منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
أهلاً ومرحباً بك
يشرفنا دخولك منتدى المودة العالمي
منتدى المودة العالمى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى المودة العالمى

ســـاحة إلكـترونية جــامعـة
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي   المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:25 pm

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ ابن العربي مع شرح ست العجم بنت النفيس البغدادية

المشهد الثالث “ 1 “ مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد
بسم الله الرحمن الرحيم 
أشهدني الحق بمشهد نور الستور وطلوع نجم التأييد .
وقال لي : أتعرف بكم حجبتك ؟
قلت : لا .
قال : بسبعين ستار “ 2 “ . فإن رفعتها لم ترني ، وإن لم ترفعها لم ترني .
.............................................................
( 1 ) في النسخة ( ط ) : ( الفصل الثالث ) . وسقط في ( ط ) ( بسم اللّه الرحمن الرحيم ) ، وفي النسخة ( خ ) : ( سقط العنوان ) .
( 2 ) في نسخة المخطوطة ( ستارة ) .
وانظر حديث : ( إن للّه سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما امتد إليه بصره من خلقه ) . وفي رواية أخرى : ( سبعين حجاب ) بدون كلمة : ( ألف ) .
عن " أنس " رضي اللّه عنه عن النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) قال : ( سألت جبريل هل ترى ربك ؟ قال : إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور لو رأيت أدناها لاحترقت ) رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه قائد الأعمش ، قال أبو داود : عنده أحاديث موضوعة . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : يهم . وعن عبد اللّه بن عمرو ، وسهل بن سعد ، ( رضي اللّه عنهما ) ، قالا : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : ( دون اللّه سبعون ألف حجاب من نور وظلمة ما تسمع نفس شيئا من حس تلك الحجب إلا زهقت نفسها ) رواه : أبو يعلى والطبراني في الكبير عن عبد اللّه بن عمرو ، وسهل أيضا وفيه موسى بن عبيدة لا يحتج به ، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رجلا أتى النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) فقال : يا محمد هل احتجب اللّه عز وجل عن خلقه السماوات والأرض ؟
قال : نعم بينه وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور ، وسبعون حجابا من نار ، وسبعون حجابا من ظلمة ، وسبعون حجابا من رفارف الإستبرق ، وسبعون حجابا من رفارف السندس ، وسبعون حجابا من در أبيض وسبعون حجابا من در أحمر ، وسبعون حجابا من در أصفر ، وسبعون حجابا من در أخضر وسبعون حجابا من ضياء استضاءها من ضوء النار والنور ، وسبعون حجابا من ثلج ، وسبعون حجابا من ماء ، وسبعون حجابا من غمام ، وسبعون حجابا من برد ، وسبعون حجابا من عظمة اللّه التي لا توصف . قال فأخبرني عن ملك اللّه الذي يليه قال -



“ 48 “
ثم قال لي : إن رفعتها رأيتني ، وإن لم ترفعها رأيتني .
ثم قال لي : إياك والاحتراق .
ثم قال لي : أنت بصري ، فكن في أمان : وأنت وجهي ، فاستتر .
ثم قال لي : ارفع الستور كلها عني ، واكشفني ، فقد أبحت لك ذلك ، واجعلني في خزائن الغيوب “ 1 “ حتى لا ترى “ 2 “ غيري ، وادع الناس إلى رؤيتي ، وستجد خلف كل ستار “ 3 “ ما وجد الحبيب “ 4 “ .
فتأمل واقرأ : " سبحان " “ 5 “ فإذا وصلت " السميع البصير " “ 6 “ فافهم مرادي ، وأخبر العباد بما رأيته ، تشوّقهم إلي وترغبهم فيّ وتكون رحمة لهم .
.......................................................
- النبي ( صلى اللّه عليه وسلم ) أصدقت فيما أخبرتك يا زفر قال نعم قال : فإن الملك الذي يليه إسرافيل ثم جبريل ثم ميكائيل ثم ملك الموت صلى اللّه عليهم أجمعين ، رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد المنعم بن إدريس كذبه أحمد وقال ابن حبان كان يضع الحديث . انظر : ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد :
1 / 79 ، 80 ، وانظر معجم أبي يعلي : 1 / 90 ، وانظر أيضا مسند الروياني : 2 / 212 ، والطبراني في معجمه الكبير 6 / 148 ، والسنة : لابن أبي عاصم : وقال : إسناده ضعيف : 2 / 367 ، وانظر الفردوس بمأثور الخطاب 2 / 221 / ( 3074 ) .
( 1 ) على هامش النسخة المخطوطة كتب : ( القلوب ) وكأنها بدلا من الغيوب .
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( حتى لا يراني ) .
( 3 ) في النسخة المخطوطة ( د ) : ( ستارة ) .
( 4 ) يصح أن يكون الحبيب هنا هو سيدنا رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فلم يصل أحد إلى مقام من المقامات إلّا عن طريقه ( صلى اللّه عليه وسلم ) فلم يبلغ أحد من الرفعة والعلو والحب مثله ( صلى اللّه عليه وسلم ) وما نال أحد من أولياء هذه الأمة ، بل وغيرها بغير رضاه حتى أبو البشر آدم ( عليه السلام ) .
( 5 ) أي : سورة الإسراء الآية رقم ( 1 ) ونصها :سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( 1 ) .
( 6 ) وهو نهاية الآية ، ستكون شاهدت كثيرا من الأسرار فافهمها ، وانقلها لهم بعد أن تفهمها .
وهذا هو المقصود من الفهم ، لا النقل بلا فهم . ولذا قال له : ( ارفع الستور ، واحدا واحدا ) حتى يتم لكل مرحلة فهمها ، والمراد منها ، وإلّا فمن أين يأتي التشويق في قوله : ( تشوّقهم إلى وترغبهم فيّ ) ، وبعد التشويق يأتي الترغيب ، فتحدث الرحمة إذا حدث الترغيب في الجناب العالي وهو قوله : ( وتكون رحمة لهم ) . ( المحقق ) .

“ 49 “
ثم قال لي : ارفع الستور واحدا فواحدا “ 1 “ .
فرفعت الأول “ 2 “ : فرأيت العدم “ 3 “ .
..........................................................
( 1 ) في النسخة ( ط ) استبدل الأرقام للستور بحساب الجمّل ، بدلا من الكتابة باللغة العربية مثل : الأول ، الثاني ، الثالث . . . . . . وهكذا فكتب : ( الحرف " أ " بدلا من : الأول ، والحرف " ب " بدلا من : الثاني ، والحرف " ج " بدلا من : " الثالث " ، وهكذا كان الترقيم لهذه الستور التي رفعها حينما طلب منه ذلك ) . ولم أعرف هل النسخة التي اعتمد عليها صاحب هذه النشرة بها ذلك ، أم هذا تصرف خاص في النسخة التي بيده ، ولم يسجل هو في هذه النشرة أية بيانات عن النسخة التي رجع إليها في نشرته هذه لذا فإننا سنعتمد ما وجدناه في نسختنا التي نقوم بتحقيقها باعتبارها أصلا ، وسنهمل أي زيادات تكون موجودة في النسخة ( ط ) إلّا إذا اقتضت ضرورة النص ذلك ، بعد أن نشير إليه في هامش التحقيق . ( المحقق ) .
( 2 ) في النسخة ( ط ) : فرفعت الحرف ( أ ) .
( 3 ) أمّا تحقيق كلمة ( العدم ) : فإن العدم للمكن ذاتي أي من حقيقة ذاته أن يكون معدوما والأشياء إذا اقتضت أمورا لذواتها فمن المحال زوالها ، من المحال زوال الحكم بالعدم عن هذه العين الممكنة سواء اتصفت بالوجود ، أو لم تتصف فإن المتصف بالوجود ما هو عين الممكن وإنما هو الظاهر في عين الممكن الذي سمي به الممكن مظهرا لوجود الحق فكل شئ هالك فلهذا نفينا عن الحق إطلاق لفظ الشئ عليه ويكون الاستثناء استثناء منقطعا مثل قوله : " فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس " ألا ترى لما استحق الحق الوجود لذاته استحال عليه العدم كذلك إذا استحق الممكن العدم لذاته استحال وجوده فلهذا جعلناه مظهرا ، قلنا في كتاب المعرفة إن الممكن ما استحق العدم لذاته كما يقوله بعض الناس وإنما الذي استحقه الممكن تقدم اتصافه بالعدم على اتصافه بالوجود لذاته لا العدم ولهذا قبل الوجود بالترجيح إذن فالعدم المرجح عليه الوجود ليس هو العدم المتقدم على وجوده وإنما هو العدم الذي له في مقابلة وجوده في حال وجوده أن لو لم يكن الوجود لكان العدم فذلك العدم هو المرجح عليه الوجود في عين الممكن هذا هو الذي يقتضيه النظر العقلي وأما مذهبنا فالعين الممكنة إنما هي ممكنة لأن تكون مظهرا إلا لأن تقبل الاتصاف بالوجود فيكون الوجود عينها إذن فليس الوجود في الممكن عين الموجود بل هو حال لعين الممكن به يسمى الممكن موجودا مجازا لا حقيقة تأبى أن يكون الممكن موجودا فلا يزال كل شئ لك كما لم يزل لم يتغير عليه نعت ولا يتغير على الوجود نعت فالوجود وجود والعدم عدم والموصوف بأنه موجود موجود والموصوف بأنه معدوم معدوم هذا هو نفس أهل التحقيق من أهل الكشف والوجود ثم يندرج في هذه المسألة الوجه الذي له الإمام وهو الوجه المقيد بالنظر وبه تميز عن الخلف فإذا كان الشخص يرى من خلفه مثل ما يرى من أمامه كان وجها كله بلا قفا فلا يهلك من هذه صفته لأنه يرى من كل جهة فلا يهلك لأن العين تحفظه بنظرها فمن أي جهة جاءه من يريد إهلاكه لم -
 
“ 50 “
ثم الثاني “ 1 “ : فرأيت الوجود “ 2 “ .
ثم الثالث : فرأيت الموجود “ 3 “ .
ثم الرابع : فرأيت العهود “ 4 “ .
ثم الخامس : فرأيت الرجوع “ 5 “ .
..................................................................
- يجد سبيلا إليه لكشفه إياه كما يتقي صاحب الوجه المقيد من يأتيه من أمامه . انظر تفاصيل ذلك في : أجوبة ابن العربي على أسئلة الحكيم الترمذي .
الحكيم الترمذي السؤال السابع والتسعون . من كتاب الفتوحات المكية .
( 1 ) في النسخة ( ط ) : كتب ب ) بدلا من الثاني . و " ب " تعني الرقم ( 2 ) في حساب الجمّل .
( 2 ) الوجود : هو : وجدان الشئ نفسه في نفسه ، أو غيره في نفسه ، أو في غيره في محل ومرتبة ، ونحوهما ، فيكون الوجود على مراتب : هي : الوجود في التعين الأول ، والوجود في التعين الثاني ، والوجود الظاهر في المراتب الكونية ، وهو ظهوره في مرتبة الأرواح ، والمثال ، والحس ، المسمى كل تعين منها من الوجود خلقا وغيرا . والوجود الظاهري : وهو تجلي الحق باسمه الظاهر في أعيان المظاهر . والوجود الباطني : وهو وجود كل باطن حقيقة ممكنة ، والوجود العام : وهو اسم الوجود باعتبار انبساطه على الممكنات ، وبهذا الاعتبار يسمى صورة جمعية الحقائق ، والوجود الظفر : يطلق ويراد به وجدان الحق في الشهود ، وأخيرا وجود السيّار : وهو منزل من منازل السائرين إلى اللّه تعالى ، وهو أحد المنازل العشرة التي يشتمل عليها قسم النهايات . انظر القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية بتحقيقنا 2 / 382 .
( 3 ) ( الموجود ) : هو ظاهر الممكنات الذي هو تجلي الحق بأحكامها المعبر عنها بظاهر الوجود ، وبظاهر الحق في اسمه تعالى :هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُآية رقم ( 3 ) من سورة الحديد . وبتجلياته المظهرة لأحكام معلوماته ، التي هي حقائق مكوناته ، فكل ما يصح ظهوره لغير الحق فإنما هو من قبيل هذا القسم . لاستحالة إدراكنا لذاته ، ولحقائق معلوماته . انظر : القاشاني : معجم المصطلحات. . 2 / 91 .
( 4 ) العهود : ( مفردها العهد ، وهي كما في اللغة ، إلّا أنها عند ساداتنا الصوفية أسمل لتعلق العهد عندهم باللّه ، وليس بالمخلوق . وهو عندهم الوقوف مع الأمر للأمر لا غرضا لعوض بل وقوف عند الحد ، وفاء بما أخذ على العبد يوم : (ألست بربكم) .
انظر : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية 2 / 393 .
( 5 ) هو : ( رجوعك منك إليه ، به ) .
يقول ابن العربي أثناء إجابته على أحد أسئلة الحكيم الترمذي : الرجاء : الطمع في الآجل .

“ 51 “
ثم السادس : فرأيت البحور “ 1 “ . 
ثم السابع “ 2 “ : فرأيت الظلمات “ 3 “ .
..........................................................
- والخوف : ما تحذر من المكروه في المستأنف ، ولهذا يجنح إلى التولي ، وهو رجوعك إليك منه . 
ثم نقول: إن الرجوع هو رجوع العبد من نفسه إلى اللّه أي يسلم قيادها إليه بلا اختيار  
انظر : ابن العربي : الجواب المستقيم بتحقيقنا تحت الطبع . 
( 1 ) ( البحور ) : البحور لها معان عديدة عند الصوفية ، فمنها بحر الملكوت ، وبحر الجبروت ، وبحر القرآن ، وغير ذلك . وكلها بحور من النور ، فمثلا إذا غمس الإنسان في بحر القرآن غمسة واحدة كأنما ختم القرآن مائة ألف ختمة . ويسمون أيضا البحور : همم الأولياء والصالحين فإن درجة القطبانية في حضيض درجة الرسالة ، والبحور عبارة عن الأقطاب ، ومن هو أعلى منهم . 
قال ذلك " ابن أنبوجة " أكرمه اللّه أثناء شرحه لمعنى كلمة البحور والأواني في صلاة جوهرة الكمال ، وهي من الصلوات المهمة عند التجانيين ، وهذه الصلاة ، وربما يكون هناك من يحتاجها فأمرها عظيم ونصها هو : ( اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية ، والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز المفهوم والمعاني ، ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني ، البرق الأسطع بمزون الأرباح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ، ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني ، اللهم صل وسلم عل عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق ، عين المعارف الأقوم ، صراطك التام الأسقم ، اللهم صل وسلم على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم ، إفاضتك منك إليك ، إحاطة النور المطلسم ، صلى اللّه عليه وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه ) . هذه الصلاة من أهم الصلوات على الحبيب ( صلى اللّه عليه وسلم ) . 
انظر : سيدي عبيدة بن محمد الصغير ابن أنبوجة الشنقيطي التيشيتي التجاني : في كتابه : ميدان الفضل والأفضال في شم رائحة جوهرة الكمال ص 43 . 
( 2 ) في النسخة ( ط ) : كتب الحرف ( ز ) لأنه الباب السابع ، والسابع يكون حسب اتباع طريقة الحروف التي تحدثنا عنها ، وهي ما يعرف عند أهل الحقائق والأسرار بحساب الجمّل ، وسأذكرها هنا حتى لا يحدث اضطراب في الفهم لهذا المعنى فانظر :  “ أ - ب - ج - د - ه - و - ز - ح - ط - ي 
1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 
ك - ل - م - ن - س - ع - ف - ص - ق - ر - 
20 - 30 - 40 - 50 - 60 - 70 - 80 - 90 - 100 - 200 - 
ش - ت - ث - خ - ذ - ض - ظ - غ 
300 - 400 - 500 - 600 - 700 - 800 - 900 - 1000 “ . 
( 3 ) ربما كانت الظلمة هنا التي تطلق على العلم بالذات ، فإنها لا تنكشف لغيرها فهي ظلمة من -

“ 52 “
ثم الثامن : فرأيت الخضوع “ 1 “ . 
ثم التاسع : فرأيت التعليم . 
ثم العاشر : فرأيت الاشتقاق . 
ثم الحادي عشر : فرأيت الإباحة . 
ثم الثاني عشر : فرأيت المنع . 
ثم الثالث عشر : فرأيت التعدي . 
ثم الرابع عشر : فرأيت الغضب . 
ثم الخامس عشر : فرأيت السحر “ 2 “ . 
ثم السادس عشر : فرأيت الحروف . 
ثم السابع عشر “ 3 “ : فرأيت التولد . 
ثم الثامن عشر : فرأيت الموت “ 4 “ الجزئي . 
ثم التاسع عشر : فرأيت الموت الكلّي “ 5 “ .
...........................................................
- شدة بهائها . انظر القاشاني : معجم المصطلحات . . . 2 / 95 . 
( 1 ) ( الخضوع ) : والخضوع الانقياد والمطاوعة ومنه قوله تعالى :فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌويكون لازما كهذا الحديث ومتعدّيا ، كحديث عمر رضي اللّه عنه أنّ رجلا مرّ في زمانه برجل وامرأة وقد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجّه فأهذره عمر ( رضي اللّه عنه ) لأنهما تكلما بما يطمع كلّا منهما في الآخر ، وفي حديث استراق السمع خضعانا لقوله الخضعان مصدر : خضع يخضع خضوعا وخضعانا انظر : النهاية في غريب الحديث 2 / 43 . 
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( السجن ) . 
( 3 ) في النسخة ( ط ) : ( ير ) وهي خطأ ، والمفروض أن تكون ( يز ) بزاي ، لا براء . لأن الراء وحدها بمائتين وبالتالي يكون رقم الباب هو : ( 210 ) وهذا مخالف للنص . 
( 4 ) في النسخة ( ط ) : كتب العنوان : ( الموت ) فقط . ثم كتب بقية العنوان فصلا جديدا ، وهو الجزئي فكتبها : الجزيء ، أما بالنسبة للرقم فقط كتبه : ( يم ) وهذا أيضا يساوي خمسين ، وينبغي أن يكون : ( ريط ) لأنها تساوي ( 19 ) وهو المطلوب . 
( 5 ) ( الموت ) : عند أكثر الطائفة هو : عبارة عن انقطاع اللطيفة الروحانية المسماة بالروح الإلهي ، وبالنفس الناطقة عن الاشتغال بالملاذ البدنية لإقبالها على حضرات القرب من الجناب -

“ 53 “
 
ثم العشرين “ 1 “ : فرأيت التوجيه . 
ثم الحادي “ 2 “ والعشرين : فرأيت التبليغ . 
ثم الثاني والعشرين : فرأيت الاعتصام . 
ثم الثالث والعشرين : فرأيت القدمين “ 3 “ . 
ثم الرابع والعشرين : فرأيت الاختصاص العام “ 4 “ . 
ثم الخامس والعشرين : فرأيت التنزيل “ 5 “ . 
ثم السادس والعشرين : فرأيت الشق . 
ثم السابع والعشرين : فرأيت التطهير . 
ثم الثامن والعشرين : فرأيت التلفيق . 
ثم التاسع والعشرين : فرأيت التحريم . 
ثم رفعت الثلاثين : فرأيت التقديس “ 6 “ .
...........................................................
- الأقدس ، وفي هذا الموت حياتها كقول الحق سبحانه تعالى : ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) فمن تاب إلى اللّه توبة صحيحة فقد قتل نفسه ، واعلم أن الصوفية لهم أوصافا يعبرون عنها بالموت الأبيض ، والأخضر ، والأسود ، والأحمر ، ولكل من هذه الموتات الأربع حياة تخصه . 
وكقول أفلوطين : ( مت بالإرادة تحيا بالطبيعة ) . 
انظر : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية بتحقيقنا 2 / 342 . 
( 1 ) في النسخة ( ط ) ضبط الأرقام مع أنه زاد واحدا قبل ذلك للإشارة السابقة . 
( 2 ) في نسخة المخطوط ( د ) : ( الإحدى ) . 
( 3 ) في النسخة ( ط ) : ( القدمان ) هكذا بالرفع ، ولا أدري على أي شيء رفعها . 
ولكن ربما نسي أول الكلام حول الستور ، ثم رفعت الستر الثالث والعشرين فرأيت القدمين . 
( 4 ) الخصوص : هو أحدية كل شيء ، والخاصة : هم علماء الطريقة . 
وخاصة الخاصة : هم علماء الحقيقة . 
( 5 ) في النسخة ( ط ) : ( الترميل ) . 
( 6 ) ( التقديس ) هو : التنزيه عن العلوين : العلو المكاني ، والعلو الرتبي جميعا . أمّا تقديسه عن العلو المكاني : فذلك ظاهر لاستحالة تحيزه سبحانه وتعالى . -

“ 54 “
ثم الحادي “ 1 “ والثلاثين : فرأيت الشفع “ 2 “ . 
ثم الثاني والثلاثين : فرأيت الامتطاء “ 3 “ . 
ثم الثالث والثلاثين : فرأيت السلوك “ 4 “ . 
ثم الرابع والثلاثين : فرأيت اللّين “ 5 “ . 
ثم الخامس والثلاثين : فرأيت القرع “ 6 “ .
.......................................................
- وأمّا تقديسه عن علو المكانة : فذلك يعنى أنه مهما توهّم علو ثم أضيف إلى الحق سبحانه وتعالى كان الحق أعلى طبعا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ) أي : عن كل علو . 
أمّا تقديس التقديس : فهذا يجري في إشارات القوم على وجوه . 
انظرها : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية 1 / 341 . 
( 1 ) في النسخة المخطوطة ( د ) : ( الإحدى ) . 
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( الشخ ) هكذا . وكتب بجوارها علامة استفهام ( ؟ ) ولم يوجه قراءتها . 
( 3 ) ( الامتطاء ) : يقال منه : امتطيتها أي اتخذتها مطيّة . وقال الأموي : امتطيناها أي جعلناها مطايانا . وفي حديث خزيمة : تركت المخّ رارا ، والمطيّ هارا ؛ المطيّ : جمع مطية وهي الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها ، ويقال : يمطى بها في السير أي يمدّ ، والهار : 
الساقط الضعيف . والمطا ، مقصور : الظهر لامتداده ، وقد مطت مطوا . وامتطاها : اتخذها مطيّة ، وامتطاها وأمطاها : جعلها مطيّته . والمطيّة : الناقة التي يركب مطاها . والمطيّة : 
البعير يمتطى ظهره ، وجمعه المطايا ، يقع على الذكر والأنثى . الجوهري : المطيّة واحدة المطيّ والمطايا ، والمطيّ واحد وجمع ، يذكر ويؤنث ، والمطايا فعالى ، وأصله فعائل إلا أنه فعل به ما فعل بخطايا . 
انظر : لسان العرب : لابن منظور مادة ( مطو ) من طبعة دار المعارف بمصر . 
( 4 ) ( السلوك ) : في اصطلاح الطائفة عبارة عن الترقي في مفاتح القرب إلى حضرات الرب فعلا وحالا ، وذلك بأن يتحد باطن الإنسان وظاهره فيما هو بصدده مما يتكلفه من فنون المجاهدات وما يقاسيه من مشاق المكابدات ، بحيث لا يجد في نفسه حرجا من ذلك . 
انظر : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية 2 / 26 . 
( 5 ) في النسخة ( ط ) : ( اللبن ) بالباء بدلا من الياء . 
( 6 ) في النسخة ( ط ) : ( الفرع ) والصحيح ( القرع ) وهو : قرع لا باب من باب قطع والقرع حمل اليقطين الواحدة قرعة والقرعة بالضم معروفة والأقرع الذي ذهب شعر رأسه من آفة وقد قرع من باب طرب فهو أقرع وذلك الموضع من الرأس القرعة بفتح الراء والقوم قرع وقرعان



“ 55 “
 
ثم السادس والثلاثين : فرأيت الامتزاج . 
ثم السابع والثلاثين : فرأيت الأرواح . 
ثم الثامن والثلاثين : فرأيت الجمال . 
ثم التاسع والثلاثين : فرأيت العلا “ 1 “ . 
ثم الأربعين : فرأيت السيادة . 
ثم الحادي والأربعين : فرأيت المناجاة “ 2 “ . 
ثم الثاني والأربعين : فرأيت التحليل . 
ثم الثالث والأربعين : فرأيت الانتهاء . 
ثم الرابع والأربعين : فرأيت التّرك . 
ثم الخامس والأربعين : فرأيت المحبة . 
ثم السادس والأربعين : فرأيت رفع الوسائط “ 3 “ . 
ثم السابع والأربعين : فرأيت السر “ 4 “ .
.......................................................
- والقرع أيضا مصدر قولك قرع الفناء أي خلا من الغاشية يقال نعوذ باللّه من قرع الفناء وصفر الإناء وقال ثعلب : نعوذ باللّه من قرع الفناء بالتسكين على غير قياس وفي الحديث عن عمر رضي اللّه عنه قرع حجّكم أي خلت أيام الحد من الناس ، والمقرعة بالكسر ما تقرع به الدابة ، والقارعة الشديدة من شدائد الدهر ، وهي الداهية . وقارعة الدار : ساحتها . وقارعة الطريق : 
أعلاه . وقوارع القرآن الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن مثل : آية الكرسي ، كأنها تقرع الشيطان . وأقرع بينهم من القرعة واقترعوا وتقارعوا بمعنى ، والتّقريع التعنيف ، والمقارعة المساهمة ، يقال : قارعه فقرعه إذا أصابته القرعة دونه . وقرع فيه لمّا أتى على محسّر قرع ناقته أي ضربها بسوطه ، ومنه حديث خطبة خديجة ( رضي اللّه عنها ) قال ورقة بن نوفل هو الفحل لا يقرع أنفه أي أنه كفء كريم . 
انظر : مختار الصحاح 1 / 222 . 
وانظر : النهاية في غريب الحديث 4 / 43 . 
( 1 ) في النسخة ( ط ) : كتب الرقم : ( لطا ) والصحيح ( لط ) فقط . 
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( المناجة ) هكذا . 
( 3 ) في النسخة ( ط ) : ( الرفع ) . 
( 4 ) في النسخة ( ط ) : ( الستر ) .

“ 56 “
ثم الثامن والأربعين : فرأيت الصدور .
ثم التاسع والأربعين : فرأيت الصديقية “ 1 “ .
ثم رفعت الخمسين : فرأيت القهر .
ثم الحادي “ 2 “ والخمسين : فرأيت الحياة .
ثم الثاني والخمسين : فرأيت الشهامة .
ثم الثالث والخمسين : فرأيت الانصرام “ 3 “ .
ثم الرابع والخمسين : فرأيت الميراث .
ثم الخامس والخمسين : فرأيت الاصطلام “ 4 “ .
ثم السادس والخمسين : فرأيت الفناء “ 5 “ .
......................................................
( 1 ) ( الصديقية ) : هي مقام : ومعناه كمال الصدق وتماميته تصديق الصادق في كل ما أخبر به .
( 2 ) في النسخة المخطوطة : ( الأحد ) .
( 3 ) ( الانصرام ) صرم الشيء قطعه وصرم الرجل قطع كلامه والاسم الصّرم بالضم وصرم النخل جذه وباب الثلاثة ضرب وأصرم النخل حان له أن يصرم والانصرام الانقطاع والتّصارم التقاطع والتّصرّم التقطع والصّرم الجلد فارسي معرب والصّارم السيف القاطع ورجل صارم أي جلد شجاع وقد صرم من باب ظرف والصّريم الليل المظلم والصريم أيضا الصبح وهو من الأضداد والصريم أيضا المجذوذ المقطوع قال اللّه تعالى فأصبحت كالصريم أي احترقت واسودت والصّريمة العزيمة على الشيء . انظر : مختار الصحاح 1 / 152 .
( 4 ) ( الاصطلام ) : في اللغة : الاستئصال . واصطلم القوم أبيدوا .
وقيل : إذا أبيد القوم من أصلهم . قيل : اصطلموا ، وفي حديث الفتن : وتصطلمون في الثالثة .
والاصطلام : افتعال من الصلم وهو القطع .
أمّا عند ساداتنا الصوفية : فإن الاصطلام : نعت وله يرد على القلب فيسكن تحت سلطانه . فإن دام ذلك بالعبد حتى سلبه عن نفسه ، وأخذه عن حسّه ، بحيث لم يبق منه اسما ولا أثرا ، ولا عينا ، ولا طللا ، حتى صار مسلوبا عن المكونات بأسرها ، فما دام العبد كذلك فهو ممحو الآثار . انظر : ابن منظور : لسان العرب : مادة ( صلم ) .
وانظر أيضا : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية 1 / 209 .
( 5 ) ( الفناء ) : هو الزوال والاضمحلال ، كما أن البقاء ضده . والطائفة يجعلون الفناء على مراتب وهي كثيرة . وعند الشيخ عبد القادر الجيلاني ( رضي اللّه عنه ) : أفن عن الخلق بإذن اللّه تعالى ، -



“ 57 “
ثم السابع والخمسين : فرأيت البقاء “ 1 “ .
ثم الثامن والخمسين : فرأيت الغيرة “ 2 “ .
ثم التاسع والخمسين : فرأيت الهمة “ 3 “ .
....................................................
- وعن هواك بأمر اللّه تعالى ، وعن إرادتك بفعل اللّه تعالى ، وحينئذ تصلح أن تكون وعاء لعلم اللّه تعالى . ولكل مرحلة من هذه علامة تميزها . . ثم إن الفناء له مراتب متعددة .
انظرها في : القاشاني : معجم المصطلحات 2 / 217 .
( 1 ) ( البقاء ) : في اللغة ضد الفناء . وله معان .
وعند السادة الصوفية : يطلق ويراد به : رؤية العبد قيام اللّه في كل شيء . فالبقاء أحد المقامات العشرة التي يشتمل عليها قسم النهايات لأهل السلوك في منازل السير إلى اللّه تعالى .
وقال الإمام القشيري : أشاروا بالفناء إلى سقوط الأوصاف المزمومة ، وأشاروا إلى البقاء بقيام الأوصاف المحمودة . انظر : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية 1 / 288 . وانظر : الإمام القشيري : الرسالة القشيرية .
وانظر : التهانوي : كشاف اصطلاحات الفنون : 1 / 227 .
( 2 ) ( الغيرة ) : مشتقة من الغير ، ولهذا لا يوصف بها إلّا من يراه ، أعني الغير . فهي لأجل ذلك من مراتب أحد رجلين : رجل فيه بقايا من رسوم الخلقية ، بحيث لم يتحقق بعد بالوصول إلى حضرات الحقيقة . ورجل وصل ثم رجع بربه إلى خلقه ، ولم يستهلك هناك .
فهي : أعني الغيرة وصف من لم يصل ، ووصف من وصل ثم رجع للتكميل .
قال صلى اللّه عليه وسلم : ( إن سعدا لغيور ، وإن محمدا لأغير من سعد ، وإن رب محمد لأغير من محمد ) .
وقال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي : " " الغيرة حال يعبر به عن سقوط الاحتمال لمقاساة ما يشغل عن المحبوب الحق ، أو يحجب عنه ، بحيث لا يسامح المحب أحدا بمحبوبه . " والغيرة لها مراتب ، ومعان . مثل : غيرة العابد ، غيرة المريد ، غيرة العارف ، الغيرة في الخلق ، غيرة السر ، غيرة الحق . . . . . إلخ .
انظر القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية بتحقيقنا 2 / 185 .
( 3 ) ( الهمة ) : تطلق بإزاء أول صدق المريد ، وتطلق كذلك بإزاء جمع الهمة لصفاء الإكرام .
وتطلق أيضا بإزاء تعلق القلب بطلب الحق تعلقا صرفا ، أي : خالصا من رغبة في الثواب ، أو رهبة من عقاب . ولهذا قالوا : الهمة : ما يثير شدة الانتهاض إلى معالي الأمور .
ويقال أيضا : الهمة : طلب الحق تعالى بالإعراض عما سواه ، من غير فتور ولا توان . -



“ 58 “
ثم رفعت الستين : فرأيت الكشف “ 1 “ .
ثم الحادي والستين : فرأيت المشاهدة “ 2 “ .
ثم الثاني والستين : فرأيت الجلال “ 3 “ .
.....................................................
- ويعبّر بالهمة عن نهاية شدة الطلب . ولها مراتب وأنواع كثيرة منها الكلام على همة الإفاقة ، وهمة الأنفة ، وهمة أرباب الهمم العالية ويعني بها همم القوم الذين لا يطلبون بعبادتهم من اللّه سوى مجرد العبودية له وحده سبحانه وتعالى لصدق محبتهم فيه لا فيما سواه من رغبة في النعيم ، أو رهبة من الجحيم فتعلقت بأعلى المقاصد ، الذي هو الحق تعالى . وما ذاك إلّا كون همتهم العالية أورثتهم الازدراء للأغراض ، وقلة المبالاة بالدرجات ، بحيث لا يطلبون من قيامهم بما ندبوا إليه من الأعمال الصالحة الوافية بشروط الإخلاص شيئا من الأحوال التي يعبر بها عن التجليات والواردات وغير ذلك بل ولا تقف همته عند مشاهدة الصفات ، ولكن يتجاوز كل ذلك إلى عين الذات لأنه لا يرتوي عطشه إلّا بورود العين التي هي مقدسة عن المتى ، والأين .
انظر : القاشاني : معجم المصطلحات الصوفية بتحقيقنا 2 / 369 وما بعدها .
( 1 ) ( الكشف ) : هي المكاشفة وهي في العرف العام عبارة عن كشف النفس لما غاب عن الحواس إدراكه ، على وجه يرتفع الريب منه ، كما في المرئيات ، سواء كان انكشاف ذلك بفكر أو حدس ، أو لسانح عيني حصل عن الفيض العام . وسواء كان مما يتعلق بالحقائق العلمية ، أو الأنوار الكونية الجزئية الكاشفة عن غيب ما وقع في الماضي ، أو ما سيقع في المستقبل . ولها مراتب . معروفة لأنهم يشيرون بها إلى أول ما يبدو من الصفات والحقائق الإلهية ، أو الكونية لسر السائر من وراء ستر رقيق خلف حجاب شفا من اسم إلهي مقيد بحكم ومختص بوصف فيسمى ذلك القيد مكاشفة . انظر القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات 2 / 333 .
( 2 ) ( المشاهدة ) : هي رؤية الحق من غير تهمة ، وتطلق على رؤية الأشياء بدلائل التوحيد .
وهي أيضا تبدي الحقائق بلا مظهر ، ولا صفة . لكن مع خصوصية وتميز .
وهي : إدراك بغير منازعة ، لأن سائر الحواس لا تخلص في إدراكها من المنازعة خلوص حاسة البصر ، فإنه لا يكاد أن يجامعها منازع فيما تدركه من مرئياتها . فالمشاهدة انتهاء إذ ما بعد اللّه مرمى لرام . انظر : القاشاني : معجم المصطلحات . . . . . 2 / 306 .
( 3 ) ( الجلال ) : يقول ابن العربي : إن لجلال اللّه معنى يرجع منه إليه ، وهو الذي منعنا من المعرفة به تعالى ، إذ ليس لمخلوق في معرفة الجلال المطلق مدخل ولا شهود . انفرد الحق به سبحانه ، وهو الحضرة التي يرى الحق فيها بما هو عليه ، فلو كان لنا مدخل فيه لأحطنا علما باللّه ، وبما عنده ، وذلك محال . وانظر كذلك القاشاني : معجم المصطلحات الصوفية 2 / 389 ، وما بعدها .

“ 59 “
ثم الثالث والستين : فرأيت الجمال “ 1 “ .
ثم الرابع والستين : فرأيت ذهاب العين “ 2 “ .
ثم الخامس والستين : فرأيت ما لا يدرك .
ثم السادس والستين : فرأيت ما لا يسمع .
ثم السابع والستين : فرأيت ما لا يفهم .
ثم الثامن والستين : فرأيت ما لا يقال .
ثم التاسع والستين : فرأيت الإشارة “ 3 “ .
.....................................................
( 1 ) الجمال : هو معنى يرجع منه إلينا ، وهو الذي أعطى هذه المعرفة التي عندنا ، والتنزلات والمشاهدات والأحوال . وله فينا أمران : الهيبة والأنس ، وذلك لأن لهذا الجمال دنوا وعلوّا .
فالعلو : نسميه جلال الجمال ، وفيه يتكلم العارفون ، وهو الذي يتجلى لهم ، ويتخيلون أنهم يتكلمون في الجلال الأول . وهذا جلال الجمال قد اقترن معه منا الأنس ، والجمال الذي هو الدنو قد اقترن معه منا الهيبة . انظر : ابن العربي : كتاب الجلال والجمال ضمن المجلد الثاني ( 215 ) بتحقيقنا طبعة مؤسسة الانتشار العربي بيروت . وانظر كذلك القاشاني : معجم المصطلحات الصوفية 2 / 389 ، وما بعدها .
( 2 ) في النسخة ( ط ) : هناك أخطاء في الترقيم للستور ، من هنا وحتى نهاية الترقيم السبعين ، فليراجعه القارئ إن أراد ذلك .
( العين ) : هي المقصودة لعينها لا لغيرها ويعنون به الإنسان الكامل لأن سواه من الممكنات مقصود لغيره لا لعينه . فهو أعني الإنسان الكامل هو المراد للّه على التعيين ، وكل ما سواه فمقصود من طريق التبعية له ، وبنسبه من جهة أن ما لا يوصل إلى المطلوب إلّا به فهو مطلوب . وإنما كان الإنسان الكامل هو المراد بعينه دون غيره من أنه مجلى تام للحق يظهر به تعالى من حيث ذاته وجميع أسمائه وصفاته ، وأكمه وجميع اعتباراته على نحو ما يعلم نفسه بنفسه ، وليس وراء هذا المقام مرمى يرام ، ولا ترق إلى مرتبة أو مقام .
انظر : القاشاني : معجم المصطلحات والإشارات الصوفية 2 / 169 .
( 3 ) (الإشارة) : هي ما يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة ، وذلك لدقة ولطافة معناه .
يقول أبو علي الروذباري : علمنا هذا إشارة فإذا كان عبارة خفي .
وسأل بعض المتكلمين أبا العباس ابن عطاء : ما بالكم أيها الصوفية قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين ، وخرجتم عن اللسان المعتاد ، هل هذا لطلب تمويه ، أو لستر عوار المذهب ؟
قال ( رضي اللّه عنه ) : ما فعلنا هذا إلّا لغيرتنا عليه ، وغيرته علينا . . . يقصد الحق سبحانه . -

“ 60 “
ثم رفعت السبعين : فرأيت الكل “ 1 “ .
ثم يتبعه التفصيل .
قال العبد : فلما انتهيت ، قال لي : ما رأيت ؟
قلت : عظيما .
قال لي : ما أخفيته عنك أعظم .
ثم قال لي : وعزتي ما أخفيت عنك شيئا ، ولا أظهرت لك شيئا .
ثم قال لي : اخرق “ 2 “ الستور ورائي ، فرأيت العرش .
فقال لي : احمله . فحملته .
فقال لي : ألقه في البحر . فألقيته . فغاب العرش . ثم رمى به البحر .
فقال لي : استخرج من البحر حجر المثل . فأخرجته .
فقال لي : ارفع الميزان . فرفعته .
فقال لي : ضع العرش وما حواه في كفة ، وضع حجر المثل في الكفة الأخرى ، فرجح الحجر .
فقال لي : لو وضعت من العرش ألف ألف إلى منتهى الوقف “ 3 “ لرجحه ذلك الحجر .
فقلت له : ما اسم هذا الحجر ؟
فقال : ارفع رأسك ، وانظر في كل شيء ، تجده مرقوما . فرفعت رأسي ، فوجدته
..................................................
- ثم أنشد يقول :
إذا أهل العبارة سائلونا * أجبناهم بأعلام الإشارة
نشير بها فنجعلها غموضا * تقتص عنه ترجمة العبارة
انظر : الإمام السراج الطوسي : اللمع 414 ، د / حسن الشرقاوي : معجم ألفاظ الصوفية 45 .
الكلاباذي : التعرف لمذهب أهل التصوف 8 .
( 1 ) ( الكل ) هنا عين الوحدة ، وهو الإجمال ، ثم يتبعه التفصيل .
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( أحرق ) .
( 3 ) في النسخة ( ط ) : ( الوقت ) .

“ 61 “
في كل شيء “ 1 “ . ثم حجبني بخمسين حجاب ، وكشف عن وجهي أربعمائة حجاب ، ما شعرت بها أنها على وجهي من دقتها .
ثم قال لي : أضف ما رأيت في كل شيء إلى الحجب ، فما اجتمع فهو اسم ذلك الحجر . ثم قال لي : كل ذلك مكتوب أزلا . هذا كل شيء بين يديك . فاقرأ : بسم اللّه الرحمن الرحيم . من “ 2 “ الوجود الأول إلى الوجود الثاني .
أمّا بعد : فالعدم سبقك ، وكنت موجودا ، ثم عاهدتك في حضرة الوحدانية بالإقرار : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا “ 3 “ فشهدت لي بذلك ، ثم رددتك ، ثم أخرجتك ، ثم رميتك في البحر ، ثم ألقيت أجزاءك في الظلمات ، ثم بعثتك إليهم ، فأقروا لك بالطاعة وخضعوا ، ثم آنستك بجزئك في حضرتك ، مباحة لك ، ثم حرمت عليك حضرتي ، فأذنت لك في الدخول فيها ، فغضبت عليك فسجنتك ، وأنت مرحوم . ثم شكلت لك الحروف ، فحفظتها . ثم أعطيتك القلم فاستويت على عرشك ، وكتبت في - اللوح المحفوظ - ما أردته منك . ثم أحييت بعضك ، ثم أكملتك بالحياة ، ثم أخرجت منك أجزاء فرقتهم في زوايا السجن بأصناف اللغات ، وأيدتهم بالعصمة ، وأقعدتهم على الكراسي . ثم خصصت واحدا منهم “ 4 “ فخصصتك بسببه ، فأيدته بالكلمات . ثم طهرته من الأدناس ، وحرمت عليه الأكوان ، وقدست محله ، وشفعته في ذلك . ثم غمسته في
............................................................
( 1 ) في النسخة ( ط ) : ( فرفعت رأسي فرأيت في كل شئ ( أ ) هكذا ) .
وكأنما يريد أن يقول : ( فرفعت رأسي فرأيت الألف في كل شيء ) ويبدو أن هذه النسخة فيها من الصحة عبارات ليست في النسخة المخطوطة وهذه مزية المقابلة للنسخ . ( المحقق ) .
( 2 ) في النسخة ( ط ) : ( أضف ) .
( 3 ) الآية رقم ( 14 ) من سورة طه .
( 4 ) طبعا كل هذا الحوار الخطير الهام لا يكون إلّا للخلافة . والاختصاص المشهور طبعا لسيدنا وحبيبنا محمد ( صلى اللّه عليه وسلم ) . ولولاه ما كان الورى . انظر حديث : ( لولاك لما خلقت الأفلاك ) .
وروى الديلمي عن ابن عمر ( رضي اللّه عنها ) قال : قال رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وسلم ) : ( فقال : يا محمد لولاك لما خلقت الجنة ولولاك لما خلقت النار ) . العجلوني 2 / 91 .

“ 62 “
البحر ، فركب على دابة من دوابه ، ثم سرى في الآن ، فأنزلته على " قبة أرين " “ 1 “ فأعطيته الحياة الكلية ، وعصمته من جزئه . وخاطبته من وسطه بقوله : عند ترك التناهي أحبك ، وعند إزالة الأرواح أسرك . فأصدر ، واصدع قلب الصدق واقهره . وخذ سر الحياة ، واجعله في من تريده . وجرد سيف الانتقام ، وأعل به منارك ، واقطع من عاداك . 
ثم ائت إليّ ، واترك ولدك ، فإنه يقوم مقامك “ 2 “ . 
وقل له : يصطلم “ 3 “ في الفناء ببقائي ، ولا يغار “ 4 “ على كشفه ، ويشاهدني في الصفات ، ولا يشاهدني في الذوات . فإن عاينني “ 5 “ ذهب منها ، وإن سمع ، أو فهم ، أو علم ، أو أشار ، أو نقل ، أو فصل ، أو جمع لم يدركني “ 6 “ . وفي الشعور تلوح لأهل النظر الأمور .
........................................................
( 1 ) ( قبة أرين ) : أجاب ابن العربي على هذه العبارة أثناء حديثه المطول في الفتوحات المكية في شرح السؤال رقم ( 153 ) فقال : ( وما أرين ؟ ) 
قلنا عبارة عن الاعتدال في قوله :أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىفإن أرين موضع خط اعتدال الليل والنهار فاستعاره وقد ذكره منهم عبد المنعم بن حسان الجلباني في مختصره غاية النجاة له ولقيته وسألته عن ذلك فقال فيه ما شرحناه به صاحب هذا المقام هو صاحب الرداء . . انظر : ابن العربي : الفتوحات المكية . 
وانظر ابن العربي أيضا في كتاب الجواب المستقيم فيما سأل عنه الترمذي الحكيم بتحقيقنا السؤال رقم ( 153 ) أيضا . 
( 2 ) إشارة هامة وضرورية في فهم حقيقة الميراث للأنبياء فإنهم لم يورّثوا درهما ، ولا دينارا ، ولكن هذا ميراثهم ؛ التقوى ، والعبادة ، والعمل الصالح ، والاشتغال باللّه وفي اللّه ومع اللّه وللّه . 
( 3 ) تقدمت إشارة عن معنى الاصطلام منذ قليل ، ولكن المهم في هذه الإشارة : 
( قل له يصطلم في الفناء ببقائي ! ) . 
انظر عزيزي القارئ إلى هذه العبارة ، وتأمل ما الذي يدور فيها إنها كلها حركة وكأن الكون كله لا بد وأن يدور بالإنسان ومع الإنسان الذي هو يدور في حالة فناء كامل مع اللّه . فببقائه يمكن له أن يصطلم . 
( 4 ) في نسخة المخطوط ( خ ) : ( ولا يغادر ) . 
( 5 ) في النسختين ( ط ) ، ( خ ) : ( عيني ) والمقصود بها هنا الرؤية فالعين وحدها لا تأتي هكذا . 
( 6 ) والمراد هنا هو كما قال الصديق ( رضي اللّه عنه ) : ( العجز عن درك الإدراك إدراك ) . فهذا الأمر عال جدا ، لا تنفع معه عبارات أهل الظاهر . وإلا تظهر الأمور أكثر من ذلك . 
وهذا ليس مطلوبا . 
.

مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية Word
مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية PDF
مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية TXT
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية Word
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية PDF
شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية TXT

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:26 pm

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

“ 131 “
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد
قال الشيخ رحمة اللّه عليه :
( ص ) [ ( أشهدني الحق بمشهد نور الستور وطلوع نجم التأييد ) ] .
( ش ) أقول قوله : ( أشهدني ) معناه أيقظ الدراكة بزيادة ناظر ظلي إلى ما يلي الباطن ، فشهدته فيه ، وهذا الشهود لا يكون في الوجه الآخر من المرآة ، وهذا الوجه هو المرآة في الباطن ، فكأنه قال : أشهدني صورته في عالم الباطن إذ لابد للظاهر من ضد ، فيكون له مرآة اضطرارا إذ الظاهر مرآته النور ، ولهذا النور مقابل خافي يعبر عنه بالظلمة لأنه يباين هذا النور بالكلية لأنه في غاية الصفاء ، ومن شدة صفائه يلحظ من بعد كأنه ظلماني ولهذا يعبر عنه بالظلمة .
وقوله : ( بمشهد نور الستور ) معناه بمحل تمايز الستور ، وهذا المحل يكون صادر عن الذات بغير واسطة لأنه لا يحجب غيرها ، فلو أن هناك واسطة لكانت الواسطة أيضا محجوبة والحجب بالحقيقة للهوية ، وفي حقيقة الظاهر المحتجب هو اللّه قال تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [ الأنعام : 103 ] ، فهذه حجب ناشئة عن نفسه لنفسه ، ولهذا قال رحمه اللّه : ( الستور ) بالجمع إشارة إلى حجب الأبصار المختلفة لأنه لما حصل الاختلاف ، فكثر تعدد الحجب الموري عنها بالستور وكونه ذكرها في هذا المبتدأ لأنه ختم المشهد السابق عليه بقوله : إذا أردت أن تراني ، فارفع الستور عن وجهي ، فكأنه رحمه اللّه تشوف في هذا الأمر من الإطلاق إلى التقييد وهذا التشوف كإرادة اللّه للتحول في الصور فهذه الإرادة من الإطلاق إلى التقييد ، فابتدأ في هذا المشهد بمحل الستور التي يدرك وراءها صورة مقيدة وهذه حضرة لشاهد لا مشهود معه لكنها تنزع إلى صورة مقيدة حين رفع الحجب المتعددة .
فقوله : ( بمشهد نور الستور ) يعني به أن هذه الحضرة محل منشأ الستور التي يدرك وراءها صورة مقيدة لأنه لما أطلق على نفسه العزة تعالى كان في حال الإطلاق صورة إذ لو لم يكن صورة لما احتجب بهذه الحجب التي هي إطلاق العزة ، فلما أراد الشاهد يتصف بهذه العزة رفعت له هذه الحجب المتعددة رفع إثبات لا رفع نفي أي ضربت على وجهه دون المحتجب حتى إذا آن زوالها فنيت في ذات الشاهد ، فيكون قبل الزوال قد

“ 132 “


اتصف بالعزة وأفناها في حال الجمع بين الاحتجاب والظهور ، فضربها على وجهه إرادة الاتصاف بها لا غير ، وورودها على سبيل المقام ليعزي اسمها إلى المحل الذي هو ظهورها من المحتجب الحقيقي بغير واسطة ، لكنه عطاء من المشهود إلى الشاهد على سبيل التكوين فيقول له : كن فلما تميزت على الموصوف بها سميناها حضرة ، ولإدراك الستور فيها سميناها محلا أيضا ، فكأنه قال : شهدت في هذه الحضرة التي أدركت فيها الستور طالع نجم التأييد ، وهذا تأييد الاتصاف بالعزة إذ لولا الحجاب لما تسمى عزيزا .
وقوله : ( طلوع نجم التأييد ) يريد به تأييد الاتصاف ، وتسميته له بالطالع لأنه حين شهود هذه الحجب قد أشرق له نور اليقين وكل نور يطلع في الباطن بشرط يزيد اليقين يسمى طالعا ، فإنه في حين ضرب الحجب على وجهه لم يتيقن بالاتصاف إلى حين ظهور هذا النور الذي يقضي بظهوره إلى يقين الشاهد له لأنه نور تمكين لا نور تمييز ، ولهذا نسميه طالعا فعند ظهور هذا الطالع تمكن يقينه بالاتصاف آن فناء الحجب فكان هذا الطالع مؤيدا له ، وعند رفع الحجب في ذات الشاهد المتصف ، فظهور هذا الطالع يؤيد له الاتصاف عند الصورة المحجوبة ، وهذا الطالع ينشأ عن الثنوية من النور المميز الحقيقي ، فلما كان للتأييد لا للتمييز سميناه طالعا ، فكل نور يظهر للتمكين نسميه طالعا ، ومجموع هذه النجوم الطوالع “ 1 “ الذي يحتوي عليها هذا الكتاب هي أنوار تمكين لا أنوار تمييز ، ولهذا نسبها إلى الطوالع ، والفرق بين هذه الأنوار وأنوار التمييز هو أن يشهد الشاهد شيئا متميزا ويستمر الشهود إلى حيث الرجعة بلا زيادة نور وهذا هو نور التمييز ، وأما نور التمكين الذي هو الطالع هو أن يشهد الشاهد شهودا متمايزا بنور التمييز ، ثم يعرض له في معرض الشهود ظهور نور آخر موجبه زيادة اليقين وهذا هو الطالع الذي عبرّ عنه بالنجم ، وهذا مراد للتمكين ، وقد يكون طلوع هذا النور في شهود مرتين فصاعدا ، وقد يكون شهود بغير هذا الطالع ، وإنما هو من شروط الكمال المعلوم لنا ، فإنه لغير الكامل لا يكون هذا الطالع ، وإن أراد نور شهود غير الكامل تكون الزيادة كالحاجز المنخرق المضروب بين الشمس والأرض ، فحين طلوعها ينفذ النور في هذه الخروق بقدر العلو فلا
..........................................................................................
( 1 ) الطوالع : أنوار التوحيد ، يريد بها الأنوار الشهودية التي تنكشف بها صرافة التوحيد عندما يطلع أهل المعرفة الذين أدركوا الشيء بعينه فبطمس سائر صحو المعلومات ، يثبت كشفا ، ما كان ينفيه عقله المجرد .

“ 133 “


يزال هذا النور آخذا في الزيادة إلى حين استقبال الشمس غاية العلو ، فهذا مثال النور الناقص المدعي في حال شهوده وتزيده يكون على هذه الصفة فلا يستقل شهوده بطالع يطلع فيه مباينا لنور التمييز ، فهذا لا يكون للكامل إذ الكمال مختص بالطالع وهو الزيادة على نور التمييز إذ هو من شروط الكمال كما قلنا ، فكان هذا الكامل في حال شهود هذا المقام المميز للستور المرادة للاتصاف ، ظهر له طالع التأييد بالاتصاف وهو النجم المذكور .
( ص ) [ ( قوله : ثم قال لي : أتعرف بكم حجبتك ؟ قلت : لا ، قال : بسبعين ستارة ، قال : فإن رفعتها لم ترني ، وإن لم ترفعها لم ترني ) ] .
( ش ) أقول : إنه يعني بذلك الخطاب بعد رفع الستور عند اتصاف الشاهد بالعزة ، وعند اتصافه فنيت الستور وبقي اسمها ، ولهذا كان الشاهد غير عارف بعد تلك الحجب لكن ظهور هذا لنفسه بظهور المعهود بالحجاب “ 1 “ ، وحصول المماثلة بين الشاهد والمشهود في الصورة وانتقال الاتصاف ، وكمال الشاهد أوجب له عدم المعرفة بتعدد هذه الحجب ، فحين ظهور الصورة له حصل له العلم بالعدد المذكور بحصول الخطاب بين الصورتين ، فإنه متى عدمت المعرفة بشيء ما لا يوجد حتى يحصل للعارف عنها خطاب ، والخطاب لا يكون إلا مع الثنوية ، فحصول الثنوية في هذا المقام إرادة التعريف بالعلم المتخلف الذي أوجبه الكمال ، فسرى الخطاب بين الشاهد والمشهود في هذا المقام الوجود .
قوله : ( أتعرف بكم حجبتك ) وهذا القول تأييد فناء الحجب وبقاء الاسم على المحجوب وزيد الظهور بأن الشاهد هناك يتصف بأوصاف الربوبية ، ومن جملتها العزة .
وقوله : ( بسبعين ستارة ) إذ السبعون عدد معظم عند العرب وأيضا بدليل الحديث ، وهو قوله :
“ إن للّه سبعين حجابا من نور لو كشفت عن وجهه لأحرقت أنوار وجهه ما قابلته
“ 2 “ “ فلما كان المنذرون يعظمون هذا العدد المذكور ، ورد على لسان المرسل سبعون حجابا تخويفا وترهيبا ولم يتجاوز السبعين كثرة ، ولا تنازل عنها إلى سبعة لأن
..........................................................................................
( 1 ) الحجاب : كل ما ستر مطلوبك عن عينك ، وذلك منك ، ومن انحصارك في كل ما تراءى لك من عالم النور ، أو الظلمة ، لا من غيرك .
( 2 ) رواه الطبراني في الأوسط ( 6 / 278 ) ، وأبو الشيخ في العظمة ( 2 / 670 ) ، والحكيم الترمذي في النوادر ( 2 / 208 ) .

“ 134 “


السبعة والسبعين تنطوي في أسماء التعظيم التي هي تسعة وتسعون ، فلو أتى بسبعة لكان في سعة الأسماء المذكورة أكثر منها ، وهو السبعون ، ولو تجاوزها بأسمائها إلى ما فوقها لخرج عن حد أسماء التعظيم ، فأتى بهذا العدد المعظم لتشتمل هذه الأسماء المذكورة عليه وخوطب بها الشاهد المذكور ليمكن أوصافه بأوصاف الألوهية ، وقصده أنه لا يتجاوز الحديث المذكور .
وقوله : ( فإن لم ترفعها لم ترني ) معناه أنه متى تيقن الشاهد بصورة محتجبة فإن لم يرفع الحجاب وإلا لم ير هذه الصورة المقيدة ؛ لأن يقينه بالتعظيم ينشأ عنه الحجاب وهذا غاية اليقين في التعظيم ، فوجب أن ينشأ عنه العدد المعظم المعبر عنه بالستور ، فما دام الشاهد معظما معتقد الصورة لا يزال ينشأ عن هذا التعظيم ، في كل آن حجاب فعند إرادة اختراق هذه الحجب يستند التعظيم إلى وقفة يقين والوقفة تؤدي إلى الطلب وهذا الطلب إرادة الرفع لا غير ، فكأنه قال : متى لم يستند عند يقين ينشأ عنه وقفة ، وإلا لم يرني ، وقد قدمنا شرح النفي لأجل افتتاحه بالحجب أولا لأنه متى لم يرفع الحجب لم يدرك المحجوب ، قوله سابقا : ( إن رفعتها لم ترني ) دليل على أن ضرب الحجب يلزم منه صحة رفعها وعدمها .
فقوله : ( إن رفعتها لم ترني ) معناه أن الحقيقة بريئة عن الثنوية ، فإذا اتصف الشاهد بها تيقن أن لا ثاني له ، فإن رفع الحجب لم يجد ثانيا وموجب ضربها على وجهه اتصافه بها لثبوت اسم العزة له ، وكلما صدر عنه التعظيم لنفسه نشأ عنه حجاب وهذا التعظيم كائن في حال التقييد لا في حال الإطلاق فبالضرورة متى كان مقيدا عظم صورة لمناسبة التقييد ومتى كان في الإطلاق ، فلا يصدر عنه تعظيم إذ لا يجد له ثانيا يخصص نفسه عنه ، والتقييد محل الثنوية ، فلهذا أوجب فيه خصوص الصورة المتحجبة ووجه الجمع بين النفي والإثبات هو أن اللّه لا ينحصر في التقييد أكثر من آن واحد ، فمتى رفع الحجاب في هذا الآن لا يدرك وراءه شيء لأنه أخذ في الإطلاق في مقدار رفع الحجاب ، فإذا فرض أن العارف قال للزوال : كن فكان فاستغرق الكون آن في التقييد ، وصدق على المتحجب الإطلاق ، فمتى رفع لم يدرك ولا شيء .
وقوله : ( إن لم ترفعها لم ترني ) ظاهر لأنه حيث وجدت الحجب لا يدرك ما وراءها . ( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : إن رفعتها رأيتني وإن لم ترفعها رأيتني ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( إن رفعتها رأيتني ) ظاهر وذلك أنه متى رفع الحجاب رأى

“ 135 “


المحتجب وراءه ليس كل حجاب يرتفع ، فما دام يقين الشاهد بأن المشهود مسمى بالعزة لا يرفع الحجاب ولا يبطل هذا الاسم ، ومتى علم الشاهد أن هذا الاسم يزول بفناء عينه اضطرارا عند زوال الاسم رفع الحجاب ، فليس هذا الخطاب للكافة من المخلوقين ، وإنما هو لآحاد منفردة مخصوصة بمعرفة اللّه ، وهذا الشاهد واحد من الجملة ، ولهذا قال له :
( وإن لم ترفعها رأيتني ) فلو أن هذا المخاطب واحد من العامة لما كان أوقف على هذا المشهد ولا خوطب بهذا الخطاب ، فصح إنه لآحاد منفردة ، ويؤتي اللّه الحكمة من يشاء ، قوله : ( وإن لم ترفعها رأيتني ) معناه أن العارف بعد فنائه يلتحق باللطف الذي لا جسمانية له فلا تمنعه جثته عن النفوذ في الحجب المضروبة ، ولا يحد نظره الباصر بحصره يمنع نفوده عن الرائي لكنه يخترق الأجزاء المحصورة مجموعها في آن واحد ، ولا حجاب له من أجل هذا اللطف الذي قد اشتمل عليه ، فالحجاب ، والمحجوب ، والمخاطب أعني الشاهد عند نفسه واحد مدرك بإدراك واحد أيضا ، فلا مانع لنظره من أجل أن لا حجاب في أحديته لأنه لا متجزئ هناك ولا جثة ثانية تمنع إدراكه ، لأنه في حال فنائه بريء عن الثنوية ، فلا حجاب له على الإطلاق ، وإنما خوطب بهذه الحجب من وجهين :
أحدهما : إنه اتصف بالعزة في حال فنائه في الهوية فضربت هذه الستور على وجهه لتسميته بالمحتجب .
والثاني : إنه في حال الكمال حاز صفتي التقييد والإطلاق ، ففي حال الإطلاق لا حجاب ولا محجوب ولا خطاب ، وفي حال التقييد هو مسمى بالكثرة والاسم فعّال موجود بوجود التجزؤ ، فلا يبعد أن العارف يخاطب بمثل هذا الخطاب في حال التقييد آن ظهور الاسم عليه ، ولهذا بدأ بقوله : ( إن رفعتها رأيتني ) فصح أنه في حال التقييد لأنه أنا فيه وأنا في الإطلاق ، ولما أخذ في الإطلاق ، قيل له : ( وإن لم ترفعها رأيتني ) وذلك له قبل الدخول في الإطلاق وحتى يصدق الحجاب
( ص ) قوله : ( ثم قال لي : إياك والاحتراق ) .
( ش ) أقول : معناه إياك والاحتراق تنزيل على الحديث النبوي ، وهو
قوله صلى اللّه عليه وسلم :
“ إن للّه تعالى سبعين حجابا من نور لو كشفت عن وجهه . . . “
، الحديث بتمامه فلما ذكر بقوله أولا إن رفعتها رأيتني حذره في هذا القول من الاحتراق لأنه عند رفع هذه الحجب لا يستطيع المقيد مقابلة الجلال المحجوبة ، فتحذيره من الاحتراق عند المقابلة هو تمكين القوة وهذا التمكين من الاقتسام ، لأنه في حال ضرب الحجب يعود كلا المتخاطبين

“ 136 “


محجوبين بهذا الشاهد عن المشهود والمشهود عن الشاهد ، وكلاهما مقتسمان بالحجب ، وهذا الاقتسام عين التمكين لكن المحجوب حقيقة تفضل على المحتجب عنه بخصوص الاسم ، فعند ضرب هذه الحجب نبه المحجوب الشاهد على الاحتراق عند رفع هذه الحجب لئلا يخصص نفسه عليه لعلمه أنه فان في هويته ، والحقيقة له ، لكن الكمال أوجب له الظهور في التقييد ، فعند وجود هذا التقييد وجدت الحجب للمقيدين ، فلما آن رفعها أراد اللّه تنبيه هذا الشاهد على أنه يمكن له الاحتراق عند المقابلة التي موجبها الاقتسام .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : أنت بصري فكن في أمان وأنت وجهي فاستتر ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( أنت بصري ) هو إشارة إلى أن المطلق الذي هو اللّه يبصر المقيدين بصورة مختصرة من مجموعهم ، فإنهم في حال تقييدهم ينظرون بصورة مقيدة ، وهي المختصرة المخلوقة على الصورة ، فإنه لو نظر اللّه بإطلاقه لأفنى الوجود المقيد ، وثبت الإطلاق لكنه ينظر المقيدين بالتقييد الصوري الذي ينزل فيه إلى سماء الدنيا ، فهذا النزول يكون في صورة الكامل المخلوق على الصورة .
فقوله : ( أنت بصري ) أي : بصورتك المقيدة أبصر المقيدين ، فلا أقابل التقييد بالإطلاق ، فإنه لا يقابله عند هذا التجلي الأحدي ، فكأن اللّه يبصر المقيدين بواسطة هذا المقيد العاري عن الاختيار ، ويؤيد ذلك الحديث الصحيح ، وهو
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره . . “
إلى آخر الحديث ، وهذا التجلي هو من المقام الموسوي الذي قال تعالى فيه : “ وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [ طه : 39 ] ، ومن المقام المحمدي استمداده في قوله تعالى : فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [ الطور : 48 ] ، فمتى أبصر العبد كان اللّه الباصر ، ومتى كان هو الباصر كان العبد بصره ، وإذا أحبه يعود العبد نظر اللّه في نزع الاختيار عنه ، والخالص من هذا كله أن اللّه في حال تقييد الوجود ينظر إليهم بعين مقيدة ، لئلا يفنى هذا التقييد ، وهذه العين هي المخلوقة على الصورة وهو الواحد في زمانه .
قوله : ( وأنت وجهي فاستتر ) تأييد ما ذكرناه من الاقتسام إذ المحتجب على الإطلاق هو اللّه فلا يصدق الحجاب من دونه إلا على فان في هويته ، وهذا الفاني هو المقتسم كما ذكرنا لأنه متى فني والتحق بالهوية وصدق عليها الحجاب كان هذا الملتحق بها محجوبا بحجابها ، فوجب أن العارف الفاني يكون مقتسما بنصف اسم العزة التي ينشأ عنها الحجب ، فالظاهر من الوجود هو اللّه بصفات التقييد وهو مستودع في قلب هذا العارف

“ 137 “


الفاني ، فمتى شوهد هذا العارف كان قد شوهد وجه اللّه تعالى لأن جثة هذا العارف مختصرة من المجموع وهي الصورة التي ينزل فيها إلى سماء الدنيا كما قلناه ، فمظهر صورته هو مظهر وجه اللّه بصفات التقييد .
قوله : ( فاستتر ) دليل تمكين الاسم الذي صدق على هذا الواحد المقيد فمتى صدق عليه الفناء صح له الاستتار ، فإن شوهد هذا العارف مقيدا كان هذا لكماله ، وكان قد أحاط بدرجة الإطلاق وصفات التقييد ، فشهوده في صورة مقيدة من هذه الصفات الظاهرة عليه .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : ارفع الستور كلها عني ، فاكشفني فقد أبحت لك ذلك ، واجعلني في خزائن الغيوب حتى لا يرى غيري ، وادع الناس إلى رؤيتي ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( ارفع الستور كلها عني ) هو تمكين اسم العزة للشاهد كما ذكرناه ، ومثال هذا قوله تعالى : اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [ الأنعام : 106 ] ، بقوله :
( قد أبحت لك ) ورفع الستور عنه ، وهو تنبيه للمستعدين كقوله :
“ فإن لم تكن تراه فاعلم أنه يراك “
، ووجه المناسبة بين الحديث وهذا المراد هو أن ينبه العارف للمستعد الطالب على أحدية الوجود المدرك ، فقول العارف للطالب إن الوجود واحد مدرك لك مثل قوله : ( كأنك تراه ) .
وقوله : ( قد أبحت لك ) معناه أنه بعد كماله يلتزم اضطرارا بعدم الخصوص ، فلا يسوغ له أن يخفي ما بدا له من حقيقة اللّه ، فإذا أبدى ما ظهر له كان هذا عن إذن إلهي موجبه الاتصاف .
وقوله : ( فاكشفني ) معناه أظهر حقيقة أحديتي الظاهرة بالتقييد ، فمتى استند هذا التقييد إلى الإطلاق ووصف بالأحدية كان هذا الوصف كشفا لحقيقة اللّه ، وهذا هو سر التوحيد لا يبديه إلا العارف الناطق بالأحدية ، فهذا الأبد عين الكشف لهذه الحقيقة الخافية ، وهذا لا يكون إلا بعد التمكين في الإباحة ، والقدرة ، والاتصاف ، قوله : ( واجعلني في خزائن الغيوب ) معناه أن كل طالب مستعد ، ففي قوة قلبه سعته للّه كما
قال عليه السلام حاكيا عن ربه : “ إنه يسعه قلب العبد المؤمن
“ 1 “ “ ، فمتى أبدى العارف إلى مستعد شيئا من الحقيقة يكون قد أودعه في خزانة غيب ، فمتى ثبت هذا المختزن في قلب هذا المستعد
..........................................................................................
( 1 ) رواه الديلمي في الفردوس ( 3 / 174 ) ، وأبو نعيم ( 6 / 63 ) .

“ 138 “


يتصل هذا الثبوت إلى نظر عياني إلى حيث يعود لا يرى غيره .
فقوله : ( حتى لا يرى غيري ) معناه إذا أبديت سر حقيقتي إلى قلب مستعد ، فأتبعه بالتمكين الذي هو الثبوت ، فإذا أثبت هذا الاتباع فلا يرى غيري ، قوله :
( وادع الناس إلى رؤيتي ) لا يظن أنها دعوة أمر كدعوة الرسل وإنما هي دعوة نظر ، لأنه إذا قلنا : إن العارف فان والحقيقة للّه كان رأي اللّه رأيه مثل قوله سابقا : ( من وجدك وجدني ومن فقدك فقدني ) ، وشرحناه بما يليق به ونبهنا فيه على أنه متى شوهد العارف كان شهوده رأي اللّه ، ولا يكتفي في شهوده بالقول بالفناء وإنما يحمل شهوده على النطق بالأبية والاتصاف بأوصاف الهوية ، ووضع الأشياء في محلها ، وفتح المغالق المستفهمة ، فهذه كلها تصطحب فناء هذا العارف ، وهذا استمداد من اللّه بل ظهوره المرئي هو ظهور اللّه بعينه في صورته كالتحول .
وقوله : ( ادع الناس إلى رؤيتي ) يريد به رؤية هذا التحول في هذه الصورة التي قد صدق عليها الفناء ونطقت بالتوحيد عن لسان الحقيقة ، فإذا دعى العارف إلى رؤيته ليس دعوته دعوة تبعية من الناس ، وإنما هي دعوة رأي لفنائه عند تصديق اسم التحول عليه ويلتزم العارف بهذه الدعوة من أجل عدم الخصوص وهو بعينه الأمر المذكور لا أمر وسيلة .
( ص ) [ قوله : ( وستجد خلف كل ستارة ما وجد الحبيب ، فتأمل واقرأ سبحان فإذا وصلت السميع البصير فافهم مرادي وأخبر العباد بما رأيته تشوقهم إلي وترغبهم في وتكون رحمة لهم ) ] .
( ش ) أقول : إن الحبيب ها هنا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأن مظهره رحماني ، والرحمن يقتسم الوجود بدليل الآية ، وهذا مظهره ، وأما صورته صلى اللّه عليه وسلم فناشئة من الرحمة بعموم المثلية ، فلما كان مظهره تكرار اسم الرحمة عند ختم الزمان الذي هو آن الاستدارة المفضية إلى الكمال ، وحقيقة الوجود كاملة وكما لها كان قبل مظهر هذا الحبيب خافيا ، فعند ظهوره ظهر هذا الكمال ، فوجب أن يكون هو مظهره ، وإذا كان سبب ظهور كماله كان حبيبا له ومن أجل هذا الاسم استحق الخلافة في عموم الحكم دون غيره من إخوانه المرسلين وإظهار هذه الحجب ، فالأنبياء مستمدون من علم هذا الحبيب جارين على نمط ما جاء به لكنه اطلع على مجموع العلم على سبيل الاختصار ،
فقال صلى اللّه عليه وسلم : “ أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا “
، فالمطلعون من الأولياء على حقيقة هذا العلم المختصر يطلعون عليه مفصلا شيئا فشيئا لأنهم يشتغلون على بني الجنس بالتدريج على منهاج ما يستمدون من الأنبياء ، والرسول

“ 139 “


يأخذ العلوم دفعة ، لأن من جبلته مفطرة عليه لا يقتضي المهلة إذ المهلة للتعلم وهذا لا يتعلم للإرسال ، والأولياء قد يتعلمون لاكتساب هذا العلم ، فيستمدون من الرسل شيئا فشيئا ، فلهذا يطلعون على التفصيل الذي نزل على الرسل بالإجمال ، وهذا معنى قول الإمام العارف الكامل أبي يزيد رضي الله عنه : خضت بحرا وقف الأنبياء على ساحله أي : فصلت ما أجمله الأنبياء وموجب هذا التفصيل حصوله للعارف المستمد شيئا بعد شيء .
وقوله : ( ستجد خلف كل ستارة ) هذا دليل على التفصيل أيضا ، فإنا لا نجد في الحقيقة ما يخالف ما جاءت به الرسل ، ولو وجدنا مخالفا لما أظهرناه لقلوبنا الظاهرة إذ لا نمشي إلا على منهاج الرسل عليهم السلام ، فهذا التفصيل الحاصل لهذا العارف عند رفع الستور هو جري على طريقة الرسل ، ولهذا قيل له : فستجد ما وجد الحبيب ، وقد قال في هذا النمط الإمام شيخ الطائفة أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه : إن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، فمتى قلنا : إنه من العلم الذي
قال فيه صلى اللّه عليه وسلم : “ إنه لهيئة المكنون “
، يجب على السامع التصديق إذ لا يخالف ما أكنه الرسول صلى اللّه عليه وسلم قوله : ( فتأمل واقرأ سبحان ) معناه إذا وصلت إلى هذا التفصيل تحقق ما جاء به الرسول ، وسبح باسم الذي منحك هذا المقام الذي لم يطؤه سوى الأنبياء في حال الإسراء ، فالأنبياء تحققوا بهذا المقام خصوصا والأولياء عموما على الاستمداد الذي عبرنا عنه بالتفصيل ، فإذا تحقق الولي حقيقة ما جاءت به الرسل وجب التسبيح تعجبا بهذه المنحة التي لا يطؤها سوى أهلها ، ويجري في هذا التسبيح إلى حيث كمال الآية ، وهو قوله تعالى : السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الإسراء : 1 ] ،
فإذا بلغ هذا الكمال في التلاوة حصل له العلم بتحقيق مراد اللّه من الرسل والأنبياء والأولياء ، فكل له مقام معلوم بمراد اللّه ووهبه ، فمقام الأنبياء المرسلين يباين مقام النبيين غير المرسلين ومقام النبيين يباين مقام الأولياء ، والكل مشتركون في عموم العلم والمميز بينهم خصوص ظهور يستعلي به المرسل على غيره ، قوله : ( وأخبر العباد بما رأيته ) لا يظن وارد إنذار ولا تنزيل أمر ، وإنما هو وارد ، مراده للظهور ؛ لأن الولي يتكفل بإلهام الناس بعلم الحق كالتسليك والتربية والردع عن الضلال وما أشبهه ، وكل هذا جرى على نمط التشريع ويظن أن العارف يستشرف في نفسه إلى ما ليس مقامه وليس كذلك ، وإنما يظهر خفي ما استبهم على الناس ما وضعته الرسل فيطلع عليه العارف اطلاعا ويلحقه بما ثبت في أذهان العوام من التشريع ، وهذا التحلي معنى قوله : ( أخبر العباد بما رأيته ) كأنه قال : إذا تحققت ما خفي عيانا أو كشفا أو واردا أو إلقاء ، فأخبر الناس به

“ 140 “


على سبيل عدم الخصوص ، فإن ظن أحد أن العارف خالف منهاج الرسالة ، فإن له فيما قالت الرسل مخرجا من
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ تذهب النبوات ولا يبقى إلا المبشرات . قيل : يا رسول اللّه وما هي ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له
“ 1 “ “ .
و قوله صلى اللّه عليه وسلم أيضا : “ الرؤيا الصالحة “
أو قال :
“ الصادقة جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة
“ 2 “ “ . فقد أبقى للأولياء سعة ظهور بحكم ما ، فقد يوجد عارف يعمل بهذا الإبقاء ، وهذا العمل من سعة تمكين المعرفة ، قوله : ( تشوقهم إلي وترغبهم فيّ ) هذا ظاهر ذلك أنه متى وجدنا ناطق باللّه أو بحقيقته أو بصرف التوحيد فنطقه باللّه ، وحقيقته توجب التشوق ونطقه بصرف التوحيد يفضي إلى الترغيب ، فكأنه قال له : إذا وصلت إلى تحقيق هذا المقام الذي هو مقام الحبيب أنطق باللّه لتشوق العباد وثني بالتوحيد العام ليرغب الناس في معرفتي المفضية إلى الكمال .
قوله : ( وتكون رحمة لهم ) أي : إنه متى وقع الترغيب في المعرفة المفضية إلى الكمال كان موجب هذا الكمال الرحمة التي لا يشوبها النقمة البتة ، فإذا حصلت لأحد من المتشوقين هذه الرحمة كان الوجوب بالترغيب يصطحب هذه الرحمة الكمال المحتوي على صفتي الرحمة والنقمة ، فالعارف قد اتصف كلا الاسمين والظاهر عليه منهما هو اسم الرحمة فهذا معنى قوله : ( وتكون رحمة لهم ) .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : ارفع الستور واحدا فواحدا ، فرفعت الأول ، فرأيت العدم ) ] .
( ش ) أقول : معنى قوله : ( ارفع الستور شيئا فشيئا ) يعني واحدا فواحدا يريد به التفصيل الذي ذكرناه على قدر الاستمداد من الرسل .
وقوله : ( فرفعت الأول ) معناه اتبعت الأمر بالدخول تحت حوطة اسم الربوبية وقوله : ( فرأيت العدم ) معناه أن العارف قبل المعرفة يعتقد أن وراء المعهود من التبعية والأفعال شيئا ، فعن المعرفة تيقن أنه لا شيء وراء الحقيقة المدركة لكنه يزداد في حال المعرفة تمكين النظر العياني ، وحال الاتصاف بالفناء في الهوية ، وهذه كلها زيادات على ما كان عليه حال الجهل ، فالمعرفة تجمع بين حقيقتي ما كان عليه وما اطلع عليه آنفا .
..........................................................................................
( 1 ) رواه البخاري ( 6 / 2564 ) .
( 2 ) رواه البخاري ( 1 / 4 ) ، ومسلم ( 1 / 348 ) .

“ 141 “


وقوله : ( فرأيت العدم ) أي : أن الظاهر على العارف صفات التوحيد المفضية إلى عدم الأشياء المتعددة ، فلا يرى إلا عدمها في حالتي الكشف واليقظة ، ففي اليقظة يدرك العدم المقيد ، وفي حال الكشف يدرك العدم المطلق ، فالعدم المقيد هو الفناء مع الثبوت ، والعدم المطلق هو فناء الفناء ، وهو بقاء الأحدية ، فكأنه أخذ من عدم التقييد إلى عدم الإطلاق ، فرأى الفناء الحقيقي عند مبادئ التفصيل الذي جرى فيه على النمط المذكور عند رفع أول الحجب .
( ص ) [ قوله : ( ثم الثاني الوجود ، ثم الثالث فرأيت الوجود ثم الرابع فرأيت العهود ) ] .
( ش ) أقول : معناه إشارة إلى البقاء بعد الكمال الحقيقي وهو عدم العدم المعبر عنه بفناء الفناء فإنه من الوجود إلى العدم الذي هو الفناء ، ومن الفناء إلى فنائه الذي هو البقاء ، وهو الذي عبر عنه بالوجود ، فكأنه رفع أول حجاب من هذا التفصيل ، فرأى فناء الوجود ، فعبر عنه بالعدم ، وبالحقيقة هو عدم التقييد ، وهو العدم النسبي إذ العدم المطلق محال إذ هو ضد الوجود ورفع الثاني ، وهي نقلة من شهود إلى شهود في خلع واحد ، فرأى الوجود الحقيقي الذي هو الثبوت وفيه يجمع العارف بين النقيضين من أجل أنه يرى الكثير واحدا بما تقدم من شهود العدم الأول ، والواحد كثيرا بما طرأ على هذا الواحد من التقييد في حال الاتصاف بالكمال ، فحقيقة العدم والوجود لا يكون إلا في شهود ، وقد يحتوي على هذين الشهودين شهود واحد كما ذكرناه وقد ترد متعددة وواحدة ، فواحدة كل منها في خلع .
قوله : ( ثم الثالث فرأيت الوجود ) أقول : يريد به الوجود الثاني : ها هنا هو بقاء البقاء ، لأن الوجود الأول هو البقاء إذ البقاء لا يكون إلا للوجود ، فعند رفع الثاني رأى البقاء الذي هو الوجود بعد العدم ، ولم يعدم العدم في هذا البقاء ، فعند رفع الثالث عدم العدم ونفى موضع العدم البقاء لأنه متى عدم العدم صار بقاء ، وهذا نسميه بقاء البقاء لأن في هذا الشهود أعني الرفع الثاني يشهد العدم والوجود معا ، فيشهد الأحدية ولها العدم ، ويشهد الأعيان الكثيرة ولها الوجود ، فهذا كما ترى شهود العدم والوجود معا إذ لم يكن العدم قد فني ، ففي الرفع الثالث يفنى العدم الذي شوهد مع الكثرة وعبّر عنه بالأحدية ، فنسمي فناء هذا العدم بقاء البقاء ، فهذا معنى قوله ها هنا : ( فرأيت الوجود ) أيضا ، وهذا وجود الوجود حقيقة ، فكأنه قال : وجدت حقيقة الوجود العارية عن العدم .

“ 142 “


وقوله : ( ثم الرابع فرأيت العهود ) أقول : مراده بالعهود ها هنا أن الكامل بعد كماله يلحق بدرجة الاتصاف عيانا لا إدراكا ، لأنه في حال شهود ثبوت الأعيان حصل له الإدراك للأحدية وهذا اتصاف إدراك لا اتصاف عيان ، وهذا هو الغاية القصوى ، ويزداد على هذا الشهود ، ولا تكون هذه الزيادة إلا عارضة مختصة بالكامل بعدم كماله ، وهي قوله : ( رأيت العهود ) ، وصورة ذلك أنه يجمع للعارف الكامل مجموع الوجود في أربع حضرات وهي المسماة بالأسماء الأربعة ، قال اللّه تعالى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [ الحديد : 3 ] ، فهذه تحضر للعارف كما قلناه ، فشهدها متبرئا عن مجموعها ، وعن واحد منها ، فيشهد نفسه مجردا عن الأسماء والصفات ، فعند حضور هذه الحضرات يدرك كلا منها بحسب ما يليق به ، فالأولية قبل الوجود الظاهر ويدرك فيها أخذ العهود ، ويدرك قوله تعالى : أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ [ الأعراف : 172 ] ، وقول السامعين ( بلى ) ، ومن ها هنا ، قال الإمام العارف سهل رضي الله عنه حيث سئل عن الولي ؟ فقال : من سمع بأذنيه ، قول : ألست بربكم ؟
فقيل له : وأنت سمعت ذلك ؟ فقال : نعم ، وأعرف من كان عن يميني ، وأعرف من كان عن شمالي ، فيشهد فيها أخذ العهود ، فهذا معنى قوله : ( رأيت العهود ) في الرفع الرابع ، وهذا ينزل من أشرف الموارد النازلة ينبغي للواقف عليه ، أن يركب منهاج التعظيم لهذا العارف رضوان اللّه عليه وذلك لأنه تكفل بإظهار هذه المرتبة في ثوب من الخفاء ، فلما عرفنا أنه اتصف بهذه الحضرات وجب أننا نظهر هذا الاتصاف لنشر فضيلته لا غير ، فقد عرف في هذا التنزل أنه حضرت له هذه الحضرات واتصف بها كلامها في محلها اللائق بوصفه ، فحضرة الظاهر مقابلة العدم ، وحضرة الباطن مقابلة الوجود الذي ضد العدم ، وحضرة الآخر هو الوجود ، وحضرة الأولية التي هي العهود ، فهذه هي الحضرات الأربعة التي يحتوي عليها مجموع الوجود قد فصّلها هذا الرجل عن اتصاف بلا تقصير تقليدي ، وإنما بدأ فيها بالعدم ، لأن القصد في المعرفة فناء الظاهر الذي هو المقيد ، إذ الحقيقة بريئة عن التقييد فمتى وصل المراد “ 1 “ للمعرفة ، إلى هذا الفناء أعني عدم التقييد يستشرف على كمال المعرفة
..........................................................................................
( 1 ) قال القاشاني عن المراد : عبارة عن المجذوب عن إرادته ، فإنه مع تهيؤ المراد له يتعمد في طلبه ، ولا يفتقر إلى الإرادة والقصد ، والمراد : من المجذوب عن الإرادة من المحبوب ، لا من هو مراد لما أريد به ، لا بد له من إرادة ، تتعلق بما أريد به منه ، هذا إذا كان المراد لما أريد به من أهل الطريق ، ولا يقع إلا ما هو مراد له ، وأما العوام فقد يظهر بينهم ما أريد به من غير إرادتهم ، ومن خصائص المحبوب ألا يبتلى بالشدائد والمشاق في أحواله من حيث كونه محبوبا ، فإن ابتلي ، فذلك بكونه محبا ، فجاوز المحبوب حينئذ المجذوب عن إرادته الرسوم كلها ، الساترة بخصوصيتها عين الحق ، والذي كشفه

“ 143 “


ودخوله في التحقيق يكون وجود حضرة أخرى ، وهي التي سماها بالوجود ، وعند الاتصاف بهذا التحقيق يكون وجود حضرة أخرى وهي الوجود الثاني الذي عبرنا عنه ببقاء البقاء ، لأنها تحصل بعد عدم العدم وعند ثبوت الاتصاف ، وهي العوارض التي تعرض للعارف تكون وجود حضرة أخرى ، وهي التي عبر عنها بالعهود .
( ص ) [ قوله : ( ثم الخامس الرجوع ثم السادس فرأيت البحور ، ثم السابع فرأيت الظلمات ثم الثامن فرأيت الخضوع ، ثم التاسع فرأيت التعليم ثم العاشر فرأيت الاشتقاق ثم الحادي عشر فرأيت الإباحة ) ] .
( ش ) أقول : يريد بالرجوع الرجوع إلى نمط الكمال تارة في التقييد وطورا في الإطلاق ، فلما اتصف بهذه الحضرات الأربعة عيانا عاد آخذا في طريق الظهور والخفاء ، فالظهور للتقييد والخفاء للإطلاق وهو اسم للأحدية ، فالرجوع من حال الاتصاف ليس كل الرجوع من حال الكمال والفرق بينهما أن رجوعه من الكمال كان اتصافا بالأحدية لا على سبيل حضرات أربعة ، فلما اتصف بهذه الحضرات عاد رجوعه رجوع متصف بالأربعة في عين الأحدية ، وهذا رجوع تحقيق الحقيقة بعد الاتصاف ، فلما نفي الشاهد ها هنا ، ولا شيء وهو منطلق أراد الظهور بالتقييد من أجل حيازة الكمال ، فأول ما اطلع على الرجوع وهو الرفع الخامس إذ الرجوع إلى الوجود لا إلى العدم ، وهذا الرجل على سبيل التقييد إذ هو بعد آن الإطلاق .
وقوله : ( ثم السادس فرأيت البحور ) ، أقول : البحور ها هنا مدد الحياة المتنوعة فكل نوع متفرد من هذه الحياة قد سماها بحرا يستمد منه الحياة ، وكما أن البحر ماء واحد كذلك الحياة نوع واحد لكن بقدر تنوعها جعل لها بحور متعددة وكما سبق بالرجوع إلى النشأة الظاهرة التي تستمد من الماء ورأى أن الاستمداد مختلف جعل سبل استمداده أيضا مختلفة ، وورود هذا التنوع متعدد يحتوي على أشياء كثيرة كالوارد في الآية ، وهي قوله :
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : 30 ] فحيث تضمنت أشياء كثيرة لما تقتضيه لفظ كل ذكر رحمه اللّه بحورا متعددة ؛ لأنه اطلع على أصول الأشياء في مجالها أما ما يقتضيه الإجمال مجملا ، وما يقتضيه التفصيل مفصلا ، فكل بحر من هذه البحور مدد نوع من هذه الأنواع التي كان الرجوع إلى إدراكها المقيد الذي يقتضي التفصيل .
بتجليته الذي هو المطلب الفاني ، وجاوز أيضا المقامات من غير مكابدة ومشقة ، فإنها تطوى له ، فلا يفتح عن بصيرته إلا وقد يقع بادئ النظر على الحق من غير مزاحمة رسوم السوى .

“ 144 “


قوله : ( ثم السابع فرأيت الظلمات ) أقول : معنى الظلمات ها هنا هو الإطلاق إذ الظلمة صفته فلما كان الكمال يقتضي أنه تارة مقيد ذكر أولا تفصيل الحياة المتنوعة واستمدادها من أصول منبعها ، واتصف بهذا التنوع الذي يقتضي التقييد ، وطورا يقتضي الإطلاق ، ولا يكون ذلك إلا بإدراك الظلمة ؛ لأن الأحدية لا نور فيها يشبه هذا النور المميز إذ هي تزيد على التمييز ، ولهذا لا يكمل أحد إلا إن اتصف أولا بصفات هذه الأحدية التي يطلق عليها اسم الظلمة ، وهذا الاتصاف هو المحو “ 1 “ المعبرّ عنه بالفناء لكن العارف لا يفتقر وقت إطلاقه إلى قطع مراتب متعددة ، لكنه عند إرادة الإطلاق يدرك هذه الظلمة فقط إذ ليس من التقييد إلى الإطلاق زمان لكنه آن واحد ، فلو افتقر إلى قطع مراتب كان أيضا مفتقرا إلى آنات متعددة ، ومن شرط كماله أن يتقيد في آن ، وينطلق في آن آخر ، فهذه الظلمة صفة الإطلاق بعد التقييد المعبر عنه بالبحور المتعددة .
وقوله : ( ثم الثامن فرأيت الخضوع ) أقول : معنى الخضوع ها هنا القيام بحقوق الواجبات ؛ لأنه من شرط الواصل إلى هذه المرتبة التي يتصف فيها بإطلاق ، والتقييد إعطاء
..........................................................................................
( 1 ) المحو : رفع أوصاف العادة .
نص قدس سره في الفتوحات : “ إن المحو كالنسخ ، فإن الحكم إذا انتهت مدته انتفض بغيره ، والنسخ في الأحكام انتهاء مدة الحكم ، وفي الأشياء المدة “ .
قال تعالى : كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [ الرعد : 2 ] .
فجريان العادة في كل مخصوص ، وإنما يكون إلى وقت معين ، ثم ينتقض بما هو ليس بعادة . يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [ الرعد : 39 ] .
والمحو في الكامل ، وإنما في باطنه ، دون ظاهره ، فإن ظاهره متلبس بالعادة .
وباطنه غير مقيد بها ، ومن العادة الركون إلى الأسباب ، فبالمحو يكون الركون ، وتبقى الأسباب جارية على حكم مجالها .
وقيل : المحو : إزالة العلة المؤثرة في القلب ، القادحة في طريق وصوله على الحق ، المورث بقاؤها : الوقفة ، والفترة ، وربما يراد بها أنانية العارف ، فإنها علة لمعرفة اللّه تعالى ، فإن زالت عينها زالت معرفته .
فمحو العلة هنا محو رؤيتها ، ومحو الوقوف مع تأنيها في تحصيل المعرفة ، لا محو عينها ، ألا ترى كيف نفى الحق تعالى منه صلى اللّه عليه وسلم بقوله : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ الأنفال : 17 ] . مع كون الرمي في رأي العين إنما كان من يده المباركة صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه حالتئذ كان ممحوا عن رؤية ذاته ، وكونها علة للرمي الظاهر منها . وقيل : ما ستره ، ونفاه عنك ، بما يرد عليك من جهة الحق ، أو الكون ، فيفيدك بآثاره وأحكامه ، فيمنعك عن التحقيق بالحق في بينونة تستوي معها أقطار الوجود .

“ 145 “


المظاهر حقها بميزان العدل من محل قوله تعالى : أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [ طه : 50 ] ، فإذا اتصف العارف الهوية التي من أسمائها المعطي يلتزم اضطرارا بأداء هذه الحقوق المعطية الفياضة ، فيعطي الربوبية أيضا حقها والعبودية حقها ، فالخضوع مقتضى العبودية ، فأول ما يلتزم من التقييد إذا حق الربوبية ، لأن الالتزام بها عند أول وجوده وقبل تعرف عقله في أداء ما يريد وترك ما ينبغي جادا بمقتضى العقل ، فكأنه عند أخذه من الإطلاق واتصافه بالتقييد أطوارا لها إلى أداء حق الربوبية عند أول وجوده في هذا التقييد وهو الخضوع المذكور .
قوله : ( ثم التاسع فرأيت التعليم ) أقول : معنى التعليم ها هنا عند أول وجوده في التقييد هو معنى تعليم آدم الأسماء بعينه ؛ لأنه وجد في التقييد وبعد وجوده فيه عند كمال نشأته بالدراية تعلم الأسماء ، فهذه مراتب متعددة في التقييد لكنها صفات عدمية لا حقيقة لأعيانها ولا يدركها أحد في مثله ، لكن الجزء المقيد وهو الشخص يدرك هذا في نفسه بغير زيادة في جثمانه إذ الحقيقة في الجثمان لكنه يتزيد بزيادة السعة في الإدراك والبصر ، وقبل هذه الزيادة كان إدراك وبصر لكنه غير محصور فهذه الزيادة تعطيه الحصر وشدة الإدراك ، فقوة الحصر أوجبت اسم التعليم إذ كل حصر ينفرد بذاته ينطلق عليه اسم علم من العلوم . قوله : ( ثم العاشر فرأيت الاشتقاق ) ، أقول معنى الاشتقاق ها هنا هو التمييز للأشياء المحصورة المتعددة ، فكل اسم ينفرد بذاته يشتق من الصفة اللائقة به التي نشأ عنها مثل قول الإمام محمد بن عبد الجبار النفري رحمه اللّه : إن استخلفتك شققت لك شقا من الرحمانية ، وكذلك ، قال : من عصى فاشتق اسم الرحمن من الرحمة التي كانت قبله صفة ، فلما قيد المعلومات بالحصر المراد للتمييز أراد لها المباينة بالاشتقاق حتى يمكن التعليم بتمكين المعرفة إذ الاشتقاق مقتضى المتباين ، فعند إرادة التقييد تتباين الأشياء حتى التمييز يتصف الشاهد بها عن عين تمييزها .
قوله : ( ثم الحادي عشر فرأيت الإباحة ) ، أقول معنى الإباحة : سريان حكم الشاهد في الكثرة الموصوفة بالاشتقاق ، فإذا تمكن هذا الحكم صار الوصف إباحة بشرط وصف الإطلاق تارة والتقييد تارة ويعود له هذا الوصف اختيارا في حال التقييد ينفذ الأشياء في المقيدة عن هذا الاختيار الذي قد صار صفة إباحة وتصطحب هذه الإباحة المشيئة ، وهذه المشيئة ينتج عنها النفوذ في الموجودات مع بقاء الاختيار وينتج عنها الأخطاء والاستمداد أيضا لهذه الأشياء المحصورة ، والحكم هو صورة تقليب الأطوار إلى آنية

“ 146 “


المشيئة وهو الظاهر على الموصوف ، ولهذا قال : ( الإباحة ) ، لأن الشاهد ها هنا لا يرى إلا حاكما بالاختيار .
( ص ) [ قوله : ( ثم الثاني عشر فرأيت المنع ، ثم الثالث عشر فرأيت التعدي ، ثم الرابع عشر فرأيت الغضب ، ثم الخامس عشر فرأيت السحر ، ثم السادس عشر فرأيت الحروف ، ثم السابع عشر فرأيت التولد ، ثم الثامن عشر فرأيت الموت الجزئي ، ثم التاسع عشر فرأيت الموت الكلي ، ثم العشرين فرأيت التوجيه ) ] .
( ش ) أقول : معنى المنع اتصاف بالإطلاق بعد التقييد ؛ لأنه متى حصل الإطلاق في منع عن التقييد وهذا منع ضدية لا منع شيء من مثله ، والإطلاق ضد التقييد فلا يقال أن المنع ها هنا تقييد ، وإنما هو منع إطلاق عن تقييد ، فلما كان في الآن السابق مقيدا أعطى فيه الإباحة ؛ لأن الإباحة مقتضى الحاكم والمحكوم عليه ، وهذه كلها من صفات التقييد ، فلما عاد في الآن الآخر آخذا في الإطلاق منع من التقييد ، وهو من صفات عدم الإباحة والإطلاق صفة المنع إذ المطلق عار عن القدرة والاختيار وتعود الأفعال له في حال الإطلاق طبعا بغير إرادة ، والشاهد الموصوف به لا يتعقل الأفعال إذ هي طبع بغير مشيئة .
قوله : ( ثم الثالث عشر فرأيت التعدي ) ، أقول : معنى التعدي ها هنا : التجاوز ، وهذا تنزيل حسن من محل الغاية التي هي مقتضى الفيض ، وهذا المحل مختص بالذات إذ لا يتجاوز الشاهد صفات الذات إلا إذا اتصف بريء عن الصفات ، فالتجاوز عن الصفات هو اتصاف الشاهد بالذات فقط ولما منع عن التقييد بصفة الإطلاق التي هي مختصة بالذات تجاوز هذه الصفة باسم المنع الموجب للتجاوز وعاد ذاتا عارية عن الصفات ممتلئة فياضة جاذبة دافعة منها وعليها وبها وإليها حال كان ولا شيء لكن الذات محال أن يقف على نمط واحد أكثر من آن ، فالامتلاء والفيض والجذب والدفع يكون في الآن الذي هي فيه ولا شيء ، وموجب هذا الاستعلاء بصفة التجاوز هو اللفظ بالمنع ؛ لأنه لما منع عن التقييد بصفة الإطلاق ولابد من الفيض إلى جهة لأنه لا وقفة أخذ في الاستعلاء وتسمى باسم الذات حال كان ولا شيء .
قوله : ( ثم الرابع عشر فرأيت الغضب ) ، أقول : الغضب موجبه المنع وهو عبارة عن صدور صفة الانتقام ؛ لأنه لما منع عن التقييد انتقم من المقيدين بالعدم ، لأنه متى جرى على نمط الإطلاق عدم التقييد الجري موجب هذا العدم وهذا انتقام من المتحرين بعد حصول المنع ، وهذا العدم صفة المدة المحكوم عليها بالخيال أنها كانت قبل وجود الخلق
يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:27 pm

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

“ 147 “


وهي عدمية لا وجود فيها ، وهي بالنسبة إلى اللّه إدراك لائق بذاته فلا يطلق عليها الوجود بالنسبة إلى عقولنا ولا يطلق عليها العدم لأنها حقيقة إدراك الذات ، وهذا الحكم ينفي قول القائلين بقدم العالم ؛ لأنه محل عدم بالنسبة إلى الوجود وينفي العدم لأنها حقيقة إدراك الذات لنفسها ولا شيء معها ، فهذا زمان إدراك لا زمان حركة شمسية ، ومثاله : النائم الناظر في نومه زمانا ينطوي فيه مدة أيام وليال وشهور بل وسنين وهو في مقدار ساعة أو أقل ، فهذا آن عدمي انطوى فيه مدة طويلة بالنسبة إلى النائم ، فهي عدم بالنسبة إلى هذه الساعة أعني ساعة الحكم ووجود تيقن النائم أنه قد انطوى له زمان فهذا وجود عدمي وعدم وجودي ، وقد استبهم هذا الإظهار على السامعين المختلفين الواقفين عند الحدود الرسومية ، فنزيده إيضاحا بمثال آخر ، فنقول : أنه إذا كان شخصا في محل مظلم يدرك نفسه موجودا في آن واحد يتمثل في خياله قطع مسافة إحاطة ورجوع وزمان طويل في قطع تلك المسافة المتخيلة ، فهذا زمان في آن واحد عدمي بالنسبة إلى الحركة الشمسية ؛ لأن الآن ينافي الزمان وقد وجد المدرك فيه مدة ومسافة إحاطة ورجوعا ، فهذا وجود عدمي يخيل هذا الوجود ، كالتخيل لعدم العدم في الوجود لكن العدم المطلق لا يخيل إلا ضدا ، 
فقد ضلّ من قال : إننا لا نجمع بين الضدين إذ كل من يتصور العدم في الوجود فقد جمع بين الضدين ، فهذا الآن الذي انطوت فيه المسافة المطابقة للزمان هو وجود عدم ؛ لأن المتخيل يقطع بأنه لا زمان مرّ عليه ويحكم أنه في خياله قطع مسافة تحتاج إلى الزمان ، فالزمان الذي كان اللّه فيه ولا شيء مثل هذا الزمان المعدوم المحكوم بقطع المسافة التي تفتقر إلى طول المدة ، فهو زمان إدراك لائق بالهوية لا زمان انقضاء لائق بالوجود ، فإن قال القائلون القدم أن هذا الذي قررتموه هو مرادنا ، إذ هو شيء موجود وهو قديم ، قلنا :


هذا غلط هذا الذي قررناه عدم وهو صفة إدراك لائق بذات اللّه لا يتخيل فيه وجودا إذ لا يحكم على هذا الوجود إلا في زمان منقض خصوصا إن قورن بالحركة الشمسية ، وكلما قررناه وجودي والزمان الذي يتخيل فيه الوجود هو عدم وهو مختص بهوية اللّه تعالى إذ هويته تباين هذا الوجود المدرك المتوقف على مقدار الحركة الدورية ، فإن وجدت مخيلة يحكم على مدة تباين هذا الزمان فقد حصرت هذا الزمان الذي كان فيه ولا شيء ، وإلّا فلا يحكم على هذا الخيال بالعدم ، وكيفية نسبة هذا الكلام الذي ورد إلى شرح الغضب هو أن الغضب ها هنا ينزع إلى عدم المنتقم منه ولا مثال لهذا العدم إلا هذا الزمان الذي لا يتعقل ولا يتخيل إذ جميع ما يتعقل ويتخيل مقرون بهذه الحركة الدورية ، فعند اتصاف هذا


“ 148 “


الشاهد بصفة الذات بعد فنائه أوجب لنا أن نذكر الزمان الذي كان اللّه فيه ولا شيء وهو زمان الإطلاق ولا زمان التقييد، وكل هذا موجبه منع التقييد.
قوله : ( ثم الخامس عشر : فرأيت السجن ) أقول : معنى السجن هو المتمكن حيث ورد عقيب الغضب وهذان واردان في حال التقييد ، ولهذا تمكن الثاني الذي هو السجن ، وكأنه حرص على المقيدين لئلا يفضي بهم إلى الفناء ، فليس نتيجة الغضب إلا الانتقام الصرف الذي يفضي إلى الهلاك فورد هذا السجن مانعا متمكنا خوفا من صدور الانتقام .
قوله : ( ثم السادس عشر : فرأيت الحروف ) أقول : معنى الحروف ها هنا تمييز العلم في حال الاستقلال بصرف التقييد لأنه لا بد له من التمييز والظهور والفيض فلما منع عن الفيض أفاض على ذاته نورا خافيا ميز الأشياء المرادة للفيض في علمه ، وهذا النور هو أشدّ لطفا من هذا النور المميز في الظاهر لشدة نوره يدرك كأنه خاف ، لأنه لا جسم له يظهر إلى وجود الشاهد ، وإنما هو لطف يدركه على سبيل الإحساس ، ولهذا ميز العلم ، والحروف هي المميزة بين المعلومات ولهذا يدرك كثرة على قدر اختلاف الحروف وتكرارها ، وقد رأينا صورة الحروف وأوردناها في كتاب الختم وعبرّنا عنها باللطائف ، لأنها نشأت في ذلك المقام عن اللطف وصنعت منه وميزت مختلفة بنورانية زائدة على اللطف ، وهذا التمييز لا يكون إلا في العلم اللائق بالأولية ؛ لأن الاطلاع على الأولية يغني ما سواها ويبقى مجرد العلم فعند إرادة التمييز للمعلومات يظهر نورانية لطيفة لائقة بهذا العلم الخافي ، فميز اللطائف التي هي الحروف لأن تمييزها عند تمييز المعلومات ، ومحال أن يحصل هذا المقام إلا وقد استقل الشاهد ، بجهة الأولية وهي صورة السجن المذكور أولا فعاد في هذا السجن تقلب أطوار العلم وهي الحروف المذكورة .


قوله : ( ثم السابع عشر : فرأيت التولد ) أقول : إن التولد ينشأ عن العلم وهو صورة الفيض إلى الوجود الظاهر ، فحيث يرد شيئا فشيئا وروى عنه بالتولد ، وهذا الفيض صورة إظهار ولا يشبهه إلا تولد الأشياء الخافية إلى حيث يطلق عليها الظهور وكما أنها تدرك كأنها محجوبة كذلك يعتقد أنها في محل ضيق مثل ما يحكم على الجنين أنه في محل ضيق ، فعند الولادة تكون صورة الظهور إلى معتقد السعة ومطلق التولد هو صورة الفيض من العلم إلى الظاهر .
قوله : ( ثم الثامن عشر : فرأيت الموت الجزئي ) أقول : معنى الموت الجزئي هو إدراك الشاهد المتصف للنقلة من اسم إلى اسم ، فنسميه في حال اتصافه عند النقلة موتا جزئيا لأنه يدرك واحدا من الأسماء قد انتقل منه ، وواحد إليه ، فالموت المعهود جزئي لأنه لا


“ 149 “


يجد المتصف فيه مجموع الأشياء ميتة ولو وجد هذا لكان يعرى عن الاستواء إذ استواؤه بوجود الأربعة ، فمتى انقضى مجموع عالم الظاهر تعود الأربعة ثلاثة وهذا محال ما دام اللّه موجودا متصفا بالكمال فبالحقيقة حقيقة الموت جزئية ، لأن صورة الانتقال شيئا فشيئا ولا ينتقل المجموع دفعة إذ المجموع كليّ ، وأيضا فإنه كلما انتقل من العلم إلى الظاهر شيء يطلق عليه الموت بالنسبة إلى حضرة العلم المعبّر عنها بالأولية ، وكذلك في الظاهر كلما انتقل منه شيء نسميه موتا بالنسبة إلى حضرة الظاهر ، فما دامت الحضرات الأربعة مستوية لا يكون الموت فيها إلا جزءا ، لأنه لا توجد قط حضرة كاملة غير مستمدة وبقدر استمدادها يستمد منها ، وهذا الاستمداد في مصطلح العارفين فيض ومن أراد منهم أن يظهر كماله عبر عنه أيضا بعبارة العامة الذي هو الموت .


قوله : ( ثم التاسع عشر فرأيت الموت الكلي ) ، أقول : معنى الموت الكلي هو فناء الحضرات الأربعة في ذات المتصف ، وهذا عند الإطلاق يطلق عند المتصف مع مجموع الحضرات الموت ؛ لأن الموت الأول نقلة وهذا الموت الكلي هو من حياة إلى حياة ، فانتقل الشاهد بمجموع أوصافه من حياة التقييد إلى حياة الإطلاق لأنها تباين النقلة المعهودة المسماة بالموت في لسان العموم ، وهذه نقلة تسمى فناء وهو البقاء الحقيقي بفناء الأشياء كلها ، ولهذا قال : كلي لأن الكلّي لفظ ينطلق على المجموع فهذا كله في حال هذه النقلة الكلية يفنى أعيانها المتفردة وتبقى عينا واحدة لذات واحدة تدرك صرف الإدراك الذي لا حجاب فيه وهذه صفة الإطلاق ، ومنها يأخذ في التقييد وتعود الحضرات في حقه كالحال الأول عند الاتصاف لكنه ما دام في مقام الإطلاق لا ينطلق عليه المذكور إلى انقضاء آن آخر ، فكأن الحضرات جمعت لهذا الشاهد في حال قوله جزئ وشهد فيها صورة الموت في الظاهر وصورة التمايز العلمي في الأولية وصورة الكمال في الباطن وصورة الإقرار في الآخر عند نقلة الكاملين من الباطن ، فلما اتصف بها فنيت أعيانها في ذاته فانطلق عليها الموت لزوال عيانها وعلى الشاهد ففناء هذه الأعيان هو الكليّ المعبرّ عنه ، ومنه يقول الكامل قد أعطيت سر الحياة من قوله تعالى : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [ الرحمن : 26 ] ، فلما ذكر الكل وجب أن يكون فناء أعيانها الظاهرة وبقاء ذاته الحقيقية ، فعند اتصاف الشاهد بهذا الاسم يطلق على نفسه التسمية بالسر “ 1 “ المذكور لأنه فني كل




“ 150 “


شيء في ذاته .
قوله : ( ثم العشرون فرأيت التوجيه ) ، أقول : معنى التوجيه هو الإرسال من حضرة إلى حضرة عند جعلها مثل ما كانت قبل الاتصاف ، فلما عادت إلى الكون الأول عادت المظاهر فيها متوجهة من حضرة إلى حضرة من الأولية يتوجه المظهر إلى الظاهر ، ومن الظاهر إلى الباطن بلا وقفة لكنه يكمل ، ثم ينتقل في آن الكمال إلى الآخر ، وهذا الانتقال صورة توجه من الباطن إلى الآخر ، وإن كان من التوجيه وهو الشيء ذو الوجه أو الأوجه كان معناه أنه متى حدث التطور في العلم يدرك هذا التطور في الظاهر أظلالا متميزة ؛ لأن مرآة الواحد الذي هو الوجود ذات أربعة أوجه وهي بالحقيقة مرآة واحدة ، فإذا أدركنا في الأول سميناه وجها وفي الظاهر ظله فنسميه وجها آخر ، وفي الباطن ظل الظاهر ، فنسميه وجها ثالثا ، ويسمى وجه المقابلة في لساننا وندرك في الآخر ظله فنسميه وجها وهي مرآة واحدة ، فمن ها هنا نقول : إن الوجود فان لا حقيقة له ويتبع الجاهل في تمكين جهله ، ونقول : إن الموجودات أظلال العلم متميزة في مرآة ذات العالم عند إرادة الاتصاف ، وإذا كان على ما عليه كان ، فيكون للمرآة وجه واحد ويصح أننا نقول : هي أظلال ، فإذا حققنا انتقال هذا الظل يدركه سريانا من حضرة إلى حضرة وهذا السريان هو تقلب الأطوار في الأولية شيئا فشيئا ، وتحقق هذا ، فندرك للمرآة أربعة أوجه ونسميها موجهة ،


الأضداد دلت على الحق الجامع بينها حتى علمته نسبة هذه الدلالة ، والحق بجمعه بين الأضداد فيه دل على حقيقة العالم به الجامع بينها علمها فأوجدها على نسبة هذه الدلالة ، فإن العالم باللّه تعالى أن يعلم الحق بدلالة السوى .
وسر الحال : بإزاء معرفة مراد اللّه تعالى فيه وهو كون الحق من حيث كونه عين سمع العبد ، وبصره ، ولسانه ، ويده ، دليلا على نفسه تعالى ، ولما كانت هذه الدلالة للعبد من حاله ، أضيف السر إلى الحال ، ويكون الدلالة من الحال وقع الالتباس ، حتى أنا اللّه ، وسبحاني ، ونحو ذلك ، وأما مراد اللّه ، فهو دلالته تعالى على نفسه حسب خصوصية حال العبد عند كونه تعالى حين سمعه ، بصره ولسانه ، ويده .
وسر الحقيقة : بإزاء ما تقع به الإشارة إلى كل شيء .
وهو حقيقة الحق في كل شيء ، والعلم بأن لا جود في الكون ولا أثر للحال فيه ، فإن العلم يزيله والحقيقة تأباه ؛ إذ لا يتصف بالحال ما لا يتصف بالوجود ، ولا بالعدم فلا تقع الإشارة إلى كل شيء إلا بحقيقة الحق فيه ، فافهم ، فإن الأسرار غامضة .


“ 151 “


وعند السريان الأول الذي هو إرسال النظور نسميه توجها ، وهو مراده ها هنا .
( ص ) [ قوله : ( ثم الحادي والعشرون فرأيت التبليغ ) ] .
( ش ) أقول : معنى التبليغ ها هنا هو تمكين الإرسال لأن الأول هو إرسال سريان غير متمكن فلما يمكن في حضرة من الحضرات صار تبليغ مظهر الشاهدون غيرها ، ولهذا قال : تبليغ لأن التبليغ من الرسول يكون من ربه إلى العباد بشرط القهر وهذا التبليغ بلا قهر لكنه يشاركه في الاسم لا غير لكنه أيضا موكل بهذا التبليغ واحد نسميه ملكا ، وهو اسم من الأسماء الأربعة لأن كل واحد منها نسميه ملكا وترتبهم مرسلين للظاهر بعضهم إلى بعض فهم متوكلون بالنقلة أو الانطباع أو الثبوت أو الظهور ، فكل فعل يليق بحضرة من الحضرات يتوكل به ملك بكسر اللام ، وإن قيل : بفتحها جاز فالنقلة إلى الملك المسمى بالظاهر والانطباع رسوله إلى الباطن والثبوت رسول الباطن إلى الآخر والظهور رسول الأول إلى الظاهر وجند هؤلاء الملوك عالم الخفاء ومساكنها اللطف ، وبالحقيقة لها البلاغ وإن كان الرسول عليه البلاغ فيكون بلاغة مختصرا من الملك المسمى بالظاهر .
( ص ) [ قوله : ( ثم الثاني والعشرون فرأيت الاعتصام ) ] .
( ش ) أقول : معنى الاعتصام الاستقلال لجهة دون جهة وهذا من قوله تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [ آل عمران : 103 ] ، وفي هذا التنزل إشارة إلى التوكل إذ هو انتماء إلى جهة اللّه دون من سواه ، وهذا الرجل كان قصده الجمع بين الأشياء بصفة الكمال فيعطى كل شيء مما قبل نصيبه إذا ثبت بحقيقة وقد جاء عنه رحمة اللّه عليه عن معتقده فأنشأ يقول :
ما عقد الخلائق في الإله عقائدا * وأنا علمت جميع ما اعتقدوه
وهذا كله موجبه الكمال ، وهذا النظم جواب السائل فلما تيقن أن عقول السائلين متمكنة في الجهل بقولهم للمسلمين أي شيء يعتقد فجمع الأشياء قال : أنا حققت جميع الاعتقادات ومراده الاطلاع على الجميع لا العمل بها وإنما كان اطلاع على حقائق العقائد فقط ، إذ العارف يلزم من معرفته بعد الظهور على الأشياء تحقيق الحق أو إبطال الباطل لإعطاء المراتب حقها .
( ص ) [ قوله : ( ثم الثالث والعشرون فرأيت القدمان ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالقدمين محل الثبوت والانقسام بشرط الخصوص المحمدي لأنه موضع مختص بوقفته صلى اللّه عليه وسلم عند الأمراء فاستمد هذا الشاهد الثبوت من خصوص الرسول صلى اللّه عليه وسلم


“ 152 “


والانقسام للأولياء أمر خاف لأنفسهم مستمد من الأمر الذي ينقسم عند المقام المحمدي فينقسم أمر العارفين بين أنفسهم وبين الناس ، وهذا الانقسام هو عدم الخصوص الذي للعارف لأنه محال أن تدع شيئا ولا يذكر شطره للناس .
( ص ) قوله : [ ( ثم الرابع والعشرون : الاختصاص العام ) ] .
( ش ) أقول : إنه لما ذكر القدمين المختصة بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ذكر الخصوص العام اللائق ببعثة الرحمانية ، لأن الرحمة عامة تشتمل على مجموع الوجود لقوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ سبأ : 28 ] فهذا الشاهد قد حقق جميع ما قاله الرسول ولهذا يتبع كلما قاله ، اقتدى به وهذا مثل قول الإمام العارف الكامل أبو القاسم الجنيد رحمه اللّه علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، وموجب هذا كله الاستمداد من النبوة بدليل
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ العلماء ورثة الأنبياء  “ 1 “ “ .
( ص ) [ قوله : ( ثم الخامس والعشرون : التنزيل ) ] .
( ش ) أقول : التنزيل ها هنا عبارة عن تنزيل الأمر المختص بالعارف كالاستمداد شيئا فشيئا فكلما استمد شيئا كانت صورته تنزيلا من عالم الأمر لأن الأمر منزل عام إلى مجموع الوجود ، ولهذا قيل : إنه مخلوق على الصورة فالصورة المخلوق عليها هي أول مميز في النور الذي فتق فيه العمى فبخصوص صورته بالخلق على الصورة اختص أمره النازل إليه بالاختصاص ، ومن المجموع فأمر العارف الكامل هو أن ينتج كلما اطلع عليه بشرط القسمة المذكورة .
( ص ) [ قوله : ( ثم السادس والعشرون : الشق ، ثم السابع والعشرون : التطهير ، ثم الثامن والعشرون : التلفيق ، ثم التاسع والعشرون : التحريم ، ثم الثلاثون : التقديس ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالشق هو معنى الخلق على الصورة الرحمانية لأن الرحمة تقتسم الوجود لقوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [ الإسراء : 110 ] ، ففي الظاهر قد جعل الظهور باسمين للّه وللرحمن وفي الآخر يتقسم الوجود بنصفين حقيقة بوجوب القبضتين ونصف للرحمة ونصف للانتقام ، فهذا الشاهد قد حصل له تحقيق ما قيل اتصافا وحقق هذا على سبيل الشق لأنه قبل التمييز الذي هو الاشتقاق ، يظهر للشاهد التمييز عند إرادة الاتصاف لأنه تارة يتصف بها متميزة وتارة
..........................................................................................
( 1 ) رواه أبو داود ( 3 / 317 ) ، والترمذي ( 5 / 48 ) .


“ 153 “


واحدة ، وليس مراده الاتصاف التمييز بلفظة الخلافة ، وهذا مثل قول العارف محمد بن عبد الجبار النفري في موافقة إن استخلفتك شققت لك شقا من الرحمانية ، ثم قال : وإن استخلفتك شققت لك شقا من غضبي فذكر الشق أوجب التمييز بين الرحمة والغضب الذي هو صورة الاقتسام عند القرار ، والشاهد في هذا المقام قد اتصف بالأشياء متمايزة عند كمالها الذي هو آخرها .
( ص ) [ قوله : ( ثم السابع والعشرون : التطهير ) ] .
( ش ) أقول : إن المراد بالتطهير هو الوقوف على كيفية استمداد الحياة لأنه متى وصل الشاهد إلى حضرة الآخرة التي هي كمال الوجود يعود مطلقا على مدد الحياة لأن عالم الآخرة يستمدون الحياة من الحي الذي لا يموت كما قيل ، فالشاهد يطلع على هذا الاستمداد عند دار الاقتسام التي هي الآخرة ففي عالم الظاهر استمداد سر الحياة من الماء ، وفي الآخرة يكون اسم الحياة قد تغير بتغير الطاهرين إلى الآخرة أعني صفاتهم فيعودون مستمدون حياة لكنهم لا يتعقلون بأي شيء يستمدون هذه الحياة فهذا الشاهد قد اطلع على صورة الاستمداد وعبر عنه بالتطهير المناسب للماء لأنها حياة تناسب هذه الحياة .
( ص ) [ قوله : ( ثم الثامن والعشرون : التلفيق ) ] .
( ش ) أقول : إن التلفيق يشتمل على مجموع الأشياء يجعلها واحدة ، كاشتمال الحياة على الأشياء المتكثرة ، وهذا هو سر قوله تعالى : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ الأنبياء : 30 ] ، فلما قال : كل شيء ، وجعلت الأشياء لهذا الشاهد واحدة عبر عن جعلها بالتلفيق ، وهذا يكون بعد حضور الحضرات ، وقل أن يكون لها ، والشاهد في عالم الآخرة وسره خاف لا يظهر إذ يتجاوز حد العقول .
( ص ) [ قوله : ( ثم التاسع والعشرون : التحريم ) ] .
( ش ) أقول : التحريم بعد التلفيق أخذ من التقييد إلى الإطلاق ، لأن التلفيق صورة الأخذ والتحريم عند التمكين في الإطلاق ، وقد عبر عنه قبل هذا بالمنع لأن اللفظين من معدن واحد لكن المنع عام والتحريم خاص ، فخصوص التحريم هو كونه المنع عن شيء دون شيء ، والمنع عام لا شيء بعينه فكأنه منع ها هنا من الظهور فقط ، إذ الظاهر ربع الوجود ، وأما المنع فيشتمل على مجموع الوجود والتحريم مختص بالظاهر ، ولهذا فإن عالم الآخرة ينزع عنهم التكليف إذ هو مشتمل على التحريم وعالم الآخرة لا يحرم عليهم شيء للقدرة على التكوين بدليل
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ إنه تعالى يكتب إلى أهل الجنة أما بعد فإني


“ 154 “


أقول للشيء كن فيكون ، وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون ، فلا يحرم عليهم شيء “
. ( ص ) قوله : [ ( ثم الثلاثون : التقديس ) ] .
( ش ) أقول : موجب التقديس ها هنا هو الاعتبار بالتحريم والتحليل إذ مطلق التفكر والاعتبار يوجب التنزيه الذي هو من محل التقديس ، والتقديس لفظ متمكن ناشئ عن الهوية التي هي منزهة عن كل شيء يشارك في المثلية ، وهذه الهوية مثل لها فتتقدس وينشأ هذا الاسم عنها بغير واسطة ، فالتقديس والتسبيح والتنزيه ينشأ عنها مع عدم الوسائط لكنها تبتدئ بنشىء التقديس أولا لأن الهوية تشتمل على كل شيء وكل شيء حي إذ لا خروج لشيء عنها فهي حية ، وتمد الحياة بالماء والحياة والماء موجب للتقديس والتطهير فوجب أن يكون التقديس في صفة أولية النشىء إذ النشىء عن تمكين القدرة .
( ص ) [ قوله : ( ثم الحادي والثلاثون : الشفع ، ثم الثاني والثلاثون : الامتطاء ، ثم الثالث والثلاثون : السلوك ، ثم الرابع والثلاثون : اللبن ، ثم الخامس والثلاثون : القرع ) ] .
( ش ) أقول : معنى الشفع هو الثنوية والمراد به تأييد من قال : إن العالم موجود واللّه موجود وإن كان هذا يخالف نظر العارفين لكنه رحمه اللّه لكماله يقصد جمعية الأشياء فيد اللّه ورجله وسمعه وبصره يشترك الإنسان فيها بالاسم ، وهذا الخفاء التنزيه اللائق باللّه فلو أنه تنزيه حقيقي لما جعل له صفات تشبه صفات الإنسان وهذه شفعية لأن الإنسان أكمل الموجودات نشأة ، وهذا تنزيه مشارك مزدوج كازدواج الشفعية وتنشأ عن هذا الازدواج المعية من قوله تعالى : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [ التوبة : 40 ] .
قوله : ( ثم الثاني والثلاثون : الامتطاء ) أقول : معنى الامتطاء الركوب على نمط التشريع ها هنا والجري على منهاجه والقيام بأوامر الرب لأن المراد من التشريع بالحكم ظهور اسم الرب وشروطه على العباد ، فعند بعثة الرسول يتحقق اسم الرب ويتحقق اسم العبودية ، ولهذا يقال : إن غير أهل الكتاب لا يكون منهم عارف باللّه تعالى فأهل الكتاب قد تحقق عليهم اسم الربوبية خصوصا على أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فلهذا من كمل من هذه الأمة الشريفة لا يكون له مثل من باقي الأمم
لقوله صلى اللّه عليه وسلم : “ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل “
، فلما تحقق الشاهد بهذه الأخبار وهذه البعثة العامة امتطى متن جواد التشريع .
قوله : ( ثم الثالث والثلاثون : السلوك ) أقول : معنى السلوك هو النفوذ إما في


“ 155 “


اللطائف ، وإما في الكثائف ، فاللطائف مؤدية إلى المعاني وحل المشكلات الغامضة المستبهمة ، والكثائف هي الأجسام المتميزة فتخترق بالنفوذ ذوات الأجسام المتميزة في حال جريه في الأحدية المتكثرة ، فلهذا أسماه بالسلوك لأنه اختراق من شيء إلى شيء فلو كان في الأحدية العارية عن التمييز لكان عبر عنه بغير السلوك إما بالجري وإما بالإدراك ، فلا يتوهم متوهم أنه جري في ثنوية ولا في أحدية صرفة عارية عن التمييز ، وإنما هو دخول موصوف في صفاته وهذه تسمى أحدية التمييز فصورة التمييز ذكر السلوك والجري الذي يتضمنه السلوك فعرفنا أنه يخترق هذه الصفات المتعددة شيئا فشيئا بتورية السلوك .
قوله : ( ثم الرابع والثلاثون : اللبن ) أقول : معنى اللبن بعد السلوك هو صورة العلم ، فلما وصل إلى محل الاستمداد اللائق بالأنبياء عليهم السلام ظهرت له العلوم التي كانت تنبه على طلبها ، واللبن خلاصة لطائف الأجسام ، وقد تردد في أطوار الجسم حتى لطف وتمكن في اللطافة ، والعلم قد ترتب في الأولية الخافية عن الظهور حتى تمكن تمييزه وتحديد المعلومات فيه فبترداده في الأولية لحق باللطائف لطافة الهوية فليس له مثال في هذا العلم سوى اللبن إذ هو بين اللطافة والكثافة ، فالكثافة الممازجة للطفه ليدرك ، واللطافة هي البياض الذي لا يقبل الدرن ، فلو ورد العلم في صورة ألطف من ذلك المشهود ، لأن تمييز المعاني في العلم تقضي شيئا من الكثافة كالكثافة المصطحبة لهذا المائع الذي هو اللبن ، ولو ورد أكثف لخرج عن حد اللبن .
قوله : ( ثم الخامس والثلاثون : القرع ) ، أقول : مراده بالقرع طلب الزيادة برفع ما تخلف من الحجب وهو النصف فحين الوصول إلى النصف ما يبقى من الارتفاع النصف الآخر ، فيستشرف نفس الشاهد إلى الزيادة التي يعلمها أنها ممكنة وراء الحجب ولا يتنبه نفس الشاهد في مبتدأ هذه الحجب لأجل البهت المبتدأ به في أوائل الاطلاع ، فإذا قطع نصف مسافة الحجب يكون قد صار الاختراق له طبعا معتادا لأن نفسه لا تثبت على نمط واحد فمن حين زوال البهت بالعادة والتردد أحدث في النفس “ 1 “ التغيير وهو الطلب المذكور والعلم المخبأ لها استمد منها إرادتها له فحصل هذا القرع الذي هو طلب الزيادة بسبب .
..........................................................................................
( 1 ) النفس : “ بفتح الفاء “ روح يسلطه اللّه تعالى على نار القلب الموقدة بهبوب شوقه إلى الظفر بمطلوبه ، والروح المسلط عليها هو من لوائح الوصل والأنس ، ليطفئ شررها بما فيه من برد سكينة العبودية .


“ 156 “


( ص ) [ قوله : ( ثم السادس والثلاثون : الامتزاج ، ثم السابع والثلاثون : الأرواح ، ثم الثامن والثلاثون : الجمال ، ثم التاسع والثلاثون : العلا ، ثم الأربعون : السيادة ) ] .
( ش ) أقول : قوله : ( الامتزاج ) هو امتزاج نفسه بما وراء الحجب من العزة لأنه إذا استوفى ما يخلف منها بالاختراق ووصل إلى مقام العزة اتصف بهذا المقام لأنها تعود مضروبة على وجهه بقطعه لها شيئا فشيئا ، فلو كان هذا الاختراق في دفعة بلا تعدد لما كانت حصلت هذه الزيادة ولا الوقوف على ما تضمنته هذه الحجب ولا التمكين في تيقن الرفع ، فلما رفعت شيئا فشيئا حصل للشاهد التمكين والاستشراف بعادة الاختراق ، وإذا الاستشراف إلى مزاج النفس بالمطلوب .
قوله : ( ثم السابع والثلاثون : الأرواح ) ، أقول : الأرواح عالم الخفاء ولهذا توصف الملائكة بها لأنهم عالم الخفاء حقيقة ، وكما أن المطلوب بالذي هو المحتجب خاف ، فعند حصول المزاج بالمحتجب المسمى بالخفاء اطلع الشاهد على عالم الباطن الذي هو محل هؤلاء الأرواح ، فإذا أخرج الشاهد من هذا الجسد أول ما يصير إلى عالم الباطن فيقف اضطرارا على هذه الأرواح المتميزة ، فهذا الحاصل قد كان لهذا الشاهد عند المزاج بنفس المحتجب .
قوله : ( ثم الثامن والثلاثون : الجمال ) أقول : إن الجمال بعد الأرواح تنزل مناسب بحيث ذكر أرواحا متعددة والتعدد لائق بالجمال لأن اللّه تعالى لما أوجد الخلق متكثرا متمايزا أظهر بالجميل لئلا يقع النفور من البعض عن البعض ، وكذلك في عالم الأرواح ، فلما أدرك هذا الشاهد رضوان اللّه عليه أرواحا متعددة لحظ الجمال الناشئ بينهم لعدم النفور وهذه القابلية في هذا المحل قد كانت شديدة الصقال ، والناظر فيها نافذ النظر حتى شهده صورة الموصوف والأوصاف ، لأن الجمال صفة خافية وهمية فلا يدركها إلا من اتصف في حال شهوده بهذه الأوصاف .
قوله : ( ثم التاسع والثلاثون : العلا ) ، أقول : إن العلا صفة مختصة بالجمال وما أشبهه لاستعلائه عن الإدراك ، فلما وصل هذا الشاهد إلى مقام أدرك فيه الجمال استعلى على مقام أدرك فيه صفته المخصوصة .
قوله : ( ثم الأربعون : السيادة ) ، أقول : السيادة تمكين الاستعلاء بشرط الوصف فلما تمكن شهوده لهذه الصفات الخافية اتصف بها عند التمكين ، فهذه ثلاث صفات خافية ، وشرط الكمال قطع ثلاث مراتب ، والكمال مؤدي إلى تمكين الاتصاف .


“ 157 “


( ص ) [ قوله : ( ثم الحادي والأربعون : المناجاة ، ثم الثاني والأربعون : التخليل ، ثم الثالث والأربعون : الانتهاء ، ثم الرابع والأربعون : الترك ، ثم الخامس والأربعون : المحبة ) ] .
( ش ) أقول : إن المناجاة مقام لائق بالسيادة لأنه في حال المناجاة يكون الرب والعبد قد تماثلا في المقام لأن المرآة في حال المناجاة تنشأ عن المقابلة بين المناجي والمناجى ، فالشاهد يدرك صورته منطبعة في المرآة شاهد ، وصورة المقابلة هي محل الانطباع وهي المرآة ذات الوجهين وسريان الخطاب الذي عبر عنه بالمناجاة هو جذب المشهود مريد الفناء الشاهد ، فصورة هذا الجذب تنطبع في سمع الشاهد فيعبر عنه بالمناجاة ، وهذا المنطبع في السمع وهو الجذب شبيه بالاتحاد فلا يدركه الشاهد حتى يطلع على صورة الاتحاد ، وهذا يكون فيه الشاهد مشهود والمشهود شاهدا ويتصف الشاهد المعهود بالمقام الأعلى .
قوله : ( ثم الثاني والأربعون : التخليل ) ، أقول : معنى التخليل هاهنا هو تخليل الخطاب المعبر عنه بالمناجاة في محل السمع ، وإنما سماه تخليلا لأنه خطاب ينفذ في السمع مخللا لأنه في أماكن متعددة ، فلو كان في مكان واحد لو وري عنه بالنفوذ ، فلما كان للسامع مساما يصرف فيها السامع الخطاب إلى بنية لائقة فينفذ فيه متحريا بعد ما انطبع فيه واحد ، أو ينصرف إلى أماكن ينحصر فيها حصر المتحرّين ، فكل محلّ ينفذ فيه شيء من هذا المتجزئ يسمى تخليلا .
قوله : ( ثم الثالث والأربعون : الانتهاء ) ، أقول : معنى الانتهاء هو الوصول إلى غاية مقصودة وليس هي غاية الشهود ولا غاية الاقتسام ولا غاية الثنوية ، وإنما هي غاية الاتصاف ، وهذا الانتهاء ينشأ عن همة مختصرة من مجموع الهمم ولهذا بلغ غايته المقصودة له ، فإنه لا بد في مجموع الهمم من همة واصلة وغير واصلة وتاركة وغير تاركة وقاصدة ومطلوبة ، فلما اختصرت هذه الهمة من مجموع الهمم السنية وصلت إلى غاية الاتصاف الذي هو الانتهاء ؛ لأن الانتهاء غاية الكمال فلا ينطلق صادقا إلا على الكمال المتصف بالأوصاف كلها التي تحتوي عليها الذات الجامعة للوجود فليس المنتهي إلى علم من العلوم ولا إلى عالم مقيد ولا إلى اطلاع ولا إلى وقفة ولا إلى شهود ثنوية يسمى منتهيا عندنا ، وإنما سمي منتهيا من اتصف بأوصاف الهوية وبرئ عن الثنوية إدراكا وعيانا .
قوله : ( ثم الرابع والأربعون : الترك ) ، أقول : إن الترك هاهنا ضرورة لأنه ذكر الانتهاء الذي ما بعده غاية ولا مقصود فيلتزم بذكر الترك للتمكين في وصف الكمال لكن


“ 158 “


تركه ها هنا للعقول مثل قوله : كان ولا شيء وهو على ما عليه كان ، ووجه المناسبة أن الطلب للنفس لا غير فإذا عرف نفسه تيقن أنه ما طلب شيئا ولا وصل إلى شيء إذ الكثرة الموصوفة أشياء متعددة ، وهذا كان قصده التوحيد ، فلما عرف أن نفسه مجموع الوجود تيقن أنه لا شيء يطلب كما أن اللّه لا شيء معه الآن ، وقد شهد الإمام العارف المحقق الواصل أبو سعيد الخراز بذلك في قوله : منتهى سفن الطالبين للّه إلى السفر بنفوسهم ، وهذا سفر فناء متيقن لا سفر وجود معتقد ، فمادام الشخص يلحظ نفسه جزءا أو يدركها فلا انتهاء له ولا ترك ، وما دام أيضا يدرك نفسه واحدة بريئة من الثنوية قادرة على التطور والتحول والإطلاق والتقييد فقد صدق عليها الانتهاء الذي يجب بعده ترك الطلب .
قوله : ( ثم الخامس والأربعون : المحبة ) ، أقول : مراده بالمحبة حب الظهور الذي ينشأ عنه المحبة المعهودة لأنه لما ظهر اللّه بالكثرة وتميزت وانطلق الظاهر ظهر بالجميل المزين للبعض بالبعض ، فلما ظهر بهذا الاسم ظهرت المحبة المعهودة المتداولة في لسان المتصوفة كرابعة وما أشبهها ، وهذه المحبة ظهور اسم المانع على وجه المحتجب حال كونه جاذبا فيجذب المحتجب تعالى ، يحصل للمهيأ المحبة حال تخرجه عن المعهود فكلما جذب المحتجب بظهور الجميل والمانع صار بينه وبين المحب المجذوب زيادة الحال وحصل الاشتغال بملاحظة الجمال المقابل وهو خاف ، فلا يزال المحب يجذب آن ظهور الجمال المذكور والمانع بصده عن النظر ، فإن اقتسم بالمانع منع الجذب وحصل له بعض النظر ، فإن استوفى المانع كله واستهلكه في ذاته حصل له النظر العياني وهو منتهى المحبة ، هذا إن كان آخذا في الاستعلاء ، فيكون قدر في مقام إلى مقام ، وإن كان مهيأ للمحبة فقط ، فيكون الجذب المذكور أولا جذب روحانية حتى يستوفي قواه بالمنع على قدرة الرد ويستهلك كماله في ذاتها ، فلا يحصل للمحب الاطلاع حتى ينقضي نفسه الآخر الدنيوي وهذه الصورة المحبة الممنوعة تكون قد تهيأت من حين ظهورها للجذب منها فلا يزال محبة ما دامت مجذوبة بشرط المنع إلى حين الكمال المذكور ، فهذه حقيقة المحبة وما يلزم عنها وقد أشار القشيري رحمه اللّه في رسالته إلى المحبة فقال : هو وجود تعظيم في تمنع المحب الانقياد إلى غير محبوبه ، وهذا لازم عن المحبة وليس حقيقة المحبة فلا يظن بالشيخ صاحب هذه المشاهد رضي الله عنه أنه أراد المحبة المذكورة ولا لازمها الذي ذكره القشيري ، وإنما أراد بالمحبة حب التقييد من الإطلاق لأنه ورد بعد الانتهاء والترك والمحبة المتقدمة في الذكر هي مقام يتضمنه أوصاف العارف [ الصائر ] إلى حد الكمال ، فإذا وصل إلى غاية الكمال لا يطلق عليه المحبة المذكورة فثبت أن مراده حب الظهور ، وهذا الحب مثل قوله عليه السلام حاكيا عن ربه في الحديث الصحيح : “ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه “


“ 159 “




فحب العارف كحب اللّه للعبد .
( ص ) قوله : [ ( ثم السادس والأربعون : رفع الوسائط ، ثم السابع والأربعون :
السر ، ثم الثامن والأربعون : الصدور ، ثم التاسع والأربعون : الصديقية ، ثم الخمسون : القهر ) ] .

( ش ) أقول : معنى هذا الرفع هو تمكين القدرة على الإطلاق والتقييد بغير واسطة ، فإن الواسطة قدرة تنزه الفاعل عند إرادة الفعل وهذا قدر رفع الوسائط بتمكين القدرة في ذاته بالاتصاف ، فلا يفتقر إلى قدرة زائدة في حال إرادة الفعل من الأفعال بعد اتصافه بها ، فهذا وصف من لم يفتقر إلى واسطة وهو الكمال ، وأما المفتقر إلى الواسطة فيكون قدرة بزرة خافية لا تفعل سوى الإرادة فإذا حصلت الإرادة وهبت القادر حقيقة شيئا فشيا من قدرته المتصف بها فيكون هذا الوهب واسطة بين الإرادة والفعل ، وهذا التنزل محل عن القدرة النزرة المفتقر إليها بالواسطة .


قوله : ( ثم السابع والأربعون : السر ) ، أقول : معنى السر تفرده باستقلاله بالوجود الذي لا يأتي له في مداره ، وهذا التفرد سر ينشأ عن مجموع أسرار اللّه تعالى إلى خلقه ، فلو لا أن المتفرد مختصر من مجموع ، وسره من جمعية الأسرار المختصة باللّه لما كان استقل بحمل الوجود ، ولهذا كان السر إليه بلا واسطة إذ ورد عقيب رفع الوسائط ، ومجموع هذا السر موجبه تفرده في عصره مستقل بالمجموع ، ومعنى الاستقلال هو أن اللّه متفرد بعلم الوجود المتكثر ، وأيضا بالقدرة عليه ، فالعلم إحاطته والقدرة تقلبه للمحاط به ، وينشأ عن القدرة التدبير وكل هذا فعل الهوية الخافية الجامعة فلما أوجب اسم تفرد اللّه بأحديته واحدا في كل عصر يطلعه اللّه على فنائه في الهوية المذكورة جعله قطبا كما قالوا ، والقطب مدار الأشياء عليه بجمعيتها ووصفه باسمه القادر بعد فنائه في ذاته فلما اتصف بالقدرة وعلم اللّه أن قدرته هي قدرة اللّه بغير واسطة وكّل إليه أمر الوجود بعدما ألبسه مجموع أوصافه وأسمائه في حال فنائه ، فلما تفرد بانفراد اللّه واستقل بمجموع الوجود بوجهين :
الأول : بقيامه بالأسماء والصفات ، والثاني : بتحمله لمدار الأشياء مع لفظة الخلافة ، هذا إن أدركت صورته متجزئة يكون حظها من المتجزئ صفة التقييد في حال تسميتها بالجمعية ، فتكون الهوية قد ظهرت فيها بصفاتها ، ولهذا يدرك العارف نفسه الكلية بلا ثاني مع إثباته للكثرة ليصدق عليه اسم العظمة ، والسر في هذا الاسم الواحد مع كونه متكثرا ، فكأنه عند رفع هذا الحجاب قد خرج من شهود الرفع إلى شهود الثبوت الذي يحتوي على هذا




“ 160 “


السر ، ولهذا شهد فيه الأشياء متكثرة مع ضدها الواحد ، وهذا وصف العارف حقيقة ويدلنا على استقلاله بالوجود ظاهرا ما أخبرني صاحبي محمد بن محمد الخطيب عن شيخنا فخر الدين إسماعيل ابن عز القضاة كثّر اللّه فوائده قال : سئل القاضي الأجل محيي الدين يحيى بن محمد بن الذكي القرشي عما اختص به من الشيخ العارف الإمام الكامل محيي الدين صاحب هذه المشاهد رضوان اللّه عليه دون ما قرأه من كتبه الكريمة فقال : نعم ، سألته عن معنى
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ إن اللّه خلق الدنيا ومنذ خلقها لم ينظر إليها
“ 1 “ “ ، والوجود كله باق ببقاء نظر اللّه تعالى ، فكيف يصح بقاء الدنيا مع عدم نظر اللّه إليها ؟ قال رحمه اللّه : فقال الشيخ محيي الدين رضوان اللّه عليه : استغنى عن النظر إليها بنظر العارف الكامل ، أو قال : الإنسان الكامل ، أو كما قال وهذا دليل على تحقق الخلافة للكاملين واستقلالهم بتحمل أعباء الوجود .
قوله : ( ثم الثامن والأربعون : الصدور ) ، أقول : معنى الصدور هو الإحاطة بثبوت السر فإن الصدر محل الأسرار من
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ ما سبقكم أبو بكر بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره
“ 2 “ “ فهذا وجه الإحاطة ووجه آخر الصدور بمعنى الفيض والظهور ، يقال : صدر عنه وظهر به فالموجودات كلها صادرة عن اللّه بعد إحاطته بعلمها وسعته لها من قوله تعالى : وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [ غافر : 7 ] ، فكلما ملئت الذات بإرادة المظاهر بعضه إلى الكثرة الواحدة على رأينا ، وأما على رأي الظاهرين من العلماء فيسمون هذا الفيض صدورا ، فالصدور يعزى إلى الكثرة والانفراد شيئا فشيئا وينفي أحدية هذا المتكثر والفيض يلحظ في ظاهره تكثرا ، لقولنا : فيض ولا يبعد أن يكون باطنه واحد فيفيض منه وعليه باسم العظمة ، وموجب النطق بالفيض هو أن الجاهل يدرك الكثرة ويتيقنها ولا يقدر على زوال هذا الإدراك عنه لأن اللّه تعالى هيأه لذلك ليتحقق عليه جهله ويصدق على اللّه الكمال ، فوجب لنا في حال العبارة أن نعبر عن هذا المصدور الذي اتفق عليه العلماء بالفيض عن اللّه تعالى إذ الفيض أليق بالأحدية .
قوله : ( ثم التاسع والأربعون : الصديقية ) أقول : إنه خرج من حال الفعل إلى حال
..........................................................................................
( 1 ) رواه البيهقي في الشعب ( 7 / 338 ) .
( 2 ) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( 1 / 30 ) ، وابن قيم في المنار ( ص 115 ) ، والنقد ( ص 104 ) .


“ 161 “


الجمعية اللائقة بالكمال ، وتتضمن هذه الجمعية تأييد كلما قيل فهو في حال الفعل متصف بأوصاف الهوية فتنتفي عنه التبعية ، وفي حال جمع الأشياء يمتطي متن التصديق اضطرارا لأنه تحقق ما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم عيانا وقولا بالأمر ، فلما تمكن هذا التحقيق له استعلى على المحال التي تنتهي إليها الأعمال ، وقد قال فيها رحمه اللّه : إن انتهاء درجة الصديقية إلى التردد بين السدرة والبيت المعمور فلما التزم هذا التصديق حق الالتزام عاد يتردد في مقام الصديقية عن صرف التمكين .
قوله : ( ثم الخمسون : القهر ) ، أقول : معنى القهر هو إحاطة بالبعثة الرحمانية لعمومها ، فمن جرى فيها على نمط الآتي بها صلى اللّه عليه وسلم ظهر بالقهر لأن عمومها قهار لمجموع الوجود إذ المبعوث بها مختصر من هذا المجموع ، فمن كمل فيها إلى حيث يخرج من الوصف إلى الفعل يكون في حال الوصف قهارا من حيث الاسم وفي حال الفعل ظاهرا بالقهر لأن هذه الأمة تقتضي فطرتها قهر الأمم لأنها خلاصة الرحمانية والوجود ناشئ عن الرحمانية وتحقق لها الظهور على سائر الأمم بالحكم الثاني الذي هو البعثة ؛ فوجب لمن تفرد منها بالكمال الاستيلاء بالقهر لأنه جاذب فقط ، وهذا المستولي ممتلئ فياض على ذاته الجامعة فالفيض بقهر والامتلاء بقهر فحق له التصريح بالقهر لتمكينه فيه .
( ص ) [ قوله : ( ثم الحادي والخمسون : الحياة ، ثم الثاني والخمسون : الشهامة ، ثم الثالث والخمسون : الانصرام ، ثم الرابع والخمسون : الميراث ، ثم الخامس والخمسون : الاصطلام ) ] .


( ش ) أقول : إنه لما تمكن في القهر وعاد الاسم يريد إظهار أثره في الوجود ، فنظر المسمى أن الوجود فان في ذاته والحقيقة لها وحقيقة الاسم نسبية فظهر باسم يصد القهر عن الوجود ، وهو الحياء بالمد بعد علمه أن القهر متى ظهر صدق على ذاته فمنع الشيء النسبي عن الذات الحقيقية باسم مماثل في النسبة ، هذا إن كان من الاستحياء وإن كان من الحياة وهو الغيث ، فمراده به أن ذاته تمتلئ وتفيض على جهة مفتقرة إلى الفيض وهذه الجهة هي الظاهر ، وهذا الفيض هو ناشئ عن الإحاطة بالعلم كما أن الماء محيط بالأرض ويصعد منه دخان يتكون منه بالعكس في حال الصعود ماء ويفاض على الصقع المفتقر لتشمل الإحاطة على مجموع الأرض يغمر الماء لها فهذا فيض من الدخان المكون موصوفا بالحياة ، وليس مراده من الحياء إلا الأول الذي هو من الاستحياء والوجه الآخر مناسب أيضا لمراده لكن الأول أشد تمكينا لذكرنا المنع عن القهر .


“ 162 “
قوله : ( ثم الثاني والخمسون : الشهامة ) أقول : مراده بالشهامة الإقدام على القهر بصورة المنع وهو تأييد لما ذكرناه في الفصل السابق الأول من الوجهين المذكورين وصورة هذا الإقدام المعبر عنه بالشهامة هو أنه في حال تأثير الاسم القهار في ذاته ظهر هذا الاسم لشدة الأثر فقابله بالمانع ممتزجا بالقوة من الأسماء سوى المانع ، فلما اتصف بهذه الثلاثة التي يقابل الاثنان منها واحد أظهرت الشهامة وهو تمكين وصف في القدرة ، فناسب بين هذه الشهامة وبين تأثير الوجود الذي أوجب الحياة ، ونتج عن هذا الوجوب الثلاثة المذكورة في ذاته ممكنة للقوة حتى يظهر على المسمى اسم الشهامة وهذا تمكين ناشئ عن القدرة بلا واسطة .


قوله : ( ثم الثالث والخمسون : الانصرام ) أقول : إن الانصرام من التقصي وهو تارة من الإطلاق إلى التقييد وطورا من التقييد إلى الإطلاق وهذا معنى زمان الإطلاق والتقييد ، وأما الزمان الذي يحصر فيه الحضرات يباين هذين الزمانين المذكورين بالنسبة إلى حالتي الإطلاق والتقييد وذلك لأنه زمان مطلق إدراك مشوب بحصر وحصر مشوب بإدراك هذا مجموع الحضرات وما كل حضرة ينفرد فلها زمان لائق بها ، فالأولية وهي محل العلم زمانها ظلماني من شدة صفائه فلا يدرك فيه تمييز ولا إحساسا وليس فيه حر ولا برد وهو أشبه الأشياء بزمان الربيع لأنه لا انتقام صرف ولا يعدم فيه الانتقام أيضا لكنه موجود ولا يظهر له أبراد الأسماء إنما تظهر آثارها في الظاهر لأنها حضرة التكليف ، وزمان حضرة الظاهر مستنير الظاهر مظلم الباطن لأجل التمايز الذي يحتوي عليه وظلمته أكثر من نوره لأن النور فيه مقيد ، نذر مقصور على تمييز الكثرة والأحدية أعم من هذه الكثرة فوجب أن يكون النور فيه أقل من الظلمة إذ هي صفة الأحدية والانتقام ظاهر في هذا الزمان المقيد بالظاهر ، وهو مشوب برحمة خافية منطوية في ضمن النقمة وهو أشبه الأشياء بزمان الصيف لأجل ظهور الانتقام عليه وكمون الرحمة في ذات المنتقم ، وأما ظهور الانتقام عليه فضرورة ظهور التجزء بقوة لأن المتجزئات كانت في العلم خافية مكمنة في الرحمة فلما ظهر بها حكم المنتقم فيها ليبين التجزء بائنا بعضه عن بعض وبقدر ما أظهر عليه من المنتقم كمن فيه من الرحمة بعد استقلاله بنفسه دائرة مقابلة فقبل هذا الاستقلال ومرور الزمان الفلكي عليه كانت الرحمة فيه نذرة كما قلنا في الزمان البرزخي ، فلما ظهر الظاهر بتحقيق اسمه استوت فيه الرحمة والانتقام بقسطاس الحق نقله من القبضتين إليه لأن القبضتين غاية الخفاء وهو في غاية الظهور فلما استدار وتحققت له المقابلة المذكورة نشأ الباطن من ضد هذا الوصف فزمانه يباين زمان الظاهر بقلة الظلمة وشدة النور ولهذا كان التمايز فيه ألطف من التمايز في الظاهر لظهور النور عاريا عن

يتب
ع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:27 pm

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

"163 "


الكثافة فيدرك التمييز فيه لطيفا ظليا هذا زمان كونه ضدا وأما زمان كونه ظلا وهو بالحقيقة زمان الباطن هو زمان الضدية بعينه ، لكن زمان الظلية أقرب إلى الظاهر من الضد وكلما قرب من الظاهر ازداد كثافة وهذه الزيادة استمداد من الظاهر لأجل القرب “ 1 “ الذي يطلق عليه المعية فنوره بقدر الظلمة أيضا وهو أشبه الأزمان بزمان الشتاء فما ظهر
( 1 ) القرب : القيام بالطاعة ، والقرب : هو دنو العبد من اللّه تعالى بكل ما يعطيه من السعادة ، لأقرب الحق العبد ، فإنه من حيث دلالة : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [ الحديد : 4 ] ، عليه قرب عام سواء كان سعيدا ، أو شقيا ، فكل عبد ، في كل وقت ، تحت حكومة الأسماء الإلهية قرب ، من حيث تجلي اسم إلهي وبعد من حيثية اسم آخر ، فالقريب من المضل فلا بعيد من الهادي ، والعكس ، فكل اسم يعطي قربا ، فالسعادة ترجع إلى هذا القرب المصطلح عليه ، وقد يكون للحق قرب خاص من العبد زائد على قربه العام .
كما قال تعالى لموسى وأخيه عليهما السلام : قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [ طه : 46 ] ، فإن هذه المعية ، معية العناية بالحفظ والكلاءة ، لا المعية العامة ، فقرب العبد من الحق بكل ما يعطي من السعادة يتبع له قربا خاصا من الحضرات بالحقية ، كما
قال صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى : “ من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يسعى أتيته هرولة “.
والقرب على قسمين : علمي ، وعملي .
فالعلمي : أعلاه العالم بتوحيد الألوهية ، وهو على نوعين نظري ، وشهودي . والعلمي : على نحوين :
قرب بأداء الواجبات : وهو القرب الفرضي كما قال صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى : “ ما تقرب المقربون بأحب إليّ من أداء ما فرضته عليهم “
وقرب نفلي : كما قال صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تعالى : “ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعا وبصرا “.
. ومداد العمل المقرب :
إما من الباطن إلى الظاهر ، فأعمه وأتمه الإيمان
وإما من الظاهر إلى الباطن ، فأعمه وأتمه الإسلام
وإما من القلب الجامع بين الظاهر والباطن ، فأعلمه وأتمه الإحسان .
فمقتضى القرب النفلي : تجلي الحق للعبد متلبسا القابلية المحدودة . ومقتضى القرب الفرضي : تجلي الحق له ، وظهور العبد بحسب الحق ، غير محدود ، ولا متناه .
فالتمييز بين قوسي الحقانية والعبدانية في القرب المفرط إن كان خفيا يعبر “ بقاب قوسين “ . وإن كان أخفى يعبر عنه “ بأو أدنى “ .
ومن هنا قال قدس سره : “ وقد يطلق على حقيقة : قاب قوسين “ ، فالتجلي بحكم هذا القرب ، إن كان في مادة وصورة ، تتبعها القرب في النسبة المكانية ، في مجلس الشهود ، وإن كان في مجلس الشهود ، وإن كان في غير مادة ، كان قرب المنزلة والمكانة ، كقرب الوزير من الملك . . . فافهم .
“ 164 “


على الظاهر كمن فيه من الانتقام وما بطن في الظاهر من الرحمة ظهر عليه في دائرته لإبقاء جذبه ويدرك كأنه عكس الظاهر في الإدراك كما يدرك الشتاء عكس الصيف ها هنا والمحيط على الباطن والظاهر مشترك في القسمة ، فالدائرتان اللتان يشتركان في حد واحد إنما تميزت منهما أدركت كاملة وفي حال يوفق الواحدة على الأخرى يدركان ناقصتين كل منهما بالنسبة إلى الأخرى لأجل اشتراك المحيط بينهما في حد واحد فهو بالحقيقة مقابل للظاهر كمقابلة الصيف للشتاء ، وأما زمان الآخر فيباين هذين الزمانين المتقابلين بشدة النور وشدة الظلمة أيضا لأن ظلمته تشبه هذا النور ونوره لشدة صفائه يدرك ظلمانيا يناسب هذه الظلمة ، فظلمته النزرة للانتقام الذي فيه ونوره للرحمة المميزة التي لا خفاء فيها ولا غيب لكن حصور دائم عن قدرة ناشئة عن قول كن فبقدر ما في الأولية من الخفاء فيه من الظهور وأيضا بقدر ما يحتوي على الأولية من الرحمة يحتوي عليه الآخرية فالظاهر في الأولية باطن فيه والباطن في الأولية ظاهر فيه وبقدر العجز هناك فيه من القدرة والتصوير والتكوين وبقدر ما في الأولية من الضيق فيه من السعة ، ولهذا وسع الجنة والنار وهما اسمان متضادان والأولية لا يليق بها سوى العلم وهو اسم واحد ، وها هنا اسمان منفردان فلو لا أن السعة فيه لا نسبة لها إلى الضيق الذي في الأولية لما كان وسع هذين الاسمين اللذين يستقر فيهما مجموع الوجود وزمانه ، أشبه الأشياء بزمان الخريف لأن الخريف مقابل للربيع كما أن الأولية منسوبة إلى الربيع وفي الآخر من الاعتدال ما ينافي الخريف لأن اعتدال الخريف هوى إلى الأمراض ، والعلل ، واعتدال الآخر هوى إلى الصحة والراحة وكلا هما مشتركان في الاعتراء ودائرة الآخر تماس المحيط الحقيقي المحتوي على الأربعة وهي كاملة منفردة بذاتها لا تماس ولا شارك محيطا آخر دائرية أشبه استدارة باستدارة دائرة الأولية في الانفراد وعدم الممارسة ، فهذه أربعة أزمان متباينة مختلفة مجتمعة في زمان واحد ، وحقيقة إدراك حسي يدرك فيه الحر والبرد والاعتدال وضده في آن واحد ، فهو مباين لهذا الزمان بالحقيقة لأن هذا الزمان متى أدرك فيه الحر انتفى البرد فحقق أنه ناقص ليس زمان اللّه المراد لحقيقته ، وإنما زمان اللّه هو المذكور الجامع للأضداد في آن واحد وهو الذي قال فيه تعالى : وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [ إبراهيم : 5 ] ومراده تفصيل هذا الزمان الجامع فلو أمكن التطويل ها هنا لبسطنا في الأيام المذكورة وأوقاتها ما كان فيه كفاية للناظر ، لكن قبضنا عنان الكلام لئلا تضيع فائدة الشرح المقصود فحين اجتماع الحضرات المذكورة أولا تحصل الأزمان اللائقة بها كما ذكرناه ويدركها الشاهد على انفرادها بأضدادها في آن الشهود فعند انقضائها ينطلق على زمانها الجامع لها الانصرام لأنه يتضمن الأزمان الأربعة فكأن هذا الشهود حاصل لهذا الشاهد بعد انقضاء الحضرات

“ 165 “


المذكورة .
قوله : ( ثم الرابع والخمسون : الميراث ) أقول : مراده بالميراث الحكم على الاتصاف بالحضرات المذكورة ، فعند هذا الاتصاف حكم على أهل هذه الحضرات ودوائرها ، والدائرة الجامعة لهم فوراثة الشهود الاتصاف بخلاف الاطلاع لأنه قد يطلع الشخص على أشياء كثيرة ولا قدرة له على الاتصاف بها ، فلما كان اتصاف الشهود مختصا باللّه تعالى ، وجب أن يكون كل فان في الهوية يتصف بهذه الأوصاف المختصة باللّه تعالى ؛ لأن الهوية له ونتيجة الحضرات هذا الاتصاف المذكور فلهذا عبر عنه بالميراث ، وكل هذا يلزمه قوله : ( اهدني ) .
قوله : ( ثم الخامس والخمسون : الاصطلام ) أقول : إن الاصطلام ذكره بعد ذكر الوراثة ، الوراثة الناشئة عن الاتصاف اللائق لأن الوراثة حكم قلناه ، فإذا تمكن هذا الحكم اصطلمت الحاكم نار القدرة على المحكوم عليهم ، وموجب هذا الاصطلام إرادة الأثر للحكم فكأنه لما ورث وتمكن ظهر باسم يؤثر في حال ظهوره كأثر الانتقام لأنه قد وري عنه بالنار ، والاصطلام صورة نار ترد على القلب قهارة فعالة لا بد لها في وقتها من أثر ، فلا يسكن همه الحامل لها وهو المصطلم إلى حين ظهور هذا الأثر بإلقاء شيء من النقمة على بعض الوجود ، وكل هذا موجبه التمكين في الوراثة .
قوله : ( ثم السادس والخمسون : الفناء ) ، أقول : معنى الفناء ظهور الانتقام في حال الاصطلام فإنه لما ظهر عليه هذا الحال وأثر بظهوره أثرا أفنى بذلك الأثر شيئا من الوجود الذي يجمعه العارف وصفا ، فإذا أفنى هذا الشيء تيقن العارف أن هذا الفناء من ذاته إذ الواحد مجموع الكل والكل مجموع الآحاد ، فمتى فني شخص فني الكل إذ كل شخص مختصر من المجموع ، لكن إذا فني هذا الشخص لا تكون الحقيقة المطلقة فانية ، وإنما تفنى الحقيقة المقيدة فمراده بهذا الفناء واحد من المقيدين لا واحد في الإطلاق ، فإن الإطلاق لا يصدق إلا على واحد والواحد المطلق لا يفنى ولا يطلق عليه الفناء ، بل يطلق على المقيدين لأنهم آحاد متكثرة يفنى شيء ويبقى شيء فكأنه لما صدر عنه هذا الأثر فني به واحدا من الأشخاص المقيدة ، فكان هو الفاني بالنسبة إلى التقييد .
قوله : ( ثم السابع والخمسون : البقاء ) أقول : إن البقاء لا يصدق إلا على الكثرة كما ذكرنا فمن فنى من المتكثرين أطلق عليه الإطلاق ، وكان بالنسبة إلى الكثرة فناء وبالنسبة إلى الإطلاق بقاء إذ الإطلاق باق والكثرة مشهودة الفناء ، ولا يعلم أن عين

“ 166 “


فنائها النسبي هو عين البقاء الحقيقي فكأنه لما شهد فناء واحد من الكثرة وجد بقاءه في ذاته المطلقة إذ العارف كلما يشهد فناء ظاهرا يدركه بقاء في غيب أحديته الخافية .
قوله : ( ثم الثامن والخمسون : الغيرة ) أقول : إن موجب الغيرة ها هنا هو الخوف “ 1 “ من الفناء الذي يلتحق بالبقاء ، وهذان شهودان في شهود واحد ، ولهذا غار على الكثرة من الفناء ، فلو أنه في شهودين متعددين لما كان حصلت له هذه الغيرة إذ الوجود أن ينطلق وهو كامل ، وأن يتقيد وهو كامل أيضا ، فحالتي كماله في الإطلاق والتقييد لا يخاف على شيء منه الفناء لأنه لا يفنى شيء منه في حال الإطلاق لأجل كماله ، فإذا لم يفنى منه شيئا فلا خوف عليه ولا يفنى منه شيء في حال كمال تقييده فلا تصدق عليه الغيرة الناشئة عن الخوف ، إذ الغيرة خوف يصحبه الشجاعة .
قوله : ( ثم التاسع والخمسون : الهمة ) أقول : إن الهمة وارد مناسب للغيرة لكنه عن تمكينها بشرط اصطحاب الشجاعة فلما حصل له هذا الوصف اتصف بالهمة ميلا إلى الإطلاق الحقيقي الذي لا تمايز فيه يوجب الخوف على شيء لأن خوف العارف على شيء إلا منها ولهذا نشأ عن هذا الخوف الهمة والهمة إرادة متمكنة ؛ فلا يصدق عليه وصف من الأوصاف إلا بعد إرادة متمكنة فكأنه حاكم لا محكوم عليه من أجل اتصافه بالهوية في حال فنائه فهو يتهم للإطلاق بإرادة التقييد بإرادة أخرى ، فأراد هذا الإطلاق بعد الهمة الناشئة عن العزة التي موجبها الخوف .
قوله : ( ثم الستون : الكشف ) أقول : إن الكشف ها هنا الجزئي في مرتبة الإطلاق ، وهذا هو الكشف الذي
قال فيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا
. ولا معنى للكشف إلا شهود كل خاف على الإطلاق ، فكأنه قال رضي الله عنه : لو شهدت كل خاف لما ازددت يقينا إذ ليس هو خافيا عندي ، ومراد الشيخ رحمه اللّه :
شهود كل خاف في حال الإطلاق إذ الإطلاق لا يحكم عليه بالظهور والخفاء فإن الظهور والخفاء اسمان والمسمى بهما مطلق فلا شيء خاف عليه ؛ والظهور نسبي مضاف إلى الخفاء فكما لا خفاء عنده فلا ظهور عنده إذ الإطلاق بريء عن الأسماء لأنه لا تمايز فيه والأسماء موضوعة لتعارف التميزات فلا أسماء لأنه لا تمايز ولا صفات لأنه لا تعظيم
..........................................................................................
( 1 ) الخوف : ما يحذر من المكروه في المستأنف أي : المستقبل ، وجاز أن يتعلق بالماضي حيث يتذكر فواته في سيئات أعماله .

“ 167 “


والكثيف يعم هذا الشهود الواحد الصادق عليه الإطلاق .
قوله : ( ثم الحادي والستون : المشاهدة ) أقول : إن المشاهدة ضرب من الكشف وخصوص وصف فيه ، لكن المشاهدة مختصة بشهود اللّه تعالى ، فما دام الشاهد في حضرة اللّه سمي هذا الكشف مشاهدة ، وإذا شهد ما سواه سمي كشفا لا شهودا ، وقد يسمى شهودا لا مشاهدة ، ولهذا قال رحمه اللّه في رسالة هذا الكتاب : إن الكلام من مقام المكاشفة “ 1 “ لا من مقام المشاهدة لأن المشاهدة للبهت ، فالمشاهدة تطلق على حضرتي الإطلاق والتقييد وهما منسوبان إلى اللّه تعالى ، فمراده هناك بالمشاهدة ها هنا تقال على الإطلاق والتقييد ، فكأنه خرج من حالة الإطلاق إلى حالة التقييد وهو محل يرى اللّه فيه صورة موصوفة بالإطلاق والتقييد فإطلاقها لعظمتها وتقييدها كونها صورة .
قوله : ( ثم الثاني والستون : الجلال ) أقول : إن الجلال حضرة لائقة بالمشاهدة لأنه اسم ظهر اللّه به مخصوصا بالثنوية وهو تمكين اسم الجميل فتظهر عليه صفة في حال الناظر والمنظور ليحصل له هيبة وخشوع مع محبة فالجميل للمحبة ، فلما رفع المحب إلى مقام أعلى من موطن المحبة الذي هو الظاهر ، فازداد الاسم صلة بغير زوال عينه ، ولما كانت هذه الصفة لائقة بالمشاهدة وهي الجلال خرج الشاهد في شهوده من مقام إلى مقام لأنه لا يتغير عليه صفة إلا بخروجه من محله في شهود واحد ، فالجلال مختصة باللّه دون الجميل وغيره لكونها تنشأ عن التعظيم وكل تعظيم ناشئ عن عظمة اللّه تعالى ، وإذا حصل للشاهد شهودا في خلع واحد يكون هذا الشهود أشد تمكينا من الشهود الواحد ،
..........................................................................................
( 1 ) المكاشفة : تطلق بإزاء تحقيق الأمانة بالفهم سر وجودي أودعه اللّه تعالى في كل من تجلياته ، فإذا تعلق الشهود بأعيان التجليات ، تعلق الكشف بأسرار أودعت فيها وأورث الفهم تحقيقها . فإن المراد في الحقيقة فهم ما تجلى الحق لأجله ، فالشهود طريق إلى العلم المحقق ، والكشف غاية ذلك الطريق ، فهو حصول العلم المحقق في النفس . ويطلق بإزاء زيادة الحال : وهو ما يؤدي الحال إليها ، مثال ذلك : أن ترى إنسانا على حال من حركة أو سكون أو صفة ملائمة ، فيؤدي له إلى فهم حال أخرى زائدة كود أو بغض أو كراهة أو قبول ينتهي إليها حال الحركة أو السكون ، أو الملائم ، أو غير الملائم .
ويطلق بإزاء تحقيق الإشارة : أي إشارة تختص بأهل المجلس الإلهي ، فإن التجلي أو الخطاب الإلهي فيه ، إنما يتوجه إلى واحد هو المراد منهم ، وفيه إشارة يختص ، وكان لأجلها التجلي ، أو الخطاب ، ولكنما يفهم كل منهم من تلك الإشارة المقصودة من الإشارة الغير المقصودة من باب المكاشفة أيضا .

“ 168 “


والتمكين عبارة عن الاستعلاء لكن الاستعلاء على ضربين : استعلاء وصف واستعلاء معنى ، فالعارف الكامل له استعلاء الوصف ويتعالى عن استعلاء المعنى إذ استعلاء المعنى هو على بني الجنس بشرط الاستقلال لجهة دون جهة ، والعارف لا جنس له ولا حصر فيحل عن هذا المقام المعنوي ، ولما كان هذا العارف متصفا بالاستعلاء اتصافا فأخرج من مقام الشهود إلى مقام الجلال ، والخروج كما ذكرنا .
قوله : ( ثم الثالث والستون : الجمال ) أقول : إن شهود الجمال بعد الجلال تنزل كالنزول في الثلث الآخر من الليل إذ الجمال اسم مختص بالكثرة فيتناول المقيد إلى الكثرة حتى يظهر بالاسم لئلا يقع النفور ، بل يقع الجذب والقبول بالمحلة الناشئة عن هذا الاسم ، فهذا للتنازل عند كمال التقييد الذي لا افتقار فيه فظهر بالجميل عند كمال الوجود في التحري فيتردد العارف بين الوجود المتحرى وبين اللّه إذ الكل قد انطلق عليه اسم التقييد ففي حال تردده إلى الكثرة يكون تنازلا وحال رجوعه إلى اللّه يكون استعلاء ، وفي كلا الحالتين يظهر الجميل إذ هو صفة مختصة بالتجزء ، فالكثرة مفتقرة إليه كما قلناه ، وإذا تحول اللّه للشاهد في الصورة افتقر الشاهد في هذه الصورة إلى الجمال لئلا يحصل له النفور من الصورة المذكورة عن قهر أو جبروت ، فلما تنازل من شهود اللّه إلى شهود الكثرة رأى حقيقة الجمال في هذا الشهود ؛ لأنه مختص بها .
قوله : ( ثم الرابع والستون : فرأيت ذهاب العين ) أقول : إن هذا الشهود حضرة منتزعة من الهوية مختصة بها بشرط أن تحتوي على مجموع أوصافها ، وشيمة الهوية الفناء ، ودأبها الإفناء ، فأي حضرة انفردت منها كانت مفنية خصوصا إن كانت مرادة للزوال كما قال ، فتكون هذه الحضرة ناشئة عن الهوية في حال إرادتها للفناء ، فلما ظهرت هذه الحضرة لعين الشاهد أدرك فيها صورة الفناء وكيفيته ومبتدأه إلى حيث زوال العين ؛ لأن الزوال هو الفناء ، والفناء استهلاك في الهوية ، والاستهلاك هو محو الرسوم المتحيزة ، فلا يزال الرسم مشهودا عند الأخذ في الاستهلاك إلى حيث كمال هذا الأخذ بزوال المعين المذكورة وينطلق على المأخوذ الفناء ، فكأنه في هذا الشهود اطّلع على كيفية الزوال المعبّر عنه بالفناء ، وهذا مثل قوله رضي الله عنه :
بمشهد نور الأخذ فشهد هناك الكيفية وشهد ها هنا الصورة .
قوله : ( ثم الخامس والستون : فرأيت ما لا يدرك ) ، أقول : إن هذا التنزّل موهم أنه شهد ما لا يمكن لأحد شهوده وتعبيره عنه بالشهود يناقض ذلك ؛ لأنه لولا إدراك شهوده له لما شهده ، وكذلك الإدراك يوهم أنه إدراك ما لا يمكن إدراكه وقد أدركه ، وهذا محل

“ 169 “


استعلاء بقوة ، وهو غلط لأنه ما دام له الشهود فلا يبعد أن يشهده غيره بعين ذلك الشهود لأن النوع باق والعصر لا يخلو عن عارف ، فكأن هذا الشاهد يريد قهر الفيض من غير محله وصورته أن يفيض الإشراق من المغرب وليس يحمله إذ فيض الإشراق مقتضى المشرق ، ولم يك في زمانه حان وقت الشمس أن يطلع من مغربها ، والكلام له أوقات وأزمان مختصة لائقة ، وشيمة العارف وضع الأشياء في محلها ، ولا أعلم ما الذي أخرج هذا العارف من قالب الوضع إلى حيث الإبهام ، وأقول : إن مخرجه عن ذلك مقتضى الكمال إذ فيه خروج وثبوت والغالب ثبوت ، ولا يرتضي العارف لنفسه الخروج إذ الخروج نسبي ، والعارف قد اتصف اتصافا ، فلا يليق به أن يقف عن النسب لكن زمانه يوفّيه حقه ، فإن توهم من العارف غلط أو مغالطة فيكون فعل زمانه لإعطاء الكمال حقه وحقيقة العارف بربه عن المغالطة إذ هي من مقام الهزل ، والعارف قد ركب منهاج الجد اتصافا ، فالغلط الملحوظ منه فعل الزمان ، وإنما يتوجه عليه من الملائمة إذ ترك حكم الزمان يظهر عليه قهرا مع علمنا أنه لا بد من ذلك لاقتضاء كماله له .
فقوله : ( فرأيت ما لا يدرك ) ، هو عبارة عن شهود مجموع الهوية لأنها لا يدركها إلا ذاتها فكأنه قال : شهدت شيئا لا يدركه متفرد عن الهوية ، وهو لما شهد هذا الذي لا يدرك كان مستهلكا في حقيقة الهوية وهي مدركة لنفسها .
قوله : ( ثم السادس والستون : فرأيت ما لا يسمع ) أقول : إن شهود ما لا يسمع هو شهود إدراك الهوية ، لأن الإدراك لا يفتقر إلى السمع بل يعدم في حال هذا الشهود ، ( هاتين ) فشهوده الحضرتين مختص بالهوية التي تستوفي الأسماع والأبصار .
قوله : ( ثم السابع والستون : فرأيت ما لا يفهم ) أقول : إن شهود ما لا يفهم هو إحاطة بمجموع الهوية وهو يشبه قوله : ( ما لا يدرك ) لكن يباينه بالعيان ؛ لأن الشهود نظر عياني والإدراك لا نظر فيه ، فها هنا قد شهد الهوية مسماة واسعة محتوية على مجموع ما يختص بها من حضرات وفصول وأزمان وأيام لا يحّدها العدد ولا يقوى بطش العقل على سعتها ؛ لأنها يجتمع فيها الشيء وضده في آن واحد كالحر والبرد معا والعدم والوجود لكونها كثيرة والعدم لكونها واحدة ، وما دام الشاهد يلحظ نفسه فيها فإنه يصفها بالواحدية ، فعند مطلق الإدراك لا يصفها بشيء وهو حقيقة الشهود الذي قال فيه : إنه لا يدرك ، فلما كان ها هنا الشهود عيانا عبرّ عن غروب إيصاله بعدم التفهيم ؛ لأنه لا يدرك من قال : ما شهدت إلا ملتزما بإظهار مجموع ما شهد ، وإما معاني وإما تمثيل ، والإدراك بريء عن هذا كله فلا يكلف من قال : أدركت العبارة عن المعنى بخلاف .

“ 170 “


وقوله : ( ها هنا ما لا يفهم ) ، فإنه يضطر إلى إبراز المعاني ونحن أيضا إذ قد ألزمنا أنفسنا بهذا الشرح .
قوله : ( ثم الثامن والستون : فرأيت ما لا ينقل ) ، أقول إن مراده ها هنا يشبه مراده بقوله : ( لا يفهم ) ، فإن الشاهد لا يقدر على إيصال شيء سوى العبارة عن شهوده ، ولهذا لا يقدر أحد على أن يصف غيره بما عنده من الوصف وتأييد هذا قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ الشورى : 11 ] كان تعالى واحدا يبقى أن يدخل تحت الاقتدار الإلهي وجود ثان ، فلما اتصل الشاهد بالفناء عرض عليه أن يبقى واحدا مثله إذ النقلة لا تكون إلا بعد موت العارف الكامل إلى آخر مستعد للكمال العرفاني ، فلو قدر أن ينقله إلى غيره لجاز وجود عارفين في عصر واحد لكن اللّه تعالى واحد ، فالثنوية محال .
قوله : ( ثم التاسع والستون : فرأيت الإشارة ) ، أقول : إن الإشارة ها هنا إلى النفس ، فلما قال شهدت أخذ في الشهود الثاني مشيرا إلى نفسه بالواحدية ؛ لأن مجموع الوجود لا ينقله إلا ذاته فليس في وجود الثنوية فائدة إذا استقل المجموع بحمل نفسه وصفا وعيانا وطوعا ، فلما اتصف هذا الشاهد باستقلال المذكور الواحدي واتصف فهذا كله ، ويرى عن الثنوية عادت الإشارة من نفسه إلى أجزائه المتكثرة والحاصل من هذه الإشارة أنها إلى نفسه من نفسه المطلقة إلى أجزائه المقيدة .
قوله : ( ثم السبعون : فرأيت الكل ) ، أقول : إن شهود الكل بعد رفع الحجب مناسب من وجوه ، أحدها : أن القصد في رفع مجموع هذه الحجب ليدرك الشاهد ما وراءها وهو المحتجب تعالى ، فقد كان عند وجود هذه الحجب شهوده ناشئ من العزة فلما اقتسم بنصف هذا الاحتجاب أي كان محتجبا ومحتجبا عنه أقام عليها حتى رفعت عنه بأسرها فوجب أن يكون المشهود عند الرفع مسمى بغير العزة لأن العزة يقارنها الحجاب ، فوحده من اسم اللّه تعالى ، ولهذا قال : الكل الثاني أن عند حصوله وراء الحجب كان الرب والعبد قد اجتمعا في حضرة واحدة ومقام واحد وليس في الوجود إلا رب وعبد ظاهرا ، فإذا اجتمعا ظاهرين في محل واحد وعاد أحدهما ظاهرا للآخر يكون الكل قد اجتمع في هذا المحل لأن الرب يشهد نفسه مع العبد ظاهرا والعبد أيضا يشهد نفسه مع الرب ظاهرا فكل واحد منهما يشهد الكل فلم يحصل له هذا الشهود من حين وجود هذه الحجب إلى حين زوالها لأن المحتجب لابد أن يستتر في حال الاحتجاب ويخفى عن الموجودات فإذا كانت هو فقد سر عن نفسه شيء فعند تحقيق هذا الزوال أدرك المحتجب ما خفي عنه فكان

“ 171 “


الكل قد ظهر لعينه عند زوال هذه الحجب ، الثالث : أن اسم اللّه يظهر به ذاته في حال ظهوره وذاته واحدة جامعة للكثرة كلها ، فإذا ظهر للشاهد شهود من اسم اللّه تعالى يكون ذاتيا يدرك الشاهد فيه مجموع الوجود وموجب ظهورها بهذا الاسم لعين الشاهد هو زوال الحجب بشرط فنائها ، فإذا فني الاحتجاب عاد المحتجب مسمى باسم يباين ما كان عليه ولا يباين العزة سوى اسم اللّه الحاضر الذي لو توجه الشاهد إلى أينية مراده لوجد الجمعية ومتى وجد شيئا مع نفسه يجب أن يكون المعرّف به الشيء جامعا ، وليس لنا اسم جامع إلا اسم اللّه ويدلنا على جمعية هذا الاسم وحصوره ،
قوله صلى اللّه عليه وسلم : “ لو دليتم بحبل لوقع على اللّه “
وقوله تعالى : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [ التوبة : 40 ] ، وقول الصحابة رحمهم اللّه :
“ ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه فيه “
وقول الآخر :
“ ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه معه “
، وقول الآخر :
“ ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه قبله “
، وقول الآخر :
“ بعده “
، إلى غير ذلك وكل هذه دلائل قاطعة داخلة على تعين المشاهد ولا يزداد بها سوى المعونة عند الإظهار لسرائر الحقيقة ، فأول ما وحّد رضي الله عنه على هذا التقدير عند زوال الحجب للّه تعالى ، ولهذا قال : الكل .
( ص ) [ قوله : ( ثم يتبعه التفصيل قال العبد فلما انتهيت قال لي ما رأيت قلت عظيما قال لي : ما أخفيته عنك أعظم ) ] .
( ش ) أقول : إنه لما ظهر له اسم اللّه دفعة كان قد ظهر له الوجود دفعة أحديا بغير كثرة ولما كان جامعا للأشياء وجب أن يتبعه التفصيل ؛ لأن الجمع لا يكون إلا لأشياء كثيرة ، والأشياء مناط التفصيل ، وأيضا فإنه يستهلك حقائق الأسماء استهلاك الهوية وتكون الأشياء فيه فانية مستهلكة ، فأحديته للاستهلاك وجمعيته لبقاء المستهلكات ، فالبقاء بعينه مؤدي إلى التفصيل وأيضا فإنه لما ظهر الاسم حقيقة كانت الأشياء مطلقة ، والإطلاق يكون آنا واحدا أو يأخذ المسمى في التقييد ويقّدر ما يتقيد المسمى يفصله الشاهد ، ولهذا قال : ( يتبعه التفصيل ) ؛ لأن كلا منهم أخذ في الصفة اللائقة وهو الشاهد في التفصيل والمشهود في التقييد .
وقوله : ( قال : العبد فلما انتهيت قال لي : ما رأيت ؟ قلت : عظيما ، قال لي : ما أخفيته عنك أعظم ) ، أقول : إن قوله : ( ما رأيت ؟ ) ، امتحانا لا استفهاما ، وأراد بهذا الامتحان أن يبين للشاهد تحقيق شهوده أو عدمه ؛ لأن بعض الشاهدين يأخذ في طريق التعجب والاستعلاء ولا تعود أنفسهم مقهورة ، فيقولون : ( شهدنا ) ، وما شهدوا شيئا

“ 172 “


سوى بارقة أو لائحة أو تحقيق اسم من الأسماء ، فبحصول الاستعلاء عند هذا الشهود يركبون منهاج الدعوى بدوام الشهود والخطاب سيما إن أخبر أحدهم إخبارا أو أصاب فيه اتفاقا قال : هذا سر من أسراري التي اختصصت بها من اللّه وإن لم يصب في هذا الإخبار ، قال : إنني لست عالم بالغيب وإنه لا يعلم الغيب إلا اللّه تعالى ، فلما احترق هذا الشاهد نافذا في الحجب السابقة وعلم اللّه أنه في مقام الصدق امتحنه بصيغة الاستفهام عن ما رآه ، ولهذا قال : عظيما ؛ لأنه لا شيء أعظم من الحجب وما وراءها في حال التقييد لأنه يكون حجاب ومحتجب إلا عند هذا التقييد المذكور وليس وراءه عظمة سوى عظمة الإطلاق .
وقوله : ( ما أخفيته عنك أعظم ) ، يريد به الإطلاق المخفي في زمان التقييد ؛ لأن الرؤية الصورية وهي رؤية المحتجب تعالى تباين رؤيته المطلقة ، فلو شوهد إطلاقه عند رفع الحجب كلها لما كان سؤال ولا خطاب ولا امتحان كما وقع ، لأن الإطلاق مناف لكل ذلك ولا كان الشاهد على أن هناك شيئا مخفيا عنه ؛ لأن الإطلاق تحقيقي في ظهور التقييد ، والتقييد تحقيقي بظهور الإطلاق لكن الإطلاق لا خطاب فيه إذ لا شاهد هناك ولا مشهود بخلاف التقييد ؛ فإنه متى ظهر كان الوجود كله متكثرا .
وقوله : ( قال لي : ما أخفيته عنك أعظم ) ، يريد به خفاء الإطلاق في التقييد ، لأن المحتجب وإن كان مطلقا في حقيقته فلا يرى إلا مقيدا ، لأن في شهوده شاهدا وحجابا ومحتجبا عن الشاهد ، فهذه ثلاثة مضادة للإطلاق لأنه واحد فيه ولا ثاني عنده ولا شاهد ولا مشهود لكنه في حال شهوده أعني الإطلاق يكون الشاهد قد حقق نفسه أحدية جامعة مستهلكة هوية ، يفني حقائق كثيرة إلى حيث الاتحاد فتظهر على ذات الشاهد آثار الهوية بأوصافها وأسمائها ، أما المشهود ، فإنه يكون قد تحقق نفسه أيضا واحدة منفردة مباينة للكثرة مستهلكة للأسماء والصفات ممتلئة فياضة منها عليها مزيدة للتقييد ، فإنما كان قد حصل هذه الأوصاف كان قد استهلك حقيقة الآخر إن كان المشهود حقيقة الشاهد وإن كان الشاهد ، فحقيقة المشهود وهي المقيدة ، وهذان الوصفان متباينان لشهود المحتجب ، ولهذا قال له : ( ما أخفيته عنك أعظم ) ، يريد به خفاء الإطلاق في حال هذا الخطاب فإن المقيد وإن كان هو المطلق بعينه لكن الإطلاق أعظم لأجل الأحدية البريئة عن الثنوية العارية عن الخطاب والشهود والشاهد ، فلا يصدق عليها الافتقار أبدا والمقيدان كل منهما مفتقر إلى الآخر .

“ 173 “


( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : وعزتي ما أخفيت عنك شيئا ، ولا أظهرت لك شيئا ) ] .
( ش ) أقول : إنه ما دام الشاهد في شهوده رفع الحجب يتسمى المشهود عزيزا ؛ لأن آثار العزة ظاهرة عليه وإن زالت الحجب فالاسم لا يزول إلا بعد شهود آخر ما في هذا الخلع وإما في خلع آخر ولهذا اقسم المشهود بالعزة ؛ لأن هذا الاسم ظاهر عليه لغير الشاهد كأنه قال : أقسم بصفتي الآن ، كالسلطان يقسم بنعمته ما دام في سلطنته ، وتكملته للقسم وجوابه ( ما أخفيت عنك شيئا ) ، يريد به أنه متى ظهر اسم من أسماء اللّه استهلك حقائق الأسماء الباقية أي : رفع حكمها وهذا الشهود كائن من العزة فيحتوي على صورة اللّه المشهودة ، فلما شوهد هذا العزيز كان مجموع الحقيقة شهوده لعين الشاهد لكنه مقيد ، فما أخفى عن الشاهد شيئا في ظهور هذه الصورة المنسوبة إلى اسم ، وأيضا فإن الشاهد والمشهود قد اجتمعا في محل واحد مقتسمي بالاسم لحصول كليهما وراء الحجب وحقيقة اللّه تعالى كاملة بالتقييد والإطلاق ، فالإطلاق والتقييد للشاهد ما دام في هذا الشهود ولا يخفي عن الشهود الشاهد شيء باجتماع صفتي الإطلاق والتقييد ؛ لأنهما كمال الحقيقة .
قوله : ( ولا أظهرت لك شيئا ) ، معناه أنه لما تلفظ ( بلك وعنك ) حصل في هذا الخطاب وصف حقيقة الثنوية المباينة للحقيقة الأحدية فعند الثنوية لا يظهر للشاهد حقيقة لكنه يظهر بصفات التقييد ويخفي الإطلاق عند ظهور هذه الصفات ، والشاهد يتكلف هذا الشهود تكلفا إذ الطبع يريد به الإطلاق المتصف بالسعة ، فشهود الثنوية يثقل على الشاهد بكونه يتقيد فيه ولا يظهر له الحقيقة ما دام في شهود التقييد ، فكأنه قال له : ما أظهرت لك شيئا من الحقيقة المطلقة في هذا الشهود المقيد المباين للهوية الموصوفة بالذات .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : أخرق الستور ورآني فرأيت العرش فقال لي : احمله ، فحملته ، فقال لي : ألقه في البحر فألقيته ، فغاب ) ] .
( ش ) أقول : معنى اخراق الحجب هو خروجه من شهود إلى شهود آخر في هذا الخلع الواحد جريا على قاعدة الجري ، وهو شاهد وكان هذا الشهود الداخل شهود رفع لا شهود خفض ، ولهذا أخرج من هذا الاسم إلى شهود اسم آخر ناشئا نشأة حدوث وهو العرش المذكور ؛ لأنه ناشئ عن الرحمة والرحمن مستو عليه .
فقوله : ( العرش ) أي : شهدت حقيقة اسم آخر مباين للعزة بالإحاطة والظهور ؛ لأن الرحمن محيط بهذه الأسماء كلها مستو عليها حقيقة ولهذا يظهر عليها مستويا ، وهي لا تستوي عليه لا حكما ولا ظهورا وله الحكم لأجل أولية النشأة الصادرة عنه ، وله

“ 174 “


الاستعلاء بعطاء كل شيء خلقه بقدر سعته بغير منع والإحاطة من كون الوجود معمورا بالرحمة جاريا إلى مستقره فيها الالتحاق الأول بالآخر كالاستدارة المذكورة ، فهذا الاسم باحتوائه على هذه الصفات يباين الأسماء وأيضا باقتسامه للوجود بقوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [ الإسراء : 110 ] .
وقوله : ( فقال لي احمله ) معناه الاتصاف بالخلافة لأنه لا يحمل الرحمة إلا المسمى بها فمن حملها كان مستخلفا عن المستوي عليها والعارف نشأته آدمية مخلوقة على الصورة مختصرة منها ، ولهذا كان واحد عصره لأجل المقابلة في صورة الانطباع في مرآة الذات المميزة للثنوية ، فالشاهد مستقل بصفة الاقتسام وهي صفة التقييد ويستقل المشهود بصفة الإطلاق ولا معنى للخلافة إلا الاقتسام بالقيومية على الأشياء ، فلما قال له احمله كان مثل قوله : وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [ البقرة : 30 ] لكن الجمعية في هذا العارف أظهر من جمعية آدم لنفسه ؛ لأن الإشارة في استخلاف آدم كانت إلى الملائكة فلو أن ذاته جامعة لحقيقة الملائكة لكان الخطاب لنفسه وهذا العارف رضي الله عنه كان وجوده عند كمال الحضرات واتصف بها في حال فنائه فتكون ذاته جامعة لحقيقة الملائكة الذين هم عالم الباطن فكان لنفسه دون إعلام غيره من عالم الخفاء والظهور .
قوله : ( فحملته ) يريد به الاتصاف مشوبا بالعبودية لدخوله تحت الأمر فاستقلاله للاتصاف والطاعة للرب فعند هذا الاتصاف يعود العارف رؤوفا رحيما بأجزائه المتكثرة وتنتفي عنه صفة الانتقام وإن كانت من صفاته لكن أحدا لا ينتقم من نفسه ، والكثرة ذات العارف فلا ينتقم منها لكنه يظهر بصفة الرحمة على المقيدين ليقابل الرحمة بالتقيد لأنه ناشئ عن الانتقام ، فحمله لاستمداده الرحمة من اللّه ويمد بها الوجود لأننا قلنا أن الكثرة في عصره فروعه ، والفروع تستمد من الأصل .
قوله : ( فقال لي : ألقه في البحر فألقيته فغاب ) معناه أن عند حمل هذا الشاهد للعرش واستقلاله عطف آخر الزمان على أوله كالاستدارة ؛ لأن هذا الشاهد يستمد من البعثة الرحمانية التي قام بها محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فعاد العرش محمولا مرة ثانية بنشأة هذا التابع ولا يحمل العرش مستقلا به إلا من يكون قد حضر مادة الحياة التي هي الماء إذ هو أول موجود ، والموجودات تستمد منه الحياة وهذا الشاهد قد حصر هذه الموجودات بكماله ، فوجب أن يكون الماء من جملة المحصورات ولهذا قيل له ألقه في الماء وهذا أمر يمكن قدرته على التكوين ، فكأنه قال له : ألق الرحمة في الحياة لتعود مؤثرا في الوجود باشتمال

“ 175 “


هذه الحياة على من صدر من الرحمة ليكون الماء أول موجود لك كما كان أول صادر عن اللّه والموجودات تستمد منك الحياة في حال الظهور الصادر عن الرحمة ، وصورة عطف الزمان هو أنه عند ظهور كل عارف يكون الموجود مفتقرا إلى ظهوره ، والوجود كما قرره النبي صلى اللّه عليه وسلم صورة دائرة ، فافتقار الوجود إلى العارف يؤثر في تلك الدائرة أثرا فعند وجوده يكون من الأولية نشأته والأثر مهيأ له إلى حين كماله ، فيلحق الأثر بنشأته الصادرة عن الأولية فيعطف الأول الذي هو نشأة العارف على الآخر الذي هو الأثر ليستقر العارف في محله المهيأ له ، فعند نقلته من الأولية إلى محله الذي هو الأثر نسميه عطف الأول على الآخر ، ويكون كمال الدائرة بمقدار دوامه إلى حين نقلته وتعود الدائرة إلى الأثر بحال الافتقار ، فظهور كل واحد من العارفين يحقق العطف المذكور ويعود العرش على الماء ككونه الأول فرميه في الماء هو عمر الرحمة بالحياة إلى حيث غيبتها لتشمل الحياة على مجموع الوجود .
( ص ) [ قوله : ( ثم رمى بي في البحر فقال لي : استخرج من البحر حجر المثل فأخرجته ، فقال لي : ارفع الميزان فرفعته ) ] .
( ش ) أقول : معنى رميه في البحر هو الغيبة في سر الحياة إلى حيث استهلاك الشاهد في هذا السر بالمراد الذي قد عبر عنه بالفعل فلا يتصف العارف بهذا السر إلى حيث إشرافه على الأولية وهو في الآخر ليتحقق له التمكين بالحكم على هذا السر فرمى العرش في الماء عود مجموع الوجود إلى الحياة بصورة العارف ورمي صورة هذا العارف مرة ثانية هو تحقيق هذا السر ، عليه دون الموجودات إذ هو مختصر منها ، فمتى طرأ على الوجود عارض ، فلا بد لهذا العارف ، أن يظهر عليه هذا العارض بحكم الترجيع ليكون الحاصل له وحده دون الموجودات ، فصورة العطف هو كمال الزمان مرة ثانية وإلقاء الوجود المعبر عنه بالعرش ، والصورة المختصرة التي هي صورة العارف في الماء هو ظهور السر عليه بعد فنائه المعبر عنه بالرمي في مدد هذه الحياة .
قوله : ( فقال لي : استخرج من البحر حجر المثل ) معناه أمر ناشئ عن الاقتسام إذ الشاهد والمشهود والعرش والماء في هذا الشهود يحتوي عليهم اسم الرحمة وحجر المثل هو اسم اللّه بدليل الآية وهي قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [ الإسراء :
110 ] فليس لاسم الرحمن مماثل إلا اسم اللّه فاضطرارا يكون هو الاسم المعبر عنه بالحجر وكونه عبر عنه بالحجر ؛ لأن اسم اللّه متى ظهر استهلك حقائق الأسماء كلها


“ 176 “


فيكون صمدا في حال هذا الاستهلاك صلبا لا سبيل لظهور شيء من الأسماء عليه ولا فيه وليس لنا شيء أشد صلابة من الحجر ، فتعبيره عنه بالحجر مناسب لعدم الخلاء وسرعة استحالة كل شيء إليه فكل اسم من الأسماء مرجعه إلى اسم اللّه بل كل شيء لقوله تعالى :
أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [ الشورى : 53 ] ، وذلك لجمعيته للأشياء المتجزئة وهو لا يتجزأ فيحتوي عليه شيء من الأشياء .
قوله : ( فأخرجته ) معناه حصول اسم اللّه له في مقام المماثلة إذا كان الشاهد يحتوي عليه اسم الرحمن في هذا الشهود ، فإخراج حجر المثل هي المماثلة والإسمان الموجودان ، وكون المخرج واحد من قبل الرحمة دليل على نشأة الشاهد أخذا في طريق الكمال إلى حيث ظهور الاسم لأنه لا يكمل هذا الاسم المعبر عنه بالحجر في وجوده إلا بوجود المقيدين المحسوسين الذين من جملتهم الإنسان ، فبالحقيقة هذا الإنسان مظهر لكمال هذا الاسم الجامع لصفتي الإطلاق والتقييد ، فالإنسان مع ما يخلف من الموجودات مستقل بصفة التقييد والأسماء من هي مقيدة ، فكأنه لم يظهر اللّه باسم كامل إلا بوجود هذا الإنسان المسمى وهو العارف .
قوله : ( فقال لي : ارفع الميزان فرفعته ) معناه وجود الاسمين في صورة هذا الكامل الفاني في حقيقة اللّه تعالى ، والأمر بالرفع دال على أن وجوده عين وجود اللّه لفنائه والميزان صورة العدل بوجود الاسمين مجتمعين في ذات هذا الشاهد ، وهما صفتا الإطلاق والتقييد ، فالإطلاق لاسم اللّه ، والتقييد لاسم الرحمن إذ هو مدد المتكثر ، ورفع هذا العدل هو إظهاره بوجود هذا المراد للكمال ، فلم يستحق الوجود عدلا إلى حين ظهور آدم عليه السلام واستمر هذا العدل متسرمدا لا يزال يظهر عند وجود كل عارف مماثل لآدم عليه السلام .
( ص ) [ قوله : ( فقال لي : ضع العرش وما حواه في كفة وضع حجر المثل في الكفة الأخرى فرجح الحجر فقلت لي : لو وضعت من العرش ألف ألف إلى منتهى الوقف لرجحه ذلك الحجر ) ] .
( ش ) أقول : معنى الوضع في الميزان دليل على التمكين بإظهار العدل وذلك أن العارف بعد كماله يلتزم بعدم الخصوص وإعطائه حقه والاختصاص حقه أيضا يدفعه إليه ولا يبطل شيئا من الوجود بل يضعه في محله اللائق به ، ويركب منهاج الاستمداد فيمد كل ناقص مفتقر إلى كماله اللائق به ، وهذا كله لظهور الاسم العدل عليه بعد فنائه في الذات المسماة بهذه الأسماء ، ويعود الوجود حاضرا دائما تقييده وإطلاقه فهو يعطي التقييد

يتب
ع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:28 pm

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

“ 177 “


حقه والإطلاق حقه ، والحالتان حاضرتان في وجود هذا العارف لا يخفى عنه واحدة منها ، وكذلك لا يشتد ظهورهما ولا يضعف ، فدائما في يده قسطاس العدل كفة الرحمة إلى جانب الوجود وهو التقييد ، وكفة الحجر إلى جانب العدم ، وهو الإطلاق ، وهاتان الصفتان حالتان في ذاته أحدهما مقابلة للأخرى وهو الممد بصورة الفعل وكل هذا ناشئ عن الأمر ، وكيفية وضع هذا الحجر الذي هو اسم اللّه موازيا للاسم الرحمن شهوده بإرادته لهاتين الصفتين في آن واحد ، وهما صفتا العدم والوجود فهو الجمع بين النقيضين ، ويعبر عنه أيضا بثبوت الأعيان في حقائقها وبجمع الجمع وببقاء البقاء ، فالآن الذي يجمع للعارف فيه هذه الصفات تكون آن عدل والميزان ظاهرة عليه ، فإن عاد العارف بعد كماله شهد هذا الجمع المذكور ، ولهذا لا يذكر فيه حكاية فعل إذ لم يقل عقيب الأمر فوضعت ولا وزنت ولا شيئا من ذلك ، قوله : ( فرجح ) معناه أنه إذا اجتمع الاسمان المذكوران بحقائقهما التي هي صفات الإطلاق والتقييد يترجح الإطلاق على التقييد الذي هو العرش وما حواه ، لأن الإطلاق يظهر على التقييد في آن اجتماعهما الذي هو صورة الوزن ، والتقييد غير ظاهر في حال الاجتماع ، لأن المقيد يصدق عليه صفة الإطلاق والمطلق لا يصدق عليه هذه الصفة المقيدة ، وأيضا فإن اسم اللّه إذا ظهر استهلك الرحمة إلى حيث الخفاء لا إلى حيث العدم ، والرحمة إذا ظهرت غايتها المماثلة لا الاستهلاك لأن اسم اللّه يحتوي عليها ، وهي لا تحتوي عليه ، فرجحان الحجر لجمعية الأسماء فيه ونقصان الرحمة عنه لاستهلاكها حين ظهوره فكأنهما لما اجتمعا في الميزان الذي هو صورة العدل ظهر اسم اللّه لحقيقة هو ظهر اسم الرحمة موازيا ، وأخفت حقيقتها ، فرجح الاسم الذي عبر عنه بالحجر بظهور حقيقته الجامعة .
قوله : ( فقال لي : لو وضعت من العرش ألف ألف إلى منتهى الوقف لرجحه ذلك الحجر ) . أقول : معنى وضعه لكل شيء منطلق عليه هذا العدد صدق الجمعية على اسم اللّه ، فإنه أي شيء وجد كان مجموعا داخلا تحت هذا الاسم ، فكأنه قال : لو كررت هذا الوجود الرحماني ألف ألف مرة إلى آخر النهج المبتدأ فيه بالعدد كان اسم اللّه موجودا ووجوده ظاهر ، فبظهوره على الأشياء يحتوي عليه اضطرارا إذ هو الفاعل والمفعول فاحتوائه لكونه فاعلا وخفاء الأشياء فيه لكونه مفعولا ووصفه بهذه الصفة المفعولية ، لأنه يظهر بالتقييد بصفاته المقيدة وحقيقة عينه التي هي الفاعلة لا تتقيد .
وقوله : ( إلى منتهى الوقف ) يعني به أمرين : أحدهما : إنه من حين ابتدائه بالعدد إلى

“ 178 “


حيث كمال ألف الألف لا يزال واقفا في هذا الآن لا يتغير حتى يظهر عليه آن آخر يسمى آن كمال .
والثاني : إنه ما دام في هذا الشهود المسمى بالجمع يكون الشاهد فيه واقفا مطلعا على جمعية الصفات وحقائقها ، وكلا الإطلاق والتقييد مجتمعان ، وهو ناظر إليه والمنظور محصور في شهوده فهو واقف إلى حيث انقضاء هذا الجمع المعبر عنه بالوزن ، فكأنه قال : ما دمت فاعلا لصفات العدل ، فأنت واقف ولا يزال يمد الاسم المعبر عنه بالحجر يثقل الإطلاق .
وقوله : ( لرجحه ذلك الحجر ) معناه ظهور اسم اللّه لجمعيته على جميع الأسماء .
( ص ) [ قوله : ( فقلت له : ما اسم هذا الحجر ؟ فقال لي : ارفع رأسك وانظر في كل شيء تجده مرقوما ، فرفعت رأسي ، فرأيت في كل شيء ) ] .
( ش ) أقول : مراده لهذا السؤال الاستفهام لأنه في حال وجود هذين الاسمين اللذين قد صدق عليهما الوزن لا يظهر أحدهما بحقيقة ظاهرة ، لكن الشاهد يعود ناظرا إلى الأشياء المتكثرة عيانا ، وإلى صفة الإطلاق إدراكا ، ولا يتميز أحد الصفتين لعينه عن الآخر ، فافتقر إلى السؤال لتعرف حقيقة الواحدة من الأخرى عيانا لأنه يدرك الحقيقتين إدراكا ويلحظ واحدة منهما عيانا ، فإنما خفي عن بصره في هذا الشهود استفهم من الفاعل عما خفي فلما كانت صفة الإطلاق خافية عن بصره ، فحص عن اسمها لأن الاسم للتعريف وليس خفاؤها عنه لحقيقتها لكنها خفي عنها مطلق الاسم ومقتضى التعريف حاضر وهو المسؤول ، وصفة الفيض بالكرم تقتضي العطاء فحين سأله أجاب اقتضاء كريما إذ هو مقام الفيض .
قوله : ( فقال لي ارفع رأسك ) معنى الرفع إلى جهة الفوقية هو الفحص عن الخفاء وذلك أن صفة الإطلاق المعبر عنها بالحجر وهو اسم اللّه تعالى إلى جهة الفوقية أميل ، لأن الإطلاق صورة الأحدية البريئة عن التجزؤ ، ومتى كان بريئا عن التجزؤ ، كان بريئا عن الكثافة ، لأن اللطف واحد ، وباسمه برئ عن التجزؤ ، وكذلك الأحدية باسمها برئت عن التجزؤ ، فلما جمع لهذا الشاهد الصفتان المذكورتان ، كانت إحداهما علوية وهي صفة الإطلاق ، والأخرى سفلية وهي صفة التقييد ، وإنما كانت سفلية لأن التجزؤ والقسمة لا تصدق إلا على الأجسام والمجددات اللطائف والكثايف ، فمتى حصل التمييز صار المتميز من عالم الكثافة والكثيف ظاهر لعينه ، ولهذا لم يسأل عنه للكثافة والتمايز الظاهرين للعين واشتملت صفة الإطلاق للطفها الذي برأها عن الانقسام حتى صدق عليها اسم الإطلاق ، فقيل له : ( ارفع رأسك ) يلحظ جهة الإطلاق المستعلية على كثائف المقيدات القابلة

“ 179 “


للتمييز ، قوله : ( انظر في كل شيء تجده مرقوما ) معناه أنه حين سأل أجيب بأن ينظر في كل شيء إذا نسب إلى الإطلاق كان على سبيل الجمعية ، لأن المطلق عين المقيد فالأشياء ها هنا ليست حقائق في الإطلاق ، وإنما هي معاني قائمة داخلة تحت لفظ الإطلاق ، فكأنه قال له : انظر في كل معنى يتضمنه هذا الإطلاق وليس أعيانا متميزة ليأباها الإطلاق المذكور فتوريته عن المعاني الخافية بكل شيء مقيد في صفة التقييد هو مطلق في صفة الإطلاق ، قوله : ( تجده مرقوما ) معنى وجود الأشياء مرقومة في الإطلاق مع بقاء اسم اللّه عليها هو أن المطلقات في هذه الصفة أي شيء تفرد منها كان مجموع الإطلاق فيه ، وإذا كان ظاهرا أوجب أن يكون اسم اللّه مرقوما على المنفردات من حقيقة الإطلاق ، وصورة الرقم هو إثبات أثر ظاهر لعين الشاهد ، فكأنه قال : انظر إلى المعاني الممكنة في هذه الحقيقة المستعلية فأي شيء انفرد لناظرك منها تجد اسم الحقيقة مرقوما عليه ، مثال ذلك :
إنسان واحد إذا انفرد يسمى بالحقيقة الإنسانية والمجموع مسمى بها .
قوله : ( فرفعت رأسي ) معناه الدخول تحت الأمر اضطرارا يوجبه الخفاء وضرورة الخفاء هو لكمال الشاهد إذ لا بد في كماله من خاف وظاهر .
قوله : ( فرأيت في كل شيء ) أي : رأى صورة الألف الدالة على الواحدية لأن اسم اللّه واحد فليس له من الأحرف سوى الألف ، وأيضا فإنه مبتدأ الأحرف ومبدأ العدد ، ولهذا بدأ الوجود بواحد وكان اللّه كاملا قبل وجود هذا الواحد الذي هو أبونا آدم عليه السلام ، فالألف للواحدية التي هي على الصورة مخلوقة ، فنصيب الواحد من حيث هو من العدد الألف لأنه واحد جامع كامل كباقي الحروف ، مفتقرا إلى سبيل يكمله أي ليس هو متصل بحرف بل الحروف تتصل به ، وهذا هو معنى السبيل الذي عبرنا عنه في كتاب الختم عند دخولنا في الحضرات التي هي الأركان الأربعة ، فاللّه تعالى يكمل الأشياء وهي لا تكمله ، وليس لهذا الاسم شبيها بالوجود سوى الألف ، فكأنه قال : رفعت رأسي فرأيت صورة الجمعية في كل فرد لا حقيقة ثابتة ، واعلم أنه أتى بصورة الألف كما هي في الكتابة لتكون أدل على الأحدية ، فلهذا أثبتها هكذا والشرح لا يليق به إلا البسط .
( ص ) [ قوله : ( ثم حجبني بخمسين حجابا وكشف عن وجهي أربعمائة حجاب ما شعرت بها إنها على وجهي من دقتها ) ] .
( ش ) أقول : إن هذا التنزل من مقام الخلة وهو تأييد للاقتسام بالوجود ، فإن المقتسمين لكل واحد منهما نصف التعظيم على تقدير أن كليهما موجودان ، فحيث ذكر

“ 180 “


الحجب عرفنا بالاقتسام بالاسم الذي ينشأ عنه هذه الحجب وهو الاسم العزيز ، فلما جعلها خمسين عرفنا أنها نصف أسماء التعظيم ، ففنيت صفة العزة وبقيت صفات الخلة وكلا الخليلين تنشأ صفاتهما من ممد واحد متشابهة لأنهما مشتركان في الوجود ، فهذا مثال حاصل عيانا ، وكذلك في الصورة فإنه لا يتصور الفاعل في اسم إلا صورة فالشاهد والمشهود كلاهما صورتان كل واحد منهما محتجب عن الآخر والمشهود يعظم الشاهد والشاهد كذلك فتعظيم المشهود للشاهد كقوله تعالى : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [ فاطر : 28 ] ، فالتعظيم ينشأ عن الخشية ، فكل اسم يدرك من الأسماء متفردا فهو ذو حجاب وحجابه تمييزه عن الآخر ، فلما كان هذا الشهود ناشئا عن خمسين اسم قال رحمه اللّه : إنها خمسون حجابا ، فعرف الأسماء بأوصافها المميزة لها ، وإنما أطلق عليها اسم الحجب ظاهرا لأنها قد حصلت له فاصلة بينه وبين مشهوده وهي متميزة وكل ما يحصل بين الشاهد والمشهود نسميه حجابا لأنها تظهر لنا عند الشهود ، فحقائقها جسمانية لطيفة فلا تشبه أجسامها إلا أجسام الحجب ، هذا من طريق المشابهة في الظاهر ، وأما في الحقيقة فإن كل ما ندركه حاجزا بيننا وبين سبحات الوجه سري إن كان المدرك يظهر تلك السبحات ، أو لخفيها من ورائها ، فإننا نسميه حجابا لأنه يخفى بعض الخفاء في شهوده ، فتكون العزة فيه حاضرة غير ظاهرة وفي شهود لا يخفي شيئا فيكون الشهود من ضد العزة وهذا الضد هو الظاهر في شهود يخفيها كلها ويكون الشهود من العزة واسطة ، فهذا الشهود قد كان من الشهود الذي يخفي فيه العزة وهي ظاهرة ، ولهذا شهد الفاعل من ورائها .
وقوله : ( وكشف عن وجهي ) فهذا شهود فعل مؤدي إلى الظهور .
وقوله : ( وكشف عن وجهي أربعمائة حجاب ) معناه أن هذا الشهود حيث ورد بعد ذكر الخمسين حجابا وعرفنا فيه أن مرآته بوجه واحد مقابل ورود هذا الشهود الآخر معرفا لنا أن المرآة فيه بثمانية أوجه بمقدار هذه الحجب ثماني مرات وذلك أن المرآة قد تكون في أول الشهود مقابلة ، فمتى جعل لها وجهان مؤديان إلى الزيادة ، فتنشأ عنها الثمانية اضطرارا وذلك لأن الشاهد في هذا الشهود يكون واقفا غير جار فمتى حصلت الوقفة “ 1 “ بهذا الشاهد وراء ، وأماما وبتعيين الوراء والأمام لابد من يمين وشمال ، وإلى
..........................................................................................
( 1 ) الوقفة : الحبس بين المقامين ، وذلك لعدم استيفاء حقوق المقام الذي خرج عنه وعدم استحقاق دخوله في المقام العلي ، فكأنه في التجارب بينهما .

“ 181 “


الحاجز المميز بين هذه الأربعة هي حدود مباينة لهذه الأربعة المذكورة وهي أربعة جهات ، الواحدة منها بين اليمين والأمام ، والثانية بين الأمام والشمال ، والثالثة بين الشمال والوراء ، والرابعة بين الوراء واليمين ، وكل جهة من هذه حين وقوف الشاهد ينطبع فيها صورته ، فكل محال انطباع يسمى مرآة ، فلما شهد ألا خمسين حجابا ثابتة وجرى من هذا الشهود إلى شهود آخر في هذا الخلع الواحد عرفنا أنه وقف في الشهود الثاني لشهود الحجب بعد الجري ، وشهد في هذا المقام زوال أربعمائة حجاب أضعاف الثابتة في المرآة المذكورة ، ولهذا قال : ما شعرت أنها على وجهي دليل على الزوال فلو طال مكثها إلى حيث كثافتها كانت مشهودة له لكن المرآة ذات الثمانية ترى الشيء وفعله والشيء فيها يتقدم على الفعل ، فعند شهود الفعل يخفي هذه الحجب بزوال الكيفية .
فقوله : ( أربعمائة حجاب ) ، مراده به أني جريت في المقابلة إلى المرآة إلى حيث الوقفة التي يصدق عليها شهود المرآة ذات الثمانية ، فشهدت فيها ضد الثبوت وأضعافه وهي أربعمائة حجاب .
وقوله : ( ما شعرت بها أنها على وجهي من دقتها ) معناه أن هذا الشهود في المرآة المذكورة ناشئ من الحضرات الأربعة الفاعلة لأنفسها طبعا لا اختيارا فمتى أشهده في شهود ما فإذا وجد الإدراك لا يتعقل المدرك أن على وجهه حجابا مع وجود الحاصل إحصاء وحصرا ، لكنه يجد أوصافا متعددة وأسماء أظهر منها ، وقد قلنا : إن كل منفرد مقيد ذو حجاب ، فلما شهد هذه الصفات مباينة للأسماء وكل منها منفرد عرف أن تمييزها مؤد إلى أسمائها لتعريفها ، فعرفنا بالحجب ، لأن كلا منهما إذا انفرد كان حاجزا عن الآخر ، فلما شهدها مجملة قال : ما شعرت إنها على وجهي لأنه لم يشهد شيئا منها حاجزا عن ناظره .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي أضف ما رأيت في كل شيء إلى الحجب ، فما اجتمع فهو اسم ذلك الحجر ) ] .
( ش ) أقول : معنى الإضافة ها هنا هو الجمعية ، لأنه في هذا الشهود الواحد قد جرى إلى شهودات متعددة ، وأي شيء شوهد وهو محصور له ، وهو مختف عليه ولا معنى للجمعية إلا الاحتواء ، فكأنه نبهه على الاحتواء ، لئلا يخلو شيء مما رآه فيصدق عليه الإخلال ، وهو بريء عن صدق هذا الاسم ، فكأنه قال له : اجمع ما رأيته في كل شيء وهو الألف إلى ما رأيت من الحجب المتعددة فيما اجتمع منها كان اسم الحجر إلى حجر المثل الذي تقدم ذكره ، وكيفية هذا الجمع مثل قوله :
“ ما رأيت شيئا إلا ورأيت اللّه فيه “

“ 182 “


فكأنه أراد بهذا الجمع رأيت الألف الدال على اسم اللّه المعبر عنه بالحجر وذلك أن اسم اللّه يحتوي على كل شيء مشهود عيانا وإدراكا ، فلما رأى صورة الألف في كل شيء وجرى بعده إلى الحجب المتعددة التي يطلق عليها أشياء ثابتة في محلها ، فأظهر الأشياء الناشئة في غير محلها بإضافة الألف ، فحصلت الجمعية حقيقة وهي لاسم اللّه .
والحاصل منه أنه قال له : أضف الإطلاق إلى التقييد ، وليس لنا اسم جامع لها بين الصفتين سوى اسم اللّه الموري عنه بالحجر ، فلما شهد صورة الألف في محل تباين التصوير ، وهو الإطلاق أريد له إضافة هذا الإطلاق على سبيل الإظهار ليتحقق له الجمعية بتعريف هذا الاسم اتصافا ونعتا .
( ص ) [ قوله : ( ثم قال لي : كل ذلك مكتوب أزلا هذا كل شيء بين يديك ، فاقرأ :
بسم اللّه الرحمن الرحيم من الوجود الأول إلى الوجود الثاني ، أما بعد ، فالعدم سبقك وكنت موجودا ) ] .

( ش ) أقول : الكتابة الأزلية هي العلم وإحصاء الأشياء فيها والأزل هو الزمان الذي بين وجود اللّه ووجود الموجودات المعقولة ، لأن فيه أخذ العهد على الوجود ، فزمان العلم يباين زمان اللّه الذي لا يتعلق حتى يطلق عليه علم ، ولا إرادة فهو وجود عدمي يتعقل لتعقل العدم ، بخلاف هذا الزمان الأزلي ، فإنه من حين علم اللّه الموجودات ظهر بزمان لائق بالظهور مائل إلى الوجود الظاهر ، لأن الوجود فيه ظاهر للّه تعالى من حيث العلم خاف لنفسه وللظهور أيضا ، فالكتابة فيه إثبات تمايز الموجودات في العلم فلما ثبت بالكتابة المميزة ظهرت للعالم تعالى متميزة ، والكل فان في ذاته ولا معنى للكتابة إلا إثبات المعلوم حتى يظهر محصورا ، فكأنه قال لهذا الشاهد كلما شهدت من اختلاف الوجود والأزمان ، وما تحتوي عليه الأسماء والصفات الدالة على الفاعل ، وتمايز الأسماء إلى حيث جعله حجبا متعددة كما رأيت مكتوب في هذا الزمان الأزلي إلى معلوم محصور ، قال اللّه تعالى : وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [ يس : 12 ] ، فهذا زمان الإحصاء الذي عبرنا عنه بالأزل أخذ في طريق الظهور فما دامت الموجودات فيه لطيفة وتمييز لا كتمييز الكثايف لكنه تمييز علم العالم قد أحصى الأشياء ولم يظهر بها ، فعند ظهوره بها يكون هذا الظهور مثل إثبات الكتابة .
وقوله : ( هذا كل شيء بين يديك فاقرأ ) هذا الوارد “ 1 “ قد حصل لهذا الشاهد وهو
..........................................................................................
( 1 ) الوارد : ما يرد على القلب الظاهر من أحداث الكون من الخواطر المحمودة من غير تعمل ،

“ 183 “


في مقام لائق بابتداء الزمان المدرك ، فيكون هذا الشهود عند حضور الحضرات والشاهد في مقام محيط الظاهر الفاصل بين الأولية والظاهر ، وقد جرى قبل هذا من الأولية المذكورة آتيا إلى الظاهر ، فجاءه الخطاب في هذا المحل ، وما به الخطاب إلى ظهور حقائقه ، فلما ظهرت الحقائق وصارت بينه وهو كالقيوم عليها نبّه على حصر ظهورها تنبيها لتمكين حكم القيومية ، فالقراءة حصر ظهور العلم الذي قد تميز بالكتابة وهذا بحصور الفاعل على المسمى القيوم على القيوم ووقفته عن القراءة عند ظهور الأشياء كلها له هو لكونه واقفا في حد الفصل ، وهو المحيط المقسوم بين حضرتين فهو محل وقوف لا محل جري فلما مال به وجوده المختص بهذا الشهود أخذ في الجري همة ، فقيل له : ( اقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم من الوجود الأول إلى الوجود الثاني أما بعد فالعدم سبقك فكنت موجودا ) .
أقول : إنه افتتح ببسم اللّه لا لإحصاء المكتوب المقروء في الجمعية ، فإنه لما صدقت على المعلومات الكثافة ظهر الفاعل تعالى باسمه الجامع ليحتوي عليها وتصير ممكنة فيه لتصديق التمييز الذي صدر بواسطة إلى الكثافة ، وهذه الواسطة هي النور المميز ، فلما صدق الجامع وجبت النقلة ، فحين هذا الوجوب تسمى الفاعل باللّه ، فلما حصل لهذا الشاهد هذا الإحصاء المذكور بدأ بسم اللّه كان الفاني مسمى به .
وقوله : ( من الوجود الأول ) يريد به بعثة انتقال لا بعثة إرسال ، فالوجود الأول هو زوال المذكور بشرط تمييز المعلومات فيه تمييزا لا بقاء له والنقلة تصديق على المتميزين من حين وجود التمايز في الزمان المذكور ، فمنه إلى الأول ومن الأول إلى الظاهر نقلة تشبه البعثة لأن الفاعل يبعث الأشياء من الزمان الأزلي إلى الزمان الأبدي الذي هو عدم
واجتلاب .
والوارد : عبارة عن كل ما ورد من حيطة كل اسم إلهي بسكر ، أو بصحو ، أو ببسط ، أو بقبض ، أو بهيبة ، أو بأنس ، أو بنحو ذلك .
ولكن القوم اصطلحوا بذلك على الخواطر المحمودة فقط ، وقد يرد عن شعوب من المورد وعليه سواء كان وروده فجأة ، أو غير فجأة ، بعلامات وقرائن تدل على أمر معين يطلبه استعداد المحل ، فيثمر له علما خاصا إلهيا ، وكونيا ، ويطلق الوارد بإزاء كل ما يرد كل اسم إلهي ، سواء كان محمودا ، أو غير محمود على القلب ، فيختلف حكمه بحسبه ، فيحمد لو بذم ، إذ ليس من شأن الوارد إلا أن يثمر العلم ، وأما كونه محمودا ، أو مذموما ، فراجع إلى محله الوارد عليه .

“ 184 “


الانقضاء وهو زمان الآخر ، فلا تزال الموجودات تتميز في الزمان المنسوب إلى الأول ، وينتقل منه إلى الظاهر فيصدق عليها الوجود اللائق باسم الظاهر وضده المسمى بالباطن المقابل ، فالآن الذي فيه الحد يسمى برزخا ، وينتقل إلى الآخر فيصدق عليها الزمان المنسوب إلى الأبد ، فلما كان الشاهد آتيا في هذا الشهود من الأزل واقفا في محل الفصل بين حضرتي الأول والظاهر شاهد المنتقلين الذين قد صدق عليهم تمييز اللطافة آتين إلى الظاهر على سبيل البعثة فيصدق عليهم تمييز الكثافة أيضا ومحال أن يستدير حضرة الاسم الظاهر إلا بوجود كل شيء ، فلهذا قيل له : في الفصل المتقدم هذا كل شيء بين يديك فاقرأ ، فلما قرأ كان المقروء صورة بعثه ، ولهذا قال : ( من الوجود الأول إلى الوجود الثاني ) فالوجود الأول هو الزمان والوجود الثاني هو الوجود الظاهر المدرك ، فكأنه وجد صورة النقلة في صورة مكتوب لكنه لا يظهر له معنى ، فلما قرأ حصل له معنى النقلة المشهودة له والقراءة تكرار العلم إلى حيث التمكين .
وقوله : ( أما بعد فالعدم سبقك وكنت موجودا ) يريد به الفصل “ 1 “ بين اسم اللّه وما بعده وبين البعثة الموري عنها بالنقلة إلى الظاهر المعدوم وهو عدم حقيقي وكل ظاهر لابد أن يصدق عليه قبل الظهور ذلك العدم المذكور فهو بالحقيقة سابق على وجوده الظاهر ، فوجود الأزل وجود نسبي فلا يظن أنه وجود رجعة ولا وجود بعد ظهور لكنه وجود مبتدأ مائل إلى الوجود الظاهر لكن الأشياء فيه ظاهرة للّه خافية في نفسها فلهذا قال له : وكنت موجودا أي : ظاهرا إلى وعدم وجودك سابق على وجود ذاتك لك ولمثلك ، فكلما أوجد اللّه تعالى شيئا في الأزل كان عدمي الوجود بالنسبة إلى حضرة الظاهر فعالم الظاهر هنا عين المعدوم النسبي وهو عالم الأزل .
( ص ) [ قوله : ( ثم عاهدتك في حضرة الواحدية بالإقرار إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فشهدت لي بذلك ) ] .
( ش ) أقول : ليس مراده بالعهد ها هنا عهد الرب الأزلي ، وإنما يريد به عهد الإطلاق
..........................................................................................
( 1 ) الفصل : فوت ما ترجوه من محبوبك . كرجائك تحققك به وبأسمائه منه ، وإذا اطلعت على حالة ذلك حقك ، فهو الفصل به وبأسمائه منه ، وإذا اطلعت على حالة ذلك في حقك ، فهو الفصل .
وقال قدس سره : وهو عندنا تغيرك عنه أو عن محبوبك بشهود نفسك القاضي بمغايرتك إياه بعد حال الاتحاد الظاهر لك بحكم غلبة حال ذلك ولا يتبين فيه صحته عن سقمه .

“ 185 “


العام حال كونه ولا شيء معه وهو على ما عليه كان ، فحال فناء العارف عند كمال معرفته يتيقن بأحدية اللّه تعالى مع نفسه ، ويؤخذ عليه عهد التوحيد بعد معاينته له ، واتصافه به ، فمن حيث العيان يقر العارف بهذه الوحدانية ، ولهذا كان العهد إنني أنا اللّه ، فإن اسم اللّه من أسماء الفردانية ، فإذا سميّت الأحدية بهذا الاسم ظهر عليها اسم الوحدانية ، وهذا العهد قد كان في آن الإطلاق ولا شاهد ولا مشهود لكن حقيقة الشاهد عادت صفة في هذا الآن أعني آن الإطلاق العام ، فكأنه إذا انفرد اللّه تعالى ولا شيء ، وتجلى بصفاته وتيقنت الصفات أن لا وجود إلا للموصوف الواحد ، فيؤخذ على الصفات العهد بالإقرار بالأحدية المباينة للثنوية وهذا العهد لتمكين يقين الصفات دائما ، فيثبت هذا اليقين عن العيان والاتصاف إلى حيث نقله العارف الواحد الذي قال : عهدتك إليك أو عارف آخر ، فيظهر اللّه تعالى لواحد بنفسه فحين ظهوره لهذا الواحد يفنى حقيقته ، فتتبدل صفاته التي كان عليها قبل المعرفة حين فنائه ، فإذا أفنى اللّه له هذا الفناء وعاد بقاء فما يبقى إلا أخذ العهد على هذه الصفة المحدثة وهذا العهد لا يكون إلا في حضرة الإطلاق ، والمعبر عنها بالوحدانية كما قال : قوله : ( فشهدت لي بذلك ) معناه أن صورة هذا العهد هو أنه في حال تيقن الصفات إنها لحقيقة واحدة وتدرك ذواتها في ذوات بريئة عن الثنوية ، ويلحظ العلم في حقيقة الموصوف فسريان العلم في هذه الحقيقة يكون خطابا مع علمه أنه واحد ، فخطابه لصفاته تنبيه عن ثبوت هذه الأحدية ، فعند سريان هذا الخطاب يحصل عند الصفات إدراك كالسماع ، والعيان سابق على هذا السماع ، فيكون السماع ممكنا للعيان حتى لا يزول بزوال العين المشهودة ، فهذا هو الإقرار بالوحدانية ، فعند رجوع العارف من هذا الشهود الأحدي الذي أفني عنه ، وأخذ عليه الأخذ فيه لشهد بذلك العهد في عالم الظاهر .
( ص ) [ قوله : ( ثم رددتك ثم أخرجتك ، ثم أرميتك في البحر ، ثم ألقيت أجزاءك في الظلمات ، ثم بعثتك إليهم فأقروا لك بالطاعة ، وخضعوا ثم آنستك بجزئك في حضرتك مباحة لك ) ] .
( ش ) أقول : معنى الرد ها هنا هو عوده إلى الوحدانية المذكورة ذات العهد بعد شهادته بها في الظاهر ، وكيفية هذا الرد هو أنه في حال الفناء يكون محو عينه حتى لا يبقى لها حقيقة ، فعند فناء الفناء يكون ردا إلى المحو الأول حتى يصدق فناء الفناء ، وهو المعبر عنه بالبقاء ، وليس الرد ها هنا هو هذا المحو ، لكن الرد ها هنا يكون في الحضرة الثالثة بعد

“ 186 “


الفناء ، وهي رتبة تسمى بقاء البقاء ، فالرد فيها حقيقة إلى الواحدية لأنه ليس بعدها مرتبة كمال ، بل هي آخر المراتب التي يتوقف كمال العارف عليها ، فالزيادة عليها تكون على سبيل اللزوم ، فهذا الرد يدركه العارف بخلاف كل رد حصل له من حضرة الحضرات ، قوله : ( ثم أخرجتك ) يريد به خروجه بالحياة الدائمة من هذا المقام الذي قد فني فيه فلا يصدق سر الحياة إلى حيث خروجه منه ، وأيضا فإن حكمه يعود مستقلا برأيه لا يحكم عليه أحد ليقينه أن لا أحد سوى اللّه ، وهو فان في ذاته فلا يحكم عليه سوى نفسه ولا معنى للخروج إلا الخروج عن الطاعة ، فإن المتيقن أن عليه حكما خارجا واحدا مماثلا يضطر إلى انطواء تحت قهره ، وهذا الوصف يباين العارف فإن تيقن أن الحقيقة للّه بلا ثان ، فلا حاكم مماثل مع كون الكل حاكما بأحديته ، فلا يحكم على العارف سوى ذاته لأن الحقيقة فيها للّه تعالى ، فهذا إخراج عن طاعة المماثلين .
قوله : ( ثم أرميتك في البحر ) يعني بالبحر ها هنا سر الحياة ، فعند خروجه من الحضرة المذكورة شهد لنفسه بالفناء ، وهذا الفناء هو عين البقاء ، ولا معنى للبقاء إلا الحياة الدائمة ، فرميه في البحر هو استيداعه في هذا السر المختص باللّه ، وهو سر الحياة .
قوله : ( ثم ألقيت أجزاءك في الظلمات ) يريد به ألقاه مع مجموع الوجود في ظلمة الفناء ، فعند هذه الحضرة يعود الشاهد يدرك إدراكا متجزئا على اختلاف الأنواع والآحاد والأجرام الكثيفة واللطيفة “ 1 “ علوية وسفلية ، وعلى اختلاف الألوان والمطاعم والأزمان الأربعة المنسوبة إلى الحضرات الأربع ، واختلاف الأنوار اللائقة بالفناء ، فكل هذه الأشياء المذكورة في هذه الظلمة أجزاء العارف ، ومن ها هنا قال رحمه اللّه في بعض كتبه : شهدت نفسي في كذا وكذا ، وعدّد أنواعا كثيرة فضل به من ضل وزعموا أنه رحمه اللّه يقول بالتناسخ إلى غير ذلك ، وهو منزه عن أقوالهم ، فمراده بقوله هناك اختلاف الإدراك المذكور المنسوب إلى هذه الظلمة ، أعني ظلمة الفناء ، فإن للفناء مرتبتين أحدهما : صرف إدراك بريء عن التجزؤ ، والأخرى : إدراك متجزئ على اختلاف أنواع الوجود ، فالأولى لا يطلق عليها اسم التجزؤ إذ الشاهد فيها لا يتيقن فيها الاتصاف بسر الحياة ، والثانية
..........................................................................................
( 1 ) اللطيفة : كل إشارة دقيقة المعنى تلوح للفهم لا تسعها العبارة ، وهي علوم الأذواق ، والأحوال للأفهام الثاقبة ، المتأيدة بالإشرافات الغيبية ، ولا تنتهي إلى حد يضبطها العدل به ، فيؤديها الناطقة بعبارة يفهم منها حقيقتها كما هي ، وقد يطلق بإزاء النفس التي جعلت محل تدبير والآلات تحصيل معلوماتها المعنوية والحسية والمثالية .

“ 187 “


يتحصل له اليقين بالسر المشار إليه المعبر عنه بالتجزؤ .
قوله : ( ثم بعثتك إليهم فأقروا لك بالطاعة وخضعوا ) مراده بهذا البعث بعث آدم عليه السلام ومن قام في مقامه واتصف بأوصافه ، وليس لنا من يقوم في مقام آدم إلا العارف المخلوق على الصورة ، فبعثة العارف إلى الأشياء الخافية بعد تيقنه إنها أجزاؤه مثل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [ البقرة : 34 ] ، فلما تيقن آدم أن الملائكة أجزاؤه حق لهم السجود ، وكان السجود للّه تعالى ، لأن آدم كان فانيا فيه ، فلما سجدت الملائكة كان آدم ساجدا أيضا ، لأن حقيقة الملائكة واحدة ، فمن انفرد منهم كان مجموع الحقيقة فيه كالإنسان ، الواحد فيه مجموع حقيقة الإنسان ، فسجود الملائكة ظاهرا دليل على سجود آدم خافيا ، فلما حذا هذا العارف حذو أبيه آدم عليه السلام وتيقن أن الأشياء أجزاؤه ، الخافية والظاهرة كانت بعثته تبريزا على أجزائه ، ولهذا أقروا له بالطاعة وخضعوا له .
قوله : ( ثم آنستك بجزئك في حضرتك مباحة لك ) مراده بالأنس الاستئناس بصفة الإطلاق ، فإن مظهر الذّكر صفاتي ومظهر الأثنى ذاتي ولهذا كان على الصورة إذ هي مقتضى التقييد ولا معنى للصفات إلا ظهور التقييد ، فجزء المقيد في الظهور صفة الإطلاق اتحادا ناشئة عن الإطلاق والاتحاد يظهر على هاتين الصفتين والأنس ضرب من الاتحاد ، فإذا تمكن هذا الأنس صار اتحادا ظاهرا ولهذا كانت مباحة ، فإن كل المتحدين ، وإن كان الاتحاد خافيا كل واحد منهما مباح للآخر ، فلما أقيم هذا الشاهد في المقام الآدمي ورأى صورة الاتحاد قيل له : آنستك بجزئك ، وهذا الاتحاد بين صفتي الإطلاق والتقييد ، ولهذا إلى صفة ظهرت من هاتين استهلكت حقيقة الأخرى بل لا يجتمعان في الظهور مع تيقننا أن الصفتين موجودتين في ذات واحدة دائمة الظهور ، وكل واحدة منهما تستأنس بالأخرى استئناس إباحة من أجل الاتحاد .
( ص ) [ قوله : ( ثم حرمت عليك حضرتي وأذنت لك في الدخول فيها ، فغضبت عليك فسجنتك وأنت محروم ) ] .
( ش ) أقول : معنى تحريم الحضرة نفي الصورة ، فإنه من حين اتصافه بالإطلاق الذي هو للّه حرمت عليه حضرة اللّه المقيدة والتحريم هو المنع ، وهذا منع ضروري لا منع حكم ، ولهذا قال رحمه اللّه في بعض كتبه : إن اللّه تعالى لا يكرر التجلي “ 1 “ لأحد مرتين ،
..........................................................................................
( 1 ) التجلي : ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب ، إنما جمع الغيوب باعتبار تعدد موارد التجلي ، فإن لكل اسم إلهي حسب حيطته ووجوهه تجليات نفس عدد أمهات القلوب التي تظهر التجليات من بطائنها سبعة :

“ 188 “


فإنه من حين تجلى للشاهد بصفة الفناء فني الشاهد وعاد التجلي دائم الظهور والعارف لا يعود إلى الجهل بعد المعرفة ليفتقر إلى تكرار التجلي ، فحضرته الأولى التي أفنته أولا كافية ثابتة غير زائلة ، فهذا منع صورة الفناء التي ليس فيها خطاب .
قوله : ( فأذنت لك بالدخول فيها ) مراده بالدخول ها هنا هو دوام الجري بين الصفتين ، فتارة يخرج من صفة الإطلاق ، وهو التحريم المذكور وخروجه لصدق الإذن وصورة الإذن هو دخوله في صفة التقييد ، فظهور التقييد محرم على دوام الشاهد في الإطلاق ، فتردده بين الصفتين من هذه الحضرة الواحدة هو التحريم والإذن لكن الإذن غالب ، ولهذا دام التردد ، وسبيله هو الاتحاد بين الصفتين .
قوله : ( فغضبت عليك ) يريد به منعه من التجلي المذكور المراد للفناء ، فإن الغضب لا معنى له إلا عدم البشاشة والالتفات والإقبال ، وكل هذه صفات لائقة بالتقييد تدرك معه ظاهرة ، فكأنه من حين اتصف بصفاته بعد فنائه في الذات المطلقة غضبت عليه الصفات اللائقة بالتقييد لأننا قلنا : إن الصفتين لا يجتمعان لظهور الاتحاد عليه ، وأيضا فإنه من حين اتصافه بالخلافة منع من النظر الدائم إلى المستخلف من حين القيام بالخلافة ما دام هذا الاسم ظاهر عليه ، فلا يظهر شهوده للّه تعالى دائما لكن شهوده خاف بالنسبة إلى الظهور ، فإن كل ما أخفى فهو محرم على الناظر ، فلو علم الناس أنه لا شيء خاف لأقروا بنفي التحريم والغضب ، فإن قيل : إنه قد خوطب بذلك مع نفي الغضب عليه ، وهذا يوهم التناقض فنقول : إنه لما خوطب بالغضب كان الصفتان متمايزتان ، والشاهد مستقل بصفة والمشهود بأخرى ، وقد علمنا أن كليهما لا يجتمعان ، فالشاهد مستقل بصفة الإطلاق ، والمشهود بصفة التقييد تنازلا فخاطبه بالغضب على سبيل المنع أي : إنك
غيب الحق وحقائقه .
وغيب الحق المنفصل من الغيب المطلق بالتميز الأخفى في حضرة “ أَوْ أَدْنى “ .
وغيب السر المنفصل من الغيب الإلهي بالتمييز الخفي من حضرة “ قابَ قَوْسَيْنِ “ .
وغيب الروح : وهو صورة السر الوجودي المنفصل بالتمييز الأخفى ، والخفي ثوبه السابع الأمري .
وغيب النفس : وهي أسر مناظره .
وغيب اللطائف البدنية ، وهي مطارح أنظاره لكشف ما يحق له جمعا ، وتفصيلا . . فافهم .
والتجلي : اختيار الخلوة ، والإعراض عن كل ما يشغل عن الحق .

يتبع

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عبدالله المسافربالله

عبدالله المسافربالله


ذكر
عدد الرسائل : 3605
تاريخ التسجيل : 21/11/2017

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Empty
مُساهمةموضوع: المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس   المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي Emptyالجمعة يناير 05, 2024 8:28 pm

المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب شرح مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية ابن العربي شرح الشيخة ست العجم بنت النفيس

الشيخة الصالحة العالمة الزاهدة
ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية
المتوفاة بعد سنة 852 ه‍

“ 189 “

لا تراني ما دمت في هذه الصفة مقبلا بل معرضا عنك لاستتاري عنك بصفة التقييد .
قوله : ( فسجنتك وأنت محروم ) يريد بهذا السجن تقييد آن واحد في الإطلاق كما كان الغضب عليه في آن واحد ، فإنه في آن الإطلاق ممنوع عن الجري اللائق بصفة الخروج إلى آن آخر ، فيجري فيه إلى حيث انقضاؤه ، ويحصل في الآن الثالث في صفة التقييد ، فالآن الكامل الذي صدق عليه فيه الإطلاق كان مسجونا عن التقييد ، واللّه منفرد بصفة التقييد ورحمته موجودة تميل الشاهد إلى جهة وجوده ، فكأن اللّه أراد له الدخول في حضرته ، فظهر له بالرحمة لتوحده عنها في هذه الصفة المختصة بحضرة اللّه حتى يعود مشاهد له لأن اللّه تعالى لا يشهد في اسم من أسمائه إلا في صفة التقييد ، لأن إطلاقه يستهلك حقيقة الشاهد فلا يبقى شاهد هناك .
فقوله : ( وأنت محروم ) يريد به الأخذ في وجوده في هذه الصفة المذكورة .
( ص ) [ قوله : ( ثم شكلت لك الحروف ، فحفظتها ثم أعطيتك القلم “ 1 “ فاستويت على عرشك ، وكتبت في اللوح المحفوظ ما أردته منك ) ] .
( ش ) أقول : تشكيل الحروف له هو التمايز في العلم ، لأن المعلومات لطائف وهي أشبه الأشياء بالحروف ، لأنها مع صغر أجسامها دالة على كمال المعنى ، بل مظهره له وكذلك المعلومات في العلم ندرة الذوات ، وهي متمايزة ظاهره للعالم تعالى ، فتشكل الحروف هو تمييزها في صورة خطية مناسبة لوجود الشاهد ، لأن المخلوقات لا يحكم لأنفسها بالعلم إلا بمعاتبة أجسام متميزة ، وأقرب الأجسام إلى اللطافة هو صورة الحرف وحفظه له اضطرارا ، لأن اللّه عالم بالأشياء حفيظ عليها ، وقد قلنا : إن الموجودات فانية في ذاته ، فحفظ الشاهد للأشياء عين حفظ اللّه لها .
وقوله : ( ثم أعطيتك القلم ) يريد به تمكين القدرة على تكوين المعاني ، لأن القلم بالحقيقة هو مكون الحروف الدالة على المعاني ، وصورة العطاء هو تمليك التكوين اتصافا حتى يصدر عنه بواسطة القدرة هذا التكوين ، فلما كان ذلك بمراد اللّه تعالى ذكر فيه الإعطاء ، ونسبه إلى نفسه ، هذا كله تسليم العارف أنه وهب من اللّه تعالى لعلمه أن لا بد من هذا ، فالقلم واسطة إظهار المعاني ، والكون كله معاني العلم ، فعند ظهور كل عارف
..........................................................................................
( 1 ) القلم : علم التفصيل ، فإن الحروف التي هي مظاهر تفصيله في مداد الدواة ، ولا يقبل التفصيل ما دامت فيها ، فإذا انتقل المداد منها إلى القلم تفصلت الحروف به اللوح ، وتفصل العلم إلى لا غاية .

“ 190 “


لا بد أن يعطي هذه الواسطة لتكون المكونات فروعه أي : بنسبة وجودها إليه كما نسب وجود البشر إلى آدم طبعا لا فعلا لكن فعل واسطة .
وقوله : ( فاستويت على عرشك ) يريد به الاستواء على العرش المنسوب إلى الماء لأن الماء أول موجود ، فعند اتصاف العارف بهذا السر المنسوب إلى الماء يستعلي عليه ، إذا صار صفة له ، ومن حين هذا الاتصاف يأخذ في التكوين ، كما أنه من حين وجد الماء أخذ الوجود في الظهور الثابت ، فاستواؤه عليه استعلاء ، واللوح المحفوظ محل تكون العلم الظاهر والمكنونات فيه بمشيئة اللّه ، وهذه المشيئة هي مرادة للّه منه بالكتابة ، ومحال أن يغير ظهور العارف تكوين الزمان بمراده ، لكن إن حدث تغيير ، فيكون بمراد اللّه ، فالاستواء على عرش التكوين يكون من الاسم المصور إن كان علما ، وإن كان صورة مخلوقات ، فيكون هذا الاستواء بعد ظهور الاسم الخالق ، وليس هذا مراده لكن مراده تكوين علم حيث ذكر فيه اسم الكتابة ، فهذا عند ظهور المصور ولهذا كان عطاء القلم بغير واسطة .
وقوله : ( وكتبت في اللوح المحفوظ ما أردته منك ) يريد بالكتابة في اللوح المحفوظ التكوين في الأزل وضعا ، ويحصل منه التكوين الظاهر ، فيكون نتيجته ، فأول مكتوب ثبت من المعلومات في الأزل هو المكتوب في اللوح المحفوظ بعد وجود الاسم المصور الذي عبّرنا عنه بالواسطة ، ولهذا كان اللوح من جملة المعلومات التي لا ثبوت لها حيث أريدت للانتقال من حضرة إلى حضرة ، فلما ثبتت الكتابة فيه أطلق عليه الوجود الظاهر ، فحين أخذ القلم قال باللوح المحفوظ إلى الوجود ، فلما استوى على عرشه كان بدء الوجود ، فالإثبات في اللوح هو أعيان الموجودات ، فقد حصل هذا المقام لهذا الشاهد في صورة الفاعل بواسطة ، والمريد في صورة غير مسماة وهي صورة الذات في صفة الإطلاق ، ولهذا قال له : إنك كتبت ما أردته منك هناك ، فإن الصفات تفعل في الوجود عن مراد الموصوف ، فهذا الشاهد قد كان في هذا المقام مسمى بصفة الفاعل .
( ص ) [ قوله : ( ثم أحييت بعضك ، ثم أكملتك بالحياة ، ثم أخرجت منك أجزاء فرقتهم في زوايا السجن بأصناف اللغات ، وأيدتهم بالعصمة ، وأقعدتهم على الكراسي ، ثم خصصت واحدا منهم ، فخصصتك بسببه ، فأيده بالكلمات ) ] .
( ش ) أقول : معنى أحيا بعضه هو صورة الظاهر ، فإننا لما قلنا : إنه في هذا المقام فاعل ، فلا يمكنه الزوال حتى يتحقق للوجود الظاهر ، والظاهر بعض المجموع أو نقله صادرة عن الأزل ولا يصدق على الوجود الحياة حتى يتسمى بالظاهر ، لأن سر الحياة أول

“ 191 “


موجود فيه ، بل هو مبدؤه ، ولما كان الظاهر يستقل من الوجود الكامل بغيره ، قيل له :
أحييت بعضك ، وهذا طول مدته في مقام الفعل ، لئلا يصدق عليه الانتقال إلى حيث كمال الحضرات ، فكأنه قال لما اتصف بالفاعل : أحييت منك الاسم الظاهر .
قوله : ( ثم أكملتك بالحياة ) معناه أنه لم يزل في صفة الفعل حتى كمل الوجود ، بظهور الأربعة أسماء فهي كمال الوجود ، ولهذا قال له : أكملتك ، وصورة هذا إنه من حين أحيا اللّه بعضه ، وهو الظاهر ظهر بالباطن تكوينا ظليا ، وإن شئت قلت : ضديا من حيث الخفاء ضد ، ومن حيث الاسم ظل ، فحين قيام الظاهر في دائرته كاملا قام هذا الظل بواسطة النور الحاجز بين الخفاء والظهور ، ولم يصدق عليه الكمال حتى ظهر بضد الأزلية ذات الأزل بالآخرية ذات الأبد ، فعند كمال الأسماء الأربعة صدق على هذا الفاعل الكمال الحقيقي ، فمتى عدم واحد من هذه الأسماء كان الوجود الفاني في حقيقة اللّه ناقصا ، وهذا مما يمكن استحالة الرجعة ، فإنه كما أن المعول على الأولية فكذلك المعول على الدوام على الآخرية ، ومحال أن تعود الأسماء ثلاثة ، لأن كل واحد منها ضدا للآخر وبالنسبة إليه أيضا ، فإن قيل : إنه من الظاهر راجع إلى الأولية ، أو من الآخر عاد إلى الأولية أيضا ، فنقول : إن كلا الوجهين محال ، أما استحالة الرجعة من الظاهر ، فإن الراجع متى رجع من الظاهر لم يكن انطلق عليه الوجود ، لأن أقل أوصاف الموجود في الظاهر أن له اسما مقابلا ظلا ، ومتى لم يوجد فيه ، فلا يطلق عليه الكمال ، لأن الظاهرين أظلال العلم ، وإن وجد في هذا الاسم ، فيكون قد ولج في ضد ولا بد من ولوجه في ضد الآخر ، لأنه محال أن ينطلق عليه كمال الوجود ما دام في الباطن ، لكن وجوده فيه يناسب العدم بتقدير الضدية ، ومن هو معدوم فلا رجعة له ، وأما استحالة الرجعة من الآخر فظاهر حقيقة وشرعا أما في الحقيقة فإنه ليس للوجود حقيقة فإن الحقيقة للّه تعالى وعدمه محال وليس له أنيّة مرجع إذا ثبت أنه الموجود ، وأما في الشريعة ، فاللّه عبارة عن أربعة أسماء ، فمتى عدم واحد منها كان الحق على ثلاثة أسماء ، فإن قيل : إنها لا تعدم لكن من الآخر راجع إلى الأولية ، فنقول : إن هذا أيضا مستحيل وذلك لأنه ما دام الدور يكون الآخر آخذا في النقص ، بل مجموع الوجود ، لأنه لا ثبوت للموجودات في اسم من الأسماء ، لكن مثلها إلى النقص أكثر من الميل إلى الكمال ، فإذن لا يزال الموجود المعتقد ناقصا .
قوله : ( ثم أخرجت منك أجزاء فرقتهم في زوايا السجن ) يريد بالأجزاء الحضرات الأربعة المنسوبة إلى الأسماء الأربعة التي هي مجموع الوجود ، فلما فني هذا الشاهد في ذات

“ 192 “


المسمى عاد مسمى بالأسماء كلها كانت الحضرات المذكورة أجزاءه بل كلما يطلق عليه وجود ، وأيضا فإن الإنسان مؤلف من أربعة عناصر وهو مختصر من الوجود ، فلهذا كانت أسماء الوجود أربعة ، فالأول نسبته من الإنسان نسبة الملك الظاهر نسبة النار ، والباطن نسبة الهواء إذ لا جسم له مدرك للعين للظاهرين ، والآخر نسبة التراب لأن له حقيقة الثبوت ، فالأسماء الأربعة بالحقيقة أجزاء العارف ، لأنه مخلوق على الصورة ، بل مختصر منها بعد كونها جامعة .
قوله : ( ثم فرقتهم في زوايا السجن ) يريد بالتفرق الضدية ، لأنه ضد الجمع وهو لا يمازج بعضهم بعضا مع كونهم موجودين بدوام اللّه ، ولما كان الوجود مقتضى التجزؤ والتجزؤ مقتضى الحصر جعلت أجزاؤه مقيدة لا يمازج بعضها بعضا ، كل منها مقيد في جهة من الجهات ومحل العارف في المحيط الأوسط الفاصل بين الأربعة والجامع لها حتى يحصره ناظره وإدراكه ، ويستمد كل منها بقدر سعته منه ، والسجن هو الوجود المقيد ، وحقائق هذه الأسماء هي أركانه الحاملة له ، ولهذا قيل : زوايا السجن لأن الزاوية اسم لملتقى الركنين .
قوله : ( بأصناف اللغات ) معناه أن كل اسم يباين الآخر اختلافا كاختلاف اللغات ، وأيضا ، فإن حقائقهم مختلفة كأسمائهم ، وقد بينا في موضع آخر أن حقائقهم تشبه فصول السنة الأربعة ، وهذا كله دليل على الاختلاف .
قوله : ( وأيدتهم بالعصمة ) يريد بهذا التأييد بقاؤهم على الدوام بغير تغيير والعصمة هي المنع ، ويريد بالمنع ها هنا عدم الزوال ، وأن لا تقوى واحدة على الأخرى فتزيل لكنهم في مقام المماثلة ، والوجود فيهم مستوى ظاهر الاستواء ، والفاعل يعطي كلا منهم خلقه بقدر سعته حتى لا يفضل منهم واحد على الآخر ولا عنه ، فينتفي الاستواء .
قوله : ( وأقعدتهم على الكراسي ) يريد به المقابلة بينهم وظهورهم على الوجود فإني لما دخلت هذه الحضرات تارة على سبيل الاطلاع وطورا على سبيل الاتصاف ، فوجدت حقائقهم متمثلة في صور ملوك متقابلين متراسلين باعث كل منهم إلى الآخر على سبيل النقلة فاعلين على سبيل الحكم قيومين على أحوالهم اللائقة بحضراتهم مرسلين جنودهم إلى المستخلفين على كثرتهم فخاطبتهم خطابا لائقا بمراتبهم ووقفت على كيفية أفعالهم وسألتهم عن أسمائهم ، فأجابوا عين تحقيق اتصاف لائق ، وكل منهم جالس على مرتبته يصلح لملكه ، فهذا الشاهد قد خوطب في هذا المقام بلسان هذه الحقيقة المذكورة .

“ 193 “


( ص ) [ قوله : ( ثم خصصت واحدا منهم ، فخصصتك بسببه ، فأيدته بالكلمات ثم طهرته من الأدناس ، وحرمت عليه الأكوان ، وقدست محله وشفعته في ذلك ) ] .
( ش ) أقول : إن المخصوص الواحد المذكور هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم فهو بالحقيقة خليفة الاسم الظاهر ، فهو قائم في الظهور مقام الاسم في الخفاء وهو أشد تمكينا من الاسم لأن الأسماء لا يدرك الظاهرون حقائقها ، فحقيقة محمد صلى اللّه عليه وسلم ظاهرة للناس عيانا ، فهذا خصوص وكلا الخصوصين تشريف وخصوص وصف ، وإما خصوص داخل على خصوص الوصف ، فمن كونه ظاهرا وإما خصوص تشريف ، فمن كونه جاريا على نمط الشريعة مبرزا من هذه الأمة بين نوعه .
قوله : ( فخصصتك بسببه ) يريد به خصوص المعرفة بالإسلام ، فإنه بإجماع علماء هذه الأمة لا يكون العرفان إلا للمسلم ، فخصوص المعرفة متوقف على الإسلام ، فصار هذا الطاهر صلى اللّه عليه وسلم سبب خصوص هذا العارف إذ كان جاريا على منهاجه .
وقوله : ( فأيدته بالكلمات ، ثم طهرته من الأدناس ) يريد بهذا التنزل عن
قوله صلى اللّه عليه وسلم :
“ أوتيت جوامع الكلم “
فإنه لم يجمع لنبي من العلوم بمقدار ما جمع لهذا الرسول الكريم ، لأن مظهره رحماني ، والرحمن أول اسم صدر بعد العليم ، فالمعلومات كلها يحتوي عليها اسم الرحمن ، إذ عنه يوجد ، والمؤيد صلى اللّه عليه وسلم مستقل بها لعموم بعثته ، فهذا الاستقلال تأييده دون المثل ، فإن سائر الأنبياء مستقلون لكن بجهة دون جهة لم تعم بعثتهم ، وهذا مستقل بمجموع الجهات فبعثته للناس كافة ، فأما تطهيره من الأدناس ، فعصمته من كبائر المعاصي وصغائرها ، وحفظه عن وقوع الزلل في كل نفس من أنفاسه ، ولهذا قالت عائشة رضي اللّه عنها لما سئلت عن خلقه فقالت : “ كان خلقه القرآن “ 1 “ “ لأنه كان يذكر اللّه في سائر أحيانه .
وقوله : ( وحرمت عليه الأكوان ) يريد به تحريم الدنيا لكونها زائلة ومنعها يملك الأبد ، وهو زمان حقيقة الرحمة ، فلما علم أن هذا ملك زائل ، وزمان منقض منع عن التلبس به لأنه مظهره رحماني ينافي الانقضاء ويلائم الأبد ، قوله : ( وقدست محله ) يريد بتقديس محله نفي وطأة مثله له إذ هو محل لا يرتقي إليه إلا هو ، وهو موضع القدمين بين العرش والكرسي وهو منزه عن وطأة البشر سوى هذا الظاهر بعموم الرحمة ، ولهذا جعلناه في كتاب الختم حاملا لعرش الرحمانية .
..........................................................................................
( 1 ) رواه أحمد في المسند ( 6 / 91 ) .

“ 194 “


وقوله : ( وشفعته في ذلك ) يريد بالشفاعة شفاعته في المخصوصين من الأكوان بتبعيته ، فإنه لما حرم عليه التلبس بالظاهر له تحرم عليه الشفاعة بعالمه ، فهو بالحقيقة شفيع لكل من وجد من الرحمة ، لأن صورته صورة مختصرة من مجموع وجودها .
( ص ) [ قوله : ( ثم غمسته في البحر ، فركب دابة من دوابه ، ثم سرى في الآن فأنزلته على قبة أرين ، فأعطيته الحياة الكلية ، وعظمته من جزئه ، وخاطبته من وسطه ) ] .
( ش ) أقول : معنى غمسه في البحر هو الحياة العامة الكلية ، كأن غمسه واسطة بين الفاعل ومجموع الوجود ، فأنا أول موجود ظاهر بعد الماء ، فكأنه فتق العماء ، فلما صح هذا الظهور كان أول مغموس في الحياة ، لأنه من حين وجوده مال المجموع إلى الظلمة ولأجل ظهوره بالرحمة لأن الموجودات صادرة عنها فبواسطته صلى اللّه عليه وسلم كان كون الوجود .
وقوله : ( فركب دابة من دوابه ) يريد به منهاج التشريع ، فإن البعثة من آله السير وهي من آلات البحر ذي الغمس ، فلما صدقت عليه البعثة كان مستعليا على الحياة بآلة السير وهي سبيل البعثة ، ولهذا ظهرت له عند الإسراء دابة فركبها ، وسرى ليحقق ما جاء به ، وكان هذا السير تحقيق السبيل الذي بعث فيها لا غير ، لأن المبعوث لا وقفة له فجريه مأخوذ من اسمه وسبيله مركبه ، فلا يزال حيث سمي منعوتا جاريا إلى حيث يصدق عليه الحياة الأبدية ، وصدق هذه الحياة عليه تحقيق غمسه في البحر المذكور . وقوله : ( ثم سرى في الآن ) يريد به الزمان الحاضر هذا حقيقته ، وأما في الظاهر فيريد به آن عروجه ، فإنه لا يلبث أحد في عالم الغيب أكثر من آن واحد ، وليس مراد الشيخ هذا لكن مراده سيره في الآن الزماني الحاضر ، وهو صفة الجري في البعثة إلى حين تحقيقها ببلوغ الغاية ، وهو الاتصاف بالحياة الأبدية .
وقوله : ( فأنزلته على قبة أرين ) قبة أرين في الظاهر بنية في سر نديب جعلت علامة لقطع الشمس في خط الاستواء حين محل الاعتدال ، فالموصوف بالنزول عليها يكون قد ظهر بصفة الاعتدال ، وهي صفة هموم لكل إنسان لكن المبعوث مختص بتكرار النزول على محل الاعتدال ، ويريد بهذا الخصوص اجتماع الرحمة والانتقام في بعثته بظهور الرحمة واستهلاك الانتقام ، لأن وجوده مائل بالموجودات إلى الرحمة لعموم البعثة ، وأقول : إنه مأخوذ من العدل لأنه في السبيل التي بين الضلال والهداية لأن بعثته من الهادي إلى المضل ، فما دام في البعثة يكون بين هذين الاسمين ، وهو مائل إلى الرحمة فوقوفه في محل عدل لا

“ 195 “


محل اعتدال .
وقوله : ( فأعطيته الحياة الكلية ) يريد به ظهوره على صفة العدل المذكور ، فإن هذه الصفة جامعة الحياة الكلية بوجود الاسمين في صفة هذا المبعوث ، فإن صفته تحتوي على القبضتين ذاتي الحياة ، فإن كل موجود حي لا يخرج عن هاتين القبضتين إلا الجامع لهما فإنه يحتوي عليهما صلى اللّه عليه وسلم ، ولهذا قلنا : إنه بين اسمي الهداية والضلال ويريد به الجمعية لأن الجامع محله في الحد المشترك بين الاسمين المذكورين .
وقوله : ( وعظمته من جزئه ) يريد به الماء لأن تعظيم كل شيء بحياته لأن الحياة سر ، ومتى ظهر على شخص تمكن تعظيمه .
قوله : ( وخاطبته من وسطه ) يريد به خطاب القلب ، فإنه وإن خوطب باللسان فإن حقيقة الخطاب هي القلب ، ولما كان كل شيء حقا جعلنا اللسان ترجمانا لئلا يكون حكمه باطلا فخطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان ظاهرا عن بصيرة حقيقية ، فلم يفتقر فيه حال خطاب اللّه له إلى اللسان ، لأنه آلة لخطاب البشر المقيد ، واللّه بإطلاقه يجل عن تحديد اللسان ومحل القلب من الإنسان الوسط ، فلهذا قال : ( خاطبته من وسطه ) .
( ص ) [ قوله : ( عند ترك التناهي أحبك ، وعند إزالة الأرواح أسرك ، فأصدر واصدع قلب الصدق واقهر وخذ سر الحياة ، واجعله فيمن تريده ، وجرد سيف الانتقام ، وأعلي به منارك ، واقطع به من عاداك ) ] .
( ش ) أقول : معنى ترك التناهي هو سلب الغاية ، وهذا يكون للعارف عندما يتصف بالإطلاق الذي لا تقييد فيه ويعود متحدا باللّه ، ولهذا يقول العارف : إنني فان ولا حقيقة لعيني بعد اتصافه بهذه الصفة ويعود محبوبا للّه تعالى ، وحقيقة المحبة هي الاتحاد ، وليس مراده المحبة المعروفة في لسان الصوفية ، وإنما مراده المحبة الذات ، فإذا تيقن العارف أنه فان وعلم أن لا حقيقة إلا للّه وترك النهاية في عين النهاية كان حب اللّه له ذاتيا لا صوريا ، قوله : ( وعند إزالة الأرواح أسرك ) يريد به بعد الموت وهو محل يعود فيه العبد مشاهدا للرب والعارف متصفا اتصافا والجاهل بعيدا مع قطعه بأن لا يعد فلا يسر من هؤلاء الثلاثة المذكورة سوى المتصف وهو العارف ، وهذا كله يكون حال إزالة الأرواح بالموت الطبيعي هذا هو الظاهر من هذا الكلام ، وأما حقيقة فعند زوال روح العارف في آن الخلع يظهر له بالسرور المذكور ، وهذا مثل قوله :
“ لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته . . . “
إلى تمام الحديث ، فإذا تيقن العبد أن اللّه مجموع قواه حصل له

“ 196 “


السرور المذكور بواسطة الاتصاف ، قوله : ( فأصدر ) يريد بالصدور الظهور ، وهو مأخوذ من صدر عنه إذا وجد ، فلما علم اللّه تعالى أن هذا الشاهد فان في حقيقته كرر له قول كن تارة عموما وطورا خصوصا ، فالعموم هو صفة المماثلة في الخلق فإن كل موجود صادر عن اللّه تعالى ، فلما اتصف هذا العارف بمجموع الصفات في حال فنائه حدد له الظهور تحديد خصوص بقوله : أصدر فلما كان ظاهرا بالعموم كان مباينا لهذا الظهور المختص به ، ومباينته مثل مباينة الإطلاق للتقييد فظهور العموم تقييد وظهور الخصوص إطلاق ، وصدوره ها هنا بصفة الإطلاق .
قوله : ( واصدع قلب الصدق ) يريد به قطع حقيقة اليقين ، فإن قلب الصدق هو اليقين ، فكأنه عند الصدور الخاص علا على مرتبة اليقين بل أفناها بحقيقة الاتصاف فمثل ما أمر بالصدور يصدع قلب الصدق ، وهو حقيقة اليقين .
وقوله : ( واقهره وخذ سر الحياة ) يريد به قهر المقيدين من الوجود حتى يتصف بهذا السر الذي أمر بأخذه ، فإنه عند اتصاف العارف بالإطلاق يقهر آن الاتصاف مجموع المقيدين حتى يجعلهم واحدا ، وهناك يعطى سر الحياة المشارإليه ، ومعنى سر الحياة هو أنه لا يموت ، لكن يبقى ببقاء اللّه .
وقوله : ( واجعله فيمن تريده ) يعني به نقلة المعرفة من العارف حال انتقاله ، وهو الموت المختص به ، فانتقالها بمراد اللّه ، وإذا شاء اللّه فهو عين مشيئة العارف ، لأنه سبق ذكر اتصافه بالفناء ، فالذي ينقل إليه المعرفة الكمالية يكون مراد العارف الحقيقي لا المراد المعهود ، إذ المراد الحقيقي عين مراد اللّه .
وقوله : ( وجرد سيف الانتقام ، وأعلي به منارك ) يريد به ظهور صفة الإطلاق فإذا اتصف بها العارف يعود ينتقم على المقيدين بها حتى يجعلهم في محل الإطلاق ، وهذا تجريد ضرورة بوهم من العارف ضد ما هو فيه ، وليس مراده هذا الوهم لكن مراده تجريد الضرورة ، فإن كل عارف لابد له أن يجعل الموجودات واحدة ضد التكثر ، وهذه الضدية نقمة ظاهرة زائدة على الكون المعهود ، واستعلاؤه بهذه الصفة على منارة هو دوامه في الفناء الذي هو بقاء حقيقي ، فإنه لما ظهر بهذه الصفة من المعرفة والكمال كان قد استعلى على ما كان عليه من شعاره .
وقوله : ( واقطع به من عاداك ) يريد به قطع الشكوك ، فإنها أعداء اليقين الذي قد صار وصفا لهذا العارف ، فسيف الانتقام هو الهمة في حال وصفه بالإطلاق ، فهناك يقوم

“ 197 “


بالشكوك أعداء تريد المنع ، فيستعلي العارف بتجريد الهمة الوصفية ، فيقابل بها هذه الأعداء ، وهو القطع المشارإليه .
( ص ) [ قوله : ( ثم ائت إلي واترك ولدك ، فإنه يقوم مقامك ، وقل له : يصطلم في الفناء ببقائه ، ولا يغار على كشفه ويشاهدني في الصفات ، ولا يشاهدني في الذوات ) ] .
( ش ) أقول : مراده بالإتيان إليه هو النقلة الحقيقية في البقاء ، ويصدق على المنتقل فيها حياة الأبد ، فإنها حياة مختصة باللّه ، فلا يلج فيها إلا من صدقت عليه هذه النقلة بعد الفناء ، فعند صدق هذه النقلة لا يعود للمنتقل رجوعه ، ويعود للّه حقيقة مشاهدا لنفسه ومشهودا للّه ، ولهذا قال : ( ثم ائت إلي ) لئلا يتوهم منه العدم ، ويلحظ من هذا القول قصدا من العارف أو زيادة طبيعية لأنه لابد فيه من بقاء الثنوية ، وليس الثنوية ها هنا في ذاتين ، وإنما هي ثنوية بين صفة وموصوف ، فكأنه قال : ارجع إلى ذاتي حتى يصدق عليك الفناء الحقيقي ، ويؤيد هذا قوله تعالى : وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [ النجم : 42 ] ، وقوله : إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى [ العلق : 8 ] ، فيريد مآل الأمور ومرجع أحكامها إليه في حال فناء العباد ، واتصافهم بأوصافه عند الإتيان الذي هو نقلة الموت ، قوله : ( واترك ولدك ) يريد به إقامة عارف آخر من فروعه وقد تقدم شرح هذا بغير ذكر الولد فلما ذكره عرفنا أن المستخلف بعد العارف الواحد يكون من فروعه ولا يشترط أن يكون فرع الصلب ، لكنه لما وجد بعده ورأى مقامه الكمالي سماه ولدا ولهذا قال : فهو يقوم مقامك أي يخلفك في الوراثة والمثلية .
وقوله : ( وقل له يصطلم في الفناء ببقائه ) هذا وصف ضروري للعارف الكامل فلا يفتقر ولده المستخلف إلى هذه الوصية المنبهة على المحو ، فإن العارف لا يصدق عليه المعرفة والبقاء إلا بعد قطع المراتب الثلاث الذي أجداها الفناء والاصطلام يكون عند فناء هذا الفناء في الآن الذي يصدق عليه فيه البقاء في هذا الفناء إلى بقاء البقاء ، فيريد بالاصطلام في هذا البقاء استيفاؤه إلى حيث الاتصاف بالفناء ، فإذا صدق عليه هذا الفناء كان قد استوفاه البقاء المشارإليه .
وقوله : ( ولا يغار على كشفه ) معناه أن العارف يلتزم من ها هنا عدم الخصوص ، فإذا أخفى شيئا كان قد خصص به نفسه ، وهذا الخصوص ممنوع عنه وهذا المنع يحصل له من مقام الغيرة ، والعارف لا مقام له ، لأن المقام استقلال بجهة ما وهو جامع لكل الجهات مستقل بها من حيث الإرادة القطبية ، فهذا تأكيد على المستخلف

“ 198 “


في إظهار عدم الخصوص ، وأن لا يغار على إظهار ما منح به قوله : ( ويشاهدني في الصفات ، ولا يشاهدني في الذوات ) يريد به الشهود الصوري فإنه لا يشهد اللّه فيه إلا بصفة من صفاته أو اسم من أسمائه حتى يكون شاهدا ومشهودا مثل وصف وموصوف ، فلا يكون شاهد ومشهود إلا في صفة معينة أو اسم معين وهذا الشهود هو الذي أمر به وهو ضروري لكل شاهد ، قوله : ( ولا يشاهدني في الذوات ) يريد به أنه إذا اتصف الشاهد بالذات لا يكون هناك ثنوية يصدق عليها شاهد ومشهود ، لكنه في حال هذا الاتصاف يكون ذات المعنى عارية عن الصفات ، فلا يشهد الشاهد نفسه ممتازة عن الشهود ، لكن يعود شهوده إدراكا فقط بأن الذات بريئة عن الثنوية ، فلا شاهد فيها ولا مشهود لكن متصف فقط ، وهو الذي عيناه بالإدراك المذكور .
( ص ) [ قوله : ( فإن عيني ذهبت مني ، وإن سمع أو فهم أو علم أو فصل أو جمع لم يدرني وفي الشعور يلوح لأهل النظر الأمور ) ] .
( ش ) أقول : معنى ذهاب المستخلف من عين الذات هو استهلاكه فيها ، فعند هذا الاستهلاك يتحقق للعارف الذهاب “ 1 “ في عين المشهود ولا أعلم للمشهود هناك عين ولا أعلم شاهدا ، فهذا موضع غلط في النسخ ، والذي يجب أن يكون هكذا أن عينه ذهبت مني أو في أو عيني ذهبت من ذاتي ، فإن العين لا يطلق إلا على معين والذات لا تعين فيها .
وقوله : ( وإن سمع ) في مقام الفناء خطابا ، فلا يظن أنه من أعيان متميزة لكنها ذات واحدة معينة يخاطب صفاتها بلسان الحال ، وهذا السماع لا يكون في مرتبة الفناء المعبر عنه بالذهاب ، وهو المحو لكنه يكون في حال فناء هذا الفناء ، فيكون محوا في إثبات ، وفيه تمكن سماع الخطاب ، فيكون مسامع بغير مسمع .
وأقول : إن هذا الحكم يستعصي على الفهم إذ لا يتعقل الفهم سماعا من غير مسمع ، فهذا حكم آت من وراء الأطوار العقلية كالجمع بين النقيضين وما أشبهه ، وقد ورد العقول واقفون عند حد العقل ، فلا يجب عليهم البحث في هذا إذ لا مسرى لهم في هذه الأطوار وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [ يوسف : 76 ] ، فأصحاب هذه الأطوار ليس فوق علمهم إلا اللّه مع أنهم عارفون به ، قوله : ( أو فهم ) يريد به تمكين السماع إن حصل .
..........................................................................................
( 1 ) الذهاب : غيبة القلب عن حس كل محس بمشاهدة محبوبه ، فإذا الإحساس إنما يتم من سائر المحسوسات على مشاهدة محبوب يأخذ بمجامع القلب شوقه المفرط .

“ 199 “


قوله : ( أو علم ) يريد بالعلم ها هنا حصر الإدراكات المتجزئة في إدراكه الواحد اللائق بهذه المرتبة ، فإنه في حال الثبوت المعبّر عنه بفناء الفناء يحصل للشاهد إدراك متجزئ بحسب اختلاف الأنواع المتكثرة ، فهذا الحاصل يسمى علما لا خطابا ولا سماعا لأنه يحصل على سبيل الإحصاء ، ولا يقتصر فيه الشاهد على النظر ، لكنه يفتقر فيه إلى السمع والبصر والدراكة والسعة ، فلهذا أطلق عليه العلم العياني .
قوله : ( أو فصل أو جمع ) يريد بهذا التفصيل الحاصل من المعلومات المذكورة أولا فعند الرجوع من هذا الشهود يحصل للشاهد تفصيل جمع الجمع ، فإنه في حال هذا الشهود قد كان حصل له الجمع والتفصيل في شهود واحد ، فما بقي عند الرجعة إلا وضع الأشياء في محلها على سبيل الجمع .
قوله : ( لم يدركني ) يريد به أنه وإن اتصف بهذه الأوصاف كلها بعد ذهابه ، فلا يرى نفسه في ثنوية أصلا ، فعند هذا الاتصاف تذهب الأنانية والانفراد والتحيز ويبقى الاتصاف .
قوله : ( وفي الشعور يلوح لأهل النظر الأمور ) يريد به التنبيه على المشهد الآتي فإنه يبتدئ فيه بذكر الشعور ويريد بالشعور تمكين الإدراك ، فكأنه قال له : عندما تصافي ولدك بالشعور يلوح له الأمور أن يتسمى من أهل النظر ، فإنه لا تصدق المعرفة على العارف إلا بعد رده بتمكين عقله .
* * *

.

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المشهد الثالث مشهد نور الستور بطلوع نجم التأييد .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المشهد الثالث عشر مشهد نور العمد بطلوع نجم الفردانية .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الحادي عشر مشهد نور الألوهية بطلوع نجم “ لا “ .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد السابع مشهد نور الساق بطلوع نجم الدعاء .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الثامن مشهد نور الصخرة بطلوع نجم البحر .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» المشهد الأول مشهد نور الوجود بطلوع نجم العيان .كتاب مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية للشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى المودة العالمى ::  حضرة الملفات الخاصة ::  الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي-
انتقل الى: