كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافيكيف أنكر موسى عليه السلام مناجاة الراعي
“ 217 “
فاعلم أن خوفك ويأسك هما صوت الغول الذي يجتذب أذنك إلى قرارة الوضاعة .
وكل نداء يجتذبك نحو العلا ، فاعلم أنه قد جاءك من الأعالي
وأما كل نداء يستشير فيك الحرص ، فاعلم أنه صوت الذئب الذي يمزق الناس !
1960 وليس الارتفاع هنا باعتبار المكان بل إنه هو كلّ تعال نحو العقل والروح .
وكل سبب قد جاء أسمى من الأثر . فالحجر والحديد هما أكثر تفوقا من الشرر .
فهذا رجل قد احتل مكانة أرفع من آخر يشمخ برأسه مع أنه - في الصورة - قد جلس إلى جانبه .
فالارتفاع هنا هو من ناحية الشرف . فالمكان النائي عن صدارة الشرف يُستخف به .
والحجر والحديد - من جهة سبقهما في العمل - هما جديران بهذا التفوق .
1965 لكن ذلك الشرر - ( ان نظر اليه ) من جهة المقصود منه - كان من هذا الوجه أكثر تفوقا من الحديد والحجر .
ان الحجر والحديد هما البداية ، وأما الشرر فهو النهاية ؛ لكن هذين هما الجسد ، وأما الشرر فهو الروح .
ولئن كان هذا الشرر متأخرا في الزمان ، فإنه في الصفة أسمى من الحجر والحديد .
فالغصن أسبق في الزمن من الثمار . لكن الثمار أكثر فضلا من الأغصان .
“ 218 “
ولما كان المقصود من الشجر هو الثمر . فالثمر هو الأول وأما الشجر فهو الآخر .
1970 ان الدب - حين استغاث من التنين - أنقذه من بين مخالبه رجل شجاع .
فالحيلة والرجولة قد تضافرتا معا ، فاستطاع ( الرجل ) أن يقتل التنين بهذه القوة .
فالتنين قوىّ ، لكنه ليس بصاحب حيلة . وهناك أيضا حيلة فوق حيلتك !
فحينما ترى حيلتك فارجع وعد إلى البداية لترى من أين أتت .
فكل ما كان في المنخفض فقد جاء من القمم . فسارع وارفع بصرك نحو الأعالي .
1975 ان النظر إلى أعلى يهب البصر نورا ، مع أنه في بداية الأمر ، بلاء ، يخطف الأبصار !
فلتجعلنّ العين أليفة للنور . وان لم تكن خفاشا ، فانظر نحو ذلك الجانب .
وان ابصارك للعاقبة لهو علامة اشراق نورك . . أما الشهوة العاجلة فهي حقيقة قبرك !
فمن كان بصيرا بالعاقبة ، وقد شهد مائة لعبة لا يرقى إلى مشابهته من سمع بلعبة واحدة .
لقد أصبح هذا مغترا بتلك اللعبة الواحدة ، إلى حدّ أن التكبر أبعده عن الأساتذة .
“ 219 “
1980 فهو كالسامرىّ حينما شهد في نفسه مثل هذا الفضل ، فدفعه الكبر إلى عصيان موسى .
انه كان قد تعلم هذا الفضل من موسى ، ثم أغمض العينين عن معلمه .
فلا جرم أن موسى قد لعب لعبة أخرى ، محت لعبة السامرىّ واختطفت حياته !
فما أكثر المعرفة التي تسرع إلى الرأس فتؤدى إلى تفوقه ثم هي ذاتها تذهب بالرأس !
فان كنت تريد ألا يذهب رأسك ، فكن قدما . ثم التجىء إلى حمى قطب من أصحاب الرأي .
1985 ولئن كنت ملكا فلا تعتبر نفسك أسمى منزلة منه ! وان كنت شهدا فلا تحصد سوى نباته .
ان فكرك صورة أما فكره فهو روح ! ونقدك زائف وأما نقده فهو المنجم ! انه أنت فابحث عن ذاتك فيه !
واهتف : “ كوكو “ “ 1 “ ، وطر كالفاختة نحوه .
فإن لم ترد أن تخدم ( الشيوخ ) من أبناء الجنس الانساني فأنت مثل الدب في فم التنين !
فلعل أستاذا يقوم بانقاذك ، ويسحبك بعيدا عن الخطر .
1990 وما دمت لا تملك القوة فالزم الضراعة . وما دمت أعمى فلا تنمرد على البصير .
..............................................................
( 1 ) “ كوكو “ معناها “ أين أين ؟ “ ، فهنا تورية بين لفظ الكملة وبين معناها .
“ 220 “
وانك لأسوأ من الدب ، لأنك لست تنوع من الألم . فالدب قد نجا من الألم حينما استغاب .
الهى ! اجعل قلوبنا الحجرية مثل الشمع ! واجعل ضراعتنا إليك حلوة ، مستجابة برحمتك !
كيف قال سائل أعمى : “ انني اعانى من عمى مضاعف! “
كان أعمى قد دأب على أن يقول : “ أمانا ، فانى أقاسى لونين من العمى ، يا أهل الزمان ! فانتبهوا ، واشفقوا علىّ اشفاقا مضاعفا ، ما دام على نوعان من العمى ، أنا واقع بينهما “ .
1995 فقال أحدهم له : “ انا نرى لك عمى واحدا . فما هو العمى الآخر ؟
أظهره لنا !
“ فقال : “ انني قبيح الصوت خشن الدعاء ! وقد اقترن قبح الصوت عندي بالعمى ! فصوتى القبيح صار مصدرا اللغم .
ومن وقع صوتي ينكمش عطف الخلق .
وان صوتي القبيح لينطلق إلى كل مكان ، فيغدو مصدرا للسخط والغمّ والبغضاء .
فضاعفوا رحمتكم لهذا العمى المضاعف !
وأفسحوا مجالا لهذا الذي لا مجال له “ .
“ 221 “
2000 ولقد تناقص - بهذه الشكوى - قبحُ صوته ، وصار الناس - في العطف عليه - قلبا واحدا !
فلطفُ صوت قلبه - حين أعلن السرّ - قد جعل صوته لطيفا وأما من كان صوت قلبه قبيحا فان عما المثلث يبعده بعدا سر مديا .
لكن الوهابين ( من أصل الكمال ) يمنحون بدون ما سبب ، فلعلهم يضعون يدا فوق رأسه القبيح .
فحين غدا صوت ذلك السائل حلوا مثيرا للشفقة ، كانت تلين له كالشمع قلوب من تحجرت قلوبهم .
2005 أما ضراعة الكافر فهي إذ كانت قبيحة كالنهيق ، فإنها - من جراء ذلك - لم تقترن بالإجابة .
ان قوله تعالى :” اخْسَؤُا ““ 1 “ ، قد انطبق على قبيح الصوت ، الذي هو كالكلب ثمل بدم الخلق .
ولما كانت ضراعة الدب قد الجتذبت الرحمة ، وضراعتك لم تكن كذلك بل كانت قبيحة .
فاعلم أنك سلكت إزاء يوسف “ 2 “ مسلك الذئاب ، أو أنك شربت من دم برئ !
فقدم التوبة ثم استفرغ ما شربت . وان كان جرحك قديما ، فاذهب وداوه بالاكتواء .
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة المؤمنون ، 23 : 108 .
( 2 ) انظر : سورة يوسف ، 12 : 8 - 20 .
“ 222 “
تتمة حكاية الدب وذلك الأبله الذي كان قد ركن إلى وفائه
2010 ان الدب حين خلص من التنين ، ورأى هذا الكرم من ذلك الرجل الجسور ، ذلك الدب المسكين أصبح مثل كلب أصحاب الكهف ، مقتفيا أثر من حمل عنه العبء ! وقد استلقى من العناء ذلك المسلم وصار الدب - لتعلقه به - حارسا له ! ومرّ به رجل فقال له : “ ما الحال ؟ وما صلة هذا الدب بك ، أيها الأخ ؟ “ فذكر له القصة وحديث التنين : فقال الرجل : “ لا تعلق قلبك بدب ، أيها الأحمق .
2015 ان صداقة الأبله أسوأ من عدواته . فأولى بك أن تدفعه عنك بكل حيلة تعلمها “ .
فقال صاحب الدب : “ والله ما قال هذا الا عن حسد ! والا فأي خليقة الدب تراها فيه ؟ أنظر إلى هذه المحبة !
“ فقال الرجل : “ ان مودة الحمقى لخادعة . وحسدي هذا خير لك من محبة الدب !
فهيا ، أقبل معي ، وادفع عنك هذا الدب . لا تتخذ الدب صفيا !
لا تترك أبناء جنسك ! “ فقال صاحب الدب : “ اذهب عنى . اذهب لشأنك أيها
“ 223 “
الحسود ! “ فقال الرجل : “ لقد كان هذا شأني ، لكنه لم يكن من نصيبك “ 1 “ .
2020 انني لست أقل من الدب ، أيها الشريف . فلتتركه حتى أصبح لك رفيقا .
فقلبي يرتعد قلقا من أجلك فلا تدخل الأجمة مع مثل هذا الدب .
فقلبي هذا لم يرتعد قط جزافا . انه نور الحق ، ولا ادعاء في ذلك ولا غرور .
انني مؤمن وقد أصبحت ناظرا بنور الله . فحذار حذار . اهرب من بيت النار هذا !
“ لقد قال عابر السبيل كل هذا ، ولم ينفذ قوله إلى أذن صاحب الدب ، فسوء الظن سد عظيم بين المرء وسمعه .
2025 وأمسك الرجل بيد صاحب الدب ، فسجها ذلك منه . فقال “ سأنصرف الآن ما دمت لست بصاحب رشيد “ .
فقال صاحب الدب : “ اذهب ولا تحمل الهم من أجلى . وأقلل من تكلف العرفان “ 2 “ ، يا أبا الفضول !
“ فعاد اى مخاطبته قائلا : “ انني لست عدوا لك . ولو أنك أقبلت ورائى لكان ذلك لطفا منك “ .
فقال صاحب الدب : “ انى مثقل بالنعاس فاتركنى واذهب “ .
فقال الناصح : “ ليتك تنقاد “ 3 “ للرفيق في آخر الأمر ،
.................................................................
( 1 ) لم يكن من نصيبك ان تفيد من نصحى لك وتدخلى في امرك .
فقد كان نصحى إياك واجبا افترضته على نفسي ، وشأنا يعنيني .
( 2 ) حرفيا : “ وأقلل من نحت العرفان . . . “
( 3 ) حرفيا : “ كن منقادا للرفيق . . . “ .
“ 224 “
حتى تنام في ظل عاقل ، وفي جوار محب من أصحاب القلوب ! “
2030 فاستولى الخيال على صاحب الدب ، لما أبداه هذا الرجل من دأب ،
وسرعان ما تملكه الغضب وتغير وجهه ، قائلا : “ لعل هذا جاء للعدوان علىّ . أم لعله قاتل ،
أو سائل طامع ، أو أتونىّ “ 1 “ حقير ، أو أنه عقد رهانه مع أصدقائه على أن يخيفنى من صحبة هذا الجليس !
“ ومن خبث ضميره لم يرد بخاطره قط أي ظن حسن .
وكان كل ظنه الحسن موقوفا على الدب ! فلعله كان من ذات جنس هذا الدب !
2035 فالخسِّة “ 2 “ قد جعلته يتهم أحد العقلاء ، ويعتقد أن الدب ، من أهل المحبة والعدالة .
كيف قال موسى عليه السلام لعابد العجل :
“ أين خيالك المتفكر واين حزمك ؟ “
قال موسى لرجل ثمل بالخيال : “ يا من ساء ظنُّك من جراء شقائك وضلالك ! لقد كان لك مائة شك في نبوّتى ، مع مثل هذا البرهان ، وهذا الخلق الكريم !
.................................................................
( 1 ) “ الأتونى “ هو الذي يشعل النار في الحمامات ، وكان هذا العمل من المهن الحقيرة .
( 2 ) حرفيا : فالكلبية . . .
“ 225 “
ولقد شهدت منى آلاف المعجزات فتضاعفت بها أو هامك وظنونك وشكك مائة مرة !
لقد كنت تضيق بما ينتابك من خيال ووسواس ، فتوجه الطعن إلى نبوّتى !
2040 انى رفعت التراب من قاع البحر عيانا ، حتى أن أنقذتكم من حتى أنقذتكم من شر آل فرعون !
وكانت المائدة والأطباق تنزل من السماء طوال أربعين عاما ! وبدعائى تفجر الماء “ 1 “ من الحجر !
فهذه ومائة من أمثالها ، وكل هذه الدلائل الحارة والباردة لم تنتقص من الأوهام عندك أيها البارد !
لقد أطلق العجل خوارا ، فسجدت مسحورا ، وهتفت قائلا : أنت الهى !
فكأنما طوفان قد جرف إليك تلك الأوهام ، وتغلب النومُ على عقلك البارد .
2045 فكيف لم تستشعر سوء الظن ازاءه ! وكيف سجدت على هذه الصورة أيها القبيح الوجه ؟
ولماذا لم يتطرق إليك خيال عن تزويره “ 2 “ ، أو عن فساد سحره الذي يستولى على الأحمق ؟
فمن ذا يكون السامرىّ - أيها الكلاب - حتى يصوغ في الدنيا الها ؟
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ النهر “ .
( 2 ) المقصود بالضمير هنا هو السامري الذي أضل بني إسرائيل ، ودعاهم إلى عبادة العجل . وسيرد ذكره في البيت التالي .
“ 226 “
فكيف غدوتم معه قلبا واحدا على هذا التزوير ؟ وكيف غدوتم عاطلين من كل اشكال حوله ؟
فهل يصبح العجل - بالدجل - جديرا بالألوهية في حين أن نبوة مثلي يقع حولها مائة خلاف ؟
2050 ان الغباء دفعك إلى أن تسجد أمام العجل . وغدا عقلك صيدا لسحر السامرىّ .
لقد سرق عينيك من نور ذي الجلال ما أنت عليه من هذا الجهل الوافر ، والضلال الحق !
فساء عقلك هذا وساء اختيارك . فمن كان مثلك منجما للجهل فما أجدره بالقتل !
لقد أطلق العجل الذهبي خواره ، فماذا قال ، حتى تفتقت لدى الحمقى كل هذه الرغاب ؟
ولقد شهدتهم منى الكثير الذي يفوق ذلك عجبا ، ولكن متى كان كل خسيس يتقبل الحق ؟
2055 فما الذي يجتذب أهل الباطل ؟ انه الباطل . وما الذي يروق العاطلين ؟ انه العاطل !
ذلك لأن كل جنس يجتذب جنسه . فكيف يتوجه الثور نحو الأسد الضاري .
وأيان يستشعر الذئب عشق يوسف ؟ الا ان كان ذلك عن مكر يعلله بافتراسه .
فان خلص من طباع الذئاب غدا نديما للأسرار ، ككلب أصحاب الكهف الذي بلغ مرتبة البشر .
“ 227 “
ان أبا بكر - حين تنسم أريج محمد - قال : “ ليس هذا ! الوجه وجه كاذب “ .
2060 أما أبو جهل - فهو إذ لم يكن من أصحاب الشجن - فقد رأى انشقاق القمر مائة مرة ، ولم يصدق !
فنحن نخفي الحقيقة عن الملتاع ، الذي افتضح أمره “ 1 “ ، لكنها لا تخفي عليه !
وأما ذلك الذي يكون جاهلا بها ، بعيدا عن ألم هواها فكثيرا ما يُرشد إليها ، لكنه لا يراها !
فيجب أن تكون مرآة القلب صافية ، لتستطيع أن تميز بين ما ينعكس فيها من صور جميلة وأخرى قبيحة .
كيف قرر ذلك الرجل الناصح ترك المغتر بالدب
بعد ان بالغ في نصحه
ان ذلك المسلم ترك الأبله ، وعاد مسرعا ، وهو يتمتم : “ لا حول ولا قوة الا بالله “ .
2065 وقال : “ ما دام اجتهادي في النصح والجدال ، يزيد تولد الأوهام في قلبه ، فقد سدّ سبيل الموعظة والنصح ، والله قد أمرنا بالاعراض عنه “ 2 “ .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ الذي وقع له من السطح طشت “ ، وهذه العبارة كناية عن الفضيحة .
( 2 ) حرفيا : واتصل بنا أمر “ أعرض عنهم “ وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى : “ فأعرض عنهم وانتظر انهم منتظرون “ . ( السجدة ، 32 : 30 ) .
“ 228 “
فحين يكون دواؤك مما يزيد الداء ، فادخر القصة لمن يكون راغبا فيها ، واقرأ قوله تعالى :” عَبَسَ وَتَوَلَّى ““ 1 “ .
فلئن جاءك الأعمى طالب حق فليس يجوز أن تجرح قلبه من جراء فقره .
انك - يا محمد - لحريص على رشاد الكبراء وذلك لكي يتعلم العوام من سراتهم .
2070 يا أحمد ! لقد رأيت أن جماعة من الأمراء أصغوا إليك ، فسعدت بذلك ،
لعل هؤلاء الرؤساء يصيرون للدين ولاة مؤيدين ، وهم السادة بين العرب والحبش .
ويتجاوز صيت ذلك البصرة وتبوك ، ذلك لأن الناس على دين الملوك .
ولهذا فقد حوّلت وجهك عن هذا الضرير المهتدى ، وضاق به صدرك .
قائلا : “ ان هذه الفرصة قلما يتاح لها هذا الجو ، وأنت من الأصدقاء وأمامك فسحة من الوقت .
2075 ولقد زحمتنى في هذا الوقت الضيق . وانى أسدى لك هذه النصيحة لا عن غضب ولا خصام “ .
يا أحمد ! ان ضريرا واحدا كهذا خير عند الله من مائة قيصر ، ومائة وزير !
فلتذكرن أن الناس معادن ، وأن معدنا واحدا خير من مائة ألف !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة عبس ، 80 : 1 - 4 .
“ 229 “
فمنجم الياقوت والعقيق المستور ، خير من مائة ألف منجم للنحاس !
يا أحمد . ان المال هنا ليس بذى جدوى . بل لا بد من صدر ملىء بالعشق والألم والآهات .
2080 لقد جاءك أعمى مستنير القلب . فلا تغلق الباب . وابذل له النصح فان النصح من حقه .
فلو أن أبلهين أو ثلاثة أصبحوا لك منكرين ، فكيف تصير مرا ، ما دمت أنت منجم السكر ؟
ولو أن أبلهين أو ثلاثة يلقون عليك التهم ، فان الحق هو شاهدك الذي يؤيدك .
فقال الرسول : انني لست أحفل باقرار الخلق بي . فمن كان الحق له شاهدا فأي غم يعتريه ؟
فلو أن خفاشا وجد ما يلائمه في احدى الشموس فقد قام الدليل على أنها ليست هي الشمس !
2085 فنفرة الخفافيش ( منى ) قد نهضت دليلا على أنى أنا الشمس المشرقة الجليلة .
فلو أن جُعَلا أقبل راغبا على ماء ورد ، فهذا يقوم دليلا على أنه ليس بماء ورد .
ولو أن نقدا زائفا غدا مقبلا على المحك فهذا دليل على أن المحك يتطرق اليه النقص والشك ! واللص يريد الليل ولا يطلب النهار ، فاعلم ذلك . وأنا لست الليل بل أنا النهار الذي يضئ العالم !
“ 230 “
انني أنا الفارق ، وأنا الفاروق . أنا مثل الغربال ، لا سبيل للقش إلى أن ينفذ خلاله .
2090 انني أفصل الدقيق عن النخالة ، فأظهر أن هذه هي القشرة ، وذاك هو اللب “ 1 “ .
فأنا في الدنيا مثل ميزان الخالق ، فأنا أميز بها بين كل خفيف وكل ثقيل .
ان العجل يظن أن الثور هو الاله . فالمشترى ( هنا ) حمار والبضاعة لائقة به “ 2 “ .
وأنا لست بثور ، ولا العجل بمقبل على شرائى . أنا لست شوكا حتى تتخذني الجمال مرعى .
ان الكافر ليظن أنه قد آذاني بالجور ، ولعله لم يعدُ إزاحة الغبار عن مرآتى .
كيف تملق أحد المجانين جالينوس
وكيف خاف جالينوس من ذلك
2095 قال جالينوس لأصحابه : “ ليعطنى ( واحد منكم ) هذا الصنف من الدواء “ .
فقال له أحد هؤلاء : “ يا صاحب الفنون ! ان هذا الدواء يطلب .
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فأظهر ان هذه هي النقوش وذاك هو النفوس “ .
والنقوش رمز لأهل الصورة أما النفوس فهي رمز لأهل المعنى .
( 2 ) أخطا الشراح كثيرا في فهم هذا البيت . والمراد بالمشترى هنا العجل الذي يبحث عن الله ، فيظن أنه الثور . فما دام هذا الباحث غبيا كالحمار ، فهو لم يستطع ان يتصور كائنا أعظم من الثور .
“ 231 “
من أجل الجنون ! وما أبعد هذا عن عقلك ! فلا تعدالى ذكر هذا “ . فقال جالينوس : “ لقد تطلع أحد المجانين بوجهه نحوى ! ونظر بلطف إلى وجهي برهة من الوقت . وغمز لي بعينه ، وجذب “ 1 “ كمي ! فلو لم يكن لي تجانس معه ، لما كان هذا القبيح الطلعة يتجه بوجهه نحوي .
2100 ولو لم يشاهد فيّ جنسه فيكف كان يقبل نحوي ؟ وكيف كان يتعلق بمن لم يكن من جنسه ؟ “ فحين يرتبط شخصان معا ، فليس من شك قط أن شيئا مشتركا يجمعهما .
وكيف يطير طائر مع غير جنسه ؟ ان صحبة غير المجانس معناها القبر واللحد .
السبب الذي من اجله طار طائر والتمس الغذاء
مع طائر آخر لم يكن من جنسه
قال أحد الحكماء : “ لقد رأيت في برية غرابا ولقلقا يجريان معا .
فبقيت في عجب من ذلك ، وبحثت حاليهما ، لعلى أجد أثرا لما يربط بينهما .
2105 وحينما اقتربت منهما حيران متعجبا ، وجدت أن كليهما كان أعرج “ .
.................................................................
( 1 ) فضلنا رواية “ كشيد “ في هذا البيت بدلا من “ دريد “ في نص نيكولسون .
“ 232 “
وأي ارتباط للباز الملكي المتسامى إلى العرش ببومة عالقة بمنخفض من الأرض .
فهذا ينتمى إلى الشمس في آفاقها العالية ، وأما تلك فليست الا خفاشا من قرارة سجين ! هذا نور برئ من كل عيب . وأما تلك فعيماء متسولة على كل باب ! هذا قمر يطاول في تعاليه المشترى . وأما تلك فدودة تغوص بين البعر .
2110 هذا يوسفىّ المحيا ، عيسوى الأنفاس ، وأما تلك فهي ذئبة أو هي أتان ذات جرس .
هذا قد أصبح محلقا في اللامكان ، وأما تلك فقابعة في الحظائر مثل الكلاب .
ان الورد يقول - بلسان الحال - للجعل : “ أيها النتن الإبط ! لئن كنت تفرّ من بستان الورد ، فليس من شك أن نفرتك علامة على كمال البستان ! ان غيرتى لعصا تضربك فوق رأسك قائلة : “ أيها الخسيس اذهب بعيدا عن هنا !
2115 فإنك لو اختلطت بي أيها الدنىء لوقع الظن بأنك من معدنى .
فالخميلة هي المكان الذي يليق بالبلابل . وخير موطن للجعلان هو المزابل .
فما دام الحق هو الذي صاننى من القذارة فكيف يجوز أنه يرسل الىّ القذارة ؟
“ 233 “
لقد كان بي عرق واحد منها ، قطعه الله . فكيف السبيل إلى أن ينفذ الىّ هذا العرق الخسيس ؟
لقد كانت لآدم علامة منذ الأزل ، أن الملائكة - لمكانته - خرّت ساجدة له .
2120 وعلامة لآدم أن إبليس لم يسجد له ، قائلا : “ انى أنا الملك وأنا الرئيس “ .
فلو كان إبليس قد سجد له ، لما كان ذلك آدم ، بل كان شخصا سواه ! فسجود كل ملك آدم كان ميزان ( فضله ) ، وكذلك كان جحود كل عدوله برهان ( صدقه ) .
وكما أن اقرار الملك شاهد له ، فكذلك كفران الكلب الخسيس “ 1 “ شاهد له !
تتمة قصة اعتماد ذلك المغرور على تملق الدب
لقد نام الرجل ، وكان الدب يدفع عنه الذباب . لكن الذباب كان يرجع بعناد .
2125 ولقد ذبه بضع مرات عن وجه الشاب ، لكنه سرعان ما كان يعود اليه .
فصار الدب غاضبا من الذباب ، فمضى ، وأخذ من الجبل حجرا غليظا ،
.................................................................
( 1 ) “ الكلب الخسيس “ هنا يقصد به “ إبليس “ .
“ 234 “
وأحضره معه ، فرأى الذباب قد اتخذ مكانه من جديد فوق وجه الرجل النائم .
فرفع حجر الطاحون هذا ، وضرب به الذباب ، لعل الذباب يتراجع وينصرف .
فجعل الحجر وجه الرجل حطاما . ولقد أعلن هذا المثل للناس جميعا :
2130 أن حب الأبله هو - على وجه اليقين - مثل حب الدب . فبغض الأبله محبة ، وأما محبته فهي البغضاء .
وعهده واه خرب ضعيف . وكلامه سمين وأما وفاؤه فنحيف ! ولو أنه أقسم لك فلا تصدقه . فالرجل المعوج الكلام يحنث في القسم .
وما دام كلامه - من غير قسم - كان كذبا ، فلا يخدعنك مكره وقسمه “ 1 “ .
فنفسه هي الحاكمة ، وأما عقله فأسير ! فافترض أنه أقسم مائة ألف مرة على القرآن .
2135 فما دام يحنث في العهد - بغير قسم - فهو لو أقسم يحنث أيضا في قسمه .
ذلك لأن نفسه تغدو أكثر ثورة من جراء ذلك ، فإنك قد قيدتها بالقسم العظيم .
……………………................................................
( 1 ) حرفيا : “ فلا تقع في اللبن المخض بمكره وقسمه “ ، أي لا يجعلنك مكره وخداعه ضحية لغشه فتأخذ اللبن المخض منه على أنه حليب .
“ 235 “
فحين يضع أسير قيدا على الحاكم ، فان الحاكم يحطم القيد ، وينطلق خارجه .
وفي غضب يدق بهذا القيد رأس الأسير ، ويلقى بقسمه في وجهه .
فلتنفض يدك من ( استجابته لقوله تعالى ) :” أَوْفُوا بالْعُقُود ““ 1 “ .
ولا تخاطبه ( بقوله تعالى ) :” احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ““ 2 “ .
2140 وأما ذلك الذي يعرف العهد لمن عاهده فإنه يجعل من جسده خيطا ويلتف حول صاحب عهده .
.