كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال على مدونة عبدالله المسافركيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافي
كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه
110 ولسوف تعلم كيف تميز الجوهر من الخرز حينما يتحقق لك خلاص كلى من الأوهام .فاستمع إلى تلك الحكاية - أيها العارف بالجوهر - فيها تميز العيان من القياس .كيف توهم ذلك الشخص رؤية الهلال في عهد عمر رضي الله عنه
حلّ شهر الصوم في عهد عمر ، فهرع جماعة إلى قمة أحد التلال ، ليتفاءلوا برؤية الهلال الظاهر . فقال واحد منهم : “ يا عمر ! هاك الهلال “ .فحين لم ير عمر الهلال على السماء قال : “ ان هذا الهلال قد ظهر في خيالك ! 115 والا فأنا أقدر منك على رؤية الأفلاك ، فكيف لا أرى الهلال الطاهر ؟فُبلّ يدك ، وامسح بها على حاجبك ثم انظر - بعد ذلك - إلى الهلال ! “ .فحينما بلل حاجبه لم ير الهلال فقال : “ أيها الملك ! ليس هناك هلال ! لقد اختفى ! “ .فقال عمر : “ نعم ! ان شعرة من حاجبك قد تقوّست ، فسدّدت إليك سهما من الظن ! “ فحينما اعوجت شعرة سدت أمامه الطريق ، فاخذ يتشدّق بالقول ،“ 46 “مدّعيان راية الهلال ! 120 - فإذا كانت شعرة معوجة تصبح حجابا للفلك ، فيكف يكون الحال لو اعوجت كل أعضائك ؟فلتقوم أعضاءك باقتدائك بأهل الاستقامة ولا تحوّل رأسك يا طالب الاستقامة عن أعتاب هؤلاء .فكفة الميزان يكون لها ما يوازنها ، وكذلك يكون لها ما يخل بتوازنها .فكل من أصبح متوازنا مع المعوجين ، فقد وقع في النقصان ، وصار عقله مشوش الادراك .فاذهب ، وكن بالغ الشدة مع الكفار ، واحت التراب على التعلق بالأغيار .125 ولتكن مثل السيف على رؤوس الأغيار . كن أسدا وحذار من أن تلعب لعب الثعالب ! حتى لا تدفع الغيرة أحباءك إلى الانقطاع ذلك لأن تلك الأشواك عدوّ لهذه الورود .ولتشعل النار بالذئاب كما تشعلها بالبخور ! ان تلك الذئاب لهى أعداء يوسف .وان إبليس ليخاطبك بقوله : “ يا روح أبيك ! “ حتى يخدعك بالقول هذا الشيطان اللعين فاحذره !فلقد موّه على أبيك بمثل هذا الخداع . ان هذا الشيطان الأسود الوجه قد أهلك آدم “ 1 “ ...............................................................( 1 ) في هذا البيت إشارة إلى لعبة الشطرنج فكلمة “ سيه رخ “ التي يشير بها إلى الشيطان معناها ، “ اسود الوجه “ ، كما أن الرخ أيضا قطعة من قطع الشطرنج . وأما القضاء على آدم فقد عبر عنه بقوله “ مات كرد “ وهو الصطلاح في الفارسية يدل على موت الملك في لعبة الشطرنج . والبيت التالي يزيد المعنى وضوحا .“ 47 “130 - فهذا الغراب ملاعب بارع أمام الشطرنج ، فلا تنظر إلى اللعب بعين مثقلة بالنعاس .ذلك لأنه يعرف كثيرا من الألعاب البارعة ، التي تلعق بحلقك وكأنها القش أو القذى .وان قذاه ليبقى في الحلق سنين . فما هذا القوى ؟ انه حبّ الجاه والأموال .ان المال كالقذى - يا عديم الثبات ؟ وطالما هو في حقك ، فهو مانع ماء الحياة .فلو سرق مالك عدوّ بارع الحيلة ، فانّ قاطع طريق يكون قد اختطف قاطع طريق !كيف سرق المشعوذ حية من مشعوذ آخر
135 - ان لصا حقيرا سرق حية من أحدا المشعوذين . وكان لبلاهته يحسب أنها غنيمة ! فخلص ذلك المشعوذ من عضة الحية ، على حين أن الحية قتلت سارقها على أشنع صورة .ور آه المشعوذ فعرفه ، وقال : “ ان حيتى هي التي أخلته من الروح ! لقد كانت روحي تطلب في ضراعتها أن أجده ، وأخذ الحية منه ! فالشكر الله أن هذا الدعاء لم يستجب ! لقد ظننت ذلك ضرّا فإذا به قد غدا نفعا وخيرا !140 - فكم من دعاء يكون مضرة وهلاكا ، فيحول دون اجابته كرم الله “ 1 “ ..................................................................( 1 ) حرفيا : “ والاله الطاهر - لكرمه - لا يستمع اليه “ .“ 48 “كيف التمس رفيق عيسى منه احياء العظام
رافق أحد البله عيسى على الطريق ، فرأى هيكلا عظيما في جبّ عميق .فقال : “ يا رفيق الاسم السنىّ الذي به تبث الحياة في الموتى ! علمني حتى أصنع الاحسان ، وأجعل تلك العظام - بهذا الاسم - ذات روح ! “ فقال عيسى : “ اسكت فليس هذا من عملك ولا هو لائق بأنفاسك ولا يقولك !145 فمثل هذا يحتاج إلى نفس أنقى من المطر ، وإلى سلوك أكثر ادراكا من سلوك الملائكة ! فلا بدّ من مرور أعمار لتصبح الأنفاس نقية ، وليصبح الانسان أمين خزانة الأفلاك ! فهب أنك أمسكت بيمينك هذه العصا فمن أين ليمينك ما كان ليمين موسى ؟ “ فقال الأبله : “ فإذا لم أكن أنا ناطقا بالأسرار ، وفاتل أنت الاسم العظام ! “ فقال عيسى : “ يا الهى ! ما هذه الأسرار ؟ وما ميل هذا الأبله إلى ذلك العناء “ 1 “ ؟150 كيف لا يغتم لنفسه هذا المريض ؟ وكيف لا يحزن على روحه هذا الميت ؟لقد تخلى عن روحه التي عراها الموت ، وسعى إلى احياء نفس سواه ! “..............................................................................( 1 ) ترجمنا البيت على أساس قراءة “ درين بيكار . . . ““ 49 “فقال الحق : “ انه مدُبر يبحث عن الادبار ! فلا جزاء لزرعه سوى نبات الشوك !“ وكل من بذر بذور الشوك في هذه الدينا ، فحذار ثم حذار أن تبحث عنه في حديقة الورد .انه لو أمسك بيده وردة صارت شوكة ! وان هو توجه نحو صديق صار الصديق ثعبانا ! 155 فذلك الشقىّ هو كيمياء السم والحية ! وتلك مختلفة عن كيمياء المتقى .كيف أوصى الصوفي الخادم بان يعنى بالبهيمة
وكيف أجاب الخادم بقوله : “ لا حول ولا قوة الا بالله “
[ بيان أصل الحكاية ]لقد دار صوفىّ حول الأفق . وذات ليلة نزل في احدى الزوايا .وكان معه حمار فربطه في الحظيرة ، ثم جلس مع الرفقاء في صدر الصفة .فأصبح مع رفقائه مراقبا . وان حضور الرفيق لدفتر بل أكثر من ذلك .فليس دفترالصوفيّ هو السواد والحرف . فما دفتره الا قلب أبيض مثل الثلج .160 ان زاد العالم آثار القلم . فما زاد الصوفىّ ؟ انه آثار القدم ! فهو كصياد توجه إلى الصيد ، فأبصر آثارا لخطى غزال فاقنفاها .
ولقد ظلت آثار الغزال لائقة به بعض الوقت ، ثم أصبحت نافجة الغزال ذاتها مرشده على الطريق .
ولما كان قد شكر الخطى ، وانطلق على الطريق ، فان هذه الخطى
“ 50 “
- لا جرم - هي التي أوصلته إلى الرغاب .
وان مسيرة منزل واحد على رائحة النافجة لأعظم من مائة منزل من السبر والطواف .
165 وذلك القلب الذي هو مطلع للأقمار ، انما هو - من أجل العارف - فاتح الأبواب .
فهو لديك بمثابة الحائط ، وهو لدى العارفين باب !
وهو عندك كالحجر على حين أنه - عند هؤلاء الأعزاء - جوهر !
وهذا الذي تراه أنت عيانا في المرآة يرى الشيخ أكثر منه في لبنة !
ان الشيوخ هم هؤلاء الذين - قبل أن يُخلق هذا العالم - كانت أرواحهم غرقى في بحر الجود !
ولقد قضوا قبل هذا الجسم أعمارا ، واجتنوا من قبل الغراس ثمارا !
170 - وتلقوا الروح من قبل أن تُخلق الصورة ، ونظموا الدر من قبل أن توجد البحار !
وبينما كان التشاور جاريا حول ايجاد الخلق ، كانت أرواحهم غارفة في بحر القدرة حتى الحلق !
وحين اعترض الملأئكة على ذلك الخلق ، أخذوا يسخرون في الخفاء من الملأئكة .
فكل من هؤلاء قد اطلع على صورة ما يكون من الكائنات ، وذلك قبل أن تصبح النفس الكلية أسيرة المادة .
فأبصروا كيوان من قبل أن تخلق الأفلاك ! ورأوا الخبز من قبل أن يخلق القمح !
“ 51 “
175 وبدون دماغ ولا قلب حفلوا بالفكر ! وبدون جيش ولا حرب تحقق لهم الظفر !
وهذا العيان بالنسبة إليهم ليس الا فكرة ، على حين أنه لا يتجاوز ظاهر الرؤية عند البعيدين ( عن الحق ) .
والفكرة تكون منبثقة من الماضي ومن المستقبل فإذا ما تحروت من هذين حُلت المشكلة .
ان الروح قد أبصرت الخمر في العنب ! بل انها قد أبصرت الأشياء وهي بعد في طىّ العدم !
ورأت كل ما تشكل حينما لم يكن قد اتخذ شكلا ! وعرفت الصحيح والزائف من قبل أن يخلق المنجم !
180 واحتسب الخمور وأظهرت ألوان السكر ، وذلك من قبل أن توجد الأعناب !
ان الشيوخ قد أبصروا الشتاء ابان الصيف اللاهب ، وشاهدوا الظلال في شعاع الشمس !
ورأوا الخمر في قلب العنب ، وأبصروا الأشياء في باطن الفناء المحض !
والسماء نشوى بما يدار في كأسهم من شراب ، والشمس من جودهم ترفل في وشى الذهب .
وإذا رأيت منهم صديقين مجتمعين ، فهما شخص واحد ، وهما أيضا ألوف متعددة !
185 وان أعدادهم لهى على مثال الأمواج ، وما تعددها هذا الا من فعل الرياح !
“ 52 “
فشمس الروح قد أصبحت متفرقة حينما نفذت خلال نوافذ الأبدان .
فأنت حين تنظر إلى القرص ، فهي شمس واحدة . وأما من حجبت بصيرته الأجساد فقد أحاطت به الشكوك .
ان التفرقة تكون في الروح الحيوانىّ ، وأما الروح الانساني فهو نفس واحدة .
وما دام الحق هو الذي رش عليهم نوره ، فان هذا النور لا يغدو قط محل انقسام .
190 يا رفيقي ! دع عنك الملال لحظة واحدة ، حتى أحدثك بلمحة “ 1 “ من ذلك الجمال .
وليس البيان بقادر على الظهار جمال حاله ! فما العالمان ؟ انهما ليسان سوى اشتراقة من خاله .
وانى حين أنطق بكلمة عن خاله الجميل ، يريد النطق أن ينشق جسدي !
ولكني - مثل المنلة - سعيد بهذا البيدر ، فهأنذا أجرّ حملا يزيد كثيرا عن طاقتى !كيف أوقف تقرير معنى الحكاية من جراء ميل المستمع
إلى سماع ظاهر صورتها
متى يخلينى من هو حسد للضياء ، حتى أتحدث بما هو فرض ، وبما هو جدير بأن يُقال ؟...........................................................( 1 ) حرفيا : “ بخال “ .“ 53 “ 195 ان البحر ليقذف بالزيد ويقيم سدّا ! ثم يجتذب ما أقام ، ومن بعد الجزر يعود إلى المدّ .فاستمع الآن إلى المانع الذي قام : لعل قلب المستمع قد انصرف إلى مكان آخر .لقد مضى خاطره نحو الصوفىّ الضيف ، وغاص في ذلك الشوق حتى عنقه .فقد أصبح لزاما علينا الآن أن نعود من هذا المقال إلى تلك القصة ، لنقوم بوصف الحال .أيها العزيز ! لا تحسبنّ الصوفي تلك الصورة ( التي تراها ) .الام أنت - مثل الأطفال - مولع بالجوز والزبيب ؟ 200 فجسدنا - يا بنى - هو الجوز والزبيب . فان كنت رجلا فتخلّ عن هذين .وان أنت لم تتخلّ عنها فان اكرام الحق ( قادر ) على أن يجعلك تنطلق عابرا آفاق السماوات التسع .فاستمع الآن إلى صورة الحكاية ، ولكن كن يقظا ، وميز بين ما تحويه من قشر ومن لباب . كيف ظن أهل القافلة ان حمار الصوفي مريض
ان حلقة هؤلاء الصوفية المستفيدين ، حين بلغت مداها من الوجد والطرب ، أحضر الخوان من أجل الضيف ، وحينذاك تذكر دابته . 205 فقال للخادم : “ اذهب إلى الحظيرة ، وهىّء التبن والشعير من“ 54 “أجل ذلك الحمار “ .فحوقل الخادم ثم قال : “ ما هذا الكلام الزائد ؟ ان هذه الأعمال مهنتى من قديم الزمن “ .فقال الصوفىّ : ولتبلل الشعير في بادىء الأمر ، فان هذا الحمار مسن واهى الأسنان “ .فحوقل الخادم ثم قال : “ ما ذا تقول أيها العظيم ؟ ان الغير يتعلمون منى مثل هذه الشؤون “ .فقال الصوفي : “ وابدأ بانزال السرج من فوقه ، ثم ضع دواء المنبل “ 1 “ فوق ظهره الجريح “ . 210 فحوقل الخادم ثم قال : “ وما نهاية هذا أيها الحكيم ؟ لقد نزل عندي مثلك آلاف من الضيوف ،وقد فارقونا وهم راضون جميعا ، ذلك لأن الضيف عندنا بمثابة الروح والنفس .فقال : “ ولتعطه الماء وليكن فاترا “ . فحوقل الخادم وقال :“ لقد أخجلتنى ! “ فقال : “ ولا تضع مع الشعير كثيرا من التبن “ . فحوقل الخادم ، وقال : “ أقصر هذا الكلام “ .فقال : “ ولتنظف موضعه من الحصى والبعر . وإذا كان مبللا فضح فوقه التراب الجاف “ .215 فحوقل الخادم ، ثم قال : “ أيها الوالد ! قال لا حول ولا قوة الا بالله ، وأقلل من الكلام مع الرسول الحاذق ! “..............................................................( 1 ) دواء مصنوع من الأعشاب لمداوة الجراح .“ 55 “فقال : “ ولتأخذ مشطا ، ولتحك به ظهر الحمار “ . فحوقل الخادم ثم قال : “ لتستح أيها الشيخ !“ هكذا تكلم الخادم ، ثم عقد زناره مسرعا ، وقال : “ الآن أذهب ، وأبدأ باحضار التبن والشعير “ .ولكنه مضى ، ولم تخطر له الحظيرة قط على بال . وهكذا خدع ذلك الصوفي .لقد ذهب الخادم إلى جماعة من الأوباش ، وسخر من وصية الصوفي . 220 ولقد كان هذا الصوفىّ مجهدا من الطريق ، فاستلقى ، وأخذ يشاهد أحلاها بعين الهامه .أن حماره قد وقع بين براثن أحد الذئاب ، وكان الذئب ينهش قطعا من ظهره وبطنه .فحوقل الشيخ ثم قال : “ ما هذا الحلم الشبيه بالخبل ؟ واعجباه ! أين ذلك الخادم المشفق ؟“ ثم عاد فرأى حماره يمضى على الطريق ، وهو يسقط حينا في بئر وحينا في حفرة .وكان يرى في صور شتى ما ساءه من تلك الواقعة ، فأخذ يقرأ الفاتحة والقارعة .225 وقال : “ ما الحيلة ؟ لقد انطلق الاخوان ومضوا ، وأغلقوا جميع الأبواب “ .ثم عاد يقول : “ عجبا لهذا الخادم ! ألم يأكل معنا الخبر والملح ؟انني لم أصنع معي الا اللطف واللين ، فلماذا يسلك معي بالحقد عكس سلوكى معه ؟لا بد لكلّ عداوة من سند ، والا فان الاشتراك في الجنس“ 56 “موجب للوفاء “ .ثم أخذ يناجى نفسه قائلا : “ ولكن آدم ذا اللطلف والجود ، متى كان قد أوقع الجور بإبليس ؟ 230 وماذا صنع الانسان بالحية والعقرب ، حتى أن كلا منهما تلتمس له الموت والألم ؟ان تمزيق الفريسة طبيعة للذئب . وهذا الحسد - على كل حال - ظاهر في الخلق “ .ثم عاد يقول : “ ان هذا الظن السىء خطأ ! فلماذا يكون لدىّ مثل هذا الظن بأخي ؟ “ لكنه ما لبث أن قال : “ ان الحزم في اساءتك الظن ! والا فمتى كان حسن الظن يبقى سالما ؟“ لقد كان الصوفىّ في هذه الوسوسة ، وأما الحمار فكان في حال ، جعلها الله جزاء للأعادى ! 235 فهذا الحمار المسكين كان بين التراب والحصى ، وقد مال سرجه وتقطع لجامه .لقد أنهكه الطريق ، وقضى الليل بدون علف فكان حينا يحتضر ، وحينا يوفى على التلف .لقد كان هذا الحمار - طول الليل - يردد : “ يا الهى ! لقد تنازلت عين الشعير ، فهل أقلّ من خفنة من التبين ؟ “ وكان لسان حاله يقول : “ أيها الشيوخ ! رحمة بي ، فقد احترقت من جرّاء هذا الغرّ الجسور “ .فذلك الذي رآه هذا الحمار من الألم والعذاب ، يراه طائر برىّ وقع في سيل ماء !“ 57 “240 وأخذ الحمار المسكين ينقلب على جنبيه حتى السحر لما اعتراه من جوع البقر “ 1 “ وحين أقبل النهار ، جاء الخادم في الفجر ، وسرغان ما التمس السرج ووضعه فوق ظهر الحمار .
ووخزه وخزتين أو ثلاثا كما يفعل باعة الحيمر . وهكذا صنع بهذا الحمار ما يليق بكلب .
فأخذ الحمار يتوثب من وخز الإبرة . ومن أين له اللسان ليفصح عن حاله ؟
وحين امتطاه الصوفي ، ومضى على الطريق ، أخذ الحمار يسقط على وجهه في كل لحظة !
245 فكان الخلق ينهضونه في كل مرة ، وقد ظنوا جميعا أنه مريض .
فهذا يمعن في تقليب أذنيه ، وذامك يفتش عن أذى في فمه .
ومنهم من يبحث عن حصاة في نعله ، ومنهم من ينظر ما قد يكون من قذى في عينيه .
وأخذوا يقولون : “ أيها الشيخ ! ما سبب هذا ؟ ألم تقل بالأمس :
شكر الله ، ان هذا الحمار قوىّ ؟ “ فقال الشيخ : “ ان هذا الحمار الذي تعشى بالأمس ( حوقلات “ 2 “ )
لا يستطيع أن يسير في الطريق الا على هذا النحو .
250 فما دامت الحوقلات هي كل غذائه بالأمس ، فقد قضى الليل في
...........................................................................
( 1 ) جوع البقر مرض يقال إنه إذا أصاب الدواب فإنها تأكل ولا تشبع .
( 2 ) جمع حوقلة أي قول : “ لا حول ولا قوة الا بالله “ .
“ 58 “
التسبيح ، وما هوذا يقضى النهار في السجود ! “ ان أكثر الناس أكلة للبشر !
فلا تلتمس في تسليمهم عليك كثيرا من الأمان ! فقلوبهم جميعا منزل للشيطان ! فلا تكن متقبلا خداع شياطين الانس .
فكل من انخدع بكلمة صالحة يلفظ بها الشيطان ، فإنه يسقط على رأسه في كفاحه ، كما حدث لذاك الحمار .
وكل من تقبل في هذه الدنيا خداع الشيطان ، ( واستطاب ) التعظيم والرياء من عدو يتخذ مظهر الأصدقاء ،
255 فهو - في طريق الاسلام ، وعلى جسر السراط - يقع متخبطا على رأسه مثل ذلك الحمار .
فلا تغ إلى مخاتلات رفيق السوء وكن حذرا ، وفتش عن الفخ ، ولا تمش آمنا فوق الأرض !
وتأمل آلاف الأبالسة المتظاهرين بالتقوى ! يا آدم ، انظر إبليس في الحية ! انه يحدثك قائلا : “ يا روحي ! يا حبيبي !
“ . حتى يسلخ عن حبيبه جلده ، كما يفعل القصاب ! انه ليخاتلك حتى يسلخ جلدك . فواها على من تشرب أفيون الخداع من الأعادى !
260 انه ليضع رأسه عند قدميك ، ويسمعك ختله ، كما يفعل القصاب ، ليريق دمك ، في ذلتك وهو انك ! فكن كالأسد ، واعمل صيدك بنفسك . ودعك من خداع العزباء والأقرباء .
“ 59 “
واعلم أن مراعاة الأخساء لك شبيهة برعاية ذلك الخادم ، فانقطاعك عن الناس خير لك من أن تتلقى خداع اللئام .
ولا تقم دارك على أرض غيرك من الناس . واعمل عملك ولا تعمل عمل الغرباء .
ومن هو الغريب ؟ انه جسمك الترابى الذي من جرائه يكون حزنك !
265 وطالما أنت تقدم لجسدك الدسم والحلوى ، فإنك لن ترى جوهرك الروحي دسما .
ومهما اتخذ الجسد مكانه بين المسك ، فان رائحته النتنة - لا محالة - تظهر في يوم موته .
فلا تلطخ الجسد بالمسك ، بل امسح به على قلبك . وماذا يكون المسك ؟ انه اسم ذي الجلال الطاهر .
ان ذلك المنافق يضع المسك فوق جسده . ولكنه يضع روحه في قرارة وعاء القمامة .
فعلى لسانه اسم الله ، وفي روحه نتن ، يفوح من فكره الذي تجرد من الايمان .
270 فالذكر معه كالخضرة النابتة حول المزابل ، أو هو ورد وسوسن نبت في بقعة قذرة .
فمن اليقين أن مثل هذا النبات عارية في ذلك المكان . فالورد مكانه مجلس الأحباب ومحفل الأنس .
والطبيات يقبلن نحو الطيبين . وأما الخبيثون فان لهم
“ 60 “
الخبيثات “ 1 “ .
ولا تحمل الحقد ، فان هؤلاء الذين أضلهم الحقد قد جُعلت قبور هم بجوار الحاقدين .
وان أصل الحقد هو الجحيم وحقدك جزء من ذلك الكل وخصم لدينك .
275 فما دمت جزاء من الجحيم فلتكن يقظا ، فان الجزء ينجذب نحو كله ويتخذ فيه مقرا .
والمر لا بد ملتحق بأقرانه من أهل المرارة . ومتى يكون حديث الباطل قرينا للحق ؟
يا أخي ! انك لست الا تفكيرك . وما بقي منك بعد ذلك فليس سوى عظام وشعر !
فلو كان فكرك وردا فأنت بستان ورد . ولو كان فكرك شوكا فأنت وقود لموقد الحمام .
وان كنت ماء ورد وضعت على الرأس وعلى الحبيب . وان كنت مثل البول طرحت بعيدا .
280 وانظر إلى الأوعية أمام دكان العطار ، تجد كل جنس قد وضع فيها مع جنسه .
فحبات كل جنس قد وضعت مع نظائرها ، فانبعث من ذلك التجانس زينة ورونق .
فلو أن حبات السكر قد امتزجت بالعود ، فان العطار يفصل هذه عن ذلك حبة حبة .
..........................................................................
( 1 ) اقتباس من قوله تعالى : “ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطبيات للطيبين والطيبون للطيبات “ . ( سورة النور ، 24 : 25 ) .
“ 61 “
.
لقد تحطمت أوعية ( الأجساد ) وانطلقت منها الأرواح ، والختلط الطيب منها بالخبيث .
فأرسل الحق الأنبياء برسائلهم ، حتى ينتقوا تلك الحبات ، فوق الطبق .
285 ومن قبل ذلك كنا جميعا أمة واحدة . ولم يكن أحد يعلم من منا الطيب ومن منا الخبيث .
فالنقد الزائف والنقد الصحيح كانا شائعين في الدنيا ، وكان كل شئ كالليل ونحن كالسائرين في الظلماء !
حتى طلعت شمس الأنبياء فقالت : “ بُعدا لك أيها الغش ولتقبل أيها الصفاء “ .
ان العين هي التي تميز بين الألوان ، وهي التي تميز العقيق من الحصى .
وهي التي تفرق بين الجوهر والقذى . ولهذا فان العين يخزها القذى .
290 وهؤلاء المزيفون هم أعداء النهار . أما سبائك ذهب المنجم فهي عاشقة للنهار !
ذلك لأن النهار مرآة تعريف للذهب . وبه يبصر ( الدينار ) الأشر في تشريفه .
ولهذا فان الحق وصف القيامة بأنها “ يوم “ “ 1 “ . فالنهار هو الذي يظهر جمال الأحمر والأصفر .
.......................................................................
( 1 ) في الفارسية كلمة “ روز “ معناها “ يوم “ ومعناها كذلك “ نهار “ .
“ 62 “
فالحقيقة أن النهار سر الأولياء وان كان نوره أمام قمرهم يبدو كالظلال .
فلتعلم أن النهار اشراق من سر رجل الله ، وأما انعكاس ستره فهو الليل الذي يغمض العيون .
295 ولهذا السبب أقسم الحق تعالى بالضحى “ 1 “ . والضحى نور ضمير المصطفى .
وفي قول آخر أن الإله الحبيب أقسم بالضحى ، وذلك لان الضحى فيض من نوره .
والا فان من الخطأ القسم بالفاني . وكيف يليق الفناء بقول الله ؟
لقد أثر عن الخليل قوله : “ لا أحب الآفلين “ . فكيف يريد القسم بالفناء رب العالمين ؟
وأما قوله “ والليل “ فإشارة إلى ستره ، وإلى الجسد الترابى المحيط ( بالروح ) كالصدأ .
300 فحينما أشرقت شمسه من ذلك الفلك ، قالت لليل الجسد “ ما ودّعك ربك “ .
ولقد تبدى الوصل من عين البلاء وعن تلك الحلاوة جاءت عبارة “ ما قلى “ فكل عبارة هي رمز لحال .
والحال مثل اليد وأما العبارة فآلتها .
وآلة الصائغ في يد الإسكاف شبيهة بحبة غرُست في الرمال .
.................................................
( 1 ) في هذا البيت وكذلك في الأبيات الستة التالية تفسيرات رمزية لسورة “ الضحى “ .
“ 63 “
وآلة الإسكاف أمام الزارع ، كالتبن أمام الكلب ، أو كالعظام أمام الحمار !
305 ان قول : “ أنا الحق “ كان على شفة المنصور نورا . وكان قول “ أنا الله “ على لسان فرعون زورا .
ولقد صارت العصا في كف موسى شاهدا . لكنها أصبحت في أيدي السحرة هباء !
ولهذا السبب فان عيسى لم يعلم رفيقه الأبله ذلك الاسم الصمد “ 1 “ .
ان الذي لا يعرف النقص يعزو ذلك إلى الآلة . فلتضرب الطين بالحجر ، فهل تتولد من ذلك النار ؟
واليد والآلة شبيهان بالحجر والحديد . فلا بد من قرين لأن التوليد يستلزم الاقتران .
310 والذي لا قرين له ولا آلة هو الواحد . وفي العدد شك ولكن هذا الواحد لا شك فيه !
وكل من قالوا بالاثنين أو بالثلاثة ، أو بما هو أكثر من ذلك ، متفقون على الواحد يقينا !
وحين يزول عنهم الحول يصبحون جميعا متشابهين . والقائلون بالاثنين أو بالثلاثة يصبحون قائلين بالواحد !
فان قلت بالواحد فأنت في ميدانه . فليكن دورانك بدفع من صولجانه .
......................................................................
( 1 ) إشارة إلى قصة عيسى والرجل الأبله . انظر الأبيات 141 - 155 .
“ 64 “
ان الكرة تصبح كاملة لا نقص فيها حينما تغدو راقصة من ضربة كف المليك .
315 فاستمع - أيها الأحوال - إلى ذلك بعقلك . وتلق دواء لعينك عن طريق أذنك .
فالكلام الطاهر في القلوب العمياء لا يدوم بل ينطلق نحو أصل النور .
وأما سحر الشيطان فستقر في القلوب العوجاء ، كما تستقر القدم العوجاء في الحذاء الأعوج .
ومع أنك بالتكرار قد تحصل الحكمة فإنها تغدو بريئة منك ، لو لم تكن أهلا لها .
ومع أنك قد تكتبها وتضع رموزها ومع أنك قد تتشدق بها وتعلن بيانها ،
320 فإنها تحجب وجهها عنك أيها العنيد ، وتقطع روابطها بك ، وتهرب منك .
وان أنت لم تقرأها ، وأبصرت تحرقك إليها ، كان العلم طائرا طوع يمينك !
والعلم لا يدوم عند من ليس بأستاذ فهو كالطاووس ( لا يقيم ) بمنزل الفلاح .كيف وجد الملك الباز في منزل المراة العجوز
انه ليس مثل ذلك الباز الذي هرب من الملك إلى امرأة عجوز ، كانت تنخل الدقيق ، “ 65 “حتى تعد الفطائر لأولادها . فرأت ذلك الباز الجميل الرفيع المولد . 325 فربطت قدميه الصغرتين ، وقصت جناحيه ، وقلمت مخالبه ، وقدمت له القش غذاء .وقالت : “ ان من ليسوا أهلا لك لم يقوموا برعايتك ، فتكاثر ريش جناحيك وطالت مخالبك ! ان يد هؤلاء الجللاء قد جعلتك عليلا ، فأقبل الآن نحو أمك لتبذل لك عنايتها !
“ فاعلم أن هذا شأن حب الجاهل أيها الرفيق . فالجاهل يمشى على الدوام معوجا فوق الطريق !
ولقد تأخر الوقت بالملك وهو ينفتش عن بازه . فتوجه نحو تلك المرأة وخيمتها ،
330 وسرعان ما رأى الباز بين الغبار والدخان . فبكى عليه الملك متألما ورثى لحانه .
وقال : “ ان هذا الجزاء لفعلك فإنك لم تكن مستقيما في وفائك لنا .
كيف تركت جنة الخلد واتخذت النار قرارا ؟ أكنت غافلا عن قوله تعالى :” لا يَسْتَوي أَصْحابُ النَّار وَأَصْحابُ الْجَنَّة ““ 1 “ ؟
ان هذا جزاء من فر من الملك الخبير ، والتجأ بغباء إلى عجوز تننة ! “
................................................................
( 1 ) انظر : سورة الحشر ، 59 : 20 .
“ 66 “
فاخذ الباز يمسح جناحه على كف الملك . وكان لسان حاله يقول : “ انني أثمت ! “
335 ولكن أين ينوح وأين ينتحب اللئيم ان كنت لا تتقبل غير الطيب ، أيها الكريم ؟
“ ان لطف المليك يجعل الروح طالبة للإثم ، ذلك لأن المليك يجعل كل قبيح حسنا .
فاذهب ، ولا تصنع السيئات ، فان حسناتنا تبدو سيئات أمام محبونا الجميل !
لقد ظننت عبادتك لائقة به ، ولهذا فإنك قد رفعت لواء الجرم .
فهو إذ كان قد أمرك بالذكر والدعاء ، أصاب الغرور قلبك بدعائك هذا ،
340 ورأيت نفسك نجيا لله ! وما أكثر من وقعوا بعيدا عن الله من جراء هذا الظن .
ومع أن الملك يجلس معك على الأرض فلتعرف قدر نفسك ولتحسن الجلوس .
فقال الباز : “ أيها الملك ! لقد أصبحت نادما . لقد تبت ، وهأنذا أعود إلى الإسلام .
فذلك الذي جعلته سكران ، متوهما صيد الأسود ، ان كان قد اعوج في سيرة فتقبل عذره .
ومع أن اظافرى قد ولت ، فانى أقتلع الشمس من مدارها ، حين تكون لي !
“ 67 “
345 ولئن كان جناحي قد ولى ، فان لعب الفلك يتضاءل أمام لعبى ، حين يتدللنى !
ولو أنك منحتنى مئزر لا قتلغت الجبل . ولو وهبتنى قلما لحطت الأعلام .
فمهما يكن جسمي فليس بأقل من جسم البعوضة . فلأحطمن بجناحي ملك النمرود !
فافترض أنني - في ضعفي - طير أبابيل “ 1 “ ، وأن كل خصم من خصومى مثل الفيل ،
فلو أنني ألقيت فوقه حجرا من سجيل “ 2 “ ، لكان لهذا من الفعل قدر ما يكون لمائة منجنيق !
350 لقد خاض موسى الوغى بعصا واحدة ، وتهجم بهذه على فرعون وعلى كل سيوفه !
ان كل رسول لم يكن الا رجلا واحدا طرق هذا الباب ، فغلب بمفرده على جميع الآفاق !
وحين التمس نوح من الله سيفا أصبحت أمواج الطوفان بأمره تفعل فعل السيوف !
يا أحمد . ماذا تكون جيوش الأرض ؟ انظر إلى القمر على السماء ثم شق جبينه !
حتى يعلم من كان جاهلا بالسعد والنحس أن هذا دورك ، لا دور القمر .
......................................................................
( 1 ) في هذا البيت إشارة لقصة أصحاب الفيل .
انظر سورة الفيل .
( 2 ) في هذا البيت إشارة لقصة أصحاب الفيل .
انظر سورة الفيل .
“ 68 “
355 انه دورك يا من كان موسى الكليم يتطلع بأمل راسخ إلى دورك وزمانك !
فموسى حينما أبصر رونق دورك . وقد أشرق فيه صبح التجلي ، قال : “ يا رب !
أي دور للرحمة هذا ؟ لقد تفوق على الرحمة .انه دور الشهود ! فلتغرق ( عبدك ) موسى في البحار ، ولتظهره ( من جديد ) ابان دور أحمد .فقال الحق : “ يا موسى ! لقد أظهرته لك من أجل هذا “ 1 “ . وفتحت لك بهذه الرؤية سبيل تلك الخلوة .360 وانك بعيد عن ذلك ابان هذا الدور ، أيها الكليم ، فاسحب قدمك لان هذا البساط مديد .انني لكريم ، أظهر الخبز لعبدي حتى يُبكى الطمع ذلك المخلوق الحي .فالأم تسمح على أنف طفلها الرضيع ، حتى يفيق ويلتمس غذاءه .فلعله قد نام جائعا فلم يعد يستشعر الجوع ، في حين أن الأم يخزها ثدياها لتدر الحليب .كنت كنزا رحمة مخفية * فابتعثت أمة مهدية 365 فكل الكرامات التي تلتمسها بروحك قد أظهرها الله لك حتى تطمح إليها .لقد حطم أحمد بضعة أصنام في هذه الدنيا ، حيت تصبح الأمم هاتفة باسم الله .......................................................................( 1 ) من أجل ان يشتعل في قلبك مثل هذا الأمل والتطلع إلى عصر أحمد ..
يتبع