السفر الرابع والعشرون فص حكمة إمامية في كلمة هارونية التاسعة عشر الجزء الثاني .موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي جامعها لإظهارها عبدالله المسافر بالله
الفص الهاروني الفقرة التاسعة عشر على مدونة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكمالفقرة التاسعة عشر :- الجزء الثانيمن الله تعالی ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة . وإن ذهبت تلك الصورة بعد
……………………………………………….
وجودها خاصة ، ثم يعقبها في الزمان الذي يلي زمان وجودها الأمثال والأضداد ، فأعيان الجواهر على هذا لا تخلو من أحوال ، ولا خالق لها إلا الله ، فالحق في شؤون أبدا ، فإنه لكل عين حال ، فللحق شؤون حاكمة إلى غير نهاية ولا بلوغ غاية ، ولنا الأحوال ،
فليس في العالم سكون البتة وإنما هو متقاب أبدا دائما ، من حال إلى حال ، دنیا وآخرة ، ظاهرا وباطنا ، إلا أن ثم حركة خفية وحركة مشهودة ، فالأحوال تتردد وتذهب على الأعيان القابلة لها ، والحركات تعطي في العالم آثارا مختلفة ،
ولولاها ما تناهت المدد ولا وجد حكم العدد ، ولا جرت الأشياء إلى أجل مسمى ، ولا كان انتقال من دار إلى دار ، فمن المحال ثبوت العالم زمانين على حالة واحدة ، فمن المحال بقاء حال على عين تفسين أو زمانين للاتساع الإلهي لبقاء الافتقار على العالم إلى الله ، فالتغيير له في كل نفس ، والله خالق فيه في كل نفس ، فالأحوال متجددة مع الأنفاس على الأعيان .
واعلم أن الأسماء الإلهية التي يظهر بها الحق في عباده ، وبها يتلون العبد في حالاته ، هي في الحق أسماء وفينا تلوينات ، وهي عين الشؤون التي هو فيها الحق ، فكل حال في الكون هو عين شأن إلهي ،
فالعالم كله على الصورة وليس هو غير الشؤون التي يظهر بها ، وهذه الانتقالات في الأحوال من أثر كونه كل يوم هو في شان ، فالشؤون الإلهية هي الاستحالات في الدنيا والآخرة ، فلا يزال الحق يخلع صورة فيلحقها بالثبوت والعدم ،
ويوجد صورة من العدم في هذا الملأ ، فلا يزال التكوين والتغيير فيه أبدا، ويتميز الحق عن الخلق بأنه يتقلب في الأحوال لا تتقلب عليه الأحوال ، لأنه يستحيل أن يكون للحال على الحق حکم ، بل له تعالى الحكم عليها ،
فلهذا يتقلب فيها ولا تنقلب عليه ، فإنها لو تقلبت عليه أوجبت له أحكاما ، وعين العالم ليس كذلك ، تقلب عليه الأحوال فتظهر فيها أحكامها ، وتقليبها عليها بيد الله تعالى ، ولولا الأحوال ما تميزت الأعيان ، فإنه ما ثم إلا عين واحدة تميزت
ص 368
* * * * *
…………………………………………...
بذاتها عن واجب الوجود کما اشتركت معه في وجوب الثبوت ، فله تعالى الثبوت والوجود ، ولهذه العين وجوب الثبوت ، فالأحوال لهذه العين كالأسماء الإلهية للحق ، فكما أن الأسماء للعين الواحدة لا تعدد المسمى ولا تكثره ،
كذلك الأحوال لهذه العين لا تعددها ولا تكثرها ، مع معقولية الكثرة والعدد في الأسماء والأحوال ، فجعل لهذه العين الكمال بالوجود الذي هو من جملة الأحوال التي تقلب عليها .
فما نقصها من الكمال إلا في حكم وجوب الوجود ، للتمييز بينها وبين الله ،
إذ لا يرتفع ذلك ولا يصح لها فيه قدم، وهو تعالى في شؤون العالم بحسب ما يقتضيه الترتيب الحكمي ، فشأنه غدا لا يمكن أن يكون إلا في غد ، وشأن اليوم لا يسكن أن يكون إلا اليوم ، وشأن أمس لا يمكن أن يكون إلا أمس ،
هذا كله بالنظر إليه تعالى ، وأما بالنظر إلى الشأن يمكن أن يكون في عير الوقت الذي نكون فيه لو شاء الحق تعالى ، وما في مشيئته جبر ولا تحير ، تعالى الله عن ذلك ، بل ليس للمشيئة إلا تعلق واحد لا غير ،
فكل يوم هو في شأن ، وهو ما يحدث في أصغر يوم في العالم من الآثار الإلهية والانفعالات من ترکیب و تحليل وتصعيد وتنزيل وإيجاد وشهادة ، وکنى عز وجل عن هذا اليوم الصغير باليوم المعروف في العامة ، فوسع في العبارة من أجل فهم المخاطبين
وقال « يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن » فالشأن مسألة السائلين ، فإنه ما من موجود إلا وهو سائله تعالى ، لكن هم على مراتب في السؤال ، فأما الذين لم يوجدهم الله تعالى عن سبب فإنهم يسألونه بلا حجاب ، لأنهم لا يعرفون سواه علما وغيبة ،
ومنهم من أوجده الله تعالی عند سبب يتقدمه ، وهو أكثر العالم ، وهم في سؤاله على قسمين ، منهم من لم يقف مع سببه أصلا ولا عرج عليه وفهم من سببه أنه يدل على ربه لا على نفسه ،
فسؤال هذا الصنف کسؤال الأول بغير حجاب ، ومنهم من وقف مع سببه ، وهم على قسمين ، منهم من عرف أن هذا سبب قد نصبه الحق وأن وراءه مطلبا آخر فوقه وهو المسبب له ، ولكن ما تمكنت قدمه في درج المعرفة لموجد السبب ، فلا يسأله إلا بالسبب
ص 369
* * * * *
……………………………..
لأنه أقوى للنفس ، ومنهم من لم يعرف أن خلف السبب مطلبا ولا أن ثم سببا ، فالسبب عنده نفس المسبب ، فهذا جاهل ، فسأل السبب فيما يضطر إليه لأنه تحقق عنده أنه ربه ، فما سأل إلا الله ، لأنه لو لم يعتقد فيه القدرة على ما سأله فيه لما عبده ، وذلك لا يكون إلا الله ، فهو ما سأل إلا الله ،
ومن هذا المقام يجيبه الحق على سؤاله ، لأنه المسئول ولكن بهذه المثابة ، فعلى هذا هو المسئول بكل وجه وبكل لسان وعلى كل حال ، والمشهود له بالقدرة المطلقة النافذة في كل شيء ،
فما من جوهر فرد في العالم إلا وهو سائله سبحانه في كل لحظة وأدق من اللحظة ، لكون العالم في كل لطيفة ودقيقة مفتقرا إليه ومحتاجا ، أولها في حفظه لبقاء عينه ومسك الوجود عليه بخلق ما به بقاؤه ،
وليس من شرط السؤال هنا بالأصوات فقط ، وإنما السؤال من كل عالم بحسب ما يليق به ويقتضيه أفقه وحركة فلكه ومرتبته ، وقد قال تعالى فيما شرف سليمان به أنه علمه منطق الطير ، فعرف لغتها ، وتبسم ضاحكا من قول النملة للنمل ، وفي القرآن وفي الأخبار الصحيحة من هذا كثير ، فكلام كل جنس ما يشاكله وعلى حسب ما يليق بنشأته ويعطيه استعداد القبول للروحانية الإلهية السارية في کل موجود ، وكل يعمل على شاكلته ،
فما من موجود بعد هذا إلا ويتفق منه السؤال ، فشأنه في كل دقيقة خلق السؤال في السائلين وخلق الإجابة بقضاء الحاجات ، وتنزل على أصحابها بحسب دورة الفلك الذي يخلق منه الإجابة ، فإن كان الفلك بعيدا أعني حركة التقدير التي بها تنزل على صاحبها بعد كذا وكذا حركة فتتأخر الإجابة ، وقد تتأخر للدار الآخرة بحسب حركتها ،
وإن كان فلكها قريبة أعني حركة التقدير التي خلقت الإجابة فيها ظهر الشيء في وقته أو يقرب ، ولهذا أخبر النبي عليه السلام أن كل دعوة مجابة ، لكن ليس من شرطها الإسراع في الوقت ، فمنها المؤجل والمعجل بحسب الذي بلغ حركة التقدير ، فلا زال الخالق في شأن فلا تزال هذه الأيام دائمة أبدا ،
ولا يزال الأثر والفعل والانفعال في الدنيا والآخرة ، وقد أثبت الحق تعالی دوام هذه الأيام فقال « خالدين فيها ما دامت السموات
ص 370
ذلك فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية. "11"
ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد إما عبادة تأله و إما عبادة تسخير.
فلا بد من ذلك لمن عقل. وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه: و لذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل رفيع الدرجة . فكثر الدرجات في عين واحدة. "12"
فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل
………………………………………………….
والأرض » وخلودهم لا يزال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، والسموات والأرض لا تزال والأيام دائمة لا تزال دائرة أبدا بالتكوين ، فالتنوعات والتبديلات ينبغي للعاقل أن لا ينكرها ، فإن الله في حق كل موجود في العالم شانا ، فانظر في هذا التوسع الإلهي ما أعظمه .
الفتوحات ج 1 / 292 ، 295 ، 401 - ج 2 / 77 ، 171 ، 206 ، 287 ، 384 ، 431 ، 446 ، 520 ، 539 - ج 3 / 198 ، 199 ، 224 ، 254 ، 287 ، 295 ، 303 ، 314 ، 344 ، 395 - ج 4 / 267 ، 374 ، 424 ، 426 - كتاب الشأن .
11 - ملاحظة *
راجع هامش رقم 8 - وهذه الفقرة شاهد آخر على تدني الاستدلال مما لا يصح نسبته للشيخ رضي الله عنه .
12 - رفيع الدرجات *
هذا المعنى الذي ورد في هذا الفص يخالف تماما ما ذكره الشيخ بخط يده في شرح معنى « رفيع الدرجات » فتجده فيما أقدمه يراعي المناسبة في ورود الاسم ومعناه ، والاستشهاد بهذا الاسم هنا في هذا الفص لا يتناسب مع ما جاء ذكره في الآية حيث ورد هذا الاسم عند قوله تعالى « رفيع الدرجات يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ».
فيقول في ذلك الشيخ رضي الله عنه : « رفيع الدرجات » فالرفعة له سبحانه بالذات وهي للعبد بالعرض ، وجعل له سبحانه درجات يظهر فيها لعباده ، فإن لكل اسم من الأسماء الإلهية مرتبة ليست للآخر ، والمراتب لا تتناهى وهي الدرجات ، وفيها رفيع وأرفع ، وما ثم رتبة إلا رفيعة ، وتقع المفاضلة في الرفعة ، ودرجات الحق ليست لها نهاية ، لأن التجلي فيها وليس له نهاية ، ومن جهة أخرى فإن قوله « رفيع الدرجات » إنما ذلك على خلقه،
ص 371
درجة مجلى إلهيا عبد فيها.
وأعظم مجلى عبد فيه و أعلاه «الهوى» كما قال «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه» وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته، و فيه أقول:
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ... ولو لا الهوى في القلب ما عبد الهوى "13"
……………………………………...
فبالرتبة علم الفاضل والمفضول ، وبها ميز بين الله والعالم ، وبها ظهرت حقائق ما هي عليه الأسماء الإلهية من عموم التعلق وخصوصه « ذو العرش » ومن هذه المنزلة تنزل النبوة ينزلها رفيع الدرجات ذو العرش على العبد بأخلاق صالحة وأعمال مشكورة حسنة عند العامة تعرفها القلوب ولا تنكرها النفوس، وتدل عليها العقول، وتوافق الأغراض وتزيل الأمراض ، فإذا وصلوا إلى هذه المنزلة ،
فتلك منزلة الإنباء الإلهي المطلق لكل من حصل في تلك المنزلة من رفيع الدرجات ذي العرش ، فإن نظر الحق من هذا الواصل إلى تلك المنزلة نظر استنابة وخلافة ، ألقى الروح بالإنباء من أمره على قلب ذلك الخليفة المعتني به ، فتلك نبرة التشريع
قال تعالى : " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده "،
وقال تعالى : "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ".
وقال : "ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " مثل ذلك "لينذر يوم التلاق" - يوم هم بارزون - نبوة تشريع لا نبوة عموم ، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ، فالإنذار مقرون أبدا بنبوة التشريع .
الفتوحات ج 2 / 90 ، 469 - ج 3 / 178 - ج 4 / 227
13 - الهوى *
هناك فرق كبير بين ما جاء في هذا الفص من قوله « وأعظم مجلي عبد فيه (أي الحق تعالی) وأعلاه " الهوى " وبين ما جاء به الشيخ وهو قوله « إن الهوى أعظم إله متخذ عبد »، وسنوضح الفارق في الاستدلال .
فيما جاء به الشيخ حيث يقول في الفتوحات المكية :ج 3 / 117 ما يلي
اعلم أنه لولا الهوى ما عبد الله في غيره ، وأن الهوى أعظم إله متخذ عبد فإنه لنفسه حكم ، وهو الواضع كل ما عبد وفيه قلت :
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى … ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ص 372
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، كيف تمم في حق من عبد هواه و اتخذه إلها فقال «وأضله الله على علم» و الضلالة الحيرة: و ذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه بانقياده لطاعته فيما يأمره به من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضا، لأنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى وهو الإرادة
………………………………..
قال تعالى: «أفرأيت من اتخذ إلهه هواد وأضله الله على علم» فلولا قوة سلطانه في الإنسان ما أثر مثل هذا الأثر فيمن هو على علم بأنه ليس بإله ، فإذا جسده قرره على ما حكم به فيمن قام به فحار وجاء وباله عليه فعذب في صورته .
ويقول في الفتوحات ج 3 / 364 :
الكون موصوف بالتحجير ، فتوجه عليه الخطاب بانه لا يحكم بكل ما يريد بل بما شرع له ، ثم إنه لما قيل له « احكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى » أي لا تحكم بكل ما يخطر لك . ولا بما يهوى كل أحد منك ، بل احكم بما أوحي به إليك ۰۰۰ فدل التحجير على الخلق في الأهواء أن لهم الإطلاق بما هم في نفوسهم ، ثم حدث التحجير في الحكم والتحكم ۰۰. فليست الأهواء إلا مطلق الإرادات ۰۰۰
ثم لتعلم أن الهوى وإن کان مطلقا فلا يقع له حكم إلا مقيدة ، فإنه من حيث القابل يكون الأثر ، فالقابل لابد أن يقيده .
فإنه بالهوى يريد القيام والقعود من العين الواحدة التي تقبلهما على البدل في حال وجود كل واحد منهما في تلك العين ، والقابل لا يقبل ذلك ، فصار الهوى محجورة عليه بالقابل ، فلما قبل الهوى التحجير بالقابل علمنا أن هذا القبول له قبول ذاتي ، فحجر الشرع عليه فقبله وظهر حكم القابل في الهوى ظهوره في مطلق الإرادة فيمن اتصف بها .
ويقول في الفتوحات ج 4 / 206
حضرة الاسم العزيز - من هنا ظهر كل من غلبت عليه نفسه واتبع هواه، ولولا الشرع ما ذمه بالنسبة إلى طريق خاص لما ذمه أهل الله ، فإن الحقائق لا تعطي إلا هذا فمن اتبع الحق فما اتبعه إلا بهوى نفسه ، وأعني بالهوى هنا الإرادة ، فلولا حكمها عليه في ذلك ما اتبع الحق ، وهكذا حكم من اتبع غير الحق ، وأعني بالحق هنا ما أمر الشارع باتباعه ، وغير الحق ما نهى الشرع عن اتباعه ، وإن كان في نفس الأمر
ص 373
بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره.
وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم و اتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى. فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه. ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابد أمرا ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى بل لأحدية الهوى فإنه عين واحدة في كل عابد. "14"
……………………………………..
كل حق ، لكن الشارع أمر ونهی ، كما أنا لا نشك أن الغيبة حق ولكن نهانا الشرع عنها ، ولنا .
وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ….. ولولا الهوى في القلب ماعبد الهوى
فبالهوى يجتنب الهوى ،و بالهوی يعبد الهوى ، ولكن الشارع جعل اسم الهوى خاصا بما ذم وقوعه من العبد والوقوف عند الشرع أولى ، ولهذا بينا قصدنا بالهوى الإرادة لا غير.
للزيادة راجع كتابنا « شرح كلمات الصوفية ص 375 - 380 » فهل يعقل لمن يلتزم هذا الالتزام بالشرع أن يقول كما جاء في هذا الفص ( وأعظم مجلي عبد فيه ( أي الحق ) وأعلاه « الهوى » كما قال : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) ؟!
نعم نجد أن الشيخ يرمز ويعرض بذلك ، ويصرح بتجلي الحق في المظاهر ما لم ينص الشرع على لفظ مذموم ، لذلك نرفض نسبة هذا الكلام للشيخ ولو صح المعنى.
14 - « أفرأيت من اتخذ إلهه هواه » الآية
لينظر القاريء والمحقق قوة الاستدلال في الفتوحات المكية وسمو المعانی السليمة المترابطة لما ذكر في هذه الفقرة من هذا الفص حيث يقول
« أفرأيت من اتخذ إلهه هواه » ليس الهوى سوى إرادة العبد إذا خالفت الميزان المشروع الذي وضعه الله له في الدنيا ، فلولا الهوى ما عبد الله في غيره ، ولما كان الإله له القوة في المألوه ، وإله هذا هواه فحكم عليه وأضله عن سبيل الله ،
واعلم أن الآلهة المتخذة من دون الله آلهة طائفتان ،
منها من ادعت ما ادعي فيها مع علمهم في أنفسهم أنهم ليسوا كما ادعوا ، وإنما أحبوا الرياسة وقصدوا إضلال العباد ، كفرعون وأمثاله ، وهم في الشقاء إلا إن تابوا ،
وأما الطائفة الأخرى فادعيت فيها
ص 374
«وأضله الله» أي حيره «على علم» بأن كل عابد ما عبد إلا هواه ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف. "15"
والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه «ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص
……………………………………...
الألوهة ولم تدعها لنفسها ، كالأحجار والنبات والحيوان وبعض الأناسي والأملاك والكواكب والأنوار والجن وجميع من عبد واتخذ إلها من غير دعوى منه ، فهؤلاء كلهم سعداء والذين اتخذوهم إذا ماتوا على ذلك أشقياء ،
فإنه لما اتخذ هذا المشرك هواه إلها ، حكم عليه وأضله عن سبيل الله ، وأما قوله « وأضله الله على علم » يعني أنه أضله الله على علم ، لا أن الضال على علم ،
فإن الضال هو الحائر الذي لا يعرف في أي جهة مطلوبه ، فمتعلق « على علم » أضله وهو العامل فيه . وهو فعل الله تعالی.
الوجه الثاني « وأضله الله على علم » هو التارك ما أمره الله به عمدا ، مثل من يقول إن الحركات والسكنات كلها بيد الله ، وما جعل في نفسي أداء ما أمرني بأدائه ، فهو على بصيرة تشقيه و تحول بينه وبين سعادته ، فتضره في الآخرة وإن التذ بها في الدنيا.
فهي مجاهرة بحق لا تنفع ، ولو كان عن ذوق منعته هيبة الجلال و عظیم المقام و سلطان الحال أن يترك أداء حق الله على صحو ، فمثل هذا العلم لا ينفع - الوجه الثالث .
هذه الآية تدل على أن نور العلم غير نور الإيمان ، فقوله تعالی « وأضله الله على علم » فذلك نور العلم به لا نور الإيمان .
الفتوحات ج 1 / 478 - ج 2 / 306 - ج 3 / 117 ، 243 ، 305
15 - الضلال *
يقارن القاريء بين المفهوم من هذه الفقرة وبين ما جاء به الشيخ في مفهوم حظ الأولياء من الصفات المذمومة حيث يقول :
الضالون هم التائهون الحائرون في جلال الله وعظمته ، كلما أرادوا أن يسكنوا فتح لهم من العلم به ما حيرهم وأقلقهم ،
فلا يزالون حيارى لا ينضبط لهم منه ما يسكنون عنده ، بل عقولهم حائرة ، فهؤلاء هم الضالون الذين حيرهم التجلي في الصور المختلفة .
الفتوحات ج 2 / 137
ص 375
بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك.
هذا اسم الشخصية فيه.
والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده، وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص. "16"
ولهذا قال بعض من عرف مقالة جهالة «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» مع تسميتهم إياهم آلهة حتى قالوا «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب». فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك، "17"
فإنهم وقفوا مع كثرة الصور ونسبة الألوهة لها. فجاء
………………………………….
16 - راجع مشاهدة الحق في كل اعتقاد - فص 10 ، هامش 29، ص 159.
"" 29 - مشاهدة الحق في كل اعتقاد فص 10 ، هامش 29، ص 159.
ولله رجال أعطاهم الله الفهم والاتساع وحفظ الأمانة أن يفهموا عن الله جميع إشارات كل مشار إليه، وهم الذين يعرفونه في تجلي الإنكار الشاهدون إياه في كل اعتقاد ، والحمد لله الذي جعلنا منهم إنه ولي ذلك .
قال تعالى : "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " أي حكم ، وقضاء الحق لا يرد ، فقضى أن لا يعبد غير الله ، فمن أجل حكم عبدت الآلهة ، فلم يكن المقصود بعبادة كل عابد إلا الله .
فما عبد شيء لعينه إلا الله ، وإنما أخطأ المشرك حيث تصب لنفسه عبادة بطريق خاص لم يشرع له من جانب الحق ، فشقي لذلك .
فإنهم قالوا في الشركاء « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله » فاعترفوا به وأنزلوهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهية فنسبوها إليهم، فكان قوله تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" من الغيرة الإلهية حتى لا يعبد إلا من له هذه الصفة .
فكان من قضائه أنهم اعتقدوا الإله وحينئذ عبدوا ما عبدوا ، مع أنهم ما عبدوا في الأرض من الحجارة والنبات والحيوان وفي السماء من الكواكب والملائكة إلا لاعتقادهم في كل معبود أنه إله.
لا لكونه حجرا ولا شجرا ولا غير ذلك وإن أخطأوا في النسبة فما أخطأوا في المعبود .
فعلى الحقيقة ما عبد المشرك إلا الله ، وهو المرتبة التي سماها إلها لأنه لو لم يعتقد الألوهية في الشريك ما عبده •
فالكامل من عظمت حيرته و دامت حسرته ، ولم ينل مقصوده لما كان معبوده ، وذلك أنه رام تحصیل ما لا يمكن تحصيله ، وسلك سبيل من لا يعرف سبيله. والأكمل من الأكمل من اعتقد فيه كل اعتقاد ، وعرفه في الإيمان والدلائل وفي الإلحاد ، فإن الإلحاد ميل إلى اعتقاد معين من اعتقاد ، فاشهدوه بكل عين إن أردتم إصابة العين ، فإنه عام التجلي ، له في كل صورة وجه ، وفي كل عالم حال.
الفتوحات ج 1 / 238 ، 405 ، 589 - ج 2 / 92 ، 212 ، 326 ، 498 . ج 4 / 100 ، 101 ، 415. أهـ ""
17 - « أجعل الآلهة إلها واحدا » الآية
" أجعل الآلهة إلها واحدا، إن هذا الشيء عجاب" و قال المشركون لما دعوا إلى توحيد الإله في ألوهته بقوله تعالى «وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم» أكثروا التعجب وقالوا «أجعل الآلهة إلها واحدا » فهي حكاية الله لنا عن المشرك أنه قال هكذا إما لفظا أو معنى ،
والمشرك هو من جعل مع الله إلها آخر من واحد فما زاد ، وكان ذلك من أجل اعتقادهم فيما عبدوه أنهم آلهة دون الله المشهود له عندهم بالعظمة على الجميع ، والذي قالوا فيه « ما تعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفی »
« إن هذا الشيء عجاب » فالناس يحملون هذا القول أنه من قول الكفار حيث دعاهم إلى توحيد إله وهم يعتقدون کثرتها ، وما علموا أن جعل الألوهية من الكثيرين أعجب ،
ففي الحقيقة ليس العجب ممن وحد ، وإنما العجب ممن كثر الآلهة بلا دلیل ولا برهان ، وهذا القول عندنا من قول الحق أو قول الرسول ،
وأما قول الكفار فانتهى في قوله «إلها واحدا، والتعجب أنه بأول العقل يعلم الإنسان أن الإله لا يكون بجعل جاعل ، فإنه إله لنفسه ، ولهذا وقع التوبيخ بقوله تعالى « أتعبدون ما تنحتون» والإله من ضرورة العقل لا يتأثر ،
وقد كان هذا خشبة يلعب بها ، أو حجرة يستجمر به ، ثم أخذه وجعله إلها يذل ويفتقر إليه ويدعوه خوفا وطمعا ، فمن مثل هذا يقع التعجب مع وجود العقل عندهم ، فوقع التعجب من ذلك ليعلم من حجب العقول عن إدراك ما هو لها بديهي وضروري ، ذلك لتعلموا أن الأمور بيد الله وأن الحكم
ص 376
الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف ولا يشهد، بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى» لعلمهم بأن تلك الصور حجارة.
ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله «قل سموهم»: فما يسمونهم إلا بما يعلمون
………………………………………………...
فيها الله ، وأن العقول لا تعقل بنفسها ، وإنما تعقل ما تعقله بما يلقي إليها ربها وخالقها ولهذا تفاوت درجتها ، فمن عقل مجعول عليه قفل ومن عقل محبوس في كن ومن عقل طلع على مرآته صدأ ،
فلو كانت العقول تعقل لنفسها لما أنكرت توحيد موجدها في قوم وعقلته في قوم ، والحد والحقيقة فيها على السواء ، فلهذا جعلنا قوله تعالی « إن هذا الشيء عجاب » ليس من قول الكفار ،
بل قال الله عند قولهم « أجعل الآلهة إلها واحدا » « إن هذا الشيء عجاب » حيث جعلوا الإله الواحد آلهة ، وخصوص وصفه أنه إله ، وبه يتميز فلا يتكثر بما به يتميز ، ويشهد لهذا النظر قولهم فيما حكی الله عنهم « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفی » فهم يعلمون أنهم نصبوهم آلهة ، ولهذا وقع الذم عليهم بقوله « أتعبدون ما تنحتون »
والإله من له الخلق والأمر من قبل ومن بعد ، واعلم أن الله تعالی عصم لفظ د الله ، أن يطلق على أحد ، وما عصم لفظ « إله ، فكثرت الآلهة في العالم لقبولها التنكير ، والله واحد معروف لا يجهل ، أقرت بذلك عبدة الآلهة ،
فقالت ما تعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفی ، وما قالت إلى إله كبير هو أكبر منها ، ولهذا أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة من أنه إله واحد من إطلاق الإله عليه ،
وما أنكروا الله ، ولو أنكروه ما كانوا مشركين ، فبمن يشركون إذا أنكروه ، فما أشركوا إلا بإله لا بالله ،
فقالوا « أجعل الآلهة إلها واحدة وما قالوا "أجعل الآلهة الله " فان الله ليس عند المشركين بالجعل .
ومن ذلك قول السامري "هذا إلهكم وإله موسى" به في الجعل ، ولم يقل هذا «الله» الذي يدعوكم إليه موسى عليه السلام وقال فرعون "ما علمت لكم من إله غيري".
الفتوحات ج 2 / 409 ، 590 - ج 3 / 94 ، 178 ، 248 - ج 4 / 106 ، 254 - إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن
ص 377
أن تلك الأسماء لهم حقيقة. "18"
وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين.
فهم عباد الوقت مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، وإنما عبدوا الله فيها لحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم ، وجهله المنكر الذي لا علم له بما تجلى، ويستره العارف المكمل من نبي ورسول و وارث عنهم. "19"
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول
………………………………………..
18 - « وجعلوا له شركاء قل سموهم » الآية
يريد أسماء الأعلام ، وذلك في معرض الدلالة ، فإذا سموهم قالوا هذا حجر، هذا شجر ، هذا كوكب ، والكل اسم عبد ، فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء الله فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل سموهم " فتعرفوا عند ذلك الحق بید من هو ، هل هو بأيديكم أو بيدي ؟
وقد قال الحق تعالی وأبان ذلك كله ليعقل عنه « إن هي إلا أسماء سميتوها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان » فلما عرفوا قوله وتحققوه ، علموا أنهم في فضيحة ، لأنهم إذا سموهم لم يسموهم بالله ، بل آباؤكم نصبوها آلهة ، وهذا الإله الذي أدعوكم إليه تعرفونه ، وأن اسمه الله لا تنكرونه ، وأنتم القائلون « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفی » .
الفتوحات ج 2 / 417 - ج 3 / 544 - ج 4 / 11 ، 106
19 - موطن الإنكار عند العارفین *
الكامل من عظمت حيرته ، ودامت حسرته ، ولم ينل من مقصوده لما كان معبوده ، وذلك أنه رام تحصيل ما لا يملكن تحصيله ، وسلك سبيل من لا يعرف سبيله ، والأكمل من الكامل ، من اعتقد فيه كل اعتقاد ،
وعرفه في الإيمان والدلائل وفي الإلحاد ، فإن الإلحاد ميل إلى اعتقاد معين من اعتقاد ، فإشهدوه بكل عين ، إن أردتم إصابة العين ، فإنه عام التجلي ، له في كل صورة وجه ، وفي كل عالم حال .
ورد في الخبر الصحيح في تجليه سبحانه في موطن التلبيس ، وهو تجليه في غير صور الاعتقادات في حضرة الاعتقادات ، فلا يبقى أحد يقبله ولا يقر به ، بل يقولون
ص 378
الوقت اتباعا للرسول طمعا في محبة الله إياهم بقوله «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله».
فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة، ولا يشهد «ولا تدركه الأبصار»، بل «هو يدرك الأبصار» للطفه و سريانه في أعيان الأشياء.
فلا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها وصورها الظاهرة.
«وهو اللطيف الخبير» والخبرة ذوق، والذوق تجل، والتجلي في الصور.
فلا بد منها ولا بد منه ، "20" فلا بد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت "21" ، وعلى الله قصد السبيل.
………………………………...
إذا قال لهم «أنا ربكم » " نعوذ بالله منك" ، فالعارف في ذلك المقام يعرفه ، غير أنه قد علم منه بما أعلمه ، أنه لا يريد أن يعرفه ( في تلك الحضرة ) من كان هنا مقيد المعرفة بصورة خاصة يعبده فيها ،
فمن أدب العارف أن يوافقهم في الإنكار ، ولكن لا يتلفظ بما تلفظوا به من الاستعاذة منه ، فإنه يعرفه ،
فإذا قال لهم الحق في تلك الحضرة عند تلك النظرة "هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها" ، فيقولون « نعم » فيتحول لهم سبحانه في تلك العلامة ، مع اختلاف العلامات ، فإذا رأوها وهي الصورة التي كانوا يعبدونه فيها ، حينئذ اعترفوا به ، ووافقهم العارف بذلك في اعترافهم ، أدبا منه مع الله وحقيقة ، وأقر له بما أقرت الجماعة .
الفتوحات ج 2 / 212 ، 609 . راجع هامش وفص 12 هامش 11 ص
راجع کتابنا الخيال ص 15 ، 24 - وكتابنا ترجمة حياة الشيخ ص 171
.
يتبع