور صورة ومعنى ، أما للصورة ومن حيث نظر اللّه ذاته في المرآة حتى انطبعت صورة الخليفة فيها ، وأما المعنى فحقيقة الاقتسام وكيفيته ، فإن المخلوق على الصورة مقتسم بنصف الوجود لأجل مماثلة الصورة ، وأي قدر أعظم من المماثلة وأجلّ وأعلى ، وقلما يظهر العارف إلى المقيدات إلا بهذه الصورة ، وإذا لفظ كان نطقه بلسان الخلافة وحقيقته تظهر في صمته وعرائه عن الصورة ، فهناك يعني أحد المتماثلين ويتصف العارف بأوصاف الذات كلها ، فقدره ما دام مقيدا هو حقيقة المماثلة ، ولهذا قيل : لا يتعداه أي ما دمت مقيدا والمماثلة لا تكون إلا في التقييد .
( ص ) [ قوله : ( ولو قدّرت قدرك لانتهيت ، وأنت لا تتناهى ، فكيف تقدّر قدرك فإذا عجزت ويحق لك العجز أن تقدّر قدرك فتأدّب ولا تطلب قدري ، فإنك لن تدركه ، وأنت أكرم موجود في علمي ) ] .
( ش ) أقول : يريد به عدم الحصر والضيق والإحاطة التي تحصر الأشياء لأنه ما دام متجزئا لا يحصر إطلاقه ، وفي إطلاقه سعة قدره بل حقيقته ، والإطلاق لا تنتهي ذات المتصف به ، وإدراكه ، ولا يحاط به حصرا ولا علما ، لكن إحاطة الكامل به اتصاف طبيعي وإدراك غير منحصر ولا محدود ، فمن أجل عدم الحصر فيه سمي إطلاقا ، فهذه حقيقة قدره التي لا يقدّرها لأنه في صفاته لا يتناهى ، وأما قدره من حيث كونه متجزئا لا خصوص فيه ، لكنه عام لأجل مماثلة الخلق ، فليس له في حال المماثلة قدر يختص به ، وإنما قدره بالحقيقة ما ذكرناه مما لا يقدر المقيد على معرفته ، فلو أمكنه معرفة قدر المختص به لكانت حقيقته محصورة وكل محصور متناهي ، والعارف في حقيقته لا ينحصر ، فوجب أن لا يتناهى ، فلو عرف قدره ، وهو مقيد كان القدر محصورا وهو حقيقة إطلاقه ، فلا يقدر عليه لئلا يحصره .

“ 267 “


وقوله : ( فكيف تقدر قدرك ) إشارة إلى محالة حصره بعد الإطلاق لأنه ضده بالحقيقة ، والأضداد هاهنا لا تجتمع .
وقوله : ( فإذا عجزت ويحق لك العجز أن تقدر قدرك ) يريد به حقيقة ذلّة الحصر وعدم القدرة فيه من حيث كونه مربوبا إلى غير ذلك ، فكل مقيد متصف بالعجز من حيث تقييده ، وعدم نفوده في المقيدات الجسمانية فهو من حيث كونه مقيدا متصفا بهذه الأوصاف المذكورة من الذلة والحصر وعدم القدرة ، ومن شروط المقيدات أن لا يقدر على أضداد هذه الأوصاف ، ولهذا حقق له العجز ومن أجل تمكين هذه الصفات في المقيدات يجب لها أن لا يطلب ما لا قدرة عليه ، وليس في طباعها إذا كانت شروط تقييدها ظاهرة عليها قد أشار إليه الشيخ الإمام العالم أبو طالب المكي في تفسير قوله تعالى لنبيه نوح عليه السلام : فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [ هود : 46 ] .


قال الشيخ : وهل يسأل أحد ما لا علم له به ؟ فعلمنا أن مراد اللّه تعالى بذلك النهي عن السؤال عما ليس في مقدور الإنسان ولا في طباعه إذ هي أضداد حاله والأضداد هاهنا لا تجتمع ، فإذا كان من شروط المقيدات عدم الطاقة والقدرة ، فيجب لها أنها لا تروم الوقوف على ضدها وهو قدر اللّه المذكور ، فإن المقيد لا يطيق حمل قدر المطلق البريء عن الحصر والتقييد ، ولا يحصل هذا لبعض المقيدات إلا اتصافا طبيعيا لا علما واطلاعا قال اللّه تعالى : وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [ طه : 110 ] .


وقوله : ( ولا تطلب قدري فإنك لن تدركه ) إشارة إلى الأدب الناشئ عن الأمر وهذا بلحظ منه أن له قدرة ما ، فإنه من شروط الأدب معيّة القدرة ، لكنه لما ذكر العجز عرفنا أن عدم القدرة هاهنا ليس مقرونا بالأدب ، وإنما اقترن به اقترانا في حال الأمر ، فقدر اللّه هو الذي لا يطيقه عجزا عنه وهو قدره بعينه ، وهو الذي يتناهى فلا يدرك قدر اللّه ما دام مقيدا .
قوله : ( وأنت أكرم موجود في علمي ) يشير به إلى القيام المخصوص بالأمر ، فإنه لما قام بالأمر المشار إلى الأحرف فيه شهد اللّه له أنه أكرم موجود في العلم وأكرم موجود أي : أفضل موجود لما خصصتك به دون ما وسعه علم من الموجودات
 .
( ص ) [ ( قوله : ثم قال لي : اعلم أن قلب العارف يمر عليه سبعين ألف سر من أسرار جلالي لا يعودون إليه أبدا لو انكشف سر منها لمن هو في غير ذلك المقام أحرقه ) ] .
( ش ) أقول : مراده بمطلق هذا الخطاب إشارة إلى ما وسع قلب العارف من الأسرار ، فإنه إذا كان قد وسع ربه بدليل الحديث وأسرار معرفة اللّه لا تتناهى ، فلا تحصر ،

“ 268 “


وباستدارة الوجود كلما مرّ على هذا القلب الواسع لا يعود إليه أي إلى الظاهر منه ، وإنما اقتصر على هذا العدد المذكور في كل يوم ليتأسى بالحديث ، وهو
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ إن للّه تعالى سبعين حجابا من نور “
وهي بعينها تمر على قلب العارف ، فلكل حجاب ألف سر ، ولهذا كلما يرد على قلب العارف من الموارد يكون نورانيا ، فلما كان هذا القلب قد وسع الوجود الذي لا يتناهى ، وهو شبيه بالدائرة كما قلناه ، كانت الأسرار التي ترد عليه في اليوم غير الأسرار التي ترد عليه في غد ، وإنما قلنا : إنه دائرة لأنه يفيض منه وعليه ولا يدخل عليه شيء من خارج لأنه لا خارج فيه فهو يفيض من محل ويتلقى بمحل قابل ، فيجذب بما يقضي الجذب ، ويعطي بما يقتضي العطاء ، ولهذا جعلها من أسرار الجلال “ 1 “ لأن الجذب والعطاء مفتقر إليه وبحقيقته يظهر القبول إذ هو الجمال بزيادة تمكين ، فمجموع الأسرار المذكورة في كل مظهر تظهر مفاضا عن الأولية ، ومن حيث كون العارف حاكما عن الأولية حكم الاستيداع إذا انتقل عنه هذا المظهر إلى الظاهر يعود إليه ، ومن حيث كونه حاكما على الظاهر من أجل الإحاطة ، فإذا انتقل عنه المظهر إلى الباطن لا يعود إليه ، ومن حيث حكمه على الباطن لأجل الخفاء إذا انتقل عنه المظهر إلى الآخر لا يعود إليه إذ لو عاد تحققت الرجعة ، وقد قررنا محالها في ضمن ما سلف من هذا الشرح ، وهذا الشهود مما يحصل له قبل الكمال يلحظ ذلك من قوله : ( اعلم ) .


فقوله : ( لا يعودون إليه ) تأييد لعدم الرجعة ، فإن الدور إلى خلاف محال إذ لو تحقق لنقص الوجود والوجود من حيث فناؤه في ذات اللّه كامل ، فلا يطرأ عليه النقص .
وقوله : ( لو انكشف سر منها لمن هو في غير ذلك المقام أحرقه ) . يشير به إلى خصوص العارف بهذه الأسرار ، فإنها ليست أحوالا ولا مقامات ، وإن كان مرورها في محل مماثل للمقام ، فقد جعل القلب بمنزلة المقام لمرور الأسرار به ، وإن لم يكن القلب في مقام ، فكأنه يقول : لو انكشف سر من هذه الأسرار أي : لو مرّ على قلب غير هذا الواسع لأحرقه إذ هذه الأسرار كلها مختصة بالعارف ، وهي من شروط كماله إذ شيمته السعة ولابد من ملئها .


( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : لولاك ما ظهر كان ثم ظلام ، ولا كان اطلاع ، ولا حد ، ولا ظاهر ، ولا باطن ، ولا أول ، ولا آخر ) ] .
( ش ) أقول : مراده بهذا التنازل إظهار حقيقة المقابلة ، وهي صورة الكمال وإحكامها
...............................................
( 1 ) الجلال : نعوت القهر من الحضرة الإلهية .

“ 269 “


لأنه من حين فتق العماء بالنور تميزت فيه صورة الكامل تمييزا انطباعيا ، فكان النور للّه بمنزلة المرآة ، والكامل هو المنطبع فيها وهو صورة اللّه ، ومن هاهنا قيل : إن آدم مخلوق على الصورة ، فلما تحقق هذا الانطباع ، وتميزت صورة المنطبع من صورة الناظر في المرآة ، وأراد اللّه تعالى فيض الأشياء بالمشيئة على سبيل الظهور بها ، فأول مظهر ظهر به كانت الحياة ، ودفعها إلى المنطبع الذي هو الكامل حتى يتصف بالإدراك ثم إنه يتخلف بين المنطبع والناظر خلاء ، فظهر بمظهر خاف حي حساس وجعله كالسبيل تمر المظاهر عليه من اللّه إلى الكامل ، لكنه صورة كاملة مختصرة من الحياة فقط وجعلها تعالى ملء الخلاء الذي بينه وبين المرآة ، فهي موجودة دائمة بوجود الظهور ، ولأجل ثبوتها أطلقنا عليها اسم الواقف لأجل براءتها عن الزوال ، ثم إنه أخذ تعالى في الظهور ، وجعل هذه الصورة خافية لا تدرك إلا له ، وتدرك للمقيدات بمنزلة السبيل كما قلناه ، فكان الفيض يمر عليها آتيا إلى الزوال ، والكامل يفيضه على ما يخلف من باقي المرآة التي انطبعت صورة اللّه فيها ، فلا يزال اللّه تعالى عالما يظهر بالمعلومات ، والسبيل المورى عنها بالواقف ممتلئة والكامل جاذب فياض ، فبواسطة هذا الفيض تميزت المقامات علويها من سفليّها ، وترتبت المنازل على سبيل المماثلة ، وظهرت الأسرار لقلوب أرباب الأحوال ، وأشرقت الأنوار على هذه القلوب أيضا ، وكان الظلام ، وهو ضد هذه الأنوار وحصل للفياض الذي هو العارف الاطلاع على ما فاض منه وتميز لطيفا وكثيفا وظاهرا وخافيا ، وحصل له أيضا بواسطة الاطلاع ، اطلاع على الحدود الفاصلة بين الحضرات التي هي الأسماء الأربعة المورى عنها بالأول ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، فكل هذه ميزت بواسطة العارف وفيضها بواسطة فيضه وظهورها بواسطة ظهوره ، فإن قيل : إن اللّه تعالى قادر على الظهور بالموجودات بغير واسطة مقابل ، قلنا : لا لأنه من حين أخذ في الظهور اتصف بالتقييد ، وإذا اتصف بالتقييد كان صورة مقيدة بها ينزل في الثلث الآخر من الليل ، ولابد للمظاهر من نور يميزها حتى يكون بمنزلة الأشباح بالنسبة إلى ذاته لئلا يكون حقائق خارجة عنها ، ولتبرأ عن الثنوية ، فلما اتصف بالتقييد أولا وظهر بالنور حتى تتميز فيه المظاهر ، فجعل النور بمنزلة المرآة حتى تكون المظاهر فيها أشباحا ، كما قلنا ، وكان هو ولا شيء فأول متميز في المرآة التي هو النور صورته المقيدة على سبيل الانطباع ، وكان المنطبع هو صورة العارف بمراد اللّه تعالى ، فكانت المقيدات ظاهرة بواسطته ، ولينظر الناظر من أين يدخل الاعتراض على هذا الحكم .

“ 270 “


( ص ) [ ( قوله : فأنت أسمائي ودليل ذاتي ، فذاتك ذاتي وصفاتك صفاتي ، فابرز في وجودي عني ، تخاطبهم بلساني وهم لا يشعرون ) ] .
( ش ) أقول : يريد بهذا التنزل إظهار حقيقة أحدية الوجود ، وقيام اسم الرب بواسطة العبودية ، فهذا افتقار البعض إلى البعض ، وحقيقة المنتقم إذ لو لم يكن كافرا لما تحقق الانتقام ، وفي هذا المعنى قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ الإسراء : 15 ] ، فالرسول يبين حقيقة المؤمن والكافر ، ويتحققها اسمان في ذات اللّه تعالى وهما الرحمة والانتقام ، فكل هذه الأسماء نشأتها من الإنسان أي : تحقيق ذواتها من اسم الربوبية إلى غير ذلك ، ومثل هذا قال رحمة اللّه في كتابه المسمى بفصوص الحكم : “ فلولاه ولولانا لما كنا ولا كانا “ أي : لولاه لم يكن إذ هو الموجد ولولانا لما تحققت أسماؤه وأسماؤه دالة على ذاته ، وهذا معنى قوله : أنت أسمائي ، ودليل ذاتي ، فمن حيث ظهر بالموجودات تحققت له الأسماء والصفات ، وكل نوع من الموجودات ، بل كل شخص منفرد بذاته ، وكل معنى جار على ألسن الموجودات بل كل لفظ سواء كان له معنى أو لم يكن له هو اسم اللّه تعالى ، ولهذا كانت أسماؤه لا تتناهى ، وأيضا فإنه بواسطة وجودنا نطق اللّه بأسمائه على ألسنتنا تعريفا ، فلو لا الموجودات لما كان هذا النطق ولا هذا التعريف ، فواسطة الفعل هي حقيقة نشأته والموجودات وسائط في ظهور الأسماء ، فهي حقائقها على الإطلاق .


قوله : ( ودليل ذاتي ) يريد به دلالة الاسم على الذات ، فإننا لولا الأسماء وأفعالها لما عرفنا هذه الذات الفعّالة ، وأيضا فإنه لما خلق الإنسان على هذه الهيئة ، وركب هذا التركيب ، وجعل مخوفا لا خائفا ، وعلا على أمثاله في الوجود وأودع فيه الكمال الإنساني الذي لا يماثله شيء عرفنا أنه دليل على الذات سيما وقد أيّد بكونه مخلوقا على الصورة ، فهذه كلها دلائل مستودعة في الإنسان على الذات .


قوله : ( وصفاتك صفاتي ) يريد به تخصيص العارف بالمقابلة التي هي المواراة ، فإن الإنسان والصفات قد اقتسمهما المتقابلان ، فهي بجمعيتها لكل واحد منهما سهما ، والواحد منهما يفني الآخر ، ففي حال انفرادهما يكونان مقتسمين ، والكل لكل واحد منهما ، وعند فناء أحدهما ينفرد الآخر بالأسماء والصفات ، ففي قوله : ( أنت ) دليل على المقابلة ، والاقتسام ، وعدم فناء أحدهما وأيضا فإن أسماء الإنسان التي يظهر أفعالها هي منتزعة من أسماء اللّه مثل قوله تعالى : بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ التوبة : 128 ] ، وقد وصف الإنسان بالرحمة ، والرأفة ، وصفاته هي صفات اللّه بعينها ، والخصوص للعارف

“ 271 “


بحكم المقابلة .
قوله : ( فابرز في وجودي عني ) ، يريد إظهار تحقيق الخلافة المختصة بالكامل فوجود اللّه هو الوجود الظاهر ، وبروزه إليه بلفظة الخلافة ، وهو بمراد اللّه تعالى ، وهذا يلحظ من قوله : ( عني ) والبروز هاهنا هو الظهور ، والخروج بشرط التفرد ، وإظهار هذه الحقيقة أعني الخلافة ، قد كان لهذا الشاهد بالأمر .
وقوله : ( تخاطبهم بلساني وهم لا يشعرون ) يريد به تمكين حكم هذا المستخلف ، فإذا حكم على الوجود ، وفني بمجموعه في ذاته كان ناطقا بلسان الموجودات الفانية ومجموع ألسنتها هو مترجم عن خطاب اللّه تعالى ، فلما كانت الموجودات فانية في ذات اللّه ، وكان بالفناء المذكور ، وكان مستعدا للخطاب من اللّه ناطقا ، بألسن الموجودات ، وهي من حيث تقييدها لا تشعر ، ومن حيث تلبسها بالتعظيم لا تفنى لأن اللّه يماثلها في النطق .
( ص ) [ وقوله : ( يشهدونك متكلما ، وأنت صامت ، ويشهدونك متحركا ، وأنت ساكن ، ويشهدونك عالما ، وأنت معلوم ، ويشهدونك قادرا وأنت مقدور ) ] .
( ش ) أقول : إنه قد مضى ما يناسب شرح هذا الكلام ، لكننا نخصه ببيان ، إذ تكرار الشيخ رحمه اللّه لا يخلو عن الفائدة .


فقوله : ( يشهدونك متكلما ، وأنت صامت ) معناه أنّ الذات من حيث حقيقتها صامتة ، فمن فني فيها متيقنا في الفناء متصفا بأوصافها كان صامتا بصمتها لأجل براءتها عن الثنوية ، والخطاب لا يكون إلا بين اثنين .
وقوله : ( ويشهدونك متحركا وأنت ساكن ) يريد به إظهار حقيقة الصمدانية التي لا خلاء فيها حتى يميل الشاهد فيها إلى جهة دون جهة ، فهو من حيث صمدانيته ساكن لا يتحرك .
وقوله : ( ويشهدونك عالما ، وأنت معلوم ) . يريد به إظهار حقيقة علم اللّه تعالى بالموجودات كلها وهو من الجملة ، فهو معلوم من حيث هو في الوجود العام ، وعالم من أجل خصوصه بالعلم الذي يشهدونه فيه عالما .


وقوله : ( ويشهدونك قادرا وأنت مقدور ) يريد به تحقيق العبودية لأن هذا الخطاب من اسم اللّه الرب ولأن العباد مقدور عليهم ، والذي يشهد منه قادرا يكون قد اختص بالاتصاف بالربوبية مثل هذا الشاهد ومن أشبهه فهو مقدور من أجل تحقيق العبودية ، فإن

“ 272 “


كل عبد محكوم عليه ، والقدرة تنشأ عن الحكم ، وكذلك القيومية ، وما أشبهها .
( ص ) وقوله : [ ( من رآك فقد رآني ، ومن عظمك فقد عظمني ، ومن أهانك نفسه أهان ، ومن أذلّك نفسه أذل ، يعاقب من تريد ، ويثاب من تريد بغير إرادة منك ) ] .
( ش ) أقول : هذا مثل قوله : ( ذاتك ذاتي وصفاتك صفاتي ) .


وقوله هاهنا : ( من رآك فقد رآني ) ، أظهر من الخطاب السابق لأن هذا الخطاب عليه دلائل على لسان الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا كان الخطاب الأول يشبه الثاني ، فالدليل لكليهما قال صلى اللّه عليه وسلم حاكيا عن اللّه تعالى فيما روي في الصحيحين :
“ مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني “


. فهذا دليل على أن ذات الإنسان يدل على ذات اللّه خصوصا ، وقد ورد أن الإنسان مخلوق على الصورة ، وهو صورة اللّه بعينها منطبعة في مرآة ذاته ، وهذا خصوص بالإنسان الكامل ، فمن رآه كان في الحقيقة قد رأى اللّه إذ هو هيئة انطباع صورته .
وقوله : ( ومن عظمك فقد عظمني ) يريد به المعنى السابق بعينه ، لأن تعظيم الإنسان ظاهر في قوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [ الإسراء : 70 ] ، فلما اختص العارف بما اختصه اللّه من المقابلة التي هي المماثلة والاقتسام والفناء بعد هذا خصّص أيضا بالتعظيم مثل الرؤية .


قوله : ( ومن أهانك نفسه أهان ) يريد به إظهار حقيقة اتحاده بالموجودات ، فإننا إذا قلنا :
إنه متصف بمجموع الوجود ، وهو فان في ذات العارف كانت الأشياء له في حكم وجودها بمنزلة الأجزاء ، فأي جزء وصل إليه بأذية وإهانة يكون قد أذى نفسه وأهانها ، وقد مرّ شرح هذا في مواضع تليق به ، وكذلك قوله : ( ومن أذلك نفسه أذل ) في حكم هذا البيان .
وقوله : ( يعاقب من تريد ، ويثاب من تريد بغير إرادة منك ) يريد به إظهار حقيقة تفرده بالوجود كالقطبية والخلافة ، وما أشبهها ، فلما فني الخليفة في ذات المستخلف إلى حيث بقاؤه صفة عاد فعّالا بأفعال اللّه تعالى ، وليس له في هذا الفعل اختيار ، لكنه بمشيئة اللّه عاد فعّالا وإرادة ذاته خصوص مفرّق بين الثواب والعقاب فأصل المشيئة من اللّه تعالى ، واختيار العارف في تفريق الأفعال على الموجودات ، فكأنه قال بإرادتي أردت ، وليس لك في الإرادة الأولى اختيار ، وإنما لك التصرف .


( ص ) [ وقوله : ( أنت مرآتي وأنت بيتي ، وأنت مسكني ، وخزانة عيني ، ومستقر علمي ، لولاك ما علمت ، ولا عبدت ، ولا شكرت ، ولا كفرت ) ] .
أقول : مراده بذلك إظهار ما كمن في ذات العارف من النور ، وهذا مثل قوله



تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النور : 35 ] ، فإذا كانت هذه الذات الكاملة اللطيفة بمنزلة النور ، والنور هو للّه بمنزلة النور كان قوله : ( أنت مرآتي ) حقا ، ولهذا تعود ذاته النورانية تنفد في الأشياء ما علا منها وما هبط ، وفكره في المعاني الغامضة ما ظهر منها وما خفي ، فكل هذا لأجل براءة حقيقة ذاته عن الكثافة إذ هي بمنزلة النور .
قوله : ( وأنت بيتي ) يريد به حقيقته الواسعة ، فإن قلب العارف للّه بمنزلة البيت ولهذا جعل جثمانه محرما ، مقصودا معظما مثل البيوت المحرمة ، فكونه بيتا للّه من حيث إنه وسعه ، وقد قلنا في كتاب الختم : إن قلبه كالبيت وبيته كالقلب ، فبيته قلب الوجود وقلبه بيت اللّه ، ولهذا ثناه بقوله : ( وأنت مسكني ) من أجل إنه وسعه ، ومن هاهنا يقول : إن اللّه ينطق على ألسنتنا .


قوله : ( وخزانة عيني ) يريد به معنى ما تقدم من الشرح ، فإن عينه ذاته ، وذاته قد وسعها قلب هذا العبد العارف ، فهو لذات اللّه بمنزلة الخزانة .
قوله : ( ومستقر علمي ) يريد به إظهار ما أودع في ذات العارف من الأسرار ، فإنه إذا كان قلبه قد وسع ربه ، فالأسرار المختصة باللّه كلها مكمنة في هذا القلب واستقرارها براءتها عن التغير والتبدل والنسيان والجري إلى خلاف المراد ، فهي دائمة بدوام المقابلة إلى حيث نقله المقابلة ، فيستودع قلبا آخرا واسعا مماثلا لهذا الكامل ، وقوله : ( لولاك ما علمت ) يريد به إظهار حقيقة وساطة العارف بين اللّه والموجودات من المقابلة والاقتسام ، وقد مر شرح هذا في مواضع في ذكر الخلق على الصورة ، وما أشبهه ، فلولا آدم لما كانت الموجودات ولا تحققت لها العبادة ولا المعرفة ولا الشكر ولا الكفر ، وكذلك كل عارف يقوم مقامه وفي محله ، ولذلك ورد في هذا الخطاب بهذه الألفاظ ، فقال له : ولا شكرت ، ولا كفرت .


( ص ) [ وقوله : ( إذا أردت أن أعذب أحدا كفر بك ، وإذا أردت أن أنعمه شكرك سبحانك وتعاليت أنت المسبح والممجد والمعظم غاية العلم ، والمعرفة أن يتعلق بك ، بل أوجدك فيك من الصفات ) ] .


( ش ) أقول : واتصافه بمجموع أوصافها ، لأنه من حين فني فيها عادت حقيقته حقيقتها ، وصورته الظاهرة صورتها وهي التي ينزل فيها في الثلث الأخير من الليل ، فإن ذاته من حيث هي لا تحصر ، ولا يطلق عليها النزول ، لأن النزول يقتضي الحصر خصوصا وقد قرن بمكان معين ، وكذلك الخطاب الوارد منه تعالى ، فكل هذه صفات تقتضي

“ 274 “


الحصر ، فلما كانت محققة لصدق الآتي بها جعل لهذا النزول صورة مختصرة من مجموع الوجود وهي صورة العارف ، فحقيقته هي الذات التي لا تنحصر وصورته هي المرآة للنزول ، فمن كفر بهذا الحكم حق عليه العذاب من اللّه حيث صدق وعده ، فكأنه كذّب الحديث ، ومن آمن به أعني هذا الحكم حق له النعيم لأجل تصديق الرسول وتصدق ما ورد على لسان هذا العارف ، فإنه يعرف حقيقة ذاته وصورته ويؤيد معرفته الحديث المذكور ، فهذا في الظاهر .


وأما في الحقيقة ، فلكونه دليلا على ذات اللّه كما قال له : ويؤيد هذا الحديث الآخر ، وهو كونه مخلوقا على الصورة ، فكل هذه أوصاف كامنة في ذات العارف من كفر بها حق عليه العذاب وضده لمن آمن .


وقوله : ( سبحانك وتعاليت ) يريد به إظهار حقيقة ذاته ، فإنها من حيث هي فانية في ذات اللّه تعالى قد اتصف بالتنزيه والبراءة عن التشبيه والتمثيل والحصر إلى غير ذلك من النقائص وصورته من حيث هي مختصرة من حقيقته فانية في الذات والحقيقة للّه تعالى من أجل النزول كما ذكرنا ، فإذا نطق كان اللّه هو الناطق إذ قلبه خزانته كما قال قبل ، وإذا سمع وأبصر كان اللّه هو السميع البصير ، بدليل الحديث الوارد . 


فقوله : ( سبحانك وتعاليت ) إشارة إلى ذاته تعالى مع إظهار فناء هذا العارف في هذا الحال ، وأقول : إنه كان حال هذا الخطاب صامتا حتى ينطق اللّه بلسانه ، وإن كان دائما هو هكذا ، لكن القصد في هذا الخطاب إظهار حقيقة فناء هذا العارف ، فكأنه تعالى سبّح نفسه ، وأشار إلى العارف أنه لا حقيقة لصورتك ، لأنها مستهلكة في ذاتي وكثيرا ما يلحظ هذا في الشهود ، وذلك أن اللّه تعالى يصفنا في الآن بأوصاف مختصة به لا تطلق على عبد ، ويكون الإشارة فيها إلى فناء صورة العبد ، فلو سبّح هذا العارف نفسه بلسان فنائه في ذات اللّه كان تعالى عند هذا التسبيح لا يتكلم من حيث ذاته ومن حيث ذاته ومن حيث صورته يكون ناطقا على هذا اللسان ، وهذا النطق مثل القول على لسان عبده صلى اللّه عليه وسلم : “ سمع اللّه لمن حمده “


ومن هاهنا ما وقع لأرباب هذا الشأن من الكلمات المختصة باللّه وهي التي نسبها الجاهل إلى الكفر والزندقة ، وهو لا يعلم ما وراءها ولا حقيقة العارف الذي نطق بها ولا عرف أنها قول اللّه على ألسنتهم بدليل الحديث المذكور ، فمن ذلك قول أبي يزيد رحمه اللّه : “ سبحاني ، ما أعظم شأني “ فكان بالحقيقة هو نطق اللّه على لسانه ، وكان المراد منه إظهار فناء حقيقة الناطق به ، ومن ذلك قول الشيخ الزاهد التقي أبي بكر الشبلي رحمه اللّه : “ ما تحت الجبّة

“ 275 “


إلا اللّه “ ، فإشارته بما تحت الجبة إلى قلبه الذي وسع ربه ، فإنه ليس في قلبه إلا اللّه ، ومن ذلك قول الشيخ المحقق الحسين بن منصور الحلاج رحمه اللّه : “ أنا اللّه “ لأنه ظهر باطنه على ظاهره ، وليس في الباطن القلبي سوى اللّه ، وهو الناطق على لسانه كما قررناه ، فكل هؤلاء قوم صار لهم الغيب شهادة ، وحكم ظاهرهم على بواطنهم ، فصار نطق اللّه على ألسنتهم ظاهرا ، وقد قال الشيخ صاحب هذا الكتاب رحمه اللّه في بعض كتبه : “ إن صار لك الغيب شهادة “ ذكر هذا في كتاب التجليات ، وكل هؤلاء ممن صار لهم الغيب شهادة وظهر لهم ما كان مستورا عنهم ، وعن الجاهلين عند تحقيقهم للوجود ومعرفتهم للّه تعالى ، فيظن الجاهل أنه خروج عن الأمر المشروع ، وليس كذلك لكنه نطق اللّه على ألسنتهم بإرادته بعد تحقيق الأمر ، فمنهم من يظهر هذا عليه كمن ذكرناه رحمهم اللّه ، ومنهم من لا يظهر عليه كأبي القاسم الجنيد ، وصاحب هذه المشاهد رحمهما اللّه ، وأنا ممن لم يظهر عليه ذلك البتة ، فإننا نكتفي في ذلك بخطاب اللّه تعالى لنا به في السر مع خلاصنا من الحال ، وأما أولئك الذين ظهر عليهم ، فإن شواهد الحال ظاهرة عليهم ، وإن لم يكونوا متصفين به لكنهم تخلقوا به تخلقا اقتداء بالزاهد الشارع صلى اللّه عليه وسلم ، وأيضا فإنهم كانوا في زمان يقتضي مثل هذا التخلق ، وذلك قبل كمال من كمل منهم فعند كماله قصد التخلق بأخلاق الحال لما يقتضيه حوطة الكمال ، فجرى على لسانه ما ذكر ، وأما هذا الشيخ رحمه اللّه لم يكن متخلقا بأخلاق الحال ، فاكتفى بمثل هذا القول في الخطاب السرياني من التسبيح والتعالي .


وقوله : ( أنت المسبح والممجد ) إلى غير ذلك ، فكل هذه صفات تنزيه يصف اللّه بها العارف ، ليشهد هذا الاتصاف مع شهادته فناء ذاته في ذات اللّه تعالى .
وقوله : ( غاية العلم والمعرفة أن يتعلق بك ) يريد به إظهار حقيقة فناء الموجودات في ذات هذا العارف ، فإن الموجودات معلومات اللّه ، فإذا فنيت في ذات هذا العارف كان غاية العلم بها فناءها ، فكأنه قال له : أنت معلومي وأنت غاية علمي .


وقوله : ( أوجدت فيك من الصفات والنعوت ما أردت أن يعلمني بها ) يريد بذلك اشتماله وإحاطته بأحدية الوجود ، فإن أوصافه ونعوته لا تتناهى ، فلما اتصف هذا العارف بمجموع هذا الوجود الذي أحاط به كانت الصفات والنعوت موجودة في ذاته وهذا الاتصاف بمراد اللّه تعالى ، وكذلك ظهور الأوصاف والنعوت بعينه ، فكلها بالمشيئة السابقة وإعلام اللّه به على لسان العارف بالإرادة هو صورة امتحان للعارف ، ولهذا أحاط

“ 276 “


بهذه الأوصاف والنعوت يقينا ، وهل ظهرت ليقينه عيانا فكأنه قال له : أوجدت فيك من الأوصاف ما تتيقنه وتنطق به وتقدر على إظهاره في حضرتي ، فكل هذه صفات تنشأ عن الإرادة يلحظ منها الإعلام وهي مراده للامتحان بالإرادة .
( ص ) [ قوله : ( فغاية معرفتك على قدر ما وهبتك ، فما عرفت إلا نفسك انفردت أنا بصفات الجلال والجمال لا يعلمها أحد غيري ، لو علم علمي وإرادتي وجميع صفاتي ) ] .
( ش ) أقول : إن معناه وهو مراد واحد لكل عارف يظهر في عصره وهي إرادة اللّه تعالى وأيضا فإنه يلحظ منه إظهار حقيقة المقابلة التي هي صورة انطباع الذات في المرآة ، فإن هذه أوصاف مكمنة في ذاته إلى حين كمال درايته ، فإنها تظهر له عيانا وظهورها في حال إرادة الكمال ، فظهورها من جملة الشروط ، ووهب الفناء يشتمل عليها كلها ، وغاية المعرفة التيقن بالفناء والعبارة عما أكمن في الذات المفنية مما أريد له الفيض .
وقوله : ( فما عرفت إلا نفسك ) يريد به إظهار أحدية الوجود في ذاته ، فإنه إذا تيقن بالاتصاف كان قد عرف نفسه ، ونفسه مجموع الوجود ، هذا بعد تيقنه بفنائه في الذات ، وهذا مثل قوله :
“ من عرف نفسه فقد عرف ربه “
، فإذا تيقن أنه متصف بمجموع الوجود وشهد فناءه في ذات اللّه عيانا كان قد عرف نفسه بمعرفة اللّه حقيقة .
وقوله : ( انفردت أنا بصفات الجلال والجمال ) لأنها صفات تقتضي الثنوية حتى يظهر أحكامها على الاثنين ، فإن صفات الجلال والجمال هي صفات القبول والجذب ، والجذب لا يكون إلا بين جاذب ومجذوب ، وكذلك القبول ، فلما نطق بالأنانية أراد به إثبات الثنوية بين الشاهد والمشهود لي بالانفراد بهذه الصفات قلّما يشهد إلا فيها ليقع القبول من الشاهد ، فلو لا تجليه فيها لحصل للشاهد النفور كما يحصل للعباد من الإنكار للرب يوم القيامة ، ويستعاذ منه ، كما ورد في الحديث الصحيح ، فلما كان من جملة صفات اللّه الجلال والجمال اختصت به ليظهر في إظهار حكم الثنوية إذ الثنوية منوطة بها كما قلناه ، فتفرده بها وخصوصه بقوله : ( أنا ) فقط .
وقوله : ( لا يعلمها أحد غيري ) هو المعنى السابق بعينه ، فإنها لا تشهد إلا عند وجود الثنوية ، وإذا حصلت الثنوية علمها المشهود دون الشاهد لأنه هو الظاهر بها ، إذ من صفات الشاهد النفور وإن لم يظهر ذلك عليه ، وليس هو من صفات الشهود إذ لا يصدق عليه النفور ، فباتصافه بالصفات المذكورة التي هي صفات الجلال والجمال لا

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:49 pm

شرح المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍
“ 277 “

يعلمها إلا هو دون المتصف بأضدادها .
وقوله : ( لو علم علمي وإرادتي وجميع صفاتي ) ، يريد بهذا الخطاب نفي الثنوية ولا تنتفي الثنوية ما دام مخاطبا ، فكأنه يقول ولو علم الشاهد علمي وجميع صفاتي أي : اتصف به وبها حتى انفرد صورة ، كنت أنا العالم بالجلال والجمال دونه لأنه متى انفرد صار شاهدا لمشهود ، والنفور ممكن لصفة الشهود فيظهر المشهود بأضداد النفور ، وهذا في إثبات الثنوية بقوله : ( انفردت أنا ) وأما في قوله : ( لو علم علمي ومجموع صفاتي ) ، نفي لهذه الصفات المختصة بالثنوية بل عدمها ، وإذا كانت معدومة فهي فانية في ذات الواحد ، فإذا ظهرت الأحدية فلا ثاني يعلم دون الواحد تعالى فحق له التفرد سواء إن كان شاهدا أو كان هو المشهود ، فمتى حصلت الأحدية حصل التفرد اضطرارا .
( ص ) [ وقوله : ( إذ ليس لها جمع ولا يأخذها حد لم أكن إلها ولا كنت خالقا ، فكل تنزيه تنزهني عليك يعود ، فإنما يبعد عن النقائص ، ويقدس عنها من اتهمت فيه أو جوزت عليه ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( إذ ليس لها جمع ولا يأخذها حد ) إشارة إلى فناء الصفات فإنها إذا فنيت لا يطلق عليها الجمعية ولا التحديد ، وإن كانت في ذات المسمى بها متكثرة لا يحصيها إلا هو فإذا تعقلنا فناءها تعقلا إدراكيا برئت عن التحديد والتمييز ، وإطلاق الجمعية إلى غير ذلك ، فكأنه قال لا يعلم أحد كنه صفاتي ولا يحصيها عددا إذ لا يدخل تحت الحصر ليطلق عليها التحديد والجمعية ، ولو علمها لم أكن إلها هذا إشارة إلى التفرد بصفات الجلال والجمال ، فعين هذا التفرد هو عين تخصيصه بالألوهية والخلق .
فقوله : ( لم أكن إلها ولا كنت خالقا ) إشارة إلى التفرد المذكور والبراءة عن الثنوية بواسطة خصوصه بالخلق ، فلو اتصف أحد بهذه الأوصاف كان له في أفعاله تعالى مشاركا وهو بريء عن الشركة والمثل .
وقوله : ( فكل تنزيه تنزهني عليك يعود ) يريد به إظهار حقيقة فناء هذا الشاهد فإنه بواسطة الفناء التحق بالهوية والأحدية واتصف بالإطلاق وصار مسبحا ومقدسا وممجدا كما ذكر ، فمتى نزه المفني كان الفاني قد تنزه ، فإذا نزه العارف ذات اللّه يكون قد نزّه نفسه لأجل فناء حقيقته في ذات المنزه ، وكذلك أي صفة وصفه بها منفرد ، وأي اسم سمّاه به فإنما سمى به ذاته ، والعائد من التنزيه عليه هو ما يظهر به من الأفعال ، فإنه إذا سمي المنزه بالرحمن ظهرت عليه صفات الرحمة وعاد رحيما ، ومثل هذا قال تعالى : بِالْمُؤْمِنِينَ

“ 278 “


رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ التوبة : 182 ] وكذلك التنزيه فإنه تعالى إذا نزهه العارف عادت صفات التنزيه على المنزه وصار مستعليا بريئا عن المثل .
وقوله : ( فإنما يبعد عن النقائص ويقدس عنها من اتهمت فيه أو جوزت عليه ) ، يريد به تأييد ما ذكرناه من تنزيه العارف لنفسه حال تنزيهه للرب تعالى ويؤيد ما ذكره بقوله : ( عليك يعود ) ، فلما كان الشاهد متهما بالنقائص وهي مجوزة عليه افتقر إلى التنزيه ليبرأ عن الصفات المذكورة ، واللّه هاهنا لا يفتقر إلى التنزيه لأن صفات النقائص لا تطرأ عليه ولا تتوهم فيه ، لكن في هذا الخطاب معنى خافيا يلحظ من ظاهره تناقضا ما ، وليس كذلك ، وذلك إنه قال له قبل هذا الخطاب : إن كل تنزيه تنزهني عليك يعود ، وقال هاهنا :
إنما ينزه عن النقائص من اتهمت فيه وجوزت عليه فيلحظ من قوله هذا في ظاهره لا تنزهني إذ ليس في من صفات النقص شيء وفي باطنه نزه نفسك ، فإنك متهم بصفة النقائص ، وإذا تنزهت كنت أنت المنزه بقوله : ( كل تنزيه تنزهني ) ، فإنه إذا تنزه ، فإن كان المفني قد تنزه ، فلا نقص .
( ص ) [ وقوله : ( تعاليت في نفسي لنفسي علوا كبيرا لا يدرك ولا يحس ، الأبصار قاصرة والعقول حائرة ، والقلوب في عماية والعالمون في تيه الحيرة تائهون ) ] .
( ش ) أقول : إنه يشير في هذا الخطاب إلى أحد الوجود وفنائه في ذات اللّه تعالى في قوله : ( تعاليت في نفسي لنفسي ) ، فإن نفسه أي ذاته هي المستعلية وهي المنزه لاسم الفاعل حتى يصدق هذا الاستعلاء الذي لا يدركه إلا ذاته .
فقوله : ( في نفسي ) أي : لا يدرك هذا الاستعلاء غيري .
وقوله : ( لنفسي ) أي : استغنيت عن البعض واستأثرت في البعض .
قوله : ( علوا ) أي : بواسطة المنزهين حصل لي هذا الاستعلاء .
قوله : ( كبيرا ) أي : محيطا بريئا عن المثل .
وقوله : ( لا يدرك ولا يحس ) يشير به إلى الإحاطة المذكورة ، فإن المحاط لا يدرك المحيط عقلا ، ولا بصرا ، وكذلك لا يحس لاشتماله على الأشياء المتجزئة ، وهي من حيث تجزئها لا يحس ببعضها على تقدير القرب “ 1 “ والبعد ، فكيف يحس المحيط بها وقوله :
.........................................................
( 1 ) القرب : القيام بالطاعة .
القرب المصطلح ، هو قرب العبد من اللّه تعالى بكل ما يعطيه من السعادة ، لا قرب الحق من العبد ، فإنه

“ 279 “


( الأبصار قاصرة والعقول حائرة ) يريد به إظهار حقيقة التجزؤ ، وتتضمن هذه الحقيقة النظر العقلي والنظر البصري ، فإنهما صفتان حقيقيتان يظهران بواسطة التجزؤ فلما أظهر التجزؤ لهذه الصفات كانت مفتقرة إليه اضطرارا ، فلما كانت الأحدية مشتملة على هذه الصفات اشتمالا مفنيا وهي تفني التجزؤ أيضا كان العقل حائرا في هذه الأحدية المفنية
.................................................................
- من حيث دلالة : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : 4 ] ، عليه قرب عام ، سواء كان سعيدا ، أو شقيا ، فكل عبد ، في كل وقت ، تحت حكومة الأسماء الإلهية قرب ، من حيث تجلي اسم إلهي وبعد من حيثية اسم آخر ، فالقريب من المضل فلا بعيد من الهادي ، والعكس ، فكل اسم يعطي قربا ، فالسعادة ترجع إلى هذا القرب المصطلح عليه ، وقد يكون للحق قرب خاص من العبد زائد على قربه العام ، كما قال تعالى لموسى وأخيه عليهما السلام : قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [ طه : 46 ] ، فإن هذه المعية ، معية العناية بالحفظ والكلاءة ، لا المعية العامة ، فقرب العبد من الحق بكل ما يعطي من السعادة يتبع له قربا خاصا من الحضرات بالحقيقة ، كما
قال صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى : “ من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يسعى أتيته هرولة “
. والقرب على قسمين : علمي ، وعملي .
فالعلمي : أعلاه العالم بتوحيد الألوهية ، وهو على نوعين نظري ، وشهودي ، والعملي : على نحوين :
قرب بأداء الواجبات وهو القرب الفرضي كما
قال صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى : “ ما تقرب المقربون بأحب إليّ من أداء ما فرضته عليهم “
. وقرب نفلي : كما قال صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى : “ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعا وبصرا “
. ومداد العمل المقرب : إما من الباطن إلى الظاهر ، فأعلمه وأتمه الإيمان ، وإما من الظاهر إلى الباطن ، فأعمه وأتمه الإسلام ، وإما من القلب الجامع بين الظاهر والباطن ، فأعلمه وأتمه الإحسان .
فمقتضى القرب النفلي : تجلي الحق للعبد متلبسا القابلية المحدودة . ومقتضى القرب الفرضي : تجلي الحق له ، وظهور العبد بحسب الحق ، غير محدود ، ولا متناه .
فالتمييز بين قوسي الحقانية والعبدانية في القرب المفرط إن كان خفيا يعبر “ بقاب قوسين “ . وإن كان أخفى يعبر عنه “ بأو أدنى “ .
ومن هنا قال قدس سره : “ وقد يطلق على حقيقة : قاب قوسين “ . فالتجلي بحكم هذا القرب ، إن كان في مادة وصورة ، يتبعها القرب في النسبة المكانية ، في مجلس الشهود ، وإن كان في مجلس الشهود ، وإن كان في غير مادة ، كان قرب المنزلة والمكانة ، كقرب الوزير من الملك . . . فافهم .


“ 280 “


والتكثر الظاهر إذ التكثر أظهر من الأحدية عند الأبصار ولهذا كانت قاصرة عن النفوذ الإدراكي فيما بعد عنها والأحدية للعقل أظهر من التكثر ولهذا كانت الأحدية لا يشهدها إلا ذو عقل ، ومن هاهنا شهد كثير من العقلاء بأحدية الوجود ، فلقرب العقل من هذه الأحدية واشتراكهما في الخفاء يدركها صاحب العقل دون غيره من الحيوانات ، ولأجل حكم العقل على التكثّر حصلت له الحيرة لأنه يدرك الأحدية ويحكم بالكثرة ، ولأجل تمكين اليقين بالقرب والبعد كانت الأبصار قاصرة عما بعد عنها وكل هذا موجبه التكثّر .
وقوله : ( والقلوب في عماية والعالمون في تيه الحيرة تائهون ) ، يريدون به معنى ما ذكرناه من حيرة العقل وقصور البصر ، فإن القلب في حكم إدراك المعاني ، فهو العقل بعينه ، ومعنى قصور الأبصار هو معنى قوله : ( والعالمون في تيه الحيرة ) لأن منهم من شهد هذه الأحدية وباح بما شهد ، فوقعت الحيرة لمن لم يشهدها .
( ص ) [ قوله : ( الألباب حائرة عن إدراك أدنى سر من جلي كبريائي ، فكيف يحيطها ) ] .
( ش ) أقول : يريد بهذا المعنى ما تقدم في قوله : الأبصار قاصرة ، والعقول حائرة ، فإن الألباب هي العقول وعدم إدراكها ليس من أسرار كبريائه التي هي الحيرة ، لأنها شاهدة للأسرار ، ولا يقدر على الإحاطة بها ، بل ولا بواحد منها .
( ص ) [ وقوله : ( عملكم هباء منثور ، وصفاتكم عدم ، وحقيقتكم مجاز في ركن وجودي ) ] .
( ش ) أقول : يريد بهذا الخطاب خصوص اللّه تعالى بالأفعال ويظهر فيه حقيقة فناء الكثرة ، فالعمل هاهنا هو الأفعال ، والهباء هو الشيء الذي لا أصغر منه جسما وقدرا ، فلما كانت الأفعال للّه بواسطة القدرة كانت عند دعوى العبد بها هباء منثورا إذ ليست منسوبة إليه ، لكنها إنما تظهر فيه ، فلما كان العبد محلا لمظهرها كانت حقيقته حقيقة الهباء ونسبتها إليه نسبة محله هو .
والحاصل منه : إنه ليس لعملكم سوى نظره وليس له نتيجة .
وقوله : ( وصفاتكم عدم ) يشير به إلى تفرد اللّه بالصفات والأسماء فعلى تقدير وجود العبد معه لا صفة له ، وعلى تقدير فنائه في ذات اللّه يكون متصفا بالأسماء والصفات ، فهذا الخطاب وارد على تقدير وجود العبد مع الرب ، وهذا الخطاب قد حصل لهذا الشاهد وهو حاصر لجمعية الوجود وناطق بمجموع ألسنتها والكثرة في ذاته ظاهرة الحقائق

“ 281 “


والأعيان ، ولهذا خوطب بالتكثير في قوله : ( عملكم ) ، فهذه إشارة إلى مقابلة جمعية ، وكذلك قوله : ( وحقيقتكم مجاز في ركن وجودي ) ، فكل هذا يلحظ منه حصور الشاهد بالجمعية ، ومخاطبته على قدر ما احتوت ذاته عليه من الكثرة في هذا الشهود ، فهذا الشهود قد كان الشاهد فيه متصفا بمجموع الوجود وحقائقه أعيان متميزة ، والمشهود منفرد بالذات فقط ، وهو يخاطب الشاهد خطاب مقابلة لأن مجموع الصفات توازي حقيقة الذات موازاة مماثلة ، والشاهد ناطق بلسان الجمعية المكمنة في ذاته ، وهذا الشهود يسمى شهود المقابلة وشهود الاقتسام ، ويريد بالمقابلة المماثلة بحصور المتماثلين .
( ص ) [ قوله : ( ارجع وراءك لن تعدو قدرك ، كلكم جاهل غبي “ 1 “ ، أخرس أعمى ، عاجز ، قاصر صامت ، حائر لا يملك قطميرا ، ولا فتيلا ، ولا نقيرا ، لو سلطت عليكم أدنى حشرات المخلوقات وأضعف جندي ، لأهلكتكم وتبرتكم ودمرتكم ) ] .
( ش ) أقول : مراده بهذا الخطاب تأييد ما ذكرناه من حصور الشاهد بالجمعية ونطقه بالألسن كلها ، وإشارة الحق إلى تكثّرها .
فقوله : ( ارجع وراءك لن تعدو قدرك ) أي : اقصر عن الإقبال إلي .
وقوله : ( لن تعدو قدرك ) يريد به إظهار هذه الحقائق المتكثرة ، فإن العارف لا يتعدى الاتصاف بمجموع الوجود زائلا وثابتا ، فالزائل هو فناء الأعيان في ذاته ، والثابت هو بقاؤها واتصافه تكثرها كالحال في هذا الشهود ، وخطابه في مقابلة ألسن الكثرة ، ولهذا قال : ( كلكم جاهل غبي ) إلى غير ذلك من صفات النقائص ، وهي كلها صفات الكثرة في حال التقييد من عدم القدرة إلى غير ذلك من الحكم على أمثالها ، ولهذا لا يملك قطميرا وهو الشيء الحقير الذي لا أحقر منه ولا فتيلا ولا نقيرا ، يريد بالفتيل : الأثر الممتد في طول النواة ، والنقير هو : الأثر المنقور في الجهة الأخرى منها ، فكل هذه صفات عجز يتضمنها التقييد .
وقوله : ( كلكم ) يظهر حقيقة التقييد لأنه يلحظ منه أشياء متكثرة أحياء قادرة على النطق ، والمترجم المماثل ينطق عن لسانها وهو الشاهد المذكور .
وقوله : ( لو سلطت عليكم أدنى حشرات ) إلى آخره ، يريد به إظهار صفات التقييد من الذلة والحصر وعدم القدرة ، وقهر بعض المقيدات لبعض وعدمها بواسطة بعضها ،
.....................................................................
( 1 ) هكذا في نسخ ، وفي غيرها ( عي ) .

“ 282 “


وهو التدمير المذكور ، فكل هذه الصفات أفعال تظهر بواسطة التقييد .
( ص ) [ وقوله : ( فكيف تدعون أو تقولون : إنكم أنا ، وأنا أنتم ، ادعيتم المحال وعشتم في الضلال ، تفرقتم أحزابا ، وصرتم أشتاتا كل حزب بما لديهم فرحون ، والحق وراء ذلك كله ) ] .
( ش ) أقول : مراده بهذا الخطاب إظهار حقائق ما يفتقر الوجود إليه من الجهل ، والعلم ، وهاتان صفتان يفتقر كمال الوجود إليهما ، فإن ادعى العالم معرفة اللّه يكون قد تمحل بضده وكذلك الجاهل إذا ادعى معرفة اللّه فالشاهد عليه يكون بعدم العلم هو العلم ، وكل منهما يتوقف على صاحبه توقف اقتران وافتقار ، لأن هاتين الصفتين أعني الجهل والعلم من شروط كمال الوجود ، وهما متحدان في حكم أحدية الوجود ، ففي حال تميزهما لا يصدق عليهما معرفة اللّه ، بل تضادهما ، فخطابه بقوله : ( ادعيتم أنكم أنا وأنا أنتم ) لمجموع الصفات التي تنطق بلسان الجهل والعلم ، فهذان اللسانان متقابلان ، لقوله : ( كيف تدعون أو تقولون : إنكم أنا ؟ ) وكذلك قوله : ( ادعيتم المحال وعشتم في الضلال ) ، فلاتحاد العلم والجهل في ذات هذا الشاهد أي صفة انفردت من صفاته كانت مقترنة بدعواها لمعرفة اللّه إذ من شروط الجاهل عدم معرفة اللّه ، وكل صفة تنفرد في ذاته لابد لها أن تصحب شيئا ما من الجهل ، لكن المجموع عارف باللّه وهو هذا الشاهد ، وصفاته عارفة باللّه وجاهلة به ، والخطاب هاهنا لمجموع الصفات يظهر ذلك في قوله : ( ادعيتم أنكم أنا ) وأيضا فإن الكثرة من حيث هي لا تطلق على كل منفرد منها اسم اللّه ، لكن اللّه بجمعيته يطلق على مجموع الكثرة ، فاسم اللّه يتضمن مجموع الكثرة اسم اللّه ، ومثل هذا شهدته في مشهد أثبته في كتاب الختم قال لي من جملة الخطاب : أنا العالم ، وليس العالم أنا ، فلما كانت هذه الكثرة متميزة في ذات هذا الشاهد آن هذا الشهود جعل اللّه دعواها بأنانيته محالا من أجل تكثرها .
وقوله : ( تفرقتم أحزابا وصرتم أشتاتا ) يريد به إظهار حقائق دعوى المفترين وهم الصفات التي تحتوي عليهم ذات العارف في عصره ، فإنه يوجد في عصر العارف من المدعين افتراء على عالم مستقل بجانب من الوجود ، وهم الأحزاب المتفرقة في قولهم ( كل حزب بما لديهم فرحون ) ، فإن كل واحد من هؤلاء المفترين قد انتمى إليه جماعة من الناس من أصحاب الذوق “ 1 “ ، ولباس الصوف وأصحاب المرقعات وغيرهم ، وصار
.....................................................
( 1 ) في نسخة : الدلوق .

“ 283 “


بأمته حزبا من الأحزاب وكل حزب مدع أنه قد حان معرفة الحق والأمر بخلاف ذلك فلو أنه حاز المعرفة وكان صادقا في دعواه لما استقل من الوجود بجانب ولا ظهر بخلاف دعواه سيما إن نطق بأحدية الوجود ، فإنه يضاد حاله وأفعاله على الإطلاق ، وهو لجهله لا يعلم وهذا معنى قوله تعالى في الآية : كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [ المؤمنون : 53 ] ، ولتأييد ذلك قال : ( والحق وراء ذلك كله ) فالأحدية وراء استقلالهم بجهة من جهات الوجود وصفتها التي هي عدم الخصوص ضد ما هم عليه تخصيص أنفسهم ، فهاتان صفتان من صفات الحق وهما الأحدية وعدم الخصوص ، وهما وراء ما يدعيه المفترون إذ هم قيام بأضداد هاتين الصفتين ، فلما كانت ذات هذا العارف تحتوي على عالم ، وجاهل ، ومدع ، ومفتر ، ومتحد ، ومتجزئ ، ومجتمع ، وأحزاب متفرقة ، ولسانه يترجم عن المجموع المكمن في ذاته خوطب في هذا الشهود بهذا الخطاب لأجل حضور الصفات في هذا الشهود حضورا متمايزا فلا يطرأ حدّان .
قوله : ( كيف تدعون أو تقولون : إنكم أنا ) ، لحقيقة هذا الشاهد من حيث هي كلا بل هو خطاب لمجموع الحقائق المكمنة في ذاته الممتازة في حكم هذا الشهود ، فإن حقيقته من حيث هي تجل عن مثل هذا الخطاب الموري عنه بدعوى المحال ، فكيف هو فان في ذات اللّه تعالى ، فهو في الحقيقة هو على الإطلاق ، وقد شهد له بذلك في قوله : ( ذاتك ذاتي وصفاتك صفاتي ، وأنت دليل على ذاتي ) إلى غير ذلك ، فعرفنا أن هذا الخطاب هو في مقابلة حضور الصفات كلها متميزة في ذات العارف في حال هذا الشهود ، وليس هو لحقيقته ، ويؤيد هذا ما يأتي من قوله : ( يا عبدي وموضع نظري من خلقي ) ، تعرفنا بذلك أنه دليل على ذات اللّه تعالى ، فلا يطرأ عليه دعوى المحال ، وما أشبهها .
( ص ) [ وقوله : ( يا عبدي وموضع نظري من خلقي بلغ عني حقا . وأنا الصادق وعزتي وجلالي ، وما أخفيته من سر علمي لأعذبن عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين من كذّب رسلي ، وكذّب اختصاصي لهم من سائر العباد ، وكذّب بصفاتي وادّعى أنه ليس لي صفة وأوجب علي ، وأدخلني تحت الحصر ، وكذّب بكلامي وتأوله من غير علم به ، وكذّب بلقائي ، وقال : إني أخلقه وإني غير قادر على بعثه كما بدأته وكذّب بحشري ونشري وحوض نبيي وميزاني وصراطي وناري وجنتي ، وزعم أنها أمثلة وعبارات المراد بها فوق أمور فوق ما ظهر ) ] .
( ش ) أقول : إن هذا الخطاب من اسم اللّه الرب ، ولهذا جرى فيه الخطاب بالأمر لأن

“ 284 “


الأمر ينشأ من حقيقة الربوبية ، ولأن الأمر يشترط أن يكون حاكما والمأمور والمنذرين محكوم عليهم طبعا من غير تعمل ، وليس لنا من الأسماء أشد من حكم الرب بل لحكم الإله قهرا سلم إليه أو لم يسلم ، فوجب لظهور حكم هذا الاسم أن يكون الأمر ناشئا عنه ، ومنه بعثة الرسل من غير تعمّل لكنه طبعا وخصوصا من اللّه تعالى ، وليس أمر الأولياء كأمر الرسل لأن الرسل عباد ويمتازون بالخصوص ، والولي عبد بغير خصوص بعثة ، وإن كان مختصا بالولاية لكن الولاية غير النبوة ، فبعثة الرسل بالاختصاص ، وبعثة العارف بالعبودية فقط ، لأن في كمال العارف لابد أن يحكم عليه حكما ما ، والأولى أن يكون الحاكم هو الرب والموجودات كلها مربوبة ، فلاتصاف هذا العارف بمجموعها ، وجب الحكم عليه وهو الذي أفضى به أن يؤمر ، فظهور الولي بهذا الأمر ، وهو قوله : ( بلغ عني ) يكون استمدادا من ظهور الأنبياء ، وكلاهما مختصان لكن خصوص الولي يباين خصوص الرسل إذ هم مختصون بصفة التقييد والولي يختص بصفة الإطلاق ، وكل واحدة من هاتين الصفتين تضاد الأخرى ولا يعرف ما قلناه هاهنا إلا أوحد وقته متفرد في عصره والرسل والأولياء مشتركون في العبودية ، فلما حصل هذا الاشتراك ، وكانت الرسل في الظهور أمكن ، فوجب أن يكون استمداد ظهور الأولياء منهم ، لأجل المشاركة في العبودية ، ونقول هذا لأجل السبق علينا ، وأيضا لسنا مجبورين على هذا القول لكنها موارد ترد علينا ، ونحن قادرون على إخفائه ، فلو أردنا إخفاءه لأخفيناه فلا يظن ظان أننا خائفون مما نقول لجعلنا الأنبياء ممدين والأولياء مستمدين ، فلا يظن أحد بنا أن لنا في الرسالة قدم نتكاتمه فيما بيننا خوفا وتواطئا ، كلا ، واللّه ، لو كان ذلك لأظهرناه مباحا على ألسن العوام ، واللّه من ورائنا يعصمنا كما عصم من قبلنا من الرسل ، وإننا لا نرتضي لأنفسنا التجلي بما ليس لنا فإننا اختصصنا بالخلافة ، والمقابلة ، والمماثلة ، والاقتسام ، والاتصاف دون غيرنا من العباد ، فكيف نرتضي بعد هذه الأوصاف لأنفسنا بالاتصاف بما ليس هو لنا مما هو دون ما ذكرناه بل لا نسبة له إليه بالوجه مع إننا حققنا ما أتت به الرسل وعرفنا اختصاصهم به دون غيرهم من المخلوقات معرفة تحقيق ويقين وعرفنا لمية ختم محمد صلى اللّه عليه وسلم للأنبياء ، ومن أين مبعثه ؟ وإلى أين يعتري دائرة بعثته ؟ وكيفية توكله بالزمان وصورة نشأته أولا في العلم ، فكل هذه صفات تختص روحنا فيها ، ووضعناها في محلها ، وعرفنا كيفية المباينة بيننا وبينهم ، فلو أن هذه الأوصاف المختصة بهم من جملة أوصافنا لظهرنا بها ناطقين متمكنين معصومين من الخطأ والزلل بقدرة الوهاب الذي قسم لكل قوم ما سبق لهم واختص بهم كما أراد ، فأمر العارف أمر عبودية وإباحة وتمكين وأمر الرسل أمر خصوص فقط ينشأ عن القهر والقهر اختيارا وإخبارا ، فأين قوله : ( قل ) إلى

“ 285 “


قوله : ( يا عبدي وموضع نظري ) فهذا من عالم اللطف ، وهذا من عالم القهر .
وقوله : ( وموضع نظري ) يريد به إظهار حقيقة المقابلة ، وهو الخلق على الصورة بشرط حضور الخالق والمخلوق ، فإن العارف هو صورة اللّه التي انطبعت في مرآة ذاته وإليها ينظر اللّه ما دام العارف موجودا ، ولهذا كان منفردا في عصره والموجودات فروعه في زمانه فبواسطته ينظر اللّه إلى الوجود ، فهو موضع نظره كما قال .
وقوله : ( بلغ عني ) إشارة إلى ظهور مع تمكين ، فإن الولي بالنسبة إلى بني جنسه ظاهر بالحكم سيما إذا انتمى إليه عالم من الناس فيكون ذلك ظهورا بالحكم مع التمكين بقوله : ( بلغ عني ) على تقدير انتماء العالم إليه ، ويريد بالتبليغ إظهار شيء من الأسرار التي بينه وبين اللّه إلى العالم ولأجل صدقه قال له : ( وأنا الصادق ) وقسمه بالعزة والجلال لأجل ما أكمن في ذات العارف من العظمة والجلالة والعزة التي هي منع الثنوية فلما كانت ذاته ظاهرة بالفناء في حكم هذا القسم وجب أن يكون ذلك بما اختصه اللّه به دون غيره ، ولهذا قال : ( وما أخفيته من سر علمي ) ، وهو إشارة إلى الأسرار الخافية التي اختص بها العارف والأوصاف والمعاني والنفوذ إلى غير ذلك ، فكل هذه خافية مكمنة في ذات العارف لا يعلمها إلا من اتصف بها وجواب القسم بتأكيد العذاب لأجل تحقيق هذا العارف لما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولهذا قال : ( من كذب رسلي وكذب اختصاصي لهم من سائر العباد وكذب بصفاتي وادعى أنه ليس لي صفة ) إلى غير ذلك من الحشر والنشر والصراط والحوض والميزان والرؤية والجنة والنار إلى غير ذلك ، فكل هذه وردت على لسان هذا العارف ليتحقق ما جاءت به الرسل عليهم السلام ، وإنما لم نتكفل ببسط معاني هذه الألفاظ وشرحها كما جرت عادتنا في جميع ألفاظ هذا الكتاب ، لأن الرسول الذي نطق بهذا قد كفانا المؤنة بإظهار معانيها ولمية مرجعها ، وقد بسطه بسطا يغني عن التردد والتلفظ به ، فلا نقدر أن نقول أكثر مما قال منه الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولا نبالغ في كشف معانيه مبالغته لأن الدخول في ذلك عندنا يكون اعتراضا وأيضا فإنه ظاهر على ألسن آحاد المسلمين متحققين به فلا يفتقر إلى الزيادة على ما عندهم وكذلك قوله عقيب هذا :
( ص ) [ ( وعزتي وجلالي لتردون وتعلمون من أصحاب الصراط السوي ، ومن اهتدى ، ولأنتقمن في دار الخزي والعذاب منهم على ما أخبرت في كتبي ، كذبوني وصدقوا أهواءهم ، ونفوسهم سولت لهم الأباطيل ، وشياطينهم لعبت بهم ، إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم أنتم لها واردون ، قف عند حدي وانظر في كتابي ، فهو النور الجلي وفيه السر الخفي صراطي ممدود على ناري ، فالويل ثم الويل لمن كذبني ) ] .
( ش ) أقول : فكل هذا مما لا يحتاج إلى شرحه اكتفاء بما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم من

“ 286 “


البيان له والإظهار لمعانيه ، وزيادة على ذلك .
( ص ) [ قوله : ( يا عبدي هل حجبت سرك عني وعن معرفتي وعن التصرف في ملكي وفي ملكوتي ، في دنياك ببقاء جسمك وعذابك وتصرفك مع أبناء جنسك ) ] .
( ش ) أقول : مراده بقوله : ( يا عبدي ) تنبيه في تأكيد إظهار العبودية لأن هذا الخطاب يقتضي إظهار هذه الحقيقة وهي العبودية ، لأن فيه ذكر العذاب والحشر والنشر والقيام بأعباء المراسم الربانية كلها ، فلهذا تكرر هذا الاسم على سبيل التثنية ، والمراد بذلك تمكين القيام بالعبودية .
وقوله : ( هل حجبت سرك عني ) يريد به إظهار حقيقة القيومية من لسان هذا العبد نطقا والمراد به السماع مثل قوله تعالى : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر : 60 ] ، ويلحظ من ظاهره الاستفهام وباطنه بخلاف ذلك حيث ذكر فيه السر لأن الأسرار بين الشاهد والمشهود ظاهرة لا يخفى منها شيء ، فلما كانت حاضرة قال له : لم أحجب سرك عني بصيغة الاستفهام ، وهذا مثل قوله : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ [ ق : 23 ] والمناسبة بينهما في المحصور بين يدي اللّه تعالى ، فكأنه قال له : ليست أسرارك محجوبة عني ، قوله : ( وعن معرفتي ) يريد بمعرفته علمه تعالى ، فكأنه قال له : أسرارك ظاهرة لي ولعلمي في خفائه لأنها من جملة المعلومات ، وإذا كانت كذلك فاضطرارا تكون ظاهرة للعلم .
وقوله : ( وعن التصرف في ملكي ) هذا راجع إلى السر فالسر من حيث هو نفاذ في الملك والنفوذ هاهنا بمعنى التصرف فالعارف بباطن سره نافذ في الموجودات التي هي الملك على سبيل التصرف والتمكين ، ومن حيث ظاهره هو ظاهر للّه تعالى غيبا وشهادة ، فكأنه قال له : ألم أحجب باطن سرك عن التصرف في ملكي وباطن سره هو أفعال المعلومات ، وظاهره صورها ، فهو بباطن سره متصرف في الوجود وبظاهر سره متصرف فيه للّه تعالى .
وقوله : ( وفي ملكوتي في دنياك ببقاء جسمك وعذابك وتصرفك مع أبناء جنسك ) يريد به إظهار حقيقة تصرف العارف ظاهرا وباطنا ، أما الباطن ففي حال شهوده للغيب واتصافه به ، وأما الظاهر ففي حال اتصافه بالبشرية ومماثلة الخلق ويتضمن بقاء عذابه وجسمه عليه ، فهو يتصرف بلفظة الخلافة ظاهرا والاتصاف باطنا ، ولا يمنعه ظاهره الكثيف عن النفوذ في باطنه اللطيف ومنه عروج الأولياء رضوان اللّه عليهم وارتقاؤهم إلى الأماكن التي لا يرقى إليها بشر ، فاستعلاؤهم وعروجهم نفوذ همم قلبية لا

“ 287 “


تمنعها الكثافة من أجل الاتحاد عن النفوذ في اللطافة ، ومن أجل الاتصاف بنفوذهم في الأماكن الخافية نفوذ حضور واستحضار ، فالحضور “ 1 “ للتصرف والاستحضار للحكم ، فهم من حيث الاتصاف خافون ظاهرون صامتون ناطقون إلى غير ذلك من الأوصاف المختصة بأحديتهم ، فكأنه قال له : لم أحجب أسرارك عني لتمتنع عن النفوذ في ملكي وفي ملكوتي .
( ص ) قوله : [ ( ألم تعلم أن العارفين كما هم اليوم كذلك يكونون غدا أجسامهم في الجنان وقلوبهم في حضرة الرحمن كل حزب بما لديهم فرحون ، وكل له شرب سيردون فيعلمون كأنهم ما سمعوا يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود ) ] .
( ش ) أقول : مراده بذلك ما تقدم من الشرح وهو قوله : ( هل حجبت سرك عني ) لكن فيه زيادة معاني تحتاج إلى إيضاح وبيان ، وذلك في قوله : كما هم اليوم يكونون غدا ، وذلك أن العارف لا يتغير عليه في حال نقلته شيء لكن فعله هاهنا خاف ، ويصير هناك ظاهرا لعينه لا لغيره ، فلا يتغير عما كان عليه من الظهور بالفعل فإنه هاهنا مشاهد للحضرات الأربعة وهو فاعل فيها من حين كونه ، وهناك أيضا على هذا النمط ومنه قول
عليّ عليه السلام : “ لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا “
. قوله : ( أجسامهم في الجنان وقلوبهم في حضرة الرحمن ) يريد به إظهار حقيقة هذا الاسم من ذواتهم وهو الذي ينشأ عنه اسم الجنة ، ولهذا قال : وقلوبهم في حضرة الرحمن ؛ لأن الجنة هي حقيقة هذا الاسم وهم مشاهدون له ظاهرا وقلوبهم تنفذ في حقيقته باطنا ، ثم إنهم في حال الانتقال يردون على هذا الاسم فكأنهم ما فارقوه أبدا ولا يعلمون كيفية النقلة ، وهو قوله : ( كأنهم ما سمعوا يوم يكشف عن ساق ) وهو بعينه كشف الغطاء وعدم زيادة اليقين ، وكذلك علمهم بالسجود عن كشف الساق .
* * *
.............................................................
( 1 ) الحضور : حضور القلب بالحق تجلياته الذاتية ، والوصفية ، والفعلية . عند غيبته بالحق عن الخلق ، أو بالخلق عن الخلق كما مر آنفا .
.

* * *

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المشهد السادس مشهد نور المطلع بطلوع نجم الكشف .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المشهد الحادي عشر مشهد نور الألوهية بطلوع نجم “ لا “ .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الرابع عشر مشهد نور الحجاج بطلوع نجم العدل .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد السابع مشهد نور الساق بطلوع نجم الدعاء .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الثامن مشهد نور الصخرة بطلوع نجم البحر .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الأول مشهد نور الوجود بطلوع نجم العيان .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: