كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف ذهب المصطفى عليه السلام على مدونة عبدالله المسافركيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي
كيف ذهب المصطفى عليه السلام لعيادة صحابي مريض
وبيان فائدة العيادة
[ بيان القصة ]مرض أحد أعلام الصحابة وأصبح من جراء هذا المرض في نحول الخيط .فتوجه المصطفى لعيادته ، فخلق المصطفى كان كله كرما ولطفا .ففي ذهابك لعيادة المريض فائدة . وفائدة ذلك عائدة إليك .فالفائدة الأولى أن ذلك الشخص العليل ، ربما يكون قطبا أو .مليكا ( روحيا ) جليلا . 1245 وان لم يكن قطبا ، فلعله يكون رفيقا للطريق . وان لم يكن مليكا ، فلعله يكون فارس الجيش .فاعتبر أن من واجبك صلة رفقاء الطريق مهما يكن هؤلاء ، وسواء في ذلك من كان منهم ماشيا أو راكبا ......................................................................( 1 ) انظر : سورة المائدة ، 5 : 1 .( 2 ) انظر : سورة المائدة ، 5 : 89 . “ 236 “ ولئن كان عدوا ، فهذا الاحسان ذاته خير ، وكم من عدو قد غدا بالاحسان صديقا ! ولئن لم يغد العدو به صديقا تناقص حقده ، ذلك لأن الاحسان يكون بلسما للحقد .وكم للاحسان من فوائد أخرى غير ذلك ، لكنني خائف من الإطالة ، أيها الرفيق الطيب . 2150 - فالحاصل هو هذا : كن صديقا للجميع ، وكصانع الأصنام انحت من الحجر صديقا ! ذلك لأن احتشاد القافلة وتجمعها يقصم ظهر قاطع الطريق ، ويحطم سنانه .وما دام قلبك ليس بذى عينين أيها العنيد ، إلى حدّ أنك لا تميز بين الحطب والعود ، فلا تيأس ما دام في العالم كنز . ولا تحسبنّ خربة قط خالية من الكنز .ولتقصدن كل درويش جزافا ، فإذا ما وجدت عند أحدهم العلامة ، فابذل جهدك في ملازمته . 2155 - وما دمت لم ترزق هذه العين البصيرة بالبواطن ، فلتحسبنّ أن في كل وجود كنزا . كيف أوحى الحق تعالى إلى موسى عليه السلام ( قائلا ) :
“ لماذا لم تحضر لعيادتى ؟ “
لقد جاء من الحق إلى موسى هذا العتاب : “ يا من شهدت طلوع البدر من جيبك ! “ 237 “ يا من جعلتك مشرقا بالنور الإلهي ! لقد غدوت - أنا الحق - مريضا ، فلم تَعُدنى ! “ فقال موسى : “ سبحانك يا من أنت منزّه عن الضر ! ما هذا الرمز ؟ بينه لي ، يا الهى ! “ فقال الحق : “ لماذا لم تسأل عنى في مرضى ، على سبيل الكرم ؟ “ 2160 فقال موسى : “ يا رب ، ان النقص لا يعتريك . لقد ضاع عقلي ، فاكشف لي سر هذا القول ! “ فقال الحق : “ نعم ، ان عبدا لي خاصا مختارا قد مرض . وما هو الا أنا ، فتأمل جيدا .فعذره في مرضه عذر لي وكذلك مرضه ، انه مرض لي ! فمن أراد أن يكون جليسا لله ، فليجلس في حضرة الأولياء .فان أنت انقطعت عن حضرة الأولياء ، فإنك هالك ، لأنك - حينذاك - تكون جزاء بدون كل ! 2165 فكل من فرّقه الشيطان عن أهل الكرم ، فإنه يلقاه - بعد ذلك - وحيدا ، ويلتهم رأسه .ان الابتعاد عن الأحباب شبرا واحدا ، ولمدة لحظة واحدة لا يكون الا من مكر الشيطان فاعلم ذلك جيدا ! كيف فرق البستاني بين الصوفي والفقيه والعلوي
بينما كان بستانىّ يتفقد بستانه ، رأى به ثلاثة رجال كأنهم من اللصوص . “ 238 “ وكان أحدهم فقيها ، وثانيهم شريفا ، وثالثهم صوفيا . وكل منهم كان وقحا خبيثا ، عديم الوفاء ! فحدث نفسه قائلا : “ ان لي مائة حجة في مواجهة هؤلاء لكنهم جمع ، والجماعة قوة . 2170 فلن أقدر منفردا على ثلاثة أفراد ، فلافرق بينهم جميعا في أول الأمر .لأفصلن الواحد منهم عن الآخرين ، فإذا ما أصبح منفردا اقتلعت شاربه “ .فاصطنع حيلة أخرج بها الصوفىّ إلى الطريق ، حتى يفسد ما بينه وبين رفيقيه .فقال للصوفىّ : “ اذهب إلى الدار ، وأحضر بساطا من أجل هذين الرفيقين “ .فلما ذهب الصوفىّ ، قال البستاني في الخلوة لهذين الرفيقين :“ انك فقيه ، وهذا شريف ذائع الصيت . 2175 وانا لنأكل الخبز بفتواك ! بل انا لنحلق بجناح علمك .وهذا أيضا أميرنا وسلطاننا . انه سيد من أسرة المصطفى ! فمن يكون هذا الصوفىّ الشره الخسيس ، حتى يكون جليسا لأمثالكما من الملوك ؟فحينما يجئ فاجعلاه ( بضر با تكما ) قطنا ! وأقيما أنتما سبعة أيام في بستاني وسفحى ! وماذا يكون البستان ؟ ان روحي لكما ، يا من أتتما لي بمثابة عيني اليمنى ! “ “ 239 “ 2180 لقد وسوس لهما وخدعهما . أواه . ان من الواجب ألا يصبر المرء على ( بعد ) أصدقائه .وحينما أخرجا الصوفىّ إلى الطريق ، ومضى تعقبه خصمه بعصا غليظة ، وقال : “ أيها الكلب . أيكون من التصوف أنك تسارع إلى دخول بستاني بالرغم منى ؟فهل أرشدك الجنيد أو أبو يزيد لهذا الطريق ؟ وعن أي شيخ أو مرشد جاءك هذا ؟ “ لقد أشبع الصوفىّ ضربا حينما ألفاه وحيدا . وكاد أن يجهز عليه ، وشج رأسه . 2185 فقال الصوفىّ : “ ان ما أصابني قد انقضى ، لكن خذا حذر كما جيدا أيها الرفيقان ! لقد عددتمانى غريبا عنكما ، فتنبها فلست بأكثر غربة عنكما من هذا العُتُلّ .وانكما لجديران بشرب ما قد شربته . وان مثل هذه الشربة لجزاء لكل دنىء .فهذا العالم كالجبل ، فما رددتماه من القول سوف يرتد اليكما مع رجع الصدى “ .وحينما فرغ البستانىّ من الصوفىّ ، فإنه - بعد ذلك - انتحل عذرا من النوع ذاته . 2190 - فقال : “ أيها الشريف . لتذهب إلى الدار ، فانى قد أعددت من أجل الافطار رقاقا . “ 240 “ ولتهتف بقيماز “ 1 “ من باب الدار أن يحضر ذاك الرقاق ، والأوزة “ .فلما أخرجه إلى الطريق قال ( للآخر ) : “ أيها البعيد النظر . انك فقيه . وهذا الأمر ظاهر ويقين .وان هذا يدعى الشرف ، وهي دعوى بارة . فمن ذا الذي يدرى من قد زنى بأمه ؟فهل تركنون إلى المرأة وإلى فعلها ؟ وهل يُعتمد عليها وهي ناقصة العقل ؟ 2195 لقد ربط نفسه بعلى وبالنبي وكم بهذا الزمان من غبي ( يصدق قوله ) ! “ ان كل من جاء من الزنى ، وكان من الزناة ، فهو يحمل مثل هذا الظن في حق الربانيين ! وكل من غدا رأسه دائرا من دورانه حول نفسه ، يظن أن الدار دائرة مثله ! فهذا الذي قاله ذلك البستانىّ الفضولىّ كان وصف حاله .فما أبعد هذا عن أولاد الرسول ! فإن لم يكن من سلالة المرتدين ، فكيف كان يقول هذا عن أسرة الرسول ؟ 2200 وتفوّه وبخداع أصغى اليه ذلك الفقيه . فمضى الشريف وتبعه ذلك الظالم السفيه .فقال ( للشريف ) : أيها الحمار . من إذ الذي دعاك إلى هذا البستان ؟ وهل بقيت لك السرقة ميراثا عن الرسول ؟......................................................................( 1 ) اسم علم .“ 241 “ ان الشبل يجئ شبيها بالأسد فمن أي وجه تشبه أنت الرسول خبرني ! “ فهذا الرجل الملتجىء ( إلى الحيلة ) قد صنع بالشريف ما يصنعه خارجىّ بآل الرسول ! فكم ذا تحمل الحقد دوما على آل الرسول شياطين وغيلان من أمثال شمر ويزيد . 2205 لقد غدا الشريف محطما من ضربات ذلك الظالم . فقال للفقية “ هأنذا قد قفزت إلى خارج الماء .فاثبت أنت الآن ، فإنك قد بقيت فردا منتقرا ( للعون ) . ولتتلق الضربات فوق بطنك مثل الطبل ! فإن لم أكن شريفا ، ولا ئقا بك ، وصفيا ، فانى - بالنسبة لك - لست أسوأ من ذلك الظالم “ .ولقد فرغ البستانىّ من الشريف ، ثم أقبل قائلا : “ أيها الفقيه أي فقيه أنت ، يا عار كل سفيه ! فهل فتواك هذه - أيها اللص “ 1 “ - أنك تدخل ( بستاني ) ولا تسأل : هل من اذن ؟ 2210 وهل قرأت هذه الرخصة في الوسيط ؟ أم هل كانت هذه المسألة في المحيط ؟ “ فقال الفقيه : “ الحق معك ، فاضرب . لقد حقت لك الغلبة . وهذا هو الجزاء لمن افترق عن أصحابه “ ..................................................................( 1 ) حرفيا : أيها المقطوع اليد .“ 242 “عود إلى قصة المريض وعيادة الرسول
صلى الله عليه وسلم
ان هذه العيادة كانت من أجل تلك الصلة ( الروحية ) . وانها لصلة منطوية على مائة محبة ! فهذا الرسول - الذي لا ندّ له - قدء ذهب للعيادة فرأى ذلك الصحابىّ في حال النزع .انك حين تصبح بعيدا عن حضرة الأولياء ، تكون - في الحقيقة - قد غدوت بعيدا عن الله ! 2215 - فلئن كان الغم يحدث نتيجة لهجر الرفاق ، فهل تكون الفرقة عن وجه الملوك “ 1 “ أهون من ذلك ؟فسارع في كل لحظة إلى طلب ظلّ الملوك ، حتى يجعلك هذا الظلّ أبهى رواء من الشمس “ 2 “ ! ولئن كنت مسافرا ، فلتسافر على هذه النية . وان كنت مقيما فلا تغفل عن ذلك . كيف قال أحد الشيوخ لأبي يزيد
“ انى انا الكعبة فقم بالطواف حولى “
ان شيخ الأمة بايزيد “ 3 “ كان قد توجه إلى مكة مسرعا ، من أجل الحج والعمرة .وكان كلما نزول مدنية بدأ بالبحث عمن بها من الشيوخ الأعزاء ..................................................................( 1 ) الملوك هنا هم الصوفية من ذوى المكانة الروحية الرفيعة .( 2 ) حرفيا : “ حتى تغدو بهذا الظل أفضل من الشمس “ .( 3 ) بايزيد ، هو أبو يزيد البسطامي ، الصوفي المعروف ( ت 260 ه ) . “ 243 “ 2220 لقد كان يتجول سائلا : “ من بهذه المدينة ممن استند على أركان البصيرة ؟ولقد قال الحق : “ حيثما توجهت في سفرك ، فعليك - في أول الأمر - أن تطلب رجلا “ فاقصد إلى الكنز ، فان هذا الربح وتلك الخسارة يأتيانك تبعا .فلتعدهما من المسائل الفرعية .فكل من يزرع يكون مقصده القمح ، لكنه يحصل على التبن تبعا لذلك .ولو أنك زرعت التبن فلن ينبت لك قمحا . ألا فلتبحث عن رجل ! ابحث عن رجل ! 2225 فلتقصد إلى الكعبة حين يحلّ وقت الحج . فإذا ما أتيت إلى هناك فسترى مكة أيضا .لقد كان قصد الرسول من المعراج رؤية الحبيب ، فرأى العرش والملائكة تبعا لذلك . حكاية
[ بناء منزل المريد ] لقد بنى مريد جديد منزلا جديدا ، وجاء الشيخ ليتفقد منزل تلميذه ، فقال الشيخ لمريده الجديد ، وذلك ليختبر سداد فكره :“ لأي شئ جعلت له نافذة أيها الرفيق ؟ “ فقال المريد : “ لينفذ النور اليه من هذا الطريق “ . 2230 فقال الشيخ : “ هذا أمر فرعيّ ، والواجب أن تكون حاجتك إليها لتسمع عن طريقها صوت الأذان “ . “ 244 “ لقد فتش أبو يزيد كثيرا في سفره ، لعله يجد رجلا يكون خضر زمانه .فرأى شيخا ذا قد مقوّس كالهلال وشهد فيه الجلال ، وكذلك حديث الرجال .لقد كان ضرير العينين ، وأما قلبه فكان مثل الشمس كان مثل فيل شهد في منامه بلاد الهند ! فبينما هو نائم وعينه مغلقة يرى مائة طرب . فإذا ما فتح عينيه لا يرى ذلك . واعجبا ! 2235 فكم يتجلى في النوم من أمر عجاب ! ان القلب ليغدو نافذة ابان المنام .أما ذلك الذي يكون يقظا ويشهد أحلاما طيبة ، فهو عارف .فلتكحل عينيك بترابه ! فجلس أبو يزيد أمامه ، وسأله عن حاله . فوجده درويشا ، وأيضا صاحب عيال .فقال الشيخ : “ إلى أين عزمك يا أبا يزيد ؟ وإلى أي مكان سوف تجرّ متاع الغربة ؟فقال أبو يزيد : “ انى قاصد الكعبة عند انبلاج الصبح “ . فقال الشيخ : “ وماذا تحمل معك من زاد الطريق ؟ “ 2240 فقال أبو يزيد : “ ان معي مائتي درهم من الفضة ، وها هي ذي مثبتة باحكام في زاوية ردائي “ .فقال الشيخ : “ ألا فلتطف حولى سبع مرات ، ولتعدّ هذا أفضل من طواف الحج !“ 245 “ ولتضع أمامي تلك الدارهم أيها الجواد . ولتعلم أنك أديت الحج ، وتم لك المراد ! وأنك قضيت العمرة ، ووجدت حياة الخلود . وصرت صافيا ، وتساميت مسرعا نحو الصفاء .فبحق ذلك الحق الذي شهدته روحك انه قد فضلني على بيته . 2245 فمهما كانت الكعبة منزل برّه ، فان خلقتى أيضا منزل سرّه .فهو منذ خلق الكعبة لم ينزل بها . وأما هذه الدار “ 1 “ فلم منزل بها سوى ذلك الحي .فإذا ما أبصر تنى فقد أبصرت الله ، وطوّفت حول كعبة الصدق .وما دمت لا تعتقد أن الحق بعيد عنى ، فان أداءك خدمتي طاعة .وحمد لله ! فافتح عينيك جيدا وانظر الىّ ، حتى ترى نور الحق في البشر . 2250 ولقد أصغى أبو يزيد إلى تلك الأسرار ووضعها في أذنيه ، كأنها قرط ذهبي ! ثم انصرف أبو يزيد عن هذا الشيخ وهو في مزيد ( من الطاقة الروحية ) ، وفي النهاية وصل إلى منتهاها . كيف علم الرسول عليه السلام أن السبب في مرض ذلك الشخص
كان تجاسره في الدعاء
حينما رأى الرسول ذلك المريض ، فإنه سرّى بلطف عن ذلك الرفيق الأليف ..................................................................( 1 ) يشير بذلك إلى قلبه . “ 246 “ فانبعثت فيه الحياة حينما رأى الرسول . وكأنما تلك اللحظة قد خلقته .فقال : “ لقد وهبني المرض هذا الحظ السعيد فجاء سلطان ( الروح ) ساعة الصبح عندي ! 2255 حتى تعود إلى الصحة والعافية ، بقدوم هذا المليك الذي ليست له حاشية .فيها لها من سعادة ذلك العناء وتلك العلة والحمى ! وكم هو مبارك ذلك الألم وسهر الدجى ! فها هو ذا الحق - بلطفه وكرمه - قد وهبني في الشيخوخة مثل هذا الضنى والسقم .ولقد وهبني أيضا ألم الظهر ، فلا بد أن أقفز من النوم مسرعا في منتصف الليل .ان الحق بلطفه قد وهبني هذه الآلام حتى لا أنام طول الليل مثل الثور ! 2260 - وبهذه العلة تفجرت لي رحمة الملوك ، ولزمت جهنمُ الصمت عن تهديدى “ .ان الألم كنز ، وكم في داخله من الرحمات ! واللب يغدو أكثر نضرة إذا سلخت عنه القشرة .يا أخي ! ان المكان المظلم البارد ، والصبر على الحزن والوهن والآلام .كل أولئك عين ماء الحياة وكأسُ النشوة ، ذلك لأن هذه الأعالي كامنة في المنخفضات !“ 247 “ فهذا الربيع مضمر في الخريف . والخريف مضمر في الربيع فلا تهرب من ذلك . 2265 فكن رفيقا للشجى ، واسكن إلى الوحشة . والطلب العمر الطويل في موت النفس ! ومهما تقل لك النفس ان هذا المكان قبيح فلا تصغ إليها فان دأبها أن تكون ضد ( الصلاح ) !ولتخالفها ، فان هذا هو ما قالت به وصية الأنبياء في الدنيا .وان المشاورة في الأمور لواجبة ، حتى يكون الندم قليلا في العاقبة .ولقد قالت الأمة : “ ومن ذا الذي نشاوره ؟ “ فقال الأنبياء :“ شاوروا العقل ( فهو ) الامام “ . 2270 - فقال أحدهم : “ فلئن جاء طفل أؤ امرأة لا تملك رأيا ولا عقلا مستنيرا ؟ “ قيل : “ شاورها ، واعمل بضد ما تقوله لك ، وامض لسبيلك ! “ واعلم أن نفسك كالمرأة أو أسوأ منها ! ذلك لأن المرأة جزء ( من الشر ) ، وأما النفس فهي كل الشر ! فان أنت شاورت نفسك الأمَّارة بالسوء فخالف تلك الدنيئة في كل ما توحى به ! ولو أنها أمرتك بالصلاة وبالصوم فالنفس ماكرة ، ولعلها تلد لك مكرا . 2275 - فإذا شاورت نفسك في الأفعال ، فكل ما قالته لك فضده هو الكمال ! “ 248 “ فإن لم تقدر عليها وعلى حقدها . فاذهب إلى رفيق والزم مخالطته فالعقل يكتسب القوة من عقل آخر . وقصب السكر يكتسب الكمال بقصب السكر .انى قد رأيت من مكر النفس أشياء ، فهي التي تسلب بسحرها كل تمييز ! وهي تقدم لك الوعود نضرة بيديها ، بعد أن تكون قد أخلفتها آلاف المرات ! 2280 - فلو امتدّ بك العمر لتبلغ مائة عام ، فإنها تتعلل لك كل يوم بعذر جديد ! وهي تزجى بحرارة وعودها الباردة . انها لساحرة تربط للرجل رجولته .ألا فلتحضر يا ضياء الحق ! يا حسام الدين فإنه ! بدونك - لا ينبت العشب في الأرض الملحة ! فان ستارا قد تدلى من الفلك ، من جراء لعنة قلب جريح .وليس يدرى علاجا لهذا القضاء الا القضاء . فعقل الخلق حائر ذاهل في قضاء الله . 2285 ان الثعبان الأسود - الذي كان دودة ملقاة على الطريق - قد أصبح تنينا .لكن التنين يغدو يدك عصا ، وكذلك الثعبان يا من أنت روح موسى المنتشى بالمحبة .فلقد وهبك الله حكم” خُذْها وَلا تَخَفْ ““ 1 “ ، وبذلك يغدو.................................................................( 1 ) انظر : سورة طه ، 20 : 21 . “ 249 “ التنين عصا في يدك .فهيا ، أظهر يدك البيضاء ، أيها المليك واكشف لنا صبحا جديدا من بين الليالي المظلمة ! ان جحيما قد اشتعل ، فانفث عليه سحرك ، يا من أنفاسك ، أغنى من أنفاس البحر ! 2290 - انها ( النفس ) بحر ماكر ، يبدي قليلا من الزبد . بل هي الجحيم الذي أبدى بمكر قليلا من اللهب .وهي تظهر صغيرة أمام عينيك ، حتى تراها ضعيفة ، فيثور غضبك ، مثلما ظهر الجيش الكثيف قليل العدد ، أمام عيني الرسول .فكان أن هاجمه الرسول بدون أن يهاب خطره ، ولو رآه كثيرا لكان التزم الحذر ازاءه .لقد كانت هذه عناية ( من الله ) ، وكنت أهلا لها يا أحمد .ولولاها لكنت غدوت وجل الفؤاد . 2295 لقد كان الله يهوّن في نظره ونظر أصحابه جهاد الظاهر وجهاد الباطن .وذلك لكي ييسر له اليسرى ولكي لا يحوّل وجهه عن العسرى .ولقد كان اظهار الأمر له هينا نصرا له ، ولأنه كان للحق حبيبا ، والحق هو الذي علمه الطريق .أما من لم يكن الحق ظهيرا له في الظفر ، فويل له لو تبدّى له الأسد الضاري مثل الهرة ! وواها عليه لو ظهرت له المائة من بعيد واحدا ، فيدفعه الغرور إلى أن يخوض الوغى ! “ 250 “ 2300 - ولهذا فان الله يظهر سيف الرسول وكأنه حربة . ولهذا أيضا يظهر الأسد الضاري وكأنه هرة .حتى يرتمى ( كل ) أحمق في غمار الحرب متجاسرا ، وبهذه الحيلة يوقعهم في مخالبه ! وحتى يقبل كل هؤلاء الحمقى بأقدامهم نحو بيت النار ! انه يظهر لك وكأنه عود من القش ، فتسارع إلى نفخه لتزيله من الوجود ! فحذار فان هذه القشة قد اقتلعت جبالا ! لقد جلعت العالم يبكى وبقيت هي ضاحكة ! 2305 - انه يبدي ماء النهر وكأنما لا يتجاوز عمقُه كعب القدم ، على حين أنه قد أغرق مائة من أمثال عوج بن عنق ! انه يبدي موج الدماء تلا من المسك ! انه يبدي قاع البحر أرضا يابسة ! لقد رأى فرعون الأعمى هذا البحر يبسا ، فاقتحمه بكل شجاعته وقوته .وهو - حين خاضه - أصبح في قاعه . وكيف تكون عين فرعون بصيرة ؟ان العين تغدو بصيرة بلقاء الحق . وهل يكون الحق نجىّ السرّ لكل أحمق ؟ 2310 ان الأحمق يبصر القند ، فإذا به السم الزعاف ! وهو يرى الطريق ، ولا يكون ما رآه سوى نداء الغول ! أيها الفلك . انك لتسرع في دورانك بفتنة آخر الزمان . ألا “ 251 “ فلتمهلنا بعض الوقت ! انك لخنجر حاد في تهجمك علينا ! بل انك لرمح ملوث بالسموم ! أيها الفلك . تعلم الرفق من رحمة الحق . ولا تنهش بمثل لدغة الحية قلوب النمال .فبحق من جعلك دولابا دائرا فوق هذه الدار ( الدنيا ) . 2315 دُر على صورة أخرى ، وكن رحيما بنا ، من قبل أن تستأصل حذورنا ! بحق أنت كنت مربينا في البداية ، فنمت أغصاننا من الماء والتراب ! بل بحق ذلك المليك الذي خلقك صافيا ، وأطلع فيك كل تلك المشاعل ، وجعلك هكذا معمورا باقيا ، حتى ظن الدهري انك أزلي ! والشكر ( لله ) أننا قد عرفنا بدايتك فالأنبياء قد أخبرونا بسرك هذا . 2320 فالآدمىّ يعلم أن الدار حادثة ، وليس يعلم ذلك العنكبوتُ العابث في جوانبها ! وكيف تعلم البعوضة من أىّ وقت كان البستان ؟ وهي التي تولد في الربيع ويكون موتها في الشتاء ! والدودة التي تتولد في الخشب وهو واهى الحال ، كيف تعلم حال الخشب حينما كان غصنا ؟ولو أن الدودة علمت بماهيته ، لكانت عقلا تبدى على صورة دودة .وان العقل ليظهر ذاته في كثير من الألوان ، لكنه يبعد فراسخ “ 252 “ عن هذه الألوان . كبعد الجن ( عن الصور التي تتبدى فيها ) . 2325 بل هو أسمى من الملك ، فاىّ مجال هنا للجن ؟ لكنك تطير بجناح الذباب ، ولهذا فإنك تتهاوى في طيرانك ! ومع أن عقلك يطير محلقا نحو العلا ، فان طائر تقليدك يرتعى في الحضيض .وما العلم التقليدي الا وبال على أرواحنا . انه عارية ، ونحن قد ركنا إلى أنه علمنا ( الحقيقي ) .بل إن من الواجب أن يغدو المرء متجاهلا مثل هذا العقل ، ويجب عليه - ازاءه - أن يتشبث بالجنون ! فكل ما رأيت فيه نفعا لذاتك فاهرب منه ! لتحسُ السهم ولتهرق ماء الحياة ! 2330 وكل من يمتدحك كن له معنِّفا وأقرض المفلس ربحك ورأس مالك .ودع الأمان ، وانزل منزل الخوف ! وتخل عن حسن السمعة وكن مفتضحا ذائع الصيت ! انني قد جربت العقل البعيد الفكر . فمن بعد هذا سوف أجعل نفسي مجنونا ! كيف اعتذر فتى مستهتر لرجل فاضل انكر عليه زواجه
من احدى العاهرات
لقد قال السيد الأجل ذات مساء لذلك المستهتر : “ انك قد تزوجت متعجلا بامرأة فاجرة !“ 253 “ وكان الواجب أن تنبئنى بأمرك . حتى نزوجك من امرأة ذات عفاف “ . 2335 فقال : “ انني قد تزوجت تسع عفيفات صالحات ، فغدون عاهرات ، واضمحل من الحزن بدني ! فتزوجت هذا العاهرة بدون معرفة بها لأرى ماذا يؤول اليه أمرها .انني كثيرا ما جربت العقل . وانى - بعد هذا - لملتمس مغر سا للجنون ! “ كيف استطاع مستفسر ان يدفع إلى الكلام ذلك العظيم
الذي كان يتظاهر بالجنون
كان أحد الرجال يقول : “ انى أريد رجلا عاقلا لكي أشاوره في احدى المشكلات “ .فقال امرؤ له : “ ما في مدينتنا عاقل قط ، سوى هذا الرجل الذي يبدو كالمجنون ! 2340 ها هو ذا فلان ، وقد امتطى عودا من القصب وأخذ يعدو به بين الأطفال .انه صاحب رأى ، ( ذكاؤه ) جذوة من اللهب وقدره ( رفيع ) كالسماء وشأنه كالنجوم ! عدالته “ 1 “قد أصبحت روحا للملائكة المقربين ! لكنه قد احتجب.................................................................( 1 ) العدالة من معاني كلمة “ فر “ ، وقد اخترنا هذا المعنى في ترجمة البيت . “ 254 “ وراء هذا الجنون ! “ لكن ، لا تحسبن كل مجنون روحا ( عاقلا ) . لا تسجد للعجل كما فعل السامرىّ ! فحينما تحدث إليك الولىّ ، كاشفا لك مائة ألف غيب وسر خفيّ ، 2345 فان ذلك الفهم لم يكن لك ، ولا كان لك ذلك العلم . وما كنت تستطيع - من قبل - أن تميز بين البعر وبين العود ! فإذا ما حجب الولىّ نفسه بقناع من الجنون ، فكيف تتسنى لك معرفتة ، أيها الأعمى ؟فلو أنك فتحت عين اليقين ، لأبصرت “ 1 “ بها تحت كل حجر جنديا ( من جنود الله ) .فأمام تلك العين المفتوحة الرشيدة ، يكون كل رادء صوفىّ محتضنا كليما .ان الولىّ هو الذي يذيع أمر الولىّ ، ويجعل من يشاء ذا حظ من ذلك . 2350 وليس يستطيع انسان أن يعرفه بالعقل ، ما دام هو قد تظاهر بالجنون .فلو أن لصا بصيرا سرق متاع رجل أعمى ، فهل يستطيع الأعمى أن يتعرف على اللص لو مر بجانبه ؟ان الأعمى لا يعرف من كان سارقه ، حتى ولو اصطلام به ذلك اللص العنيد ..................................................................( 1 ) حرفيا : فأبصر . “ 255 “ فحين يعض كلب رجلا أعمى مهلهل الثياب ، فأنى له أن يعرف ذلك الكلب الضاري ؟ كيف تهجم الكلب على السائل الأعمى
كان في أحد الطرقات كلب يتهجم كليث الوغى على سائل أعمى . 2355 - فالكلب يتهجم غاضبا على الدراويش ، في حين أن القمر يكتحل بتراب أقدامهم ! فأصبح الأعمى عاجزا أمام صوت الكلب ومن خشيته . فأقبل الأعمى على الكلب يزجى له التعظيم ! قائلا : “ يا أمير الصيد يا ليث القنص ! ان الحكم لك ، فارفع يدك عنى ! “ فالضرورة قد دفعت ذلك الحكيم أن يعظم ذلك حمار ويلقبه بالكريم .ولقد جعلته الضرورة أيضا ، يقول : “ ما الذي يعود عليك من اصطياد نحيف مثلي ؟ 2360 - ان أمثالك يصطادون حمار الوحش في الفلوات ، وأنت تصيد الأعمى في الطريق ! ألا ما أسوأ هذا ! ان نظراءك يطلبون حمار الوحش صيدا ، وأنت للكيد تطلب أعمى في الطريق .فذلك الكلب العالم هو الذي تصيد حمار الوحش . وأما الكلب الخسيس فهو الذي تهجم على الأعمى ..
يتبع