كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا قم فقد حان وقت الصلاة .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الثاني ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي ( 604 - 672 هـ )
كيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا قم فقد حان وقت الصلاة .الجزء الثاني د. محمد عبد السلام الكفافيكيف أيقظ إبليس معاوية رضي الله عنه قائلا : قم فقد حان وقت الصلاة
“ 302 “
كيف خادع المنافقون الرسول عليه السلام
حتى يأخذوه إلى مسجد الضرار
لقد ترنموا بخداعهم على مسمع الرسول الحق ، وأخذوا يسوقون أمامه فرس الغش والرياء .
أما الرسول المحب الرحيم فلم يكن منه سوى التبسم واعلان القبول .
2850 لقد باح بالشكر لتلك الجماعة ، وأسعد هؤلاء القصاد باستجابته لهم .
وكان مكرهم ظاهرا أمامه بكل تفصيلاته كما يتجلى الشعر في الحليب !
لكن هذا الرسول اللطيف تجاهل رؤية الشعر ، ثم تلطف فباح بالثناء على الحليب !
لقد رأى آلافا من شعر المكر والخداع ، لكنه - حينذاك - أغلق عينيه عنها جميعا !
ولقد صدق بحر الكرم هذا حين قال : انني أكثر اشفاقا عليكم من أنفسكم .
2855 فلقد جلست على حافة نار ذات أوار ولهب بالغ الايذاء ، وغدوتم أتتم مندفعين نحوها كالفراش على حين أن يدىّ تذودانكم عنها !
وحينما استقر الأمر على أن يذهب الرسول “ 1 “ ، هتفت به غيرة الحق ( قائلة ) : لا تستمع إلى نداء الغول !
.................................................................
( 1 ) عاد الشاعر هنا إلى رواية قصة “ مسجد الضرار “ .
“ 303 “
فهؤلاء الخبيثون قد اصطنعوا الحيلة والمكر ، فكل ما جاءوا به فهو على عكس ( ظاهره ) !
وما كان لهم من قصد سوى سواد الوجه ، والا فمتى أراد النصارى واليهود خيرا لدينك ؟
2860 لقد بنوا مسجدا على جسر النار . ( وأرادوا ) أن يلعبوا مع الله نرد الخداع !
لقد كان قصدهم أن يفرقوا أصحاب الرسول . ومتى كان كل فضولىّ يعرف فضل الحق ؟
وأن يجلبوا ( للمسجد ) يهوديا من الشام كان هؤلاء اليهود يطربون لوعظه .
لقد قال الرسول : “ نعم لكننا الآن على أهبة السفر معتزمين الغزو ،
فحينما أعود من السفر فاننى سوف أسارع بالتوجه إلى ذلك المسجد “ .
2865 لقد دفعهم عنه ثم سارع إلى الغزو ، ولعب لعبة المكر مع الماكرين !
وحينما رجع من الغزو ، عادوا اليه ، وطالبوه بانجاز سابق وعده .
فقال له الحق : “ أيها الرسول ! اكشف غدرهم . ولئن شبِّت الحرب ( من جراء ذلك ) فادع إليها !
“ فقال الرسول : “ ألا فلتسكتوا أيها القوم المخادعون ! الزموا الصمت والا أذعت أسراركم !
“ فلما كشف الرسول عن المحات قليلة من أسرارهم ، ساءت أحوالهم .
2870 فارتد عنه القصاد حينذاك هاتفين : “ حاش لله ، حاش لله ! “
“ 304 “
2870 وجاء كل منافق إلى الرسول مخادعا ، وقد تأبط مصحفا ، وذلك ليقسموا عليها الأيمان ، فالأيمان جُنة “ 1 “ !
ان الأيمان لهى سنة للأشرار ! فما دام الرجل الشرير لا وفاء له في الدين ، فإنه يحنث بقسمه في كل لحظة .
وأما أهل الصلاح فلا حاجة لهم إلى القسم ، ذلك لأن ( كلا منهم ) قد أشرقت عيناه بالنور .
2875 فنقض المواثيق والعهود مبعثه الحماقة ، وأما حفظ الأيمان والوفاء بها فهو شيمة الأتقياء .
لقد قال الرسول : “ هل أثق بأيمانكم أم أثق بعهد الله ؟ “ لكن هؤلاء القوم عادوا فأقسموا قسما آخر ،
وكان المصحف في أيديهم ، وخاتم الصوم على شفاههم ، قائلين :
بحق هذا الكلام الطاهر الصادق ، ان بناء هذا المسجد انما هو من أجل الله !
وليس فيه قط من حلية ماكرة ! بل إنه ينطوى على الذكر والصدق ودعاء الله !
2880 فقال الرسول : “ ان صوت الحق يرن في أذني مثل الصدى .
ولقد ختم الله على آذانكم حتى لا تبادر إلى سماع صوت الحق .
ها هوذا صوت الحق يصل الىّ صريحا ، كصافى الشراب الذي برئ من الكدر ،
.................................................................
( 1 ) انظر : ( سورة المجادلة ، 58 : 16 ) ، ( سورة المنافقون ، 63 : 2 ) .
“ 305 “
كما سمع موسى صوت الحق من جانب الشجرة يناديه : أيها السعيد الطالع !
لقد سمع من الشجرة نداء :” إنِّي أَنَا اللَّهُ ““ 1 “ ، وتجلِّت له الأنوار مع هذا الكلام !
2885 فحينما عجز هؤلاء المنافقون أمام نور الوحي ، عادوا من جديد إلى اللغو بالأيمان .
ولما كان الحق يسمى القسم جُنة “ 2 “ ، فيكف يطرح المعاند المجن من يده ؟
ولهذا فان الرسول قد واجههم بتكذيب صريح ، وأفصح لهم يقوله : “ قد كذبتهم ! “
كيف تفكر أحد الصحابة رضي الله عنهم منكرا
على الرسول انه لم يتستر عليهم
ولقد كان أن واحدا من أصحاب الرسول ، أنه بقلبه ذلك الردع ( للمنافقين ) .
فحدث نفسه : “ أيدمغ هذا الرسول بالعار مثل هؤلاء الشيوخ ذوى الشيب والوقار ؟
2890 فأين الكرم ، وأين الستر ، وأين الحياء ؟ ان الأنبياء ليسترون الآلاف من العيوب ! “
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة القصص ، 28 : 30 .
( 2 ) انظر البيت 2872 وشرحه .
“ 306 “
لكنه عاد فسارع إلى الاستغفار بقلبه ، حتى لا يصفر وجهه من جراء هذا الاعتراض !
وان شؤم صحبة أهل النفاق ، ليجعل المؤمن مثلهم قبيحا عاقا .
فعاد إلى الضراعة قائلا : “ يا علام السر . لا تتركني مصرا على الكفران !
ان قلبي ليس - مثل عينىّ - طوع يدي ! ولولا هذا لأحرقت الآن هذا القلب بغضبى ! “
2895 وبينما هو في هذا التفكر غلبه النوم ، فبدا له مسجد هؤلاء ممتلئا بالبعر .
بناء خربا تلوثت أحجاره بالأقذار وكان الدخان الأسود يتصاعد من تلك الأحجار !
ونفذ الدخان إلى حلقه فغص به . وأفزعه الدخان المرّ فهب من سباته !
فخرّ على الفور ساجدا ، وهو يبكى ، ( قائلا ) : ان هذه علامات الانكار !
فالغضب عليهم - يا الهى - خير من مثل هذا الحلم الذي يحجبنى عن نور الايمان !
2900 فلو أنك شققت اجتهاد أهل المجاز لوجدته كالبصَلَة مكونا من طبقات ( متراصة ) من النتن !
وكل واحد منهم أوهى لبا من الآخر ! وأما الصادقون فكل منهم أعمق ادراكا من الآخر !
فهؤلاء القوم قد شمروا جميعا عن ساعد الجد ، وذلك ليهدموا
“ 307 “
مسجد قباء “ 1 “ فهم كأصحاب الفيل من بلاد الحبش ، الذين بنوا كعبة فأضرمها الحق بالنيران .
فتوجهوا إلى الكعبة قاصدين الانتقام . فاقرأ ( ما جاء ) عن مآلهم في كلام الله “ 2 “ .
2905 فهؤلاء الذين اسودات بدينهم وجوههم ليست لهم عُدة سوى الحيلة والمكر والضغينة !
فكل صحابي رأى ( في منامه ) من عيان ذلك المسجد ، ما جعل سرّه يصبح - عند الصحابة يقينا !
ولو أنني قصصت وقائع ذلك واحدة واحدة ، لتيقن أهل الشك من صفاء ( هؤلاء الصحابة ) .
لكنني أتهيَّب كشف أسرارهم . فهم المدللون الذين يليق بهم الدلال ! وهم الذين تلقوا الشرع بدون تقليد .
وهم الذين تقبلوا هذا النقد ، من غير ( حاجة إلى ) محك !
2910 فكأنما حكمة القرآن ضالة المؤمن وكأنما كل منهم على يقين من ضالته !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فهؤلاء القوم قد عقد كل منهم على قبائه مائة حزام “ ، وعقد الحزام على القباء كناية عن الجد في العمل .
( 2 ) وفي البيت جناس بين كلمتي قبا ( بكسر القاف ) وقبا ( بضمها ) . وقباء ( بضم القاف ) اسم قرية بجوار المدينة اشتهرت بتوقف الرسول بها في طريق هجرته ، وكذلك بمسجدها الذي بنى في عهد الرسول . سورة الفيل .
“ 308 “
قصة ذلك الشخص الذي كان يبحث عن جمله
الضال ويسال عنه
لئن كنت تبحث بجد عن جمل أضعته ، فكيف لا تعرف - حين تجده - أنه لك ؟
فما الضالة ؟ انها ناقة قد أضعتَها فهربت من يدك ، إلى مكان خفىّ .
فالقافلة قد بدأت تضع الأحمال فوق الجمال ، على حين أن جملك قد اختفي من بينها .
فها أنت ذا تجرى في هذه الناحية ، وذلك الجانب ، وقد جفت شفتاك ، على حين أن القافلة قد أصبحت بعيدة والليل قد اقترب .
2915 وقد بقي متاعك على الأرض في طريق الخوف ، وأنت تجرى وتدور باحثا عن الجمل .
تقول : “ أيها المسلمون ! من ذا الذي رأى جملا هرب في هذا الصباح من الحظيرة ؟
فكل من أدلى الىّ ببينة عن جملي ، جزيت بشارته بكثير من الدراهم “ .
وانك لتعود فتلتمس من كل انسان إشارة ، فيهزأ بك - من جراء هذا - كل خسيس !
( قائلين ) : “ لقد رأينا جملا يمضى نحو تلك الناحية ، رأينا جملا أحمر يتجه نحو ذلك المرعى “ .
2920 وهذا يقول : انه كان مبتور الأذن ! وذاك يقول : انه كان مزركش السرج .
“ 309 “
وآخر يقول : انه كان جملا أعور ، على حين أن سواه يقول : لقد كان أجرب مجردا من الوبر .
فإذا بكل خسيس قد أدلى - من أجل المكافأة - بمائة - بيان جزافا !
التردد بين المذاهب المختلفة وايجاد مخرج
وطريقة للخلاص من ذلك
فهكذا شأن الناس بالنسبة للمعرفة ، فكل منهم يصف الموصوف الغيبىّ بإحدى الصفات .
فهذا متفلسف يدلى بشرح من نوع آخر ، فيجرّحُ أحدُ الباحثين مقاله .
2925 وثالث يطعن فيهما معا ، ورابع يكاد يُسلم الروح نفاقا .
فكل منهم يدلى بعلامات لذلك الطريق حتى يُظن أنهم ينتمون إلى تلك القرية !
فلتعلم هذه الحقيقة : ان هؤلاء جميعا ليسوا على حق ! كما أن هذا القطيع ليس ضالا من كل الوجوه !
ذلك لأنه بدون الحق لا يتضح الباطل . فرائحة الذهب هي التي أغرت الأبله بزائف النقد “ 1 “ .
فلو لم يكن النقد الصحيح منتشرا في الدنيا ، فهل كان يمكن اصدار النقد الزائف ؟
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ فالأبله قد اشترى زائف النقد على رائحة الذهب “ ، اى أنه اشتراه على أمل أن يكون نقدا من الذهب الخالص .
“ 310 “
2930 ولو لم يوجد الصدق فهل كان يوجد الكذب ؟ فهذا الكذب يتلقى من الصدق نورا ( يكشفه ) .
ان الأعوج يُشترى على أمل في السوىّ . والسم يوضع في السكر ، وحينذاك يؤكل .
فلو لم يوجد القمح المحبوب اللذيذ ، فماذا كان يجنى بائع الشعير الذي يدعى أنه قمح ؟
فلا تقل ان جملة هذه الأقوال باطلة ، فأهل الباطل هم الأحابيل التي تصيد القلب برائحة الحق !
ولا تقل ان كل هذا خيال وضلال ، فليس في العالم خيال بدون حقيقة .
2935 فحقيقة ليلة القدر قد احتجبت بين اليالى ، حتى تلتمسها الروح في كل ليلة .
فليست كل الليالي هي ليلة القدر ، أيها الفتى ، كما أن كل الليالي لا تخلو من تلك الليلة .
وبين لا بسى الدلق لا بد من فقير واحد ، ففتش عنه ، ومن وجدته صادقا فتقبله !
فأين المؤمن ، صاحب الكياسة والتمييز ، الذي يعرف كيف يميز بين الرجل وبين المخنثين !
ولو لم تكن في هذه الدنيا سلع معيبة ، لكان ( ميسورا ) لجيمع البُله أن يصبحوا تجارا !
2940 ولكان تقويم البضائع أمرا بالغ اليسر . فحينما لا يوجد العيب ، فما الفرق بين القادر ( على التقويم ) والعاجز عنه ؟
“ 311 “
ولو كان كل شئ معيبا فلا جدوى من المعرفة ، فما دام كل ما هنالك خشب فلن يوجد العود !
فمن يقل ان جملة الأحوال حق فهو أحمق ! ومن يقل ان جملتها باطل فهو شقىّ !
فالأنبياء بتجارتهم قد حققوا الأرباح وأما تجار الألوان والروائح فهم عمى تعساء !
فالثعبان يظهر في أعينهم مالا ! ألا فلتمسح جيدا كلتا عينيك !
2945 ولا تنظر إلى سرورك بهذا البيع والربح ، بل انظر إلى خسران فرعون وثمود !
حول امتحان كل شئ حتى يظهر ما فيه من خير وشر
ان السماء وهي ذات الرونق والجلال ، قال بشأنها الحق :” ثُمَّ ارْجع الْبَصَرَ ““ 1 “ .
ولا تقنع بنظرة واحدة من هذا السقف الميز ، بل انظر مرات ،” هَلْ تَرى منْ فُطُورٍ ““ 2 “ .
وما دام قد أمرك بأن تنظر مرات إلى هذا السقف المضئ نظر الرجل الباحث عن العيوب ،
شفقد علمت كم يجب أن يُوجَّه إلى تلك الأرض المظلمة من التأمل والتمييز ، لتكون جديرة بالاعجاب !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الملك ، 67 : 3 .
( 2 ) انظر : سورة الملك ، 67 : 4 .
“ 312 “
2950 وكم يجب على عقولنا أن تتحمل من عناء لكي نستخلص أهل الصفاء من بين الكدر !
ان تجربه الشتاء والخريف ، وحرارة الصيف ، والربيع الشبيه بالروح ، والرياح والسحب والبروق ،
كلها جاءت لتظهر عوارض الفروق ، لتخرج الأرض ، الترابية اللون كلَّ ما حملته في جيبها من ياقوت وأحجار .
فكلُّ ما سرقته هذه الأرض المظلمة من خزانة الحق ، ومن بحر الكرم ،
2955 ( يسألها عنه ) شرط التقدير قائلين : “ قولي الصدق واذكري ما أخذته ذرة ذرة “ 1 “ !
“ فيقول اللص ، يعنى الأرض : “ لا شئ قط “ ، فيأخذ الحاكم في تعذيبها .
فحينا يخاطبها الحاكم بقول لطيف كالسكر وتارة يعلقها في الهواء ويسومها كل ما هو أسوأ من ذلك ،
حتى تظهر بين القمر واللطف تلك الخفايا ، بفعل نار الخوف والرجاء !
فهذا الربيع هو لطف الحاكم ذي الكبرياء ، وأما الخريف فهو تخويف الله وتهديده .
2960 وأما الشتاء فهو صليب معنوي ، حتى تكشف عن نفسك أيها اللص الخفىّ !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : شعرة شعرة .
“ 313 “
وكذلك يكون للمجاهد زمان لا نبساط القلب ، وزمان للقبض والألم والغش والضغينة .
ذلك لأن أبداننا المفطورة من الماء والطين ، منكرة سارقة نور أرواحنا !
والحق تعالى يلقى على أجسادنا الحر والبرد والألم والعناء أيها الرجل الشجاع .
فالخوف والجوع والنقص في الأموال والبدن كلها من أجل اظهار جوهر الروح !
2965 لقد أطلق هذا الوعد وذاك الوعيد ، من أجل الخير والشر اللذين قد امتزجا باذنه .
فما دام الحق والباطل قد امتزجا ، والنقد الصحيح قد امتزج بالنقد الزائف في جعبة واحدة ،
فلا بد لهما من محك أحسن اختياره ، ومشهود في امتحان الحقائق ،
حتى يكون فيصلا إزاء كل مظاهر الزيف ، ويكون دستورا لتلك التدبيرات .
فيا أم موسى ، أرضعيه ثم ألقيه في اليم ولا تخافي عليه من البلاء !
2970 فكل من شرب من هذا الحليب في يوم : “ ألست “ ، يستطيع تمييز الحليب ، كموسى ( في طفولته ) “ 1 “ .
فان كنت حريصا على اعطاء طفلك التمييز فاغذه الآن بالحليب ، كما فعلت أم موسى “ 2 “ ،
.................................................................
( 1 ) رفض موسى حليب المرضعات ، وعرف حليب أمه ، كما ورد في قصته بعد أن التقطه آل فرعون . حرفيا :
( 2 ) “ فأرضعيه الآن يا أم موسى “ .
وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى : “ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه “ .
الآية : سورة القصص ، 28 : 7 .
“ 314 “
حتى يعرف حليب أمه منذ البداية ، ولا ينخفض رأسه سعيا إلى مربية خسيسة .
شرح الفائدة من حكاية ذلك الشخص الذي كان يبحث عن الجمل
انك - أيها المفضال - قد أضعت جملا وكان كل شخص يذكر لك علامة لهذا الجمل !
وأنت لا تعلم أين هذا الجمل ، ولكنك تعلم أن هذه العلامات كلها خاطئة !
2975 وذلك الذي لم يُضع جملا يمارى أيضا فيبحث عن جمل ، كمن أضاع جمله .
قائلا : “ انني أيضا قد أضعت جملا ، فمن عثر عليه وهبته أجره !
“ وذلك ليجعل نفسه شريكا في جملك . . . ان طمعه في الجمل دفعه إلى أن يلعب هذه اللعبة .
فكلما قلت الانسان : “ ان هذه العلامة خاطئة “ ، قال عين ما تقول ، مقلدا إياك .
فهو لا يميز العلامة الكاذبة من العلامة الصادقة ، لكن قولك هو العصا لذلك المقلد ( الأعمى ) .
2980 وحينما تُذكر لك العلامة الصادقة أو ما يشبهها ، فإنك تصبح على يقين” لا رَيْبَ فيه “ *” 1 “ .
.................................................................
( 1 ) البقرة ، 2 : 1 .
“ 315 “
ويصبح هذا اليقين شفاء لروحك العليل ، ويغدو نضرة لون لك ، وصحة وقوة .
وتستنير به عيناك وينطلق به قدماك ، ويغدو جسدك نفسا ، ونفسك روحا !
فتقول حينذاك : “ لقد قلت الحق أيها الأمين ! وهذه العلامات قد جاءت بلاغا مبينا ،
فيه آيات ثقات بينات ! انه لبراءة بل هو تقدير للنجاة ! “
2985 فهو حين أظهر لك هذه العلامة هتفت به قائلا : “ تقدّم ! ان هذا وقت العزيمة فكن أنت دليلي .
ولسوف أقتقى أثرك أيها الصادق المقال . لقد حملت الىّ رائحة من جملي ، فأرني أين يكون “ .
أما بالنسبة لذلك الشخص الذي ليس بصاحب جمل ، ذلك الذي يبحث عن الجمل من أجل المراء ،
فان هذه العلامة الصادقة لا تزيده يقينا ، الا بمقدار ما ينعكس عليه من ذلك الباحث بصدق عن الجمل .
فهذا المقلد يقتبس شذا من جدّ الصادق وحرارته ، ( موقنا ) بأن آهاته تلك لا يمكن أن تكون جزافا “ 1 “ .
2990 انه لم يكن صاحب حق في هذا الجمل ، ولكنه هو أيضا قد أضاع جملا .
فالطمع في جمل “ 2 “ غيره قد ألقى على وجهه ، قناعا ، فأنساه ما كان قد ضاع منه !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ ليست جزافا “ بدلا من “ لا يمكن أن تكون جزافا “ .
( 2 ) يضطر الشاعر أحيانا بحكم الوزن إلى استخدام كلمة “ ناقة “ بدلا من اشتر . ولما لم يكن هناك من مبرر لذلك سوى الوزن فقد استخدمنا في الترجمة كلمة “ جمل “ بصورة مطردة ، محافظة على السياق في الترجمة .
“ 316 “
فحيثما جرى المالك الأصيل جرى هذا المقلد ، وقد جعله الطمع شريكا في الألم لصاحب الجمل !
فحينما ينطلق كاذب مع واحد من أهل الصدق ، فسرعان ما يغدو كذبه صدقا .
وفي تلك الصحراء التي توغل الجمل مسرعا فيها عثر هو أيضا على جمله .
2995 وحالما رآه تذكر ما كان له فأصبح بريئا من الطمع في جمال الأصدقاء والأقارب .
فهذا المقلد قد أصبح محقِّقا ، حينما أبصر جمله الذي كان يرتعى هناك !
فأصبح في تلك الحظة طالبا للجمل ، فهو لم يكن يفتش عنه قبل مشاهدته في الصحراء .
فبعد ذلك بدأ ينطلق وحيدا ، وفتح عينيه ( متوجها ) نحو جمله .
فقال له ذلك الصادق : “ لقد تركتني ، وكنت حتى هذه اللحظة تبدى مراعاتك لي ! “
3000 فقال : “ لقد كنتُ خرافة حتى هذه اللحظة وكان الطمع يدفعني إلى تملقك .
أما الآن - وقد انفصلتُ بالجسد عنك في الطلب - فقد أصبحت شريكا لك في الألم !
انني كنت أسرق منك وصف الجمل ، فلما رأت روحي جملها امتلأت به عيني !
وقبل أن أجده لم أكن له طالبا ! لقد غلب النحاس الآن وأضحى الذهب له غالبا !
“ 317 “
وأصبحت سيئاتي كلها طاعات ، فشكرالله . وأصبح الهزل فانيا والجدّ ثابتا ، فشكرالله .
3005 وما دامت سيئاتي قد أصبحت وسيلة إلى الحق ، فلا توجه ضربات لومك قط إلى سيئاتي !
ان صدقك هو الذي كان قد جعلك طالبا ، وأما أنا فالجد والطلب مهدا لي سبيل الصدق !
لقد قادك صدقك نحو الطلب ، وأما أنا فبحثى هو الذي قادنى إلى الصدق !
لقد كنت أغرس في الأرض بذور السعادة وكنت أحسب ذلك سخرة ، وبدون أجر !
وما كان ذلك سخرة بل كان كسبا سريعا ، فكل حتة غرستها قد أنبتت مائة حبة .
3010 ان لصا قد قصد خلسة إلى أحد المنازل ، فلما دخله رأى أن هذا المنزل منزله .
فاستشعر الحرارة أيها البارد ، فلعلها تغشاك . واصبر على الشدة ، فلعلها تكون طريق اللين .
وما كان هذان بجملين ، بل جمل واحد ! ألا ما أضيق الفظ وما أغزر المعنى !
فاللفظ دائما عاجز عن ادراك المعنى ، ولهذا فان الرسول قال :“ قد كلّ اللسان “ .
ان النطق يكون كالاصطرلاب في حسابه وماذا يعرف هذا عن الفك والشمس ؟
“ 318 “
3015 وبخاصة ذلك الفلك الذي لا يتجاوزُ فلكُنا هذا فرَاشة منه ! ولا تزيد شمسُنا على ذرة من شمسه !
في بيان ان كل نفس تنطوى على فتنة مسجد الضرار
لما ظهر أن ذلك لم يكن مسجدا بل كان منزل خديعة ، وأحبولة نصبها اليهود ،
أمر الرسول بأن يهدم ، ويجعل كناسة للقمامة والأقذار .
ان صاحب المسجد كان زائفا كالمسجد فنثرُ القمح فوق الشرك ليس من الوجود !
وقطعة اللحم التي في شصك تختطف السمكة . فمثل هذه اللقمة ليست عطاء ولا سخاء !
3020 ومسجد قباء - وقد كان من الجماد - لم يسمح الرسول بأن يُساوى بما لم يكن كفؤا له !
ففي حق الجمادات ليم يجز مثل هذا الحيف ، فأشعل أمير العدل النار في هذا ( المسجد ) غير الكفء !
فاعلم أن عالم الحقائق - وهو أصل الأصول - توجد به فروق وفصول .
فلا حياة هذا شبيهة بحياة ذلك ، ولا موت هذا شبيه بموت سواه .
ولا تحسبن قبر أحد الناس شبيها بقبر الآخر . فكيف أشرح لك فوارق الأحوال في ذلك العالم ؟
“ 319 “
3025 فاختبر بالمحك عملك أيها العامل ، حتى لا تبنى مسجد الضرار .
فكم كنت قد سخرت من بناة ذلك المسجد ، فلما أمعنت النظر كنت أنت من هؤلاء !
حكاية الهندي الذي خاصم رفيقه بسبب فعل معين
ولم يكن يعلم أنه هو أيضا مبتلى بذلك الفعل
دخل أربعة من الهنود في أحد المساجد ، وأضحوا من أجل أداء الطاعة ركعا ساجدين .
وكل منهم كبر على نية ، ثم أقدم على الصلاة بمسكنة وألم .
وجاء المؤذن ، فأفلتت من أحدهم كلمة ( إذ قال ) : “ أيها المؤذن هل أذنت ؟ لقد حان الوقت “ .
3030 فقال ثاني هؤلاء الهنود ( بدافع ) من ضراعته : “ لقد تكملت ، فأصحبت صلاتك بالطلة “ .
فقال ثالثهم لثانيهم : “ أيها العم ، لماذا توجه اليه هذا اللوم ؟
خاطب به نفسك ! “ أما رابعهم فقال : “ حمد الله أنى لم أقع في البئر كهؤلاء الرجال الثلاثة !
“ وهكذا بطلت صلاة كل من هؤلاء الأربعة ، وكان الهاتفون بالعيب منهم أكثر ضلالا !
فما أسعد الروح التي ترى عيبها ، والتي إذا هتف انسان بعيب حملته على نفسها ،
“ 320 “
3035 ذلك لأن نصف الانسان كان من عالم العيب ، وأما نصفه الآخر فكان من عالم العيب !
فما دام رأسك يعاني من عشرة جراح ، فالواجب عليك أن تتخذ المرهم لعلاج نفسك .
فحين يُعاب الجرح فهذا ( بداية ) علاجه ، وأما حين يقع الكسر فهنا مكان الرحمة .
وان لم تكن تعاني من عيب فلا تستسلم ( لهذا الظن ) ، فلربما يظهر ذلك العيب منك أيضا .
ألم تستمع إلى قوله تعالى : “ لا تخافوا “ ؟ فلماذا اذن رأيت نفسك آمنا طيب الحال ؟
3040 لقد عاش إبليس سنين وهو ينعم باسم طيب ، ثم افتضح ، فتأمل أي اسم أصبح له الآن !
لقد كان في الكون معروفا بعلاه ، فأصبح معروفا بعكس هذا ، فواها عليه !
فما لم تكن آمنا فلا تطلب الشهرة ! واغسل بالخوف وجهك ثم أظهره !
وما لم تنبت لحيتك - أيها الرجل الطيب - فلا تنتقد سواك ان تجرد من اللحية .
فتأمل من أصيبت روحه بالبلاء حتى سقط ، وأصبح عبرة لك .
3045 وأما أنت فلم تسقط لتكون عبرة له . لقد شرب سمّ ( الخذلان ) ، فكل أنت سكر ( الرضى ) !
“ 321 “
كيف قصد الغز أن يقتلوا رجلا وذلك ليخيفوا سواه
لقد أقبل هؤلاء الأتراك الغزّ سفاكو الدماء للغارة فدخلوا احدى القرى .
فوجدوا اثنين من أعيان تلك القرية فبادروا مسرعين إلى الفتك بواحد منهما .
فقيدوا يديه ليجعلوه قربانا ، فناداهم : “ أيها الملولك والأركان العظام !
لأىّ سبب قد قصدتم قتلى ؟ و . ما الغاية من تعطشكم هذا لدمى ؟
3050 وأية حكمة وأي غرض يتحقق بقتلى . ما دمت هكذا درويشا عريان الجسد ؟
فقال ( أحدهم ) : “ لكي نوقع الفزع برفيقك ، فيخاف ويظهر لنا الذهب !
“ فقال : “ ولكنه أشد فقرا منى “ . فقال التركماني : “ لقد قصد ( اظهار ذلك ) ، وانه ليمتلك الذهب “ .
فقال ( الأسير ) : “ ما دام الأمر بالنسبة لكلينا وهم ، فنحن متساويان في مقام الاحتمال والشك .
فاقتلوا صاحبي أولا - أيها الملوك - حتى أخاف وأرشدكم إلى مكان الذهب “ .
3055 فتأمل كرم الله ، إذ جعلنا نجىء في آخر الزمان ، وهو يوشك على النهاية .
“ 322 “
وان القرون الأخيرة لهى السابقة على القرون . وقد جاء في الحديث : “ نحن الآخرون السابقون “ .
وهكذا أظهر داعى الرحمة لأرواحنا هلاك قوم نوح وقوم هود .
انه ( الخالق ) قد قتلهم حتى نخافه ، ولو أنه فعل عكس ذلك لكان وبالا عليك .
بيان حال المغرورين الذين لا يستشعرون نعمة
وجود الأنبياء والأولياء عليهم السلام
ان كلا من هؤلاء تكلم عن العيب والاثم ، وعن القلب المتحجر والروح المظلمة ،
3060 وعن تلقى أو امر ( الله ) باستهانة ، وعن الخلو من هموم الغد ، وعن الهيام بهذه الدنيا وتعشقها ،
كما تخضع المرأة للنفس الأمارة ، وعن ذلك الفرار من محكم أقوال الناصحين وعن الهرب من لقاء الصالحين
، وعن الغربة عن القلب ، وأصحاب القلوب ، وعن التزوير ولعب الثعالب إزاء الملوك ( الروحيين ) .
وعن التفكر بأن القانعيين متسولون ، واضمار الحسد والعداوة لأولئك القانعين !
3065 فلو أن واحدا من هؤلاء ( الأنبياء والأولياء ) تقبل منك شيئا تقول : انه متسول !
وان لم يقبل قلت : ان هذا نفاق ومكر وخداع !
“ 323 “
فهو لو خالط الناس قلت : “ انه طامع “ . ولو لم يفعل ذلك قلت : انه مولع بالكبر !
أو تلتمس لنفسك عذرا كعذر المنافق قائلا : “ انني مُعَوَّق بنفقة ولدى وامرأتي !
فليس لدىّ وقت أحك به رأسي ، ولا عندي فراغ لانماء ديني .
فاذكرنا - يا فلان - بهمتك ، فلعلنا نغدو - في عاقبة الأمر - من الأولياء ! “
3070 وهو لا ينطق بهذا الكلام في ألم وحرقة . انه كمثقل بالنعاس هذى بكلمات ثم عاد إلى الوسن .
( انه يقول ) : “ ليس لي مناص من كسب قوت العيال وأنا أحصل بغاية الجهد “ 1 “ على الكسب الحلال “ .
وأي حلال ذلك يا من غدوت من أهل الضلال ! انني لست أرى حلالا سوى دمك !
( فمثلك ) له مناص من الله ولا مناص له من الطعام ! وله إزاء الدين حيلة ، ولا حيلة له إزاء الطاغوت !
فيا من لا اصطبار لك عن الدنيا الدون ، كيف يكون اصطبارك عمن ( اتصف بقوله ) :” فَنعْمَ الْماهدُونَ ““ 2 “ .
3075 ويا من لا صبر لك عن الدلال والنعيم ! كيف يكون صبرك عن الرب الكريم !
.................................................................
( 1 ) حرفيا : “ وانا أحصل بأنيابى . . . “
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ والأرض فرشناها فنعم الماهدون “ ، ( الذاريات ، 51 : 48 ) .
“ 324 “
ويا من لست تطيق صبرا عن النظيف والملوث ! كيف تطيق صبرا عن خالقهما !
أين الخليل الذي خرج من الغار ، فقال : هذا ربى . ألا فلتتنبه ! أين الخالق ؟
فلست بناظر إلى كلا العالمين ما لم أعرف من هو مالك هذين المجلسين .
فلو أنني أكلت الخبز - بدون أن أتأمل صفات الله - لا حتبس في حلقي !
3080 وكيف تهضم لقمة بدون مشاهدته ، وبدون اجتلاء وورده وبستان ورده .
وبدون الأمل في الله من ذا الذي كان يشرب من هذه العين لحظة واحدة سوى ثور أو حمار .
فمن كان ممن ( وصفهم القرآن ) بأنهم :” كَالْأَنْعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ “ *” 1 “ ، وفهو نتن الريح ، برغم ما قد يكون له من دهاء بالغ .
ان مكره منقلب ، وهو ذاته منقلب ( على رأسه ) . ولقد عاش برهة قصيرة ثم انقضى يومه .
ولقد غدا فكره متراخيا وعقله خرفا ، وانقضى عمره من غير أن يظفر بشئ ، ( فهو في تجرده ) كحرف الألف “ 2 “ .
3085 وذلك التفكر الذي يقول : انه ملازم له ، لا يعدو أن يكون أقصوصة من أقاصيص تلك النفس الحسية !
.................................................................
( 1 ) انظر : سورة الأعراف ، 7 : 179 .
( 2 ) الألف دائما مجردة من كل الحركات .
“ 325 “
وأما ما يهتف به من قوله : “ غفور رحيم “ ، فليس الا حيلة النفس اللئيمة !
فيا من قتلك الغم لخلو يديك من الخبز ، لماذا هذا الخوف ما دام الله غفورا رحيما ؟
.