قصة التاجر الذي حَمّله الببغاء رسالةً إلى ببغاوات الهند .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
قصة التاجر الذي حَمّله الببغاء رسالةً على مدونة عبدالله المسافرقصة التاجر الذي حَمّله الببغاء رسالةً إلى ببغاوات الهند .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
قصة التاجر الذي حَمّله الببغاء رسالةً إلى ببغاوات الهند حينما ذهب للتجارة
[ توصية الببغاء إلى ببغاوات الهند ] كان هناك تاجر ، وكان للتاجر ببغاء ؛ ببغاء جميل محبوس في قفص .“ 236 “وحينما استعد التاجر للسفر ، وكاد يبدأ الرحلة إلى بلاد الهند ، توجّه بكرمه إلى كل غلام وكل جارية ، قائلًا : “ ماذا أُحضرلك ؟ عَجِّل بإخباري ! “
1550 فكلِّ منهم سأله ، حاجة فوعد هذا الرجل الطيّب بإجاتهم جميعاً .
ثم قال للببغاء : “ أي هدية تريد ، حتى أحضرها لك من بلاد الهند ؟
“ فقال الببغاء : “ إن هناك ببغاوات ، فإذا ما رأيتهم فخبّرهم عن حالي !
( قائلًا ) : إن فلاناً الببغاء - وهو المشتاق إليكم - حبيس عندي بقضاء السماء .
إن يهديكم السلام ، ويسألكم العدل ، ويلتمس منكم أن ( تعلمّوه ) الوسيلة والسبيل إلى الرشاد !
1555 ويقول : أيليق أن أُسلم الروح شوقاً إليكم ، وأموت هنا مفترقاً عنكم ؟
وهل يجوز أن أكون أسير القيد الثقيل ، وأنتم حيناً فوق المروج وحيناً على الأشجار ؟
وهل يكون هكذا وفاء الأصدقاء ؟ أنا في هذا الحبس ، وأنتم في حديقة الورد ؟
ألا فلتذكروا - أيها الكرام - ذلك الطائر الذليل ، بصبوح بين المروج !
فما أسعد الخليل إذا ذكره خلانه - وخاصة - إذا ( ربطهم ) حبّ ليلى والمجنون “ 1 “ !
1560 فيا من تنادمون ملاحكم الفاتنات الحسان ! فأنذا أشرب أقداحاً قد حفلت بدمي .
ألا فلتشربوا قدحاً على ذكري ، إذا كنتم تريدون ان تؤدّوا حقي !
...........................................................
(1 ) حرفياً : خاصة أن هذه هي ليلى وهذا هو المجنون .
“ 237 “
أو أريقوا جرعة على التراب - حين تشربون - على ذكر هذا الطريح البائس .
عجباً أين هذا العهد ، وذلك الميثاق ؟ أين تلك الوعود التي فاهت بها شفاه حلوة كالسكر ؟
فإن كان فراق العبد لسوء خدمته ، فهذا مجازاة المسئ بالسوء ، فما الفرق ( بين السيد والعبد ) ؟
1565 فيا من تفعل السوء في غضبك وحربك ، وهما ( منك ) أكثر إطراباً من السماع ، وصوت الصنج !
ويا من جفاؤك أحلى من السعادة ، وانتقامك أحبّ من الروح !
إن هذه نارك ، فكيف يكون نورك ؟ وهذا مأتمك ، فكيف يكون عرسك ؟
وليس يدرك غورك أحد ، لما لك من لطف ، ولما لجورك من حلاوة .
وإني لأنوح ، وأخشى أن يصدّقني ، فيقص - بكرمه - من هذا الجور .
1570 وإني لشديد العشق لقهره ولطله ، فيا عجبا لعشقى هذين الضدين !
واللَّه لو أني مضيت من هذا الشوك إلى البستان ، لأنوحنّ - من أجل هذا - كالبلبل “ .
فما أعجب هذا البلبل الذي يفتح فمه ، ليأكل الشوك مع الورد .
ولكن أي بلبل هذا ؟ إنه عملاق ناريّ ! ومن العشق أصبح كل مرّ - في فمه - حلو المذاق !
إنه عاشق للكل ، بل إنه الكل ، فهو عاشق لذاته ، طالب عشق ذاته .صفة أجنحة طيور العقول الإلهية
1575 وإن قصة ببغاء الروح لهى من هذا القبيل ، فأين المرء الذي“ 238 “يكون موضعاً لسر الطيور ( الروحيّة ) ؟وأين ذلك الطائر الضعيف البريء ، الذي تنطوي ذاته على سليمان وجيشه ؟فحين ينوح حزيناً - بدون شكر أو شكوى - تضجّ لنواحه السماوات السبع .وتأتيه - في كل لحظة - مائة رسالة ورسول من اللَّه . ( وحين يقول ) : “ يا رب “ مرة ، فله من اللَّه ستون “ لبيك “ .وزلّته خير - عند الحقّ - من الطاعة ، وكل إيمانٍ ممزقُ خَلقُ أمام كفره “ 1 “ ! 1580 ويكون له في كلّ لحظة معراج خاصّ ، ويضع ( اللَّه ) فوق تاجه مائة تاج خاصّ .وصورته على الأرض ، وأما روحه ففي اللامكان ، ذلك اللامكان الذي هو فوق وهم السالكين .وليس ذلك اللامكان الذي يتطرق إلى فهمك ، ويتولد لك خيال عنه في كلّ لحظة .بل إن المكان واللامكان رهن حكمه ، كما تكون الأنهار الأربع طوع حكم ساكن الجنة .فلتختصر شرح هذا ، ولتصرف وجهك عنه ، ولا تَفُهْ بكلمة فاللَّه أعلم بالصواب . 1585 فها نحن أولاء نعود من هذا - أيها الأحباب - إلى الطائر والتاجر وبلاد الهند .لقد قبل التاجر هذه الرسالة ، وأن يحمل من الببغاء السلام إلى أبناء جنسه ..........................................................( 1 ) الكفر هنا ترك التقليد وإخفاء الطاعات . وقد أثر عن الشبلي أنه قال :طوبى لمن مات في كفره .“ 239 “كيف رأى التاجر ببغاوات الهند في البرية وأبلغها رسالة ذلك الببغاء
وحين وصل التاجر إلى أقصى بلاد الهند ، رأى عدداً من الببغاوات في البرية .فأوقف مركبه ، وأبلغها هذا السلام وتلك الأمانة .فارتعد بعنف واحد من هذه الببغاوات ، وسقط ، ومات ، وانقطعت أنفاسه ! 1590 فندم التاجر على الإدلاء بهذا الخبر ، وقال : “ لقد سعيت لهلاك ذي روح .لعلّ هذا الطائر قريب لببغائي الصغير ، أو لعلهما جسدان وروح واحد ! فلماذا فعلتُ ، هذا ؟ لماذا أبلغت هذه الرسالة ؟ لقد أحرقتُ هذا المسكين بكلامي الفجّ .
إن هذا اللسان كالحجر وهو كالحديد أيضاً “ 1 “ ، وكل ما تناثر من اللسان مثل النار .
فلا تضرب الحجر بالحديد جُزافاً ، حيناً لتنقل خبراً ، وحيناً لتتشدّقّ فخراً .
1595 فالظلام مخيّم وحولك من كل جانب حقول القطن ، فكيف يكون الشرر بين القطن ؟
فما أظلم هؤلاء الناس الذين يغلقون عيونهم وبكلامهم يحرقون عالماً بأسره .
.......................................................................
( 1 ) ترجمة : ( اين زبان چون سنگ وهم آهن وشست ) وقد فضلنا “ آهن “ الواردة في رواية إحدى النسخ المخطوطة على “ آتش “ الواردة في طبعة نيكولسون لأنها أكثر اتفاقاً مع السياق .
“ 240 “
إن كلمة واحدة قد تخرّب عالماً بأكلمة ، وقد تجعل الثعالب الميّة أُسوداً !
إن الأرواح في أصلها كنَفَس عيسى “ 1 “ ولكنها ( وهي متجسِّدة ) يكون نَفَسهُا تارة جُرحاً وأُخرى بلسماً .
فلو ارتفع حجاب ( الأجساد ) عن الأرواح لكان كلام كل روح كنفس المسيح .
1600 فإذا أردت أن تقول كلاماً ( حلواً ) كالسكر ، فاصبر عن الحرص ، ولا تأكل هذه الحلوى !
إنّ الصبر غاية ما يشتهي الأذكياء ، وأما الحلوى فأمل الأطفال .فكل من اعتصم بالصبر سما إلى السماء ، وكل من أكل الحلوى زاد تخلفاً . تفسير قول فريد الدين العطار قدس اللَّه سرّه :
“ أيها الغافل ! إنك صاحب نفس حسيّة فأحس الدماء وأنت تتمرغ في التراب !
أما صاحب القلب فلو شرب السمّ لأصبح هذا السم ترياقاً “
إن صاحب القلب لا يصاب بأذى ولو شرب السم القائل عياناً .ذلك لأنه وجد الصحة ، وخلص من الحمْية ، أما الطالب المسكين فهو صريع الحُمىّ .1605 ولقد قال الرسول : أيها الطالب المستفيد ! أفق ولا تعاند قط مطلوباً “ 2 “ ................................................................( 1 ) أي تهب الحياة كنفس عيسى .( 2 ) لم نقف على نص لهذا الحديث المنسوب إلى الرسول . “ 241 “ إن ذاتك منطوية على النمرود فلا تدخل النار ، وإن أردت دخولها فكن - قبل ذلك - إبراهيم .وإن لم تكن سباحاً ولا بحاراً فلا تُلق بنفسك في اليمّ غروراً واعتداداً .إن ( العارف ) يأتي بالجوهر من قاع البحر ، ويستخلص النفع من الضرّ .فالكامل لو أمسك بالتراب لأصبح ذهباً ، والناقص لو أمسك بالذهب لأصبح تراباً .1610 وحين يكون الرجل المستقيم مقبولًا لدى الحقّ ، فيده في ( كل ) الأمور يد اللَّه .وأما الجاهل فيده يد الشيطان ، لأنه أسير شباك التكلف والخداع .فالجهل يمرّ أمام الكامل فيصبح علماً ، وأما العلم الذي يمرّ بالناقص فيصبح جهلًا .وكل ما تناوله العليل أصبح علة ، وأما الكامل فلو تناول الكفر لأصبح ديناً .فيا من تُناول فارساً وأنت على قدميك ! إنك لن تنجو برأسك فَتَوقَّف !كيف عظم السحرة موسى عليه السلام ( حين قالوا ) :
“ ماذا تأمر ؟ أتلقى عصاك قبلنا أم نلقي نحن ؟ “ “ 1 “
1615 إنّ السحرة في عهد فرعون اللعين - حينما ناصبوا موسى العداء –.........................................................................( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى :” قالُوا يا مُوسى إمَّا أَنْ تُلْقيَ وَإمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقينَ “، ( الأعراف ، 7 : 115 ) .“ 242 “جلعوه مُقدّماً عليهم ، وقام هؤلاء السحرة بتكريمه .ذلك لأنهم قالوا له : “ إن الأمر لك ، فإذا أردت فألق عصاك قبلنا “ .فقال : “ لا ! بل ألقوا أنتم أيها السحرة مكركم أمامنا “ .فهذا القْدْر من التعظيم اشترى لهم الإيمان “ 1 “ ، لأنه قطع أيديهم وأرجلهم عن المراء “ 2 “ .1620 فحينما عرف السحرة له حقه ، ضحوا بأيديهم وأرجلهم جزاء لذلك .إن اللقمة والكملة حلالُ للكامل ، وأنت لست بكامل ، فلا تأكل والزم الصمت ! ولما كنت أذناً وهو لسان فإنه ليس من جنسك ! وقد خاطب اللَّه الآذان ( بقوله ) :” أَنْصتُوا “ *” 3 “ .
إنّ الطفل حين يولد ، يكون - في أول الأمر - رضيعاً ويبقى مدة من الزمن صامتاً وكله آذان .
فلا بدّ له من الصمت بعض الوقت حتى يتعلم الكلام .
1625 فإنْ لم يكن أُذنا صاغية ، وظلّ يردّد أصوات الطفولة ، فإنه يغدو أبكم هذا العالم .
إنّ الأصم بطبيعته - ذلك الذي ليست له منذ البداية أُذن - يكون أبكم ، فمتى كان مثله يجيش بالقول .
ولما كان السمع - في أول الأمر - لازماً للنطق ، فلتصل إلى
.......................................................................
( 1 ) إشارة إلى إيمان السحرة عندما رأوا معجزة موسى . قال تعالى : “ “ وألقي السحرة ساجدين ، قالوا آمنا برب العالمين ، رب موسى وهارون “ .( الأعراف 7 : 119 - 121 ) .
( 2 ) تفسير صوفي يشير إلى قول فرعون للسحرة حينما آمنوا بموسي : “ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف “ . ( الأعراف ، 7 : 123 ) .
( 3 ) قال تعالى : “ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا “ . ( الأعراف . 7 : 204 ) .
“ 243 “
النطق عن طريق السمع .
ادخلوا الأبيات من أبوابها * واطلبوا الأغراض من أسبابها والنطق الذي لا يكون متوقفاً على السمع إنما هو نطق الخالق الذي تنزّه عن الطمع .
1630 إنه المبدع الذي لا يتبع أستاذاً ، وسند الجميع الذي لا يستند على شيء .
وكل من عداه - سواء في الصنع أو في الكلام - تابعُ لأستاذ ، ومحتاجُ إلى مثال .
فإن لم تكن غريباً عن هذا الكلام ، فالبس الدلق ، وأسكب الدمع في إحدى الخرائب .
ولما كان آدم قد نجا - بدموعه - من اللوم ، فإنّ الدموع السائلة دعاء التائب .
لقد هبط آدم إلى الأرض للبكاء ، ليكون منتحباً ، نائحاً حزيناً .
1635 فهو قد نزل من الفردوس ومن أوج السماء السابعة إلى موضوع صفّ النعال ، ملتمساً العذر .
فإذا كنت من ظهر آدم ومن صلبه ، فكن طالباً للعذر ، وكن أيضاً من شيعته !
واجعل من نار القلب ودمع العين نُقّلًا ، فإن البستان لا يتفتح إلا بالسحاب والشمس .
وما الذي تعرفه أنت عن مذاق ماء المدامع ، وما أنت إلا عاشق للخبز كالعميان ؟
فلو أنت أخليت هذه الجعبة “ 1 “ من الخبز ، لجعلتها مليئة بجواهر الجلال .
1640 فلتفطم طفل روحك من لبن الشيطان ، ثم اجعلها ، بعد ذلك
.................................................................
( 1 ) يريد بالجعبة هنا البطن .
“ 244 “
رفيقة للملائكة .
وإذا ما كنتَ مُظلماً ملولًا مكتئباً ، فاعلم أنك أخ في الرضاعة ، وقرين للشيطان اللعين .
إنّ اللقمة التي تزيد النور والكمال هي تلك التي تُنال من الكسب الحلال .
أما الزيت الذي يجيء فيطفىء سراجنا ، فسمّه ماء ، ما دام يطفئ السراج .
فمن اللقمة الحلال يتولد العلم والحكمة ، ومن اللقمة الحلال ينبعث العشق والرقة .
1645 فإذا أحسست من لقمة بالحسد ، ( ومَلتْ ) إلى الخداع ، وتولد لك منها الجهل والغفلة ، فاعلم أنها لقمة حرام !
وهل زرعت قط قمحاً فأثمر لك شعيراً ؟ أم هل رأيت فرساً أنجبت حماراً ؟إن اللقمة هي البذرة والأفكار ثمرتها ؛ اللقمة هي البحر والأفكار جوهرها .إن اللقمة الحلال في الفم يتولد منها الميل للعبادة ، والعزم على الذهاب إلى ذلك العالم “ 1 “ . كيف روى التاجر للببغاء ما رآه من ببغاوات الهند
ولقد أثمَّ هذا التاجر تجارته ، وعاد إلى منزله سعيداً قرير العين .1650 وأحضر لكل غلام هدية ، كما أعطى كل جارية نصيباً “ 2 “ ...................................................................................( 1 ) عالم الروح .( 2 ) كلمة ( نصيب ) من بين معاني ( نشان ) .“ 245 “ فقال الببغاء : “ وأين هدّيتي ؟ ألا فلتحدثني بما قلتَه وما رأيتهَ ! “ فقال التاجر : “ لست فاعلًا ، فإني على ذلك نادم ! إنني أُقلبّ كفيّ ، وأعضّ بناني ! فلماذا حملتُ هذه الرسالة الفَجّةَ جزافاً . إن ذلك الجهلي وحماقتي !
“ فقال البيغاء : “ أيها السيد ! على أيّ شيء أنت نادم ؟ وأيّ شيء يقتضي هذا الغضب الشديد والحزن ؟ “
1655 فقال التاجر : “ لقد نقلت شكاياتك لجماعة من الببغاوات شبيهة بك .
فأحسّ ببغاء بألمك فانشقت مرارته ، وارتعد ومات .فأصبحتُ نادماً .
وما الذي كان ( يقتضي ) هذا القول ؟ ولكن ما دمتُ قد قلتُه فما فائدة الندم ؟
“ فاعلم أن الكلمة التي قفزت فجأة من اللسان شبيهة بالسهم الذي انطلق من القوس .
فهذا السهم لن يعود من طريقه يا بنيّ ! إن إيقاف السيل يجب أن يكون عند منبعه .
1660 فإذا انطلق من منبعه أغرق الدنيا . فلو أنه خرّب العالم فما في ذلك عجب .
وفي الغيب آثار تُولدّ الأفعال ، وهذه الأفعال المولّده ليست طوع حكم الخلق .
فاللَّه وحده يخلق كلّ هذه الأفعال المولّده ، وإن كانت تُنسب إلينا فزيد يُطيِّر سهماً تجاه عمرو ، فيصيب السهم عمراً كما ( يُصاب ) النمر .
فيتولد الألم من ذلك مدة عام ، واللَّه هو الذي يخلق الآلام ، لا الناس .
1665 فلو مات زيد الرامي - ساة الرمي - من الوجل ، فإن الآلام تظل تتولد في جسد عمرو حتى ينتهي أجله .
ولما كان عمرو قد مات من الأوجاع التي تولّدت ( من السهم ) فسمّ زيدا الرامي - لهذا السبب - قتّالًا .
“ 246 “
وانسب هذه الأوجاع إليه ، وإن كلها من صنع الخالق .
وهكذا الزرع والتنفس والصيد والجماع ، كل ما تولد عنها إنما هو بقدرة اللَّه .
والأولياء لهم قدرة من اللَّه ، فهم يردّون السهم المنطلق عن طريقه .
1670 وحينما يصير الوليّ نادماً ، فإنه يمنع النتائج المتولدة عن الأسباب “ 1 “ ، بقدرة اللَّه .
فهو بانفتاح باب ( اللطف أمامه ) - يجعل ما قيل كأن لم يُقل ، فلا يقع من جرّائه ضرّ ولا أذى “ 2 “ .
ويمحو الكلام من كل القلوب التي سمعته ، ويخفي معالمه .
فإذا أردت - أيها السيد - برهاناً وحجة على ذلك ، فلتقرأ ( قوله تعالى ) :” ما نَنْسَخْ منْ آيَةٍ أَوْ نُنْسها نَأْت بخَيْرٍ منْها ““ 3 “ .
ولتقرأ كذلك آية :” أَنْسَوْكُمْ ذكْري ““ 4 “ ، واعلم أن لهم القدرة على وضع النسيان ( في قلوب الناس ) .
1675 فهم - إذ كانوا قادرين على إحداث التذكر والنسيان - تحقّقت لهم السيطرة على جميع قلوب الخلق .
فإذا سدَّ الولي أمامك طريق النظر ، فليس في إمكانك أن تعمل شيئاً ولو كنت من أُولي الفضل .
....................................................................
( 1 ) حرفياً : “ يغلق أمام الأسباب أبواب ( النتائج ) المتولدة “ . والمعنى أن الولي إذا ندم على فعل سئ فإن هذا الندم يمنع النتائج التي تتولد عن هذا الفعل .
( 2 ) حرفياً : “ فلا يحترق من جرائه سيخ ولا كباب “ .
( 3 ) البقرة ، ( 2 : 106 ) .
( 4 ) قال تعالى : “ إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ، فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري “ . ؟( المؤمنون ، 23 : 108 - 109 ) .
“ 247 “
أخلتم أهل السمو سخرياً ؟ ألا فلتقرأ من القرآن” حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذكْري ““ 1 “ .
إن صاحب القرية ملك على الأجساد ، وأما صاحب القلب فملك على قلوبكم .
والعمل قد جاء - بلا شك - فرعاً للإبصار ، وعلى هذا فليس الإنسان إلا إنسان العين !
1680 ولست مكملًا القول في هذا ، فإن المنع يأتيني من أصحاب الصدارة .
ولما كان التذكر والنسيان في الخلق رهن إرادته ، كما أنه يستجيب إلى ضراعتهم “ 2 “ ،
فإن هذا ( الخالق ) العظيم يخلي قلوبهم كل مساء من مئات الآلاف من ( خواطر ) الخير والشر .
......................................................................
( 1 ) إشارة ثانية إلى قوله تعالى : “ فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون “ . ( المؤمنون ، 23 : 109 ) .
( 2 ) فسر صاحب المنهج القوي ( ج 1 ، ص 317 ، 318 ) قول الشاعر : ( ولما كان التذكر والنسيان في الخلق رهن إرادته ) بقوله : “ وذاك الخليفة الأحسن مائة ألوف خواطر حسنة وقبيحة كل ليلة يفرغها وكل يوم يملؤها لأنه متصرف في قلوب الناس بإرادة اللَّه تعالى كما قال الشيخ الأكبر : يتجلى الحق لمرآة قلب الولي الكامل فيعكس الأنوار من قلبه إلى العالم فيكون باقياً محفوظاً بوصول ذلك الفيض إليها فلا يجسر أحد على فتح الخزائن الإلهية والتصرف فيها إلا بإذن هذا الكامل لأنه صاحب الاسم الأعظم ، ولا يخرج من الباطن إلى الظاهر معنى من المعاني إلا بحكمه ، ولا يدخل من الظاهر في الباطن شيء من الأشياء إلا بأمره . وإن كان يجهله أحياناً عند غلبة البشرية عليه “ .
ويمكن أن نرجع ضمير ( ويست ) في البيت السابق إلى الخالق جل وعلا لأجل تفهيم عوام الناس “ . وقد ترجم نيكولسون هذا البيت والأبيات التي تليه على أن الضمير بها يعود إلى ( الولي ) ، متبعاً في ذلك التفسير الذي فضّله صاحب المنهج القوي .
ورأينا أن الضمير هنا يعود على اللَّه فقد اختتم الشاعر حديثه عن الأولياء في هذا المقام بقوله في البيت السابق : ( ولست مكملًا القول في هذا . . . ) . والأمور التي تحدث عنها الشاعر في هذا البيت وما يليه من أبيات لا يمكن أن تُنسب إلى بشر ، حتى ولو كان المقصود من هذا البيت ما نقله صاحب المنهج القوي عن ابن العربي ، واتخذه أساساً لتفسيره .
“ 248 “
بينما هو - في النهار - يملؤها من تلك الخواطر ، ويجعل تلك الأصداف حافلة بالدرر .
فتعرف تلك الأفكارُ السابقةُ - بالهداية - سبيلها إلى الأرواح .
1685 فتعود إليك حرفتك وعملك حتى يفتحا أمامك باب الأسباب .
وليست تذهب حرفة الصائغ إلى الحداد ، ولا يصير طبع الرجل المهذب إلى رجل خسيس “ 1 “ .
فكما أنّ الحرف والأخلاق تعود إلى صاحبها كالمتاع يوم الحشر “ 2 “ ،
كذلك تعود الحرف والأخلاق إلى صاحبها مسرعة بعد النوم .فهذه الحرف والأخلاق في وقت الصبح تعود إلى مواضعها من الحسن والقبح “ 3 “ . 1690 فهي كالحمام الزاجل يعود إلى مدينته بما يحمله إليها من البلاد . كيف استمع الببغاء إلى ما فعلته الببغاوات
وكيف مات في القفص وكيف بكاه صاحبه
حين استمع هذا الببغاء إلى ما فعله ببغاء الهند ، عرته هزة شديدة وسقط ومات وأصبح بارد الجسم .فلما رآه التاجر طريحاً على هذا النحو ، قفز ورمى عمامته على الأرض ...............................................................( 1 ) يريد بهذا البيت وما سبقه من أبيات أنّ الأفكار تفترق عن الأرواح ساعة النوم ، ولكنها تعود في الصباح فتلحتق بتلك الأرواح بهداية اللَّه ، فالحرفَ والمعرفة بالصناعات تفارق أصحابها حين ينامون ، لكنهم عندما يستيقظون تعود إليهم حرفهم ومعارفهم التي تفتح أمامهم أبواب الأسباب .( 2 ) روي عن الرسول - عليه السلام - أنه قال : “ تمونون كما تبعثون وتحشرون كما تموتون “ .( 3 ) تعود الأخلاق الحسنة إلى أصحابها ويعود القبح إلى أصحابه .“ 249 “واندفع التاجر وشقّ جيبه حين رأى الببغاء بهذا اللون ، وعلى تلك الحال .وقال : “ أيها الببغاء الجميل ذو الصوت الرخيم ! ماذا أصابك ؟ولماذا أصحبت على تلك الحال ؟ 1695 فوا أسفاه يا طائري الحلو الغناء ! وأسفاه عليك يا صفي ، وموضع سري .وا أسفاه عليك يا طائري العذب الألحان ! يا راحي وروحي وروضي وريحاني ! فلو كان لسليمان طائر مثل هذا ، متى كان يُشغل بغيره من الطيور ؟
وا أسفاه على هذا الطائر الذي وجدته رخيصاً ، وسرعان ما حولت وجهي عن وجهه ! أيها اللسان !
إنك لي مصدر ضرّ كثير ، ولكن ما دمت أنت الناطق ، فماذا أقول لك ؟
1700 - أيها اللسان ! إنك أنت النار ، وأنت البيدر أيضاً ، فإلى متى تشعل هذه النار بهذا البيدر ؟
إنّ الروح تصرخ منك في الخفاء ، وإن كانت تعمل بكل ما تحدثها به ! أيها اللسان !
إنك كنز لا حدّ له ، كما أنك ألم لا علاج له ! إنك صفير وخداع للطيور ،
وإن كنتَ - في الوقت ذاته - مؤنساً لوحشة الهجران ! فلكم تمنحني الأمان “ يا من لا أمان لك ! يا من شددت قوسك للانتقام مني .
1705 - فيا من أطرت مني طائري ! حسبُك ارتعاء في مراعي الظلم ! أجنبي ، أو كن منصفاً ، أو اذكر لي ما يكون سبباً للسرور ! وأسفاه على صبحي الذي كان يحرق الظلمات ! وا أسفاه على نوري الذي كان يتألق به النهار !
“ 250 “
وا أسفاه على طائرى الذي كان مليح الطيران . لقد طار من نهاية حالي إلى بدايته “ 1 “ .
إن الجاهل عاشق للألم حتى الأبد ، فقم واقرأ من قوله تعالى ؟
“ لا أقسم “ حتى قوله” في كَبَدٍ ““ 2 “ .
1710 - لقد كنت مع وجهك خليّا من الكبد ، وكنت في نهرك نقيا من الزيد .
وهذه الآهات مبعثها خيال مشاهدة ( المحبوب ) ، وانفصالي عن وجودي الحق “ 3 “ .
إنها كانت غيرة الحق ، ولا حيلة لنا أمام الحق . وأين القلب الذي لم يمزّقه عشق الحق مائة قطعة ؟
وغيرة الحق هي أنه مغاير لكل شيء ، وأنه فوق كلّ بيان وضجيج ألفاظ .
وا أسفاء ! ليت دمعي كان بحراً لأجعله نثاراً أمام محبوبي الجميل!
1715- إن ببغائي ، طائري الذكي ، ترجمان فكري وأسراري ،
قد أخبرني - منذ البداية - بكلّ ما يصيبني - ذات يوم - من عدل أو حيف ، لعلني أذكر !
والببغاء الذي يجيء من الوحي صوته ، والذي كان ابتداؤه قبل ابتداء الوجود ،
................................................................................
( 1 ) يريد أن الطائر - بموته - عاد من عالم المادة إلى عالم الروح ، وبهذا طار من نهاية حال صاحبه في هذا العالم المادي إلى عالم الروح الذي كان بداية حال صاحبه .
( 2 ) قال تعالى : “ لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حل بهذا البلد ، ووالد وما ولد ، لقد خلقنا الإنسان في كبد “ . ( البلد ، 90 : 1 - 3 ) .
( 3 ) ترجمنا هنا قول الشاعر “ وجود نقد “ بالوجود الحق غير الزائف .
“ 251 “
هذا الببغاء مستتر في باطنك ، وقد شهدت خياله فوق هذا وذاك “ 1 “ .
إنه يسلبك السرور ، ( ومع هذا ) فأنت مسرور به . وأنت تتقبل منه الظلم ، كأنما هو عدل .
1720 فيا من كنت تحرق الروح من أجل الجسد ! إنك أحرقت الروح ( وبها ) أضأت الجسد .
أما أنا فقد احترقت ( بالعشق ) ، فهل يريد أحد جذوة ( مني ) كي يشعل القمامة بناري “ 2 “ .
وما دام الوقود هو الذي يكون متقبلًا للنار ، فخذ الوقود الذي يكون جذّاباً للهب
! فوا أسفاه ! وا أسفاه ! وا أسفاه لأن مثل هذا القمر أصبح مختفياً وراء السحاب .
وكيف لي أن أنبس بكلمة ، ونار القلب قد اضطرمت ، وأسد الهجر قد أصبح هائجاً مفترساً .
1725 فهذا الذي يكون - في يقظته - عنيفاً ثملًا ، كيف يكون حاله ، حين يمسك بيده القدح ؟ .
فالأسد الهائج الذي خرج عن طبيعته ، يضيق به المرج المنبسط .
إنني أُفكر في ألقوا في وحبيبي يقول لي : “ لا تفكر إلا في طلعتي “ .
ألا فلتجلس ناعماً يا قافية تفكيري “ 3 “ ! إنك أنت قافية السعادة أمامي !
فما الألفاظ حتى تشغل بها فكرك ؟ ما الألفاظ ؟ إنها الأشواك المحيطة بالكرم .
......................................................................
( 1 ) وقد شهدت خاله فيما أمامك وما حولك من مخلوقات العالم الماديّ .
( 2 ) هل يريد أحد أن يقبس نار العشق مني لتخلصه مما علق به من ماديات حقيرة . وقد عبر عن الماديات بكلمة “ القمامة “ احتقاراً لها ، كما ذكر أنّ التخلص منها لا يكون إلا بنار العشق التي تحرقها كما تحرق النار القمامة .
( 3 ) يا مصدر انسجام تفكيري وتوازنه .
“ 252 “
1730 - فلأضربنّ الحرف بالصوت والكلام حتى أستطيع الحديث معك بدون تلك ( الوسائل ) الثلاث .
ولأفضينّ إليك بتلك الكملة التي أخفيتها عن آدم ، يا من أنت ( جمُاع ) أسرار العالم !
سأقول لك تلك الكملة التي لم أقلها للخيل ، وأُحدثك بذلك الهمّ الذي لا يعرفه جبريل .
تلك الكملة التي لم ينطق بها المسيح قطّ ، ولم يذكرها اللَّه قطّ - غيرةً عليها - إلا لنا “ 1 “ .
وأي شيء تعنيه “ ما “ “ 2 “ في اللغة ؟ إنها للإثبات والنفي ، وأنا لست إثباتاً ، بل إنني نفي وبلا ذات !
1735 لقد وجدت ذاتيتي في انعدام الذاتية ، ولهذا فقد نسبحتُ ذاتيتي في اللاذاتية .
فجملةُ الملوك عبيد لرعاياهم ، وجميع الخلق ، فداءُ من يفديهم .
الملوك جميعاً ينحنون لمن ينحني لهم ، والخلق جميعاً ثملون بحب سُكارى عشقهم .
والصياد يغدو صيداً للطيور حتى يباغتها ، فيجعلها صيداً له .
وقلوب المعشوقين أسيرة لمن فقدوا ( في العشق ) قلوبَهم ، وجملة المعشوقين صيد للعاشقين .
1740 وكل من رأيته عاشقاً فاعلم أنه معشوق ، فإنه - نسبياً - هذا وذاك .
فإذا كان الظماءُ ينشدون من العالم الماء ، فإنّ الماء في العالم أيضاً ينشُد الظماء !
...................................................................
( 1 ) ورد في المنهج القوي حديث عن الرسول يروي أنه عليه السلام قال :
“ إن للَّه عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء ولكن يغبطهم الأنبياء والشهداء لقربهم ومقعدهم من اللَّه “ .
( 2 ) وردت في نهاية البيت السابق كلمة “ ما “ بمعنى نحن . وفي هذا البيت صرفها الشاعر عن معناها الفارسي إلى معانيها العربية فقال إنها للنفي وللإثبات .
“ 253 “
فإن كنت عاشقاً فالزم الصمت ، وإنْ عرك لك أُذناً فكن ( كلّك ) أُذناً .
ولتُقمْ سدّاً أمام السبيل إذا فاض “ 1 “ ، وإلا فإنه يحدث العار والخراب .
وماذا يضيرني لو يقع الخراب ؟ إنّ كنزاً ملكياً سيكون تحت الأنقاض !
1745 إنّ غريق الحق يودّ لو يزداد غرقاً ، ( على حين ) تهبط روحه وتعلو مثل موج البحر .
فما الأفضل ؟ قاع البحر أم سطحه ؟ وما الأبهى ؟ سهم الحبيب أم درعه ؟
أيّها القلب ! إنّك لتكون ممزقاً بالوساوس ، لو أنك فرقت بين الطرب والبلاء !
فإنْ كان لمرادك مذاق السكر ، أوليس حرمانك من مرادك هو مراد الحبيب ؟
فكل نجم من نجومه ثمن لدم مائة هلال ، وإراقةُ دم العالم حلالُ له .
1750 ولقد أخذنا الأجر ، ونلنا ثمن الدماء ، ولهذا فقد سارعنا إلى المخاطرة بأرراحنا .
آه ! إنّ حياة العاشقين في الموت ، وإنّك لن تملك قلب الحبيب إلا بفقدان قلبك !
لقد سعيتُ إلى قلبه بمائة إعزاز وتدليل ، ولكنّه - لملاله - قدّم لي الأعذار .
قلت : “ فما آخر هذا إنّ العقل والروح عريقا حبّك ! “ فقال :“ دعني ! ولا تحدَّثني بهذه الخرافة !
......................................................
( 1 ) كن مسيطراً على عواطفك ، ولا تدع لسانك ينطلق بالحديث عنها . وتجنب البوح ، بما قد يكشف لك من الأسرار .
“ 254 “
أولست أعرف ما قد فكرت فيه ؟ فيا أيها الثنوي الرؤية ، كيف أبصرت الحبيب ؟
1755 - أيها الكبير الروح ! لقد رأيتني ذليلًا ، لأنك شريتني بالثمن البخس !
وكل من اشترى بالثمن البخس باع بالثمن البخس ، فالطفل يعطي جوهرة لقاء قرص من الخبر !
“ إنني غريق عشق قد غرق فيه عشق الأوّلين والآخرين !
ولقد وصفته بإجمال ، ولم أفصلّ في بيانه ، ولولا هذا لا حترقت الأفهام ، واحترق اللسان .
فحينما أقول : “ الشفة “ فإنها تكون “ شفة “ البحر “ “ 1 “ ، وحين أقول “ لا “ فالمراد “ إلا “ .
1760 وإني - من جرّاء ما أتذوق من حلاوة - جلستُ عابس الوجه ، كما أني - لا متلائي بالقول - قد لزمتُ الصمت !
وذلك لتستتر حلاوتنا عن كلا العالمينْ وراء حجاب من عبوس الوجه .وإني لأذكر سراً واحدا من كل مائة سر لَدُنيّ حتى لا يصل هذا الكلام إلى كان أُذن ..
يتبع