شرح التجلي 29 تجلي التهيؤ .كتاب التجليات الإلهية الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي شرح بن سودكين
كتاب التجليات الإلهية الشيخ الأكبر والنور الأبهر سيدى الإمام محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
شرح التجلي 29 على مدونة عبدالله المسافر بالله
29 - متن نص تجلي التهيؤ :-إذا تهيأت القلوب وصفت بأذكارها وانقطعت العلائق بأستارها وتقابلت الحضرتان وسطعت أنوار الحضرة الإلهية من قوله تعالى : " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " [النور : 35] . والتقت بأنوار عبدية القلب وهو ساجد سجدة الأبد الذي لا رفع بعده اندرج نور العبودية في نور الربوبية إن كان فانياً .فإن كان باقياً اندرج نور الربوبية في نور العبودية فكان له عيناً ومعنىً وروحاً وكان نور العبودية شهادةً ولفظاً وجسماً .لذلك النور فسرى نور العبودية في باطنه الذي هو نور الربوبية فانتقل في أطوار الغيوب من غيبٍ إلى غيب حتى انتهى إلى غيب الغيوب .فذلك منتهى القلوب والانتقال ولا يحصى ما يرجع به من لطائف التحف التي تليق بذلك الجناب العالي .29 - إملاء ابن سودكين على هذا الفصل:
«قال الشيخ ما هذا معناه : التهيؤ هو الاستعداد . وكل نفس فرد هو استعداد . وذلك شامل لكل واحد ، فمنهم من كان استعداده تاما ، ومنهم من قبل استعداده حقيقة من الحقائق الإلهية .
فالأثر الذي حصل للمستعد هو لسان المستعد لا لسان المفيض ، إذ الفيض لا يتميز .
ثم كل قبول يحصل للمستعد يعطيه استعدادا لأمر آخر زاید . فكان النور قبل النور.
وقولنا : «إذا تهیات القلوب» أي بطريق خاص وهي المعرفة ، إذ كل القلوب متهيئة .
وقولنا : «صفت بأذ?ارها» أي بغير أفكارها ، وقولنا : «انقطعت العلايق باستارها» أي الوقوف معها هو أستارها لا هي في نفسها، وقوله:
"وتقابلت الحضرتان" أي حضرة القابل وحضرة المفيض .
قوله : «وسطعت أنوار الحضرة الإلهية» من قوله : «الله نور السماوات والأرض» أي كلما ظهر وأظهر الأشياء فأنا هو لا غيري ، فلا يحجبنك غيري عني بوجه من الوجوه .
وقوله : "نور السماوات والأرض" أي إني من حيث أنا لا أتقيد ولا أنضاف ، وإنما ذلك بالنسبة إليك .
وكأنه سبحانه يقول : كل العالم مظاهري بأمر ما، فذلك الأمر هو الذي يقبل التنزيه ؛ وهذه المناظر هي التي قامت بها العبادات .
فظهر سبحانه في المظاهر وبطن سبحانه إذ كان ولا مظاهر.
فالتنزيه له تعالى عن تقييده بها وعن إدراكها له من كونه عينها ، فهو العزيز.
ولهذا قلنا في بعض قولنا: "فهو المسمع السميع".
وقلنا: «فيا ليت شعري من يكون مكلفة».
وقوله : «والتقت بأنوار عبودية القلب وهو ساجد سجدة الأبد». فأنوار عبودية القلب هو ما حصل من الفيض الذي قبلت به القلوب أعيان وجودها. وكلما تقبله القلوب إنما تقبله بذلك الفيض.
ولما كانت الأعيان موجودة له سبحانه لا لها ، لذلك قبلت منه وجودها . فلما أشرقت على الممكن أنواره نفر إمكانه وثبت وجوده .
فلذلك قال : "الله نور السماوات والأرض" أي منفر إمكانها ومثبت وجودها.
ثم لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وصار مظهرا لها وتحقق ذلك تحقيقا لا يمكن الممكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا، فبقي متواضعا لكبرياء الله تعالى خاشعا له . وهذه سجدة الأبد، وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته .
وإذا عرفت هذا عرفت كيف يأمر نفسه بنفسه ويرى نفسه بنفسه ويسمع نفسه بنفسه.
ومن هنا يعلم حقيقة قوله :"كنت سمعه وبصره" الحديث .
ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لايح ما قال : «أنا الحق». فسكر وصاح، ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته .
وقوله : « اندرج نور العبودية ...» إلى آخر الفصل، قال في شرح ذلك ما هذا معناه ، وجملته :
أنه إذا اندرج نور الحق في العبد فني العبد ، وإن اندرج نور العبد في الحق ظهر العبد بالحق . "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" .
وكل مندرج ساري فهو غيب للمندرج فيه .
ثم قال : «إلى أن يصل إلى غیب الغيوب» وهو الغيب المحقق الذي لا يصح شهوده ولا يكون مضافا إلى مظهر ما، وهي الذات الحقيقية . "فتحقق ترشد". الحديث .
ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لايح ما قال : «أنا الحق». فسكر وصاح، ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته .
وقوله : «اندرج نور العبودية ..» إلى آخر الفصل، قال في شرح ذلك ما هذا معناه.
وجملته : أنه إذا اندرج نور الحق في العبد فني العبد ، وإن اندرج نور العبد في الحق ظهر العبد بالحق ، "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله" وكل مندرج سار فهو غيب للمندرج فيه .
ثم قال : «إلى أن يصل إلى غیب الغيوب» وهو الغيب المحقق الذي لا يصح شهوده ولا يكون مضافا إلى مظهر ما، وهي الذات الحقيقية . "فتحقق ترشد".
29 - شرح تجلي التهيؤ
235 - يريد تهيؤ قلب الإنسان المفطور على صلاحية قبول تجلي أحدية الجمع . والتهيؤ استعداد يحصل له حالة توسطه اعتدالا؛ وذلك بوقوعه في حيز تمانع الأسماء الحاكمة عليه، بحكم المغالبة ؛ فإن كلا منها يطلب محل ولايته .
فالقلب إذا خرج من رق تقيده بها ، إلى سراح انطلاقه بالكلية يصير في غاية الصحو، مختارة في تقيده وإطلاقه لا مجبورا .
وهذا الاستعداد تام ولكنه في تمامه كلما قبل فيضة وتجلية زاد توسعة إلى أن ينتهي في الأتمية .
ولا نهاية له في الأتمية . والاستعداد الذي هو دون هذا الاستعداد ، متفاوت في السعة والضيق .
فإنه إذا تقيد بفيض كما أومأت إليه اتسع بحسبه ؛ وإذا تقيد بالآخر، ازداد توسعة. فإن حلول كل فيض في القلب ، ينتج استعدادا لقبول فيض آخر.
فقوله قدس سره :
236 - (إذا تهيأت القلوب) فتنقلب في الأحوال اختيارا بوقوعها في حيز التمانع، وتحققها بإطلاق حكمه ، بالنسبة إلى كل ما بطن وظهر من الشؤون الإلهية والإمكانية على السواء .
أو تنقلب في الأحوال اضطرارا بطریق تتقيد بكل ما ورد عليه من التجليات الإلهية جلالا وجمالا، قبضة وبسطا، ظاهرا وباطنا، هداية وضلالا .
فإذا تهيأت القلوب بإحدى الجهتين (وصفت) جوهریتها (بأذ?ارها) المتفاوتة حسب تفاوت ألسنة الاستعدادات .
فذكر الاستعداد الأتم ذكر المذكور؛ وهو دوام حضوره مع نفسه في الاستعداد الأتم ، وبحسب حكمه ولسانه في هذا المقام :
وذ?ره ذ?ری و ذ?ری ذكره …… وكلا الذكرين ذكر واحد
وصفاء القلب ، جلاؤه عن النقوش المنطبعة فيه عند حضوره مع المذكور؛ فإنه إذا حضر معه سها عن غيره وذلك عين جلائه .
(وانقطعت العلائق بأستارها) حيث لا يدع القلب حضور المذكور معه أن يقف مع الأغيار تعلقا و تلبسا بها.
237 - (وتقابلت الحضرتان) بكمال المحاذاة بينهما ؛ فإن حضرة أحدية الجمع الإلهي لا يحاذيها ولا يسعها إلا حضرة أحدية الجمع الإمكاني القلبي الإنساني .
فإن كل تجل يظهر من الحضرة الإلهية ، له محل يحاذيه فيقبله في الحضرة الجامعة الإنسانية .
فالمحاذاة بين هاتين الحضرتين أتم المحاذاة (وسطعت أنوار الحضرة الإلهية) هذه زيادة في توضيح كمال المحاذاة بين الحضرتين ، (من قوله تعالى: "الله نور السموات والأرض ") [النور :35] .
فإن ما عم السماوات والأرض منه تعالی مجموع في القلب المحاذي لعموم الإلهية محاذاة الظاهر للباطن ، أو المظهر للظاهر فيه.
والعالم من حيث كونه ظاهرة بهذا النور، لا يحجب القلب الموصوف بالمحاذاة عن الحضرة المحاذية له، فإنه من هذه الحيثية نور، والنور يظهر ولا يخفى ، اللهم إلا إذا اشتد ظهوره ، فإنه يحجب الإدراك حينئذ.
وعلامة هذا الحجب أن ينقلب اليقين ظنونا ، كما قيل:
الأنوار المنصبغة في مرآة القلب بصبغ العبودية ينعكس أيضا في مرايا الأنوار الساطعة ، فيظهر ع?س العكس فيها بحكم الأصل؛ فينطبق عليه كمال الانطباق . هذا معنى الالتقاء ، وبقي أن يكون أحد المتلاقيين ظاهرا والآخر باطنا، أو متساويين في الحكم.
(وهو ساجد سجدة الأبد الذي لا رفع بعده ) هذه السجدة دليل العبودية الخالصة فإن القلب إذا تمخضت عبوديته سجد على مقتضاها ، فلم يعد عن سجدته إلى الأبد . وهذه النكتة مأخوذة من كلام العارف العباداني للعارف التستري ، حين سأل منه : لم يسجد القلب ؟
فقال : للأبد (اندرج نور العبودية في نور الربوبية) حالة الالتقاء والانطباق ، (إن كان) العبد (فانيا) في الله ، (فإن كان باقيا) ببقاء الحق، بعد فنائه فيه .
(اندرج نور الربوبية في نور العبودية فكان) نور الربوبية (له) أي لنور العبودية (عينا ومعنی وروحا وكان نور العبودية شهادة ولفظا وجسما لذلك النور، فسری نور العبودية في باطنه الذي هو نور الربوبية ، فانتقل في أطوار الغيب من غيب إلى غيب حتى انتهى إلى غيب الغيوب) وهو الغيب المحقق الذي لا يصح شهوده ولا يضاف إلى مظهر أبدا.
238 - (فذلك هو منتهى القلوب) ومحل انطواء هوياتها (والانتقال) فإن المنقال منه ما يدخل في دائرة الإيضاح والبيان القاضي بتفصيل الهويات المنطوية فيه ؛ وأحديته لا تقبل التفصيل فإن التميز المعتبر في التفصيل مستهلك الحكم والأثر فيها.
فإذا قلت عن شيء فيها فما قلت إلا عن غيره، فإن كل شيء في تلك الحضرة كل شيء.
وقد أشار قدس سره إلى هذه الإحاطة والاشتمال بقوله :
كنا حروفا عاليات لم نقل ….. متعلقات في ذرى أعلى القلل
أنا أنت فيه وأنت نحن ونحن هو ….. فالكل في هو هو فسل عمن وصل
(ولا يحصى ما يرجع به) الواصل من هذا المنتهى (من لطائف التحف التي تليق بذلك الجناب العالي) من غوامض الأسرار التي يحرم ?شف أكثرها .
والله يقول الحق ويهدي السبيل
.