السفر الرابع عشر فص حكمة قدرية في كلمة عزيرية الفقرة السابعة عشر الجزء الثاني .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله
الفقرة السابعة عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم
الفقرة السابعة عشر : الجزء الثانيأو قل إن شئت حال تعلق القدرة بالمقدور ولا ذوق لغير الله في ذلك.
فلا يقع فيها تجل ولا كشف، إذ لا قدرة ولا فعل إلا لله خاصة، إذ له الوجود المطلق الذي لا يتقيد. "10"
فلما رأينا عتب الحق له عليه السلام في سؤاله في القدر علمنا أنه طلب هذا الاطلاع، فطلب أن يكون له قدرة تتعلق بالمقدور، وما يقتضي ذلك إلا من له
___________________________________
فما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا الله ، فلو علم القدر علمت أحكامه ، ولو علمه أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إلى الحق في شيء وكان الغني له على الإطلاق ، فلما كان الأمر بعلم القدر يؤدي إلى هذا طواه الله عن عباده فلا يعلم ، ومن الأسباب التي لأجلها طوى علم القدر عن الإنسان ، لكون ذات الإنسان تقتضي البوح به ، لأنه أسنى ما يمدح به الإنسان، وأسنى ما يمدح به العبد العلم بالله ، وعلمه بالقدر علمه بالله .
مفاتح الغيب هي الأسماء الإلهية التي لا يعلمها إلا الله العالم بكل شيء، والأسماء نسب غيبية، إذ الغيب لا يكون مفتاحه إلا غيبا، و بالمشيئة ظهر أثر الطبيعة وهي غيب، فالمشيئة مفتاح ذلك الغيب والمشيئة نسبة إلهية لا عين لها فالمفتاح غيب ، وقد تكون مفاتح الغيب هي استعدادات القوابل وهي غير مكتسبة بل منحة إلهية، فلهذا لا يعلمها إلا الله ولا تعلم إلا بإعلام الله .
فتوحات ج 2 / 64 - ج 3 / 397 ، 542 .
10 - تعلق القدرة بالمقدور
هو حال الفعل عند تعلق الفاعل بالمفعول وكيفية تعلق القدرة الأزلية بالإيجاد الذي حارت فيه المشاهد والعقول ، وكل من رام الوقوف نكص على عقبه ورجع إلى مذهبه.
وقد قال تعالى في أنفسهم وأقدسهم حين قال «رب أرني كيف تحيي الموتى » فلما أراه آثار القدرة لاتعلقها عرف كيفية الأشياء والتحام الأجزاء حتى قام شخصا سويا.
ولا رأی تعلق القدرة ولا تحققها ، فقد تفرد الحق بسر نشأة خلقه ونشره ، فإنه ليس في حقائق ما سوى الله ما يعطي ذلك ، فلا فعل لأحد سوى الله.
فقوله تعالی « ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم » هذه الآية دليل على عدم تجلي الحق في الأفعال، أعني نسبة ظهور الكائنات عن الذات التي تكون عنها،
ص 216
قال الشيخ رضي الله عنه : (الوجود المطلق.
فطلب ما لا يمكن وجوده في الخلق ذوقا، فإن الكيفيات لا تدرك إلا بالأذواق.
وأما ما رويناه مما أوحى الله به إليه لئن لم تنته لأمحون اسمك من ديوان النبوة، أي أرفع عنك طريق الخبر وأعطيك الأمور على التجلي، والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الاستعداد الذي به يقع الإدراك الذوقي، فتعلم أنك ما أدركت إلا بحسب استعدادك فتنظر في هذا الأمر الذي طلبت، فإذا لم تره تعلم أنه ليس عندك الاستعداد الذي تطلبه وأن ذلك من خصائص الذات الإلهية، وقد علمت أن الله أعطى كل شيء خلقه: ولم يعطك هذا الاستعداد الخاص، فما هو خلقك، ولو كان خلقك لأعطاكه الحق الذي أخبر أنه «أعطى كل شي ء خلقه».
فتكون أنت الذي تنتهي عن مثل هذا السؤال من نفسك، لا تحتاج فيه إلى نهي إلهي.
وهذه عناية من الله بالعزير عليه السلام علم ذلك من علمه وجهله من جهله.)
___________________________________
فما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ،أي صدورها إلى الوجود.
أراد حالة الإيجاد ، فما شاهد أحد تعلق القدرة الإلهية بالأشياء عند إيجادها.
فإن الخلق يريد به المخلوق في موضع مثل قوله « هذا خلق الله » ويريد به الفعل في موضع مثل قوله : " ما أشهدتهم خلق السموات" فهنا يريد به الفعل بلا شك، لأنه ليس لمخلوق فعل أصلا.
فما فيه حقيقة من الله يشهد بها فعل الله، وما لمخلوق مما سوى الله ولا العقل الأول أن يعقل كيفية اجتماع نسب يكون عن اجتماعها عين وجودية مستقلة في الظهور وغير مستقلة في الغني .
مفتقرة بالإمكان المحكوم عليها به ، وهذا علم لا يعلمه إلا الله تعالى ، وليس في الإمكان أن يعلمه غير الله تعالى .
ولا يقبل التعليم أعني أن يعلمه الله من شاء من عباده ، فأشبه العلم به العلم بذات الحق ، والعلم بذات الحق محال حصوله لغير الله .
فمن المحال حصول العلم بالعالم أو بالإنسان نفسه أو بنفس كل شيء لنفسه لغير الله.
فنفهم هذه المسألة فإني ما سمعت ولا علمت أن أحدا نبه عليها ، فإنها صعبة التصور .
مع أن فحول العلماء يقولون بها ولا يعلمون أنها هي .
الفتوحات ج 1 / 195 - ج 2 / 70 ، 606 - ج 3 / 577 - ج 4 / 289 ، 296 - عنقاء مغرب - ذخائر الأعلاق .
11 - راجع فص 12 هامش 9 ص 189
ص 217
واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام، ولهذا لم تنقطع ولها الإنباء العام. "12"
وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة.
وفي محمد صلى الله عليه وسلم قد انقطعت، فلا نبي بعده: يعني مشرعا أو مشرعا له، ولا رسول وهو المشرع.
وهذا الحديث
______________________________
12 - مرتبة الولاية والنبوة والرسالة
يقول الشيخ في كتابه « التنزلات الموصلية »:
سماء النبوة في برزخ …. دوين الولي وفوق الرسول
ويقول في الفتوحات المكية ح 2 ص 23 : الولاية أعم فلك إحاطي.
وهو قوله في التنزلات الموصلية في الباب الثالث :
سماء الولاية علوية ..... تحيط بكل مقام جليل
ويقول في الفتوحات المكية في الجزء الأول ص 229 :
بين النبوة والولاية فارق ..... لكن لها الشرف الأتم الأعظم
يعنو لها الفلك المحيط بسره ..... وكذلك القلم العلي الأفخم
إن النبوة والرسالة كانتا ..... وقد انتهت ولها السبيل الأقوم
وأقام بيتا للولاية محكما ..... في ذاته فله البقاء الأدوم
لا تطلبنه نهاية يسعى لها ..... فيكون عند بلوغه يتهدم
صفة الدوام كذاته نفسية ..... فهو الولي فقهره متحكم
يأوي إليه نبيه ورسوله ..... والعالم الأعلى ومن هو أقدم
ولهذا يقول رضي اللّه عنه في الفتوحات الجزء الثاني ص 246 :
الولاية نعت إلهي ، وهو للعبد خلق لا تخلق ، وتعلقه من الطرفين عام ، لكن لا يشعر بتعلقه عموما من الجناب الإلهي ، وعموم تعلقه من الكون أظهر عند الجميع ، فإن الولاية نصر الولي ، أي نصر الناصر ، فهو ذو النصر العام في كل منصور ، ولما كان نعتا إلهيا هذا النصر المعبر عنه بالولاية ، تسمى سبحانه به وهو اسمه الولي - وهذا معنى قوله في البيت الأخير - ومن هو أقدم - .
ثم يزيد رضي اللّه عنه شرحا لمقام الولاية ، في الفتوحات المكية في الجزء الثاني ص 256 فيقول .
ص 218
قصم ظهور أولياء الله لأنه يتضمن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة.
فلا ينطلق عليه اسمها الخاص بها فإن العبد يريد ألا يشارك سيده- وهو الله في اسم، والله لم يتسم بنبي ولا رسول، وتسمى بالولي واتصف بهذا الاسم فقال «الله ولي الذين
______________________________
اعلم أن الولاية هي المحيطة العامة ، وهي الدائرة الكبرى ، فمن حكمها أن يتولى اللّه من شاء من عباده بنبوة ، وهي من أحكام الولاية ، وقد يتولاه بالرسالة وهي من أحكام الولاية أيضا ، فكل رسول لابد أن يكون نبيا ، وكل نبي لابد أن يكون وليا ، فكل رسول لابد أن يكون وليا ، فالرسالة خصوص مقام في الولاية ، والرسالة في الملائكة دنيا وآخرة ، لأنهم سفراء الحق لبعضهم وصنفهم ، ولمن سواهم من البشر في الدنيا والآخرة ، والرسالة في البشر لا تكون إلا في الدنيا ، وينقطع حكمها في الآخرة ، وكذلك تنقطع في الآخرة بعد دخول الجنة والنار ، نبوة التشريع لا النبوة العامة ، وأصل الرسالة في الأسماء الإلهية ، وحقيقة الرسالة إبلاغ كلام من متكلم إلى سامع ، فهي حال لا مقام ، ولا بقاء لها بعد انقضاء التبليغ . إهـ.
هذا ما أشرنا إليه من كتاب القربة من قوله :
مرتبة الولاية والمعرفة ، ( أي النبوة العامة لا نبوة التشريع ) دائمة الوجود ، ومرتبة الرسالة منقطعة .
لذلك نرى الشيخ رضي اللّه عنه في التكلم عن الولاية والأولياء .
يقول في الفتوحات من الجزء الثاني ص 24 :
فمن الأولياء رضي اللّه عنهم الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، تولاهم اللّه بالنبوة ، فالولاية نبوة عامة ، والنبوة التي بها التشريع نبوة خاصة .
ثم يقول : ومن الأولياء رضوان اللّه عليهم ، الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم تولاهم اللّه بالرسالة ، فهم النبيون المرسلون إلى طائفة من الناس ، أو يكون إرسالا عاما إلى الناس ، ولم يحصل ذلك إلا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم .
ويقول في ص 26 : ومن الأولياء أيضا رضي اللّه عنهم المؤمنون والمؤمنات ، تولاهم اللّه بالإيمان الذي هو القول والعمل والاعتقاد . إهـ
ولذلك نراه يقول في كتاب القربة :
الرسل من كونهم أولياء عارفين أرفع من كونهم رسلا ، فإن الولاية والمعرفة تحصرهم في بساط المشاهدة في الحضرة المقدسة ، والرسالة تنزلهم إلى العالم الأضيق ومشاهدة الأضداد ومكابدة الأسماء الإلهية القائمة بالفراعنة والجبابرة ، فلا شيء أشد عليهم من مقارعة الأسماء بالأسماء ، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم بعد استعاذاته من
ص 219
آمنوا»: وقال «هو الولي الحميد».
وهذا الاسم باق جار على عباد الله دنيا وآخرة. فلم يبق اسم يختص به العبد دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة: إلا أن الله لطف
________________________
الأفعال والأحوال « أعوذ بك منك »لشدة سلطان هذا المقام ، فإذا سمعتم لفظة من عارف محقق مبهمة ، وهو أن يقول : إن الولاية هي النبوة الكبرى ، والولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول ؛ فاعلموا أن الاعتبار بالشخص من حيث ما هو إنسان ، فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي ، وإنما يقع التفاضل بالمراتب ، فالأنبياء صلوات اللّه عليهم ما فضلوا الخلق إلا بالمراتب ، فالنبي صلى اللّه عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ، ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ، ومرتبة الرسالة منقطعة ، فإنها تنقطع بالتبليغ ، والفضل للدائم الباقي ، والولي العارف مقيم عنده ، والرسول خارج ، وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج ، فهو صلى اللّه عليه وسلم من كونه وليا عارفا ، أعلى وأشرف من كونه رسولا ، وهو الشخص بعينه ، واختلفت مراتبه ، لا أن الولي منا أرفع من الرسول ، نعوذ باللّه من الخذلان ، فعلى هذا الحد يقولها أصحاب الكشف والوجود ، إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ، ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص . إ هـ
ويقول في كتابه تلقيح الأذهان :
ففلك الولاية أعلا وأعم من فلك النبوة ، ولا تحجب فتقول الولي أفضل من النبي ، لا ، ولكن النبوة درجة في الولاية ، فالولي الذي ليس بنبي ناقص عن رتبة النبوة ، وإنما النبي من حيث ولايته اتم منه من حيث نبوته ، كالإنسان من حيث إنسانيته أتم منه من حيث حیوانيته ،
كما أن النبوة في حق ذات النبي أعم وأشرف من الرسالة ،فإنه يدخل فيها ما اختص به في نفسه وما أمر بتبليغه لأمته الذي هو منه رسول.فتوحات ج 1 / 429 .
فالكلام في المراتب وتفاضلها من حيث المقام والرتبة والأصل والفرع وعلو الأصل على الفرع والأساس على البناء والمقام على الحال والمستند إليه على المستند ومقام النصرة على التبليغ ، فمن نظر إلى المراتب وسعتها وان مرتبة الولاية وسعت الأنبياء والرسل ، وأن مرتبة النبوة وسعت الرسل واقتصرت مرتبة الرسالة على الرسل فقط ، ونظر إلى أن الولاية هي الأساس وأنها هي الفلك المحيط الأوسع ،
ص 220
بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام، وأبقى لهم الوراثة في التشريع فقال «العلماء ورثة الأنبياء». وما
________________________
قال إن مرتبة الولاية أعلى وأشرف من مرتبة النبوة والرسالة ، ومن تنظر إلى أن مرتبة الولاية لها البقاء في الدنيا والآخرة ، وأن مرتبة النبوة والرسالة منقطعة بالدنيا والحشر ، قال بعلو مقام الرتبة التي لها البقاء والدوام على الرتبة المنقطعة ، و من نظر إلى الاستناد إلى الأسماء الإلهية وأن مرتبة الولاية مستندة إلى الاسم الإلهي الولي وأن النبوة والرسالة من أسماء العبودية قال بشرف المرتبة بشرف المستند إليه ، ومن نظر إلى المعنى قال إن الولاية نصرة ، ومقام النصرة له الشرف على مقام الإخبار ومقام التبليغ.
كان محمد صلى الله عليه وسلم أعظم خليفة وأكبر إمام ، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس وجعل الله ورثته في منازل الأنبياء والرسل .
فأباح لهم الاجتهاد في الأحكام ، فهو تشريع عن خبر الشارع ، فكل مجتهد مصيب كما أنه كل نبي معصوم ، وتعبدهم الله بذلك ليحصل لهذه الأمة نصيب من التشريع وتثبت لهم فيه قدم ، فلم يتقدم عليهم سوى نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فتحشر علماء هذه الأمة حفاظ الشريعة المحمدية في صفوف الأنبياء لا في صفوف الأمم ، فهم شهداء على الناس ، وهذا نص في عدالتهم ، ولولا أن الشارع قرر حكم المجتهد من علماء هذه الأمة ما ثبت له حكم ، فالمجتهدون من علماء الشريعة ورثة الرسل في التشريع ، وأدلتهم تقوم لهم مقام الوحي للأنبياء ، واختلاف الأحكام كاختلاف الأحكام ، إلا أنهم ليسوا مثل الرسل .
فاختص الله هذه الأمة أعني علماءها بأن شرع لهم الاجتهاد في الأحكام ، وقرر حكم ما أداه إليه اجتهادهم وتعبدهم به ، ونعبد من قلدهم به، كما كان حكم الشرائع للأنبياء ومقلديهم ، ولم يكن مثل هذا الأمة نبي ما لم يكن نبيا بوحي منزل ، فجعل الله وحي علماء هذه الأمة في اجتهادهم ، كما قال لنبيه عليه السلام " لتحكم بين الناس بما أراك الله » فالمجتهد ما حكم إلا بما أراه الله في اجتهاده.
راجع الفتوحات ج 1 / 545 - ج 2 / 261 - ج 3 / 400 ، 401. کتابنا « الفقه عند الشيخ الأكبر » ص 65
ص 221
ثم ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه. "13"
فإذا رأيت النبي
_______________________________________
13 - حدیث «لا نبي بعدي ولا رسول »
" وقوله تعالى للعزير : لئن لم تنته .." - الحديث .
يقول الشيخ في الفتوحات ج 1 / 229 : -
اعلم أنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي - الحديث بكماله - فهذا الحديث من أشد ما جرعت الأولياء مرارته ، فإنه قاطع للوصلة بين الإنسان وبين عبوديته ، وإذا انقطعت الوصلة بين الإنسان وبين عبوديته من أكمل الوجوه انقطعت الوصلة بين الإنسان وبين الله ، فإن العبد على قدر ما يخرج من عبوديته ، ينقصه من تقريبه من سيده ، لأنه يزاحمه في أسمائه ، وأقل المزاحمة الاسمية ، فأبقى علينا الاسم الولي وهو من أسمائه سبحانه ، وكان هذا الاسم قد نزعه من رسوله وخلع عليه وسماه بالعبد والرسول ،ولا يليق بالله أن يسمي بالرسول.
فهذا الاسم من خصائص العبودية التي لا تصح أن تكون للرب ، والرسالة قد انقطعت فارتفع حکم هذا الاسم بارتفاعها من حيث نسبتها بها من الله .
ويقول في الفتوحات ج 2 / 253 : -
اعلم أن الحق لم يطلق على نفسه من النبوة أو الرسالة اسما كما أطلق في الولاية فسمى قفسه وليا وما سمى نفسه نبيا مع كونه أخبرنا وسمع دعاءنا .
ويقول في الفتوحات ج 2 / 253 : -
فالنبي اسم خاص بالأنبياء والرسل ما هو لله ولا للأولياء بل هو اسم خاص للعبودية التي هي عين القرب من السيد وعدم مزاحمة السيد في رتبته ، بخلاف الولاية ، فإن العبد مزاحم له في اسم الولي تعالى ، ولهذا شق على المستخلصين من العبيد انقطاع اسم النبي واسم الرسول لما كان من خصائصها ولم يكن له في الأسماء الإلهية عين .
ولذلك يقول رضي الله عنه في الفتوحات ج 1 / 229 : -
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في أمته من يجرع مثل هذا الكأس ، وعلم ما يطرأ عليهم في نفوسهم من الألم ، لذلك رحمهم . فجعل لهم نصيبا ، فقال للصحابة « ليبلغ الشاهد الغائب » فأمرهم بالتبليغ كما أمره الله بالتبليغ لينطلق عليهم أسماء الرسل التي هي مخصوصة بالعبيد ، وقال صلى الله عليه وسلم « رحم الله امرأ سمع مقالتي
ص 222
يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو ولي وعارف، "14" ولهذا، مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول أو ذو تشريع وشرع.
فإذا سمعت أحدا من أهل الله يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك
________________________________
فوعاها فأداها كما سمعها » یعنی حرفا حرفا ، ومن هنا تعرف شرف مقام العبودية وشرف المحدثين تقلة الوحي بالرواية ، فهذا القدر بقي من العبودية ، وهو خير عظیم امتن به عليهم ، ومهما لم ينقله الشخص بسنده متصلا غير منقطع فليس له هذا المقام ولا شم له رائحة .
وكان من الأولياء المزاحمين الحق في الاسم الولي فنقصه من عبوديته بقدر هذا الاسم.
14 - علم الأسرار
هو العلم الذي فوق طور العقل ، وهو علم نفث روح القدس في الروع، يختص به النبي والولي ، والعالم بعلم الأسرار يعلم العلوم كلها ويستغرقها كلها ، ولا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات ، وما بقي إلا أن يكون المخبر به صادقا عند السامعين له معصوما .
هذا شرطه عند العامة ، وأما العاقل اللبيب الناصح قفسه فلا يرمي به ولكن يقول هذا جائز عندي أن يكون صدقة أو كذبة ، وكذلك ينبغي لكل عاقل إذا أتاه بهذه العلوم غير المعصوم وإن كان صادقا في نفس الأمر فيما أخبر به ، ولكن كما لا يلزم هذا السامع صدقه لا يلزمه تكذيبه ولكن يتوقف ، وإن صدقه لم يضره لأنه أتي في خبره بما لا تحيله العقول بل تجوزه أو تقف عنده ، ولا يهد ركن من أركان الشريعة ولا يطل أصلا من أصولها ، فإذا أتي بأمر جوزه العقل وسكت عنه الشارع، فلا ينبغي لنا أن نرده أصلا ، ونحن مخيرون في قبوله ، فعلوم النبوة والولاية وراء طور العقل ، ليس للعقل فيها دخول بفكر ، لكن له القبول خاصة عند السليم العقل الذي لم يغاب عليه شبهة خيالية فكرية ، يكون من ذلك فساد نظره ،فإن العقل بين النظر والقبول.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله ، فإذا نطفوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله » قال طبقة في هذا العلم إنه وراء طور العقل ،
ص 223
القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو
_______________________________
ومنه ما يستحيل عند الفكر ويقبلها العقل من الفكر مستحيلة الوجود، لا يسكن أن يكون له تحت دليل الإمكان ، فيعلمها العقل من جانب الحق واقعة صحيحة غير مستحيلة .
ولا يزول عنها اسم الاستحالة ولا حكم الاستحالة عقلا ، ومن هذا العلم ما يكون تحت النطق ، فما ظنك بما عند هؤلاء العلماء من العلم مما هو خارج عن الدخول تحت حكم النطق ، فما كل علم يدخل تحت العبارات ، مثل علوم الأذواق كلها ، وجعل الله هذا العلم كهيئة المكنون ما جعله مکنونا ، إذ لو كان مكنونا لاتفرد به تعالى ، فلما لم يعلمه إلا العلماء بالله ، علم أن العلم بالله يورث العلم بما يعلمه الله . فهو مستور عن العموم معلوم للخصوص ، ومعنى العلم بالله أنه لا بعلم ، فقد علمنا أن ثم ما لا يعلم على التعيين ، وما عداه فيسكن العلم به ، فآکنه قلوب العلماء بالله ، فإذا نطقوا به فيما بينهم إذ لا يصح النطق به إلا على هذا الحد، واتفق أن يكون في المجلس من ليس من أهله ولا من أهل الله، فإن أهل الله هم أهل الذكر وهم العلماء بالله ، أنكره عليهم أهل الغرة فأضاف أهليتهم إلى الغرة ، وهم الذين يزعمون أنهم عرفوا الله ، قال أبو هريرة « حملت عن النبي صلى الله عليه وسلم جرابين ، أما الواحد فبثثته فيكم ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ».
يشير أبو هريرة رضي الله عنه إلى ما كان يقول فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين يضرب بيده إلى صدره و يتنهد ويقول « إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة » .
وإلى ما كان يقوله عبد الله بن عباس البحر ، كان يلقب به لاتساع علمه ، فكان يقول في قوله عز وجل د الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن » : لو ذكرت تفسيره لرجمتموني ، وفي رواية ، لقلتم إني كافر ، وإلى هذا العلم كان يشير علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، زین العابدین ، عليهم الصلاة والسلام بقوله ، فلا أدري هل هما من قوله أو تسئل بهما
یا رب جوهر علم لو أبوح به ….. لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي …. يرون أقبح ما يأتونه حسنا .
الفتوحات ج 1 / 200 ، 261 ، 483 - ج 2 / 114 - ج 3 / 244
ص 224
قال الشيخ رضي الله عنه : (القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد: وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي رسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعا له فافهم. "15"
فمرجع الرسول والنبي المشرع إلى الولاية والعلم.
ألا ترى الله تعالى قد أمره بطلب الزيادة من العلم لا من غيره فقال له آمرا «وقل رب زدني علما».
وذلك أنك تعلم أن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة أو نهي عن أفعال مخصوصة ومحلها هذه الدار فهي منقطعة، والولاية ليست كذلك إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي كما انقطعت الرسالة من حيث هي.
وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم.
والولي اسم باق لله تعالى، فهو لعبيده تخلقا وتحققا وتعلقا.
فقوله للعزير لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية القدر لأمحون اسمك من ديوان النبوة فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي ويزول عنك اسم النبي والرسول، وتبقى له ولايته. "16"
إلا أنه لما دلت قرينة الحال أن هذا الخطاب جرى مجرى الوعيد علم من اقترنت عنده هذه الحالة مع الخطاب أنه وعيد بانقطاع خصوص بعض مراتب الولاية في هذه الدار، إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب.
فيعلم أنه أعلى من الولي الذي لا نبوة تشريع عنده ولا رسالة.
ومن اقترنت عنده حالة أخرى تقتضيها أيضا مرتبة النبوة، يثبت عنده أن هذا وعد لا وعيد.
فإن سؤاله عليه السلام مقبول إذ النبي هو الولي الخاص.
ويعرف بقرينة الحال أن النبي من حيث له في الولاية هذا الاختصاص محال أن يقدم على ما يعلم أن الله يكرهه منه، أو يقدم على ما يعلم أن حصوله محال.
فإذا اقترنت هذه الأحوال عند من اقترنت عنده وتقررت عنده، أخرج هذا الخطاب الإلهي عنده في قوله «لأمحون اسمك من ديوان النبوة» مخرج الوعد، وصار خبرا يدل على علو رتبة باقية، وهي المرتبة الباقية على الأنبياء والرسل في الدار الآخرة التي ليست بمحل لشرع يكون عليه أحد من خلق الله في جنة ولا نار بعد دخول الناس فيهما. "17"
وإنما قيدناه بالدخول في الدارين الجنة والنار لما شرع يوم القيامة )
__________________________
و الخلاف هنا في صحة العبارة الواردة في هذه الفقرة ، فلا يصح نسبتها بحال إلى الشيخ رضي الله عنه ، مع دقته في التعبير وانتقاء اللفظ كما يتضح من الشرح.
15 - راجع هامش 12 ص 218
16 - راجع هامش 13 ص 221
17 - راجع هامش 12 ص 218
ص 225
قال الشيخ رضي الله عنه : (لأصحاب الفترات والأطفال الصغار والمجانين، فيحشر هؤلاء في صعيد واحد لإقامة العدل والمؤاخذة بالجريمة والثواب العملي في أصحاب الجنة.
فإذا حشروا في صعيد واحد بمعزل عن الناس بعث فيهم نبي من أفضلهم وتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي المبعوث في ذلك اليوم فيقول لهم أنا رسول الحق إليكم، فيقع عندهم التصديق به ويقع التكذيب عند بعضهم.
ويقول لهم اقتحموا هذه النار بأنفسكم، فمن أطاعني نجا ودخل الجنة، ومن عصاني وخالف أمري هلك وكان من أهل النار.
فمن امتثل أمره منهم ورمى بنفسه فيها سعد ونال الثواب العملي ووجد تلك النار بردا وسلاما.
ومن عصاه استحق العقوبة فدخل النار ونزل فيها بعمله المخالف ليقوم العدل من الله في عباده. "18"
وكذلك قوله تعالى «يوم يكشف عن ساق» أي أمر عظيم من أمور الآخرة، «ويدعون إلى السجود» وهذا تكليف وتشريع.
فمنهم من يستطيع ومنهم من لا يستطيع، وهم الذين قال الله فيهم «ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون» كما لم يستطع في الدنيا امتثال أمر الله بعض العباد كأبي جهل وغيره.
فهذا قدر ما يبقى )
___________________________________
18 - حديث الحميدي *
ما ورد في هذه الفقرة هو الحديث الذي أخرجه الحميدي ، في كتاب الموازنة ، ولم يثبت عند الشيخ ، لأنه يقول بخلاف ما جاء به ، فهو القائل في حكم أطفال الكفار : الذي أقول به إنه متى قدر المسلم على الصلاة على من مات من الأطفال الصغار الذين لم يحصل منهم التمييز ولا العقل أنه يصلى عليهم ، فإنهم على فطرة الإسلام ، فالطفل يصلي عليه إذا مات بكل وجه ، ولا معنى لترك الصلاة عليه ، فإن الذرية تابعة للاباء في الإيمان ولا يتبعونهم في الكفر إن كان الآباء كفارا.
أما في حق أهل الفترات فيقول : قبل التكليف لا يقيد الإنسان بل يجري بطبعه من غير مؤاخذة أصلا ، فوجد العذر لمن لم تبلغه الدعوة الإلهية ، وحكمه حكم من لم يبعث الله إليه رسولا ، وهو قوله تعالى:" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وما كانت دعوة الرسل قبل رسول الله من عامة ، فيلزم أهل كل زمان الإيمان .
الفتوحات ج 1 / 326 ، 519 ، 536 - ج 3 / 135 - ج 4 / 162
ص 226
من الشرع في الآخرة يوم القيامة قبل دخول الجنة والنار، فلهذا قيدناه. "19"
والحمد لله.
_________________________________
19 - ما بقي من التكليف يوم القيامة
يوم يكشف عن ساق الآخرة ، تقول العرب : كشفت الحرب عن ساقها ، وهي إذا حمي وطيسها ، واشتدت الحرب وعظم الخطب .
وكشف الساق كما يؤذن بالشدة ، كذلك يؤذن بسرعة انقضاء المدة ، فمع كل زعزع رخاء ، وعند انتهاء الشدائد يكون الرخاء ، يقال كشفت الحرب عن ساقها ، وعقدت عليها إزرة طوقها ، فاشتد اللزام ، وكانت نزال لما عظم القيام ، وجاء ربك في ظلل من الغمام ، والملائكة للفصل والقضاء والنقض والإبرام ، وعظم الخطب واشتد الكرب ، وماج الجميع بحكم الصدع ، ففي الموقف ترفع الحجب بين الله وبين عباده ، وهو كشف الساق ، ويأمرهم داعي الحق عن أمر الله بالسجود ، فلا يبقى أحد سجد لله خالصا على أي دین كان إلا سجد السجود المعهود ، ومن سجد اتقاء وریاء جعل الله ظهره طبقة نحاس ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، فهذا قوله « فلا يستطيعون » .
فقوله تعالی « يدعون إلى السجود » هو دعاء تمييز لا دعاء تكليف ، فإن الآخرة ليست بمحل تكليف إلا في يوم القيامة في موطن التمييز حين يدعون إلى السجود، إلا الحديث الذي أخرجه الحميدي في كتاب الموازنة ، ولم يثبت ، ولما اقترن به الأمر أشبه التكليف .
فجوزوا بالسجود جزاء المكلفين ، فالتشريع لا يكون في الآخرة إلا في موطن واحد حين يدعون إلى السجود ، ليرجح بتلك السجدة میزان أصحاب الأعراف،لأنها سجدة تکلیف ، فيسعدون فينصرفون إلى الجنة بعد ما كان منزلهم في سور الأعراف ، ليس لهم ما يدخلهم النار ولا ما يدخلهم الجنة ، وإن شئت قلت سجود تسييز لا سجود ابتلاء ، فيتميز في دعاء الآخرة إلى السجود من سجد لله ممن سجد اتقاء ورياء ، وفي الدنيا لا يتميز لاختلاط الصور .
الفتوحات ج 1 / 314 ، 509 ، 733 ، 751 - ج 2 / 211 - ج 3 / 439 - ج 4 / 367
ص 227
.