رابعا شرح الأبيات 70 - 112 من أسرار الشريعة . شرح قصيدة النادرات العينية فى البادرات الغيبية
كتاب إبداع الكتابة وكتابة الإبداع عين على العينية العارف بالله عبد الكريم الجيلي شرح معاصر للقصيدة العينية د. سعاد الحكيم
شرح الأبيات من 70 إلى 112 على مدونة عبدالله المسافر بالله
رابعا شرح الأبيات من 70 إلى 112 : أسرار الشريعة الجزء الأول
(70) فديني وإسلامي وتقواي : أنّني ..... لحسنك فان ، لآئتمارك طائع
(71) إذا قيل قل “ لا “ قلت غير جمالها ..... وإن قيل “ إلا “ قلت حسنك شائع
(72) أصلّي إذا صلّى الأنام وإنّما ..... صلاتي بأني لإعتزازك خاضع
(73) أكبّر في التحريم ذاتك عن سوى ..... واسمك تسبيحي إذا أنا راكع
(82) وتجريد نفسي عن مخيط صفاتها ..... بوصفك إحرامي عن الغير قاطع
(83) وتلبيتي أنّي أذلّل مهجتي ..... لما منك في ذاتي من الحسن لامع
(84) كأنّ صفات منك تدعو إلى العلا ..... لذاتي ، فلبّت فاستبانت شواسع
(85) فتركي لطيبي والنّكاح فإنّ ذا ..... صفاتي ، وذا ذاتي فهنّ موانع
(86) وإعفاء حلق الرّأس ترك رياسة ..... فشرط الهوى أنّ المتيّم خاضع
(87) إذا ترك الحجّاج تقليم ظفرهم ..... تركت من الأفعال ما أنا صانع
(88) وكنت كآلات وأنت الّذي بها ..... تصرّف بالتقدير ما هو واقع
(89) وما أنا جبريّ العقيدة ، إنّني ..... محبّ فنى فيمن خبته الأضالع
(90) فها أنا في تطواف كعبة حسنها ..... أدور ، ومعنى الدّور أنّي راجع
(91) ومذ علمت نفسي صفاتك سبعة ..... فأعداد تطوى في حماك سوابع
(92) أقبّل خال الحسن في الحجر الّذي ..... لنا من قديم العهد فيه ودائع
(93) ومعناه أنّ النّفس فيها لطيفة ..... بها تقبل الأوصاف ، والذات شائع
(94) وأستلم الركن اليمانيّ ، إنّه ..... به نفس الرّحمن والنّفس جامع
(95) وأختم تطواف الغرام بركعة ..... من المحو عمّا أحدثته الطّبائع
(96) ترى هل لموسى القلب من زمزم اللّقا .... مراضع ، لا حرّمن تلك المراضع
(97) فتذهب نفسي في صفاء صفاتكم ..... لتسعى بمروى الذّات وهي تسارع
(98) فليس الصّفا إلا صفائي ومروتي ..... بأنّي عن تحقيق حقّي صادع
(99) وما القصر إلّا عن سواكم حقيقة ..... ولا الحلق إلّا ترك ما هو قاطع
(100) ولا عرفات الوصل إلا جنابكم ..... فطوبى لمن في حضرة القرب راتع
(101) على علمي معناك ضدّان جمّعا ..... ويا لهفي ضدّان كيف التّجامع
(102) بمزدلفات في طريق غرامكم ..... عوائق من دون اللّقا وقواطع
(103) فإن حصل الإشعار في مشعر الهوى ..... وساعد جذب العزم فالفوز واقع
(104) على مشعر التّحقيق عظّمت في الهوى ..... شعائر حكم أصّلتها الشّرائع
(105) وكم من منى لي في منى حضراتكم ..... ويا حسراتي والمحسّر شاسع
(106) رميت جمار النّفس بالروح فانثنت ..... جهنّمها ماء وصاحت ضفادع
(107) وأبدل رضوان بمالك وانتشى ..... بها شجر الجرجير والغصن يانع
(108) ففاضت على ذاتي ينابيع وصفها ..... وناهيك صرف الحقّ تلك الينابع
(109) فطفت طوافا للإفاضة بالحمى ..... وقمت مقاما للخليل أبايع
(110) فمكّنت من ملك الغرام وها أنا ..... مليك وسيفي في الصّبابة قاطع
(111) وحقّقت علما واقتدارا جميع ما ..... تضمّنه ملكي ، وما لي منازع
(112) فلمّا قضينا النسك من حجّة الهوى ..... وتمّت لنا من حيّ ليلى مطامع
شرح الأبيات :-
( 70 ) فديني وإسلامي وتقواي : أنّني ..... لحسنك فان ، لآئتمارك طائع
المفردات :
لحسنك فان : إشارة إلى الفناء الصوفي ، والمقصود أن تجليات الحسن الإلهي أفنت الجيلي وأخرجته عن الشعور بنفسه وبأي شيء من لوازمها .
لأئتمارك : لأمرك .
أئتمر : أطاع الأمر .
طائع : إشارة إلى “ الطاعة “ عند الصوفيين ، وذلك أن الطاعة عندهم هي من مستلزمات المحبة ، لأن المحب لمن يحب مطيع [ راجع الغزالي إحياء علوم الدين . كتاب المحبة ].
المعنى :
يخاطب الجيلي ربّه مؤكدا على أن الدين عنده هو عهد الطاعة والفناء ، فيقول ؛ إن ديني وإسلامي وتقواي كل ذلك هو عين طاعتي لأوامرك ، وعين فنائي أمام ظهور تجليات حسنك .
ونلاحظ أن الجيلي في الأبيات القادمة سيفصّل ذكر الأركان الإسلامية الخمسة :
الشهادتين ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج .
ويبين أن العاشق الفاني يؤدي هذه الأركان على غير الصورة والروح التي يؤديها فيها المكلف المؤمن غير العاشق . . .
فعندما يعشق إنسان الحقّ عزّ وجلّ يعبده على غير المعنى الذي يعبده فيه غيره من الناس .
وقد فصّل الجيلي العبادات وإشاراتها ورموزها في كتابه الإنسان الكامل [ ج 2 / ص 86 - 89 ] فأتي تقريبا على نفس معاني هذه القصيدة نثرا
ويؤكد الجيلي على أنه مهما ترقى الإنسان في مراتب العشق والشهود يظل التزامه بالأركان والعبادات مستمرا ، وهذا هو الفرق بين الصوفي العاشق وبين الدخيل المشعوذ . [ راجع الإنسان الكامل ، ج 2 / ص 41 - 42 ] .
( 71 ) إذا قيل : قل (لا) قلت: غير جمالها .....وإن قيل: (إلا) قلت : حسنك شائع
المفردات :
قل ( لا ) : “ لا “ إشارة إلى لا النفي الواردة في كلمة التوحيد ، أي “ لا إله “.
جمالها : جمال الحضرة الإلهية .
إلا : “ إلا “ إشارة إلى استثناء الإثبات الموجود في كلمة التوحيد ، أي “ إلا اللّه “ .
المعنى :
يبيّن الجيلي مذهبه في “ سر كلمة الشهادة “ في كتابه الإنسان الكامل [ ج 2 / ص 87 ] : “ اعلم أنه لما كان الموجود منقسما بين خلق حكمه السلب والانعدام والفناء ، وحقّ حكمه الإيجاد والوجود والبقاء ، كانت كلمة الشهادة مبنية على سلب وهي : لا ، وإيجاب وهي : إلا . معناه : لا وجود لشيء إلا اللّه “ .
وهنا في هذا البيت ، يشهد هذا الصوفي العاشق الفاني بأنه : لا جمال غير جمال الحضرة الإلهية إلا حسنها الشائع الذي يراه - العاشق للّه - أينما يولّي وجهه .
( 72 ) أصلّي إذا صلّى الأنام وإنّما ..... صلاتي بأني لإعتزازك خاضع
المفردات :
لإعتزازك : لعزتك .
المعنى :
يبدأ الجيلي بشرح صلاته ، صلاة العاشق ، فيقول ؛ إذا نادى المنادي للصلاة لبّيت وأقمت صلاتي مع الأنام ، ولكن وإن حصل الجمع في مكان واحد وزمان واحد وصف واحد وإمام واحد ، إلا أن صلاتي تأخذ معاني مختلفة عن صلاة الأنام لأن كل قول وكل فعل فيها يشير إلى خضوع العبد للمعبود . . . أصلي .
أي أترجم بكل قول من صلاتي ، ويكل فعل من حركة وسكون فيها ، خضوعي لعزتك يا رب العالمين .
والجيلي بعد ذلك سيفصّل أسرار الأفعال والأقوال الواجبة في الصلاة.
( 73 ) أكبّر في التحريم ذاتك عن سوى ..... واسمك تسبيحي إذا أنا راكع
المفردات :
أكبر في التحريم : إشارة إلى تكبيرة الإحرام التي يدخل بها المصلي في صلاته . عن سوى : عن الغير ، عن المخلوقات .
راكع : يرى الجيلي أن الركوع هو إشارة إلى شهود انعدام الموجودات الكونية تحت وجود التجليات الإلهية [ را جع الإنسان الكامل ، 2 / 88 ] .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل صلاته ، ويبين هنا حاله في التكبير .
فيقول مخاطبا ربه ؛ عندما أكبّر تكبيرة الإحرام فأنا في الواقع أفرد ذاتك العليّة ، وانزهها أن يذكر معها كائن من الكائنات ، أي أحرّم على قلبي بعد التكبير أن يخطر عليه خيال مخلوق أو طيف فكرة لأن ذلك في نظري يكذّب تكبيري إياك حين دخولي في الصلاة . . . بكلام آخر .
إن كان المصلي عندما يكبّر تكبيرة الإحرام يحرم عليه ما كان حلالا من مفسدات الصلاة كالأكل والكلام ونحو ذلك ، فالجيلي إذا كبّر تكبيرة الإحرام ووقف بين يدي ربه يحرّم على نفسه كل خيال أو خاطر كوني ، إذ كيف يخطر كون وهو واقف بين يدي اللّه ، واللّه أكبر من أن يذكر معه شيء سواه .
وبعد أن بيّن الجيلي كيفية تكبير العشاق الإلهيين في صلاتهم ، وبيّن معنى تكبيرهم وما يفرضه عليهم العشق الإلهي من شروط يطالبون بها أنفسهم في الصلاة ، يصل ليبين معنى الركوع عنده وعند كل عاشق إلهي .
فالجيلي في ركوعه تنعدم عنده الموجودات الكونية كلها تحت وجود التجليات الإلهية ، ويبقى مسبّحا اسم اللّه وحده .
والجيلي هنا يتابع في الواقع تسبيح كل المصلين عند ركوعهم في الصلاة ، وهل يقول الراكع غير : سبحان ربي العظيم .
( 74 ) أقوم أصلّي ، أي أقيم على الوفا ..... بأنّك فرد واحد الحسن جامع
المفردات :
أقوم أصلي : إشارة إلى قيام المصلي من ركوعه .
على الوفا : على الوفاء ، وهو صيانة العهد وحفظه .
والعهد المشار إليه هنا عند الصوفية هو العهد الذي أخذه الحق تعالى على كل مخلوق حين أقرّ له بالربوبية بقوله : بلى ، حيث قال اللّه عزّ وجلّ :أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟. .
والوفاء عند عامة المؤمنين هو عبادة اللّه عزّ وجلّ رغبة ورهبة .
وعند الخاصة هو الوقوف مع الأمر الإلهي لا رغبة ولا رهبة .
وعند خاصة الخاصة هو العبودية على التبري من الحول والقوة .
والوفاء عند المحب ، كما هو حال الجيلي ، هو صون القلب عن الإتساع لغير المحبوب . [ راجع الكمشخانوي . جامع الأصول . ص 74 ] .
جامع : أي جامع لكل حسن .
المعنى :
ركع العابد العاشق الذي هو الجيلي ، فانعدمت الموجودات الكونية كلها لديه ، وها هو يقوم الآن من ركوعه ، وقيامه لا يعني عودة الموجودات ؛ بل في القيام كما في الركوع ، يظل العاشق على الوفاء مقيما ، وبالعهد الإلهي قائما ، وقلبه مصان عن الأغيار لا يتسع لغير الحق تعالى .
هذا معنى الوفاء عند الجيلي ، معناه أن يصون قلبه فلا ينظر إلى جمال غير جمال الحق لأنه تعالى واحد الحسن ، وجامع لكل حسن يظهر في الكون .
( 75 ) وأقرأ من قرآن حسنك آية ..... فذلك قرآني إذا أنا خاشع
المفردات :
خاشع : الخشوع هو ذوبان القلب لقيامه بين يدي الحق في الصلاة ، مظهره خشوع الجوارح وسكونها . قال تعالى :قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [ المؤمنون : 1 و 2 ] .
المعنى :
يتابع الجيلي تصوير صلاته : فيقول ؛ وعندما أقرأ القرآن في صلاتي وأنا خاشع فإنما أنا أقرأ من قرآن حسنك آية .
بمعنى أن كل آية أقرآها من القرآن فهي في الواقع تخبرني عنك وعن جمالك يا متعال
( 76 ) وأسجد أي أفنى ، وأفنى عن الفنا ..... وأسجد أخرى ، والمتيّم والع
المفردات :
وأفنى عن الفنا : أي أفنى عن الفناء ، بمعنى أرجع عن الفناء في الحق إلى البقاء بالعبودية .
والمتيم : الولهان العاشق .
المعنى :
يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل 2 / 88 ] : “ السجود عبارة عن سحق آثار البشرية ومحقها باستمرار ظهور الذات المقدسة ( . . . )
ثم السجدة الثانية إشارة إلى مقام العبودية وهو الرجوع من الحق إلى الخلق “ .
وهكذا عندما يسجد الجيلي السجدة الأولى يفنى من استمرار ظهور التجليات الإلهية عليه ، ثم في السجدة الثانية ومن استمرار ظهور التجليات الإلهية ، يفنى عن فنائه ، أي يرجع عن الفناء بالحق إلى البقاء بالعبودية للحق . . .
سجدة أولى هي فناء بالتجليات وسجدة أخرى هي بقاء بالعبودية . . . وفي السجدتين ، في الفناء والبقاء ، الجيلي هو دائما ذاك الوالع الولهان .
( 77 ) وقلبي مذ أبقاه حسنك عنده ..... تحيّاته منكم إليكم تسارع
المفردات :
تحياته : دعاء التحيات الذي يقرأ في ختام الصلاة .
المعنى :
يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل 2 / 88 ] : “ التحيات إشارة إلى الكمال الحقي والخلقي ، لأنه عبارة عن ثناء على اللّه تعالى وثناء على نبيّه صلّى اللّه عليه وسلم وعلى عباده الصالحين . وذلك هو مقام الكمال .
فلا يكمل الولي إلا بتحققه بالحقائق الإلهية ، واتباعه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وبتأدبه بسائر عباد اللّه الصالحين . . . “ .
وهنا يخبّر الجيلي عن حال قلبه الفاني بالجمال الإلهي الباقي بالعبودية للحق ، وكيف أنه لا ينفك عن اللهج بالتحيّات للحق ، تحيات قلب يتسارع فيه الثناء من الحق إلى الحق ؛ وهنا نجد مرجعنا في قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . . . ولكن في التحيات هنا التي هي دعاء وثناء ، يعجز قلب الجيلي العاشق المأخوذ بالحسن الإلهي عن الثناء على الحق فيتسارع الثناء من الحق إلى الحق.
( 78 )صيامي هو الإمساك عن رؤية السّوى .... وفطري أنّي نحو وجهك راجع
المفردات :
السوى : كل ما سوى اللّه عزّ وجلّ . وفطري : الفطر والإفطار بمعنى واحد .
المعنى :
يقول الجيلي في [ الإنسان الكامل 2 / 88 ] : “ الصوم إشارة إلى الامتناع عن استعمال المقتضيات البشرية ليتصف [ الإنسان الصائم ] بصفات الصمدية ، فعلى قدر ما يمتنع - أي يصوم عن مقتضيات البشرية - تظهر آثار الحق فيه “ .
وهكذا لا يكتفي الجيلي في صيامه بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات المنصوص عليها في الأحكام الشرعية ، بل يعدّ النظر إلى الخلق من المفطرات . ولذلك فهو يعلن كعاشق أنه لا ينظر إلى سوى الحق عزّ وجلّ لأن كل رؤية للخلق ، تفسد صيامه .
والإفطار - عند الجيلي - هو النتيجة لهذا الامتناع عن رؤية المخلوقات .
بكلام آخر ، إن إفطار الجيلي هو رؤيته لوجه الحق عزّ وجلّ أينما ولّى وجهه . . . يصوم عن رؤية الأغيار فيفطر برؤية وجه الحق أينما ولّى وجهه .
( 79 ) وبذلي نفسي في هواك صبابة ..... زكاة جمال منك في القلب ساطع
المفردات :
بذلي نفسي : بذل النفس هو الجود بها وإعطاؤها . صبابة : شوقا وعشقا .
زكاة جمال منك في القلب ساطع : بمعنى زكاة نعمة سطوع جمالك في قلبي
المعنى :
إن الصوفي يزكّي على كل نعمة إلهية ، وها هو بشر بن الحارث يقول لطلبته : أدوا زكاة الأحاديث ، واعملوا بخمس من كل مائتين منها .
وهنا يرى الجيلي أن سطوع الجمال الإلهي على قلبه العاشق هو نعمة ، وهو لذلك يستوجب زكاة ، أسوة بكل النعم الإلهية . . . وزكاة سطوع هذا الجمال الإلهي على قلبه هي أن يبذل نفسه فداء في العشق.
( 80 ) أرى مزج قلبي مع وجودي جنابة ..... فماء طهوري أنت ، والغير مائع
المفردات :
جنابة : الجنابة شرعا هي أمر معنوي يقوم بالبدن يمنع صحة الصلاة .
طهوري : الطهور والتطهر كل ما يتطهر به من ماء وغيره .
وفي القرآن وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً[ الفرقان : 48 ] أي يتطهّر به .
مائع : سائل . وهنا يؤكد الجيلي على أن الطهارة عنده لا تكون إلا بالماء.
المعنى :
نلاحظ أن الجيلي بعد أن تكلم على الشهادتين وعلى الصلاة وعلى الزكاة ، سيأتي ابتداء من هذا البيت ووصولا إلى البيت ( رقم 112 ) على ذكر رموز الحج بحسب تسلسل أركانه . وفي هذا البيت نلمح إشارة إلى غسل الإحرام.
والجدير بالذكر أن ثلاثة من الأئمة قد اتفقوا على أن هذا الغسل هو غسل نظافة ، إلا المالكية نظرت إليه على أنه غسل طهارة فلا تفعله الحائض ولا النفساء .
ونرى أن الجيلي هنا يوافق مالك في كون غسل الإحرام هو غسل طهارة .
يبدأ الجيلي هذا البيت بتعريفنا أنه في شرع عشقه ، كل مزج بين القلب والوجود هو جنابة . بكلام آخر ، إن مزج الحق مع الخلق هو الجنابة التي تقوم في قلب الإنسان وتمنع كمال صحة عبادته.
وعبّر الجيلي عن الحق بالقلب ، لأن قلب المؤمن هو الذي وسع الحق ، وعبّر عن الخلق بالوجود ، لأن الوجود هو المخلوق .
وحيث أنه لم يسلم إنسان من أن يمزج بين قلبه ووجوده .
لذلك عليه أن يتطهر من هذا المزج قبل العزم على حجّة الهوى ، عليه أن يتطهر من كل المخلوقات حتى من وجوده الشخصي .
ولا يتطهر الإنسان من الخلق إلا عندما تحتلّ التجليات الإلهية مساحة قلبه الإنساني بكليته ، غير تاركة فيه فسحة لغير وسوى من المخلوقات .
( 81 ) أيا كعبة الآمال وجهك حجّتي ..... وعمرة نسكي أنّني فيك والع
المفردات :
حجتي : الحجّة هي المرة الواحدة من الحج .
عمرة : العمرة هي الزيارة ، وشرعا هي قصد الكعبة للنسك المعروف بالعمرة ، وتمام العمرة أن يطوف المسلم بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة فقط.
المعنى :
يشير الجيلي هنا بعمرة النسك إلى طواف القدوم ، ومعنى الحج وحقيقته عند الجيلي هو استمرار قصد الإنسان في طلب اللّه تعالى [ را . الإنسان الكامل 2 / 88 ] ، لذلك يقول هنا مخاطبا محبوبه “ أيا كعبة الآمال “ يريد بها “ يا قبلة آمالي “ ، “ وجهك حجتي “ بمعنى “ وجهك قصدي “
إذ عندما نادى منادي الحج قام الجيلي يقصد وجه الحق ملبيا ، وسارع إلى طواف القدوم مسارعة والع عاشق .
( 82 ) وتجريد نفسي عن مخيط صفاتها ..... بوصفك ، إحرامي عن الغير قاطع
المفردات :
مخيط : ثوب مخيط أي داخلته خياطة .
ويقول الجيلي في [ الإنسان الكامل 2 / 88 ] : “ ترك المخيط إشارة إلى تجرده ( أي طالب اللّه ) عن صفاته المذمومة بالصفات المحمودة “ .
إحرامي : دخولي في الإحرام . ويقول الجيلي في [ الإنسان الكامل 2 / 88 ] : “ الإحرام إشارة إلى ترك شهود المخلوقات “ .
عن الغير قاطع : يقطعني ويمنعني عن الانشغال بالمخلوقات
المعنى :
في الإحرام يحرم على الرجل أن يلبس مخيطا على بدنه ، أو محيطا ببدنه أو ببعضه كالقميص والسراويل والعمامة والجبة ، والخف ، إلا إذا لم يجد نعلين فيجوز لبس الخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين [ راجع الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 644 ] .
ويقابل عدم لبس المخيط على البدن عند الجيلي ، تجرّد الإنسان في أعماقه عن صفاته المذمومة وتحلّيه بالوصف الإلهي المحمود .
فالجيلي بعد أن يحرم ويتجرد عن لبس المخيط لا ينشغل لحظة بالمخلوقات ، لأنه لو أراد الالتفات إلى مخلوق قام الإحرام على بدنه مذكرا إياه بمعنى الإحرام الحقيقي وهو ترك شهود المخلوقات .
بكلام آخر ، إن إحرام البدن هو فعل يقوم في ظاهر الإنسان يمنعه من النسيان ، أو يذكره إذا نسي ، بأنه قاصد لوجه الحق تارك لشهود المخلوقات.
( 83 ) وتلبيتي أنّي أذلّل مهجتي ..... لما منك في ذاتي من الحسن لامع
المفردات :
وتلبيتي : التلبية مصدر لبّى ، وهو أن يقول الحاج أو المعتمر : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
المعنى :
يتابع الجيلي تفصيل رموز أعمال حجّه ، فيقول ؛ عندما ألبيّ مرددا عبارة “ لبيك اللهم لبيك “ ، فإنني - في الباطن - إنما أظهر ذلّة عبوديتي أمام تجليات حسنك الملتمعة في ذاتي .
.
يتبع