بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين
اللهم يا من ( ضلت فيك الصفات وحارت فيك النعوت) اجعل الانسان من أهل هدايتك
أحسنت كثيرا ايها الأنسان الحبيب, وأصاب اخي الحبيب الدرويش في كل ما ذكر.
وأقول: ان للضلالة معان في اللغة, لعلها ترجع كلها الى معنى واحد وهو الغياب لأن المتتبع لموارد استعمالها يجد ان بينها جامع الغيبوبة والإختفاء، فإن الخارج عن الطريق المستقيم اختفى وغاب عنه، فيحتاج إلى الهداية، أي إلى أن يظهر على الطريق، والضالة وهي البهيمة الضائعة وهي المختفية والغائبة، والناسي هو الغائب عن الذكر, ويستخدم لفظ الضلالة احيانا في معناه الاصلي وهو الغياب والخفاء كما في قوله (أئذا ضللنا في الأرض) أي أخفينا, فأضله معناه دفنه وغيبه, ومنه معنى الضياع كما ورد أنه صلى الله عليه وآله ضل في شعاب مكة وهو صغير، فرآه أبو جهل ، ورده إلى جده عبد المطلب، ويقال ضل اللبن في الماء، خفي وغاب, وضل الناسي: غاب عنه حفظ الشئ.
وما فصلوه في معنى الضلالة من المعاني بعضها يناسب تأويل الآية, وبعضها له موطنه الخاص, وقد ذكر اهل الله بعضا من معاني الآية مشيرين الى مراتب للنبي الاعظم صلى الله عليه واله وسلم التي تصعب الاشارة اليها, ولكن المهم الذي لابد من الاشارة اليه هنا ليس ما تشير له الاية الكريمة من تلك المراتب فحسب, بل ذلك الربط الذي ينظم تلك المراتب من أولها الى اخرها به صلوات الله وسلامه عليه عبر الوجوه المختلفة للآية, ويا له من ربط يشير الى حقيقة ما اصطلح عليه الاكابر من التفرقة بين قولهم نفسه وقولهم بنفسه وقولهم لنفسه.
فالهوية الغيبية المسقطة لكل اعتبار لا يمكن ان نشير لها باشارة كانت ما كانت, وبتعقلها لنفسها لم يضف اعتبار لتعقل الغير بوجه من الوجوه وانما هو تعقله نفسه حسب, فاذا ادرك نفسه التي ذكرنا انه تعقلها في الاعتبار الاول بتعقل ثان يدرك به تعين ذاته في تعقله, فانه لن يدرك هناك الا الشئ الممحو, فانه ذات الممحو, فما تعقل نفسه الا به.
فهذا الاعتبار رغم انه مثل الاعتبار الاول الذي ذكرناه لا اسم فيه ولا رسم ولا مرايا ولا عكس ولا امتياز بوجه من الوجوه, ولكن لانه ادرك فيه ذاته ادراكا ذاتيا و ليس معه شئ, صار لنا ان نشير الى ذلك الاعتبار بانه ماح للشيئية, فنقول كان الله ولا شئ معه, ونقول وحدة بسيطة حقيقة, فنفينا الشيئية لأنها لا تقبل الامتياز واثبتنا المعية الذاتية لها, وقد أشار الشيخ ابن عربي الى ذلك في فتوحاته, وهو أعلى ما يمكن ان يقال في قوله تعالى وهو معكم اينما كنتم, وهذا الوجه يختص به الاولياء الذاتيين, فلا يظهر بلسان الانباء, لان تلك المعية لا تقال, فالانباء لا يتعقل هناك.
وليس لنا ان نشير الى الاعتبار الاول بالغياب كي ينطبق عليه الضلال لانه لا يتعقل فيه وصف ثبوتي او سلبي كان ما كان مما يعقله غيره, فلا موضوع لغياب الغير وضلالهم, ولكن يبقى الضلال هنا على معناه من الغياب الاصلي والابهام التام، ومنه الضياع لذا قيل الضالة للبهيمة الضائعة, ومن وجدها فانه يخرجها من الضياع ويردها الى اهلها, وهو هدايتها, فهذا حظ عبده محمد منه, وجده ضالا فهدى, ووجده يتيما فآواه اليه.
ثم تليه مرتبة ظهوره بان يعلم نفسه بنفسه وظهوره ليس الا ظهور الشيئية المشار اليها والتي كانت مبطونة هناك وغير ممتازة اصلا, او قل كانت مختفية هناك, وهو من معاني الضلال, (أئذا ضللنا في الأرض) أي اخفينا ودفنا والدفن انما هو في بطن الارض, فأضله معناه دفنه وغيبه, وهذا يدلك على ان الواحد في الحقيقة هو الاحد, اذا جردته من الاعتبار, فان الاحد ذات الواحد, فالذي ظهر هو عين ما كان مستجنا ولكن قد امتاز هنا بالامتياز النسبي, فله صلى الله عليه واله وجه الى الذات ليس فيه اشارة وفي فراغ تام اشار له بقوله لي وقت لا يسعني الا ربي, وله وجه به كان الامتياز والظهور, فارتسم فيه ما كان ضالا في نفسه أي مبطونا مغيبا, حيث يعلم نفسه بنفسه علما محضا امتاز عن الذات امتيازا نسبيا لا حقيقيا, وحقيقة غير مفرودة عن كل ما يمكن ان ينتشأ عنها من لوازم الاسماء والصفات, وأشار صلى الله عليه وآله الى نفسه في ذلك المقام بقوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين, فليس ثم ضلاله, لانه يعلم بانباء كل شئ بتفصيله من نفسه قبل ان تختمر طينة آدم, فآدم في هذا المقام في عماء, فيه صورة القرآن, ولكن مجملة, وقد قلنا ان ما ظهر فانما هو ظهورذاته بالامتياز فترتسم فيها الاسماء والصفات بان تتعلم في آدم كعلامات من دون ان تتفصل, وعلم آدم الاسماء كلها مع لوازمها في ذلك المقام , فهو صورة جامعة, واليه الاشارة باحاديث خلقه على صورة الله او على صورة الرحمن, ويناسب آدم هنا من معاني الضلال الغيب, يقال ضل اللبن في الماء، خفي وغاب, فهو مغيب بين الطين والماء في عماء, والهداية من الضلال هنا تكون أيضا بمحمد صلى الله عليه آله في سرايته بمقاماته وآدم أول مقام منها وهكذا في مقام بعد مقام في عروجه وتدليه, ولكن يمكن الخطاب لمحمد صلى الله عليه وآله بهذا الخطاب, فانه في المظهر الآدمي هو العماء, وقد خاطبه الله بذلك في قوله "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " وقوله : " وإن كنت من قبله لمن الغافلين".
وفي القاء العماء في القلم هو القلم المشار اليه في الاحاديث الكثيرة بانه أول ما خلق الله العقل او القلم او الماء او نور النبي كما في حديث جابر عن أول ما خلق الله (نور نبيك يا جابر) كل بحسب خصوصيته والمعنى واحد, و كل هذه انما هي تنزلات محمد صلى الله عليه واله من العلم, وهكذا هي مشاورة القلم مع النفس ليظهر ما كان وما يكون الى قيام الساعة, فانظر الى معنى الضلال, وتأمل كيف ارتبط أول الموضوع بآخره.
وقد ورد نفي الضلالة عن محمد صلى الله عليه واله في قوله تعالى: ( ما ضل صاحبكم وما غوى), وما جعل النفي مطلقا, لمناسبة الجمعية الانسانية فلابد من الضلال, والا لم يكن جامعا.
ومعنى الضلال المناسب هنا هو النسيان كما في قوله تعالى : " أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى", فان النسيان يكون للنبي للتشريع واظهار السنن, فكل ارتسام في هذا الوجود انما ظهر عن ذلك النسيان, يقول انا لا انسى ولكن انسى لأشرع, فانه ناظرفي العلم الالهي والاشياء حاضرة في ذاته, بغير إضافة ولا مقابلة, والكمال في ان يظهر لنفسه في كل شئ, فيقيم ذكر الله مع الانفاس, وهو الذكر المحدث من الرحمن الذي وصفه الله بالكثرة والذي هو جلاء القلوب, تتجلى فيه كل التقلبات والشؤون, ذكرا في السراء والضراء, فيعطي كل خلق ما له من الحق لانه ظهوره, ويعطي لكل حق ما له من الخلق, فيوافق العلم الحكم, ولذا سمي الذكر بالذكر الحكيم, وهو أمر عجيب لمن يلتفت اليه , فان النبي جليس الحق وكل ما يذكره فهو انما يحدث عن جليسه فانه على بينة ويتلوه شاهد منه وهو يذكر الله على كل أحيانه, فله ذكر لله في نفسه وله ذكر في العلانية, فله معية الاختصاص وله الذكر, فهو ذو عينين, لان العين الواحدة التي تقيم الذكر لابد ان تغيب عن ذاتها بالمذكور, والعين الاخرى التي فيذاتها تغيب كل مذكور, واما هو صلوات الله عليه, فلا يغيب ولا يغيب, فتذكر عيناه احداهما الاخرى. فتأمل ما ابدع قوله تعالى في النسيان : " أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى", ولكن هذا النسيان لمحمد صلى الله عليه واله هو عين هداية الأشياء المشار اليه بقوله تعالى: "اعطى كل شئ خلقه ثم هدى", فمعنى الآية هنا إنا وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك, أي لم تكن الأشياء مهتدية الى معرفة انفسها وظهورها , فكانت نبوتك اظهارتلك الحقائق, فوجد كل شئ هداه بنبوتك عن الله, وقد اخبر الله عن ذلك بقوله: "انما انت منذر ولكل قوم هاد" ومثله قوله تعالى: " قل ان ضللت فانما أضل على نفسي", فجاء بالحصرلانه لا يضل في غير وانما يقيم الضلال والأمثال في نفسه , والله يضرب الأمثال فيضل بها كثيرا ويهدي بها كثيرا.
ولا ضير يا حبيبي الانسان ان ناخذ ممن اعتقل في الطبيعه فاننا ناخذ عنهم ولا يكون اخذنا الا من أنفسنا, فنحن نأكل من كل الجهات, ولا نتبعض في الجهات مع تكثرها وتنوعها, و روي أن عيسى(عليه السلام) مر والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب، فقال عيسى(عليه السلام): ما أشد بياض أسنانه.
اعود من جديد لاشكر الإنسان على موضوعه الرائع.