منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:22 pm

المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ ابن العربي مع شرح ست العجم بنت النفيس البغدادية

المشهد الثاني “ 1 “ مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار “ 2 “ 
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهدني الحق بمشهد نور الأخذ ، وطلوع نجم الإقرار ، 
وقال لي : الأخذ عين الترك ، وليس كل متروك مأخوذ . 
ثم قال لي : تجدني ولا تأخذني ، وآخذك ولا أجدك . 
ثم قال لي : أجدك ولا آخذك . 
ثم قال لي : إنما كان الأخذ من ورائك ، ولو كان من أمامك ما ضل أحد 
ثم قال لي : ظهرت في الأخذ ، وخفيت في الترك . 
ثم قال لي : الأخذ ثلاثة ، وكل عدد يفترق فلا أخذ . 
ثم قال لي : نفسي أخذت . 
ثم قال لي : انظر الجماد وخذ تسبيحه ، فذلك جوابهم ببلى “ 3 “ . 
ثم قال لي : إن حجبتك بالأخذ تعذبت عذاب الآباد في النعيم المقيم .
..........................................................................................
( 1 ) في النسخة ( ط ) : ( الفصل الثاني ) وأيضا غير موجودة بسم اللّه الرحمن الرحيم . 
( 2 ) هذه الفقرة من النسخة ( ط ) . 
( 3 ) انظر الآية رقم ( 172 ) من سورة الأعراف . 
والمقصود جواب الإنسان لا جواب الجماد ، لأن المعنى للمخاطب . فاللّه سبحانه وتعالى لم يخاطب إلّا الإنسان أما الجماد وتسبيحه ففي قوله تعالى :ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ( 11 ) آية رقم ( 11 ) من سورة فصّلت . أما مخاطبة الإنسان ففي الآية المشار إليها أول الكلام ونصّها :وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ( 172 ) .

“ 45 “
 
ثم قال لي : ما أخذ إلّا من أفلت ، وما أفلت إلّا مملوك ، وما ملك إلا مقهور ، وما قهر إلا محصور ، وما حصر إلا محدث ، وما حدث إلا عدم . 
ثم قال لي : أخذت المفترق فجمعته ، وأخذته من الجمع فجمعته ، ثم فرقته ثم جمعته ، ثم فرقته ، ثم جمعته ، ثم لا تفريق ولا جمع . 
ثم أشهدني ما فوق الأخذ ، فرأيت اليد الإلهية “ 1 “ ، ثم أرسل البحر الأخضر بيني وبينها ، فغرقت فيه فرأيت لوحا ، فركبت عليه فنجوت ، ولولاه لهلكت . 
ثم برزت اليد ، فإذا هي ساحل لذلك البحر . فالمراكب تجري فيه حتى تنتهي للساحل ، فيبرزها الساحل ويرمي بها في القفر ، ويخرجون أصحاب المراكب ، معهم در ، وجوهر ، ومرجان . فإذا حصل في البر عادت أحجارا . 
فقلت له : كيف يبقى الدّرّ درّا ، والجوهر جوهرا ، والمرجان مرجانا ؟ 
قال : إذا خرجت من البحر ، فأخرج معك من مائه ، فما بقي الماء بقي الدر ، والجوهر ، والمرجان على حاله . فإن يبس الماء عادت أحجارا . 
وفي سورة الأنبياء أوضحت سرها . 
فأخرجت معي من الماء ، فلما وصلت القفر رأيت ، في وسط القفر ، روضة خضراء . فقيل لي : ادخلها . 
فدخلت ، فرأيت أزهارها ، وأنوارها ، وطيورها ، وثمارها . فمددت يدي لآكل من ثمرها ، فيبس الماء واستحالت الجواهر . 
فإذا النداء : ألق ما بيدك من ثمرها . فألقيت بها فنبع الماء ، وعادت الجواهر إلى حالها . 
ثم قال لي : سر إلى آخر الروضة . فسرت ، فوجدت صحراء . 
فقال : اسلكها . فسلكتها ، فرأيت بها عقارب وحيات وأفاعي وأسودا . فكلما نالني منها ضرر نضحت الموضع بالماء ، فبرئ . ثم فتح لي في آخر الصحراء عن جنات ، فدخلتها فيبس الماء ، فخرجت منها فنبع الماء . ثم دخلت ظلمة ، فقيل لي : ألق
...................................................................
( 1 ) في النسخة ( ط ) : ( فرأيت اليد الإلهية ) .

“ 46 “


ثوبك وارم الماء والأحجار ، فقد وجدت فألقيت كل شيء كان عندي ، وما رأيت حيث ألقيت وبقيت .
فقال لي : الآن أنت أنت .
ثم قال لي : ترى ما أحسن هذه الظلمة ، وما أشد ضوؤها ، وما أسطع نورها . هذه الظلمة مطلع الأنوار ، ومنبع عيون الأسرار ، وعنصر المواد . من هذه الظلمة أوجدتك وإليها أردّك ، ولست أخرجك منها .
ثم فتح لي قدر سم الخياط ، فخرجت عليه ، فرأيت بهاء ونورا ساطعا .
فقال لي : رأيت ما أشد ظلام هذا النور . أخرج يدك ، فلن تراها “ 1 “ .
فأخرجت يدي ، فما رأيتها . فقال : هذا نوري ، لا يرى فيه غيري نفسه .
ثم قال لي : ارجع إلى ظلمتك ، فإنك مبعود عن أبناء جنسك .
ثم قال لي : ليس في الظلمة غيرك ، ولا أوجدت منها سواك ، منها أخذتك .
ثم قال لي : كل موجود دونك خلقته من نور ، إلا أنت .
فإنك مخلوق من الظلمة .
ثم قال لي :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ” 2 “ لو كانوا في النور لقدّروه . أنت عبدي حقا .
ثم قال لي : إن أردت أن تراني ، فارفع الستر عن وجهي .
................................................
( 1 ) انظر الآية رقم ( 40 ) من سورة النور .
ونصّها :أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ( 40 ) .
( 2 ) الآية رقم ( 91 ) من سورة الأنعام .
.

مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية Word
مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية PDF
مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية TXT
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية Word
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية PDF
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية TXT

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس    المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:22 pm

المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس 

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

“ 99 “
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
شرح المشهد الثاني
( ص ) [ ( أشهدني الحق بمشهد نور الأخذ ، وطلوع نجم الإقرار ) ] .
( ش ) أقول : ( أشهدني ) معناه أيقظ لي الدراكة بزيادة اطلاع إلى ما يلي الباطن فشهدته فيه ، 
وقوله : ( بمشهد نور الأخذ طلوع نجم الإقرار ) أيقظني بالزيادة المذكورة في محل نور الأخذ لأن نور الأخذ ، من شدة صفائه ولطافته يدرك كأنه ظلماني وصورة الأخذ وهو شهود المحو ، فكأن هذه الحضرة التي جرى فيها هذا الخطاب هي حضرة فانية منتزعة من حضرة الهوية ، ولهذا قال : ( بمشهد نور الأخذ ) لأن الهوية محل الأخذ ، وصورة الأخذ الفناء لكن الفناء الحقيقي ليس فيه خطاب ، فلما عبر عنه بالمطالع عرفنا أنها حضرة منتزعة من حضرة الهوية ، لأن الحضرة محل النطق وهذه حضرة قد شهد فيها كيفية الأخذ ، فلولا أنها حضرة مستقلة يجب فيها الشهود المعين لما قال : محل طالع لأن مطلق الأخذ لا يعرى إلى محل لأنه عار عن التمايز ، ولا يسمى طالعا إذ هو مجموع الطوالع المعينة لأنها طوالع تمكين وبقاء ، وذلك طالع محو وفناء .
فقوله : ( بمشهد نور ) يعرفنا أن هذا الطالع في هذا الشهود مستقل بحضرة منتزعة من الهوية ، ولهذا قال : ( بمشهد نور الأخذ ) لأن الأخذ من صفات الهوية إذ الأخذ فناء وهي لا تأخذ إلا فانيا ، فكأنه قال : أشهدني محل فنائي بطالع نجم الإقرار ، وطلوع نجم الإقرار يريد به أن الحضرة التي كان فيها هذا الشهود طالعها منتزعة من اطلاعه عليها لأن كل من يشهد فناءه في المرآة الحقيقية يقر بذلك الفناء في شهود ورد عليه خصوصا هذه الحضرة ، فإنها حضرة منتزعة من الهوية ، فيجب فيها الإقرار اضطرارا ، وكون شهودها مقرور بطالع الإقرار قال بمحل الأخذ ، وطالع لائق بهذا المحل الذي يعزى إلى الإقرار ، وإن كان قد سبق في المشهد المتقدم .
وقوله : ( لو اطلعت على الأخذ ) أراد في الشهود الثاني إنجاز ذلك الوعد ، فنطق أولا بشهود الأخذ مقرونا بطالع نجم الإقرار ، لأن الإقرار واجب في هذا المحل المذكور .
( ص ) [ قوله : ( وقال لي : الأخذ عين الترك ، وليس كل متروك مأخوذا ) ] .
( ش ) أقول : حيث قرن الشهود بطالع الإقرار أراد المشهود تعالى يمكن اليقين في عدم العدم لأنه يلحظ من صفات الشاهد أنه قد توهم أن الأخذ عدم في حال قوله : ( لو

“ 100 “


اطلعت على الأخذ ) في المشهد السابق ، فينزل هذا الشهود ليمكن الشاهد من تغير عدم العدم الموهوم من لفظ الأخذ ، فلهذا قال له : الأخذ عين الترك ، ويعرفنا أيضا أنه لا يتحول الشاهد بزيغ عن محله في حال الفناء ، لكنها صفات تتغير عليه من ظلمة إلى نور وكدر إلى صفاء .
فقوله : ( الأخذ عين الترك ) معناه أن هذا الفناء المتوهم منه العدم هو عين البقاء لأن الفناء من التجزؤ هو عين البقاء في الأحدية التي هي اسم الهوية ، فالأخذ من حين التجزؤ إلى إطلاق الهوية عين البقاء الحقيقي ، فمن هو باق في التجزؤ لا يظن أنه باق بقاء حقا لأن البقاء في الحقيقة هو فناء هذا التجزؤ في الهوية ، فإذا اتصف صاحب التجزؤ بفنائه عنه حصل له البقاء الحقيقي ، ومن ها هنا يعطى سر الحياة ، فالحاصل من قوله : الأخذ عين الترك أنه ليس متروكا من لم يوجد ، فإن الأخذ فناء في الهوية ومتى فني في الهوية اتصف بأوصاف البقاء إذ الهوية للّه .
وقوله : ( وليس كل متروك مأخوذا ) معناه أن المتصف بالتجزؤ لا يظن أنه باق إذ الأخذ عين البقاء ، فمن هو متجزئ لا يطلق عليه البقاء ، وهذا ظاهر وأيضا فإنه يعرف أنه من أخذ هذا العلم تقليدا وتيقن أنه متجزىء ، فليس هو فان فلا بقاء له وهذا يعرف من عدم الأخذ بقصور العبارة عن كيفية الأخذ ومثال الشهود ، فهذا ليس مأخوذا كأخذ المتصف قادر على العبارة ، فهذا مأخوذ ، وهو متروك حقيقة والقاصر عن العبارة ليس مأخوذ ، فهو عار عن الترك حقيقة .
وأقول : إن قوله في الترك الأول يباين قوله في الترك الثاني ، لأن مراده في الأول أنه البقاء ، فالمأخوذ هو الباقي ومراده بالترك الثاني هو ترك من لم يؤخذ ولا يطلق عليه البقاء ، فالحاصل منه أنه ليس كل متروك باقيا .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : تجدني ولا تأخذني وآخذك ولا أجدك ثم قال لي لا آخذك ولا أجدك ، ثم قال لي : أجدك ولا آخذك ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( تجدني ولا تأخذني ) هو أن الهوية تستهلك حقيقة الشاهد والشاهد لا يعني حقيقة الهوية ، فإذا أفنيت الهوية حقيقة جزء تجد فناءه ، فلا يجد له حقيقة ليطلق عليه الأخذ ، وهذا التنزل من أشرف الموارد لأنه ينفي حقائق المبطلين من أهل التناسخ ، والقائلين بالرجعة والقائلين بالعدم ، أما نفيه للتناسخ ، فإنه لا داخل يدخل على الحقيقة فيغير حقائق الأشياء المدركة حقيقة واحدة لا تمايز فيها ، فلا يغير لها من جهة إلى

“ 101 “


جهة ، وإن كان فيها تمايز على رأيهم الفاسد فهو بطور علم هذا الوجد ، وأظلاله مدركة له ، فلا يغير على هذا الأظلال إذ الظل والمظل واحد على زعمهم السخيف ، وأما عندنا فلا ظل ولا مظل ، وأما نفيه للرجعة فلأنها إذا ثبتت الأحدية عندنا ، فالواحد الأول له ولا آخر ولا مبتدأ ولا رجعة له ، إذ لا أولية ينشأ عنها ومع ثبوت الكثرة على زعمهم ، فنقول : إنها أظلال العلم والتطور كما ذكرناه ، وهذا العلم لا يزيد في حقيقة العالم به ، إذ لا جسم له ومن لم يكن له جسم فلا تغير له ولا تحول ولا معنى للرجعة إلا تغير متقهقر ولا حقيقة له إلا من حيث اسمه ، وأما نفيه للعدم فظاهر إذ لا عدم .
فإن قيل : إننا نتعقل عدم وجودنا في زمان ، فنقول : إن المفهوم من هذا الكلام هو عدم اسم وجودك ، وإذ وجدت فانتفى عدم وجودك ، فإن قلت : ارجع إلى ما كنت عليه فهو الرجعة المذكورة ، وقد أبطلناه فلا رجعة وكل ما يلزم من قوله : ( تجدني ولا تأخذني وآخذك ولا أجدك ) ، وقوله : ( آخذك ولا أجدك ) معناه أن الهوية إذا استهلكت حقيقة هذا الجزء فيطلق عليه الأخذ من حيث الجزئية ولا يجده من حيث الفناء ، فان فهو فان فكيف يؤخذ ؟ فنقول : إن هذا المؤدي لنظركم الفاسد يقصد إثباته لئلا يحرمكم الدنيا والآخرة ، فإن الدنيا هي التجزؤ والآخرة فنائه ، ولا معنى للآخرة إلا البقاء ، قال اللّه تعالى : ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [ النحل : 96 ] ، وقال تعالى : وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [ العنكبوت : 64 ] .
فقوله : ( آخذك ولا أجدك ) فالأخذ لا يكون إلا في حال التمايز ، فإذا انتفى هذا التمايز فلا يوجد هذا المأخوذ ، وأيضا ، فإن الآخذ اللّه والمأخوذ هم العباد والرب لا يصير عبدا لكن العبد يفنى في أوصاف الربوبية ، وهذا معنى قوله : ( تجدني ولا تأخذني ) معناه أخذ الرب للعبد ( وآخذك ولا أجدك ) معناه أن الأخذ لائق بالعبد ، فإذا فني في الهوية فلا تجده .
وقوله : ( ثم قال لي : لا آخذك ولا أجدك ) أقول : معنى هذا التنزل يؤيد ما ذكرناه من نفي الرجعة والعدم ، فإن الموجود واحد صمد ، فبأحديته لا ثاني له وبصمدانيته لا تمايز فيه ، فإذا برء هذا الواحد عن التمييز لم يبق للكثرة حقيقة فلا آتيا ولا راجعا ، وإن أثبتنا الكثرة في اختلال نظرهم ، فقد قلنا : إنها أظلال العلم يتطور اللّه في علمه كيف شاء ويدرك التطور لنفسه ، فالواحد صمد على حاله في حالتي نظرنا ونظرهم ( فلا أخذ ) ولا وجود ، وإن لم تتحقق الكثرة ، فلا يصدق عليها الأخذ .

“ 102 “


فقوله : ( لا آخذك ) نفي الكثرة ( ولا أجدك ) نفي الأخذ .
وقوله : ( ثم قال لي : أجدك ولا آخذك ) أقول : معناه يقين الجاهل بجهله ، فإن الجاهل متيقن في نفسه بالجزئية وجزئيته عندنا فانية ، ويستمد هذا الوجود من عند اللّه فكما لا تجد اللّه للجاهل حقيقة إلا فانية ، فوجودنا له يستمد من هذا الوجود الإلهي ، فيوجد فناؤه ولا يوجد حقيقته ، فإن قيل : إنه لا يوجد فناء إلا بعد حقيقة ، فنقول له : هذا عين تحقيق جهله عليه إذ كمال الواحد يقتضي وجود عالم وجاهل ويضطر إلى تيقن الجاهل بجهله ، فنقول له : فناؤك وحقيقتك وليس لهذا القول حقيقة ، لكنه تحقيق جهله عليه فقط .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : إنما كان الأخذ من ورائك ، ولو كان من أمامك ما ضل أحد ، ثم قال لي : ظهرت في الأخذ وخفيت في الترك ) ] .
( ش ) أقول : إن هذا التنزل موهم في ظاهره بالرجعة لأن الرجعة عود إلى الأولية ، وليس يحمل هذا التنزل على ما يتوهم منه إذ تيقنا الرجعة قبل هذا ، ونعود هذا إلى زيادة البيان ، إذ هو مكان لائق بذلك والعلة في وروده على هذا النسق ، لأنه ختم له المشهد السابق بإعلام الأخذ ، وقيل له : لو اطلعت عليه ، فتنزل هذا بعد وقوعه على صورة الأخذ وكيفيته ، وأريد له في هذا الخطاب الوقوف على كمية الأخذ ، فقيل له : إنما كان الأخذ من ورائك ، فورد في ظاهره موهما لما قلناه حيث ذكر الأخذ من ورائه ، فنقول : إن مراده بهذا الأخذ الفناء وهو المحو الذي يعبر عنه ، فوجود شخصية هذا الشاهد لم تتزيد الذات على ما كانت ولا شيء ، وبفنائه لم يزد إطلاقها وهو الآن على ما عليه كان ، فإذا وجدت عليه صورة شخصية في رأي الناظرين يكون مظهرا كما قررناه أو صفة أو شأنا ، أو تطورا في العلم ، فيدرك ظلمه ولنا في هذا مذاهب فيريد الفاعل اطلاع هذه الصورة على حقيقة ذاته ، وهذا الاطلاع لا يكون إلا بفناء الصورة المذكورة ، وصورة هذا الفناء التحاق هذا الفاني بالفاعل ، فيجب الأخذ كما قرره عند هذه الإرادة ، فيجذب الفاعل هذه الصورة من ورائها ، لأن مبتدأ إنشاءها من الأولية والمظاهر بعضها عن بعض ، فالسابق إلينا منها أمام ، والمتأخر عنها وراء إلى جهة الأولية ، فمن لم يوجد من المظاهر بالنسبة إلينا هو في العلم الموصوف بالأولية ، ومن ظهر سميناه إماما بالنسبة إلى من لم يظهر ، والمراد من هذا الشخص كما قررنا التحاقه بالهوية والهوية من ورائنا بالنسبة إلى ظهورنا لأننا قلنا : إن من لم يظهر ، فهو في العلم الموصوف بالأولية ، والأولية وراءها كما تقرر ، فوجب أن يكون الأخذ المراد للالتحاق بالهوية إلى خلاف ، لأن الأولية وصف للهوية ، والهوية بالنسبة إلى ظهورنا وراء ، فوجب أن يكون الأخذ من ورائنا أعني الأخذ الموهم للرجعة ، وأما عندنا فالأخذ الفناء ، فنحن مشتركون في اسمه لكننا نعلم حقيقته وهم لا يشعرون ، فيتوهمون أنه

“ 103 “


أخذ عدمي وإذ لا شيء فلا عدم وإن أثبتنا شهودهم الفاسد ، فنقول : إنها أظلال علمية كما قررناه ولا حقيقة لها فهذا مبالغة في مرادهم وليس مرادنا بالأخذ أخذهم الذين يورون عنه بالرجعة ، وإنما مرادنا فناء ذاتي ، فحين هذا الفناء يتصف الفاني بالبقاء الأبدي ، وصورة هذا الفناء أخذ والتحاق بالذات السابقة ، والذات بالنسبة إلى ظهورنا كما قلنا وراء ، فكأنه قال له : صورة الأخذ الذي هو الفناء من ورائك ، لأنني سابق متقدم عليك وبالنسبة إلى ظهورك وراءك ، فلو علم أحد أنه لا آخذ ولا مأخوذ ، لكن قدم وبقاء لما ضل لكنهم يتوهمون أن الأخذ إلى خلاف رجعة والرجعة عدم والتحاق كأين بما لم يكن فلو علموا أنه رجعة ولا أخذ عدمي ولا يؤخذ لكنه على ما عليه كان ، فلا أمام ولا وراء لكن مثال هذا الأخذ الصورة المذكورة التي رسمناها في كتاب الختم فياضة ، آخذة منها ، وعليها لا يدخل عليها غريب ، فيعلم من هذا المثال أنه لا يتزيد اللّه تعالى بوجود الخلق لكنه يظهر لنفسه ويبطن فيها لكنه قد أدرك الوجود ولم يدرك العدم فحصل الشك ، والشك عين الضلال ، فلو علموا أنه الظاهر وأنه المظهر به لما ضلوا ، لكنهم تيقنوا ظهورا ، وعلموا أنه فعل فاعل سابق على وجود وهم وتيقنوا أن الوجود من ورائهم للسبق عليهم لا من أمامهم ، فاعتقدوا أن الأخذ من الوراء وليس الأخذ من الأمام ، وهذا مقتضى الحصر وهو العلم بما سبق وعدم العلم بما سبق وعدم العلم بما سيكون وباللّه لو انطلق هؤلاء لرأوا الأخذ وراء ، وأماما فمراده بقوله : ( ولو كان من أمامك ما ضل أحد ) يريد بهذا الحكم اليقين كأنه قال : لو كان لهم يقين بالأخذ من أمامك لما ضلوا ولا معنى للضلال إلا الاستقلال بجهة دون جهة .
وقوله : ( ثم قال لي : ظهرت في الأخذ وخفيت في الترك ) .
أقول : معنى قوله : ( ظهرت في الأخذ ) يريد أنه ما دام الشخص في حيز التجزؤ لا يدرك الجمع ، والجمع صفة الهوية ، فإذا أخذ هذا الشخص وصورة الأخذ الفناء كما قررناه فيظهر اللّه له كما يظهر هو أيضا للّه تعالى ، لأن ظهور الفاني يباين ظهور المقيد وظهوره في الأخذ الاطلاع على حقيقته إذ هي محل الظهور ، وهذه الحقيقة اسم للذات بفناء المظاهر والشؤون ، ولهذا كان المأخوذ ينطلق عليه الفناء إذ يلتحق بالذات المسماة بهذه الحقيقة ، وحال هذا الظهور هو الأخذ بلا زمان ، فكأنه قال : ظهرت لك حين أخذك المعبر عنه بالفناء وخفيت للمتجزئين العارين عن الأخذ .
وقوله : ( خفيت في الترك ) ، يعرّفنا أنه وصل إلى المرتبة الأولى من مراتب الكشف ، وهي المعبر عنها بالصوري لم يكن ظهر اللّه له من حيث حقيقته ، لكنه ظهر له في الصورة التي خلق آدم عليها ، فمادام يعبر عنها بالصورة ، فهي مختصرة من الجمع الظاهر فهي

“ 104 “


صورة اللّه الجامعة فهذا غير مأخوذ فلا يظن أن ظهور اللّه تعالى صورة يبدأ فيها بالأخذ الصورة الحقيقية ، فإنها ليست كذلك ، فإن صورة الأخذ هي مجموع الحقيقة الصورية ، فإذا عاد الكامل بعد الكمال شهد الصوري ، فليست هي الصورة التي شهدها أولا عند مبتدأ الكشف ، وإنما هي صورة جمع الجمع مختصرة من الحقيقة الوافية الخافية اللطيفة والصورة الأولى مختصرة من الحقيقة الظاهرة المدركة على الجاهل ، كأنه قال : حين أخذتك ظهرت لك ، وما دام المقيدون غير مأخوذين فلا ظهور لي عندهم .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : الأخذ ثلاثة وكل عدد يفترق فلا أخذ ، ثم قال لي :
نفسي أخذت ) ] .

( ش ) أقول : مراده بهذا التنزل المقسوم إلى ثلاثة أقسام صورة السلوك إلى الكمال ، فإنها ثلاث مراتب كل منها مباين أخرى في الاطلاع وصورة الخلع واحدة فليس تنوع حقائق الخلع هذا ، وإنما هو تطور المراتب ، وكل من هذا التطور يتزّيد الشاهد فيه اطلاعا ، ففي الأولى يحصل له المقابلة ، وفي الثانية يحصل له الفناء الذي يعبر عنه بالبقاء الحقيقي ، والثالثة يحصل له ثبوت الأعيان مع فنائها دفعة واحدة ويصطحب هذا الشهود العبارة إذ هو اطّلاع على تفريق الواحد وأحدية المفترق وجمع الجمع المذكور ، فمن حين شهود المرتبة الثانية صدق على هذا الشاهد الأخذ ، لكنه لم يعلم في هذا الشهود أنه مأخوذ لأنه لا يشهد الفاعل هاهنا ، فعند شهود المرتبة الثالثة يحصل له اليقين بأنه مأخوذ إذ يفترق له حقيقة ما كان جمع له في هذا الشهود الثاني ، ويعود إلى الجمع في الشهود الثالث ، وهذا نسميه جمع الجمع لأن الافتراق الذي يتقدم عليه يباين الافتراق الذي يكون قبل الجمع الحقيقي ، فإذا حصل للشاهد هذا الشهود الذي هو غاية الكمال لا يبقى له أخذ ، فالحاصل أن الأخذ ثلاثة :
الأول : هو الأخذ ، المحو وهو أخذ الفناء الحقيقي .
والثاني : هو أخذ تفريق هذا الجمع .
والثالث : هو أخذ جمع هذا التفريق ، وهذا هو جمع الجمع الذي نسقت العبارة عنه ، فبعد هذا أخذ لكنه الشاهد على قوله : وهو الآن على ما عليه كان ، وإن تفّرقت الموجودات له ، فعلى حقائقها الظاهرة ، فلا أخذ له بعد هذا الافتراق إذ لا حقيقة له .
وقوله : ( ثم قال لي : نفسي أخذت ) .
أقول : إن هذا التنزل من أشرف ما ورد وهو يزيد يقين المطلع في هذا الكتاب بأنه

“ 105 “


ليس في الوجود سواه ، فالمدرك من الكثرة مظاهر وشؤون ، وإن دققنا البحث ، فنقول : إنه اطلاع في العلم وتطورات الإرادات ، وتحول الحق “ 1 “ في ذوات الشؤون وأظلال الإرادات ، فكما قلنا في كتاب الختم : إن ظهر لنفسه وإن بطن فيها .
فقوله : ( نفسي أخذت ) معناه أنه لا تظن أن المتفرقات غيري ، فإذا أخذت شيئا منها فلا تظن أنني أخذت مفترقا مباينا ، وإنما كان جمعا وجمعته أيضا جمعا ثانيا ، فباختلاف الجمع ظن الجاهل أنه كان شيئا خارجا ثم أخذته ، أو ظاهرا فأبطنته وليس هذا صفتي إذ أنا واحد لا ثاني لي أحدي لا تمايز في ذاتي لا تكثر في ، وموجب عبارة الأخذ أنه لمّا تيقن الجاهل بالتجزؤ واشترطنا في التجزؤ يقين البعد ، وشاهد الجاهل أن مثله قد كمل واتصف بالفناء ، وجب أن نفسي أخذت لئلا يظن الجاهل أن شهوده للكثرة حق ، وورود هذا الخطاب كالتذكير مثل تعجب الرب من الشاب ، ليست له صبوة ، فيرد هذا الخطاب في هذا الشهود لتذكير الشاهد بما كان عليه قبل الأخذ من إرادة كمال الجهل ، فإنه كان يطلق عليه الجهل وليس كاملا فيه ، فكأنه قال للشاهد إن كان صدقت عليك الشيئية قبل ، فنفسي أخذت فلا يظن أنك كنت شيئا منفردا .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : انظر إلى الجماد ، وخذ تسبيحه ، فذاك جوابهم يتلى ، ثم قال لي : إن حجبتك بالأخذ تعذبت عذاب الآباد في النعيم المقيم ) ] .
( ش ) أقول : إن معنى هذا التنزّل يشبه معنى قوله : نفسي أخذت ولا خلاف بينهما لأنه وراء هناك ، بأنه لا شيء زائد على ذاته ، فلذاته أن يظهر ولنفسه يأخذ وأشار في هذا الخطاب الآخر بأنه لا عبارة ولا إشارة إذ العبارة لا تكون إلا بين اثنين وهو بريء عن الثنوية فلا عبارة في ذاته من حيث هي ولا إشارة لأن الإشارة تكون إما استعانة ، وإما افتقار واللّه تعالى كامل في قدرته لا يضطر إلى الاستعانة وغني ما جديته الكاملة فلا افتقار له ، ومراد الرب من خلق العباد ظهور الاسم ، فلما خلق العباد متجزئين مفتقرين إلى التقويم من أجل التجزؤ ، فحين ظهور الاسم المقوم بالأمور المخوّفة أنذر بالربوبية المخوّفة إذ حكمها يلزم التجزؤ اضطرارا ، فلما وجب هذا الإنذار باستمداد من اللطف
...........................................................................
( 1 ) الحق : ما وجب على العبد من جانب اللّه تعالى ، فيما أمره به ، ونهاه عنه وأوجب الحق على نفسه كما قال اللّه تعالى : كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام : 12 ] ، وهي الرحمة المختصة بأهل الإيمان ، فإن حظهم من الوجود ما قيده الاسم الهادي .

“ 106 “


لئلا يقع النفور ، فقال المنذر : لست حاكما ولا مجدد حكم ، لكنني مذكر لحكم منسي ، وهو أخذ العهد على الأشياء في الأزل ، فلما سمع الشاهد في حال جهله قبل اطلاعه على الحقيقة من حيث هي لام نفسه من أجل هذا النسيان الطارئ ، وتيقن من أجل التقليد والتبعية أنه لم يصل إلى غاية التذكير ذي العهد الذي قيل له : إنه محكوم عليك به ، فعند كمال هذا الشاهد بالطلاعه على الحقيقة المذكورة وعلمه بتحقيق الأمر على ما هو تيقن أنه لا قائل ولا سامع إذ الخطاب إما استعانة وإما افتقار كما ذكرناه ، فقيل له : انظر إلى الجماد وخذ تسبيحه ، كأنه قال الخطاب في الأزل كتسبيح الجماد هنا ، فإن أدرك هذا التسبيح إلى حد الظهور فيتيقن السامع أن العهد كما ذكر ، وإن لم يظهر كهذا التسبيح ، فالشاهد يقطع أنه لا خطاب كما ذكرنا .
وقوله : ( ثم قال لي : إن حجبتك بالأخذ تعذبت عذاب الآباد في النعيم المقيم ) أقول : إن قوله هذا يؤذن بالإطلاق والصرف الذي هو تقييد بالنسبة إلى العبارة ، فإن الأخذ هو المحو ويعبر عنه أيضا بالوقفة ، فمادام فيه يحصل له العذاب الذي ووري عنه بالعذوبة ، وإلّا لو أراد العذاب المؤلم لكان مضادا للأخذ إذ لا معنى للأخذ إلا الوقوف في حضرة الهوية ، فالهوية يشهد صفاتها في هذه الحضرة ، وكل مشهود شاهد فيها أيضا إذ لا معنى لشيء دون شيء ، فالشاهد بالنسبة إلى التجزؤ معذب لعرائه عنه ، وهذا العذاب الذي ذكره ووري عنه بالعذوبة فقد ذكرناه أيضا في كتاب الختم حيث قلنا العذاب عذب ومن حيث اتصافه بالأحدية التي هي اسم للهوية هو منعم نعيما مقيما إذ الهوية للّه ، واللّه برئ عن العذاب بكلا معنييه ، ففي حال الأخذ يتصف المأخوذ بالهوية التي لا عذاب فيها ولا نعيم ، فكأنه قال له : لو وقفت على هذا الشهود الموري عنه بالأخذ ووقفت عنده لتعذبت عذاب الآباد لبراءتك عن التجزؤ ، وهذا الخطاب قد ورد بعد الشهود المعّبر عنه بالأخذ بلا زمان لأنه قد أطلق عليه الحضور بلفظه ( أن ) فدلنا على أن كونه بعد كون الشهود بلا زمان وهو قبل الكمال ، ولهذا قال له : ( إن حجبتك بالأخذ ) ، والحاصل منه إن لم أوقفك على الكمال الحقيقي لتعذب عذاب الآباد في النعيم المقيم ، وهذا عذاب غير مؤلم لأنه مشتق من اسمه .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : ما أخذ إلا من قلت : وما أفلت إلا مملوك ، وما ملك إلا مقهور ، وما قهر إلا محصور لي ، وما حصر إلا محدث ، وما حدث إلا عدم ) ] .
( ش ) أقول : إن قوله : ( ما أخذ إلا من قلت ) ، يريد به تمكين هذا الشاهد في كماله

“ 107 “


فإنه في حال فنائه في الهوية يعود له نصيب من المشيئة ويعود له مراد ما مستقلا باستقلال جزئيته ، وهذا استمداد من الحديث النبوي ، وقول عائشة رضي اللّه عنها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
“ أرى اللّه يهوى هواك “ وكل هذا مراد اللّه تعالى كالتنازل منه ، وأيضا فإنه حين انتقال العارف بالموت الحقيقي ينتهي للمعرفة صورة يستودع العلم لئلا يمر الزمان بغير واحد مستخلف ، فيكون تهيؤ هذه الصورة بواسطة العارف المنتقل ، ولا معنى للقول إلا بواسطة ، فكأنه في حال تهيؤ وهذه الصورة لاستيداع العلم يكون العارف بانتقاله قد قال للّه : خذ الصورة المهيأة للأخذ ، فالحاصل منه أنني لا آخذ إلا بعد انتقالك بواسطة وجودك .
وقوله : ( وما أفلت إلا مملوك ) في الشرح السابق عليه كفاية لكننا نزيده إيضاحا ، فنقول : إنه إذا تهيأت حين انتقال العارف صورة ، فقولنا : بالصورة ينطلق على جزء وكل جزء عبد والعبد مملوك ، كما قال فيريد به أنه لا يهيأ للمعرفة إلا عبد مستعد والعبد محكوم عليه ، فالمراد من التهيؤ قول العارف لا غير وصورة هذا القول أمر العارف بانتقاله .
وقوله : ( وما ملك إلا مقهور ) ، معناه أن كل متجزئ مقهور بالطاعة ، فنفس هذا التجزؤ أوجب حكم الجامع على المجموع ، فكل متجزئ داخل تحت جمعية هذا الاسم وليس يهيأ للمعرفة إلا جزء وقد صدق عليه اسم الطاعة ، وكل مطيع مملوك ، والمملوك داخل تحت ذل القهر .
قوله : ( وما قهر إلا محصور ) يعنى به أنه لولا الوجود المدرك لما قهر اللّه مظاهره وهذا المدرك متجزئ وكل مجزأ محصور في جزئيته وكل محصور مقهور بحضرة ، هذا معنى قوله : وما قهر إلا محصور يعني به أنه لولا الحصر الذي يصدق عليه التجزؤ لما وجب القهر لجمعية هذه الأشياء المتكثرة قوله : ( لي وما حصر إلا محدث ) معناه أنه لا يدرك المحدث إلا محصورا لأننا لا نتعقل في هذا الوجود الظاهر إلا أمثالا محصورة متعددة ، فلو لا التجزؤ لما أدركنا حدوثا زائدا على وجودنا لكن وجود الأمثال تعقلنا أننا محدثون إذا أدركنا حدوث المثل قوله : ( وما حدث إلا عدم ) معناه أنه الذي يدرك من الحدوث والسبق على المثل والخفاء والظهور كل ذلك نسب وهذه النسب مقتضى الكمال ، وليس المراد من الكمال الفاعل لهذه النسب سوى العبارة فقط لأننا إذا قلنا أن الكمال يقتضي وجود الجهل والعلم ، فنكون قد أثبتنا عالما وجاهلا ، وليس مرادنا هذا الإثبات ، وإنما مرادنا العبارة المذكورة بالنسبة إلى الوجود المدرك ، فلما وجب إدراك العلم والجهل التزمنا أن نعبر بالكمال الجامع لهذا كله والحقيقة من وراء هذه العبارة ، وليس لهذا كله

“ 108 “


حقيقة لقوله : وما حدث إلا عدم ، فلو لا أن الحقيقة وراء ما يعبر عنه لما كان يفنى هذه المظاهر المدركة ، ويؤيد قولنا الكثرة فانية بقوله : ما حدث إلا عدم .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : أخذت المفترق فجمعته وأخذته من الجمع فجمعته ثم فرقته ثم جمعته ثم لا تفريق ولا جمع ) ] .
( ش ) أقول : إن قوله : ( أخذت المفترق فجمعته ) معناه أنني أخذتك من التفريق إلى الجمع وصورة هذا أن كل صورة توجد هي مختصرة من مجموع الوجود ، فمتى أخذت صورة من التفريق إلى الجمع يكون بالحقيقة قد أخذ المجموع من الفرق “ 1 “ إلى الجمع فيريد بقوله هذا أنه في حال أخذك من الفرق إلى الجمع جمعت الوجود المتفرق ، وهذا الأخذ هو الفناء المعبر عنه بالمحو ، ولهذا يعرى شاهد المحو عن العبارة بجمعية صورته بمجموع الوجود ، فهذا هو الجمع الأول المذكور بقوله : ( أخذت المفترق ) ، فجمعته قوله :
( وأخذته من الجمع ، فجمعته ) يريد به جمع الجمع ، وهذا لا يكون إلا بعد افتراق الجمع الأول المذكور لا يزال واقفا في شهود المحو إلى حيث تفصيل هذا الشهود بمرتبة الكمال الحقيقي وهذا الفرق بعد الجمع يكون شهوده في حال ثبوت الأعيان في حقائقها بأحديتها ، فيحصل في هذا الشهود فرق المجتمع وجمع المفترق ، فالفرق نسميه تفصيلا ، والجمع نسميه جمع الجمع ، ولهذا قال : ( وأخذته من الجمع ، فجمعته ) وهذا أخذ من جمع إلى جمع لأن الجمع الأول المذكور هو المحو المعبر عنه ، والجمع الثاني الذي هو جمع الجمع هو جمع ثبوت الأعيان في حقائقها مع الجمع الأول ، فيصير جمع وهذا لا يكون إلا بعد افتراق الثبوت المذكور .
وقوله : ( ثم فرقته ثم جمعته ) معناه بتتميم قوله أخذت المفترق فجمعته وهو إشارة إلى الجمعين والافتراقين المذكور بالجمع الثالث الذي يستمر عليه الشاهد ، ولهذا قال : ثم فرقته ثم جمعته إشارة إلى أن كل جمع من هذه لا يكون إلا بعد افتراق جمع الجمع ، فإنه جمع وافتراق في آن واحد فيلحظ منه كأنه ثلاث جموع وهو في الحقيقة يريد جمعين بعد افتراقين كل جمع بعد افتراق قوله : ثم لا تفريق ولا جمع إشارة إلى قوله نفسه أخذت ومن
...............................................................
( 1 ) منه فرق الجمع وهو تكثير الوحدة لظهوره في المراتب التي هي ظهور شؤون الذات الأحدية ، وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الوحدة بصورها ، وهناك فرق الوصف الذي هو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدية .
انظر : ( جامع الأصول ص 144 ) .

“ 109 “


قوله أيضا كان ولا شيء وهو على ما عليه كان فلم يتزيد بالخلق ، فيفترق ولم يفترق حتى يجتمع لكنه واحد لم يزداد بخلق ولم ينقص بعدم حدوث والفرق للحادث كما قال فلا تفريق ولا جمع مع تحقيق الأحدية .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال : أشهدني ما فوق الأخذ فرأيت اليد ، ثم أرسل البحر الأخضر بيني وبينها ، فغرقت فيه فرأيت لوحا ، فركبت عليه ، فنجوت ولولاه لهلكت ) ] .
( ش ) أقول : إن قوله : ( ما فوق الأخذ ) ، يعنى به أخذ هذه الحضرة التي قد شهد الأخذ فيها وهي حضرة منسوبة إلى الهوية ، فكأنه لما ظهرت له حضرة الهوية أفنت هذه الحضرة التي استرعت من الهوية فإنه ليس فوق الأخذ إلا حضرة الهوية الصرفة وصورة هذا الشهود هو أن يكون الشاهد في شهود ، ثم يجري منه إلى شهود آخر في هذا الخلع الواحد ، وهذا يسمى شهود الجري فقد كان قد أحضر له في أول الشهود صورة حضرة الأخذ التي هي مستخلصة من الهوية ، ثم جرى في هذا الشهود إلى أن انتهى إلى حضرة ما فوق الأخذ وهي حضرة الهوية ، فشهد فيها صورة الفناء وكيفيته وهذا الشهود يباين الموقف ويريد بهذا الموقف قول من قال : أوقفني ، فإنا نسميه شهود الوقفة ولا نظن به أننا نريد الوقفة الحقيقية ، فإن الواقف عليها لا يصح أن يطلق على نفسه شهود ولا وقفة ، وإنما يريد به شهود من قال : أوقفني قوله ، فرأيت اليد حيث جرى في هذا الشهود إلى أن وافى حضرة الهوية ، وهي ما فوق الأخذ إذ الأخذ إلا بقوة ، وهي أيضا محل العطاء ولا تأخذ إلا بقوة وهي أيضا محل العطاء ، فتميزت له صورة قوة الأخذ من الأخذ لأن اليد صفة القوة ، وكيفية انتزاع هذه القوة ، من الأخذ هو أن يختصر له صفة القوة في محل لائق ليشهد القوة مستعلية على الأخذ لأننا تارة نشهد الأخذ ممزوجا بالقوة وطورا نشهد القوة منفردة على هذه الصفة التي قلنا : إنها منتزعة من الأخذ والقوة تستعلي على الأخذ ، فلما شهد ما فوق الأخذ برأي القوة هناك في صورة اليد ، لأن القوة محل الأخذ ومحل العطاء أيضا . وهذه الحضرة المسماة بحضرة الهوية هي محل الأخذ بقوة ومحل العطاء أيضا ، وتعبيره عنها باليد لأنها قوة صرفة لا يمازجها سوى محل يدركها الشاهد فيه ، فأفردت هذه القوة له بائنة عنه حتى يتصف بها بعد اليقين من الاطلاع ، فإننا إذا لم نشهد الشيء مرارا وبعد ذلك يتصف به وإلا لم يتحقق اليقين بالاتصاف ويكون الاتصاف الذي لم يطلع عليه تقليدا ، وذلك لأنه يقال لنا : إنكم متصفون ، فقد يجوز وقد لا يجوز حتى لا يشهد صورة الاتصاف ، فهذا الشاهد رحمه اللّه من جملة من لم ينتقل لوصف حتى يشهد ، فأبرزت له القوة في صورة اليد حتى يتصف بها لأن اليد محل القوة .

“ 110 “


وقوله : ( ثم أرسل البحر الأخضر بيني وبينها فغرقت فيه ) البحر الأخضر ها هنا صورة الصفاء “ 1 “ وهي صفة الحياة الصرفة فقد يشهد الماء ، ولا يتيقن الشاهد أنه محل الحياة ، ولذلك سماه بحرا أخضرا ، لأنه شديد الصفاء الذي يميل به إلى السواد والخضرة مائلة إلى السواد ، وإرسال البحر الأخضر بينه وبين اليد لأنه صفاء كما قلنا ، والماء محل المزاج كما هو محل الحياة ، فكأنه أرسل لسن شيء في الشاهد القوة ، ولهذا قال : بيني وبينها لأنه لم يكن من قبل اتصف بها ، وقبل الاتصاف بالقوة لم يكن شديد الجري في شهوده ، فأرسل له البحر بريا عن الكدر ليجري فيه بلا وقفة بعد اتصافه بالقوة ، وكيفية الإرسال شهود حضرة ليس اللّه فيها حاضرا بالمعية ، وإنما هو حاضر بفناء الشاهد نفسه متصفا بالهوية ولا يدرك في حضرته معية فالموارد التي ترد عليه يدركها كأنها بعثة لأنه لم يدرك الثنوية في الشهود لم يعط عطاء حاضرا ، وإنما يكون عطاؤه كالبعثة يدركه آتيا من بعيد إلى قريب ، وهذا ليس في كل شهود ، وإنما هو في شهود مخصوص نزر ، وهذا الشهود الذي قد شهد فيه القوة من جملة هذا الشهود المذكور ، فكأنه قال : رأيت القوة في صورة اليد ، ولم أتصف بها إلى حيث أرسل اللّه الصفاء في صورة بحر إذ البحر لا جري فيه إلى حيث أدرك القوة ، ويتحقق لي الاتصاف ، ولهذا قال : ( فغرقت فيه ) فكأنه جرى في الصفاء المعبر عنه بالبحر ، وتعبيره عن هذا الولوج بالغرق لأنه ولوج تلجج غامر يستهلك الجاري فيه لأن الغرق استهلاك ، ومراده به التلجج فيه قوله : ( ورأيت لوحا ) يعني به أنه في حال الجري المعبر عنه بالولوج حصلت له وقفة تفضي بصاحبها إلى النجاة من الهلاك المعبر عنه بالغمر ، وهذا اللوح هو صفة اليقين فكأنه لما تيقن الصفاء بينه وبين القوة في هذا الشهود حصلت له الوقفة ، وهو اليقين فاستعلى عليه كاستعلاء الغريق على لوح نجدة ، لأنه قد وجد اليقين عند الهلاك في البحر صورة لوح يستعلى عليه كالوقفة إذ اليقين وقفة ، فمتى حصل للجاري يقين في جريه وقف وحصل له الخلاص من استهلاك محل الجري
...............................................................
( 1 ) الصفاء : اسم للبراءة من الجدر ، وهو بسقوط التلوين الواقع في الوقت وصورته في البدايات : صفاء علم يهذب العمل ويعد النفس للسلوك ، وفي الأبواب صفاء نفس بزهد في الدنيا ويصحح الورع والتقوى ، وفي المعاملات صفاء عقيدة يحقق الإخلاص ويصحح التوكل والتسليم وفي الأخلاق :
صفاء باطن يزكي النفس ويقوي الصدق ويحصل الفتوة ، وفي الأصول : صفاء قلق يصحح القصد ويقوي العزم ويورث الفقر وفي الأدوية : صفاء لب يورث الحكمة ويصدق الفراسة ويحقق الإلهام ، وفي الأحوال حال يشاهد به شواهد التحقيق بتجليات .

“ 111 “


المعبر عنه بالبحر ، فركبت عليه فنجوت ولو لاه لهلكت ، يريد أنه عند حصول اليقين في هذا الجري استعلى عليه ولولا اليقين لما حصلت له وقفة ، ولا كان ينجو من الهلاك ، لأنه إن لم يحصل للجاري وقفة تفضي به إلى الراحة لم ينقضي جريه ولا تلججه ، ولهذا قال :
( لولاه لهلكت ) لأنه لولا اليقين لهلك الجاري إذ اليقين وقفة نجاة .
( ص ) [ قوله : ( ثم برزت اليد ، فإذا هي ساحل لذلك البحر ، فالمراكب تجري فيه حتى ينتهي للساحل ويرمي بها في القفر ) ] .
( ش ) ويرمي بها في القفر أقول : معنى قوله : ( ثم برزت اليد ) هو أنه لما حصل له اليقين في وسط التلجج ظهرت اليد التي هي القوة المهيأة له لأجل الاتصاف بها بعد الصفاء الذي حال بينها وبينه وهو البحر ، وهذه القوة تحتوي على الصفاء المذكور كاحتواء الساحل على البحر ، لأن البحر من أجل القوة أرسل ، فيجب أن يكون له ساحل لأن نهايته في الشهود هي القوة ، ولأن قصده في الجري إلى إدراك اليد التي برزت له ، ولهذا قال : إنها ساحل البحر لأن للساحل نهاية ، وهذا قد وصل إلى نهاية هذا الجري وقوله :
( برزت ) لأنه في حال التلجج في طلب القوة خفيت عنه ، فلما تيقن النجاة وهي الوقفة ، فحصل له المقصود عند هذا اليقين ، وهو ظهور هذه اليد المعبر عنها بالقوة قوله :
( فالمراكب تجري فيه ) معناه أن هذا البحر هو مسلك كل مهم يقصد سواء كان كاملا أو ناقصا كل سالك محمول على مركب ، والمركب ها هنا هي الهمة “ 1 “ وكل حي ذو همة وكل ذي همة جار في البحر لأنه محل الحياة ، ولهذا كان كل ذي همة جاريا فيه فلا وقفة للجاري إلى حيث الساحل الذي هو القوة المرادة للاتصاف ، وكل جاري في هذا البحر لا يقف إلا عند اليقين ، ولا يكون اليقين إلا لمن اتصف به فانتهاؤه إلى هذا الساحل هو بلوغ الغاية إلى القصد قوله : ( فيبرزها الساحل ويرمي بها في القفر ) ، معناه أنه كل من وصل إلى مقصود وهو الجنوح إلى الساحل المعبر عنه باليد يأخذ هذه المراكب ويرمي بها في القفر ، وصورة هذا الأخذ هو أن يستهلك القوة كل من يجنح إليها يجعلها له قويا ويرميها في القفر هو إلقاء المتصفين بالقوة في شدة الصلابة ، وهي جمهور القهر لأن
............................................................................
( 1 ) الهمة : تطلق بإزاء تجريد القلب بالمنى ، ممكنا كان ذلك أو محالا ، وعلى صاحب هذه الهمة أن ينظر فيما يتمناه ويحرره ، فإن أعطاه الرجوع عن طلبه بكونه محالا رجع ، وإن أعطاه الغريمة غرم وتطلق بإزاء أول صدق المريد : وتسمى هذه الهمة ، همة الإرادة ، وهي همة جمعية وتنحصر النفس عليها .

“ 112 “


الصلابة شدة القوة ، فتأخذ اليد هذه المراكب من القوة إلى اشتدادها وهي الصلابة وهذا الأخذ من قوة إلى شدتها ليس في محال متعددة ، وإنما هي قوة واحدة يتغير عليها صفات إلى حيث الصلابة ، وهي شدة تلك القوة ولما وصفها أولا باليد وهي محل العطاء والأخذ عبر عنها بأخذ المراكب من الساحل إلى القفر أي مكن القوة إلى ثبوت تلك القوة إذ القفر أشد صلابة من الساحل لبعده من الماء .
( ص ) [ قوله : ( ويخرجون أصحاب المراكب معهم در وجواهر ومرجان ، فإذا حصل في البر عادت أحجارا ) ] .
( ش ) أقول : إن مراده بهذه العبارة هو قبل الأخذ عند سير المراكب في البحر ، فعند الأخذ الذي هو الرمي في القفر تعود هذه الجواهر التي قد ارتقت المراكب بها إلى الساحل أحجارا في حال الرمي في القفر الذي هو الصلابة ، لأن الأحجار قريبة الصفة من التراب ويريد به أن في كل شيء نماذج من القوة ، فيلتحق بصفاتها بل يصير إلى صفة يستعلي عليها الممازجة بها ، لأن كل شيء يمازج القوة إلى غاية يصير بها إلى الصلابة ، فاستحالة الجواهر إلى الحجرية على اختلاف أنواعها هو ممازجة القوة لمقدار الهمم لأن نوع الدر يخالف المرجان والجواهر لأن الدر والجوهر والمرجان هي مكاسب الهمم المحمولة في المراكب وعودها أحجارا هو جمود تلك الهمم بعد الوصول لأن الواصل بعد بلوغ غايته فتور همته .
( ص ) [ قوله : ( فقلت له : كيف تبقي الدر درا والجواهر جوهرا والمرجان مرجانا ، قال : إذا خرجت من البحر فأخرج معك من مائه فما بقي الماء بقي الدر والجواهر والمرجان على حاله ) ] .
( ش ) أقول : إن مراده بهذا القول أنه متى عدم الماء عدمت الحياة إذ الحياة هي الجوهر والماء هو منبع هذه الحياة ولهذا قال إذا خرجت من البحر فأخرج معك من مائه أي أنك إذا خرجت من هذا الولوج المهلك فخذ معك حياة لأنه لم يشهد من ولج في شهود إلا ورجع حيا فما دام حيا يعبر عما اطلع عليه من اختلاف الأنواع المعبر عنها بالجواهر المذكورة وما دام يعبر فواجب أن يكون مشاهدا لها أبدا وإذا كان مشاهدا فهي له موجودة وقصده في هذا الشهود بقاء الحياة ، كأنه قال : ما دمت حيا ، فأنت مشاهد للجواهر الخافية عن الإبصار ، فإذا عدمت هذه الحياة عادت الجواهر أحجارا .

“ 113 “


( ص ) [ قوله : ( فإن يبس الماء لما عادت أحجارا وفي سورة الأنبياء أوضحت سرها فأخرجت معي من الماء فلما وصلت القفر رأيت في وسط القفر روضة خضراء ، فقيل لي : ادخلها فدخلت فرأيت أزهارها ، وأنوارها ، وطيورها ، وثمارها ، فمددت يدي لآكل من ثمرها فيبس الماء واستحالت الجواهر ) ] .
( ش ) أقول : معنى يبس الماء هو عدم الحياة وانقطاع الشهود المؤدي إلى الاطلاع ، وقوله : ( وفي سورة الأنبياء أوضحت سرها ) يشير به إلى قوله تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : 30 ] ، فهذه كلها دلائل على استمداد الحياة من الماء .
قوله : ( فأخرجت معي من الماء فلما وصلت القفر رأيت في وسط القفر روضة خضراء فقيل لي : ادخل ، فدخلت ) أقول : معنى قوله : ( أخذت معي من الماء ) يعنى به رجوعه بالحياة بعد اتصافه بالقوة التي برزت له في صورة اليد لما توسط صورة الاتصاف بالقوة المعبر عنها بالصلابة حصل له اليقين واليقين مقام ، فكأنه لزم نفسه عن الدخول فيه ولزوم النفس تردد فلما تردد في الدخول فيه ، قيل له ادخل وهذا القول يجزم اليقين ، فلما قيل له : ادخل علم أن هذا الدخول محل الوقفة في المقام المذكور فاتصف به عن يقين الوصف .
وقوله : ( فدخلت ) يريد به الولوج في هذا المقام المعبر عنه باليقين بعد الاتصاف بالقوة المعبر عنها بالقفر ، وهذا المقام عند توسط القفر لأنه لا يحصل اليقين إلى أن يتوسط الشخص وسط الوصف ، ولما مثل له اليقين كالمقام افتقر إلى أن يؤمر بالدخول عند حصول التردد ، فلهذا مثل كالمقام ودخل فيه .
وقوله : ( فلما وصلت القفر رأيت في وسط القفر روضة خضراء ) يعني به أن تجديد المقام هو للتنزه واليقين هو للراحة ولا معنى للراحة إلا تنزيه الخاطر ، فكأنه لما حصل له اليقين بالتوسط في القوة التي هي القفر تمثل له المقام روضة خضراء إذ المقام ها هنا هو اليقين كما ذكرناه فلما تيقن كان اليقين نزهة الخواطر “ 1 “ الواردة كالتنزه في الروضة الخضراء .
..........................................................................................
( 1 ) الخواطر : فهي جمع خاطر ، وهو خطاب يرد على الضمائر ، ثم إنه قد يكون بإلقاء ملك وقد يكون بإلقاء الشيطان ، وقد يكون بأحاديث النفس وقد يكون من اللّه فالأول : الإلهام ، والثاني : الوسواس ، والثالث : الهواجس ، والرابع : خطاب الحق ، فعلامة الإلهام موافقة العلم وعلامة الوسواس ندبه إلى المعاصي وعلامة الهواجس ندبها إلى اتباع الشهوات وحظوظ النفس ويجمع المشايخ على من كان قوته من الحرام لم يفرق بين إلهام ووسوسة ، ويجمع على أن الخواطر المذمومة محلها القلب ، وأن النفس لا تصدق أبدا . ( جامع الأصول ص 402 ) ، بتحقيقنا .

“ 114 “


قوله : ( فقال لي : ادخل ، فدخلت ) هذا الأمر لقطع اليقين بعد حصول التردد عند الاطلاع فلما حصل له ذلك أمر بالقطع في حال الاطلاع على إرادة اليقين ودخوله ولجه في اليقين المعبر عنه بالمقام .
فقوله : ( فدخلت ) يريد به أنني اتصفت عقيب الأمر ، فإنه قبل الأمر كان حصل له التردد ، فلما ورد الأمر تحقق بالاتصاف إذ الأمر حق .
قوله : ( فرأيت أزهارها ، وأنوارها ، وطيورها ، وثمارها ) أقول : معنى أزهار هذه الروضة المعبر عنها بالمقام في اصطلاحنا خاصة هو اختلاف القوة والقهر والجبروت والانتقام ، فالأزهار كل ما يمازج القوة والأثمار هو جنى الأزهار وهي قوة تمازج القهر عند ظهور القهر عليها والنوار هو أشرف الزهر على محل قابل وله من الأربعة المذكورة الجبروت إذ هو محل قابل لإشراف القهر عليه والطيور هي صفة الانتقام لأن الانتقام يظهر على الحي ، ويصدر منه فعل على الأحياء ولا يقضي بهم هذا الفعل إلى الموت ، قال اللّه تعالى : لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [ فاطر : 36 ] ، وقال تعالى : لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [ طه : 74 ] ، فوجب أن يكون بين الانتقام والمنتقم منه نسبة حياة يكون مدد حياتهم في عين ذلك الانتقام وتعبيرا عنه بالطيور ، لأن الملائكة ذوات القوة يعبر عنها بالطيور ، وأصحاب النار ملائكة ، قال اللّه فيهم : عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [ المدثر : 30 ] ، وليس هذا خروج عن المقصود لأننا إنما أردنا تعدد صفة القوة ومنه الطيور الموصوفة .
قوله : ( فمددت يدي لآكل من ثمرها فيبس الماء واستحالت الجواهر ) أقول : معنى قوله : فمددت يدي يريد به أنني أردت التلبس بشيء من القوة إما في المعاش الدنيوي كالمكاسب ، وإما في تقويم الجسد وموجب إرادته للأخذ هو التجزؤ لأن الجزئية التي هي صورة العارف يريد حقها في الظاهر وكمال العارف توجب عليه أن يعطي كل شيء من أعضائه حقه ، بل وأجزائه أيضا .
وقوله : ( يبس الماء ) معناه أنه لما اتصف بغاية القوة التي هي الصلابة لم يبق عنده فرق بين أنواع القوة لأنها جعلت له قوة واحدة كاملة في غاية الكمال ، فاتحدت أنواعها في حال جمعيتها له ، وفني الاتحاد إلى حيث انطلق عليها اسم الأحدية ، فلم يبقى عنده أسماء كثيرة ، لأنه اتصف بأوصاف الهوية والهوية من حيث ذاتها لا يجد فيها أشياء كثيرة إذا عريت عن الكثرة يجب أن يعرى عن الأسماء أيضا ، فكأنه لما وصل إلى غاية القوة التي

.
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس    المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:23 pm

المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس 

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

“ 115 “

هي الصلابة ، فنيت له أنواع القوة وفني الاتحاد أيضا ، فانطلق عليها اسم الأحدية ، فلما أراد أن يأخذ منها شيئا بحسب العادة في التنوع فلم يجد فيها أنواعا ، وذلك هو يبس الماء ، ومتى يبس الماء عند كثرة الأشياء تعود كلها تربة واحدة لأن العلة في الكثرة هي الحياة ، والماء ممد هذه الحياة ، فإذا جف الماء وجب أن تعود هذه الأشياء ترابا ، كما قال :


( عادت الجواهر أحجارا ) وكل هذا موجبه عدم الماء واستحالت الجواهر معناه أن العارف يجزم عليه الخصوص لنفسه بل يمتنع عنه التخصيص ، فأول ما يلتزم به العارف عدم الخصوص ، فلما أراد الأخذ ومدّ يده إلى تناول الثمار ، كأنه أراد التخصيص لنفسه فمنع منه كما أن فطرة العارف تقتضي عدم الخصوص ، فلهذا يبس الماء ولا يكتفى بيبسه لأن يبسه مزاج أنواع القوة حتى ظهر له المنع ، وهذا كالتذكير للنسيان لأنه ذهل في حال إرادة الأخذ عن عدم الخصوص ، فكانت الاستحالة مذكرة فلو يبس الماء لجعل أنواع القوى واحدة ، فوجب أن تكون الاستحالة للتذكير ، وقال اللّه تعالى في حق آدم : فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [ طه : 115 ] ، فطرأ نسيان العارف عليه لكماله لأن أبا البشر عليه السلام كان كاملا ، وكماله أوجب النسيان .


( ص ) [ قوله : ( فإذا النداء ألق ما بيدك من ثمرها ، فألقيت بها فنبع الماء وعادت الجواهر إلى حالها ) ] .


( ش ) أقول : معنى قوله : ( فإذا النداء ) هو التذكير الذي قلناه وألقى ما بيده ، وهو استدراك الفارط في حال التذكير ، فإن يبس الماء واستحالة الجواهر هو التذكير الذي عبرنا عنه وعبر عنه أيضا بالنداء لأنه في الحقيقة لا قائل ولا سامع ، لكن طريان الصفات أوجب له التذكير كالنداء المسمع .


وقوله : ( فألقيت بها فنبع الماء ) معناه أنه لما عاد إلى التزام عدم الخصوص بالتذكير المذكور جرى معه الحق من حيث هو ، وعادت الحقائق إلى أصولها ، والعلة في عودتها إلى ما كانت عليه أولا ، وهو أنه إذا وصل العارف إلى غاية فنائه في الهوية واتصف بأوصاف اللّه تعالى تصير الأشياء عنده واحدة في حال الوصول ، فإذا دام هذا الفناء يأخذ العارف في التحول في المظاهر ، كما أن اللّه تعالى له التحول دائما فيكون تحول العارف بعينه تحول اللّه لأن العارف ليس له حقيقة منفردة عن الهوية والتحول للهوية ، لأنها اسم لذات اللّه تعالى ، فكأنه لما تمكن في القوة واستدرك عدم الخصوص المذكور ، ومضى عليه آن أخذه في التحول في المظاهر المذكورة ، وتحول عود الجواهر المذكورة إلى حقائقها .



“ 116 “


( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : سر إلى آخر الروضة ، فسرت ، فوجدت صحراء ، فقال :

اسلكها ، فسلكتها فرأيت بها عقارب وحيّات وأفاعي وأسود ، فكلما نالني منها ضرر نضحت الموضع بالماء فبرئ ، ثم فتح لي في آخر الصحراء عن جنات فدخلتها فيبس الماء فخرجت منها فنبع الماء ) ] .



( ش ) أقول : معنى سر إلى أخر الروضة هو إرادة التنزه في المظاهر هو كتعجب الرب من الشاب ليست له صبوة لأن الشاب مظهر من مظاهر اللّه تعالى يعجبه به هو تنزه في صورته إما بانتمائه إلى اللّه ، وإما بتركه للدنيا ، فكل هذه تفضي بصاحبها إلى التعجب منه دون غيره فالسير في الروضة هو تنزه ، ويحصل في ضمنه تعجب ولا بد منه ، فكأنه لما أخذ في التطور بعد فنائه في الهوية سرى في المظاهر على سبيل التنزيه .


وقوله : ( فوجدت صحراء ) يريد بهذه الصحراء سعة فضاء الدنيا لا غير فإنها من حيث هي تربة ينطلق عليها اسم الصحراء لأن الصحراء اسم للأرض الواطئة ، وكلها أسماء تنطلق على مجموع الأرض ، فهي الصحراء التي ذكرها .


وقوله : ( فوجدت فيها عقارب وحيات وأفاعي وأسود ) أريد به أن أنواع المخلوقات في الأرض محكوم عليها وليس لها اختيار ، كما أن الهوام ليس لها اختيار بل محكوم عليها ، فنسبتها في حقيقة الحق نسبتها إلى الإنسان الكامل ونسبة الجاهل إلى هذا الكامل كنسبة الهوام المذكورة إلى الحقيقة واختلاف أنواعها كاختلاف أنواع الجهل ، فإنه ما سوى العارف الكامل في الوجود ينطلق عليه الجهل ، ومن الكامل في جهله إلى الكامل في معرفته أنواع كثيرة ، وفي هذه الأنواع الكثيرة المذكورة إنما يطلق عليهم اسم الأفراد ، فكل واحد منهم قد استقل بحمل نوع من أنواع الوجود ، فكما أن الأنواع مختلفة ، فوجب أن تكون منفردة ، ولكل منفرد من هذه الأنواع حامل منفرد فهذا نسميه فردا ، وقد قيل : إنه خارج عن دائرة القطب وفيه نظر ؛ لأن القطب الذي هو الواحد متصف لأوصاف اللّه تعالى إذ هو فان في الهوية ، فإن كان أحد خارجا عن دائرته فوجب أن يكون خارجا عن حوطة أوصاف اللّه تعالى ، وهذا محال وموجب القول بهذا الانفراد والخروج عن دائرة القطبية هو نظر إلى صورة العارف المقيدة وحملها لمجموع الوجود ، وكل نوع لا بد له من حامل فشركوا بين الحمل الجزئي والكلي ، فجعلوا له أمثالا في الحمل ، وهذا هو التفرد ، فكأن معنى الخروج عن دائرته تفرد مماثل ، وهذا بريء عن المثل ، فكل من شاركه في الحمل قيل : إنه خارج عن دائرته ولا أصل له فهؤلاء الأفراد هم الأسود المذكورة ، وإنما



“ 117 “


اقتصر على ذكر الأنواع الأربعة اختصارا ، لأن مجموع الوجود ينتهي إلى أربعة أسماء وهي أنواع الوجود ، قال اللّه تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الحديد : 3 ] ، فهذا العارف رضوان اللّه عليه نظر إلى الحقيقة من حيث هي ، واختصر منها مجموع الوجود وأجزاؤه أنواع ، وهذه هي الأنواع المذكورة في الصحراء قوله : ( فكلما نالني منها ضرر نضحت الموضع بالماء فبرئ ) معناه أن العارف إذا صدرت إليه أذية من جزء من أجزائه لا يحملها على ظاهرها ، وإنما ينظر إلى الحقيقة من حيث هي وتيقن أن الحياة واحدة سارية في المجموع ، فكما أن بمجموعها في جزئه ، فيقابل الأذية بأحدية الحياة ، ولا يرى أنه يصدر إلى جزئه بمثل تلك الأذية ، فإنه متى فعل ذلك عاد على نفسه بالأذية ، والجزء من حيث جهله لا يعلم أن الحياة واحدة والمجموع واحد والعارف ونفسه واحد ، أعني نفس الجاهل ، فالجاهل إذا وصل إلى العارف بالمعرفة التي هي مفضية إلى الأحدية ، فكأنما طرأ على العارف ضرر يكون موجبه عارضا نسبيا ، يقابله بأحدية الحياة ، وذلك هو نضح الماء المذكور ، لأن الماء هو منبع الحياة ، فهذا معنى قوله : ( كلما نالني منها ضرر نضحت الموضع بالماء فبرئ ) .


وقوله : ( ثم فتح لي في آخر الصحراء عن جنات فدخلتها فيبس الماء فخرجت منها فنبع الماء ) .


أقول : معنى الفتح في آخر الصحراء عن الجنات هو استشراف العارف في عالم الدنيا إلى عالم الآخرة التي ينطلق عليها اسم الجنة ، وكونها في آخر الصحراء لأن الفتح هو عند منتهى اليقين بالدنيا ، فكأنه لما انتهى في الدنيا إلى المراد باستشرافه ، فتح له عن عالم الآخرة التي هي عالم الجنة ، وأيضا فإنه أول ما يوجد العارف ينطلق عليه اسم الجهل ولا معنى للجهل إلا التيقن بحقيقة الدنيا ، فإذا أخذ في الاستشراف إلى المعرفة ، ثم تمكن فيها وهي القوة المعبر عنها بالصلابة يفتح له باب إلى عالم الآخرة ، فيعود مشاهدا للعوالم الأربعة ، ومنها عالم الآخرة الذي هو اسم للجنة .


وقوله : ( فدخلتها فيبس الماء ) معناه أن عالم الجنة هو آخر الوجود لأن الاسم الآخر هو مكمل الأربعة ، فإذا وصل الشاهد إلى هذا العالم ، إما بموت ، وإما بشهود كما قال :


انقطع عالم الظاهر الذي موجبه الماء لأن عالم الآخرة لا يستمدون الحياة من الماء ، وإنما يستمدون الحياة من اللّه بالجعل وهذا الجعل هو


قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ إن اللّه يكتب إلى أهل الجنة ، أما بعد فإنني حي لا أموت ، وقد جعلتك حيا لا تموت “.



“ 118 “


وفي الحديث الآخر : “ من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت “


. فهذه الحياة استمدادها من اللّه تعالى وليس من الماء ، وإنما مدد العالم الظاهر لأنه أول موجود في الظاهر ، فوجل أن يستمد الظاهر منه حياة إذ هو منبع الحياة ، فإذا شهد العارف عالم الآخرة تنقطع عنه هذه الحياة المعهودة التي ممدها الماء ، وهذا معنى قوله : ( فيبس الماء ) لأن الشاهد في عالم شهوده يصدق عليه اسم الموت ، ومتى صدق عليه هذا الاسم كان في حال الشهود خارجا عن استمداده من هذه الحياة التي أصلها الماء واستمد من الحي الذي لا يموت .


وقوله : ( فخرجت منها فنبع الماء ) يريد به أنه إذا رجع الشاهد من الشهود يستمد الحياة من الماء كما قلنا ، فعند الرجوع تعود له الحياة ناشئا كالنشأة الأولى المبتدأ فيه ينبع الماء .


( ص ) [ قوله : ( ثم دخلت ظلمة ، فقيل لي : ألق ثوبك وارم الماء والأحجار فقد وجدت ، فألقيت كل شيء كان عندي ، وما رأيت حيث ألقيت وبقيت ، فقال لي : الآن أنت أنت ) ] .


( ش ) أقول : معنى قوله : دخلت ظلمة ، هذه الظلمة حضرة من حضرات الهوية ، فإن كل حضرة ينفرد منها بشرط الاتصاف بها تدرك ظلمانية لأن الهوية بريئة عن الظلمة والنور أيضا ، وهذا يرد على العارف بعد كما له وهي حذرات ناشئة من وصفه وصورة تمايزها هو أنه في حال التسمية بالتقييد وهو الحال الذي ينزل اللّه فيه إلى سماء الدنيا ، فيكون قد يسمى بالتقييد في حال إرادة النزول ، فيطلق على نفسه صورة من جملة المجموع ، وكيفية هذا الإطلاق الذي يوجبه التقييد هو أن يختصر من ذاته الواحدة الجامعة المنفردة صورة جامعة لمجموع ما في الذات المطلقة ، ويظهر لها من الذات المطلقة بنور ، ويستودع هذه الصورة المختصرة فيه ، فيطلق عليها اسم النزول وهي الصورة التي خلق آدم عليها ، فعند ارتفاعه من النزول يعود إلى الذات المطلقة وهذا العود اتصاف ، ففي حال إرادة الاتصاف تقيم له الصفات حضرات في حقيقتها التي هي الهوية ، وهي بريئة عن النور كما هي بريئة عن الظلمة ، فيشهد في هذه الحضرات صورة صفاته وأسمائه ، وبعد هذا شهود يعود إلى الاتصاف كما كان ، فشهود العارف لحضرات منفردة ، هو شهود اللّه المذكور في حال إرادة الاتصاف فكأنه في حال التفرد الجزئي عادت له حضرات هوية مشهودة عيانا ، فأي منها أراد الدخول فيها حال الاتصاف دخل فهذا معنى قوله :


“ 119 “


( دخلت ظلمة ) يريد بها حضرة من حضرات هويته ، وهذه صفات لا تكون إلا للكامل الواحد في عصره ، ولا يقدر أن يعبر عنها لكونه يشهد بحالها ويعبر عن معانيها ولا يمكن أن يظهر هذه المعاني وأسماء هذه الحضرات سوى الواحد المذكور ، فمن تكلف بالدعوى يجب على السامع أن يخبره على إظهار هذه المعاني الغامضة ، وصورة الإظهار وكيفية هذا الكون “ 1 “ ، ومعنى كيفية نشأة هذه الحضرات وأبنيتها ولميتها فيه وخصوصه فيها دون غيره من الأجزاء ، وهل هي متصلة بالكثرة أو منفصلة أو متحدة أو الموجود واحد ، فالعلة في تمايزها بخصوصك ما هي وما الحضرات التي يحكم لها بعدم النور ، وعدم الظلمة أتراها جسمانية أو لطائف ، فإن كانت جسمانية ، فيلتزم النور من أجل التمايز ، وإن كانت لطائف ، فتلتزم الظلمة إذ اللطائف المذكورة بريئة عن التمايز ، ونحن ندرك حضرات لا توصف بالنور ولا بالظلمة وهي تقييد الهوية في محل تريد به التمييز في ذاتها ، فإن وجد مدعي للكمال ، فيجب عليه في كماله حل مقفل ما تضمنته هذه الأسطر بالعلامات المذكورة ، فإن حكم عليها بعدم الصحة ، فيقول له : شيمتك الجهل ، وانفراداته أوصافك ، فأخبرنا من أين بطلانه من صفاتك المذكورة ، وأخرى أن لا يقف عليها إلا من هو أهلها إما وراثة ، وإما وهب من اللّه تعالى ، فلو لا الوراثة أو الوهب لما كنا نقدم قادرين على حل مقفل هذا الكتاب ومن ماثله .


وقوله : ( فقيل لي : ألق ثوبك ارم الماء والأحجار فقد وجدت ) معناه هو أنه عند حضور الحضرات المذكورة التي تقدم ذكرها في حال الرجعة من النزول يظهر بالحضرات المذكورة متباينة عنه ، وفي أيها أراد الاتصاف أفناها كالدخول فيها ، فهذا في حال الخلع كما أن اللّه تعالى بريء عن التقييد عند الرجوع من النزول ، فكذلك العارف يخلع القيد ويلبس الإطلاق ، ويدخل في أي حضرة أراد من هذه الحضرات فإلقاء الثوب هو هذا الخلع المذكور ، وأما رمي الماء والأحجار ، فهو عند الدخول في حضرة ظلمانية عارية عن التجديد والتمايز ، فحين دخوله فيها يعدم مجموع ما كان يتذكره في عالم الظاهر من الحياة الظاهرة والقوة المتصلبة وهي الماء والأحجار المرمية في حال الدخول ، فكأنه في حال حضور الحضرات له أمر بالدخول والناطق بالأمر قال له : إنك قد وجدت لأن الأمر حكم ولا بد له من أثر والقول له بأنك قد وجدت هو أثر الأمر المذكور وهذا المقام
..........................................................................................
( 1 ) الكون : كل أمر وجودي تحقق في الخارج على مقتضى مرتبته .



“ 120 “


بلوغ غاية ما مقصودة له ، فلذلك قيل له : قد وجدت ، قوله : ( فألقيت كل شيء كان عندي ، وما رأيت حين ألقيت ) معناه : يشير إلى اللقاء المألوفات المذكورة في حال الخلع والدخول في هذه الحضرة الظلمانية .


فقوله : ( فما رأيت حين ألقيت ) معناه أن العارف كلما استقر في حضرة أو مقام لا يلبث فيه أكثر من آن واحد ويأخذ في التزيد ، ومحال أن هوية اللّه تأخذ في الانتقاص ، فكذلك العارف بعد كمال المعرفة لا يأخذ في الانتقاص لأنه متصف بأوصاف الهوية في حال فنائه ، لكنه يأخذ في المظاهر ولا معنى للمظاهر إلا التزيد في الوجود ، فإذا دخل في حضرة تمشيته لا يلبث فيها أكثر من آن واحد ، ويعود إلى الظهور ، وهذا ينقص قول من قال : إن العارف باللّه يجوز أن يسلب معرفته ، فإن السلب ينقص وهذا بريء عن النقص لفنائه في الهوية الكاملة التي لا يسوغ فيها إطلاق النقص ، فكأنه حين دخوله في هذه الحضرة أراد الظهور بصفة التحول ، ومعنى قوله : ( فما رأيت حين ألقيت ) هو إرادة الظهور المذكور لأنه إذا بلغ الغاية في مقام لا يفتقر إلى التحول منه إلى مقام آخر ، وهذا أخذ في نمط التحول ، فلا يجب له الوقوف في مقام إذ لا غاية له فيه ، فكأنه يقول : من حين ألقيت ، وقيل لي : قد وجدت عدت إلى الظهور ، وبقيت عن نفسي الوقفة لأن الوجود المذكور وقفة .



وقوله : ( وبقيت فقال لي : الآن أنت أنت ) معنى بقائه هو البقاء المختص باللّه لأن اللّه يتحول فيها تعالى يسمى باقيا ، وكذلك الكامل بعد فنائه في الهوية يطلق عليه البقاء في أي مقام يتحول إليه وأي صورة يلج فيها ، وأعجب الأشياء من صفات العارف الكامل أنه يتحول من مقام إلى مقام واسم بقائه ينطلق على الأول مع تحوله عنه ، فكأنه قال حال ثبوتي هذا الآن في هذا المقام ينطلق على اسم البقاء وهذه كلها صفات يلتزم الكمال في الفناء بشرط الوقوف على صورة هذا الفناء ولولا وقوف هذا العارف على صورة هذا الفناء لما كان قيل له : أنت أنت ، ومعنى ذلك هو أنه في حال الخطاب من اللّه إلى الشاهد يتنازل اللّه له إلى مقام المماثلة في الصورة ، ويعود الشاهد مرآة لصورة اللّه التي تنازل فيها واللّه بنوره مرآة لصورة الشاهد والخطاب الجاري بين هذين الصورتين هو سريان اللطف النوري من اللطيف إلى الكثيف ، فكلما تحرك في خاطر الشاهد حرف أو معنى ينطبع في مرآته التي هي اللّه بنوره ، فيحصل له السماع والقبول بالانطباع في المرآة الكثيفة التي هي صورة العارف ، فمن هذه الأوصاف سمع الخطاب بالقول له : أنت أنت .


“ 121 “


( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : ترى ما أحسن هذه الظلمة ، وما أشد ضوءها ، وما أسطع نورها هذه ظلمة مطلع الأنوار ، ومنبع عيون الأسرار وعنصر المواد ) ] .


( ش ) أقول : إن مراده بقوله له فيض التعجب على الصفة من الموصوف ، فإن اللّه تعالى حجبت صفاته وأسماءه يجعلها حضرات ، ويتعجب بها كتعجبه من الشيء ، فإذا تعجب فاض التعجب على صفاته ، فيحصل للصفة التعجب أيضا ، وهذا المقام الذي قد قيل له فيه : ما أحسن هذه الظلمة من المقامات التي يظهر اللّه بصفاته وأسمائه متباينة ويقوم الشاهد في صورة متباينة أيضا ، فتكون الصفات المذكورة مقامات متعددة يتعجب منها المشهود كما يتعجب اللّه من مظاهره ، فهذا مقام من المقامات المذكورة وكونه ظلمة لأنه وصف من أوصاف الهوية ، وهي تستهلك أوصافها وحضراتها التي تليق بها ، فيجعلها كلها ظلمانية لأنها من حيث هي تباين نورها هذا النور المدرك بل تكون بالنسبة إلى هذا النور كأنه ظلماني ، وهو كذلك في الحقيقة لأنه لا تمايز فيه ولا فائدة في النور سوى التمايز لكنها ظلمة ليست من خارج ولا يلتبس بها الشاهد تلبسا ينسب إلى الدخول فيها ، لكنها ظلمة أحدية الشاهد لنفسه يظهر من نفسه لنفسه النورانية المقيدة ، فيدركها ظلمانية نسبية ، وفائدة الإطلاق والقيد ، فلما ظهر اللّه لهذا العارف الشاهد بالصفاء في مرتبة المقامات ، وهي متباينة عنه كما ذكرنا حصل التعجب وأفاض على الشاهد ، فقال له : ( ترى ما أحسن هذه الظلمة ) .



قوله : ( وما أشد نورها ) يلحظ منه في ظاهره تناقضا من أجل أن النور يباين الظلمة لكنها ظلمة تباين هذه الظلم ، فوجب أن يكون نورها يفضي إلى التعجب أيضا ، والدليل على أنها نور يباين هذه الأنوار ، كما أنها ظلمة تباين هذا الظلم تسميته لها بالضوء لأن الضوء نور مقيد في محل ينطلق عليه الضوء والنور لفظ عام مطلق على الضوء وغيره ، وهذا الضوء وصف لهذه الظلمة ، لأن نفس التقييد يوجب التسمية لتعريف المقيد ، فلما كانت الظلمة إطلاقا غير محدد ولا تمايز فيها كانت ثرية عن الأسماء إذ الأسماء موجبها التقييد ، فلما أراد اللّه أن يجعلها حضرات متعددة بقدرته جعل لها تعالى اسما يلحظ منها المناقضة لأن الاسم منتزع منها وهو الضوء ، وكما أن الضوء منتزع من إطلاق النور وهو مقيد كذلك انتزع لهذه الظلمة المطلقة منها اسم مقيد مناف للإطلاق ، فلحظت منه المناقضة كمناقضة حصر النور ، فإنه يدرك كأنه محصور وتيقن المدرك أنه مناقض لنفسه لأنه يعتقد أن النور ينحصر البتة ، فهذه المناقضة التي يلحظ من تسمية الظلمة بالضوء كما


“ 122 “


يلحظ تقييد النور في إطلاقه ، وأيضا فإن الحق إذا ظهر للشاهد من حيث هو يتسمى له بمجموع الأسماء في آن واحد ويدرك الشاهد هذه حقائق مختلفة متنوعة مضادة بعضها البعض كالرحمة والانتقام فلا يبغون أن تسمح له الظلمة بالضوء لأن كليهما وصفان لذات واحدة وما أسطع نورها عاد إلى العموم بذكر النور حيث كان الضوء وصفا مخصوصا من أوصاف النور ، وصورة هذا النور الموصوف به هذه الظلمة لأن هذه الظلمة ذاتية ، فمتى وصفت بالظلمة تكرارا كان هذا الوصف مميزا فيها وليس فيها تمايز إلا بالنور ، فوجب أن يكون هذا الوصف مطلق النور ، لأنه مميز ولا يقع التمايز إلا بالنور ، فالذات من حيث هي أحدية هي ظلمانية ، فإذا أرادت التكثر لا تدخل عليها النور فهو لكونها متكثرة والظلمة لكونها واحدة ، فلما تمايزت فيها المقامات كما ذكرنا في حال التعجب وجب أن يكون المميز النور ، فلهذا اتصفت بالنور إذ لحقها التمييز ، وكونه ساطعا لأنه لا يشوبه كثافة إذ هو منبع الأنوار ، فالأنوار المقيدة بالنسبة إليه كثائف ، وهذا نور مطلق في مقابلة الظلمة الذاتية ، إذ هذا النور ينشأ من هذه الظلمة وفي الحقيقة تتحرك الأوصاف كلها ، فلا نور ولا ظلمة لكنها لما أطلق عليها التقييد في كون المقامات تسمت بالنور والضوء للتمييز من أجل التقييد لا غير قوله : ( هذه الظلمة مطلع الأنوار ومنبع عيون الأسرار ) يعني بها أن الأنوار المقيدة من هذا النور الظلماني نشأت ، فكل منفرد مقيد ينطلق عليه نور فهو في الحقيقة مطلق ، وإطلاق وصف لهذه الذات الظلمانية يشهد مستنيرة لأنها في حال إرادة التقييد يظهر بنور يتميز فيه إذ لا تمايز سوى التقييد ، فكل نور يدرك مقيدا يكون مظهرها بإرادة التقييد ، وكل مقيد يدرك في شهود نسميه طالعا وهي محله ، فيكون مطلعا له فمن حين بدأ الشهود إلى حيث الكمال يدرك اختلاف الكمالات المقامات ، لأن الشاهد فيه في نمط الزيادة ، فكلما يزيد في المقامات يسمى ذلك التزيد طالعا ، وأما كونها منبع عيون الأسرار ، فالمراد من الأسرار ها هنا الاستمداد من سر الحياة وسر الحياة هو الماء فهو منبع العيون المنفردة من أنواع الحيوانات والماء يستمد من هذه الظلمة الذاتية لأنه أول موجود صادر عنها فهو يستمد منها الصفاء وفي حال الاستمداد يتصف بالحياة الأبدية ويفيض هذه الحياة على الأنواع المتعددة المرادة للظهور ، فكل نوع ينبع له عين بقدر سعته وصفة تقييده ، وكل مقيد فيه سر ، وموجب هذا السر في المقيد هو الماء ، وفيه سر الحياة بمجموع الاسم ، وهذا الاسم للذات المذكورة بلا واسطة ، وأما كونها عنصر المواد لأن كل مادة تتقيد في جهة فهي المقيدة بالحقيقة لأن مجموع الوجود المقيد


“ 123 “


يدخل في عموم اسمها الواحد وظلمتها نفيه ففي حال تقييده ممدة يفيض مختصر من مجموعها ، فهي عنصره على الإطلاق وفي حال فنائه يظهر عليه اسم أحديتها ، فلا كان ولا يكون ، وهي الباقية على مر الآباد ، وأصل كل باق ينطلق عليه عموم اسمها ، فالمواد تقييدها ، وفناؤها إطلاقها والتقييد قبل الفناء ، فلو لا أنها أصل لما كان الكمال عند الفناء إذ الفناء عود وهو ظهور إطلاقها على تقييدها .


( ص ) [ قوله : ( من هذه الظلمة أوجدتك ، وإليها أردك ولست أخرجك منها ) ] .


( ش ) أقول : معناه أن الذات في حال التقييد يطلق على نفسها اسم الكثرة ، بلا تزيد في حال هذا الاسم لكنها لنفسها تظهر بنفسها ، فكل مقيد منها وجد لأن الوجود هو إرادتها للتقييد ، فهي تمد المقيدين من إطلاقها والمدد نور والنور صادر عن هذه الظلمة ، فكل من يطلق عليه الوجود فهو مظهر مقيد متميز في نور صدر عن هذه الظلمة ، فبالحقيقة منها وجود التقييد ، وصفاتها الإطلاق ، وأيضا فإن العارف صورته مختصرة من مجموع الوجود بإرادة الوقوف عليه ، فمظهره ذاتي جامع في آن كون فيه ولا شيء ، فوجوده يصدر عن هذه الذات الواحدة بلا واسطة وينشأ هذا المظهر عن الظلمة لأنه غاية العارف في التوحيد وهو معرفة هذه الذات الحقيقية فمنها وجد تقييده وإليها يرجع إطلاقه .


فقوله : ( وإليها أردك ) يريد به هذا الإطلاق المذكور الذي إليه يرجع توحيد هذا المحقق إليه إذ لا معنى للتحقيق إلا الاتصاف بأوصاف هذه الذات ، والتحقيق نتيجة التوحيد والتوحيد نتيجة التقييد أي مرد المقيدات إليه ، والتحقيق تمكين هذا التوحيد بتكرار الإطلاق مع العوارض التي تعرض من المظاهر والتحول والشؤون ، وما أشبهه وكل هذه تحصل بعد التوحيد ، وهو رده إلى الظلمة .


( ص ) [ قوله : ( ولست أخرجك منها ، ثم فتح لي قد رسم الخياط فخرجت عليه فرأيت بهاء ونورا ساطعا ، فقال لي : رأيت ما أشد ظلام هذا النور ، اخرج يدك فلن تراها ، فأخرجت يدي فما رأيتها ، فقال لي : هذا نوري لا يرى فيه غيري نفسه ) ] .


( ش ) أقول : ظاهره يناقض القول بسلب المعرفة عن العارف كما ذكرنا وباطنه يلحظ منه أن العارف متى اتصف بالأوصاف الذاتية لا يجوز أن يطلق عليه الوجود المقيد كالحال في


قوله عليه السلام كان ولا شيء


وهو على ما عليه كان فقد يطلق العارف في ضمن المعرفة اسم التجزؤ وإطلاق هذا الاسم كالوجود مع اللّه فمحال أن يلحق العارف بالفناء الأحدي ويعود إلى التقييد فهذا معنى قوله : ( ولست أخرجك منها . . إلخ ) .

“ 124 “

( ش ) أقول : مراده بهذا الفتح هو نظر العارف إلى ما يلي الظاهر ، فإن الدنيا بالنسبة إلى مجموع الوجود كخرم الإبرة ، ولو أقلّ لساغ ، لكن أقل النسب غير منطوق بها فاستمداد الظاهر للكثرة من الذات الجامعة الواحدة بهذا القدر النذر ، فإذا اتصف العارف الكامل بأوصاف الذات بعد فنائه يعود نظره إلى عالم الظاهر بهذا السبيل الذي لا قدر له ، فكان هذا المقام قد حصل لهذا العارف بعد كماله بآن واحد في حال رجعته من شهود الكمال ، فعاد نظره إلى الوجود كما ذكرناه ، ولولا أنه يشترط في كماله الاطلاع إلى الوجود الظاهر لما كان تحدد له هذا السبيل النزر ، ولا كان يعود إلى التجزؤ ، 


قوله : ( فخرجت عليه ) معناه الرجوع من الخلع لكن هذا الرجوع مقيد برجوع الكمال ، فليس كل رجوع من خلع يكون على هذه الصفة وكونه مقيدا بالكمال لأنه ذكر فيه الفتح بعد الاتصاف بالظلمة الذاتية ، فإنه قبل كماله لا يزال في حكم التي ذكرها فعند الرجوع من الخلع المختص بالكمال يكون الشاهد الراجع قد تيقن بجزئيته الظاهرة النزرة ، فيفتح له في أحديته سبيل تجزؤ ، وهذا السبيل ينظر إلى ما يلي الدنيا ولا يكون إلا بعد رجوعه من شهود الكمال في الآن الآتي والخروج عليه محمولا لأن جسم العارف اللطيف يباين الكثافة الأرضية ويلحق بالنور الظاهر هذا عند الرجعة من الشهود ، وأما في حال الشهود فلا مثال للطافته ، فإذا باين جسمه في حال الرجوع هذه الكثافة المذكورة ، فيجب أن يرجع محمولا على النور إذ النور محل التحديد وهذا الفتح تحديد .


وقوله : ( فرأيت بهاء ونورا ) معناه أن الظاهر محل الاسم الجميل لأن موجب الكثرة والتباين أوجب الجميل ، لئلا يقع النفور بين هذه الكثرة المتباينة ففي حال الرجعة من الشهود يعود الشاهد إلى حكم التجزؤ فيظهر له عند الرجوع من الكمال الجميل بعثه لئلا يحصل له النفور في جزئيته بعد اعتقاد فناء الكثرة ، فهذا معنى قوله : بهاء ونورا وهذه كلها نعوت تدل على أن هذا المقام هو عند الرجوع من شهود الكمال ، فالنور لتصديق التمايز والبهاء لعدم النفور .



وقوله : ( فقال لي : رأيت ما أشد ظلام هذا النور ) معناه أن الأصل في الوجود الظاهر هو تقييد الذات الظلمانية إذ الأصل في الحقيقة الظلمة ، إذ الذات عارية عن التمايز ، فإن كان الشاهد يشهد الكثرة في حال الرجوع ، فالأصل عنده فناؤها لأنه كماله ، فيدركها في نور متمايزة ، ويتيقن أنه لا حقيقة لهذا النور ، إذ لا كثرة في الحقيقة ، فيدرك هذا النور ظلمة ، وإن كان المراد بإدراكه الاتصاف بالتجزؤ لكن نفسه الكاملة الشريفة



“ 125 “



تعاف الكثرة من أجل أحديتها الذاتية لأن الظلمة ها هنا بعد كماله عوارض بالنسبة إلى التجزؤ لكن العظمة تحتوي على هذه العوارض .
فقوله : ( ما أشد ظلام هذا النور ) يريد به نفور نفسه عن التجزؤ لا غير . قوله :
أخرج يدك فلن تراها ) معناه لا تطلب التحقيق في يقين هذه الظلمة وإن تحقق فلا يعطيه اليقين زيادة على هذا الاسم فليس يفتقر بعد فجأة هذه الظلمة إلى طلب إظهار ما وراءها فإنه تيقن أن وراءها حقيقة فيها اليد .


فقوله : ( أخرج يدك فلن تراها ) معناه تمكين اليقين بعدم هذا النور المعتقد وهو الوجود الظاهر فإن الشاهد لا يتغير عليه في حال الرجوع إليه تمكين اليقين لكن نفس التجزؤ يوجب التردد في ظاهر اليقين والدليل عليه إخراج يده عقيب الأمر فلو لا وجود تردد ما بشرط الكمال لما كان أخرج يده ولا كان أمر بها ، قال اللّه تعالى لخليله : قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [ البقرة : 260 ] ، وكذلك قيل لموسى عليه السلام : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ [ القصص : 32 ] فهذه كلها عوارض على الكاملين ليتمكن اليقين وموجب هذه العوارض حكم التجزؤ قوله : فأخرجت يدي فما رأيتها معناه أنه لما أراد تمكين اليقين في الظاهر عاد إلى الأصل وهو التحقيق الذي كان عليه قبل الرجوع فإن هذه حصر يكون قد أحصرت لهذا الشاهد في حال الشهود وأدرك فيها صورة الفتح والاطلاع إلى عالم الظاهر ، فوجده ظلمانيا لا يدرك فيه ، فتحقق عند رجوعه أنه لا حقيقة لهذا النور الظاهر .


قوله : ( هذا نوري لا يرى فيه غيري نفسه ) أقول : إن هذا التنزل من صرف التحقيق والمراد به أن الكثرة أطوار الواحد وتمايزها كثافة الظهور وليس الأطوار غير المنظورة بل لا شيء معه في الوجود ، فإذا أفرد نفسه من هذه الكثرة كان بالحقيقة هو الرأي وما تم غيره فهو بالحقيقة رأى أماراته ، فمن أجل الإطلاق ، وأما كونه مرئيا ، فمن أجل تقييد الأطوار ، لأن نوره مميزها بدليل قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ النور : 36 ] ، فهذا نوره يميز أطواره ومظاهره فهو موجود بالجمعية وإطلاقه بنفسه لا يدركه سواه ولولا فناء الشاهد في الهوية لما أدرك هذا المقام ، فلو لا فنيت أعيان الكثرة لكان الكل مدركا للإطلاق بغير نور ، فلما أراد التكثر ظهر بالنور المذكور وهي أطواره المتكثرة ، وما ثم إلا ذاته بلا غير إذ لو كان غير الماء رأى نفسه فالحقيقة له ، وكل موجود رأى وهو الموجود ، فلهذا لا يرى غيره نفسه لأنه لا غير .



“ 126 “



( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : ارجع إلى ظلمتك ، فإنك مبعود عن أبناء جنسك ) ] .


( ش ) أقول : معنى قوله : ( ارجع ) يريد به عودة إلى الإطلاق العام الذي يجعل هذه الحضرات واحدة إذ هو أصلها ومرجعها إليه وأيضا فإن العارف في حال شهود الظاهر ، ولو أدرك الكثرة فقصارى أمره الأحدية ، فعند ما يتطور بالمظهر عن ظهوره حضرات لابد له أن يدخلها شيئا فشيئا ، فعند دخوله في حضرة واحدة لا ثبوت له ، فيرجع إلى الإطلاق عند الخروج من هذه الحضرة التي لبث آنا واحدا ظلمانيا كانت أو نورانية ، لكنها قيد وليس من صفة التقييد ، فعند رجوعه من كل حضرة مقيدة لابد له في عقيب هذا الرجوع من الإطلاق ليحوز كماله في حالتي الإطلاق والتقييد ، فهذه الحضرة التي قيل له فيها ارجع قد كانت متصفة بالتقييد ، فأريد له الإطلاق عند الرجوع منها ولا رجوع من التقييد إلا إلى الإطلاق ، وهذا الرجوع يكون في أماكن مختصة بعد اليقين بما يستكشف عن حقيقته ، فلما كان هذا المقام إنما قصد الشاهد فيه تمكين تعيينه بظلمته أمر بالرجوع إلى ظلمة الحقيقية التي لا تتعدد حضراتها قوله : ( فإنك مبعود عن أبناء جنسك ) ، معناه أن هذا ليس مقام من اتصف بالإطلاق ، وإنما هو مقام المقيدين إذ هو مقيد باسم حضرة وأهل التقييد لا ينطلق الإطلاق على محالهم وأهل هذه الحضرة قد صدق عليهم التقييد بانفراد هذه غير الهوية ، فلا يصدق عليها الإطلاق ولا على أهلها ، وإن ولج فيها المطلق ، فلا يطلق عليها محل من وجوه متعددة منها أنه لا وقفة له فإذا أولج في محل كان جاريا غير واقف ، فبالحقيقة لا يدرك هذا في محل إذ المحل المقيد للواقف أو المتصف بالتجزئ ، وهذا غير واقف فلا متجزئ ، فلا يطلق عليه المحل المتجزئ ، والثاني أنه حين فني واتصف بأوصاف الخوية برء عن التقييد في الباطن وإن صدق عليه التجزؤ في الظاهر ، فإن كماله أوجب له هذه الصفة كالنزول في الثلث الأخير من الليل ، فإن النزول لا يكون إلا صوريا وهو تنازل منه تعالى فحظ العارف من التجزؤ تصديق اسم الظاهر لا غير الثالث أن هذه المقامات المتعددة يستوعبها حقيقة العارف ، فإن أطلق عليه الإطلاق كان في لا مقام وإن أطلق عليه التقييد كانت المقامات كلها له مستهلكة في ملكه فلا يختص منها شيء دون شيء وهذا التمييز لا يكون لمشارك في المثل الصوري أو في الرتبة أو في الاتصاف هذا على الصورة الروحانية ، فلا مثل لصورته وفريد عصره فلا ثاني له ومختص بالكمال دون غيره من أبناء جنسه ، فلا مرتقي إلى مرماه ، فهذا بعده من أبناء جنسه .


( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : ليس في الظلمة غيرك ولا أوجدت منها سواك منها أخذتك ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله ليس في الظلمة غيرك إشارة إلى ما ذكرناه من تفرد العارف



“ 127 “


بأحديته في عصره لأن الكامل واحد في كل زمان ، وإنما قلنا : إنه واحد لأن أبا البشر واحد والحكمة في خلقه واحد لأنه لما كان اللّه تعالى ولا شيء وأراد الظهور بالوجود ، فأول ما ظهر بالنور الذي فتق العمى ، وكان هذا النور مرآة للتمايز فتميزت صورته المسماة فيه على سبيل الانطباع ، فكان الناظر فيها نفسه هو اللّه والمنظور هي الصورة الآدمية ، ولهذا قيل : إنه على الصورة ، وقيل : على صورة الرحمن كل هذا إشارة إلى انطباع صورته في مرآته ، فهو نوره فلم يزل يلحظ نفسه في المرآة المسماة بالنور ما دام أبو البشر حيا وفروعه ينتج التمايز في النور وهو ما تخلف من سعة المرآة عن صورته المقيدة لأننا إذا أطلقنا الاسم وجب التقييد والقصد في خلق هذا النور الذي هو التمايز لا غير فلما ظهر به ولم يكن معه شيء وجب أن يدرك فيه صورته المسماة واستمر هذا الإدراك إلى حيث انتقال آدم إلى الآخرة ، وهو إرادته لظهور الاسم الآخر ليتصف به ، فإنه عند الأولية لا آخر حتى يصدق الانتقال على المسمى فحين زوال صورة آدم من المرآة وهو انتقاله وصورة اللّه لا تزول ، وإذا لم تزل فلابد لها من المقابلة للمرآة وهو الانطباع فانتقل المنطبع بإرادة ظهور الاسم كاملا ، فلا يزال ما دام اللّه موجودا صورته المسماة منطبعة في مرآته النورية وهذا المنطبع فيها واحد في كل عصر لا يشاركه في كماله آخر لأن اللّه واحد لا ثاني له فليس له انطباعان معا فمن قيل أن العارف واحد وهو المنطبع المذكور فعند انتقاله لابد من عارف آخر يكون وارث الانطباع وتكون صورته مخفية في صورة العارف المنطبعة حقيقة فعند انتقال هذا الكامل يظهر هذا الخافي بالوراثة معلم المهدي في ليله ، وهذا ظهور من خفاء ، وليس ذلك تكوين نشأة ، فلا يتخلف الزمان بغير كامل إذ صورة اللّه موجودة على الدوام والعلة في انتقال هذا المنطبع ظهور الاسم لا غير ، وإذ قد أوضحنا هذا لا سبق ظهور علينا ، بل بوهب من اللّه تعالى جرى هذا الإيضاح لهذا المعنى ولا يريد له جريا سوى الهداية للواقف عليه باليقين الباتّ للشك ، وهذا المعنى قد تفردنا بإظهاره دون من تقدم علينا من الأولياء الكاملين فمن تخلف بالمقابلة في الدعوى وقدر على تكوين الرد عليه ، فليفعل وإلا فلا خالق سوى اللّه ، فلا راد له من المخلوقين ، فهذا معنى قوله : ( ليس في الظلمة غيرك ) إذ الظلمة للهوية والهوية للّه واللّه واحد وصورته المنطبعة واحدة كما قلناه ، وهو العارف المذكور في كل عصر ، فكأنه قال : ليس في الهوية سواك إذ لا عارفا في عصر واحد ، وقد قلنا في كتاب الختم أن الظلمة للعارف والنور للجاهل ، فمراده بقوله : هذا أنه لا عارف في وقتك سواك .


وقوله : ( ولا أوجدت منها سواك ) إشارة إلى ما ذكرناه من أن أول متميز في النور هو اللّه لنفسه والمنطبع هي الآدمية ، وهذه الظلمة بهوية اللّه ، وليس مخلوقا من الهوية سوى



“ 128 “



الكامل ، فهو مخلوق على صورة الهوية ، والمخلوقات منه إذ البشر فرع آدم ، فليس في الهوية سوى هذا الواحد المنطبع ، وإن عدنا إلى الأصل ، فليس سوى اللّه وموجب هذا البيان تأكيد صدق الجهل على الجاهل قوله : ( منها أخذتك ) يريد به الوجود من الهوية المتصفة ، وفيه إشارة إلى اقتسام الصورة الرحمانية بالوجود وتمام هذه الإشارة “ 1 “ ألا إلى اللّه تصير الأمور ، فمرجع الأسماء إلى اسم اللّه ، كما أن الهوية أصل الوجود ، فمن ظلمة الفناء التي هي اسم للهوية ، وجد هذا العارف ، ووجوده أخذه من الإطلاق ، ولا معنى لكماله إلا رده إلى فنائه الظلماني ليتصف بأوصاف الهوية بعد هذا الكمال .


( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : كل موجود دونك خلقته من نور إلا أنت ، فإنك مخلوق من الظلمة ) ] .
( ش ) أقول : مراده بهذا التنزل أن الموجودات المتكثرة هي مخلوقة فبما تخلق من سعة المرآة ، فكلما تطور اللّه تعالى بصورة وظهر بها أراد لها التمييز عما سبق عليها ، فتصطدم المظاهر كاصطدام العناصر في حال رؤية البرق ، فيخلق البرق من الظاهر على العناصر ، وهذا الظاهر على العناصر هو مثال الطور الأخير الذي دخل على الأطوار السابقة ، وأريد له التمييز ، فخلق من النور الذي هو السعة الفاصلة في المرآة هذا مراده ، بقوله : ( كل موجود دونك خلقته من نور ) .


وقوله له : ( إلا أنت فإنك مخلوق من الظلمة ) مراده الخلق على صورة الهوية إذ الهوية ظلمانية ، فالمتميز في نورها منها والمميز هو صورتها المختصرة منها والمنطبع هو الكامل كما قلناه ، وكونها مخلوقة من الهوية لأنها في حال الانطباع يستمد منها بصورة اصطلحنا على تسميتها بالواقف في كتاب الختم ، وأوضحناها هناك وألفينا بيانها ها هنا إذ ليس في هذا الوارد ما يقتضي الكلام عليه ، فالحاصل من قوله : ( إنك مخلوق من الظلمة ) هو أنه مخلوق في الهوية إذ هو أول منطبع في حال الانتقال .
( ص ) [ قول : ( ثم قال لي : وما قدروا اللّه حق قدره لو كان في النور لقدروه : أنت عبدي حقا ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( وما قدروا اللّه حق قدره ) أي أنه لا يطلق عليه التقييد ،
..........................................................................................
( 1 ) الإشارة : مع القرب مع حضور الغير كالكلام بالغمزة بين الشياطين ، وهو المسمى بخائنة الأعين ، فإن الكلام حق الناطقة ، وقد خانتها الغمزة في ذلك .



“ 129 “

وإن ظهر في أطواره لكن الجاهل لا يعتقد أن اللّه طورا من جملة الموضوع الواحد وشرط جهله أنه لا يطلق على نفسه اسم الهوية ، فما دام يدرك الكثرة فلا يعرف اللّه إذ يعتقد أنه واحد يشبه الجملة إذ هم متشابهون واللّه بريء عن التشبيه ، وقد ضرب على قلب هذا الجاهل فلا يعرف أن الوجود فان في الهوية والحقيقة لها ، فلا يعرف اللّه على حقيقته إلا من وقف على هذا الفناء ، فكان هذا لا يعرف إلا نفسه وعلى الإطلاق لا يعرف اللّه إلا اللّه وتأييده قوله تعالى : وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [ الشورى : 51 ] ، فكل هذه معرفات أنه ما دام الشخص في حكم البشرية فلا يعرف اللّه حقيقة ، فكل بشر حقيقة يطلق على ذاته البشرية لا يعرف اللّه حقيقة ، فالعارف الكامل إنما يعرف اللّه حقيقة ، وقال : قد قال لي : وقد كلمني وقد رأيته بعد فنائه وخروجه عن حكم البشرية ، فمتى وجد من يتصف بالبشرية ، ويقول : قد رأيته يكون قد كفر في الظاهر وأخطأ في الحقيقة فالحاصل من قوله : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ الأنعام : 91 ] أنه لا يقدر على معرفته بشر ولا يقوى على معرفة نفسه سواه قوله : ( لو كان في النور لقدروه ) معناه أن النور محل التمييز والتشبيه والمماثلة ، فلو أنه يحتمل التشبيه لكان النور محله وكل حال في النور مدرك إذ لا مثال يدرك بعضها بعضا في النور وهذا ليس له مثل فلا يدرك إذ لا يدرك الشيء إلا مثله وأيضا فإن حقيقته بريئة عن التكثير ، فليس فيها متشابهون ، ولو أن في حقيقته احتمالا للتكثر لكان فيها نورا إذ هو المميز للكثرة ، وفي حقيقته لا تمييز فلا نور فلا إدراك فلا معرفة إذ العارف مستقل بالمعرفة وما دام في النور لا ينطلق عليه الاستقلال ، فلو أن اللّه في محل التمييز لما كان العارف يفتقر في محال معرفته إلى الخروج من النور ليدرك اللّه على حقيقته .


قوله : ( أنت عبدي حقا ) يريد به أن العباد مطلق الموجودات ، ومن لم يعرف اللّه فليس بموجود إذ لا حقيقة لموجود سوى هذا الواحد إذ لا يعرف اللّه سواه والمتخلف عن المعرفة فان في حقيقة هذا العارف الواحد إذ هو مستعلي بمجموع الوجود ، وإذا كان العارف موجودا يجب أن يكون الموجود كله موجودا وهو جمع عبودية بدليل قوله تعالى :
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ [ مريم : 65 ] ، فهذه العبودية “ 1 “ عامية
..........................................................................................
( 1 ) العبودية : فهي في اصطلاح أهل الحقيقة : الوفاء بالعهود والرضا بالموجود والصبر عن المفقود ، وقيل : هي الاختيار فيما يبدو من الأقدار ، وقيل : هي التبري من الحول والقوة ، وقيل : معانقة



“ 130 “



واحدة تستهلك حقيقة كل من يدخل تحت حوطتها ، وتبقى حقيقتها وحقيقتها هو العارف إذ هو مجموع الوجود .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : إن أردت أن تراني فارفع المستور عن وجهي ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( إن أردت أن تراني ) هو أنه إذا أريد أن يرى اللّه صورة يعتقد أولا أنه محجوب ، وإذا تيقن أنه محجوب فلا يراه حتى يرفع الحجب ولا يدرك وراء الحجب إلا صورة ، وقد جاء في حديث
النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ رأيت ربي في أحسن صورة “ 1 “ “ 
فكأنه قال : إذا أردت أن تراني في الصورة فارفع الحجب المعتقدة أنها مانعة لأن الهمة للرائي يقتضي اعتقاد المنع والمنع حجب متعددة لأنه مختلف الأنواع ، ولهذا لا يوصف بحجاب واحد ، وأيضا ، فإن حقيقة اللّه من حيث هي لا ثاني فيها ، والإرادة للرأي تقتضي الثنوية فيضطر المريد إلى الصورة والصورة محجوبة كما قلنا ، فالمراد للصورة ينبغي أن يرفع الحجب حتى يراها .


* * *


المأمورات ومفارقة المنهيات . وقال ذو النون : العبودية أن تكون عبده في كل حال ، وقال الجريري : عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون . وقال أبو علي الدقاق : أنت عبد من أنت في أسره دينارا كان أو درهما أو امرأة أو غير ذلك ، ولهذا
قال النبي عليه السلام : “ تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة “


ورأى أبو يزيد رجلا فقال له : ما حرفتك ؟ فقال : خربنده ، فقال : أمات اللّه حمارك لتكون عبد اللّه لا عبد الحمار . وقال بعضهم : متى نفيت عنك سكوتك عن اللذة واعتمادك على الحركة فقد أعطيت العبودية حقها انظر : ( جامع الأصول ص 308 ) .
..........................................................................................
( 1 ) رواه الترمذي ( 5 / 367 ) ، وأحمد في المسند ( 5 / 243 ) .
.

* * *

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المشهد الثاني مشهد نور الأخذ بطلوع نجم الإقرار .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المشهد الثاني عشر مشهد نور الأحدية بطلوع نجم العبودية .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الحادي عشر مشهد نور الألوهية بطلوع نجم “ لا “ .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الرابع مشهد نور الشعور بطلوع نجم التنزيه .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الخامس مشهد نور الصمت بطلوع نجم السلب .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الثالث عشر مشهد نور العمد بطلوع نجم الفردانية .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: