كيف ذم الصوفية امام الشيخ ذلك الرفيق الذي كان يكثر من الكلام .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف ذم الصوفية امام الشيخ على مدونة عبدالله المسافركيف ذم الصوفية امام الشيخ ذلك الرفيق الذي كان يكثر من الكلام .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 365 “
كيف ذم الصوفية امام الشيخ ذلك الرفيق الذي كان يكثر من الكلام
[ بيان القصة ]ندد بعض الصوفية بواحد من رفقائهم وتوجهوا إلى شيخ الزاوية ، وقالوا للشيخ : “ اطلب الانصاف لأرواحنا من ذلك الصوفي ، أيها المرشد ! “ فقال الشيخ : “ وما هي الشكوى ، أيها الصوفية “ . فقالوا : “ ان لهذا الصوفي ثلاث صفات ثقال :انه في الكلام متتابع النطق مثل الجرس ، وفي الأكل يأكل أكثر مما يأكله عشرون رجلا ، 3510 - وإذا نام فهو مثل أصحاب الكهف ! “ ، فهكذا احتشد الصوفية عند الشيخ .فوجه الشيخ وجهه نحو هذا الدرويش ، ( وقال ) : “ خُذ من كل حال وسطه ! لقد جاء في الخبر أن خير الأمور أوساطها . والأخلاط تكون نافعة باعتدالها .فلو عرض ما يزيد واحدا من هذه الأخلاط ، ظهر المرض في جسم الانسان .ولا تزد عن قرينك في احدى صفاتك ، فان هذا يأتي بالفراق يقينا في عاقبة الأمر . 3515 - لقد كان نطق موسى متزنا ، لكنه - مع ذلك - جاء أكثر من نطق رفيقه الطيب . “ 366 “ فهذا الاكثار مع الخضر جاء بالشقاق ، فقال ( لموسى ) : “ اذهب فإنك مكثر ! هذا فراق بيني وبينك ! يا موسى ! ان تكثر من الكلام فابتعد عنىّ ! والا فكن معي كمن لا ينطق ولا يرى ! وان أنت لم تذهب بل أقمت على الرغم منى ، فأنت ( من جهة ) المعنى قد ذهبت ، وانقطعت عنى ! “ انك حين تنقض وضوءك في الصلاة تأمرك ( الصلاة ) بأن تسارع إلى الوضوء . 3520 فان أنت لم تذهب أصبحت متحركا بدون جدوى . لقد ذهبت صلاتك ، فاجلس أيها الغوى ! ولتذهب إلى هؤلاء الذين هم قرناؤك ، فهؤلاء هم المتعشقون لقولك ، الظامئون اليه .ان الحارس لأكثر فضلا من النيام ، وأسماك ( بحر الروح ) لا حاجة بها إلى حارس .والذين يرتدون الثياب يتطلعون إلى الغاسل ، وأما الروح العاري فله رونق بالتجلي .فابتعد عن جانب هؤلاء العراة ، أو كن مثلهم متحررا من رداء البدن . 3525 - وان لم تستطع أن تتعرى على الوجه الأكمل ، فأقلل من الثياب حتى تسلك السبيل الأوسط . “ 367 “كيف اعتذر الدوريش للشيخ
لقد ذكر هذا الفقير عذره للشيخ ، وجعل هذا العذر قرينا لذلك الملام .وأجاب على أسئلة الشيخ باجابات لطيفة صائبة كاجابات الخضر ، تلك الإجابات التي رد بها على سؤالات الكليم ، فباح بها لموسى ، وهي من لدن رب عليم .فحل له مشكلاته ، وأعطاه - فوق ذلك - مفتاحا لحل جميع المشكلات ! 3530 - ولقد كان لهذا الدرويش أيضا ميراث من الخضر ، فأطلق همته في جواب الشيخ .وقال : “ برغم أن الطريق الأوسط هو الحكمة ، لكن الوسط أيضا أمر نسبىّ .فماء النهر يكون ( عمقه ) قليلا بالنسبة للجمل ، لكنه يكون بالقياس إلى الفأر مثل اليم .وكل من كان له اشتهاء لأربعة أرغفة ، ثم أكل اثنين أو ثلاثة ، فذلك يكون من التوسط .فان أكل الأربعة كان بعيدا عن حد الوسط ، فهو أسير للحرص مثل البط . 3535 - وكل من كان اشتهاؤه لعشرة أرغفة ، ثم أكل ستة فاعلم أنه قد سلك سبيلا وسطا .وحينما يكون اشتهائي خمسين رغيفا ، واشتهاؤك ستة ، فلسنا متكافئين ( في القوة ) . “ 368 “ فربما يعييك أنت أداء عشر ركعات ، على حين لا يضنينى أداء خمسمائة ركعة ! وهذا يسير إلى الكعبة حافى القدمين ، على حين أن سواه يعييه الذهاب إلى المسجد ! وهذا يهب الروح بسخاء وسواه كاد الجود برغيف يزهق روحه ! 3540 ان الوسط يقترن بكل ما كان متناهيا ، فهذا يكون له أول وآخر .فالبداية والنهاية ضروريتان حتى يمكن أن يتصور الوسط فيما بينهما .وغير المتناهى - وهو لا يكون له طرفان - كيف يمكن أن يحدد له وسط ؟فلا أحد يعرف له بداية أو نهاية .” قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مداداً لكَلمات رَبِّي لَنَفدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلماتُ رَبِّي ““ 1 “ .ولو صارت البحار السبعة كلها مدادا ، فليس هناك قط توقع لنفادها ! 3545 ولو صارت البساتين والغابات كلها أقلاما ( تسجل ) فلن تتناقص قط تلك الكلمات ! فالحبر والأقلام مآلها جميعا إلى النفاد ، وتبقى هذه الكلمات التي لا يحصيها عدّ ! ان حالتي قد تشبه النوم ! أحيانا ، لكن الضال يحسبها نوما .فاعلم أن عيني نائمة وقلبي يقظان ! اعلم أنني دائب العمل وان ظهرت لك ( وكأنني ) بدون عمل !.................................................................( 1 ) الكهف ، 18 : 109 . “ 369 “ ولقد قال الرسول : “ ان عيني تنامان ولا ينام قلبي “ “ 1 “ . 3550 فعيناك يقظتان ولكن قلبك غارق في النوم . أما أنا فعيناى غافيتان ، وقلبي ( مترقب ) فتح الباب ! ان قلبي له خمس حواس أخرى ، والعالمان كلاهما مشهد لحواس القلب ! فلا تنظر إلى من خلال ضعفك ، فما كان بالنسبة إليك ليلا فهو ذاته بالنسبة لي مثل الضحى ! انه بالنسبة إليك سجن ، وهذا السجن هو بالنسبة الىّ مثل البستان . ولقد صار انشغالك ذاته عندي فراغا ! وقدماك في الوحل ، أما أنا فقد صار الطين عندي وردا ! وأنت في مأتم ، وأنا في فرحة وطبول ! 3555 وأنا أسكن الأرض معك في مكان واحد ، لكنني أنطلق ( دونك ) إلى السماء السابعة ، مثل زحل .ولست ( في الحقيقة ) جليسك ، بل ذلك ظلى ! وان منزلتي لأسمى من أن تبلغها الأفكار ! ذلك لأننى قد تجاوزت الأفكار ، وأصبحت منطلقا خارج نطاقها ! ولقد أصبحت حاكما على الأفكار ، لا محكوما بها ، ذلك لأن الباني يكون هو المتحكم في البناء ! أما جملة الخلق فهم مسخرون للفكر ، ولهذا فإنهم عليلو القلوب محترفون للأحزان ..................................................................( 1 ) المنهج القوى ، ج 2 ، 652 . “ 370 “ 3560 وانى لأسلم نفسي - عن قصد - للأفكار ، لكنني أقفز من بينها ، حينما أريد .انني طائر القمم ، وليس الفكر الا بعوضة ! فكيف يكون للبعوضة سلطان علىّ ؟وربما أنزل - عن قصد - من الأوج الرفيع ، حتى يلتف حولى من تحطمت سيقانهم .وحينما يعتريني الملال من سفلى الصفات ، أحلق كما تفعل الطيور الصافات “ 1 “ ! وان جناحىّ قد نبتا أيضا من ذاتي ، فأنا لا ألصق حولى جناحين بالغراء . 3565 فهكذا كان لجعفر الطيار جناحان محلقان ! أما جعفر العيار فكان له جناحان كاذبان ! فهذا ( القول ) - عند من لم يتذوقه - ليس الا دعوى ، لكنه - عند سكان السماء - معنى ! ان هذا يكون هراء ودعوى في نظر الغراب ، فالوعاء الخاوي أو الممتلىء يكونان سواء أمام الذباب .فما دامت اللقم تتحول فيك إلى جوهر ، فلا تنكمش وكل على قدر طاقتك .ان شيخا أراد ذات يوم أن يدفع سوء الظن ، فتقيأ في وعاء ، فامتلأ الوعاء بالدر ..................................................................( 1 ) انظر : سورة الملك ، 67 : 19 .“ 371 “ 3570 فالشيخ البصير قد جعل الجور المعقول محسوسا لكي ( يفهم المعترض ) القليل العقل .وإذا ما أصبح الطعام النقى ملوثا في معدتك فضع قفلا على حلقك ثم خبىء المفتاح .أما كل من تحولت فيه اللقم إلى نور جليل ، فليأكل ما أراد فهذا له حلال ! بيان تلك الدعوى التي تكون ذاتها دليل صدقها
لئن كنت صفيا لروحى ، فان قولي الحافل بالمعنى ليس من قبيل الدعوى .فلو قلت لك في منتصف الليل : “ انى أمامك ، فلا تخف من الليل انى قريبك “ . 3575 لكان لكل دعوى من هاتين معنى عندك ، ما دمت تعرف صوت قريبك .فكل من المواجهة والقربى كانت دعوى ، لكن كلا منهما كان لها معناها في الفهم السحن .وقرب الصوت يقوم شاهدا على أن هذا الكلام ينطلق من صديق مجاور لك .ولذة صوت القربى أيضا جاءت شاهداً على صدق ذلك القريب العزيز . “ 372 “ أما الأحمق المجرد من الالهام ، ذلك الذي - من جراء جهله - لا يعرف صوت الغريب من القريب ، 3580 تكون الدعوى عنده مقصورة على قول القائل ، ولهذا فان جهله صار مصدر انكاره .أما بالنسبة للذكى - الذي أشرقت في باطنه الأنوار - فان هذا الصوت ذاته يكون معنى مستقيماً .وكذلك لو تكلم بالعربية رجل عربى اللسان ، ( قائلا ) : “ انني أعرف لغة العرب “ ، فان نطقة العربي ذاته يكون معنى ، مع أن ( قوله ) انه يعرف العربية يكون ( من قبيل ) الدعوى .أو كتب كاتب فوق ورقة : “ انني كاتب ، قارىء ، من أهل الفضل “ ، 3585 فان هذه الكتابة - وان كانت في ذاتها دعوى - تكون أيضاً شاهداً على المعنى .أو يقول صوفي : “ انك قد رأيت بالأمس رجلا يحمل سجادة فوق كتفه ، ولقد كنت أنا هذا الرجل ، فما حدثتك به في حلمك وأنت نائم ، من شرح للنظر ، أصغ اليه ، واجعله قرطاً في أذنك ، واتخذ كلماتي تلك مرشدا لعقلك “ .فأنت - حين تستعيد ذكر هذا المنام - يكون هذا الكلام - بالنسبة إليك - معجزة جديدة ، وذهباً قديماً . 3590 ومع أن هذا يبدو وكأنه دعوى ( من القائل ) ، لكن روح صاحب “ 373 “ الواقعة “ 1 “ تؤكد ثبوتها .فالحكمة إذ كانت ضالة المؤمن ، فإنه يوقن بها حين يسمعها من أي انسان ! وهو - حينما يجد نفسه وحده في مواجهتها - كيف يتطرق اليه الشك ؟ وكيف يخطئ نفسه ؟انك حين تقول لظمآن : “ سارع ، فان في القدح ماء ، ولتبادر بأخذه “ ، فهل يمكن أن يقول الك الظمآن : “ هذا ( مجرد ) دعوى ! فابتعد عنى - أيها المدعى - وفارقني ! 3595 أو قدّم لي شاهداً وحجة على أن هذا من جنس الماء ، وأنه من ذلك الماء المعين ! “ وهب أن أماً قالت لطفها الرضيع : “ هلم الىّ ، انني والدتك هيا أيها الولد ! “ ، فهل يقول الطفل : “ أيتها الأم ، قدمي الحجة حتى أطمئن إلى حليبك ؟ “ فكل أُمَّة في قلبها مذاق من الحق ، يكون وجه النبي وصوته هما المعجزة ! فحينما ينادى النبىّ بدعوته في الظاهر ، تسجد أرواح الأمة في الباطن . 3600 ذلك لأن أذن الروح لا تكون قد سمعت جنس قوله من انسان آخر ، في هذه الدنيا ..................................................................( 1 ) الرجل الذي رأى الحلم .
“ 374 “ فهذه الغربية بتذوقها صوت الغريب تسمع من كلام الحق قوله :”فَإنِّي قَريبٌ““ 1 “ .
كيف سجد يحيى عليه السلام في بطن أمه
للمسيح عليه السلام
قالت أم يحيى - وهي لا تزال حاملا به - لمريم في الخفاء :“ انى أرى بعين اليقين ملكيا في بطنك ، يكون من أولى العزم ، ورسولا نبيا .فأنا - حينما أصبحت قريبة منك - سارع الجنين في بطني إلى السجود . 3605 ان هذا الجنين قد سجد لذلك الجنين ، فوقع الألم في جسدي من جراء سجوده ! “ فقالت مريم : “ انني قد أحسست أيضا بسجود هذا الجنين في بطني “ .إثارة اشكال حول هذه القصة
ان أهل الغفلة يقولون : “ هذه خرافة ، فاضرب عنها صفحا ، فإنها كذب وخطأ .فمريم - أثناء حملها - لم تتصل بانسان قط . وهي لم ترجع قط من خارج المدينة ..................................................................( 1 ) انظر : سورة البقرة ، 2 : 186 . “ 375 “ فهذه المرأة الحلوة المنطق لم تدخل المدينة قبل أن تضع حملها 3610 فلما ولدته حملته على صدرها وأتت به قومها .فأين أبصرتها أم يحيى لتتحدث إليها بتلك الكلمات عما جرى ؟ “ جواب الاشكال
فليعلم ( المعترض ) أن ما هو غائب في الآفاق ، يكون حاضرا لأهل الخاطر ! فأم يحيى تجىء في نظر مريم ، برغم أنها تكون بعيدة عن مرأى بصرها ، فالمرء يستطيع أن يرى الحبيب ، وعيناه مغمضتان ، وذلك إذا ما استطاع أن يكف جسده “ 1 “ عن الحركة . 3615 فإن لم ير الحبيب رؤية الظاهر ولا رؤية الباطن ، فاقتبس من هذه الحكاية معناها ، أيها الضعيف ! ( ولا تكن ) كمن سمع بعض الأقاصيص ، فتمسك بحرفيتها تمسك “ الشين “ بلفظة “ نقش “ .( قائلا ) : “ كيف تكلِّم كليلة هذا بدون لسان ؟ وكيف استمع إلى كلام من دمنة ، وقد كان ذلك عاجزا عن البيان ؟وهب أن كلامنهما كان يفهم لحن الآخر ، فيكف استطاع البشر أن يفهموا هذا وهو ليس بنطق ! وكيف استطاع دمنة أن يكون رسولا بين الأسد والثور ، ويسمع كلا منهما بيانه ؟.................................................................( 1 ) حرفيا : جلده . ومعنى كف الجسد عن الحركة : ان يهدا الانسان ، ويخلد إلى التأمل . “ 376 “ 3620 وكيف صار ذلك الثور النبيل وزيرا للأسد ؟ وكيف صار الفيل وجلا من خيال القمر ؟ان كليلة ودمنة هذا كله افتراء ، والا فكيف وقع الجدال بين الغراب واللقلق ؟يا أخي ! ان القصة مثل المكيال ، والمعنى فيها مثل الحب في المكيال .فالرجل العاقل يأخذ حصاد المعنى ، ولا ينظر إلى المكيال ، وان كان ( وسيلة ) النقل .فاستمع إلى ما يدور بين البلبل والوردة ، ومع أنه ليس هناك كلام صريح ! قول الكلام بلسان الحال وفهم ذلك الكلام
3625 استمع أيضا لما يدور بين الشمعة والفراشة ، واقتبس “ 1 “ معناه ، أيها المليح .فمع أنه ليس هناك قول مسموع ، فهناك سر القول ، فتنبه وحلق نحو القمم ، ولا تنهاو كالبومة في طيرانك ! لقد قال لا عب الشطرنج : “ هذا بيت الرخ “ ، فأجابه ( المتمسك بالحرفية ) : “ ومن أين له هذا البيت ، وكيف امتلكه ؟ “ هل اشترى هذا البيت أم حصل عليه بالإرث ؟ “ فما أسعد ذلك الرجل الذي يسارع إلى المعنى !.................................................................( 1 ) حرفيا : “ واختر . . . “ .“ 377 “ لقد قال النحوي : “ ضرب زيد عمرا “ ، فقال ( الأحمق ) : “ ولماذا أدبه بدون جرم ؟ 3630 ماذا كان جرم عمرو ؟ ان زيدا الفظّ قد ضربه - بدون جرم - كما يُضرب الغلام “ .فأجابه ( النحوي ) : “ ان هذا ( الكلام ) مكيال للمعنى فخذ من المكيال ما به من قمح ، ورد المكيال ! ان زيدا وعمرا ( هنا ) وسيلة لتعلم الاعراب ، ومهما يكن هذا ( القول ) كذبا ، فاتخذه وسيلة إلى الاعراب “ .فقال ( الأحمق ) : “ لا ! انني لست أعرف كيف ضرب زيد عمرا بدون ذنب ولا خطأ “ فانصرف النحوي إلى اللهو - بعد أن يئس - وقال : “ ان عمرا كان قد سرق واوا زائدة ، 3635 وعلم زيد بذلك ، فضرب السارق ، فما دام هذا قد تجاوز الحد ، فقد حق عليه الحد ! “ كيف يلقى كلام الباطل قبولا في قلوب أهل الباطل
فقال ( الأحمق ) : “ هذا هو الصواب ، وقد تقبلته بروحي ! “ ان المعوج يظهر مستقيما في نظر المعوجين ! فلو أنك قلت لأحول ان القمر واحد ، لقال لك : “ بل هناك قمران ، فالشك يحيط بتفرد القمر ! ولو أراد شخص أن يسخر منه لقال له : ان هناك قمرين ، فيصدقه ( الأحمق ) ، فهذا لائق بطبيعته الخسيسة !
“ 378 “ ان الكذب يتجمع حول أهل الكذب ، وقوله تعالى :” الْخَبيثاتُ للْخَبيثينَ ““ 1 “ يلقى ضوءا على ذلك . 3640 وأصحاب القلوب الرحبة لهم أياد رحبة “ 2 “ ، أما من عميت عيونهم فليس لهم الا العثار فوق الصخور . البحث عن تلك الشجرة التي لا يذوق الموت كل من أكل من ثمارها
[ بيان الحكاية ]قال عالم على سبيل الحكاية : “ ان في بلاد الهند شجرة ، كل من أكل من ثمارها أو حملها لا يشيخ ولا يتطرق اليه الموت ! “ وسمع بهذا أحد الملوك من رجل صادق ، فأصبح عاشقا للشجرة وثمارها ! فأرسل في طلبها رسولا عالما من ديوان الأدب إلى بلاد الهند . 3645 ودار رسول الملك هذا حول بلاد الهند سنين ( قضاها ) في البحث والطلب .لقد طوف من مدينة لأخرى بحثا من هذا المطلوب ولم يدع جزيرة ولا جبلا ولا صحراء ! وكلما سأل انسانا سخر منه قائلا : “ من إذ الذي يبحث عن هذه سوى مجنون مكبل بالقيود ؟ “ وكان كثير من الناس يصفعونه ساخرين ! وكثيرون قالوا له :“ يا صاحب الفلاح !...................................................................( 1 ) انظر : سورة النور ، 24 : 26 .( 2 ) يقصد : “ بالأيادي الرحبة “ هنا القدرات الواسعة .“ 379 “ أرجل ذكى صافي الفؤاد مثلك يكون بحثه هكذا خاويا ( من المعنى ) جزافا ؟ “ 3650 وهذا ( اللون ) من المراعاة “ 1 “ كان صفعا آخر ، بل إنه لأشد من الصفع الصريح ! لقد كانوا يمدحونه - بسخرية - قائلين : أيها العظيم ! في مكان كذا توجد شجرة شامخة غليظة ! بل عينوا غابة ذكروا أن بها شجرة خضراء ، عظيمة الطول والعرض غليظة الأغصان ! ان رسول الملك - الذي كان ينقب بجد بالغ “ 2 “ - أخذ يستمع من كل شخص إلى لون من الخبر .ولقد قاضى سنين في السياحة هناك ، وكان الملك يبعث اليه بالأموال . 3655 ولما ازداد عناؤه في تلك الغربة عجز في آخر الأمر عن ادراك الطلب .فلم يظهر قط أي أثر لمقصوده ! ولم ينكشف من هذا المطلب شئ سوى الخبر ! فانقطع بذلك خيط أمله ، وأصبح ملتَمسُه ولا سيبل إلى التماسه في عاقبة الأمر .فعزم على العودة إلى الملك ، ومضى ينثر الدموع وهو مندفع على الطريق ..................................................................( 1 ) الأدب المفتعل .( 2 ) حرفيا : “ ان رسول الملك الذي كان عقد زناره للبحث . . . ““ 380 “ كيف شرح الشيخ سر هذه الشجرة للطالب المقلد
وكان هناك شيخ عالم وقطب كريم ، في ذلك المنزل ( من الطريق ) حيث يئس نديم الملك . 3660 ( فحدث نفسه ) قائلا : “ انني يائس فلأذهب اليه ، ثم أنطلق من عتبته إلى الطريق ، حتى يكون دعاؤه رفيقا على الطريق ، ما دمتُ قد أصحبت يائسا من مطلوبى “ .شو تقدم نحو الشيخ بعين مليئة بالدمع . لقد كان يمطر الدموع كالسحاب .وقال : “ أيها الشيخ ! هذا وقت الرحمة والرقة ! انني يائس وهذه الساعة هي أوان اللطف ! “ فقال له : “ فخبرني ، من أي أمر قنوطك ؟ وما هو مطلوبك ؟ وإلى أي شئ وجهتك ؟ “ 3665 فقال : “ لقد اختارني الملك ، لأبحث عن شجرة وارفة الأفنان .انها شجرة نادرة في كل الجهات ، فاكهتها هي سر ماء الحياة ! ولقد بحثت عنها سنين فلم أجد لها أثرا ، ( ولم أظفر ) الا باستهزاء العابثين وسخرهم ! “ فضحك الشيخ وقال : “ يا سليم القلب ! ان هذا هي شجرة العلم ( المنطوية ) في العليم ! “ انها سامقة عظيمة منبسطة وارفة ! انها ماء الحياة من البحر المحيط ! “ 381 “ 3670 ولقد قصدت إليها بالصورة ، فضلت السبيل ! انك لم تجدها لأنك تركت المعنى ! وهي حينا تدعى “ شجرة “ ، وحينا “ شمسا “ ، وحينا “ بحرا “ ، وحينا “ سحابا “ ! انها واحدة “ 1 “ انبعثت منها لاف الآثار ! ان أقل آثارها حياة الخلود ! وان لها ألف أثر ، مع أنها واحدة انها واحدة جديرة بما لا يحصى من الأسماء ! فهذا شخص واحد يكون لك أبا ، وهو بالنسبة لشخص آخر يكون ابنا . 3675 وهو - بالقياس إلى شخص ثالث - قاهر وعدو ، وبالقياس إلى سواه لطيف طيب ! فهذا الآدمي الواحد تكون له آلاف الأسماء ، والمدرك لكل أوصافه يكون عاجزا عن وصفه ! فكل من طلب الاسم - وان كان من الثقات - أصبح مثلك يائسا مشتت ( الفكر ) .فلماذا تشبثت أنت باسم هذه الشجرة ، حتى بقيت مرّ الأماني ، تعس الطالع ! دعك من الاسم وانظر إلى الصفات ، حتى تهديك الصفات إلى سبيل الذات !.................................................................( 1 ) شجرة العلم .“ 382 “ 3680 ان اختلاف الخلق يقع من جراء الأسماء ، فإذا ما تقدموا نحو المعنى ساد الوئام ..